مقدمة
1 - دستور في سطور1
2 - دستور الفكر بعد دستور السياسة
3 - الفيلسوف يؤيد الشاعر
4 - منطق العلم والعمل
5 - غد بعد أمس
6 - الفلاسفة يتشبهون بالعلماء
7 - كل الصيد في جوف الفرا
8 - تيارات أخرى معاصرة
مراجع
مقدمة
1 - دستور في سطور1
2 - دستور الفكر بعد دستور السياسة
3 - الفيلسوف يؤيد الشاعر
4 - منطق العلم والعمل
5 - غد بعد أمس
6 - الفلاسفة يتشبهون بالعلماء
7 - كل الصيد في جوف الفرا
8 - تيارات أخرى معاصرة
مراجع
حياة الفكر في العالم الجديد
حياة الفكر في العالم الجديد
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
جاء المهاجرون إلى العالم الجديد من شتى الأمم في الدنيا القديمة، فجاءوا مزيجا من ثقافات مختلفة، ولبثوا أمدا طويلا على اتصال وثيق بأصولهم الأولى، حتى لقد ظلت تيارات الفكر الأوروبي المختلفة تنساب إلى العالم الجديد غداة ظهورها، فكل صوت يرتفع في أوروبا كان له صداه في أمريكا، ولم ير الأمريكيون في ذلك - أول الأمر - غضاضة؛ لأنه إن كانت مقتضيات العقيدة الدينية قد حملتهم على الهجرة عن بلادهم الأولى، وإن كانت مصالح الاقتصاد بعد ذلك قد أوجبت أن تحدد الهجرة، وأن تقام الحواجز في عالم التجارة، فماذا يمنع أن تشترك الفروع مع أصولها في الفكر، وأن تتبادل معها الرأي والنظر؟ لهذا ظلت أبواب العالم الجديد مفتوحة على مصاريعها، تتقبل من ألوان التفكير كل ما تهتز به أوروبا، على اختلاف مصادره وتعدد مذاهبه.
لكن المجتمع الجديد سرعان ما تميز بطابع جديد، ثم ما لبث هذا الطابع أن أصبح معيارا تقاس عليه الواردات الفكرية، فيقبل منها ما يقبل، ويرفض ما يرفض، ويعدل ما يراد قوله بعد تعديل، وأما هذا الطابع الجديد المميز للمجتمع الأمريكي فهو - في اعتقادي - تلك «الفردية الجماعية»، التي لا تغرق الفرد من الناس في خضم المجتمع، بل تحتفظ لكل إنسان بفرديته المستقلة على الرغم من اشتراكه مع الآخرين في جماعة واحدة يربطها الصالح المشترك، وإذن فهي جماعة أقرب إلى الشركة التعاونية التي يحرص كل عضو فيها على استقلال شخصيته، وإن يكن في الوقت نفسه حريصا أشد الحرص على ازدهار الشركة ونمائها، هي أقرب إلى ذلك منها إلى الكائن العضوي الذي لا يجعل للعضو فيه وجودا إلا بانطوائه تحت الكل الذي يحتويه، فالمجتمع الأمريكي في صميمه «كثرة» من أفراد لا جسم واحد ذو أعضاء، غير أن تلك «الكثرة» ليست أشتاتا موزعة الأهواء متباينة النزعات، بل هي كثرة تلتقي حباتها في عقد واحد يضمها دون أن تضيع فردية الحبة الواحدة بهذا الالتقاء.
على هذا الأساس يتم قبول الأفكار أو رفضها أو تعديلها؛ فالفصل الأول من هذا الكتاب فيه تصوير للفكر الأمريكي إبان العشرات الأخيرة من أعوام القرن الثامن عشر، فكان الفكر حينئذ سياسيا في معظمه، يدور حول حقوق الأفراد الطبيعية التي على أساسها أقيمت السياسة، وأقيم الحكم، وأقيمت الحياة، بل على أساسها أقيمت العقائد الدينية نفسها؛ إذ كانت الكثرة الغالبة من الأمريكيين من «البروتستانت المتزمتين» (البيورتان)، وهؤلاء يعلون من شأن إرادة الفرد إعلاء يحفظ له حقوقه في أن يلتمس لنفسه طريق النجاة الروحية، وحقوقه في أن يفكر حرا، ويعمل حرا، وأن يحتفظ بثمرة عمله. وهكذا جاءت فلسفة عصر التنوير مؤيدة لهذه المبادئ، إذ جعلت أساس المجتمع تعاقدا بين أعضائه، ولكل فرد حقوقه الطبيعية في الحياة، وفي الحرية، وفي التماس العيش السعيد، وهي حقوق فطرية لم يهبها أحد أحدا.
فلما أن جاء النصف الأول من القرن التاسع عشر انتقلت هذه الفردية من ميدان السياسة إلى ميدان الفلسفة والأدب، وهنا نهض «إمرسن» و«ثورو» وغيرهما يؤكدان استقلال الفرد على الرغم من صلاته ببقية أفراد البشر، كانت الفلسفة السائدة في ذلك العهد هي الفلسفة الهيجلية المثالية، انتقلت إلى إنجلترا عن طريق شعرائها، وبخاصة «كولردج»، وعن هذا الطريق جاءت إلى أمريكا، لكنها لم تكد تنتقل إلى أمريكا حتى عدلت بما يلائم وجهة النظر الأمريكية التي أشرنا إليها، فلم يعد الأفراد - كما تريد لهم الفلسفة المثالية - مغرقين في «المطلق»، بل أصبح كل فرد - عند «إمرسن» - ممثلا لذلك «المطلق» الهيجلي؛ أي إن كل فرد حقيقة قائمة بذاتها، على الرغم من أنه إذ يشعر وإذ يفكر أو يعبر، فإنما هو «ينوب» في ذلك عن الإنسانية جميعا إن كان صادق الشعور والتفكير والتعبير؛ ومن هنا كان اهتمام «إمرسن» باعتماد الفرد على نفسه؛ وبالتالي اهتمامه باعتماد أمريكا على نفسها في مجال الفكر والشعور، واتجه «ثورو» نفس الاتجاه مع إسراف أدى به إلى أن يعتزل وحده في غابة ليعيش بمفرده إنسانا معتمدا على نفسه. هكذا ترى الفلسفة المثالية قد جاءت إليهم من ألمانيا، لكنهم حين أخذوا عنها فكرة الروح الكونية المطلقة الشاملة، لم تسمح لهم أنفسهم بالانسياق إلى ما قد ساقت إليه أصحابها الأولين من دمج الأفراد في واحدية كونية مطلقة، بل احتفظوا للأفراد بفرديتهم مع جعلهم قلوبا شاعرة، وألسنة معبرة عن تلك الروح الكونية الشاملة، كما شرحنا ذلك في الفصل الثاني وتبع ذلك - في النصف الثاني من القرن التاسع عشر - موجة مثالية أخرى هي التي تسمى عادة ب «الكانتية الجديدة»، أخذها فلاسفة العالم الجديد عن الفلسفة الألمانية أيضا - أخذوها عن كانت وهيجل - لكنهم هنا أيضا قد صاغوها في قالبهم، وقد بسطنا ذلك في الفصل الثالث؛ إذ بينا كيف جعل منها «باون» فلسفة مثالية ذاتية فردية، ثم تولاها «جوزيا رويس»، فكان مثال الفيلسوف الأمريكي العظيم الذي يصوغ ما يتلقاه من فكر على إطاره الخاص؛ فقد قرأ شوبنهور وتأثر به، لكنه رفض تشاؤمه، وقرأ هيجل، وأخذ كثيرا من مبادئه المثالية، لكنه رفض مذهبه التاريخي الذي يجعل سير الحوادث حتما لا مفر منه، كما رفض رأيه القائل بسيادة الدولة سيادة مطلقة، ودرس «كانت» ولكنه صاغ من كل تلك الفلسفات الألمانية المثالية فلسفة مثالية أمريكية توازن بين الحقيقة المطلقة من ناحية، وبين الفرد وحريته من ناحية أخرى بميزان دقيق، ولا عجب أن يسمي كتابه المشتمل على الجزء الهام من مذهبه «العالم والفرد»؛ ففي كل خطوة يخطوها تراه حريصا على التأليف بين الفرد وسائر الأفراد، أو بين الإرادة الواحدة وسائر الإرادات، أو بين المجتمع الواحد وسائر المجتمعات، تأليفا يبقي على كيان الفرد الواحد من جهة، ثم يجعله جزءا شريكا في البناء الكلي من جهة أخرى.
وفي الفصل الرابع والفصل الخامس معا بيان للحركة البراجماتية التي ظهرت في أواخر القرن الماضي، ثم امتدت إلى يومنا هذا؛ إذ بسطنا لك آراء أعلامها الثلاثة: «بيرس» و«جيمس» و«ديوي»، وهي فلسفة جاءت بمثابة الثورة على التفكير المثالي الذي يباعد بين الفكر والعمل، فجعلت الفكر والعمل وجهين لحقيقة واحدة؛ إذ جعلت معنى الفكرة هو نجاح تطبيقها، وبهذا وصل الفكر الأمريكي الخالص إلى فلسفة أمريكية خالصة نشأة وطابعا، فلئن كان الفلاسفة قبل ذلك يأخذون عن أوروبا، ثم يعدلون ما يأخذونه بما يجعله ملائما لوجهة نظرهم؛ فقد جاءت البراجماتية نباتا أمريكيا بذورا وساقا وفروعا، ولا غرابة - إذن - أن يعرف الفكر الأمريكي الحديث عند العالم أجمع بهذه الفلسفة البراجماتية التي تعبر عنه أصدق تعبير وأخلصه.
فلما تحطمت الفلسفة المثالية التقليدية على أيدي البراجماتيين، تحطم معها التقليد الفلسفي كله، الذي كان يربط الفيلسوف بنمط معين من التفكير، وهنا خرجت مذاهب واتجاهات جديدة، لم يكن لها جلال التفكير التقليدي القديم، لكنها عوضت ذلك الجلال المفقود بروح علمية جديدة، مالت بالفلاسفة نحو التشبه بالعلماء في طريقة معالجتهم لمشكلاتهم؛ من حيث تعاون مجموعة الباحثين على حل مشكلة بعينها بدل أن يستقل كل فرد منهم بإقامة بنائه الفكري الخاص، وسترى في الفصلين السادس والسابع شرحا لتلك الاتجاهات الجديدة، كالواقعية الجديدة، والواقعية النقدية، ثم الفلسفة الطبيعية، وعقبنا على ذلك بفصل ثامن وأخير، عرضنا فيه اتجاهين من الاتجاهات المعاصرة عرضا موجزا، هما الوضعية المنطقية، والدعوة إلى رجوع الفلاسفة إلى ما هجروه من «تقليد عظيم».
وقد اكتفيت في عرضي لمجرى الحياة الفكرية الفلسفية في العالم الجديد، بالمعالم الرئيسية دون التفصيلات، راجيا أن يكون هذا الكتاب صورة مجملة تتلوها صور جزئية في سلسلة من كتب، نفصل فيها ما أجملناه، ونذكر ما قد أهملناه.
زكي نجيب محمود
الفصل الأول
دستور في سطور1
(1) جون لوك يضع الأساس
تستطيع أن تتعقب تاريخ الأمة خطوة وراء خطوة، دون أن ينتهي بك السير إلى لحظة زمنية يكون في مستطاعك عندها أن تقول: هنا بدأ تاريخ الأمة؛ لأن خيوط التاريخ تمتد إلى الوراء إلى غير بداية معلومة، فإذا ما اتخذ المؤرخ بداية يبدأ عندها تاريخ أمة من الأمم، فإنما يفعل ذلك جزافا، مستندا إلى أن هنالك قبل التاريخ المدون تاريخا مجهولا لم يدون، يضم عناصره الغامضة، ويطلق عليها «ما قبل التاريخ»، لكنك تستطيع - على سبيل التجوز اليسير - أن تستثني من هذه القاعدة الولايات المتحدة؛ إذ جاء مولدها في يوم معلوم، هو اليوم الرابع من شهر يوليو سنة 1776م، يوم أن أعلنت استقلال نفسها عن إنجلترا، فجاء في إعلانها ذاك ما يلي:
إننا نؤمن بأن هذه الحقائق واضحة بذاتها، وهي أن الناس قد خلقوا سواسية، وأن خالقهم قد حباهم بحقوق معينة هي جزء من طبائعهم لا يتجزأ؛ منها «الحياة» و«الحرية» والتماس «السعادة»، وأنه لكي يظفر الناس بهذه الحقوق، أقيمت فيهم الحكومات، تستمد سلطاتها العادلة من رضا المحكومين، وأن الحكومة - كائنة ما كانت صورتها - إذا ما انقلبت هادمة لتلك الغايات، فمن «حق الشعب» أن يغيرها أو يزيلها، وأن يقيم حكومة جديدة، تضع أساسها على مبادئ، وتنظم سلطاتها على صورة، بحيث تبدو للناس تلك المبادئ وهذه الصورة أنهما - على الاحتمال الأرجح - مؤديتان إلى أمنهم وسعادتهم.
هذه أسطر قلائل، لكنها - كما قال «جفرسن» وهو الذي صاغ عبارتها بقلمه - تعبر عن العقل الأمريكي، وقوتها مستمدة من تركيزها لاتجاهات الناس في عصرها تركيزا يلخص روح عصر بأسره، هو عصر الثورة الأمريكية، أو إن شئت فسمه عصر التنوير في أمريكا، وقد كان التنوير فالثورة في أمريكا مقابلين في العصر نفسه لتنوير وثورة في فرنسا، ففي هذه الوثيقة القصيرة من المبادئ الهامة ما يستوقف النظر بغير حاجة إلى تحليل، فهي تنص على أن حقوق المساواة والحياة والحرية والتماس السعادة هي أشياء واضحة بذاتها - أي بديهيات - لا يحتاج صدقها إلى إقامة البرهان، وأنها حقوق مستمدة من الله، وليست هي بالهبات يمنحها الحاكم إذا شاء، ويحبسها إذا شاء، وهي جزء من طبيعة الإنسان وفطرته؛ بحيث يستحيل تصور الإنسان إنسانا بغيرها، وأنه إن قامت بين الناس حكومة فلأن الناس أنفسهم هم الذين أقاموها لتحافظ لهم على تلك الحقوق، وهم الذين يغيرونها أو يزيلونها إذا هي قامت عقبة في سبيل تلك الحقوق الإنسانية.
وتستطيع أن تمضي في تحليل هذه الأسطر القلائل ليتبين لك أنها تتضمن ما يصح أن يكون مثلا أعلى للإنسانية جميعا، وفي ذلك يقول «لنكلن»: «إنني ما أحسست قط بشعور - من الوجهة السياسية - لم أجده نابعا من العواطف التي تبلورت في «إعلان الاستقلال» ...»
2
فمن أين استقت هذه الوثيقة عناصرها؟ إن مضمونها الفكري لم يكن من ابتكار واضعيها، فها هو ذا «جفرسن» - وهو على رأس المشتركين في إعلانها - يصرح قائلا وهو بصدد التعليق عليها: «إنني لم أشعر بضرورة تدعو إلى ابتكار أفكار جديدة لم أسبق إليها.»
3 «جون لوك» هو مصدر التفكير السياسي الذي ساد الولايات المتحدة إبان ثورتها، وليس هو بالمصدر الذي نستنتجه استنتاجا مما كان يدور عندئذ على ألسنة الناس وأقلامهم، بل هو المصدر الذي كان يتردد ذكره صراحة على أنه المعين الذي استقى منه القادة مبادئهم بطريق مباشر، «فمن كتابات «جون لوك» - قبل أي شيء آخر - استمد الأمريكيون سلاح الحجج التي هاجموا بها الملك والبرلمان في حكمهما المتعسف، ولو كان هناك رجل واحد يجوز أن يقال عنه إنه ساد الفلسفة السياسية في عهد الثورة الأمريكية، فذلك هو «جون لوك»، إذ لم يكن الفكر السياسي الأمريكي إلا تأويلا لما كتبه لوك»،
4
فماذا قال «جون لوك» مما جعل الأمريكيين أنفسهم يصفونه بقولهم إنه «فيلسوف أمريكا»، وواضع الأساس لفكرها السياسي؟
كان «جون لوك» - الفيلسوف الإنجليزي الذي عاش بين عامي 1632م و1704م - في طليعة من استخرجوا النتائج الفلسفية للعلم الحديث، وحللوا مضمون هذا العلم تحليلا ينتزع مدلوله بالنسبة إلى السياسة والأخلاق والدين، ولعله مما يجدر ذكره في هذا الموضع أن مهمة الفلسفة في صميمها هي هذا التحليل للمبادئ العلمية؛ بحيث تستخرج من هذه المبادئ ما تنطوي عليه من مضمون وفحوى، يتغير العلم السائد عصرا بعد عصر، فتتغير معه الفلسفة؛ لأنها تحليل لمبادئ العلم، فإن تغير العلم تغيرت، كان العلم السائد أيام اليونان الأقدمين هو الرياضة ، وكان اليقين الثابت هو معيار الحق ، فهل يسع الفلسفة إزاء ذلك إلا أن تبحث عما يتضمنه هذا اليقين الثابت المنشود، والمتمثل في الرياضة، لتجد أصوله الأولى في مبادئ عقلية مفارقة لهذا العالم المحسوس الذي هو عالم الأشياء المتغيرة التي لا تثبت ولا تدوم؟ ثم جاءت النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر وما بعده، ليسود بمجيئها علم الطبيعة الذي لم تكن له سيادة من قبل، بل أوشك ألا يكون له وجود من قبل، وكيف يجوز لمن ينشد الحقيقة الثابتة الدائمة أن يجعل الطبيعة المتغيرة المتحولة موضوع بحثه؟ لكن النهضة الأوروبية قد غيرت من وجهة النظر، وجعلت الحواس مصدر العلم بعد أن لم تكن عند اليونان الأقدمين إلا مصدر الظن والخطأ، كما جعلت بالتالي ظواهر الطبيعة موضوع البحث بعد أن لم تكن شيئا جديرا بالعناية والعناء؛ فشهدت النهضة الأوروبية من علماء الطبيعة من هم بين أقرانهم في التاريخ كله ذوو مكانة ملحوظة، وعلى رأس هؤلاء «جاليليو» و«نيوتن»، وأقام هؤلاء العلماء علما للطبيعة هو الذي ساد الفكر الإنساني في القرون الثلاثة: السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، حتى جاءت نظرية النسبية في القرن العشرين، وجعلت تعدل من البناء القديم لتقيم مكانه بناء جديدا على أساس جديد.
وليس العلم الطبيعي في ذاته هو موضوع اهتمامنا الآن، إلا بمقدار ما نستعين به على معرفة النتائج الفلسفية التي نتجت عنه بالنسبة إلى السياسة، ولئن كان «جاليليو» و«نيوتن» هما على وجه الخصوص من نعني حين نتحدث عن علم الطبيعة في القرن الثامن عشر - وهو قرن التنوير والثورة في أوروبا وأمريكا على السواء - فإن «جون لوك» بصفة خاصة هو الذي استخرج من مبادئ علم الطبيعة كما أقامه «جاليليو» و«نيوتن» نتائجها الفلسفية التي تعنينا.
وأهم ما نهتم له في طبيعة «جاليليو» و«نيوتن» هو التفرقة التي فرقا بها بين نوعين من الظواهر: الظواهر كما هي في الأشياء الخارجة عن الإنسان، والظواهر كما تقع في إدراك الإنسان، وينتج عن ذلك تفرقة بين نوعين من «المكان»، ونوعين من «الزمان»، فالعلاقة المكانية والعلاقة الزمانية بين الأشياء في الخارج ليست هي نفسها القائمة بين صور الأشياء كما يحسها الإنسان بحواسه، بعبارة أخرى: هنالك مكان مطلق موضوعي مستقل عن الإنسان، تتحرك فيه الأشياء المادية، وهذا هو المكان، وهذه هي الأشياء التي يعنى ببحثها علم الطبيعة، لكن هنالك أيضا مكان ذاتي نسبي هو الذي يقع في حس الإنسان، وليس هو المقصود بالبحث عند علم الطبيعة، وكذلك قل في الزمان.
يكون للأشياء عند الحس لون وطعم ورائحة، أما الأشياء التي يبحثها علم الطبيعة، ويستقرئ قوانينها، فلا لون لها ولا طعم ولا رائحة، والأشياء عند الحس تتغير قليلا أو كثيرا تبعا لتغير الأشخاص ووجهات أنظارهم، أما الأشياء التي يبحثها علم الطبيعة، فهي مطلقة تدوم على حال واحدة بالنسبة لكل إنسان؛ إذ يكون لها من الصفات الرياضية والهندسية ما لا يتأثر باختلاف النظر عند مختلف المشاهدين، وفيما يلي خلاصة لعبارة قالها «جاليليو» ليقرر بها أن بعض الصفات - كالحرارة والطعم والرائحة واللون - هي في الإنسان المدرك، لا في الطبيعة الخارجية، وإذن فلا يكون لعلم الطبيعة شأن بها، قال جاليليو ما خلاصته:
5 «أريد أن أضع تحت الفحص هذا الذي يسمونه «حرارة» وسأجد أن فكرة الحرارة كما هي عند الناس بعيدة بعدا شاسعا عما يقع في الطبيعة الخارجية؛ إذ الحرارة ليست صفة من الجسم الذي نصفه بأنه حار، فبينما أراني مضطرا بالضرورة، إذا ما أردت أن أتصور قطعة من المادة، أن أتصور بين صفاتها الكائنة فيها، أن لها حدودا تحدها، وشكلا معينا، وأنها بالقياس إلى غيرها كبيرة أو صغيرة، وأنها في هذا المكان أو ذاك، وفي هذه اللحظة الزمنية أو تلك، وأنها متحركة أو ساكنة، فهذه كلها صفات يستحيل على أي خيال أن يتصور قطعة المادة بغيرها؛ إذ يستحيل أن توجد قطعة المادة مستقلة عن هذه الظروف كلها، أما كونها بيضاء أو حمراء، مرة أو حلوة، صائتة أو صامتة، زكية الرائحة أو كريهتها، فلا أجد عقلي مضطرا إلى افتراض لزوم هذه الصفات لقطعة المادة، فلولا حواسي، ولو كان الأمر لعقلي وحده أو خيالي وحده ، لكان من الجائز ألا أعلم شيئا قط عن أمثال هذه الصفات؛ لذلك أرى أن هذه الصفات، كالطعوم والروائح والألوان، ليست مما يصف الشيء الخارجي نفسه، وإن هي - بالنسبة إلى ذلك الشيء - إلا أسماء لا تدل على شيء فيه.
خذ قطعة من الورق، أو خذ ريشة ومر بها على أي جزء تشاء من أجزاء جسدك، تجد لها - أينما مررت بها - صفة الحركة؛ بحيث لا تتغير هذه الصفة في طبيعتها بتغير الموضع الذي تتحرك فيه، لكن ضع الورقة أو الريشة بين عينيك أو في خياشيم أنفك، تثر فيك دغدغة لم تكن تحسها حين كنت تحركها على أجزاء جسدك الأخرى، وبديهي أن هذه الدغدغة فيك أنت وليست في الورقة أو الريشة. وأعود إلى فكرتي الأولى، فأقول: إن من الصفات التي ننسبها للأشياء ما لا يكون في الأشياء نفسها، بل يكون فينا نحن حين ندرك تلك الأشياء، ومن هذه الصفات صفة الحرارة، فالجسم الذي يحدث فينا الإحساس بالحرارة - وهو النار - ليس هو في حقيقته إلا عدد كبير من جسيمات ذوات أشكال معينة، تتحرك بسرعات معينة، ولو أزيل جسم الإنسان بحواسه، لما كانت الحرارة إلا لفظا بغير مدلول.»
للأشياء إذن نوعان من الصفات: صفات فيها وتكون جزءا من طبيعتها، وصفات نحسها نحن، وليست جزءا من طبيعتها، الأولى كالشكل والحجم، والثانية كالألوان والطعوم، وسؤالنا الآن هو هذا: ما العلاقة بين الأشياء المادية التي تقع في المكان والزمان المطلقين الخارجيين الرياضيين العامين، وبين الصفات النسبية الذاتية التي يكونها الإنسان بحواسه عند إدراكه للأشياء، دون أن تكون تلك الصفات جزءا من طبائع تلك الأشياء؟ بعبارة أخرى: ما العلاقة بين الإنسان والطبيعة؟
إنه سؤال سرعان ما يسوقنا إلى سؤال آخر، وهو: ما طبيعة الإنسان، هذا الذي يخلق عالمه بنفسه ولنفسه، ألم نقل إن علم الطبيعة النيوتوني قد فرق بين عالمين: فمن جهة هنالك العالم الطبيعي الخارجي ذو القوانين الرياضية، الذي لا يتأثر بالناس وإدراكهم، ومن جهة أخرى هناك العالم الذاتي الإدراكي المحس، الذي يخلق الصفات خلقا من عنده، ثم يخلعها على الأشياء، فيعطيها لونا وهي بغير لون، وطعما وهي بغير طعم، ورائحة وهي بغير رائحة وهلم جرا؟ إن كان الدفء الذي يحسه الإنسان هو فيه لا في الشمس التي تحدثه، وأريج الزهرة الذي يشمه الإنسان هو فيه لا في الزهرة التي تبعثه، ولون البرتقالة الذي يبصره الإنسان هو فيه لا في البرتقالة التي تسببه، فلنا إذن أن نسأل: ما طبيعة الإنسان؟ نعم إنه سؤال لا يهم علم الطبيعة، بل يهم عالم النفس والفيلسوف، غير أن علم الطبيعة يلقي ضوءا يعين على الجواب.
لو كان الإنسان ذرات مادية فقط - هكذا قال «جون لوك» - لما كان العالمان اللذان قال عنهما جاليليو ونيوتن، ولكان هناك العالم المادي الموضوعي الخارجي الرياضي وحده؛ إذ لو كان الإنسان كومة من ذرات مادية، شأنه في ذلك شأن سائر الأشياء، فمن أين - إذن - تأتي الصفات الذاتية كالألوان والروائح والطعوم، التي قال عنها جاليليو ونيوتن إنها لا تكون في الأشياء الخارجية؟ لا بد أن يكون الإنسان مغايرا في طبيعته لطبائع تلك الأشياء المادية؛ بحيث إذا تأثرت طبيعته بطبائع الأشياء المادية، أحدث هذا التأثر الصفات التي قيل عنها إنها تكون في الإنسان، ولا تكون في عالم الأشياء، فإن قلنا عن الشيء كما هو في الخارج إنه عنصر مادي، أفلا يجوز أن نقول عن الإنسان الذي يختلف بطبيعته عن طبائع الأشياء المادية، إنه عنصر عقلي؟ هكذا استخرج «لوك» النتيجة الحتمية التي تلزم عن علم الطبيعة النيوتوني، فكأنما «نيوتن» وهو يقوم بمشاهداته العلمية ليصل إلى قوانين الطبيعة المادية، كان كذلك - ضمنا - يثبت نظرية شعورية أخرى، وهي أن للإنسان عقلا يتأثر بالمؤثرات المادية فيخلق بعض الصفات التي يعود بدوره فيخلعها على عالم الأشياء.
وها هنا نضع أصابعنا على نقطة الارتكاز التي منها يبدأ الأساس الذي نبني عليه حق الأفراد في الحرية السياسية والدينية على السواء؛ فعلى هذه النقطة ترتكز نظرية «لوك» في الدولة وفي الكنيسة معا.
فلئن كان الإنسان عنصرا عقليا، بالقياس إلى دنيا الطبيعة التي قوامها عناصر مادية، إذن فالإنسان إنسان بعقله أو بروحه، لا بجسده؛ لأن الجسد هو كسائر الأشياء المادية عنصر مادي مثلها؛ فالجسم يتحرك - كما تتحرك بقية الأجسام - وفق قوانين الحركة التي استخلصها «نيوتن»، وهي قوانين لا تفرق بين أن يكون المتحرك حجرا أو جسما حيا، أما العقل فعنصر مختلف، لا تسري عليه ما يسري على المادة من قوانين الحركة، فإن قلنا - مثلا - إن الإنسان الفلاني يملك كذا وكذا من الأشياء، كان المعنى الصحيح لقولنا هو أنه يملك هذه الأشياء بعنصره العقلي، أما جسمه فلا يملك شيئا، بل جسمه هو نفسه من بين الأشياء الممتلكة كقطعة الأرض التي يفلحها والدار التي يسكنها؛ وهكذا يكون الفرد من الناس واحدا بعنصره العقلي، لكن ممتلكاته كثيرة.
هذا العنصر العقلي وحده، الفريد في نوعه بالنسبة إلى ما يحيط به من أشياء مادية، هو عنصر أولي بسيط التكوين لا يتجزأ، ولا يتحلل كما هو الشأن في الشيء المادي؛ ولهذا استحال فساده وتحلله بعد الموت؛ الموت يتناول الجسد وحده، وأما الروح فخالد لا يموت، وواضح أن الدين إنما يعنيه هذا العنصر من الإنسان، هذا العنصر العقلي المتفرد البسيط غير المتحلل، الذي يكتفي بذاته ويستقل بوجوده إذا شاء؛ لأن وجوده لا يتوقف على وجود أي شيء مادي، بل لا يتوقف على وجود أي عنصر عقلي آخر؛ فسواء أكان في العالم سواي من أفراد البشر أم لم يكن فلن يؤثر ذلك في وجود عنصري العقلي، بل سيظل هناك في روحانيته ووعيه لما يدور من حوله، وها هنا ندرك لماذا وبأي معنى يقول «جون لوك» إن الدين فردي خاص، معينه في نفسي، وأستنبطه من ذات نفسي، ويستحيل على إنسان آخر في الدنيا بأسرها أن يهديني في الدين سراطا مستقيما إذا لم تهدني نفسي؛ إن الاتصال بيني وبين سائر الناس، وبيني وبين الطبيعة إنما يكون بواسطة الجسد وما فيه من حواس، أما العنصر العقلي في داخلي فهو كائن قائم بذاته، يشعر بنفسه، ويوحي لنفسه، وهو الهادي وهو المهتدي؛ يقول «جون لوك» في رسالته عن التسامح: «إن الطريق الضيق الذي لا طريق سواه، والذي يؤدي إلى السماء، لا يعرفه القاضي بأفضل مما يعرفه كل إنسان لنفسه؛ لذلك لا أستطيع أن أتخذ من هذا القاضي - وأنا مطمئن - هاديا يهديني؛ لأنه قد يكون على جهل بالطريق مثل جهلي، واليقين هو أنه أقل اهتماما بنجاتي مني بنجاة نفسي ... لهذا كان روح الفرد من شأن صاحبه وحده دون سواه، ولا بد أن يترك وشأنه فيه.»
6
هكذا يكون الإنسان الفرد وحده دون سواه مسئولا عن عنصره العقلي، يستوحيه وينصت إليه في إملاء عقيدته، وصواب العقيدة مرهون بما يمليه العنصر العقلي ولا دخل لأحد سواه في الأمر؛ فأنت أنت الذي يحكم بصواب عقيدتك أو ضلالها، ولا يكون بالاحتكام إلى سواك يفتيك في أمر عقيدتك ما يجوز فيها وما لا يجوز؛ فانظر إلى هذه النتيجة البعيدة المدى كيف استنبطت استنباطا من علم الطبيعة النيوتوني، انظر كيف انتهت بنا التفرقة بين الطبيعة من جهة وإدراك الإنسان لها من جهة أخرى، إلى الاعتراف بالضمير الإنساني مشرعا لصاحبه وحكما له في صوابه وضلاله، وبهذا الأساس للتسامح الديني كما يريده «لوك» إذ كيف تتدخل في عقيدة سواك وله ضميره ولك ضميرك؟ كيف يجوز للسلطان المدني أن يتدخل في عقيدة أي فرد من الأفراد مع أن لهذا الفرد عنصرا عقليا خاصا به لا يشركه فيه إنسان آخر سفل أو علا؟ بل لا يجوز أن يقال للفرد إن كذا وكذا من أمر العقيدة الدينية هو رأي الأغلبية فاتبعه؛ لأن آراء الآخرين وإن عدت بالألوف لا تغير من الأمر شيئا.
وننتقل من الدين إلى السياسة، فنجد النتيجة عينها، أنه إذا استحالت الصلة بين روح وروح، بين عنصر عقلي في فرد، وعنصر عقلي آخر في فرد آخر، إذا استحالت الصلة بينهما، بحكم أن الصلة تكون تماسا في المكان، والعنصر العقلي بغير مكان، كان المجتمع المدني - كالمجتمع الديني - قوامه أفراد مستقل بعضهم عن بعض، كل فرد منهم وحدة قائمة بذاتها، يمكن أن تقوم وحدها، حتى ولو انعدم الآخرون جميعا ، وجود الفرد لا يعتمد على أي وجود آخر، إذن فمن ذا الذي يحق له أن يشرع لهذا الروح الفرد غير نفسه؟ إذا كانت شريعة العقيدة الدينية نفسها - كما رأينا - لا بد أن تنبع من ذات الفرد، وإذا كانت قوانين الطبيعة لا تسري على العناصر العقلية سريانها على العناصر المادية كما قرر «نيوتن» في علمه عن الطبيعة، فما بالك بالقوانين المدنية يضعها فرد مثلك أو أفراد؟ والنتيجة التي تنتج عن هذا كله هي أن القوانين المدنية عرف يتفق عليه الأفراد، ولا يجوز أبدا أن تفرض عليهم من الخارج فرضا بغض النظر عن رضاهم، القانون المدني سنده الوحيد هو قبول العنصر العقلي في الإنسان، ولما كان كل عنصر عقلي فردا مستقلا عن زميله، كانت أغلبية الآراء هنا هي السند الذي يستند إليه القانون المدني، وهكذا يبنى المجتمع بموافقة أعضائه فردا فردا، إذ ليس الفرد الواحد حجة على زميله.
بهذا ننتهي إلى نظرية «جون لوك» في الدولة، وهي النظرية التي بني عليها «إعلان الاستقلال» في الولايات المتحدة بناء مباشرا؛ فإذا كان الإنسان الفرد بحكم طبيعته العقلية - كما رأينا - حرا حرية مطلقة ومستقلا بذاته، فليس هنالك في طبيعة الإنسان ما يبرر قيام الدولة إلا رضا الإنسان نفسه؛ أي إنه ليس جزءا من طبيعته أن يتصل بغيره كما قد ذهب أرسطو وغيره حين زعم أن الإنسان اجتماعي بطبعه لا بمجرد رضاه وموافقته، لا، ليس في طبيعة الإنسان ما يستلزم اجتماعه بغيره سوى العرف، وإذن فليس للدولة سند يؤيد وجودها سوى العرف كذلك، فهكذا اتفق الناس أن تقوم فيهم دولة تصون حقوقهم، ومن هنا تنشأ المقدمتان الرئيسيتان اللتان استند إليهما «إعلان الاستقلال» في الولايات المتحدة، وهما: ولد الناس أحرارا وسواسية، وأساس الحكومة هو موافقة المحكومين على قيامها.
ولد الناس أحرارا وسواسية؛ لأن العنصر العقلي - في مذهب «جون لوك» - يولد صفحة بيضاء، ثم تأتي الخبرات عن طريق الحواس، فتؤثر في تلك الصفحة، وبذلك يبدأ الاختلاف بين الناس في مدى خبراتهم، لكنهم من حيث الحالة الطبيعية متساوون، فلم يولد واحد منهم وفي عقله ما ليس في عقل الآخر، وما دامت نظرية جاليليو ونيوتن في الطبيعة تجعل الظواهر المحسة غير حقائق الاشياء؛ بحيث يحس الإنسان لونا وطعما ورائحة ... إلخ، مما ليس في الأشياء، إذن فالطبيعة كما تقع في حس الإنسان، إنما تقع على غرار واحد في الناس جميعا على السواء، لا فرق بين الأبله والعبقري في رؤية اللون وشم الرائحة وسماع الصوت وذوق الطعوم، ولد الناس سواسية في طبائعهم الواعية، فكل يدرك ظواهر الأشياء كما يدركها زميله، وكل يخلع هذه الظواهر على الأشياء كما يخلعها زميله، ولئن تفاوت شخص وشخص في القدرة، بحيث ينبغ النابغ ويسقط الأبله، فليس هذا التفاوت في طبيعة العنصر العقلي الروحاني، بل هو في أجزاء البدن المادية كتركيب المخ وما إلى ذلك، وهكذا ينجم عن علم الطبيعة الحديث تصور حديث للإنسان، هو الذي ذهب إليه «لوك»، وأخذه عنه قادة الثورة الأمريكية، وهو هذا: ليختلف الناس ما شاءت لهم حظوظهم في تركيب المخ، وفي الطبقة الاجتماعية، وفي الثراء، وفي درجة التعليم، وفيما شئت من نواحي الحياة، لكن كل إنسان - رغم هذا التفاوت كله - هو ككل إنسان آخر باعتباره إنسانا.
يقول «لوك» في مقاله عن «الحكومة المدنية» إنه ما دام الناس بطبيعتهم سواسية أحرارا مستقلا بعضهم عن بعض، فلا يجوز أن يحرم أحد من حالته الطبيعية ليخضع لقوة سياسية يملكها شخص آخر، وأن يكون هذا الخضوع بغير إرادته، لكن هنا تنشأ المشكلة الكبرى التي ما فتئت قائمة في تحديد العلاقة بين الفرد والدولة، فمهما حدت الدولة من سلطانها فهو سلطان على كل حال، ولا يكون هذا السلطان إلا بتنازل الفرد عن بعض حريته واستقلاله، فلماذا يتنازل الأفراد عن حقوقهم؟ لماذا يتنازل الفرد عن الحقوق التي كان يتمتع بها في حالته الطبيعية مع أنه كان عندئذ سيدا مطلقا على نفسه وعلى ملكه؟ جواب ذلك هو أنه في الحالة الطبيعية كان غير المنتج يسطو - إذا استطاع - على إنتاج المنتج فيسلبه إياه وقد يفتك به، فأراد الإنسان الحر المستقل أن يتنازل للدولة عن بعض حريته واستقلاله ليحمي شخصه وأملاكه من عبث العابثين.
وإذن فالمبرر الوحيد لوجود الحكومة هو حماية الملكية الفردية، ويدخل الجسد في الملكية؛ لأن المالك الحقيقي هو العنصر العقلي من الإنسان، فقيام الحكومة شر، لكنه أهون شرا من تعرض الجسد وسائر الممتلكات المادية للنهب والتخريب، ليس قيام حكومة في الناس هو الخير الأسمى، وإنما الخير الأسمى هي الحالة الطبيعية التي تخلو من الحكومة إذا خلت كذلك من احتمال اعتداء الأفراد بعضهم على بعض، وعلى ذلك فلا يدخل الإنسان عضوا في المجتمع الخاضع للدولة بسبب كونه اجتماعيا بالطبع والضرورة، بحيث لا يكون له مناص من حياة اجتماعية تمكنه من التعبير عن نفسه تعبيرا سياسيا وخلقيا ودينيا، بل يدخل عضوا باختياره ليصون حقوقه، فإن لم يجد تلك الحقوق مصونة كان له أن يخرج عن الجماعة ويثور عليها، ومن النتائج الخطيرة لهذا الرأي ألا يكون من حق الدولة حرمان الفرد من ملكه إلا بموافقته؛ لأن صيانة الملكية هي - كما قلنا - الغاية الأولى والأخيرة من قيام الدولة.
ذلك هو «جون لوك» الذي اتخذه الأمريكيون في عهد ثورتهم فيلسوفا لهم، بحيث جعلوا مذهبه أساس إعلان استقلالهم، فكيف كان صدى آرائه في قادة الرأي عندئذ؟ سنختار للإجابة عن هذا السؤال رجلين: «تومس جفرسن» و«تومس بين» وهما من أعلام حركة التنوير في الولايات المتحدة عندئذ. (2) «تومس جفرسن» وحقوق الإنسان «لقد عاهدت الله أن أكون إلى آخر الدهر عدوا للطغيان في شتى صوره، الطغيان الذي يستبد بعقل الإنسان.» هكذا قال «جفرسن» عندما تقدم لرئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة عام 1800م، فقاومه المحافظون من رجال الدين لتطرفه في الدعوة إلى الحرية، فإذا جاز لنا أن نختار من أقواله قولا يلخص حياته وفكره اخترنا له هذه العبارة شعارا؛ لأن دفاعه عن حرية العقل كان مدار فكره وحياته، وإنما يكون هذا الدفاع في ميادين ثلاثة: السياسة، والدين، والتعليم. (1)
فهو في السياسة يعبر عن روح عصره في النظر إلى حقوق الإنسان كما يمكن أن يستدل عليها من فلسفة «جون لوك» التي أسلفنا لك شرحها، وهي بدورها فلسفة ناتجة عن علم الطبيعة في ذلك العصر كما يتمثل في «جاليليو» و«نيوتن»، ولسنا بحاجة هنا إلى تكرار ما قلناه عن حقوق الإنسان المستندة إلى فطرته وطبيعته، لا إلى منحة يمنحها إياه ملك أو حاكم، وتلك بعينها هي نظرة «جفرسن» وزملائه الذين قادوا الفكر والسياسة في الشطر الأخير من القرن الثامن عشر، ونكتفي بذكر لمحات يختص بها «جفرسن» وإن تكن في حقيقة أمرها شروحا وتعليقات على النظرية الأساسية.
من ذلك أنه - كسائر أبناء عصره - يجعل للفرد حق الثورة على الحكومة القائمة إذا هي قصرت في تحقيق السعادة التي ينشدها في حياته، والتي من أجلها تعاقد الأفراد على أن يجتمعوا وأن يقيموا على أنفسهم حكومة، لكنه وقف إزاء هذا الحق - حق الثورة - موقفين؛ أحدهما فيه تحفظ واعتدال، والآخر فيه تطرف ومبالغة، أما الموقف الأول فهو موقفه في صياغة «إعلان الاستقلال»، فكأنما أحس بضرورة القصد في القول إذا ما كان الأمر وثيقة مكتوبة، أو إذا ما كان التعبير ليس تعبيرا عن رأيه الشخصي وحده، بل تعبيرا عن الشعب كله؛ لذلك تراه ها هنا لا يبرر الثورة على الحكومة - وإن تكن حقا طبيعيا للناس - إلا إذا أفحشت الحكومة في خطئها وضلالها، وأصرت على أن تمضي عنيدة في هذا الخطأ والضلال، معرضة شعبها إلى فادح الخطر.
أما وهو يعبر عن رأيه الشخصي بعيدا عن الوثائق الرسمية التي يتوخى فيها القصد والاعتدال والتحفظ، فعندئذ يرسل القول في تطرف وحرارة عاطفة، فتراه مثلا يقول: إن الثورة على الحكومة حينا بعد حين، هي العلاج الناجع الذي يضمن أن تظل الحكومة سليمة معافاة، «فاللهم لا تقدر لنا أن نظل عشرين عاما بغير ثورة»؛ لأن «شجرة الحرية لا بد لها من الازدهار حينا بعد حين مرتوية بدماء الشهداء ودماء الطغاة، فالدماء هي المخصب الطبيعي لنمائها».
حق الثورة على الحكومة إن أخطأت هو من الحقوق التي تترتب على النظرية السياسية التي تجعل الحكومة صنيعة الشعب، وحرية الناس هي من حقوقهم الطبيعية التي هي - كما أوردها «جفرسن» في وثيقة «إعلان الاستقلال» - الحرية والحياة والتماس السعادة، لكن تلك الوثيقة لم تقل إن هذه الثلاثة هي كل الحقوق الطبيعية، بل قالت إنها بعض تلك الحقوق؛ لذلك ترى «جفرسن» يذكر حقوقا أخرى في مواضع متفرقة كحرية الفكر وحرية الدين وحرية الكلام وحرية تبادل الرأي، وحرية الصحافة وحرية التجارة والحرية الشخصية، وهي كلها فروع للحرية بصفة عامة كما وردت في «الإعلان».
وإلى جانب تلك الحقوق الفردية حقوق أخرى اجتماعية ومدنية، كحق الملكية، لكن هذا الضرب من الحقوق مقيد بالحد الذي يمكن الآخرين من التمتع به، ولم يفت «جفرسن» أن يتنبه للجوانب التي تنتفي فيها حقوق الإنسان؛ أي إنه لم يحصر فكره في الحقوق الإيجابية وحدها، من ذلك قوله: ألا حق لأحد أن يعتدي على حقوق سائر الأفراد، ولا حق لأحد أن يكون قاضيا في قضية هو أحد أطرافها، ولا حق لأحد في أن يحتكر لنفسه شيئا ... وهكذا.
ويطبق «جفرسن» نظرية الحقوق الطبيعية على الأجيال تطبيقها على الأفراد سواء بسواء، معارضا بذلك كثيرين من مفكري عصره في أوروبا، نخص بالذكر من هؤلاء «أدمند بيرك» (1729-1797م) فمن رأي هؤلاء أن حياة الأمة تمتد ما امتد الزمن، وبذلك وجب على الأجيال القادمة أن ترتبط بفعل الأجيال السابقة، فيعارض «جفرسن» هذا المبدأ، جاعلا لكل جيل الحق في تغيير ما قررته الأجيال السابقة بأفعالها أو أقوالها؛ لأنه لو أخذنا بمبدأ اشتراك الأجيال السابقة في تقرير حقوق الجيل القائم، ترتب على ذلك أن تكون الأرض ملكا للأموات لا ملكا للأحياء الذين يفلحونها ويعيشون عليها.
الأفراد القائمون الأحياء هم أصحاب الحق في تقرير مصائرهم، وفي اختيار حكومتهم، إن لم يكن كل فرد بذاته، فبالإنابة، وهنا تختلف الديمقراطية الحديثة عن الديمقراطية القديمة - كما كانت عند اليونان مثلا - إذ كان الفرد في الديمقراطية اليونانية يمثل نفسه، وكان ذلك ممكنا حين كانت الدولة مدينة واحدة يمكن لأفرادها الراشدين أن يجتمعوا في صعيد واحد، أما وقد تناءت أطراف الوطن الواحد في العصور الحديثة، واستحال أن يجتمع الأفراد جميعا ، كان التمثيل بإنابة أفراد عن أفراد، وعلى كل حال، فالحكومة تكون على أكمل حالاتها حين تحصر نشاطها في أقل حد ممكن. (2)
أما الحرية الدينية فتنبني - في رأي «جفرسن» - على أن الحرية هي حق طبيعي للإنسان، فكما أنه لا يجوز أن يستبد بها حاكم سياسي، فكذلك لا يجوز أن تنتقص منها هيئة دينية، والذكاء الفطري عند الإنسان - إذا لم تعطله العوامل الخارجية من دولة أو كنيسة - كاف وحده أن يهدي الإنسان في مشكلاته الدينية، دون أن يكون في ذلك بحاجة إلى كنيسة تمسك بزمامه، فحسب الإنسان - في الرأي السياسي وفي العقيدة الدينية على السواء - أن يرضي ضميره، وقد جاهد «جفرسن» وهو حاكم لولايته - ولاية فرجينيا - في سبيل تقرير الحرية الدينية لأفراد ولايته على النحو الذي يراه حقا لكل إنسان؛ لذلك سن قانونا يحقق للناس هذه الحرية التي أرادها لهم في عقائدهم، وكانت عبارة الاستهلال في هذه الوثيقة هي ما يأتي: «لما كنت على يقين من أن الله تعالى قد خلق عقل الإنسان حرا ...» فإذا سلمنا بأن حرية العقل هي جزء من طبيعته كما خلقها الله، امتنع أن يكون لأي إنسان أن يضع ما يقيد الفرد في استخدامه لعقله، فلا الحكومة ولا الكنيسة لها أن تقيم الحواجز أمام الحرية العقلية عند الفرد إلا إذا كانت حرية تفكيره مؤدية إلى إيذاء الآخرين وإلى الحد من حرية التفكير عندهم «غير أني لا أنزل بجاري أذى إذا قلت إن في الكون عشرين إلها، أو قلت أن ليس هنالك إله؛ لأن مثل هذا القول لا يسلبه مالا، ولا يكسر له ساقا.» وإذن فليس من حق الحكومة أو الكنيسة أن ترغم أحدا على عقيدة دينية معينة، أو أن تضطهد إنسانا بسبب عقيدته، بل الأمر على نقيض ذلك، فواجب الحكومة هو أن تهيئ الظروف التي تمكن الناس جميعا من حرية التعبير عن آرائهم الدينية، ومن تأييد تلك الآراء بكل ما يستطيعون من حجة، دون أن تتأثر بذلك حقوقهم المدنية. (3)
عقل الفرد - إذن - هو مرجعه الوحيد في السياسة وفي الدين، لا سلطان عليه في ذلك من حكومة أو من كنيسة، فإذا قيل إن من الأفراد من ليست لهم هذه القدرة العقلية المؤتمنة على هداية صاحبها طريق الصواب، كان الرد على ذلك هو ضرورة تعليمهم لا التسليم بعجزهم، ومن هنا تنشأ عند «جفرسن» عقيدته في وجوب تعميم التعليم بين الناس؛ لتمكينهم من ممارسة حقوقهم الطبيعية في تقرير مصائرهم بأنفسهم، ومع ذلك فالتاريخ - تاريخ الملوك بصفة خاصة - شاهد على أن خطأ الشعب مهما يكن ناقصا في تعليمه ليس أفدح خطرا من خطأ الحكومات الوزارية والملوك، فليس هناك الأسرة الملكية التي أنجبت أكثر من رجل واحد ذي إدراك سليم في كل عشرين جيلا، والملوك هم على أفضل حالاتهم حين يتركون الأمر في أيدي وزرائهم، لكن من هم هؤلاء الوزراء إن لم يكونوا جماعة أسيء اختيار أفرادها؟ فإذا تدخل الملك في عمل الوزراء كان ذلك ليزيد الأمر سوءا على سوء.
إن «جفرسن» لا يريد بهذا كله أن يدعي بأن الناس متساوون في قدراتهم العقلية؛ إذ لا شك أنهم في ذلك يتفاوتون، لكن علينا أن نهيئ أمام الجميع فرصا متساوية في التعليم، وللنابغ بعد ذلك أن ينبغ، وللمتخلف أن يتخلف، فلكل طفل الحق في فرصة تعادل فرصة زميله، بحيث تنمو مواهبه إلى أقصى حد مستطاع، بغض النظر عن حالته المالية من فقر أو غنى، فلا يجوز أن يكون التعليم حقا للأغنياء وحدهم، وبهذا التعليم العام الذي لا يفرق بين فرد وفرد، سيظهر في كل جيل قادته الجديرون بقيادته، وإذا شئت فقل عن هؤلاء القادة إنها الصفوة، أو هي «الأرستقراطية»، لكنها عندئذ تكون أرستقراطية المواهب، لا أرستقراطية الحسب والمال والجاه، وعلى هذا الأساس أقام أسس التعليم في ولاية فرجينيا - وهي وطنه - حين كان حاكما لها، وأنشأ جامعة فرجينيا.
جهاد في سبيل الحرية العقلية، هذا هو ما عاهد الله - كما قال - على أن ينفق حياته فيه: حرية العقل في الفكر السياسي، وقد عبر عنها في «إعلان الاستقلال» الذي صاغ عبارته، وحرية العقل في العقيدة الدينية، وقد عبر عنها في القانون الذي وضعه في ذلك لولاية فرجينيا، وحرية العقل في التعليم، وقد عبر عنها في إنشائه لجامعة فرجينيا، ومن هذا كله نعلم لماذا - حين سئل في أخريات سنيه: ماذا يريد أن يكتبوا له على شاهد قبره من بين أعماله الكثيرة التي زخرت بها حياته الحافلة المجاهدة المكافحة؟ قال: اكتبوا ثلاثة أشياء: إعلان الاستقلال، وقانون الحرية الدينية، وجامعة فرجينيا؛ فبالأول يزول استبداد الحكومة، وبالثاني يتحرر العقل من سلطان الكنيسة، وبالثالث تصان الحرية التي يكتسبها الناس في السياسة والدين. (3) «تومس بين» والإيمان بالعقل
إنه لو جاز لنا أن نختار رجلا واحدا من رجال «التنوير» في الولايات المتحدة إبان ثورتها في سبيل استقلالها، نقول عنه إنه اللسان المعبر عن الحركة كلها، على الرغم من كثرة من ناصروها وأشاعوا مبادئها؛ لكان هذا الرجل الواحد هو «تومس بين» لما حباه الله من قدرة أدبية في عرض أفكاره، التي هي في جوهرها أفكار العصر كله في أمريكا وفي أوروبا على السواء، بحيث استطاع بجمال أسلوبه وصفاء عبارته أن يلتمس طريقه إلى قلوب الناس وعقولهم على نطاق أوسع جدا مما كانت تكون عليه الحال لو اقتصرت تلك الأفكار على صياغة فلسفية لا يسهل فهمها وقبولها عند أوساط الناس، فليس فيما قاله «بين» من جديد إلا طريقة العرض.
وتستطيع أن تلخص مبادئ حركة التنوير - في أمريكا وأوروبا - في حيز صغير، فأول ما تشير إليه الكلمة - كلمة «تنوير» - التي تركز طابع الفكر في القرن الثامن عشر، هو إشارتها إلى قدرة العقل على حل مشكلات الطبيعة والإنسان، بحيث لا يعود الناس بحاجة إلى مصادر أخرى غير عقولهم تعينهم على تفهم ما يريدون أن يتفهموه، وكان طبيعيا أن يشتد إيمان الناس إذ ذاك بعقولهم بعد ما شهدوه من غزارة الإنتاج العلمي الذي تراكمت آثاره خلال القرنين السابقين لعصرهم، وهما القرن السادس عشر والسابع عشر، فإن كان العقل قد استطاع أن يكشف في هذه الفترة القصيرة عن هذه الأسرار الطبيعية كلها، أفلا يستطيع على مر الزمن أن يكشف الغطاء عن سر الحقيقة كلها؟ إنه لا حدود للعقل تلزمه بالوقوف عندها؛ فيكفيه أن يهتدي إلى المبادئ الأولية، وله بعد ذلك أن يستخدم المنهج الرياضي في استنباط ما لا نهاية له، ولا حصر من النتائج التي تترتب على تلك المبادئ. فإن استغنى الإنسان بعقله عن كل معونة تأتيه مما وراء الطبيعة، إذن فليتحول باهتمامه كله من السماء إلى الأرض، حيث يعيش الإنسان، فسعادة الإنسان هي وحدها الهدف الذي يجدر بنا أن نستهدفه، ونعيم الآخرة هو النعيم الذي نهيئ أسبابه للأجيال المقبلة، والنجاة المنشودة ليست هي النجاة من خطيئة آدم، بل هي النجاة بالإنسان مما هو فيه من جهل واستعباد.
اهتم «تومس بين» بالعلم الطبيعي ونتائجه - نظرا وتطبيقا - ولما كان من أهم النتائج التي تترتب على طبيعة نيوتن الاعتقاد في اطراد ظواهر الطبيعة اطرادا يمكننا من الكشف عن قوانينها؛ وبالتالي إمكان التنبؤ بما سيحدث قبل حدوثه؛ فقد رأى «بين» أن الاحتكام إلى الطبيعة هو خير معين لنا على فهم عالمنا الذي نعيش فيه، وما الطبيعة إلا قوانينها التي فرضها الله على المادة لتسير بمقتضاها، وإن شئت فقل هي القوانين التي يحكم الله بها ملكوته، فليس الاطراد في حدوث الحوادث - الذي هو القوانين الطبيعية - من خلق العلم واختراعه، فالعلم لم يصنع شيئا ولم يضف شيئا؛ إذ الطبيعة بنظامها واتساقها واطرادها هناك، ومهمة العقل أن يعلن عنها، وهل خلق نيوتن قانون الجاذبية من عدم؟ أم هو طريقة الله في تسيير أجزاء الكون، كانت قائمة ثم انكشف عنها الغطاء؟
ونخطو بعد ذلك خطوة، فنقول: إن اطراد القوانين الطبيعية ليس هو طريقة الله في تسييره لأجزاء الكون فحسب، بل إن ما لا يدل على مثل هذا الاطراد والنظام والاتساق لا يكون من صنع الله؛ ومن ثم لا يجوز لنا قبول ما يسمونه بالمعجزات، فماذا تكون «المعجزة» إذا لم تكن هي الحادثة التي تحدث على غير ما تستوجبه قوانين الطبيعة؟ وإنه لمما يلفت النظر أننا دائما حين نقبل معجزة على أنها وقعت، لا نعتمد في هذا القبول على مشاهداتنا الخاصة، بل ننقل عما شهد به سوانا وليس معنى ذلك إلا أننا - إذا نحن آمنا بوقوع المعجزة - قد انتقلنا بالإيمان من إيمان بالله إلى إيمان بهذا الشاهد الذي نقلنا عنه نبأ المعجزة التي قيل إنها وقعت، الإيمان بالله هو إيمان بنظامه في كونه، والإيمان بالمعجزة هو إيمان بأن ذلك النظام قد اختل اطراده وأصابته فوضى، وإذا قرأنا عن معجزة فعلينا أن نسأل أنفسنا: أيهما أرجح، أن تكون الطبيعة قد ضلت سبيلها المعتاد، أم أن يكون الإنسان (الذي شاهد) قد ضل طريق الصواب؟ إن أحدا منا لم يشهد قط في غضون حياته خروج الطبيعة عن مجراها، لكننا في الوقت نفسه نسمح بأكاذيب كثيرة في هذا الصدد، فاحتمال أن يكون الشاهد قد أخطأ الشهادة أرجح جدا من احتمال أن تكون المعجزة المزعومة قد وقعت.
7
ومن الإيمان باطراد النظام في الطبيعة يستنتج قانون الأخلاق، فلو كانت الطبيعة مسيرة وفق طائفة من القوانين استنها لها الله الذي يريد بخلقه خيرا، ثم لما كان الإنسان جزءا من الخلق من جهة، وشبيها بالخالق من جهة أخرى، لزم أن يكون الإنسان في حالة كماله مسيرا بقوانين أخلاقية تسير به نحو خيره، فكما أن للطبيعة قوانينها، فكذلك للإنسان قانونه، وقانونه هو قانون الأخلاق، والعقل في كلتا الحالتين هو كاشف الغطاء عن تلك القوانين التي ليست من خلقه، وإن تكن من كشفه، فإذا أردت أن تعرف كيف ينبغي للإنسان أن يسلك وأن يفكر في السياسة وفي الاقتصاد وفي العبادات، وفي كل جانب من جوانب الحياة، فعليك بالعقل يكشف لك عما يحقق الاطراد والاتساق والنظام، ولا تركن في ذلك إلى حكم تحكم به الحكومة، أو فتوى يفتي بها رجال الدين.
وإذا عبرنا عن هذا المعنى نفسه بعبارة أخرى، قلنا إن العلم بالإنسان وحقيقته يقتضي دراسته وهو على طبيعته قبل أن تفسده أنظمة الحكومة ومؤسسات اللاهوت، إن بعض المؤرخين - مثل «إدمند بيرك» الذي كان «بين» يعنيه في هذا السياق - حين أرادوا الدفاع عن حقوق الإنسان، التمسوا أسانيدهم من التاريخ القديم، لكن البدء بأي فترة من فترات التاريخ القديم هو اختيار جزاف، فلماذا لا تتعقب الإنسان إلى أصوله الأولى، إلى حالته الطبيعية قبل أن ينشأ له مجتمع، وقبل أن يتكون له تاريخ؟ لماذا لا ندفع نقطة الابتداء إلى حيث كان الإنسان لا يتميز إلا بقلب واحد، هو أنه «إنسان» فلا حاكم ولا محكوم، ولا أباطرة ولا ملوك، ولا سادة ومسودين؟
8
فإذا وصلنا إلى الحالة الطبيعية ألفينا الإنسان وحقوقه قد خلقا معا، ها هنا نصل إلى الأصل الإلهي لحقوق الإنسان ساعة خلقه، ساعة أن خرج من يدي خالقه ذا حقوق متساوية ليس لفرد امتياز على فرد آخر، إن الحقوق الطبيعية للطفل يوم ولادته هي نفسها الحقوق التي كانت لأول إنسان شهد الوجود، الناس كما خلقهم الله لا يتميز بعضهم من بعض إلا بأن منهم الذكور ومنهم الإناث، فالمساواة بين الأفراد هي أقدم رأي سياسي وليست هي بالرأي الحديث، إذن فمثل هذه الحقوق الطبيعية الأولية هي لكل إنسان لمجرد كونه إنسانا ذا وجود على وجه الأرض، ومن الحقوق الطبيعية ما يستطيع الإنسان أن يحافظ عليه بنفسه كحقه في حرية الفكر مثلا، لكن منها كذلك ما لا يستطيع وهو منفرد أن يحافظ عليه، كالأمن وصيانة الأملاك، ومن أجل هذه تعاقد بإرادته راضيا أن يكون عضوا في مجتمع، ورضي أن يستبدل حقا بحق، فبدل الحق الطبيعي الذي تنازل عنه اكتسب حقا مدنيا يقوم مقامه، وهكذا تكون الحقوق المدنية حقوقا طبيعية تم استبدالها، وما السلطة المدنية إلا مجموعة الحقوق التي تنازلت عنها مجموعة الأفراد الذين هم أعضاء مجتمع واحد.
9
وذهب «بين» إلى ما ذهب إليه «جفرسن» بأن الجيل الحاضر لا يرتبط بسابق الأجيال، بل هو حر في ما يختاره لنفسه، نعم إن القوانين التي يشرعها أحد الأجيال قد يجوز للأجيال التالية أن تستبقيها، على ألا يكون معنى ذلك استحالة تغييرها، وغاية ما في الأمر أنها تستبقيها؛ لأنها لا تريد أن تشرع قوانين أخرى تحل محلها، وعندئذ تكون بمثابة القوانين التي تستنها لنفسها، فإذا قلنا عن قانون باق لدينا من جيل سابق أنه لا يزال نافذ المفعول، كان معنى ذلك أن هنالك موافقة ضمنية من الجيل القائم على بقائه، فكما أن لكل طفل يولد نفس الحقوق التي كانت لأول طفل شهد الوجود، فكذلك لكل جيل يأتي نفس الحقوق التي كانت لأي جيل مضى، غير أن عدم ارتباطنا بقوانين أسلافنا لا ينفي أن يكون علينا واجب نحو من سيأتي بعدنا، فتقرير حق يتضمن في الوقت نفسه فرض واجب يقابله؛ لأن كل حق لي باعتباري إنسانا هو كذلك حق لسواي، وبذلك يصبح واجبا علي أن أصونه لغير صيانته لنفسي، فهذا الواجب هو إلزام ملزم للناس على تعاقب العصور.
وكذلك يأخذ «بين» بما أخذ به «جفرسن» من أن مساواة الناس في حقوقهم لا تعني أنهم متساوون في مواهبهم، بل إن هذه المواهب لتتفاوت، ويتبع التفاوت توزيع بين أفراد المجتمع، بمعنى أن تجد في كل مجتمع ما يلزمه من مواهب متفرقة بين أفراده، لكنها تغير من مواضعها بحيث تظهر في هذه الأسرة مرة، وفي تلك الأسرة مرة؛ إذ المواهب لا تورث؛ وبالتالي لا تستقر في أسرة واحدة على مدى الزمن، ومن يزعم التوارث للمواهب الفطرية فإنما يضعف الأساس الإنساني الذي تقوم عليه الديمقراطية؛ لأنه بذلك يلتمس مبررا يبرر الأرستقراطية، والتاريخ شاهد على أن القدرة العقلية لا ضابط لمكان ظهورها، حتى ليرجح أن يكون النبوغ العقلي قد طاف بكل أسرة على ظهر الأرض، وعلى هذا النظام الطبيعي في دوران الموهبة على مختلف الناس، ينبغي أن يدور الحكم إلى حيث تظهر الموهبة بغض النظر عن أي عامل آخر، وهذا كاف وحده برهانا على ألا يتوارث الحكم أسرة واحدة.
10
ومن تطبيقات «تومس بين» العجيبة لمبدأ المساواة في الحقوق الطبيعية ما سماه بمبدأ العدالة الزراعية، ومؤداه أن مالك الأرض لا حق له في توريث أرضه لأبنائه من بعده؛ لأن الله قد خلق الأرض للناس جميعا يتوارثونها جيلا عن جيل، ففي الحالة الطبيعية لم يكن يملك الأرض مالك فرد، بل هي ملك للجماعة كلها، وفي مثل هذه الحالة لا يكون فقر مدقع لأي إنسان، لكنها كذلك لا تعين على إنتاج من علم أو فن،
11
والمبدأ عند «بين» هو ألا يتدهور الإنسان عما كان عليه في الحالة الطبيعية، وإذن فيجب أن تظل الأرض ملكا للجميع كما كانت، وإلا لحدث لبعض الأفراد أن يكونوا من غير المالكين بعد أن كانوا مالكين، نعم إننا لا نريد أن ننتزع الأرض من زارعيها، لكن على هؤلاء أن يدفعوا إيجارا سنويا عن أرضهم للمجتمع، لأنهم بمثابة من احتجز شيئا كان ملكا للجميع، فجعله ملكه الخاص، وإذن فلا بد من تعويض أولئك الذين لا يملكون أرضا؛ لأنهم في حكم من أجروا أرضهم التي كانوا يملكونها على المشاع في الحالة الطبيعية، واقترح «بين» أن يأخذ كل من يبلغ الحادية والعشرين من عمره - غنيا كان أو فقيرا - خمسة عشر جنيها تعويضا له عن أرضه المفقودة، وعند سن الخمسين يتقاضى كل فرد عشرة جنيهات كل عام، والذي يدفع هذه التعويضات هم مالكو الأرض الحاليين من الإيجارات التي يدفعونها كل عام.
12
وقد كان «بين» - كما كان رجال التنوير جميعا - من أنصار الحرية الفكرية والحرية الدينية، حتى ليغيظه أن يستعمل الناس كلمة «التسامح» في هذا الصدد؛ لأنها كلمة تتضمن أن المتسامح صاحب فضل في منح الحرية لمن يتسامح معه، وعنده أن «التسامح» هو كالتعصب سواء بسواء من حيث إن كليهما ينطوي على طغيان، فالحرية في الرأي وفي العقيدة الدينية حق طبيعي لا يجوز أن يكون موهوبا «بتسامح» الواهب، وقد نشر «تومس بين» كتابه «عصر العقل» ليفرق فيه بين اللاهوت الصحيح واللاهوت الزائف، أما الصحيح فهو المعتمد على العقل وحده، وأما الزائف فهو الذي يلجأ إلى الخرافة، فأثار عليه رجال الدين ورموه بالإلحاد، مع أنه في الحق لم يكن مناهضا للدين في ذاته، وإن يكن مناهضا للمسيحية كما تصورها رجال الكنيسة عندئذ، والفرق بينه وبين رجال الثورة الفرنسية عندئذ في هذا الصدد، هو أن هؤلاء تنكروا للدين جملة واحدة، وأما هو فقد أبقى عليه على شرط أن يترك أمره للعقل، يقول في ذلك: «إن عقلي هو كنيستي.»
13
فللناس أن يعتقدوا فيما يهتدون إليه من أمر دينهم بعقولهم، لا أن يقسروا على الإيمان قسرا.
الفصل الثاني
دستور الفكر بعد دستور السياسة
(1) «رالف والدو إمرسن» واستقلال الفكر
أعلنت الولايات المتحدة وثيقة استقلالها عام 1776م، فضمنت «إعلان الاستقلال» مبادئها التي قررت بها حقوق الإنسان الطبيعية التي لا فضل فيها لأحد على أحد، لكنها إذ وضعت - في تلك الوثيقة - للسياسة دستورها، اعتمدت في مصادرها على الفكر الأوروبي بصفة عامة، وعلى الفيلسوف الإنجليزي «جون لوك» بصفة خاصة، فكانت في ذلك بمثابة من استقل بجسده ولم يستقل بروحه، وأين يكون استقلال الروح إذا كانت أوروبا لا تزال تضع لها المبادئ وتخطط لها مناهج التفكير؟
ولبث الأمر كذلك حتى جاء «رالف والدو إمرسن»
1
1803-1882م. فكان - كما يصفه «بروكس أتكنسن»
2 - «أول فيلسوف أمريكي الروح.» ألقى خطابا عام 1837م أمام الشباب المتخرج في جامعة هارفارد، بعنوان «العالم الأمريكي»،
3
فعد هذا الخطاب فيما بعد «إعلانا للاستقلال العقلي» في الولايات المتحدة، جاء مكملا «لإعلان الاستقلال» السياسي الذي سبقه بستين عاما، في هذا الخطاب التاريخي الخالد في تاريخ الثقافة الأمريكية، يقول «إمرسن»: «إن يوم اعتمادنا على غيرنا، وتتلمذنا الطويل على علم بلاد أخرى، يقترب من نهايته، إن الملايين من حولنا، التي تندفع نحو الحياة، لا تستطيع أن تعيش دائما على البقايا الذابلة من المحصول الأجنبي.»
4 «إنه لا بد لكل عصر أن يكتب كتبه»
5 «ينشأ الشباب الذليل في المكتبات، وهم يعتقدون أن من واجبهم أن يقبلوا الآراء التي أدلى بها «شيشرون» و«لوك» و«بيكن»، ناسين أن «شيشرون» و«لوك» و«بيكن» كانوا شبابا في المكتبات (مثلهم) عندما ألفوا هذه الكتب؛ ومن ثم فبدلا من «الإنسان المفكر» يكون لدينا قراء الكتب، فتنشأ طبقة المتعلمين من الكتب، الذين يقيمون للكتب وزنا لأنها كتب، لا لأنها ترتبط بالطبيعة وتكوين الإنسان ... ومن ثم يظهر أولئك الذين يردون كل مقروء إلى أصله، ومصححو الكتب، والمولعون باقتنائها على اختلاف درجاتهم، الكتب خير الأشياء إذا أحسن استعمالها ، أما إذا أسيء فهي من شر الأمور، فما هو الاستعمال الصحيح لها؟ ما هو الغرض الوحيد الذي تهدف إليه كل الوسائل؟ ليس للكتب غرض سوى الإيحاء، وإنه لخير لي ألا أرى كتابا من أن يضللني الكتاب بجاذبيته عن مجالي ضلالا مبينا، أو أن أصبح تابعا بدلا من أن أكون صاحب رأي مستقل ... إنهم يتطلعون إلى الوراء لا إلى الأمام، ولكن العبقرية تنظر إلى الأمام، فالإنسان عيناه في مقدمة رأسه لا في مؤخرته.»
6 «إن أكبر فضل نعزوه إلى «موسى» و«أفلاطون» و«ملتن» هو أنهم أهملوا الكتب والتقاليد كل الإهمال، ونطقوا بما دار في خلدهم لا بما دار في خلد الناس، كل وفق ما أملاه عليه عقله.»
7 «لكننا اليوم رعاع، لا يقيم الإنسان لإنسانيته وزنا، ولم يتعلم أن يلزم داره ليتصل بمحيطه الداخل، بل يرحل إلى الخارج، يطلب كأسا من الماء من أوعية الآخرين، يجب أن نسير - في الفكر - وحدنا.»
8 «إننا نقلد ... نبني بيوتنا بذوق أجنبي، ونزين رفوفنا بأدوات الزينة الغريبة عنا، وآراؤنا وأذواقنا وكفاياتنا تخضع وتتبع الماضي والبعيد ... وما حاجتنا إلى تقليد النماذج الدورية والقوطية؟ إن الجمال وراحة الفكر وعظمته وغرابة التعبير قريبة منها قربها من أي إنسان آخر.»
9
هكذا طفق «إمرسن» يدعو إلى استقلال الفكر في قومه، لا، بل هكذا طفق يدعو كل إنسان فرد إلى الاستقلال بفكره والاعتماد على نفسه، والمرء إذا ما أنصت إلى صوت ضميره وأحسن الإنصات، جاءت فكرته - على أصالتها - معبرة عن حق يمكن لأي فرد آخر أن يدركه، ذلك لأن الفرد الواحد من الناس ليس في حقيقة أمره فردا مستقلا قائما بذاته، بل هو ممثل للإنسانية كلها، إذ الإنسانية كلها حقيقة واحدة متصلة شاملة، وإن تشعبت في رؤية العين أفرادا كأصابع اليد الواحدة تشعبت، لكنها مع ذلك أصابع يد واحدة، فسعادة الإنسان في فكره وفي عمله مرهونة بإدراكه لهذه الحقيقة العليا، وهي أنه حين يفكر وحين يعمل، إنما يفكر ويعمل لا بالأصالة عن نفسه فقط، بل بالنيابة عن الإنسانية كلها أيضا، إن هنالك «إنسانا واحدا» يتمثل في كل فرد من أفراد الناس، فإذا عمل الفرد عملا، «فالإنسان» الواحد العام هو الذي يعمل متخذا من ذلك الفرد المعين وسيلة للأداء، وإذا نبغ فرد في علم أو في فن، فكذلك هو «الإنسان» الواحد العام الذي نبغ، وإن يكن ذلك النبوغ قد ظهر في عالم الواقع عن طريق ذلك الفرد المعين، «ولا بد لك أن تأخذ الجماعة كلها لكي تجد هذا الإنسان كاملا، ليس الإنسان - الكلي العام - مزارعا فقط، أو عالما فقط، أو مهندسا فقط، إنما هو كل ذلك.»
10
فإذا رأيت أفراد المجتمع الواحد قد تخصص كل منهم في عمل بذاته، فهذا قسيس، وهذا عالم، وهذا سياسي، وذلك مزارع أو جندي محارب، فاعلم أن ذلك المجتمع المجزأ الأفراد إن هو في حقيقته إلا «إنسان» واحد، ذو عقل واحد، تفرع في هؤلاء الأفراد؛ ليعمل ما يريد أن يعمله عن طريق أعضائه، وإذن فالمهمة واحدة، والهدف واحد، والحياة واحدة، وإن يكن كل فرد قد أخذ منها بنصيب، لا ليكون ذلك النصيب خاصا به مقصورا عليه، بل ليكون هو النصيب الذي يؤديه بالنيابة عن بقية الأفراد، ولو نظر كل منا إلى نفسه على أنه وحدة مستقلة لكان ذلك شبيها ببتر الفرع عن جذعه، أو شبيها بتقطيع أوصال الجسم الواحد، بحيث يصبح كل عضو مبتور جزءا شائها في ذاته مهما بلغ في عمله أو فكره من كمال، فكأنما الناس في هذه الحالة يمشون على الأرض إصبعا وحدها، أو رقبة، أو معدة، أو ما شئت من أجزاء البدن، فمهما يبلغ كل جزء في أداء عمله من الجودة والإتقان فليس هو بالإنسان.
11
على هذا الأساس - لا على أساس الأنانية وحب الذات - يدعو «إمرسن» قومه، بل يدعو كل فرد من الناس، أن يستقل بفكره وأن يعتمد على نفسه، مستوحيا عقله، منصتا إلى صوت ضميره، لا يقلد ولا يتبع، «فالعبقرية هي أن تعتقد في رأيك، وأن تعتقد أن ما هو صادق في قلبك الخاص إنما هو صادق للناس جميعا، فانطق بعقيدتك الباطنية تكن هذه العقيدة قولا معقولا للعالم أجمعين.»
12
وكم يحدث لكل منا أن يدرك الفكرة المعينة في عقله، لكنه يمسك عن النطق بها استهانة بشأن نفسه، وإذا بهذه الفكرة عينها تجيء إليه في أقوال النوابغ العظماء، وعندئذ يتقبل رأيه الخاص صادرا إليه من غيره، فيأخذه شعور الخجل والصغار، بعد أن كان من حقه الفخار والاعتداد بالنفس لو أنه عبر عما كانت نفسه قد جاشت به في حينه.
انطق بما توحي إليك به نفسك الآن، فما دمت صادق التعبير عن ذلك الوحي، أمينا في نقله وتصويره؛ فقد أحسنت تمثيل العقل الأكبر الذي أنت جزء منه، قل ما يدور في عقلك الآن، ولا تخش أن يناقض قولا قلته أنت بالأمس، فالفزع من وقوعنا في التناقض كثيرا ما يفقدنا الثقة في أنفسنا، «هب أنك قد ناقضت نفسك، فماذا وراء ذلك؟ ... إن الثبات السخيف على رأي واحد هو فزع العقول الصغيرة هو الفزع الذي يخشاه صغار الساسة والفلاسفة ورجال الدين، أما الروح العظيم فلا شأن له بمثل هذا الثبات، وإلا فكأنه يأبه لظله فوق الحائط، انطق بما تفكر فيه الآن في ألفاظ قوية، وانطق غدا بما تفكر فيه غدا في ألفاظ قوية كذلك، حتى إن ناقض كل ما قلته اليوم.»
13
لماذا ينقل الأمريكي فكر زميله في أوروبا أو في أي جزء آخر من أجزاء العالم؟ بل لماذا يقلد أي فرد أي فرد آخر، وكل فرد يمثل الحقيقة العليا التي يمثلها زميله سواء بسواء، وإن اختلف الجانب الذي يمثلها فيه؟ «اعتمد على نفسك، ولا تقلد أبدا، لك في هذه اللحظة رسالة جريئة عظيمة كرسالة إزميل «فدياس» الضخم، أو مسطار المصريين، أو قلم «موسى» أو «دانتي»، ولكنها تختلف عن كل هؤلاء، إن الروح الفنية الفصيحة ذات اللسان الذي له ألف شق، لا يمكن أن ترضى بتكرار نفسها، لكنك لو استطعت أن تصغي إلى ما يقوله هؤلاء الشيوخ أمكنك يقينا أن تجيبهم بصوت مرتفع كصوتهم؛ لأن الأذن واللسان عضوان من طبيعة واحدة، فالزم دائرة حياتك الساذجة النبيلة، وأطع قلبك، تستعد الدنيا القديمة مرة أخرى.»
14
ليس بين الأفراد من التفاوت بالقدر الذي يتوهمون ، «فالفروق بين الناس في مواهبهم الطبيعية تافهة إذا قيست إلى ثروتهم المشتركة.»
15
كيف لا، ولكل عقل طريقته في التعبير عما يدور فيه من حقائق نفسه، وكل عقل إنما يكشف عن سر نفسه، ولا يستطيع أن يكشف عن سر عقل سواه «وهل تحسب أن حارس الباب أو الطاهي ليست له قصص أو تجارب أو عجائب؟ كل فرد يعرف بقدر ما يعرف العالم، فجدران العقول الساذجة مخططة كلها بالحقائق والأفكار، ولسوف تظفر ذات يوم بمصباح وتقرأ المخطوط.»
16 «أنعم النظر فيما يستهويك في «فلوطارخس» و«شكسبير» و«سرفانتيز»، تجد أن كل حقيقة يحصل عليها كاتب هي مصباح يسلط كل ضوئه على الوقائع والأفكار التي كانت من قبل في عقله، ثم انظر إلى ما يحدث بعد ذلك، ترى الحصير والمهملات التي كانت منتثرة في برجه قد أصبحت أشياء ثمينة، فكل واقعة تافهة في تاريخ حياته الخاصة تمسي وسيلة لإيضاح هذا المبدأ الجديد، وتعود إلى وضح النهار، وتستهوي الناس جميعا بقوتها وسحرها الجديد، ويتساءل الناس: أنى له هذا؟ ويظنون أن في حياته شيئا مقدسا، كلا، إن لديهم ألوف الوقائع التي لا تقل عن ذلك قيمة، وما عليهم إلا أن يحصلوا على مصباح ينبشون في ضوئه - هم كذلك - الطبقات العليا من ديارهم.»
17 «ليس «بيكن» أو «سبينوزا» أو «هيوم» أو «شلنج» أو «كانت» أو غيرهم، ممن يعرضون عليك فلسفة عقلية، إلا مترجما للأشياء التي في وعيك، والتي لك أنت كذلك سبيلك إلى رؤيتها، وربما إلى التعبير عنها أيضا وترجمته محرفة قليلا أو كثيرا، فقل إذن إنه لم ينجح في أن يرد إليك وعيك، بدلا من أن تنكب متخاذلا على معانيه الغامضة، إنه لم ينجح، فدع الآن غيره يحاول، وإذا كان أفلاطون لا يستطيع، فربما استطاع «سبينوزا»، وإذا لم يستطع «سبينوزا» فربما استطاع «كانت»، وعلى أية حال فلسوف تجد بعد هذا كله أن ما يرده إليك الكاتب ليس أمرا عويصا، ولكنه بسيط طبيعي مألوف.»
18
لما انطلق «إمرسن » يملأ مسامع قومه بهذه الدعوة إلى أن يستقل الإنسان بفكره؛ وبالتالي إلى أن يستقل الأمريكيون بتفكيرهم، كان في الحقيقة صادرا في دعوته تلك عن ثورة عميقة على رجال «التنوير» والثورة، يقتلع الفلسفة التي بنوا عليها نظريتهم السياسية من جذورها ويهدمها من أساسها، ألم يكن مصدر هؤلاء الساسة علم «نيوتن» وفلسفة «لوك»؟ ثم أليس ذلك العلم وهذه الفلسفة قائمين على المشاهدات الحسية والتجارب، فعلم الطبيعة يبنى على شهادة الحواس، وفلسفة «لوك» تدور حول خبرة الحواس تحللها وتصنفها؟ ولكن ما بالحواس يدرك الإنسان حقائق الأشياء، وإن أدرك بها ظواهرها، وإنما يكون العلم بحقيقة الكون بوسيلة أخرى غير الحس، هي وسيلة الحدس، أو العيان العقلي المباشر، وهل يدرك الإنسان ذاته بالبصر أو بالسمع؟ كلا، إن الإنسان ليدرك ذاته وفحواها بالنظر الداخلي إلى نفسه فيراها رؤية مباشرة، وهكذا يكون إدراك الحق كيفما كان.
هي نزعة مثالية سادت بعد الموجة التجريبية التي اشتملت التفكير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر؛ نزعة مثالية لم يقتصر أمرها على أمريكا، بل فاضت من ينبوع المثالية الألمانية كما تدفق في فلسفة «كانت» و«شلنج» و«هيجل»، وكان مجرى الفيض ذا شعبتين: فشعبة منهما اندفقت في إنجلترا على يدي شاعرها «كولردج» (1772-1834م)، واندفقت الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية على لسان شاعرها «إمرسن»، وقد يكون أقرب إلى الصواب أن نقول: إن المثالية الألمانية وجدت في الشاعر الإنجليزي «كولردج» مؤيدا ونصيرا، فقرأ الأمريكيون ما كتبه «كولردج» وتأثروا به؛ ومن ثم أخذ تيار الفكر بينهم ينحرف من تجريبية «لوك» التي سادت عصر التنوير والثورة إلى مثالية الألمان بصفة عامة ومثالية «هيجل» بصفة خاصة.
ولم يكن هذا الاتجاه المثالي في فلسفة النصف الأول من القرن التاسع عشر - في أوروبا وفي أمريكا على السواء - إلا جانبا من النزعة الرومانتيكية التي اصطبغ بها الأدب والفكر بصفة عامة إبان تلك الفترة، فلئن كان القرن الثامن عشر عصرا ساده تغليب العقل ومنطقه في العلم وفي الفلسفة وفي الأدب جميعا، حتى لقد أطلقوا عليه بحق اسم عصر «التنوير » وهم يقصدون بالكلمة اعتماد الإنسان على عقله يعلل به كل ما أشكل عليه من جوانب الحياة والطبيعة؛ فقد جاء القرن التاسع عشر في نصفه الأول ردا لفعل حركة التنوير، فكانت الرومانتيكية في الأدب، وكانت المثالية في الفلسفة، وكانت العودة إلى الإيمان في الدين، بل امتزجت هذه الاتجاهات كلها بعضها ببعض، وأصبح مزيجها طابع ذلك العصر.
فالمثالية في الفلسفة إذا نظرت إليها من زاوية الدين، وجدتها سخطا على النتائج التي ترتبت على المبادئ العقلية خلال حركة «التنوير» مما يمس العقائد الدينية، إذ انتهت تلك الحركة إما إلى إنكار صريح لتلك العقائد، كما حدث في فرنسا مثلا، وإما إلى تنكر للعقائد التي تبنى على الخرافة والتصديق، ومحاولة إقامة مجموعة أخرى من العقائد محلها تتفق مع المنطق العقلي، ومع العلم ومع شهادة الحواس، فأراد المثاليون أن يركنوا إلى وسيلة أخرى لإدراك الله والإيمان بوجوده غير وسيلة العقل والحس، فجعلوا الحدس - أي العيان العقلي المباشر - وسيلة الاتصال بين الإنسان وربه، فبهذا الإدراك الحدسي المباشر يجاوز الإنسان حدود الطبيعة المحسوسة وحدود العقل وشروطه، بل يجاوز النصوص التقليدية والكنائس ونظامها، يجاوز كل ذلك إلى الحق الكائن وراءها، أو إن شئت فقل إنه حق كائن فوقها جميعا، فيستطيع الاتصال بالله صلة مباشرة، فيعرفه معرفة اليقين، وبهذا تكون الطبيعة ونظامها من شأن العلم وأداته التي هي العقل والحواس، وأما ما فوق الطبيعة، وهو الحق المطلق من قيود الزمان والمكان، فيكون من شأن الدين، وأداته في الإدراك هي الحدس، وإذا نظرت إلى المثالية في الفلسفة من زاوية السياسة وجدتها كذلك تخدم الديمقراطية في أغراضها، ألم يؤسس قادة الثورة السياسية مذهبهم في حقوق الإنسان على أن هذه الحقوق جزء من طبيعة الإنسان يولد بها ولا يمنحها أحد لأحد؟ ثم ألم يبنوا طبيعية الحقوق الإنسانية على أساس من فلسفة «لوك» في تحليل العقل الإنساني وطريقة إدراكه للأشياء الخارجية كما فصلنا ذلك في الفصل الأول؟ فهكذا يفعل أنصار الفلسفة المثالية أيضا؛ إذ يقولون إن إدراك الله بالحدس المباشر جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان، لا فضل فيه لأحد على أحد، والناس جميعا في هذه القدرة سواء، فيكفي أن يكون الإنسان إنسانا لتكون له القدرة على استخدام حدسه في الإدراك، وإذن فللناس جميعا قيمة إدراكية واحدة متساوية، فهم من الوجهة الروحانية سواء؛ وبالتالي فهم من الوجهة السياسية سواء كذلك.
كذلك إذا نظرت إلى المثالية الفلسفية من وجهة نظر الإصلاح الديني، ألفيتها أداة نافعة، فالمثاليون - كالتجريبيين من قبلهم - متفقون على أن الكنيسة لا بد أن تحطم قيودها الجامدة، أو يحطموا هم قيودها المفروضة عليهم، فيحرروا أنفسهم من الاعتقادية الساذجة؛ لأنه إذا كان الإدراك الحدسي هو مدار المثالية، أي إنه إذا كان في مستطاع الإنسان بحكم طبيعته أن يحدس الله حدوسا مباشرا، فما ضرورة الكنيسة ونظامها ورجالها لسلامة العقيدة؟ إن الصلة بين الإنسان وربه صلة مباشرة قبل كل شيء، وكل ما يحول دون هذه الصلة الإدراكية المباشرة فهو عقبة في سبيل الوصول إلى الحق جديرة بالازدراء والإهمال، والعلم والكنيسة معا يحولان دون الحدس وإدراكه للحقيقة المطلقة، أما العلم فلأنه يقيد الإنسان بقيود المشاهدات الحسية والتجارب العلمية، وما ليس يطرد وقوعه من الظواهر لا قيمة له في رأي العلم، وهذه القيود إنما تعطل إدراك الإنسان بغير موجب، فماذا لو جاوز الإنسان بجناحي إدراكه الحدسي حدود المشاهدات والتجارب واطراد الظواهر؟ وأما الكنيسة فهي الأخرى تضع من أصفاد نظامها ما يستحيل معه التفكير الحر الذي ينفذ إلى الحقيقة فيراها مباشرة كما ترى العين ضوء الشمس، وفي ذلك يقول «ثورو» - الذي سنحدثك عنه بعد قليل: «لا بد أن تخرج من المسيحية لتدرك ما في حياة المسيح من جمال ومغزى.»
لقد أخطأ رجال اللاهوت السابقون - في رأي المثاليين الذين نحن الآن بصدد الحديث عنهم - أخطئوا حين ظنوا أننا ندرك وجود الله من وجود مخلوقاته، فذلك لا يكون إلا اعتمادا على الحواس من جهة، والعقل من جهة أخرى، أما وجود الله في رأي المثاليين فمفارق للطبيعة مجاوز لحدودها، فلسنا بحاجة إلى حس أو عقل، بل نحن بحاجة إلى حدس ندرك به وجود الله في الجوانب الإلهية التي في طبائعنا، إن الإنسان شبيه الله ، فحسبك أن تحدس ذاتك لتدرك فيها وجود شبيهها، وعندئذ يصبح الله موجودا وجودا حقيقيا يقينيا، ولن تكون بعد ذلك بحاجة إلى كتاب أو إلى قسيس يهديك إلى وجوده.
ها هي ذي نزعة دينية تقف موقفا وسطا بين طرفين، فلا هي الاعتقادية الجامدة التي تنبني على اللاهوت القديم، ولا هي إلحاد أو ما يشبه الإلحاد مما قد ترتب على حركة التنوير العقلي، والفلسفة التي يقوم عليها هذا اللون الوسط من التدين هي المثالية الألمانية، وخصوصا مثالية «هيجل» التي تولى نشرها في إنجلترا شاعرها «كولردج»، ثم كان بين ناشريها في الولايات المتحدة شاعرها «إمرسن»، فما هي مثالية «هيجل» في خلاصة قصيرة؟
يبني «هيجل» (1770-1831م) فلسفته على فكرة «المطلق»، ومؤداها أن الأفراد الجزئية التي نراها في الطبيعة المحسوسة من حولنا، إن هي إلا صور تبدت فيها روح كانت في بداية أمرها مطلقة من قيود المكان والزمان، أي إنها لم تكن تعلن عن نفسها في نقطة معينة من المكان ولا في لحظة معينة من الزمان؛ لأنها لا مكانية ولا زمانية، هي روح لم تبدأ في سلسلة الزمن بلحظة معينة، ولن تنتهي في سلسلة الزمن عند لحظة معينة، بل هي أزلية أبدية، ثم أعلنت تلك الروح عن نفسها في الطبيعة وكائناتها إعلانا كان في بداية أمره مقتصرا على درجة دنيا من اللاشعور، ثم صعدت على درجات من التطور حتى عادت فاستيقظت شعورا ووعيا في الإنسان، وستعود الروح المطلقة إلى نفسها من جديد مدركة لنفسها إدراكا كاملا، وإذن فكل شيء في الوجود هو تلك الروح المطلقة، أو ذلك العقل المطلق، قد عبر عن نفسه على هذه الصورة أو تلك، كما يعبر الشاعر - مثلا - عن نفسه في قصائد مختلفة تتفاوت في درجة الكمال، لكنها على تفاوتها تفصح عن نفس قائلها، وكما تنظر إلى كل قصيدة في ديوان الشاعر، فترى خلالها روح الشاعر، فكذلك تستطيع أن تنظر إلى كل كائن في الطبيعة من حولك: إلى هذه الجبال والأنهار والأشجار والحيوان والإنسان، فترى في كل واحد منها ذلك العقل المطلق قد بسط نفسه في كائن جزئي متعين، وهكذا تكون الطبيعة بكل ما فيها عقلا مرئيا مسموعا - إن صح هذا التعبير - ولا سبيل إلى فهم كائن جزئي إلا بنسبته إلى ذلك الكل المطلق الشامل.
وقد تنظر إلى كائن جزئي، كهذه الشجرة أو هذا الطائر أو ذلك الفرد من بني الإنسان، فيخيل إليك أنه كائن قائم بذاته مستقل بنفسه، لكن أمعن النظر قليلا تجده في حقيقة أمره جزءا من كل، وأن هذا الكل هو الكون بأسره، فكيف تدرك هذه الشجرة - مثلا - إدراكا تاما إلا إذا أدركت علاقتها بالأرض التي تنبتها وتغذيها، وبالماء الذي يرويها، وبالشمس التي تنميها؟ ثم كيف تدرك الأرض والماء والشمس، كلا بدوره، إلا إذا أدركت علاقاته بسائر أجزاء المجموعة الشمسية؟ والمجموعة الشمسية بدورها لا يتم العلم بها إلا بعد العلم بما يصلها بسائر الكون من روابط وصلات، إن شأن الكائن الجزئي في هذا الصدد كشأن النظرية الواحدة في سلسلة النظريات الهندسية عند إقليدس، لا تفهم على حدة، بل لا بد لفهمها وإدراكها إدراكا كاملا من إدراك الروابط المنطقية التي تصلها بما قبلها وبما بعدها من نظريات، لا بد أن نعلم كيف جاءت نتيجة لسوابقها، وكيف تكون مقدمة للواحقها، وبهذا يتكون من مجموعة النظريات نسق واحد، لا يمكن فهم جزء من أجزائه إلا في ضوء العلم بسائر الأجزاء، كما أن سائر الأجزاء لا يمكن العلم بها إلا مع صلتها بذلك الجزء الواحد، وهكذا قل في الكون وأجزائه، الذي هو العقل المطلق قد حقق نفسه وأعلن عنها، فالكون بشتى أجزائه نسق متصل، كل جزء من أجزائه مرتبط بسائر الأجزاء، وإن بدا أمام العين منفصلا مستقلا قائما بذاته، هذا الكل المترابط إن هو إلا كائن عضوي واحد، لم توضع أجزاؤه وأعضاؤه وضع التجاور في المكان والتعاقب في الزمان، دون أن يكون بينها فوق ذلك صلة عليا تربطها معا، كلا بل هي كأعضاء الكائن العضوي الحي، متصل بعضها ببعض على نحو يجعل الكائن كله متمثلا في كل عضو من أعضائه، وتجعل كل عضو مستحيل الفهم إلا على ضوء الكل الذي يحتويه.
إن حصر الانتباه في كائن جزئي واحد على أنه وحدة مستقلة بذاتها، قد يوهم الرائي أن الكون ينطوي على أضداد، حين يرى في جنبات الكون من الحقائق الجزئية ما يعاند بعضها بعضا، لكن هذه الأضداد سرعان ما يتبين لنا أنها في حقيقة الأمر أجزاء من كل متناسق، إذا ما علونا بالنظر إليها بحيث رأينا كل ضد منها - لا هو جزئي مستقل قائم وحده - بل رأيناه في صلاته بغيره، فعندئذ يتبين في جلاء أن كل جزء موجود من أجل الكل وبسببه، ولكن على الرغم من أن الأجزاء كلها ضرورية لا بد من وجودها، فإنها تقف إزاء بعضها موقف التفاوت ضعة ورفعة في سلم التطور والترقي، المراتب السفلى منها تنتقل إلى العليا، ولكنها لا تنمحي من الوجود في عملية الانتقال، وكل ما يحدث لها هو التحول من صورة سفلى إلى صورة عليا، «إن كم الزهرة يختفي إذا ما تفتحت الزهرة، فيخيل إليك أن بين الكم والزهرة تضادا، ثم تجيء الثمرة بعدئذ، فتعلن بوجودها أن الزهرة صورة دنيا من صور وجود النبات، وهكذا تنتقل حقيقة كل واحدة منها إلى حقيقة الأخرى، وليست هذه الصور متميزا بعضها عن بعض فحسب، بل إن الواحدة منها لتسحق الأخرى باعتبارها مضادة لها، ولكن طبيعتها التي تسري فيها كلها تكون منها دقائق من الوحدة العضوية التي تتآخى فيها، فلا تعارض إحداها الأخرى، بل إن الأمر بينها لا يقف عند حد عدم التعارض، ولكن كلا منها يكون لوجوده من الضرورة ما للأخرى تماما، ومن هذه المساواة بين الأجزاء في ضرورة وجودها تتألف حياة الكل الذي يحتويها جميعا.»
هكذا يعرض العقل المطلق نفسه في الطبيعة على مراحل متعاقبة يرتبط بعضها ببعض بنفس الروابط التي تصل أجزاء الفكر بعضها ببعض، ومن هنا كان منطق العقل هو نفسه منطق الطبيعة، أو - بعبارة أخرى - كان الفكر من جهة، والحقيقة الخارجية من جهة أخرى كائنا واحدا، الثانية منهما تعبير عن الأولى، والأولى منهما متحققة في الثانية ، إن الوحدة التي تربط الفكر من جهة والطبيعة من جهة أخرى ليست هي مجرد الصلة بين طرفين، بل هي وحدة أعلى من الطرفين معا؛ إذ لا ينبغي أن تعد الطبيعة وجودا آخر إلى جانب العقل الذي يدركها؛ لأن الطبيعة هي جزء من حياة العقل نفسه.
على ضوء هذه الفلسفة المثالية الهيجلية تستطيع أن تفهم «إمرسن» في شتى نواحيه، تستطيع أن تفهمه حين يتخذ من الحدس وحده وسيلة الإدراك الحقيقي، إذ كيف تدرك العقل المطلق المتحقق في الطبيعة إذا قصرت نفسك على حواسك ومشاهداتها، أو على عقلك وحجاجه، وتستطيع أن تفهمه حين يقرر أن الفرد الواحد من بني الإنسان ليس في الحقيقة فردا منفصلا بذاته، بل هو «العضو المنتدب» من قبل الروح المطلق الذي نحن جميعا ممثلوه، فالزارع - مثلا - ليس زارعا لنفسه فحسب، بل هو زارع «بالنيابة» عن الحقيقة الكلية التي نحن أعضاؤها، ونستطيع أن نفهمه حين يتنكر لعلم الطبيعة في طريقة فهمه للطبيعة؛ لأنه يقف عند الجزئيات الظاهرة، مع أن الطبيعة في حقيقتها تعبير واحد متصل الأجزاء عن عقل مطلق يعبر عن نفسه فيها، وسبيل معرفة ذلك هو حدس المتصوف لا منظار العالم، وتستطيع أن تفهمه حين يجعل الفكر والطبيعة خطين متوازيين، فلا واقعة أو حادثة من وقائع الطبيعة وحوادثها إلا ولها أصل يصورها في الفكر.
بعد أن أتم «إمرسن» دراسته الدينية في جامعة «هارفارد» عام 1829م، عين واعظا في الكنيسة التي كان أبوه راعيا لها - فهو سليل أسرة عريقة من رجال الدين - لكنه سرعان ما تبين هوة سحيقة تفصل بينه وبين سامعيه، كان قد قرأ المثالية الهيجلية كما نقلها «كولردج» شاعر الإنجليز عندئذ، فتأثر بما قرأ، وأخلص لفكرته التي انتهى إليها، فبعدت مسافة الخلف بينه وبين من يختلفون إلى الكنيسة ليسمعهم الموعظة، فلم يجد بدا من الاستقالة؛ إذ استحال عليه أن يوفق بين واجب مهنته وإملاء ضميره، فسافر إلى أوروبا لعله مسترد بهذه الرحلة عافية لجسده العليل، وصحة لروحه التي أحس كأنما هي ريشة في مهب العواصف، فقصد - فيما قصد إليه من ربوع أوروبا - إلى إنجلترا حيث التقى بأبطاله في الفكر والروح؛ «كولردج» و«وردزورث» و«كارلايل»، ثم عاد إلى وطنه الأمريكي بعد عام وهو معافى البدن، مستقر الروح على هدف لم يعد يحيد عنه، وكانت الفكرة الرئيسية التي كشف عنها الغطاء في نفسه - كشف عنها كشفا مستقلا عن كل قراءة قرأها أو رأي استمع إليه - هي أن في مقدور الإنسان أن يرى الله في أعماق قلبه، وأنه إذا أنصت الإنسان إلى ضميره بأذن مصغية واعية سمع صوت الله في دخيلة نفسه، فإن كان ذلك كذلك فقد أصبح واجبه أن يهدي الناس إلى ما اهتدى إليه.
ولم يكد يستقر به المقام عاما بعد عودته من أوروبا إلى بلاده، حتى أخرج سنة 1836م كتابا صغيرا أسماه «الطبيعة» عبر فيه عن هذا الكشف الروحي، ونشر من كتابه هذا خمسمائة نسخة غفلا من اسم المؤلف، لكن الكتاب لم يصادف عند القارئين رواجا، رغم اللقاء الجميل الذي تقبله به «كارلايل».
وفي العام التالي - عام 1837م - ألقى خطابه المشهور في هارفارد، بعنوان «العالم الأمريكي» الذي توجه بالكلام فيه إلى قادة الفكر في بلاده، ثم في العام الذي تلاه - عام 1838م - ألقى خطابه العظيم «إلى المتخرجين في كلية اللاهوت» قصد به إلى القائمين بالوعظ الديني، ويمكن القول بصفة عامة إن حياته الفكرية بعد ذلك جاءت تعليقات وشروحا وتفريعات لما ورد في هذه الأعمال الثلاثة: كتاب الطبيعة، والخطابين المذكورين.
والفكرة الرئيسية الأولى هي - كما أسلفا - أن الحدس - الاتصال الروحاني المباشر - وسيلة إدراك الحقيقة المطلقة التي تعلن عن نفسها في الطبيعة وكائناتها، كل حالة من حالات الإدراك الحدسي قائمة بذاتها، تستمد صوابها من نفسها، لا تعتمد على مقدمات تسبقها أو نتائج تلزم عنها، الإدراك الحدسي صوابه يقيني حتى إذا ناقض ما سبقه وما تلاه، فمثلا عندما هجم في خطابه «إلى المتخرجين في كلية اللاهوت» على المسيحية كما تظهر في الشعائر الكنسية والتقاليد الدينية، طالبه رجال الدين عندئذ بالحجة التي تؤيده، فقال: لا حجة عندي، بل لست أعرف كيف يمكن أن تتأيد الفكرة بالحجة، فهكذا أرى الحق بحدسي، ومع ذلك فليس ما يراه الفرد الواحد في دخيلة نفسه بحدسه بمقتصر - من حيث صدقه - على ذلك الفرد وحده، بل إن ما يهتدي به الفرد الواحد من نظره إلى دخيلة نفسه صالح كذلك لهداية سائر أفراد البشر، «إن الله يدخل إلى كل فرد من باب خاص.»
19 «والتفكير كالوحي يهبط على الرجل التقي.»
20
فقد يقول الإنسان لنفسه وهو يفكر في فكرة تراوغه وتفلت منه: «سوف أمشي خارج بيتي وعندئذ ستتخذ الحقيقة صورتها وتتضح، ثم تنطلق، ولكنك لا تعثر عليها، ثم يبدو لك أنك بحاجة إلى السكون والجلسة الهادئة في المكتبة لتظفر بالفكرة، ولكنك تدخلها، فإذا هي بعيدة عنك كما كانت، ثم ما هي إلا أن تظهر لك الحقيقة في لحظة وعلى غير انتظار، إذ يظهر لك ضوء شارد، وفي وضحه يظهر لك المبدأ الذي تنشده.»
21
وإذا ما أدرك الفرد الواحد صوابا، كان ذلك الصواب صوابا عند كل إنسان آخر «فطبيعة كل فرد هي إعلان كاف له عن خصائص زملائه، الصواب والخطأ عندي هما الصواب والخطأ عندهم.»
22
الفرد الواحد ممثل للبشرية كلها لو أخلص حدس نفسه والتعبير عنها، فليس التمثيل النيابي في عالم السياسة - ذلك التمثيل الذي يعتمد على عد الأصوات - بشيء يذكر إلى جانب التمثيل الروحاني الذي يجعل فردا بعينه لسانا ناطقا معبرا عن زملائه في الإنسانية، مع أن هذا النائب الروحاني الناطق المعبر عن البشرية كلها يختار نفسه ولا يختاره أحد، وحسبه للظفر بهذا الشرف أن يحسن النظر إلى طبيعة ذاته، وأن يحسن الإنصات إلى صوت ضميره؛ لأن ذلك الصوت إن هو إلا صوت الله في صدره وفؤاده، إن المتأمل في نفسه، الصادق في التعبير عنها، إنما يجاوز حدود نفسه إلى حيث الوجود في قلبه وصميمه، يجاوزها إلى حيث الله «إن المتحمسين للدين ليتفقون في نهاية الأمر مع أبرد المتشككين نفسا على أننا (في الخلق الفني والإبداع الفكري) لا نأتي بشيء من عندنا، ومن نتاج عملنا، إنما كل شيء من الله ... كل كتابة تهبط علينا بفضل من الله، وكذلك كل عمل وكل ما نملك.»
23
ألا ما أكثر أن يريد الفرد شيئا، فإذا هو منتج لشيء آخر «إن نتائج الحياة لم تحسب ولا يمكن حسابها، والأشخاص الذين تتألف منهم صحبتنا، يتحدثون ويجيئون ويذهبون، ويصممون وينفذون الكثير، وينجم عن كل هذا أي شيء إلا ما نتوقع من نتائج.»
24
يخطئ الفرد دائما إذا ما ظن أنه قد حسب لكل شيء حسابه، فهنالك عقل كلي، ما عقول الأفراد إلا أجزاء منه، كل واحد منا تجسيد لذلك العقل الكلي؛ فهو يستطيع أن يتصل بذلك الكل اتصالا مباشرا ليستوحيه الحق، فإن فعل كان بذلك ممثلا لسائر الأفراد؛ لأنه عندئذ إنما يحيا حياة العقل الكلي لا حياة عقله الفردي باعتباره فردا مستقلا «إنني حين أقف على الأرض العارية ورأسي مغموس في الهواء الطاهر مشرئبا إلى اللانهائي، تزول عني فرديتي الوضيعة، وأصبح كإنسان العين شفافا، أصبح (بذاتي) لا شيء، لكني عندئذ أشهد الحقيقة الكلية، وتدور في نفسي تيارات الوجود الكلي.»
25
يريد «إمرسن» للإنسان أن يدرس الطبيعة، لكن أي طبيعة يعني؟ ليست هي الطبيعة التي قصد إلى دراستها «نيوتن»، الطبيعة الثابتة في اطراد ظواهرها، والتي تسير في مجراها بغض النظر عن الإنسان، بل الطبيعة التي يطويها الإنسان تحت سلطان شعوره الذاتي، هي طبيعة الشاعر لا طبيعة العالم، هي الطبيعة بعد أن نضفي عليها أنفسنا وحياتنا وفكرنا ومشاعرنا، هي الطبيعة التي نجدها مفرقة موزعة مجزأة فننسقها كونا واحدا، بحيث نرى العلاقة بين الشمس الطالعة وزقزقة العصفور، هي الطبيعة كما تلتقي فيها خيوط الإنسان الروحية، فتكون ملكا له لا تلك التي يخضع لها الإنسان، ويكون ملكا لها، لو نظر الإنسان إلى الطبيعة هذه النظرة التي تجعلها جزءا منه، أو إن شئت فقل تجعله جزءا منها، فعندئذ يزول شعور الإنسان بانفصاله عنها، ولا تصبح ثنائية بين الذات من جهة والموضوع من جهة أخرى، بل تصبح الذات العارفة والموضوع المعروف شيئا واحدا متصل الوجهين، عندئذ يشعر الإنسان شعورا حيا بما بينه وبين الطبيعة من وشائج القربى، إن الطبيعة لا تبوح بسرها لمن يتناولها كما يتناول الجثة الميتة يشرحها بمبضعه، بل تبوح بسرها الدفين لمن يقبل عليها إقبال العاشق، إقبال من يريد أن ينمحي في أحضانها، فلئن كان العالم يبحث في الطبيعة عن وجهها الموضوعي الثابت الذي لا يتغير على مر الزمان، فالشاعر ينشد فيها وجوهها المتغيرة أبدا المتجددة أبدا، فهذه الطبيعة الحية الدفاقة هي وحدها التي تعكس للإنسان حالاته في حالاتها، تعبس لعبوسه وتفرح لفرحه.
وما كل إنسان بقادر على أن يصعد في إدراكه للطبيعة إلى هذه القمة إلا بعد تدريب وتهذيب، فهنالك - على وجه الإجمال - درجات أربع في علاقتنا بالطبيعة، تتفاوت فيما بينها انخفاضا وارتفاعا، وكلما ازداد الإنسان روحانية في علاقته بالطبيعة صعد في تلك الدرجات الأربع درجة بعد درجة، وأولى تلك الدرجات وأدناها هي علاقة المنفعة، فمن الطبيعة نأكل ونرتوي ونصنع الثياب والمنازل، وحتى في هذه الدرجة الدنيا تستطيع أن ترى أنه بغير الحب الإلهي يكون محالا على الطبيعة أن تنفع وعلى الإنسان أن ينتفع؛ ذلك لأن المنفعة لا تتم في كل حالة من حالاتها إلا بسلسلة طويلة من تعاون الأجزاء واتساق الظواهر الطبيعية، بحيث تنتهي إلى النتيجة المطلوبة لنفع الإنسان، فلا الشمس وحدها ولا الريح ولا المطر ولا النبات ولا الحيوان وحده ينفع الإنسان، بل لا بد من اجتماع هذه العناصر كلها متعاونة متناصرة متآخية «فالريح تبذر الحب، والشمس تبخر ماء البحر، والريح تدفع البخار إلى الزرع، والمطر يروي النبات، والنبات يطعم الحيوان.»
26
وكل ذلك ضروري لغذاء الإنسان.
وتأتي بعد درجة الانتفاع المادي درجة أعلى، هي أن أدرك ما في الطبيعة من جمال، إنك قد تنظر إلى الثمرة نظرتك إلى الغذاء، لكنك كذلك قد تنظر إليها نظرتك إلى الشيء الجميل قد سواه الله وصوره، فأكمل التسوية والتصوير، ها هنا في هذه المرحلة تزداد فاعليتك الخالقة؛ إذ تضفي على الطبيعة من نفسك كمالا من كمالها، وجمالا من جمالها ، وفي هذه المرحلة أخلاق وفيها تفكير، أما الأخلاق ففي اتساق النغم بينك وبين مشاهد الطبيعة؛ إذ ستكون العلاقة بينك وبينها أقرب شيء إلى العلاقة بين العازف والآلة التي يعزف عليها، وهل الفضيلة إلا الجمال؟ كلاهما في الاتساق والتناغم، الفعل الفاضل هو الذي يلتزم الحدود المعقولة، وكذلك الشيء الجميل، وأما التفكير فهو في إعمال الإنسان فكره في هذا الجمال الذي يشهده، الجمال والفضيلة والفكر كلها جوانب متصل بعضها ببعض، الحق والجمال والخير ثلاثة خيوط من نسيج واحد، فبالحق ندرك ما ندركه، وبالجمال نقدره ونعشقه، وبالخير نفعل الصواب الذي يمليه إدراكنا للحق، وإحساسنا بحبه، وهذه النواحي الثلاث كلها متضمنة في إدراكنا للطبيعة من الوجهة الجمالية؛ لأن إدراك الجمال وحده كاف لخلق الفضيلة والكشف عن الحق.
والدرجة الثالثة في علاقة الإنسان بالطبيعة هي إدراكه لما بين وقائعها وحوادثها من جهة، وفكره من جهة أخرى من تواز، فكل ما يجري في الطبيعة له صورته في فكر الإنسان؛ إذ بين الأفكار والأشياء تطابق تام كامل، بحيث يستحيل أن يكون هنالك فكرة بغير مدلولها في الطبيعة، أو أن يكون في الطبيعة شيء دون أن تقابله حالة من حالات الفكر والروح، والعقل - أو الروح - بصفة عامة تقابله الطبيعة بصفة عامة، وإذن فهناك التقابل بين الكل الروحي والكل الطبيعي، كما أن هنالك التقابل بين كل حالة هنا وحالة هناك، ولما كان تسلسل الحالات العقلية هو نفسه تسلسل ظواهر الطبيعة، كان منطق الفكر هو نفسه منطق الأشياء، لا فرق بين ما يحدث في العقل، وما يحدث في الطبيعة الخارجية «قانون الأشياء هو كذلك قانون العقل البشري، يكتشف الفلكي أن الهندسة - وهي تجريد مطلق للعقل البشري - هي قياس حركة الكواكب، ويكتشف الكيميائي النسب والقواعد المعقولة في المادة كلها، وليس العلم سوى كشف التشابه، والتطابق الذي يكون بين الأجزاء التي تبدو متباينة متباعدة، وهكذا يلمح الصبي الدارس، وهو تحت قبة النهار المستديرة أنه هو والطبيعة قد نشآ من جذر واحد، أحدهما ورقة والآخر زهرة، سوف يرى أن الطبيعة تجابه الروح، وتجيبها جزءا بجزء، أحدهما خاتم والثاني مختوم، جمالها جمال عقله، عندئذ تصبح الطبيعة لديه هي مقدار ما يحصله ، وبمقدار ما يجهل من الطبيعة يكون القدر الذي لا يملكه من عقله، وفي عبارة موجزة يصبح المبدأ القديم: «اعرف نفسك» والمبدأ الجديد: «ادرس الطبيعة» في النهاية مبدأ واحدا.»
27
وآخر الدرجات الأربع التي يتدرج فيها الإنسان مع ارتقائه في علاقته بالطبيعة، هي درجة الرياضة الروحية التي يرتاضها الإنسان عندما يتعلم من الطبيعة كيف تتسق الأجزاء في كل واحد متزن متجاوب موصول الأطراف، عندما يتعلم أن الطبيعة على اختلاف كائناتها، وتنوع مخلوقاتها إن هي إلا وحدة واحدة تستهدف غاية وتسير نحوها، ألا إن بين كائنات الكون من أوجه الشبه ما يزيد كثيرا على ما بينها من أوجه الاختلاف، إن كل شيء في جنبات الطبيعة، من الحيوان الأدنى إلى الإنسان الأعلى، صارخ بقوانين الصواب والخطأ، في الطبيعة وحدة وثيقة العرى، حتى ليستحيل أن تكون بغير روح كلي واحد منبث فيها، تراه في الفكر ومنطقه كما تراه في الأشياء وتسلسلها سواء بسواء. (2) «هنري ديفد ثورو»
28
والفردية المتطرفة
كثيرا ما تبدأ الدعوة إلى مذهب فكري معين دون أن تكون مكنونات هذا المذهب قد ظهرت كلها ظهورا واضحا عند الدعوة الأولى، فيجيء الأتباع بعدئذ واحدا بعد واحد ليستخرجوا إلى وضح النهار ما كان خبيئا كامنا، ويدفعوا بمبادئ المذهب خطوة بعد خطوة إلى آخر نتائجها المنطقية، فإذا هذه النتائج تبدو غريبة حتى على أصحاب المذهب الأولين أنفسهم؛ لأنهم حين أخذوا يدعون إلى مذهبهم هذا، لم يكونوا قد تبينوا دفعة واحدة كل ما تنطوي عليه مبادئه.
فها هم أولاء بناة الدستور الأمريكي ومعلنو استقلالها قد اعتمدوا على أساس من فلسفة «لوك» (انظر الفصل الأول) فقرروا أن للإنسان حقوقا طبيعية، يتمتع بها بحكم فطرته، وهبها له الله ولم يهبها سلطان حاكم؛ ولذلك فهي ملكه الذي لا يشاركه فيه إنسان، ومن تلك الحقوق الطبيعية الفطرية - كما ورد في وثيقة «إعلان الاستقلال» - حق الحياة وحق التماس السعادة، فإن كان الأفراد قد تنازلوا عن بعض حقوقهم هذه للدولة، لقاء ما تتعهد به الدولة من صيانة الحقوق التي احتفظوا بها لأنفسهم ولم يتنازلوا عنها فيما تنازلوا، فما ذلك إلا بموافقتهم ورضاهم، هم الذين أقاموا الدولة باختيارهم، وهم الذين يزيلونها إذا ما قصرت في أداء واجبها الذي تعهدت لهم بأدائه، وقد كانت الحقوق التي تنازل الأفراد عن بعضها مما يمكن التنازل عنه، لكن هنالك جانبا من الإنسان خاصا به، سيظل ملكا له، يستحيل أن يشمله التنازل، وهو جانب الروح، أو العقل، فليس للدولة كائنة ما كانت، بل ليس للكنيسة ذاتها، أن تحاسب الإنسان على حياته الروحية وإدراكه العقلي.
فجاء بعد ذلك «إمرسن» مع زملاء له يتفقون معه في وجهة النظر، وإن لم يكن لهم ما له من قوة التعبير، جاء بعد ذلك «إمرسن» وزملاؤه المثاليون، فانتزعوا من هذا المبدأ إحدى نتائجه التي تلزم عنه، وهي أن يكون للفرد - إلى جانب استقلاله السياسي - استقلال فكري، فلا ينبغي لفرد أن يعتمد على فكر فرد آخر، وواجب الإنسان يقتضيه أن ينظر في ثنايا ضميره ليدرك إدراكا حدسيا مباشرا ما عسى أن يوحي إليه به ذلك الضمير، فيكون هو الحق، ولا يبطل هذا الحق حق آخر يدركه الفرد نفسه في لحظة أخرى، ولما كان الفرد الواحد ممثلا للروح الكلية الشاملة؛ فهو فيما ينطق به عن صدق وسلامة حدس، إنما يفصح عن حقيقة تلك الروح الكلية من جهة؛ وبالتالي فهو يعبر عما هو حق بالنسبة لسائر أفراد البشر من جهة أخرى، وبهذا يصبح ما هو حق لفرد حقا لكل فرد آخر، وإن جاء إدراكه عن طريق فرد واحد.
فخرج من هذه الجماعة المثالية أحد أعضائها هو «هنري ديفد ثورو» ودفع بهذه المبادئ إلى نتائجها المنطقية، فإذا كان الفرد قد اتفق مع زملائه على قيام الدولة، فمن حقه باعتباره فردا أن ينسلخ وحده عن سائر الجماعة إذا أراد، فلا يخضع للدولة إذا لم تصادف عنده هوى، الفرد على هذه الأرض مملكة وحده، هو بذاته وبمفرده سلطة لها سيادتها، والمثل الأعلى هو ألا يقوم بين الأفراد حكومة، فإن قامت، فلا بد أن تنحصر واجباتها في أقل حد ممكن من التدخل في حياة الأفراد.
ولد «ثورو» عام 1817م في كونكورد من ولاية ماساتشوستس في إنجلترا الجديدة - وهي الجزء الشمالي الشرقي من الولايات المتحدة - وهي نفسها موطن «إمرسن»، وقد تميز ثورو منذ باكورة حياته بحب للطبيعة عميق، واشتغل بالتدريس بعد تخرجه في جامعة هارفارد، ثم اشتغل مساحا للأرض، ولم تكن واجبات عمله هذا تقتضي منه جهدا يستنفد طاقته، فاستطاع أن يجد الفراغ للمحاضرة والتأليف، ولما أن نضجت في رأسه فكرة الفردية المستقلة المتطرفة، أراد أن يعيش في فكرته فلا يكتفي منها بمجرد القول والشرح، فانتبذ في غابات وولدن
29
مكانا قصيا، وأقام لنفسه كوخا صغيرا، حيث عاش وحيدا في عزلة تامة مدى عامين كاملين، يقرأ ويكتب قراءة وكتابة ملأتا كثيرا من وقته، وقد دعاه العيش المنعزل في حضن الطبيعة التي أحبها، أن ينصرف بملاحظته إلى الحيوان بكافة صنوفه، حتى عرف عنه الشيء الكثير، ووضع علمه ذاك في كتابه «وولدن، أو الحياة في الغابات»،
30
ومات عام 1862م وهو في الخامسة والأربعين من عمره.
نقول: إن «ثورو» قد دفع فكرة استقلال الفرد إلى أقصاها، فقرر أن يكون للفرد حق الخروج على الدولة في رسالة له عنوانها «مقالة عن العصيان المدني»،
31
أخرجها بعد أن شهد أمته تنحرف عن العدالة والحق كما رآهما، وذلك في حرب المكسيك، وفي مسألة العبيد، وفي معاملة الهنود الحمر سكان البلاد الأصليين، فرفض أن يدفع الضريبة للحكومة، ليعلن احتجاجه بصورة عملية، وسجن من أجل ذلك، فتقدم نفر من أصدقائه ودفعوا عنه الضريبة، فأخلي سبيله، لكن بقيت المشكلة النظرية قائمة، وهي: هل للفرد حق الامتناع عن دفع ضرائبه للحكومة إذا وجدها قد انحرفت عن الحق والعدالة؟ في رأي «ثورو» أن للفرد هذا الحق؛ لأنه منطو تحت سلطان الدولة باختياره، وعلى شروط معينة، وباختياره يستطيع الانسلاخ عنها والخروج عليها إذا أخلت بشروط التعاقد، بل إن «ثورو» ليرى ذلك واجبا على كل فرد يعتز بفرديته ويعتد بروحه وعقله، ومن طريف ما يروى في هذا الصدد أن «إمرسن» زاره وهو في سجنه لامتناعه عن دفع الضريبة، فسأله خلال القضبان قائلا: «هنري! ماذا تصنع هناك داخل القضبان؟» فأجابه «ثورو» بمثل سؤاله قائلا: «والدو! ماذا تصنع أنت خارج القضبان؟» وهو يعني بهذا أن «إمرسن» بل وكل فرد آخر ممن يؤمنون بحقوق الإنسان الطبيعية في حريته الفردية، لا يجوز له أن يستسلم لدولة تجنح عن طريق الصواب كما يمليه الضمير الحر، وإن أدى به عصيانه إلى السجن، وكتب يقول: إن الحياة الطليقة في ظل حكومة ظالمة هي السجن بعينه لمن ينشد في الحياة عدلا.
كانت الولايات المتحدة عندئذ لا تأخذ بما تأخذ به البلاد الأوروبية من ضرورة قيام جيش عامل، على أساس أن مثل هذا الجيش لا تدعو إليه ضرورة وقيامه يقتضي نفقات كثيرة بغير موجب، فقال «ثورو»: إن الاعتراض على قيام جيش في البلاد يمكن توجيهه كذلك إلى قيام حكومة فيها. ثم استطرد يقول: إن الحكومة الأمريكية أفضل بعض الشيء من حكومات العالم الأخرى؛ لأنها أقل من هذه الحكومات تقييدا للناس، ومع ذلك فقد كان كل ما فعلته في سبيل التقدم سلبيا لا إيجابيا؛ إذ كانت حسنتها الوحيدة أنها لم تقم حائلا دون التقدم، أما ما قامت به البلاد الأمريكية من أعمال إنشائية فكله قد تم على أيدي أفراد الشعب، ولا فضل الحكومة فيه، وقد كان يمكن لهذا الشعب أن يزداد إنشاء ويسرع تقدما لولا أن الحكومة كانت تتدخل في سبيله حينا بعد حين.
يقول «ثورو»:
32 «إنني لأرحب بكل قلبي بهذا الشعار: «أفضل الحكومات حكومة تحكم في أضيق دائرة ممكنة.» ولكني أدفع هذا القول إلى نتيجته، فأراه كأنما يصبح: أفضل الحكومات حكومة لا تحكم قط، فستكون هذه حكومة الناس في المستقبل، حين يعدون أنفسهم لها.
ولن تقوم دولة حرة مستنيرة بالمعنى الصحيح إلا إذا اعترفت الدولة بأن الفرد قوة عليا مستقلة في ذاتها تستمد منه كل ما لها من قوة وسلطان.
إن القول بأن الفرد خلق ليعيش في مجتمع أكذوبة كبرى، والعكس هو الأدنى إلى الصواب؛ فقد خلق المجتمع من أجل الفرد.
ويريد الناس أن يحتفظوا بما يسمونه سلامة المجتمع بأعمال العنف كل يوم، فانظر إلى الشرطة، وما تحمل من عصي، وما تعده للناس من أغلال! انظر إلى السجون والمقاصل! إننا نعطي الحكم للأغلبية لا لأنها أحكم، بل لأنها أقوى ... وإني لأرى كثيرا من الناس - إن لم أقل معظمهم - ضربا من الجثث المحنطة، لقد غادرتهم الحياة، ولكني مع ذلك لا أرى أجسادهم تتآكل وتنقضي وتتحلل، إنهم لا يزالون يحتفظون بصورة الأحياء، ولست أدري أين الملح الذي ينجيهم من الفساد، ويمنع عنهم الدود! إن من الأجساد ما يسلم من الفساد بعد الموت والدفن، فإن نبشت قبورهم بعد أعوام ألفيت أجسادهم طرية كأنها ماتت بالأمس، وهكذا بعض من أرى من الناس، فلقد انطفأ فيهم سراج الحياة منذ بعيد، ولكنهم لا يزالون يلبسون ما يشبه ملامح الأحياء.
إني لأحسب أن هذا الشعب يطلب من الرجال أوساطهم إنه يطلب من الآراء والأخلاق مألوفها، إنه لا يريد الأصالة والامتياز الواضح، فلن تصادف في نفسه الرضا إلا إذا كنت شبيها بعامته.»
ويقول في عدالة القانون ما يأتي:
33 «أليس من الجائز أن يصيب الفرد وتخطئ الحكومة؟ هل يجب أن نفرض القوانين على الناس فرضا، لا لشيء إلا لأنها صيغت على هذا النحو، ولأن نفرا من الناس قد أقر صوابها، وهي ليست بالصواب؟ هل ثمة ما يحتم على الفرد أن يكون أداة تنفذ عملا لا يوافق عليه؟ أيريد هؤلاء المشرعون أن يقضوا على الصالحين من الرجال؟ ... اسمعي أيتها الحكومات! إنك حين ألقيت القبض على أفذاذ الثائرين وجززت رءوسهم فلم تفعلي بذلك شيئا سوى أن ارتكبت جرما شنيعا، وأما رأس الشر فلم يصبه الأذى.
لا ينبغي أن تعلموا الناشئة احترام القانون بقدر ما يجب أن تعلموهم احترام الحق ... إن النتيجة الطبيعية لاحترام القانون بغير ما موجب هي أن ترى هذه الصفوف من الضباط والجنود تسير في نظام عجيب فوق السهل والجبل إلى حومات القتال رغم إرادتهم، نعم ورغم إدراكهم الفطري السليم ، ورغم ما تمليه عليهم الضمائر، وذلك يجعل سيرهم هذا شاقا عسيرا أشد ما يكون العسر والشقاء، إنه سير تلهث منه القلوب.»
هكذا كان يكتب «ثورو» فتجيء كتابته قبسات من قلبه الحساس، ومدار تفكيره - كما ترى - هو أن للفرد حق الثورة على الدولة، وله أن يمارس هذا الحق حيثما وقع من الدولة ما ينفر منه ضميره، إن حق الثورة لم يزل بزوال الثورة الاستقلالية التي قام بها الأمريكيون جماعة في القرن الثامن عشر، إنه حق يظل قائما أبدا، والعجيب أن «ثورو» في ثورته الفردية هذه على الدولة التي قال عنها إنها أجحفت وضلت السبيل، لم يكن صادرا عن أذى لحق بشخصه أو ظلم أحاق بصالح من صوالحه، إنما كانت ثورته لما لحق غيره من صنوف الإجحاف، كانت ثورته في سبيل غيره، كالزنوج العبيد، وكالهنود سكان البلاد الأصليين، وإذن فالأذى قد أحسه هو في لذع ضميره، كأنما هو لا يقصر واجب مقاومة الفرد لحكومته على الأمور التي تمس مصالح ذلك الفرد مسا مباشرا، بل يوسع من مداه، ويجعل المقاومة واجبة حيثما وقع من الحكومة طغيان، بغض النظر عمن نال منه ذلك الطغيان، وربما كانت المقاومة أوجب إذا ما نزل الطغيان ببلد أجنبي وقوم غرباء.
ليس حق الفرد في الثورة على حكومته بقاصر على المقاومة الإيجابية، بل هو كذلك في المقاومة السلبية، في رفض الولاء للحكومة، فإذا حفزك ضميرك إلى الخروج على طاعة حكومتك، فلا يتحتم عليك أن تنتظر حتى يوافقك جيرانك على موقفك لتتكون منكم أغلبية تستطيع بقوتها أن تسقط الحكومة، بل عليك بالبدء بنفسك، ففيم انتظارك من يؤيدونك من الناس إذا كان الله - متمثلا في صوت ضميرك - إلى جانبك يؤيدك؟ هذا إلى أنه إذا كان الصواب في جانبك، فصواب واحد هو الأغلبية بالقياس إلى الكثرة المخطئة، لا عجب أن تصبح رسالة «ثورو» في العصيان المدني من الكتب الرئيسية التي أعجب بها المهاتما غاندي حين أعلن مثل هذا العصيان في الهند على حكومة المستعمر.
إن تطور التاريخ السياسي ليشهد في جلاء على أن الفرد يزداد وزنا وأهمية، فمن الملكية المطلقة المستبدة التي تغرق الأفراد في طغيانها إغراقا، تقدمت المدنية نحو ملكية مقيدة بإرادة الأفراد، ثم إلى ديمقراطية جمهورية كالتي كانت قائمة في الولايات المتحدة عندما كتب «ثورو»، لكن هذه الخطوة الأخيرة - على تقدمها في نظام الحكم والاعتراف بقيمة الفرد - لم تكن تشبع «ثورو» ولا تحقق له مثله الأعلى، إنما المثل الأعلى هو الذي يجعل كل فرد سيادة مستقلة، في مستطاعه أن ينشق عليها فلا يتدخل في أمورها، ولا هي تحرجه وتضيق عليه حر المسالك، وكلما ازداد عدد هؤلاء الأفراد الذين يستقلون عن الحكومة، ويحسنون التصرف نحو جيرانهم من تلقاء أنفسهم وبغير إلزام من القانون يزداد الطريق تمهيدا نحو تحقيق المثل الأعلى الذي هو زوال الحكومة زوالا تاما.
وفيم حاجة الفرد إلى دولة ترعاه؟ ماذا عساها أن تعطيه مما ليس عنده؟ أليس أعز ما يملك الإنسان هو روحه؟ ثم أليس الروح ملكا خاصا لا تضيف إليه الدولة شيئا، ولا تستطيع أن تنتقص منه شيئا؟ الروح المستقل بذاته لا يخشى على نفسه خطرا؛ وبالتالي فهو لا يحس الحاجة إلى دولة تقيه الخطر، إن مثل هذه الحرية الروحية تنبع من النفس، ولا تأتي من الخارج، إنها صناعة الفرد نفسه وليست هي بما يحتاج إلى جماعة ليتم تكوينها، إن كانت حاجتي إلى الدولة هي أن تيسر لي العمل والتجارة، فتلك حسنة لا أبيع حريتي واستقلالي في سبيلها، إن من يطيع الدولة الظالمة من أجل حسناتها المادية عبد رقيق يبيع روحه بمال وسلعة، أمن الحكمة أن أنتظر المشرعين في دور الحكومة في العاصمة أن يسنوا لي شريعة حياتي وحريتي مع أنهم هم العبيد الذين اشتروا الضلال بالهدى إذا اشتروا المناصب والمراكز بالأنفس والأرواح؟ كلا، فأنا المشرع لنفسي، ولا مشرع لها سواي.
وكسائر المتصوفة في شتى العصور، وفي مختلف الشعوب نبذ «ثورو» بصوفيته زخرف الدنيا وزينتها، فلا المال يغنيه ولا الجاه يغريه، وحسبه من الحياة روح فذ فريد يتصل بنفسه وبربه، وللحريصين على الذهب والفضة أن يذلوا أعناقهم لواهب الذهب والفضة، ثم كسائر المتصوفة في شتى العصور، وفي مختلف الشعوب، لم يكفه أن يتجرد من حاجات الدنيا العابرة ليلوذ بنفسه وينجو، بل أراد بعد ذلك، وفوق ذلك أن يتجرد من نفسه ذاتها؛ لينظر إليها كما ينظر إلى نفس غريبة عنه، وعندئذ يبلغ الغاية من الإمساك بزمامها «ألا ما أصلحها حكومة للفرد أن يحكم نفسه» وإنما يستطيع ذلك الحكم الذاتي من استطاع أن ينسلخ عن ذاته ليرى أحداثها وخبراتها كأنما هو ينظر إلى مسرح، وهل من شك في أنني مهما اندمجت في مشاعري فلا أزال أحس بين جنبي جزءا مني يقف موقف المتفرج الناقد؟ إذن فهذا الجزء مني وليس مني، إنه جزء من «أنا» وكأنه جزء من «أنت» يشهد في باطني مسرحية حياتي.
34
هكذا لبثت الفردية الاستقلالية تدفع «ثورو» حتى انعزل بها عن الناس انعزالا، فظنه الناس حالما شذ برأيه عن مألوف المجتمع، ولو استثنينا مقالته عن العصيان المدني، لكانت بقية كتابته أبعد ما تكون الكتابة عن التنسيق والتبويب، إنه لينثر أفكاره نثرا حسب ورودها على خاطره، ومع ذلك فقد أدلى بالرأي الناضج فيما يشغل المفكرين في يومه - وإلى يومنا - من أمهات المسائل، وجاءت مذكراته تلك التي كتبها متناثرة على مدى اثنين وعشرين عاما، من الغزارة بحيث امتلأ بها أربعة عشر مجلدا، فيها ما يشتهي القارئ من رأي وحكمة؛ فيها رأيه في الطبيعة وما يدبرها من عقل حكيم، ورأيه في الزمن وتغير الأشياء، وفي المعرفة مصدرها وحدودها، وفي الجمال والفن، وفي الحق والباطل، وفي الخيال والواقع، وفي مشكلة الأخلاق وحرية الإرادة وجبرها، وفي العواطف الإنسانية وما تؤدي إليه من خير وشر، وفي المجتمع والدين، وفي القانون والعدالة، وفي الحياة والموت والآخرة.
ولكن أنى لهذا الشاعر الفيلسوف تلك الثروة الفكرية الغزيرة؟ إنه لم يستمدها من الكتب، ولم يستعبد نفسه لشخصيات الأعلام من السالفين، نعم لقد طالع الأدب اليوناني والروماني وقرأ الشعراء الإنجليز، فضلا عما عرفه من معاصره وصديقه وأستاذه «إمرسن»، ولكن أين يقع هذا كله مما أنتج؟ إن مصدره الأول الأعظم هو سفر الكون العظيم، هو هذا الريف الجميل الذي كان له فتنة وسحرا؛ فقد أراد أن يتعقب سر الوجود في خدره ومكمنه، إن هذه الكائنات من حوله لأنغام لأنشودة خافية عن الآذان، سافرة لذوي الشعور الحي الملتهب، فليقصد إلى هذا النشيد في مصدره ومبعثه، لقد خلبه جمال الحياة وسرها، حزنها وسرورها، جهلها وحكمتها، خيرها وشرها، حياتها وموتها، فهو عليل هده المرض، ولكنه مع ذلك يأبى أن يؤمن بما ينتظره من فناء، وكيف يفنى وهو الذي علمه التأمل في خلق السموات والأرض أنه جزء من تلك القوة الروحية العليا التي خلقت العالم وأبدعته؟
وههنا نضع إصبعنا على محور فلسفته ولباب فكره، كما أنه محور الفلسفة المثالية كلها متمثلة في معاصريه من زملائه، فهذه الظواهر التي تدركها الحواس رموز تصيح بأن وراءها قوة فعالة مدبرة، والوسيلة إلى إدراكها هي الحدس أو العيان الروحي المباشر، فلئن كان العلم بمشاهداته وتجاربه يحصر نفسه في الظواهر واطرادها، فالفلسفة والشعر ينفذان خلال الظواهر بقوة الحدس، فيريان الحقيقة العليا الواحدة الأزلية الأبدية، ماذا يريد العلم حين يعالج ظواهر الوجود؟ يريد شيئا واحدا، ما يزال - ولن يزال إلى آخر الأبد - يجد في تحصيله، وذاك أن يصف اطراد الظواهر ليصوغ قوانين اطرادها، إن العلم ليسأل: كيف يحدث هذا الذي أرى؟ ثم ينطلق باحثا عن جواب ما سأل، أما إن أردت أن تعرف «لماذا» يقع في الطبيعة ما يقع فسل غير العلم والعلماء، سل الفيلسوف أو الشاعر «لماذا» يجبك الشاعر أو الفيلسوف، قل للعلم: ما الإنسان، ولم كان؟ يزعم لك أن الإنسان آلة من مادة تسيرها مؤثرات البيئة فتسير، أما الفلسفة المثالية، وإن شئت فقل الشعور الفياض والحدس الصافي - كما تراهما في «إمرسن» وفي «ثورو» - فترى أن وراء هذه الظواهر التي يقف عندها العلم، قوة عليا توجه ما في الكون من مادة وطاقة إلى ما ينبغي لها أن تكون.
إن «ثورو» - مثل «إمرسن» - يرى أن الحياة بكل ضروبها تسيرها نواميس معلومة مرسومة تشمل بسلطانها كل شيء، ولكنه يأبى أن يصف تلك النواميس بالآلية العمياء؛ لأنه يؤمن أنها شاعرة بما تفعل، ويشرف على فعلها قوة عليا تسع كل موجود في الوجود، فليست تلك القوة خالقة لما في الكون وكفى، بل إنها لا تنفك مدبرة له ومنظمة.
انظر إلى «ثورو» وقد ارتقى قمة الجبل يرقب السماء وأفلاكها، والأرض وأشجارها، ويلحظ الأطيار سابحة في الفضاء وصنوف الحيوان ساعية رائحة غادية، فيحتدم في صدره الشعور القوي بوجود ذلك الروح الأعلى الذي يعرف كل شيء؛ لأنه خلق كل شيء، بل هو هو كل شيء! ولقد شهد على مسرح الطبيعة - فيما شهد - المعارك الحامية تنشب بين طوائف النمل، ورأى أمهات الحيوان تقذف بصغارها للكلاب العادية وراءها لتنجو بنفسها، ولكنه رغم هذا الجانب المعتم القاتم من الحياة يصيح قائلا: «ومع ذلك فإني أومن بحكمتك يا رباه!»
35
لقد أخذ «ثورو» يجوس خلال الطبيعة ويجوب أنحاءها، إن الإنسان تربطه بسائر الطبيعة أوثق الصلات، فلئن كان هذا الإنسان جزءا من بناء اجتماعي فما ذلك من حقيقة حياته سوى عرض تافه، وأما لباب حقيقته فهو أنه جزء من الطبيعة بأوسع معانيها، أليس الإنسان وليد الأرض؟ ألا يأكل ما تهيئه الأرض من لحم وخضر؟ ألا يسكن شطآن الأنهار ويسبح بسفائنه فوق متون البحار؟ ألا يستضيء بالشمس ويتنفس الهواء، ويحدق بنظره في السماء ونجومها؟ إنه إذا عضو في هذا الكون الفسيح، إنه جزء من الطبيعة لا يتجزأ.
وإذا كان الإنسان أخا لهذا النبات والحيوان وسائر ما في الوجود من كائنات، فلماذا لا يسعد في حياته كما تسعد؟ إن «ثورو» متفائل يحب أن يرى الأشياء كما هي، فهي على هذه الصورة القائمة جميلة كفيلة بإسعاد الناس لو شاء الناس لأنفسهم السعادة، فلا تنفق حياتك انتظارا للجزاء، لا تنظرن إلى الحياة جهادا مضنيا وعبئا ثقيلا، بل استمتع بها ففيها سحر وفتنة وجمال، إن الحيوان والنبات سعيد حين يقوم بما يقيم له الحياة، فهو سعيد حين يغتذي، وسعيد حين ينمو، وسعيد حين يحس، فماذا يمنع الإنسان أن يسعد بوظائف الحياة في نفسه؟ ماذا يمنعه أن يسعد بغرائزه حين يشبعها، وبحواسه حين يتملى بها روائع الوجود؟ ولكن «ثورو» يجيل البصر في الناس من حوله، فتشيع في نفسه الحسرة والأسى، إن هؤلاء الناس لتضل بهم السبيل حين ينشدون السعادة لأنفسهم، إنهم يبحثون عنها في الثروة العريضة والطعام الغزير، إنهم يطلبونها في أسباب الراحة والخمول، فهم - إذن - يبحثون عن السعادة فيما يعطل الحياة ويعوقها، فوالله لقد فشل المسعى وخاب الرجاء، فيأيها الإنسان احتذ النبات والحيوان إن أردت عيشا رغيدا، أشبع غريزة الجوع بالقوت، ولكن لا تسرف، وتدثر بالثياب، ولكن لا تكثر، واتخذ لنفسك المأوى، ولكن لا تغال ولا تبالغ.
يقول «ثورو» في الطبيعة العاقلة ما يلي: «ما أسرع ما تصلح الطبيعة ما يحدثه الإنسان فيها من عطب، إن جذ الإنسان شجرة وخلفها جذعا داميا سارعت الطبيعة إلى نجدتها بكل ما لها من فنون الكيمياء، لتستر ذلك الجذع الأبتر في رفق بثوب جديد، وما تزال بها تضيف إليها اللفائف الخضراء، حتى تعود آية تفتن عشاق الطبيعة من جديد.
إن هذه الأرض التي أطؤها بأقدامي ليست كتلة من جماد موات، إنها جسد له روح، إنها كائن حي ... إن للطبيعة أمعاءها، إنها أم الإنسانية، أبذر فيها البذور تترعرع نباتا، إن الطبيعة تبذل جهدها لتطعم الإنسان، إنها تطعم العقل والجسم جميعا فتغذو الخيال كما تغذي الجسد ... إنها ليست جميلة في عين الشاعر وحده، وليس الرائع من آياتها غروب الشمس وقوس قزح وكفى، بل لأن تطعم وتلبس الثياب، وتأوي إلى مأواك، وتصطلي دفء المدفأة، كل ذلك آيات روائع وبواعث على الإلهام.
منك أيتها الأرض نشأت مفاصلي وعظامي، وأنا لك أيتها الشمس أخ شقيق ... وإلى هذا التراب سيعود جسدي جذلان فرحا، سيعود إلى حيث بدأ ... إنني منك.»
36
هكذا نرى «ثورو» عميقا في روحانيته وتدينه، ومع ذلك فلم يبلغ أحد ما بلغه «ثورو» من مهاجمة الكنيسة ونظمها وتقاليدها؛ لأن الروح - في اعتقاده - تختنق في جو النظام والتدريب، إنه مسيحي بتقديره الخالص لما في حياة المسيح من جمال وكمال، عقيدته لا تحتاج إلى لاهوت وكهنوت، فحسب المؤمن أن يتبصر في السماء وألا يقيم الحواجز الحائلة بين بصره وبين السماء، وما المذاهب الدينية المختلفة إلا هذه الحوائل التي تعوق وصول الإنسان إلى ربه، المسيحي الصحيح النفس لا يريد كنيسة يرتادها، بل ينهض بفرديته كما فعل المسيح، وما حاجة السليم المعافى إلى كنيسة هي بمثابة المستشفى لأرواح المرضى؟ إنها - كمستشفيات الأجساد - مليئة بالتدجيل والخداع، إنه ينظر إلى مرتادي الكنائس نظرته إلى من اعتل واسترخى، ولم يعد يؤدي عملا مفيدا، حتى ليعد الكنائس مهربا للفارين من وجه الحياة النشيطة العاملة، ألا إن الفضائل كما يفهمها الناس لأبعد الأشياء عن الفضيلة بمعناها الدقيق، خذ الإحسان مثلا؛ فنحن - في رأيه - حين نحسن إنما نهدم أنفسنا، ونهدم من نحسن إليهم على السواء؛ لأننا نهدر إنسانية من نعطيه إحسانا حين نحول بينه وبين أن يكون إنسانا كاملا يعتمد على نفسه، ونهدر إنسانيتنا كذلك؛ لأننا نغذي في أنفسنا غريزة السيطرة حين نعطي الفقير، وهل تمتد يدك بالإحسان إلا مدفوعا برغبة خفية في أن تعلو غيرك وتسيطر عليه؟
لا بد لكل فرد - في رأي ثورو - أن يعمل كل يوم عملا كبيرا أو صغيرا؛ لأن الترف والكسل معناهما الموت، وهذا العمل اليومي المحتوم على كل فرد عمل عضلي يساهم به في وسائل التعمير، وليس العمل الجسدي عنده بمقصور في نفعه على الجسد وحده، ولكنه وسيلة لتهذيب الفكر الذي يجب أن يبلغ به صاحبه منزلة يستطيع معها أن يندمج في الطبيعة ... وتلك هي العبادة. «كم من الناس يظن بنفسه أنه يقوم بأعظم الخدمات؛ لأنه ينفق المال في وجوه الإحسان، المال الذي كسبه سواه! هؤلاء الذين لا ينتجون شيئا تراهم مترفين وهم أشد الناس إلحاحا في الطلب، وأعلاهم صياحا بالشكوى حين لا يظفرون بما يشتهون ... إنهم يعلقون - كالمنهوم - بالأحياء فيمتصون عصاراتهم امتصاصا، إن ثلاثة أو أربعة من هؤلاء الأموات يعلقون بكل إنسان عامل، ثم يحسبون أنهم قد أدوا للمجتمع أجل المآثر؛ لأنهم اعتمدوا في عيشهم على ذلك المسكين، وبعدئذ تراهم يملئون الكنائس، فليس لديهم ما يعملونه سوى أن يرتكبوا الخطيئة، ثم يكفروا عنها، فكيف تنتظر لهؤلاء المصاصين للدماء أن يكونوا من السعداء؟»
37
سبيل النجاة من هذه القيم الفاسدة كلها هو تقويم الفرد ليعيش حرا مستقلا، وإنه لناقم أشد النقمة على تربية الناس لأبنائهم فيما يسمونه بالمعاهد أو المدارس، وكلها معاول تقوض الفردية وتهدمها، بدل أن تقيمها وتبنيها، التربية في هذه المعاهد والمدارس - كما يقول «ثورو» - مهزلة وأضحوكة، وحسبك منها أنها لا تعلم أحدا كيف يكسب قوته! إنها تحشو الرءوس بالآراء النظرية التي ابتكرها المجتمع، والتي لا تسمن ولا تغني من جوع، فلا حياة للإنسان إلا باستخدام حواسه وجسده، ولكن الناس ممعنون في الخطأ، فتراهم ينشدون الإصلاح، ولكن أي إصلاح يريدون؟ إنهم يسعون إلى الزيادة من ترف الإنسان وراحته، ولكنه يوجه السؤال إلى هؤلاء المصلحين: ما غناء الإصلاح في أسباب الحياة المادية إن ظلت نفس الإنسان على حالها؟ ماذا يفيدنا تغيير وجه الأرض إن لم نغير ما بأنفسنا حتى تعتدل عواطفنا وتستقيم؟ إنه ليستحيل على إصلاح مادي أن تقوم له قائمة إلا إن سبقه إصلاح فردي باطني، ولكنا نعود فنقول: إنك إن قومت باطن الإنسان، فما أتفه ظواهر الحياة المادية بعد ذلك!
الفصل الثالث
الفيلسوف يؤيد الشاعر
(1) «بوردن باركر باون»
1
وتوكيد الذات الإنسانية
كان «إمرسن» وكان «ثورو» يعبران عن الاتجاه المثالي تعبير شاعر ينطق لسانه بما يخفق به قلبه، فيجيء القول فياضا بالعاطفة جياشا بالشعور، تقرأ لهما فتحس أنك إزاء لمعات من الضوء، وقبسات من الإلهام، فعلى الرغم من أنهما كانا يصدران فيما ذهبا إليه عن أصول من الفلسفة المثالية انتقلت إليهما - وإلى معاصريهما في أمريكا - في الأعم الأغلب عن طريق ما كتبه الشعراء الإنجليز عندئذ - وبخاصة كولودچ - عن الفلاسفة المثاليين من الألمان، وعن هيجل بصفة خاصة، أقول: إنه على الرغم من أن «إمرسن» و«ثورو» كانا يصدران عن أصول من الفلسفة الألمانية المثالية، إلا أنهما اكتفيا من تلك الفلسفة بما أوحت به إلى نفسيهما، ولم يدرساها دراسة تفصيلية عميقة، كلا، ولا هما قد أخذا نفسيهما بكتابة فلسفية منطقية تجعل من الفكر نسقا مرتبط الأطراف متصل الأجزاء، أو - إن شئت - فقل إنهما تناولا الفلسفة كما يتناولها الهواة لا كما يتناولها المحترف، فكان لا بد أن تكمل الحركة الفلسفية المثالية بفلاسفة محترفين يضعون الفكرة المقصودة في الأسلوب الذي ألفته الفلسفة، وهو الأسلوب الذي يوجه الخطاب إلى العقل، ومنطقه لا إلى القلب ومشاعره.
والفلسفة المثالية - في اختصار - هي الفلسفة التي تحاول أن تبين أن أي شيء يستحيل تصور وجوده إلا على صورة فكرية أو عقلية، أي إن الأشياء التي نظن أنها مادية وقائمة خارج عقولنا، إن هي في واقع الأمر إلا كائنات عقلية في رءوسنا، وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما دمت لا أستطيع لأي شيء إدراكا إلا بعد أن يتحول إلى فكرة في عقلي، وما دام قد تحول إلى فكرة فليس هو عندي بالشيء المادي مهما دلت ظواهر الأمر على غير ذلك، فالحق أن الفلسفة الحديثة كلها تدور حول هذه المشكلة، وهي: إذا كان الإنسان عقلا وجسما، أو إذا كان الكون كله عقلا ومادة، ثم إذا كان العقل والمادة مختلفين في طبيعتهما، فطبيعة العقل هي أن يفكر وطبيعة المادة هي أن تشغل حيزا من مكان، فكيف يمكن للعقل أن يعرف المادة؟ كيف يمكن للعقل أن يعرف الأشياء؟ كيف تكون الصلة بينهما مع أنهما - كما رأيت - مختلفان اختلافا بعيدا؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال تجد من الفلاسفة من يحاول أن يبقي لكل من العقل والمادة طبيعته، ثم يحاول أن يصل بينهما على نحو ما، ومنهم من يحاول أن يحول أحدهما إلى طبيعة الآخر، فالماديون - من جهة - يقولون إن العقل في الحقيقة إن هو إلا المخ والجهاز العصبي، ولما كان هذان من مادة فالاتصال بينهما وبين الأشياء المادية الأخرى لا إشكال فيه، إذ الأمر كله لا يزيد على ذرات مادية تتحرك في المكان، والمعرفة نفسها ليست إلا اهتزازات في ذرات المخ والجهاز العصبي، والمثاليون - من جهة أخرى - على عكس ذلك، يحولون المادة إلى عقل؛ إذ يقولون إن ما نظنه مادة ممتدة هو في الحقيقة أفكار في عقول مدركيها، المثالية لا تنكر وجود الأشياء كما هو شائع عنها، بل تقرر وجودها، وغاية ما في الأمر أنها تجعل وجودها عقليا لا ماديا.
والمتدينون المؤمنون بوجود الله، والمرتفعون بقيمة الإنسان ومكانته في الكون، حريون أن يكونوا في فلسفتهم من المثاليين؛ لأنهم لا يريدون للعالم أن يكون كتلة من مادة بغير روح إلهي أعلى يحيط بكل شيء علما، أي يجعل كل شيء فكرة معلومة، ولا يريدون للإنسان أن يكون جسما كسائر الأجسام بغير عقل يدرك به نفسه، ويدرك به الأشياء من حوله؛ ولذلك ترى الفلسفة المثالية أكثر شيوعا وأقرب إلى القلوب من الفلسفة المادية العلمية، أو قل إنه كلما غمرت الإنسان موجة علمية تهتم بالمادة وظواهرها، كان الأرجح أن يتلوها رد فعل من فلسفة مثالية تؤكد الروح - أو العقل - وأصالته في الكون عامة، وفي الإنسان خاصة، هكذا حدث في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فبعد التطرف إبان القرن السابق له في التمسك بالعلوم الطبيعية وما يتفرع عنها، وفي الفلسفة التجريبية التي ترد علم الإنسان كله إلى أصول حسية جاءت من هذه الحاسة أو تلك، قامت موجة مثالية تعلي من شأن الروح الإلهي والروح الإنساني معا، ثم لم يكد ينتصف القرن التاسع عشر حتى أخذت النزعة العلمية تظهر من جديد، متمثلة في نظرية التطور التي تفسر الكون - لا بأنه من صنع خالق خلقه دفعة واحدة، بل تفسره بتطور ينمو به على مر الزمن، وتفسر الإنسان - لا بأنه كائن ذو مكانة فريدة في الكون إذا ما قيس إلى سائر الكائنات، بل تفسره بأنه حلقة من حلقات التطور لا يختلف عن سائر الحلقات إلا في ترتيب ظهوره، فكان حتما أن تنهض الفلسفة المثالية مرة أخرى لتعود إلى توكيد الروح الإلهي والروح الإنساني معا كما فعلت أول مرة، لكنها في المرة الأولى قد تعهدها هواة من الشعراء، وفي المرة الثانية تولاها محترفون من الفلاسفة، وإنه لمما يلفت النظر أن ذلك بعينه ما حدث في إنجلترا أيضا، ففي إنجلترا - كما في الولايات المتحدة - تتابعت موجتان من الفلسفة المثالية إبان القرن التاسع عشر، أولاهما في نصفه الأول، وثانيتهما في نصفه الثاني، وفي إنجلترا - كما في الولايات المتحدة - تعهد المثالية في المرة الأولى هواة من الشعراء، على رأسهم «كولردج» في إنجلترا، و«إمرسن» في الولايات المتحدة، وتولاها محترفون من أساتذة الفلسفة في المرة الثانية، أمثال «برادلي» و«جرين» في إنجلترا، و«باون» و«رويس» في الولايات المتحدة، وعن هذين سندير الحديث، أما «باون» فقد كانت النفس الإنسانية نقطة ارتكازه، وأما «رويس» فقد جعل الروح المطلق، أو الله، محور تفكيره.
التجريبية هي الصفة الغالبة على الفلسفة الإنجليزية منذ عصر النهضة الأوروبية حتى اليوم، فعلى الرغم من موجات مثالية تظهر في مجرى الفكر الإنجليزي هنا وهناك، إلا أن الكثرة العظمى من فلاسفة الإنجليز كانت تؤمن بالتجريبية، وبأن المعرفة مصدرها الحواس، والعلم أساسه المشاهدة والتجارب، هكذا كان «بيكن» و«لوك» و«هيوم» في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ثم هكذا كان «مل» و«سبنسر» في القرن التاسع عشر، ولو سلمنا مع هذا الاتجاه التجريبي بأن معرفتنا بالعالم الخارجي قد جاءت إلينا عن طريق حواسنا، لنتج عن ذلك بالضرورة أن نسلم كذلك بأن المعرفة تأتينا مجزأة، ويتلقاها عقل قابل لا يسعه إلا أن يتلقى ما يعطى إليه كأنه آلة تصوير لا تملك سوى أن تصور ما يبعثه إلى لوحتها الشيء المصور، نعم إنه لو كانت الحواس وحدها هي مصدر علمي بالعالم الذي حولي، لكان علمي بالعالم، بل علمي بالشيء الواحد، سلسلة من إحساسات يتبع بعضها بعضا، فلست أعلم عن هذه المنضدة - مثلا - إلا حالات متعاقبات، جاءت كل حالة منها إلى حاستي، بصرا كانت تلك الحاسة أو لمسا أو غير ذلك، في لحظة معينة، ثم أعقبتها الحالة التي تليها في اللحظة التي تليها وهكذا، وإذن فسيكون الأمر في معرفتي بالشيء، بل سيكون الأمر في معرفتي بنفسي، كالأمر في شريط السينما حين يصور الشيء الواحد في سلسلة من الصور متعاقبة.
لكن ذلك التفكك في معرفتي بشيء ما، إنما يأتي افتراضه من افتراض ألا عقل وراء الحواس يتلقى ما يجيء منها ليتناوله بالتنظيم والتجسيم - إن صح هذا التعبير - لو كانت حواسي وحدها هي التي تدرك البرتقالة التي أمامي - مثلا - لاقتضى ذلك أن تكون البرتقالة في ذهني أشتاتا من إحساسات: إحساس جاء عن طريق العين، وإحساس عن طريق اللسان، وثالث عن طريق الأنف، ورابع عن طريق اللمس وهكذا، لكن لا، ليس إدراكي للبرتقالة هو على هذا التفكك والتجزئة، فماذا يتناول الأشتات في داخلي ليضم بعضها إلى بعض، بحيث تتكون منها «برتقالة»؟ إنه عقلي الفاعل الذي لا يقف عند حدود القابلية لما يجيء إليه، بل هو نشيط فعال ينظم أجزاء الخبرة في تيار واحد متصل، شيء كهذا هو ما يقوله «باون»، مؤكدا لوجود الذات الإنسانية باعتبارها كائنا قائما بذاته، غير الحالات الحسية الواردة إليها من الخارج، وإذن فهنالك جانبان: الرسائل الواردة إلينا عن الأشياء المحيطة بنا، والنفس، أو الذات، أو العقل الذي ينظم هذه الرسائل في معرفة متصلة متماسكة متسقة الأجزاء، ولم يزد «باون» في هذا القول عن عقيدة رجل الشارع حين يؤمن بأن له عقلا غير المعطيات الحسية، وحين يؤمن كذلك أن هذه المعطيات الحسية - أو بمعنى آخر أفكارنا عن الأشياء الخارجية - إنما تشير إلى أصول لها في العالم الخارجي.
ولذلك فلا غرابة أن يطلق «باون» على فلسفته اسم «التجريبية المثالية»؛ لأنها في الحقيقة تؤكد الذات العارفة من جهة، لكنها تعتمد على الرسائل الحسية من جهة أخرى، وهو ما يذكرنا طبعا بفلسفة «كانت»، لولا أن «باون» يأخذ على «كانت» أنه حصر قدرة الذات العارفة على ظواهر الأشياء دون حقائقها في ذاتها، وذلك حد من قدرتها لا يرضي «باون»، فما ليس يقع في وعي ما، لا وجود له، وكل ما في الوجود من كائنات لا يخرج عن كونه إما ذاتا عارفة أو فكرة معروفة للذات.
ولولا افتراضنا لوجود ذات أو نفس في الإنسان لانفرط وجوده إلى سلسلة متتابعة من حالات لا رابط بينها، كخرزات العقد ينسل منها خيطها الرابط ، إذ ما الذي يجعل حالات الماضي جزءا مني إذا لم تكن هناك نفس تمسكها بالذاكرة لتجعلها هي والحاضر معا مكونات لشخصي؟ إنه لولا أن لي ذاتا قائمة مستمرة لما كنت اليوم نفس الشخص الذي كان بالأمس، فهذا العنصر الذي يجعل مني إنسانا واحدا خلال التغيرات هو ذاتي أو هو نفسي، لكن افتراض وجود النفس أو الذات في الإنسان لا يستدعي أن نفترض مثل ذلك في الأشياء الجوامد، فليس هناك ما يمنع من القول عن هذه المنضدة مثلا إنها حالات يأتي بعضها في إثر بعض دون أن يكون هنالك نواة عنصرية باطنية تمسك بهذه الحالات كلها لتجعل منها شيئا واحدا، وإذن ففي رأي «باون» أن افتراض وجود النفس العنصرية في الإنسان محتوم علينا لما نراه في خبراتنا من وحدة واتصال كانا يستحيلان بغير ذلك الافتراض، أما بالنسبة للأشياء فليس ثمة ما يدعو إلى ذلك.
2
لكننا مع ذلك ترانا مدفوعين دفعا إلى افتراض الوحدة الذاتية في الأشياء، فمن العسير على إدراكنا الفطري أن يعتقد بأن هذه المنضدة التي أمامي ليست هي منضدة الأمس، فما الذي يحملنا على الظن بأن الشيء يظل هو هو بعينه خلال التغيرات التي تطرأ عليه؟ يحملنا على ذلك ما نخلعه من أشخاصنا على الأشياء، ففي ذاتي وحدة تجعل من خبراتي الجزئية المفككة خبرة شخص واحد، فتراني أفترض في الشيء المادي الذي أدركه ما أراه في نفسي؛ ومن ثم يقول «باون» إنه خلال الذات يستطيع الإنسان أن يفهم الأشياء وترابطها، أرى في الأشياء فاعلية؛ لأنني أرى في ذاتي فاعلية فأعكسها على الأشياء، وأرى في الشيء الخارجي وحدة رغم تعدد ما يأتيني منه من انطباعات حسية؛ لأنني أرى في نفسي تلك الوحدة فأخلعها على الشيء الخارجي وهكذا.
ذات الإنسان الباطنية هي عالمه وهي نبراسه الذي يهتدي به في فهم الأشياء، فهي عالمه؛ لأنه يستحيل على الإنسان أن يعرف ما ليس في ذاته، وهي نبراسه؛ لأنه على مبادئ تكوينها يفهم تكوين الأشياء، لكن إذا كان ذلك كذلك، فهل نقول: إن أفراد الناس المختلفين جزر منفصل بعضها عن بعض، كل منهم محاط بجدران ذاته، ولا سبيل إلى ثغرة ينفذ منها ليتصل بفرد آخر؟ لو كان الأمر كذلك لاستحال قيام المجتمع؛ لأن المجتمع أساسه أن يتصل الأفراد بعضهم ببعض، وإذن فنحن بين أمرين: فإما أن نعترف بعنصرية الذات الفردية وتكاملها واستقلالها، وبذلك نجعلها مغلقة على نفسها مستحيلة الاتصال بغيرها، وإما أن نقبل إمكان اتصال ذات بذات، وبذلك نحد من تكامل الذات وتفردها واستقلالها، ويواجه «باون» هذا الإشكال فيلتمس المخرج في القول بوجود ذات - أو روح أو عقل أو نفس - كلية كبرى، ما هذه الذوات الفردية الجزئية إلا أجزاء منها، وبهذا الفرض نحل مسألتين مشكلتين: الأولى أن نرد كثرة الأفراد إلى وحدة واحدة تجعل منهم حقيقة واحدة، والثانية أن نجعل اتصال الذات الفردية بغيرها ممكنا لاشتراكها جميعا في حقيقة واحدة شاملة، إن فاعلية الذات المفردة - ذاتي أو ذاتك - إما أن تكون داخلية كأن تصب تفكيرها على نفسها، أو أن تكون خارجية كأن تتصل بذات غيرها، وليست الفاعلية الداخلية بإشكال؛ لأن الذات عندئذ لا تجاوز حدود نفسها، وتظل محتفظة بفرديتها واستقلالها، لكن الإشكال هو في خروجها عن جدران نفسها للاتصال بغيرها، فها هنا يقول «باون» إن افتراض وجود الذات الكبرى - الله - التي نحن أجزاء منها يجعل هذا الذي نظنه اتصالا خارجيا بين ذات وذات، يجعله فاعلية داخلية بالنسبة للذات الكبرى، وإذن فلو نظرنا إلى الذات الكبرى الشاملة على أنها الحقيقة لما قامت في وجهنا مشكلة خروج الذات عن نفسها كيف يكون، إن أفراد الناس يؤثر بعضهم في بعض، بل وقد يعارض بعضهم بعضا، لكن هذا التضاد بينهم وهذا الانفصال وهذا التجزؤ يذوب كله في عنصر واحد يحتويهم جميعا، وما قد يبدو في عالم الجزئيات تضادا إن هو في حقيقة الأمر إلا اتساق لو نظر إليه من أعلى، نظرة ترى تفصيلات الوجود كلها دفعة واحدة في كل واحد.
الكون كله - إذن - عقل واحد كبير، عقول الأفراد أجزاؤه، ولولا أننا نواجه بعقولنا الفردية عقلا إذ نواجه الكون ، لما أمكن أن ندرك فيما ندركه ارتباطا منطقيا هو بعينه الارتباط الذي نراه قائما بين أفكارنا، أي إنه لو لم يكن الكون عقلا، وكان من عنصر مختلف عن عنصر العقل لاستحال على العقل الإنساني أن يفهم ظواهره وأحداثه؛ إذ كيف له عندئذ أن يفهم ما ليس بينه وبينه شبه؟
انظر إلى جارك تجد جسما ماديا يتحرك وينطق ويسلك سلوكا تراه بعينك فترى فيه نظاما وتلمس له هدفا وغاية، «فتستدل» من ذلك أن له عقلا يحركه بهذا السلوك نحو تلك الغاية، إنك لم تشهد عقله بعينيك، لكنك تستدله استدلالا مما ترى فيه من سلوك وحركة، وهكذا قل في الكون بأسره: ترى فيه حركة بين أجزائه، ثم ترى في الحركة نظاما واتساقا يهدفان إلى غاية، أفلا تستدل من ذلك أيضا أن وراء هذا الجسم المادي الكبير عقلا كبيرا؟ لو أخذك في هذا العقل الإلهي شك، فحري بك كذلك أن تتشكك في عقل جارك؛ لأن طريقة الاستدلال في كلتا الحالتين سواء.
ولئن كان عقل الفرد الواحد قادرا على إدراك جانب من الكون إدراكا يمكنه من فهمه، فالعقل الكلي قادر على إدراك الكون كله مثل هذا الإدراك، الكون كله نسق عقلي مرتبط الأجزاء، كل جزء يعتمد على سائر الأجزاء وهو في الوقت نفسه ضروري لها، ولكن الفرد الواحد من الناس لا يستطيع أن يرى النسق بأسره دفعة واحدة، وإنما يستطيع ذلك العقل الكوني.
هكذا ترى أن مجرد تسليمك بوجود عقلك أنت، يؤدي بك حتما إلى التسليم بعقل شامل يحيط بالوجود كله؛ لأن كل جانب صغير مما يدركه العقل الفردي دال على أن في هذا الجانب اتساقا عقليا، وفي ذلك إشارة إلى أنه لو رئيت الجوانب كلها معا لتبين أيضا ما بينها من اتساق عقلي، لكن رؤيتها معا تتطلب عقلا أزليا أبديا؛ لأنها لانهائية بغير حدود، وإذن فلا بد أن يكون هنالك ذلك العقل الأزلي الأبدي العليم بكل شيء، وعلى هذا النحو نفسه تستطيع أن تقيم البرهان على أن الذات الإلهية الكبرى ليست علما مطلقا فحسب، بل هي كذلك خير مطلق وجمال مطلق، استدلالا من الخير الجزئي والجمال الجزئي اللذين يدركهما الفرد في نفسه ؛ لأنه إذا كان علم الإنسان الجزئي بأحد جوانب الكون دليلا على وجود حق يشمل الكون كله، فميل الإنسان إلى الخير الجزئي المحدود بحدود فرديته، وحبه للجمال الجزئي المقيد بقيود خبرته، يشيران إلى خير مطلق يسعى إليه الكون كله، وإلى جمال مطلق سابغ على الكون كله. (2) «جوزيا رويس»
3
والمثالية المطلقة
على أن فيلسوف المثالية غير منازع في أمريكا، بل قد يكون فيلسوف المثالية الأول في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إطلاقا، هو «جوزيا رويس» (1835-1916م) الذي كان أستاذا للفلسفة في «هارفارد» ونزع نحو المثالية عن دراسة دقيقة عميقة، ثم أنتج فيها عن أصالة وابتكار، ولئن كان «باون» قد جعل اهتمامه الأول بالذات الفردية، فقد أدار «رويس» فلسفته حول «الذات المطلقة» التي تستغرق الذوات الفردية كلها، بل تستغرق الوجود كله في وجودها؛ فهو يذهب إلى أن «الكون بأسره، بما في ذلك عالم الطبيعة، هو في حقيقته كائن حي واحد، هو عقل أو هو روح واحد عظيم»
4
وليس في هذا القول - من وجهة نظره - شطح في الخيال، بل هو النتيجة المحتومة للتفكير الدقيق فيما تنطوي عليه وقائع الخبرة البشرية، والفروض التي يبني عليها العلم بناءه، ويطلق «رويس» على هذا الروح الواحد العظيم أسماء مختلفة؛ فهو «الله» وهو «المطلق» وهو «مفسر العالم» وهو «اللوغوس (أو الكلمة)» وغير ذلك من الأسماء، وبديهي أن فيلسوفا يرى أن قوام الكون عقل محيط بكل شيء، أو نفس كبرى شاملة، يبدأ بحثه عن ذلك العقل الأكبر بالنظر إلى ما يشبهه في تكوين الإنسان، أي إنه يبدأ بحثه بالنظر إلى ذات الإنسان الشاعرة، أو عقله، أو روحه، أو نفسه، أو ما شئت من الأسماء التي تطلق على ما ليس بجسد في تكوين الإنسان.
إن الإنسان ليعتمد في ذاته الشاعرة على الذاكرة وعلى الخيال، لكي يجعل من تلك الذات كائنا واحدا رغم تعدد خبراتها، فلولا الذاكرة لما استطاع الإنسان أن يحتفظ بشيء من ماضيه، ولا نحصر وجوده الشعوري في إدراك اللحظة الحاضرة الراهنة، ولما كان الإدراك الراهن يتغير لحظة بعد لحظة ؛ فهو إذن - لو اقتصر على الإدراك الحاضر وحده - إنسان جديد في كل لحظة زمنية، ولا يكون بين حالاته المتتابعة خيط يربطها، يربط الماضي بالحاضر، ليكون من السلسلة إنسانا واحدا بعينه وذاته، كذلك إذا لم يستطع الإنسان أن يفرق بين ما يتخيله وبين إدراكه الحسي الحاضر لاستحال عليه الإدراك والسلوك؛ إذ لو كان لا فرق عندي بين غرفة - مثلا - أتخيلها وغرفة أراها فعلا وأجلس فيها، لما عرفت كيف أتصرف إزاء الأشياء تصرفا يحفظ لي ذاتيتي العاقلة، فلولا القدرة على التخيل لانحصر الإنسان في لحظته الراهنة - كما هي الحال في الذاكرة - فأنا أدرك ما أدركه الآن من أشياء العالم الخارجي، ثم أدخره بالذاكرة، ثم أستعيده تخيلا، وبذلك تتكون خبرتي على مر الأيام، وبغير ادخار الخبرة الماضية واستعادتها تخيلا، لما زادت معرفة الإنسان عما يراه في اللحظة الراهنة وحدها.
لكن هذه الذاكرة وهذا الخيال - وضرورتهما للحياة العقلية ضرورة محتومة كما رأيت - يجاوزان الحس الراهن، وبذلك تتكون في الشيء الذي أدركه إدراكا حسيا وحدة ما كانت لتتكون لولاهما، فلولا أنني بالذاكرة احتفظت بصورة مكتبي هذا كما رأيته أمس، وبالخيال أتصور هذا الذي رأيته، لما استطعت حين أرى مكتبي نفسه الآن أن أقول: إنه هو هو الشيء الذي رأيته بالأمس، وبفضل الذاكرة والخيال أيضا تتكون وحدة الذات العارفة - كما تكونت وحدة الشيء المعروف - لأنه لولاهما أيضا لكان إدراك كل لحظة زمنية قائما وحده لا يرتبط بإدراك الماضي، وبذلك ينفرط عقد الخبرة، بل لا يبقى منها أبدا إلا حالة واحدة، هي حالة اللحظة الراهنة، ولنا أن نسأل الآن: ما طبيعة هذا الرباط الذي يربط ذاتي العارفة الشاعرة في وحدة واحدة، ويربط الشيء المعروف كذلك في وحدة واحدة؟ أهو كائن داخلي غيبي قائم في جوفي؟ كلا، هكذا يجيب «رويس»، إنما هو نوع من العلاقات بين أجزاء الخبرة، يجعلها إذا ما ارتبطت على هذا النحو، ذاتا شاعرة بذاتيتها ووحدتها واتصال وجودها.
هذه العلاقات نفسها التي تصل أجزاء الخبرة بعضها ببعض بحيث تجعل منها نسقا واحدا هي ما نسميه في الإنسان الفرد بالذات أو العقل أو الروح، ولأضرب مثلا يوضح الفكرة للقارئ، فأقول: إذا رصصت كرات صغيرة من الحجر على هيئة دائرة، ثم سألت نفسك: ما الذي جعل من هذه الكرات الكثيرة دائرة؟ أهناك - إلى جانب الأحجار - دائرة، أم أن الدائرة هي نفسها الكرات، تكونت حين ارتبطت الكرات بعلاقات من طراز معين؟ هكذا قل في «الذات»، فليست هي شيئا مستقلا عن أجزاء الخبرة التي تأتي فرادى، بل هي العلاقات التي ترتبط بها تلك الأجزاء على صورة معينة؛ بحيث يتألف منها نسق فريد يكون من طبيعته أن يشعر بنفسه، وليس الأمر في هذا مقصورا على ذات الإنسان الفرد، بل هو كذلك الأمر في الذات المطلقة - أو الله - فالله ذات أو عقل أو روح؛ لأن هنالك بين عناصر الكون الأكبر علاقات من نفس الطراز، تجعل ذلك الكون الأكبر وحدة واحدة شاعرة بنفسها، فالنسبة بين كل فرد منا وبين الذات المطلقة هي نفسها النسبة بين خبرة اللحظة الواحدة في حياة الفرد الواحد، وبين مجموعة خبراته التي يتصل بعضها ببعض على نحو يجعل منها ذاتا واحدة، الكون كله عقل واحد كبير شامل؛ لأن أجزاءه تكون نسقا، كما أن الإنسان الفرد ذات واحدة؛ لأن أجزاء خبرته تكون نسقا، وكما أن الذات الإنسانية هي على هذا الاعتبار «مجتمع» من أجزاء مرتبطة على هذه الصورة النسقية الفريدة، فكذلك الله «مجتمع» قوامه أجزاء الكون كلها، وقد اتسقت أيضا على نمط فريد.
لكن الذات الإنسانية على وحدانيتها، تفرق في نفسها بين الذات التي تعرف والذات التي تعمل، والبحث في هذين الجانبين منها هو موضوع أول كتاب كتبه «رويس»، وهو الكتاب الذي أطلق عليه اسم «الجانب الديني من الفلسفة»،
5
فهو في مقدمة الكتاب يفرق في الدين بين وجهين، فالدين من جهة يشرع تشريعا خلقيا؛ أي إنه يضع نظرية للفعل والسلوك، وهو من جهة أخرى يعين حدود الإيمان؛ أي إنه يضع نظرية للمعرفة، فكأنما هو بهذين الوجهين يجيب عن سؤالين: كيف ينبغي أن أسلك؟ وماذا أعرف؟ وقد اختار «رويس» أن يبحث في كتابه هذين الموضوعين على التوالي بحثا يقيمه على ضوء مثاليته التي شرحنا أساسها.
أما كيف ينبغي أن يسلك الإنسان، فجوابه هو أن المثل الأعلى في الأخلاق أن يقوم بين مختلف الإرادات اتساق وتناغم وانسجام، هذا المبدأ صواب بالنسبة للفرد الواحد، وبالنسبة للمجتمع، وبالنسبة للكون كله جملة واحدة، ففي الفرد الواحد إرادات متضاربة - هي رغباته - فقد تريد إرادة منها شيئا تنفر منه إرادة أخرى، والأخلاق المثلى في هذه الحالة هي أن ينسق الإنسان بين هذه الإرادات المتضاربة في وحدة واحدة تجعل منها أجزاء متعاونة على تحقيق هدف منشود، وقل ذلك نفسه بين أفراد المجتمع الواحد، فلكل من هؤلاء الأفراد إرادته، والأخلاق الاجتماعية العليا هي أن يتصرف الإنسان بحيث تتسق إرادات الأعضاء جميعا في تيار واحد ينتهي إلى هدف واحد، وهذه بعينها هي الأخلاقية الإلهية؛ إذ ينسق الله بين أجزاء الكون كلها على نحو يجعل كل ما فيه متعاونا على تحقيق هدف واحد، وقد صاغ «رويس» مبدأه الأخلاقي على غرار ما فعل «كانت» في العبارة الآتية: «اعمل بقدر مستطاعك كما لو كنت أنت هو أنت وجارك في آن واحد، فانظر إلى حياتيكما كأنما هي حياة واحدة.»
6
وهو مبدأ - كما ترى - يعبر بصورة أخرى عما عبر عنه المبدأ الديني بقوله: «أحب لجارك ما تحب لنفسك.» ومعنى مبدئه في ضوء مثاليته هو أن يسلك الإنسان إزاء جاره سلوكا يقوم على افتراض أنه هو وجاره لم يعودا شخصين جزئيين منفصل كل منهما عن الآخر، بل اندمجا في وحدة تنسق بينهما مع الإبقاء على كل منهما، أليس ذلك هو نفسه ما تعمله ذات الفرد إزاء كل جزءين من أجزاء خبرتها؟ أليست تنسق هذين الجزءين على نحو يجعلهما داخلين في وحدة أعم منهما وأشمل، مع الاحتفاظ بهما معا؟ فهكذا أيضا يكون الأمر بين الفردين من الناس، بل بين كل أفراد الناس، أن يعمل الإنسان إزاء سائر الناس كما لو كان هؤلاء الناس أجزاء من ذات واحدة، فيزيل ما بينهم من تضارب لينخرط الكل في وحدة ذاتية واحدة.
وقد كان هذا الاتساق بين إرادات الأفراد ليستحيل لولا أن بينها أصلا مشتركا ووحدة تجمعها، وإذن فلا بد لك من «بصيرة أخلاقية» تنفذ بها إلى صميم الإرادة لترى ما طبيعتها التي تجعل مختلف الإرادات أشباها، وعلى ذلك فالحياة الأخلاقية لا تكتمل إلا بهذه «البصيرة الأخلاقية» جنبا إلى جنب مع المبدأ الذي أسلفنا ذكره، إنه محال علي أن أنفذ هذا المبدأ الذي يقتضيني أن أوفق بين إرادتي وإرادة جاري بحيث أجعل منهما إرادة واحدة، إلا إذا كانت لدي القدرة على إدراك العنصر المشترك بين الإرادتين لأستبقيه وأحذف عناصر الاختلاف، وإدراك العنصر المشترك بين الإرادات إنما يكون بما يسميه «رويس» بالبصيرة الأخلاقية، والبصيرة الأخلاقية عند الناس تتفاوت قوة وضعفا، فإذا ما بلغت درجة الكمال في نفاذها وقوة إدراكها كانت هي البصيرة الأخلاقية التي يتصف بها الله، والتي بواسطتها ينسق مختلف الإرادات في العالم كله دفعة واحدة ليكون منه عالم واحد ذو هدف واحد، فما قد يراه الإنسان المحدود تضاربا في اتجاهات أجزاء العالم، هو في الحقيقة اتساق من وجهة نظر الله الذي يرى كل شيء بلمحة من بصيرته الأخلاقية، فيجعل من كل شيء وجودا واحدا وحياة واحدة.
ولا بأس - بناء على هذه الوجهة للنظر - في أن تختلف جماعات البشر في قواعدها الأخلاقية ما دمنا في النهاية نستطيع أن نضع تلك المختلفات في نسق واحد، كما تساق الألحان المختلفة في نغم واحد، وهكذا يقف «رويس» في «الأخلاق» موقفا وسطا بين مذهبين كانا دائما على طرفي نقيض؛ فقد كان الفلاسفة ينقسمون فريقين إزاء «الأخلاق» ماذا يكون أساسها؟ أتكون مطلقة؛ بحيث تصلح لكل إنسان في كل مكان وزمان، أم تكون نسبية؛ بحيث يصلح لفريق ما لا يصلح لفريق آخر؟ ويمكن وضع هذا الاختلاف نفسه في صورة أخرى فنقول: أيكون مدار الأخلاق على أداء الواجب الذي يقتضيه المبدأ الثابت الذي لا يتغير، مهما تكن الظروف، ومهما تكن النتائج، أم يكون مدارها على النتائج المترتبة على الفعل، فما تترتب عليه السعادة يكون فضيلة، وما يترتب عليه الشقاء يكون رذيلة؟ هاتان هما وجهتا النظر الأساسيتان في فلسفة الأخلاق، فاستطاع «رويس» أن يوفق بينهما، فالأخلاق مطلقة ونسبية في آن واحد؛ لأن الفرد أو الجماعة قد تتصرف وفق ما تقتضيه ظروفها - وهذه هي النسبية - كل على شرط أن يتكون من مختلف الإرادات ومتضارب الاتجاهات والرغبات كل متسق تتكون منه حياة كونية واحدة - وهذه هي الناحية المطلقة - كذلك استطاع «رويس» أن يوفق بين أن يكون أساس الأخلاق هو طاعة المبدأ، وأن يكون أساسها هو النظر إلى النتائج، بأن جعل الفرد الواحد أو الجماعة الواحدة تتصرف على مبدأ أخلاقي تصرفا يجعل نتائج ذلك التصرف عند الأفراد المختلفين أو الجماعات المختلفة متسقة غير متضاربة، كأنما الكل كائن واحد.
هكذا ينظر «رويس» إلى الأخلاق نظرة اجتماعية لا فردية، إذا طالبت جاري بحقوق وطالبني بحقوق، فما ذاك إلا لأننا معا قطرتان من محيط واحد، وإذا ما حقق كل منا للآخر حقوقه، فما ذاك إلا لأن هناك كلا نريد أن نتسق فيه، فليست الغاية من الحياة الأخلاقية أن يخدم بعضنا بعضا باعتبارنا أفرادا، بل غايتها هي توحيد الكثرة في واحد، وتنسيق التضارب في كل متعاون، قد ينصرف أحدنا إلى تقديم العلم، وينصرف الآخر إلى عالم الفن، وينصرف ثالث إلى الخدمة السياسية، وكل هؤلاء وغير هؤلاء إنما يفعلون ما يفعلونه لا من أجل أنفسهم كأفراد، بل من أجل الوحدة الكلية العليا التي تحتويهم جميعا وتستخدمهم جميعا لتحقيق إرادتها الكلية الواحدة، إن الإرادة الواحدة المطلقة لا تضيق بكثرة الإرادات الفردية؛ لأنها تضمها جميعا تحت لوائها، ولا تضيق بتنوع الأهداف وتباين الغايات بين الأفراد؛ لأنها تجعل من هذه الغايات والأهداف كلها نهيرات تصب في مجرى واحد عظيم، هو مجراها نحو الغاية الكونية الواحدة، إنها لترحب بكل اختلاف وتنوع بين الناس ليتحقق كل ضرب من ضروب الحياة الممكنة، وبهذه الإمكانيات كلها يقوم بناء واحد لكون واحد متسق منسجم متناغم.
7
ومن البحث في «الأخلاق» وكيف ينبغي للإنسان أن يسلك، ينتقل «رويس» إلى الجزء الثاني من بحثه، وهو «المعرفة» ها هنا يهتدي الفيلسوف بمبدأ في وجوب الشك؛ لكي يبلغ اليقين، فعلى الرغم من أن الدين هو موضوع بحثه، فهو لا يرى مانعا، لا بل يراه واجبا أن يلجأ إلى منهج الشك، فنحن بالشك لا ننقض الحق في ذاته، وإن كنا ننقد ما يعتقد الناس أنه الحق، أعني أننا ننقد أفكارنا نقدا يميز صحيحها من باطلها، ولعل أهم طابع يميز التفكير الفلسفي هو أن تشك حتى يدفعك الشك إلى آخر مداه، وإذا بهذا الشك نفسه يلد لك اليقين المنشود.
ذلك أن مجرد اعتراف الإنسان بإمكان الخطأ هو في ذاته دليل على ضرورة الصواب، فلأن يشك الإنسان في صواب أفكاره التي يحملها في رأسه عن العالم الخارجي، يتضمن الاحتمال بأن تكون تلك الأفكار خاطئة، ثم يتضمن بالتالي أنه لا بد أن يكون هنالك فرق بين الفكرة الصائبة والفكرة الخاطئة، ولو لم يكن هنالك هذا الفرق لما كان لشك الإنسان معنى، فإذا ما تبين فيما بعد أن أفكارنا عن العالم صحيحة، كان ذلك برهانا قاطعا على أن هنالك هذا الفرق الذي أشرنا إليه بين ما هو صواب وما هو خطأ، وإلا لما عرفنا كيف نثق بعد البحث أن فكرة من أفكارنا صواب، وكذلك يقوم نفس البرهان القاطع على وجود الفرق بين الفكرة الصائبة والفكرة الخاطئة لو أننا انتهينا من بحث أفكارنا إلى أنها خاطئة، أريد أن أقول: إننا إذا شككنا في صحة أفكارنا، ثم إذا علمنا بعد البحث أن أفكارنا صواب أو أنها خطأ، ففي كلتا الحالتين برهان على أن هنالك ما يميز الخطأ من الصواب، وإذن فهذه في ذاتها بين أيدينا حقيقية ضرورية مطلقة لا يتطرق إليها الشك؛ لأنها نتيجة تنتج لنا من كلا الطريقين معا: من طريق إثباتنا لما نعرف، ومن طريق إنكارنا لما نعرف، فليس صوابا - إذن - ما يزعمه الزاعمون بأن المعرفة البشرية كلها نسبية، وأنه ليس هنالك من الحق ما هو مطلق لا يتغير صوابه بتغير الظروف؛ لأنه لو كان الحق يتغير من إنسان إلى إنسان آخر، لما وجدنا عبارة يتفق كل إنسان على صدقها الضروري، لكن ها نحن أولاء قد استولدنا عبارة من عملية الشك نفسها وهي: «أن هنالك فرقا بين حالتي الصواب والخطأ»، إن أشد منكر للحق المطلق لا بد أن يثبت ذلك الحق المطلق من إنكاره نفسه؛ لأنه سيقول عبارة كهذه: «ليس هنالك حق مطلق.» وستكون هذه العبارة عنده حقا مطلقا، فكأنما هو يقول - إذن: «أن ليس هنالك حق مطلق إلا عبارة واحدة هي قولنا بأنه ليس هنالك حق مطلق.»
8
وما دام فيلسوفنا قد اطمأن إلى الأساس، اطمأن إلى أن الوصول إلى الحق المطلق ممكن؛ فقد أخذ بعد ذلك يبحث عما عساه أن يكون حقا في علمنا بالكون، فمن ذلك أنه يرى استحالة أن يكون العالم قد نشأ في الواقع نشأة مادية أول الأمر، ثم أنشأ بعد ذلك عقولا تدركه؛ لأن العالم والعقل الذي يدركه وجهان لحقيقة واحدة ومحال تصور أحدهما بغير الآخر، محال أن يكون هنالك شيء ما دون أن يكون معه في الوقت نفسه ذات تعرفه، ولو كان صوابا أن المادة قائمة أو يمكن أن تقوم بذاتها مستقلة عن أي عقل يدركها، فكيف يمكن لإنسان أن يدرك هذه الحقيقة؟ كيف يمكن لإنسان أن «يعرف» (والمعرفة حالة عقلية) بأن هنالك شيئا خارج عقله موجودا وجودا مستقلا بغض النظر عن إدراك عقله له أو عدم إدراكه؟ إن مجرد كون الشيء موضوعا لحكمك بأنه كذا وكذا، يجعله فكرة في عقلك،
9
وفي هذا نقد لكل من يزعم بأن في العالم جوانب يستحيل على الإنسان إدراكها، ففيه نقد ل «كانت» ومذهبه القائل بأن الإنسان يعرف من الأشياء ظواهرها، أما «الأشياء في ذاتها» فمستحيلة الإدراك، وكذلك فيه نقد ل «هربرت سبنسر» في رأيه القائل بأن وراء العالم الطبيعي جانبا مستحيل على الإنسان معرفته، كل هذه مزاعم - في رأي «رويس» - تنقض نفسها؛ لأن مجرد حكمك على أي شيء، مهما يكن نوع ذلك الحكم، هو في ذاته دليل على أن ذلك الشيء قد أصبح جزءا من فكرك.
ومن البراهين التي يسوقها «رويس » على مثاليته، يسوقها ليؤيد بها أن العالم عقل مطلق، ونحن الأفراد بعقولنا أجزاء من ذلك العقل المطلق المشترك بيننا، أقول: إن من براهينه على ذلك برهانا قويا رغم سهولته، فأولا كيف أعرف أن ما أمامي الآن منضدة؟ إني أعرف ذلك - كما أسلفنا القول - بإدراكي الحسي الحاضر مضافا إليه إدراكاتي السابقة التي احتفظت بها في الذاكرة، والتي أستطيع استعادتها وتصورها تخيلا؛ أي إنني حين أعرف أن هذه منضدة لا أعتمد فقط على إدراك اللحظة الحاضرة، بل لا بد من مجاوزتها إلى خبرة الماضي أستعين بها لأعرف ماذا أمامي، وإلا فلو اكتفيت بإدراكي الحسي الحاضر وحده لما كان هنالك فرق بيني وبين الطفل الرضيع، وهو ينظر إلى المنضدة، ولا يعرف ماذا يرى، وإذن فلا بد من الاستعانة في إدراكي للأشياء بالمحصول المدخر في نفسي من خبرات الماضي، فافرض أنني وإياك قد نظرنا إلى منضدة بعينها، واختلفنا على شيء فيها، كأن نختلف - مثلا - على نوع الخشب الذي صنعت منه، أما أنا فأقول إنها من خشب الزان، وأما أنت فتقول: إنها من خشب البلوط، فكل منا إنما يستمد حكمه من خبراته الماضية، أي يستمده من داخل نفسه، من حصيلته الفكرية التي لا يراها أحد في الدنيا سواه، وإذن فنحن إذ نختلف فيما بيننا، إنما نقيم اختلافنا على أساس أن هنالك - خارج عقلك وعقلي - حقيقة موضوعية، هي المنضدة ذات الطبيعة المعينة، لكننا يستحيل أن نلتقي على موضوع مناقشتنا إذا لبث كل منا مقتصرا على عقله الفردي وحده؛ لأن كلا منا عندئذ سيكون بمثابة المغلق على نفسه بين جدران برجه، ولا سبيل إلى الالتقاء بين المتناقشين، إذن لا بد أن تكون المنضدة الخارجية وأنت وأنا جميعا أجزاء من شيء واحد يحتوينا، وبذلك يمكن لنا أن نلتقي معا على موضوع لا هو جزء من عقلك ولا جزء من عقلي، فنحن الثلاثة فكرات في عقل مطلق، وعندئذ تكون المنضدة في حقيقتها الموضوعية فكرة في العقل المطلق، يمكن لي ولك أن نصحح عليها أفكارنا عنها.
ويميز «رويس» بين نوعين من المعرفة؛ المعرفة بالإدراك المباشر، والمعرفة بالوصف، فأنا أعرف بياض الورقة التي أمامي بإدراكي المباشر لها، وأحس الألم في ضرسي بإدراكي المباشر له، وهكذا أحس جمال الشيء الجميل كما أدرك الخير في الفعل الفاضل، وأما المعرفة بالوصف فهي تلك التي نعبر عنها بكلمات اللغة وعباراتها، إن المعرفة بالإدراك المباشر محال نقلها من شخص إلى شخص، إذ كيف يمكنك أن تنقل إلي ألما تحسه، أو جمالا تراه، أو لونا ينطبع على شبكية عينك أو ضغطة على أصابعك؟ فماذا تصنع لو أردت أن تنقل إلي خبراتك هذه؟ إنك عندئذ تلجأ إلى كلمات تقولها، لكن الكلمات ليست هي إحساسك المباشر، وإذن فالمنقول إلي منك ليس هو خبرتك المباشرة كما خبرتها، بل رموز لفظية تشير إليها، وتدل عليها فقط، حاول مثلا أن تنقل إلى من تتحدث إليه، خبرتك المباشرة عن صديق تحبه، فماذا في وسعك سوى أن تمضي في وصفه جهد استطاعتك، فتذكر له طوله ووزنه وعمره ولون بشرته، وطريقة نطقه بالكلام، وطريقة مشيته، وتناوله الطعام، وأنواع الثياب التي يرتديها وهكذا وهكذا، لكن يستحيل أن تستنفد هذه «الأوصاف» صديقك، بل سيظل في نفسك منه جوهره وصميمه، سيبقى في نفسك منه ذلك الجزء الذي جعله عزيزا لديك، وجعله فردا متميزا بطبيعته، سيبقى ذلك الجزء مستحيلا على الوصف بالكلمات.
وهكذا قل في سائر المدركات، فلكي يتبادل الناس المعارف بينهم، تراهم يلجئون إلى وصف ما يمكن وصفه مما يعلمونه، على أن يبقى دائما في نفوسهم مما يعلمونه جزء، هو إدراكهم المباشر الذي يحسونه من الشيء موضوع علمهم، دون أن يستطيعوا نقله إلى سواهم. يختار الناس في تبادلهم العلم بالأشياء، جوانبها التي يمكن قياسها، ويمكن وصفها، ومن ذلك يتكون «علم» بالعالم من هذه الجوانب الممكنة الوصف وحدها، لكنه بالبداهة «علم» مجرد، جردناه من الأشياء، ولم نستنفد به الأشياء من كل أقطارها ونواحيها، لقد جردنا من الأشياء بعض جوانبها ، وتركنا في أنفسنا منها جوانب، جردنا منها «الظواهر» التي تخضع للعدد وللقياس وللوصف وللتحقيق بالمشاهدات العلمية والتجارب، ولا بأس في ذلك على شرط ألا ننسى أبدا أن هذا الذي نقوله عن الأشياء بعضنا لبعض إنما يمس ظواهرها التي يمكن وصفها، ولا يتناول البتة صميمها ولبابها وجوهرها، فكل ذلك يقع في النفس وقوعا مباشرا، ونقله محال، والعلوم الطبيعية على اختلافها من هذا النوع من المعرفة الذي يتناول من الأشياء ما يوصف ويترك منها ما يستحيل نقله؛ ولذلك فهي تتناول من الأشياء ظواهرها التي يمكن تصنيفها وقياسها ومشاهدتها وإجراء التجارب عليها.
نعم إن عالم الوصف - وهو العالم الذي تجعله العلوم موضوع بحثها - عالم حقيقي واقع، وليس وهما ولا خداعا، لكنه مع ذلك ليس هو كل الحق، بل ليس هو أهم جانب من جوانب الحق؛ إذ هناك إلى جواره جانب آخر، هو الجانب الذي نتلقاه في أنفسنا بإدراكنا المباشر، ويستحيل علينا نقله بالعبارات اللغوية، فكما قلنا في مثال صديقك الذي تحبه وتعزه، إذا ما أردت «وصفه» للآخرين، فلن يسعك إلا الوقوف منه عند الجوانب التي يمكن وصفها، وأما «شعورك» بمنزلته في «نفسك» فشيء سيظل إلى الأبد ملكا لك محال أن يشترك معك فيه أحد آخر، وهكذا قل في كل شيء، فاللون الأخضر الذي ينطبع على عيني عند رؤية الشجرة لا يمكن نقله إلى سواي؛ لأنه إدراك مباشر، وكل ما أستطيعه في علم الطبيعة إزاءه هو أن أقيس موجته الضوئية التي منها يتكون انطباعي الحسي باللون الأخضر، لكن طول الموجة الضوئية شيء يختلف كل الاختلاف عن الإحساس باللون كما يقع عند الشخص المدرك، فكأنما العلم عند قياسه لطول الموجة الضوئية التي تكون إحساسي باللون الأخضر، إنما يقف عند «ظاهرة» تصاحب إحساسي باللون، ولا يتناول الإحساس اللوني نفسه، فهو يأخذ أقل الجانبين أهمية، ويترك أكثرهما تكوينا لخبرتي، وأمسهما بنفسي، فلا شأن لخبرتي ونفسي بالموجات وأطوالها، إنما الخبرة النفسية خبرة بألوان.
عالم الوصف هو عالم العلم، وهو حقيقي إلى الحد الذي يمتد إليه، حقيقي في المدى الذي يتناوله، والمدى الذي يتناوله هو مدى الظواهر التي نكشطها كشطا ونجردها تجريدا من السطح، ليبقى اللباب بعيدا عن تناوله ، فلا بد من تقدير العلم بقدره الصحيح، فلا نقص ولا زيادة، ومن سبيل الإسراف في تقديره أن نظن أنه يقول الحق كله عن العالم، أو يمكنه أن يقول ذلك الحق كله، مع أننا قد رأينا أنه بحكم اعتماده على الوصف، فلا بد أن يتقيد بالجوانب التي يمكن وصفها دون الجوانب التي تكون في صميم خبراتنا، ومع ذلك فوصفها محال.
لكن ماذا نحن صانعون إزاء هذه الخبرة الخاصة التي تقع لكل منا على حدة، والتي لا يمكن نقلها بعضنا إلى بعض بوسيلة الوصف والتعبير، هل نيأس من الاشتراك فيها معا؟ لا، لا يأس، فهنالك الطريق إلى ذلك، لكنه ليس طريق الوصف، أي ليس طريق العلم، وإنما طريقه هو الفلسفة التي تكشف لنا أننا في الحقيقة لسنا أفرادا مستقلا أحدنا عن الآخر، بل نحن أجزاء من نفس كلية تطوينا جميعا في جنباتها، أجزاء من «المطلق» أو الله، فإذا ما أدركنا ذلك، عرفنا أننا خلال هذا الاشتراك في عقل واحد كبير، يمكن لأحدنا أن يدرك إدراكا مباشرا ما يستقر في عقل الآخر، فما قد يطوف بخبراتنا الذاتية الخاصة، مما قد نظنه عابرا يأتي ثم يمضي، هو جزء لا يفنى من مجموعة الخبرة الكونية الكبرى، وإذن ففي اتصالنا بالحقيقة الكونية وسيلة إلى إدراك ما نريد إدراكه، من الحقائق الذاتية التي يعز على العلم ولغة العلم أن تكشفه لنا.
10
إن كانت علاقة العقل المطلق، أو الله، بعقول الناس الأفراد، هي أن هذه العقول الجزئية أجزاء من ذلك العقل الكلي؛ بحيث تستطيع أن تنساب فيه، فتطلع على ما كان يستحيل عليها أن تدركه في عالم الحواس، فما علاقة الله بالعالم الطبيعي؟ علاقته به هي نفسها العلاقة القائمة بين عقل الإنسان الفرد وجسده، فلنا أن نسأل الآن: كيف يتصل عقل الإنسان بجسده لنقيس على ذلك علاقة الله بالعالم الطبيعي؟ فالجسد بحركته وسلوكه يعبر عن الذات العاقلة، لكنه يعبر عنها في الجوانب التي يمكن وصفها، ويمكن للآخرين مشاهدتها، يعبر عنها في الجوانب التي يمكن خضوعها للقياس، أما بقيتها المضمرة فمكنونة مصونة لصاحبها وحده، يدركها بالتأمل في نفسه، فإن أحسست في نفسي عزما وإرادة على القيام بعمل ما، ثم أديت ذلك العمل، فالطرف البادي لأنظار المشاهدين هو الطرف الخارجي، طرف العمل الذي أديته، وأما الطرف المضمر في نفسي، الدفين في ذاتي، الذي لا يراه أحد سواي، فهو جانب العزم والإرادة، فإن جاء مشاهد ووصف ما رآه مني، فإنما يصف الجانب الظاهر، ويستحيل عليه أن يتغلغل إلى الجانب الباطن ليراه فيصفه، إلا أنه يستطيع أن يستدل ما خفي عنه مما ظهر له، قياسا على ما يراه في نفسه هو، ولولا هذا القياس على نفسه لما استطاع أبدا أن يلم أقل إلمام بما دار في نفسي إزاء ذلك العمل الذي أديته.
وعلى هذا القياس تكون علاقة الله بالعالم الطبيعي الظاهر، فهذا العالم هو الجسد الكبير الذي يعبر الله عن نفسه فيه، لكننا مهما دققنا النظر فيما نرى، فلن نرى إلا التعبير الظاهر من حركة ومادة؛ لأن الطرف الباطن هو - كما هي الحال في ذواتنا الجزئية - مستحيل على المشاهدين من خارج، وعلى هذا الاعتبار تكون الطبيعة كلها جسما حيا في طيه روح، ألست ترى من جارك جسدا يتحرك فتستدل على أن وراءه روحا تحركه قياسا على روحك التي تحرك جسدك؟ نعم، تفعل ذلك في غير تردد؛ لهذا الشبه الشديد الذي تراه بين سلوكه وسلوكك، لكنك كلما رأيت الكائن يبعد بنوع سلوكه عن نوع سلوكك، تأخذ في التردد، ثم في رفض أن يكون لذلك الكائن ما لك من روح، فقولك بوجود روح في الحيوان استدلالا من سلوكه أعسر عليك من قولك بوجود روح في زميلك الإنسان، لكنه مع ذلك جائز، ثم تزداد الصعوبة بالنسبة للنبات، فها هنا تراك أكثر ترددا في القول بوجود روح فيه كما هي الحال فيك؛ لأن سلوك النبات قد بعد جدا عن نوع السلوك الذي يسلكه الإنسان، ومع ذلك فهو قول ليس بالمستحيل على كثير من الناس، حتى إذا ما جئنا إلى الجماد وجدت نفسك رافضا كل الرفض أن يكون في الصخرة أو قطعة الحديد روح، كذلك الروح الذي تدركه في ضميرك إدراكا مباشرا؛ لأن أساس الاستدلال هنا قد انهار، فلا شبه بينك وبين الصخرة أو قطعة الحديد في السلوك الظاهر؛ ومن ثم فليس فيهما ما تراه في نفسك من ذات شاعرة واعية، لكن ألا يجوز - كما يقول «رويس» - أن يكون الفرق راجعا إلى اختلاف في سرعة التتابع الزمني أو بطئه، بحيث نقول عن الشيء أنه يشبهنا في سلوكه إذا رأيناه في تتابع حركته تتابعا زمنيا يقرب مما نراه في سلوكنا، كما نقول عن الشيء إنه لا يشبهنا حين يسرع فيه ذلك التتابع أو يبطئ؟
11
ألا يجوز أن يكون سلوك الإنسان - عادة من عاداته مثلا - شبيها بدورة الأرض كل يوم مرة حول نفسها، أو كل عام مرة حول الشمس، لكننا إذا ما رأينا بطء الحركة في أداء الطبيعة لعاداتها بالقياس إلى سرعتها في أداء الإنسان لعاداته كالكلام والمشي، تعذر علينا أن ندرك وجه الشبه بين الإنسان في سلوكه والأرض في سلوكها، وعلى كل حال، فليس حتما أن نفترض أن في كل شيء مادي، كهذه المنضدة أو هذه القطعة من الصخر أو الحديد، روحا خاصا به، لكي نقول عن العالم الطبيعي إنه جسد حي، بل يكفي أن نفترض أن هذه الأشياء أجزاء من جسم أكبر، والجسم الأكبر هو الحي، وإن لم يظهر ذلك في أجزائه، والخلاصة هي أن الكون الأكبر - كالإنسان الأصغر - جسد وروح، فأما الجسد فهو عالم الطبيعة، وأما الروح الذي يبث في الجسم حركته ويسير به هنا أو هناك؛ فهو لله.
ولما كان «المطلق» (أو الله) مشتملا على كل شيء، فلا يمكن - بداهة - أن يحده شيء خارج نفسه؛ ومن ثم فهو الذي يختار لنفسه طريق فعله، أي إنه حر، لكن حريته هذه التي تعني ألا شيء خارج نفسه يقسره ويضطره إلى فعل معين، أقول: إن حريته هذه ليس معناها بالطبع ألا تجري الحوادث على نظام مطرد، وليس ثمة في الطبيعة كلها مكان للمصادفة، وبعبارة أخرى فإن الكون حر في كليته مجبر في أجزائه، وأما الإنسان فهو - عند رويس - كذلك مجبر بذاته (فالإنسان صورة مصغرة للكون) أي إنه حر إذا ما نظرنا إليه من ناحية نفسه الجوهرية التي تجعل منه فردا متميزا عن كل فرد سواه، لكنه من ناحية ظواهره السلوكية التي هي تعبير عن تلك النفس الباطنية، خاضع لقانون السببية كأي ظاهرة أخرى من ظواهر الطبيعة، ونعود إلى التفرقة التي فصلناها فيما أسلفنا، التفرقة بين جانبي الإنسان: جانب ذاته التي لا يدركها أحد سواه، وجانب جسده الذي هو مكشوف للمشاهدة الخارجية، فنقول: إن الجانب الأول - وهو الذي يخلع على الإنسان قيمته الروحية - حر في اختياره؛ ولذلك فهو مسئول عن أفعاله، وأما الجانب الثاني فجزء من الطبيعة التي تخضع في سيرها لقوانين السببية والاطراد، ولذلك فهو الجزء الذي يمكن أن يخضع للبحث العلمي، فلك أن تعيش حرا إذا أنت أبرزت من نفسك فرديتك المتميزة التي لا يشاركك فيها إنسان آخر، ولك أن تعيش عبدا إذا أنت أهملت ذلك الروح الفريد من شخصك، بحيث أصبحت جسما يتحرك في المكان وفق القوانين الطبيعية كما تتحرك سائر الأجسام.
ولما كان «رويس» يهتم كل هذا الاهتمام بالشخصية الإنسانية؛ فهو يؤكد خلود الأفراد ولا يغرقهم في «المطلق» على الرغم من أنهم جزء منه؛ إذ يعتقد ألا تناقض بين أن تبدأ الذات الفردية وجودها في الزمان - أعني ألا تكون أزلية - وبين أن يكون وجودها قائما إلى الأبد، فكل فرد إن هو إلا وجه متعين من أوجه الحياة الإلهية المطلقة، ويضرب لذلك مثلا جيدا يصور ما يريد، وهو مثل يسوقه من الأعداد، فمن داخل سلسلة الأعداد اللانهائية تستطيع أن تستولد سلاسل، كل منها لانهائي أيضا، ومع ذلك فكل منها له طابع فريد يميزها، كما يتبين مما يأتي:
1
2
3
4 ... ...
إلى ما لا نهاية
2
4
8
16 ... ...
إلى ما لا نهاية
3
9
27
81 ... ...
إلى ما لا نهاية
5
25
125
625 ... ...
إلى ما لا نهاية
7
49
343
2401 ... ...
إلى ما لا نهاية
فالسلسلة العددية الأولى - المكتوبة فوق الخط - وهي سلسلة الأعداد الصحيحة كلها، لانهائية وهي التي نصور بها هنا «المطلق» الذي يشتمل على كل شيء، وكل سلسلة مما تراه مكتوبا تحت الخط، هي كذلك سلسلة لانهائية، ومع ذلك فهي أولا مشتملة في السلسلة الأولى، وثانيا تتميز بطابع فريد يجعلها وحدة قائمة بذاتها، وكل واحدة من هذه السلسلات العددية المكتوبة تحت الخط نمثل بها فردا من أفراد الإنسان، وواضح من هذا ألا تناقض بين أن يكون الأفراد أجزاء من المطلق، وأن يكونوا قائمين إلى الأبد بفرديتهم المتميزة.
12
ولفلسفة «رويس» جانب طريف ختم به تفكيره الفلسفي، وهو الجانب الذي تراه في كتابه «فلسفة الولاء»،
13
فهو يذهب في هذا الكتاب إلى أن الولاء في ذاته خير أسمى، بغض النظر عن القضية التي تتخذها موضع ولائك، ومع ذلك فمن وجهة نظر الحياة الكلية، ينبغي أن نحدد ما يكون حقيقا بولاء الإنسان، وهذا - في رأي «رويس» - لا بد أن يكون شيئا مما ينسق أكثر من حياة واحدة في وحدة، فما يستحق من الإنسان ولاءه ينبغي أن يكون شيئا يحتفظ له بذاتيته المستقلة من ناحية، ويدمجها في ذات أعلى منها من ناحية أخرى، وهو يبسط فكرته فيقول: إن العلاقة بين أي اثنين - شيئين أو شخصين أو عقلين - يستحيل أن تكون تامة التناغم والاتساق؛ ولذلك فاقتصار الصلة على اثنين مصدر للخطر؛ لأنه سيحدث بينهما تضارب في المصلحة، أو احتكاك يؤدي إلى التنافر، وإذن فنواة الجماعة المتسقة هي الثلاثة لا الاثنان، ففي الثالوث يمكن للعضو الثالث أن يزيل ما قد يحدث بين الاثنين الآخرين من سوء في التفاهم، وعلى ذلك فنواة المجتمع ثلاثة، وهو يسمي مجتمع الثالوث «بمجتمع التأويل»؛ لأنه قائم على أساس أن العضو الثالث يؤول أو يفسر لكل من الاثنين الآخرين قصد زميله، حتى لا يقع بينهما خلاف، وإن شئت فسمه «بمجتمع الوساطة»؛ إذ يتوسط كل بين الزميلين الآخرين ليمنع بينهما أسباب التنافر، وفي الحياة أمثلة كثيرة «لمجتمع الوساطة» هذا، فمثلا إذا قام في العالم معسكران يتقاتلان ، وقامت بينهما «محكمة العدل الدولية»، فهذا مجتمع فيه وساطة، ولولا العضو الثالث فيه لما انتهى القتال بين الطرفين المتحاربين، وكذلك قل في كل محكمة، فهي بالإضافة إلى المدعي والمدعى عليه، تكون «مجتمع وساطة»، وقد علق «رويس» آمالا كبارا على هذا المجتمع الثلاثي في استقرار الحياة الإنسانية وطمأنينتها لو أقام الناس مجتمعهم على أساس هذه الفكرة؛ لأنه عندئذ سيكون دائما بين كل طرفين طرف ثالث يمنع الشحناء والتصادم، فكأنما يصبح الثلاثة حياة واحدة، ولما كان ولاء الطرفين للطرف الوسيط، ثم ولاء هذا الوسيط لفكرة الولاء ذاتها، هو الأساس الذي ينبني عليه حسن التفاهم بين الثلاثة جميعا، كان هذا الولاء الذي يدمج مجموعة الأفراد في حياة واحدة هو القمة التي انتهى إليها «رويس» بفلسفته.
الفصل الرابع
منطق العلم والعمل
(1) العلم يسود
قد كان يستحيل أن يندفع التفكير الفلسفي إلى حد التطرف في المثالية - كما رأيت عند جوزيا رويس - في بلد هيأته الظروف للعمل، وفي زمن غمره فيض من الإنتاج العلمي، دون أن يأخذ هذا التفكير في العودة إلى تطرف آخر يمعن فيما أخذت به العلوم من مبادئ التجارب العملية، فلئن كانت الفلسفة قد لبثت خلال عصور طويلة خادمة للدين - كما قيل عنها - فقد آن لها أن تخدم سيدا آخر، هو العلم، الذي كتبت له السيادة في عصرنا الحديث، ولعل الفاصل بين مرحلتين متتابعتين من مراحل التفكير الفلسفي، لم يبلغ قط من الاتساع والعمق، ما بلغه الفاصل بين المرحلة الحديثة التي بدأت في النصف الثاني من القرن الماضي، وبين المراحل السابقة جميعا،
1
وإنما الفارق الجوهري بين العهدين هو هذه النظرة العلمية التي شملت الحياة الإنسانية في شتى جوانبها.
وليس الأمر في ذلك مقتصرا على أن طائفة من النتائج العلمية قد انتهى إليها العلماء، وما أدت إليه تلك النتائج من تغير في أوضاع الحياة، بل كان أهم من هذا وذلك، أن ازداد اعتماد الناس على العلم والعلماء في حل مشكلاتهم على اختلاف ضروبها، وازداد بالتالي إقبال الناس على الدراسة العلمية، ولا غرابة في هذا التحول السريع، بعد أن تحول وجه الحياة كلها نتيجة للانقلاب الصناعي ولواحقه؛ إذ أصبحت ملايين الناس صناعا في المدن بعد أن كانوا زراعا في الريف، واشتد الاهتمام بموارد الطبيعة وطرائق استغلالها واستخدامها، فلم يكن بد من تغيير أساسي شامل لأنظار الناس، ولم يكن بد كذلك من أن ينعكس هذا التغيير في مذاهب الفلسفة ومناهجها.
فإذا أردت فكرة واحدة رئيسية يجوز لك أن تتخذها محورا لما أصاب الفلسفة من تغير في العصر الحديث، تغيرا هو إلى الثورة أقرب منه إلى التطور، فقل إنها الانتقال من البحث عن «العنصر الثابت» إلى البحث عن «مبدأ الصيرورة»، ذلك أن الكثرة الغالبة من الفلاسفة فيما مضى كانوا يؤمنون بأن وراء هذا التغير البادي في ظواهر الطبيعة عنصرا أو عناصر ثابتة دائمة لا تتحول ولا تتبدل، وجعلوا همهم البحث عن ذلك العنصر الثابت أو العناصر الثابتة، فهذا الإنسان - مثلا - ما ينفك متغيرا في أحواله وأطواره فهو طفل وشاب وكهل وشيخ، وهو آنا صحيح البدن، وآنا مريض، لكنه مع ذلك يحتفظ بذاتية واحدة مستمرة رغم ما ينتابه من تغير، وإذن فعلينا أن نزيح هذا الغشاء المتبدل لنكشف وراءه عن حقيقته الثابتة، من روح أو نفس أو عقل أو ما شئت من أسماء، وقل هذا في كل شيء؛ في المنضدة والشجرة والنهر والجبل، بل قله عن الكون بأسره جملة واحدة باعتباره كائنا واحدا ... هكذا كانت الفلسفة فيما مضى - إلا استثناءات قليلة جدا - تبحث عن الثبات وراء التغير، أما اليوم فقد جاءها العلم بفكر جديد - وعلى رأسه فكرة التطور - جعل هذا التغير نفسه هو طبيعة الأشياء وحقيقتها؛ ومن ثم أقلعت عن البحث عما ليس له وجود، وطفقت تجاري العلم في وجهته، وتوازيه في منحاه، فتجعل التغير والتطور والسير والترقي مدار بحثها.
ولك أن تصف هذا الانتقال بالفلسفة من مجال البحث عما هو ثابت إلى مجال النظر فيما هو متغير بحكم طبيعته، لك أن تصف هذا الانتقال بعبارة أخرى، فتقول: إنه انتقال من اللاهوت وما يجري مجراه إلى العلم وما يدور مداره؛ فقد كان اللاهوت يغض النظر عن الظواهر المتغيرة ليبحث فيما هو ثابت وراء هذا التغير، فوراء الكون المادي المتغير إله ثابت، ووراء جسم الإنسان المتغير روح ثابت، ووراء أي شيء مادي متغير عنصر ثابت وهكذا، وكانت هذه «الثوابت» أعلى منزلة من ظواهرها المتغيرات، بل كثيرا ما انتهى الأمر بالفلاسفة إلى إنكار وجود هذه المتغيرات إنكارا يبطل وجودها، حتى لا يتصف بالوجود إلا ما هو حق مطلق لا يتغير مع تغير المكان والزمان.
ذلك كان أمر اللاهوت وما اقتضاه من تفكير فلسفي مثالي على مر العصور، ثم جاء العلم الحديث، وفي مقدمته فكرة التطور، فلم يعد هنالك ما هو «ثابت»؛ لأن الطبيعة كلها تغير دائم وتطور دائب، لم تعد تستطيع - كما كنت تستطيع فيما مضى - أن تصنف الكائنات أجناسا وأنواعا؛ بحيث يظل التقسيم إلى الأبد قائما؛ وذلك لأن الكون متطور تتغير أجناسه وأنواعه؛ فقد كان الإنسان - مثلا - يعد نوعا قائما بذاته لا صلة بينه وبين سائر الكائنات من حيث التقسيم، فإذا هو الآن حلقة من حلقات التطور في عالم الحيوان، وكذلك كان الإنسان نوعا قائما بذاته من حيث اتصافه بالعقل والذكاء مما لا يتصف به كائن سواه، وإذا هذا الإنسان اليوم بعقله وذكائه ظاهرة طبيعية تنساب في مجرى الطبيعة بما فيها من شتى الظواهر، فإن كان للإنسان ذكاء عقلي يتميز به، فما ذاك إلا وسيلة بيولوجية يتصل عن طريقها ببيئته ليحيا، كما لكل كائن حي آخر وسيلته التي يتصل بها مثل هذا الاتصال.
حل العلم محل اللاهوت سيدا تخدمه الفلسفة وتتبعه، فأصبحت شارحة للعلم بعد أن كانت مؤيدة للدين، وبات «المعمل» ومناهجه ونتائجه ميدان الفلسفة كما هو ميدان العلوم؛ العلوم تجري التجارب وتنتج النتائج، والفلسفة وراءها تحلل وتشرح وتستخرج المضمون وما يقتضيه بالنسبة إلى الحياة الإنسانية، بعد أن كان «الدير» أو ما يشبهه من أبراج وصوامع ملاذ الفلسفة كما كان ملاذ الدين؛ فالدين يستلهم الوحي والفلسفة من ورائه تسنده وتؤيده، قد أصبح المعمل هو ميدانها، فلا غرابة أن يقول «بيرس» - الذي سنحدثك عنه في هذا الفصل بعد قليل: إن الفكر في عصرنا هذا العلمي العملي لم يعد بحاجة إلى السكون والظلام اللذين كان يستعين بهما فيما مضى، بل أصبحت حياته مرتبطة بتجارب المعامل التي تقام في وضح النهار.
2
هذه الفلسفة العلمية العملية، التي يطلق عليها اسم الفلسفة البراجماتية، قد أصبحت طابعا يميز التفكير الأمريكي حتى ليرتبط بها هذا التفكير على أقلام الكتاب وألسنة المتكلمين في أرجاء العالم ارتباطا يجعل الواحد منهما دالا على الآخر، فإن قيل «فكر أمريكي» وثب إلى الأذهان صفته البراجماتية، وإن قيل «فلسفة براجماتية» ورد على الخاطر معها الفكر الأمريكي ورودا مباشرا، وساعد على هذا الارتباط بين الموصوف وصفته - فضلا عن أنها فلسفة نشأت في الولايات المتحدة وتعهدها أعلام من أبناء تلك البلاد - أنها كذلك جاءت صورة تصور وجهة الثقافة الاجتماعية هناك، فليس في الولايات المتحدة بين الطبقات كل ما تراه في غيرها من فوارق وفواصل؛ إذ إن مكانة الفرد في المجتمع لا يحددها ما قد هبط إليه من أسلافه من ثروة أو جاه، إنما المقياس الذي يعلو به الفرد أو يهبط هو ما أنتجه إذن فالأساس هو العمل، هذا إلى أن العمل لم يعد هناك منفصلا عن القدرة العقلية كما كانت الحال في شتى عصور التاريخ، بحيث لا تستطيع وأنت في أمريكا أن تقسم الناس قسمين، فهذا مفكر وذلك عامل؛ لأن المفكر هناك إنما يفكر في مجال عمله، والعامل يطبق في عمله نظرات فكره، وبهذا اشتدت الصلة بين نشاط العقل من جهة، وعمل اليدين من جهة أخرى، ولم تعد التفرقة قائمة - كما كانت - بين الرأس واليدين، ففريق من الناس يحيون برءوسهم وفريق آخر يعيشون على كدح أيديهم، هذه التفرقة التقليدية التي برزت واضحة في جمهورية أفلاطون، والتي لا يزال أثرها واضحا في كثير جدا من أقطار العالم، وسايرت المدارس في أمريكا هذا الاتجاه، فأصبح كل متعلم تقريبا يمزج إلى حد كبير بين حياته العقلية ونشاطه البدني، ولم تعد الأبراج العاجية ملاذ الفلاسفة هناك، بل نشأ فلاسفتهم من ميادين العمل؛ إذ نشئوا في مزرعة أو مصنع أو سوق للتجارة، حتى إذا ما تحدث الواحد منهم عن هذه الأشياء، جاء حديثه عن خبرة شخصية، لا نقلا عن كتب قرأها في الزراعة أو في الصناعة أو في التجارة،
3
فإذا جاز أن نعد اعتزال الفلاسفة في أبراجهم ضربا من الأرستقراطية العقلية، وامتزاجهم مع سائر عباد الله في ميادين العمل نوعا من الديمقراطية، فلا شك أن الفلسفة البراجماتية - على هذا الاعتبار - تصبح انعكاسا للديمقراطية السياسية في مجال التفكير النظري.
على أن هذه الفلسفة البراجماتية ليست في حقيقة الأمر نباتا جديدا منقطع الصلة بالماضي، فها هو ذا أحد أعلامها «وليم جيمس» - وسنحدثك عنه في الفصل التالي - يقول عنها على غلاف العنوان نفسه الذي يصدر به كتابه فيها إنها «اسم جديد لطريقة قديمة في التفكير.» فماذا يعني؟ أكان التفكير فيما مضى مصطبغا بنفس الصبغة العلمية العملية التي تميز الفلسفة البراجماتية؟ وإن كان الأمر كذلك فأين الجديد؟ أم هي جدة في الاسم وحده، أما الطريقة فقديمة كما هو ظاهر المعنى في عبارة «وليم جيمس»؟ الجواب على ذلك يردنا إلى الفلسفة الإنجليزية التي كانت بغير شك وثيقة الصلة بالاتجاهات الفكرية في الولايات المتحدة، حتى لقد ظلت هذه الاتجاهات صدى لها قبل أن تتمخض عن لون أمريكي صريح، وطابع متميز فريد.
فالوجهة السائدة بين فلاسفة الإنجليز: بيكن ولوك وباركلي وهيوم ومل، هي الاعتماد على الخبرة الحسية، أي على التجربة كما تأتي بها الحواس مما تشاهده وتتأثر به، وإذن فلا جديد من هذه الناحية، أعني أنه لا جديد في انصراف المذهب البراجماتي إلى عالم الواقع كما يتبدى في خبراتنا الحسية، لكن الجديد هو في استبدال النظر إلى المستقبل بالنظر إلى الماضي، التجريبية الإنجليزية تلتفت إلى الوراء، إلى الماضي، والبراجماتية الأمريكية تنظر إلى الأمام إلى المستقبل، ذلك أن الفيلسوف الإنجليزي عندما أراد تحليل المعرفة الإنسانية، شغل نفسه بردها إلى أصولها، وبالنظر في كيفية اتصالها بتلك الأصول؛ إذ راح يحلل العلاقة بين الأشياء الخارجية، وما تطبعه على حواسنا من آثار وبين حصيلتنا من المعرفة التي تنشأ عن ذلك، أما المذهب البراجماتي فيربط معارفنا بعالم التجربة، لا من حيث النشأة، بل من حيث النتائج، فالفيلسوف الأمريكي إذ يقف أمام عبارة تعبر عن واحدة من أفكارنا، لا يسأل - كما يسأل زميله الإنجليزي: كيف نشأت؟ وكيف جاءت؟ بل يسأل نفسه: ما النتائج التي تترتب على هذه الفكرة في عالم الواقع؟
وإنه لمما يلفت النظر أن التجريبية الإنجليزية قد اتجهت نحو «النتائج» في مجالين من مجالات التفكير: في مجال العلوم، وفي مجال الأخلاق، لكنها لم تتجه هذه الوجهة في بقية التفكير النظري، فجاءت البراجماتية الأمريكية لتكمل هذا النقص، وتجعل النظر إلى النتائج مبدأ شاملا لميادين الفكر جميعا، نعم كان النظر إلى «النتائج» العملية رائد الباحث في العلوم، فلم يكن مقياس «الفرض» العلمي الذي يفرضه العالم في محاولته تفسير ظاهرة طبيعية، إلا ما يترتب على هذا «الفرض» من نتائج، فإن وجدت النتائج المترتبة على الفرض مطابقة لما يحدث في الواقع، أصبح «الفرض» نظرية علمية مأخوذا بها، وكذلك كان النظر إلى «النتائج» العملية رائد الفيلسوف الأخلاقي في إنجلترا - بصفة عامة - كما هي الحال مثلا في مذهب المنفعة الذي أخذ به «مل»، ومؤداه أن الفعل يكون فضيلة أو رذيلة حسب ما يترتب عليه من نتائج تسعد الناس أو تشقيهم، والفعل الذي ينشأ عنه أكبر مقدار من السعادة لأكثر عدد من الناس هو الفعل الفاضل، وإذن فلا تستطيع - وأنت إزاء فعل تريد الحكم عليه من الوجهة الخلقية - لا تستطيع أن تطلق هذا الحكم على الفعل، إلا بعد النظر إلى نتائجه التي ستترتب في عالم الواقع على أدائه، فإذا كان النظر إلى «النتائج» العملية في عالم الواقع هو مقياس الحكم على الفروض العلمية، ومقياس الحكم على الأفعال حكما خلقيا، فلماذا لا يكون هو نفسه مقياس الحكم على الفكرة كائنة ما كانت؟ لماذا وأنت إزاء فكرة ما، تريد الحكم عليها بصواب أو بخطأ؟ لا تنظر إليها من حيث نتائجها، فإن أنتجت عملا تصلح به حياة الإنسان كانت فكرة صائبة، وإلا فهي فكرة خاطئة، هذا هو أساس الفلسفة البراجماتية - الفلسفة العلمية العملية - التي هي طابع الفكر الأمريكي الحديث، فإذا كانت «البراجماتية» اسما جديدا لطريقة قديمة؛ فذلك لأن الطريقة كانت متبعة - ولا تزال متبعة - في ميدان العلوم، وفي ميدان الحياة اليومية، ثم أمسك الفلاسفة عن تطبيقها في مجال تفكيرهم النظري، فالطريقة قديمة كانت - ولا تزال - قائمة، وأما الجديد فهو تعميمها على كل ضروب الفكر، والفضل في هذا الجديد هو أولا ل «بيرس» الذي وضع الأساس، ثم ل «جيمس» و«ديوي» اللذين سارا على نهجه بعد شيء من التعديل عند كل منهما، وسنكمل هذا الفصل بالأول؛ لنقصر الفصل التالي على الآخرين. (2) «تشارلز ساندرز بيرس»
4
واصطناع المنهج العلمي
هو مثل من الأمثلة الكثيرة التي يعترف فيها الناس بالفضل بعد أن يمضي عن الحياة صاحب الفضل، فما أكثر هؤلاء الذين يجزيهم معاصروهم إهمالا بنبوغ، حتى إذا ما انقضت أعمارهم، تنبه أبناء الجيل التالي أو الأجيال التالية لما كان المعاصرون قد أهملوه وغمروه، فاعجب لهذا المفكر المبدع الفريد يتعذر عليه أن يجد منصبا علميا في جامعة إلا مرة واحدة بعد إخفاق تلاحق مرات عدة، ولا علة لذلك إلا أنه جدد وابتكر، ولم يذهب مع سائر أصحاب الفكر فيما ذهبوا إليه، ولد عام 1839م لوالد كان نجما لامعا في الرياضة والفلك في أمريكا، فكان هذا الوالد الرياضي أول عامل وأقوى عامل في توجيه «بيرس» وجهة التفكير العلمي الدقيق، حتى إذا ما شب درس في جامعة هارفارد علوم الرياضة والطبيعة، واشتغل معظم حياته باحثا علميا يبتكر الجديد، ويشق لنفسه في الفكر طريقا فريدا، فكانت الثمرة هذا الإنتاج الذي بدأ مدرسة فكرية جديدة، أخذت تضرب بجذورها، حتى أصبحت تنشر اليوم ظلها على الولايات المتحدة باسم الفلسفة البراجماتية، بل أخذت تمتد بفروعها خارج بلادها فيؤيدها المؤيدون، ويحترمها الناقدون، وجمع إنتاجه في مجلدات ستة هي «مجموعة أبحاثه»
5
ينقصها البناء الذي يضمها في نسق واحد، وإن لم تعوزها غزارة الفكر وأصالته.
لم يكن «بيرس» شعبيا في كتابته؛ ولذلك فهو يعسر على القارئين ممن لم يأخذوا أنفسهم بفهم مصطلحاته التي خلقها لنفسه خلقا ليبعد بألفاظه عن استعمالها في الحياة اليومية، إنه يريد الدقة في تفكيره وتعبيره، لكن الألفاظ السارية في الشئون الجارية معيبة بالغموض، فلو نقل هذه الألفاظ باستعمالاتها اليومية استحال عليه ما أراد لفكرته من دقة وتحديد؛ لذلك اضطر إلى صياغة ألفاظ خاصة به، روعي فيها أن تكون «غليظة»، حتى لا يستسيغها عامة الناس، فتسري بينهم فتعود إلى الغموض من جديد، وخير مثل يساق توضيحا لهذا الميل فيه، هو استعماله لكلمة «البراجماتية» نفسها التي شاعت بعد ذلك اسما لمذهبه؛ فقد كان السؤال الرئيسي الذي ألقاه على نفسه ليحاول الإجابة عنه هو هذا: ما هي «الفكرة»؟ متى يجوز لك أن تسمي العبارة «فكرة» ومتى لا يجوز؟ ولما انتهى إلى أن «الفكرة» هي ما «تعمله»، أي هي في نتائجها العملية المترتبة عليها، خشي أن يستعمل اللفظة الجارية الدالة على هذا المعنى، وهي لفظة
practice ، فصاغ لنفسه كلمة قريبة منها؛ لتدل على ما يريد، ولتكون اصطلاحا خاصا من مجال بحثه الخاص، وهي كلمة
pragmatism ، ولكن هل أنجاه هذا الحرص كله مما خشي الوقوع فيه؟ كلا، بل جاءه البلاء من رجال الفكر قبل أن يجيئه من سواد الناس؛ ذلك أنه حين ابتكر مذهبه هذا ابتكارا - وسنورد تفصيله فيما بعد - وابتكر له اسمه كذلك، إنما كان محوره الرئيسي هو أن يجعل كل تفكير يجري على أساس ما يجري في معامل العلوم الطبيعية، ولما كانت «الفكرة» في المعمل لا تقبل إلا إذا كان لها نتائج عملية يشاهدها كل من أراد أن يشاهد؛ فقد جعل هذا نفسه هو مبدأ نظريته في المعرفة؛ فالمعرفة - كائنة ما كانت - لا تستحق هذا الاسم إلا إذا كانت لها نتائج عملية يمكن لكل إنسان أن يشاهدها إذا أراد، لكن مذهبه هذا الجديد، باسمه هذا الجديد، لم يكد يتناوله سواه من أنصار المذهب أنفسهم، مثل «جيمس» و«ديوي» حتى حوروه، وجعلوا النتائج العملية التي تترتب على «المعرفة» لتكون «معرفة» جديرة بهذا الاسم مما يكون له أثر على الشخص ذاته صاحب المعرفة، فيكفي أن يقول صاحب الفكرة عن فكرته إن لها أثرا نفسيا في حياته لتكون فكرته هذه مقبولة على أساس المذهب البراجماتي، كأن يقول قائل مثلا إن عقيدته في الله ذات أثر عملي في حياته؛ لأنها تجعله أكثر تفاؤلا، وأشد إقبالا على صعاب الحياة ومشكلاتها، فتكون عقيدته تلك مقبولة من الوجهة البراجماتية؛ لأنها عقيدة ذات نتائج محسوسة في حياته العملية، لكننا إذا أخذنا بهذا التعديل، جعلنا المعرفة ذاتية فردية نسبية، وهو ما لم يرده «بيرس» الذي أصر على أن يكون مقايس الفكرة - أي فكرة - هو نفسه مقياس العلم للفكرة العلمية، وهو أن تكون عامة للناس لا ذاتية فردية، وأن يشهد الجميع نتائجها لا أن يكتفي في ذلك على صاحبها، رأى «بيرس» أن حرصه الشديد في البعد عن الألفاظ الجارية في الحياة اليومية لم ينقذه من تحريف أغراضه؛ إذ هكذا - كما رأيت - أخذ عنه أنصار مذهبه كلمته، لكنهم استخدموها فيما لم يرد هو أن يستخدمها فيه، فلجأ إلى تعديل الكلمة بإضافة حروف زائدة إليها، بحيث أصبحت
pragmaticism
لعلها بذلك «أن يكون لها من القبح ما يصرف عنها الخاطفين (اللصوص).»
6
ويدور المذهب البراجماتي عند «بيرس» حول محورين أساسيين، يلتقيان في النهاية عند نقطة واحدة، وهما مشكلة «المعنى»، ومشكلة «الاعتقاد»؛ أما الأولى فهي محاولة الإجابة عن هذا السؤال: متى يكون للكلمة أو للعبارة «معنى»؟ وأما الثانية فهي تجيب عن هذا السؤال: إن كان لدي اعتقاد معين بأن هنالك في العالم الخارجي شيئا ما ذا صفة معينة، فما التحليل الصحيح لمثل هذا الموقف؟ «معنى» الكلمة أو العبارة هو مجموعة ما يمكن للإنسان أن يؤديه من أعمال مسترشدا بالكلمة أو العبارة، وما ليس يهدي إلى عمل معين فلا معنى له، فالأفكار - أي الكلمات والعبارات - إما أن تكون خططا للسلوك العملي، أو لا تكون شيئا على الإطلاق، فإذا وجدت فكرة - مهما يكن من أمرها - لا تدلك على أنواع السلوك الذي تسلكه في عالم الواقع، فاعلم أنها فكرة باطلة، أو قل إنها ليست شيئا، وإنه لمما يلفت النظر بالنسبة إلى ما يصادف الإنسان في حياته الفكرية من مشكلات، أن بعض هذه المشكلات لا يجد سبيله إلى الحل مهما تقدمت المعرفة البشرية، على حين أن بعضها الآخر مصيره إلى الحل إذا ما توافرت للإنسان المعرفة الكافية لحلها، فلننظر إلى المشكلات التي من النوع الأول - وهي المشكلات الفلسفية التأملية - لعلنا ندرك السر في تعذر حلها، خذ مثلا لذلك مشكلة كهذه: هل العقل والمادة عنصران مختلفان، أم أن أحدهما يمكن رده إلى الآخر؟ أو مشكلة كهذه: هل الروح خالدة أم فانية؟ وسل نفسك لماذا استعصى أمثال هذه المشكلات على الحل بالرغم مما أنفق فيها الفلاسفة من جهود؟ أكان ذلك لأن الإنسان عاجز في علمه عن مواجهتها وحلها، أم لأن المشكلات التي من هذا القبيل بحكم طبيعتها مستحيلة على الحل، لا لأنها أصعب من أن يستطيع الإنسان حلها، بل لأنها ليست بمشكلات حقيقة، لأنها ليست بذات أفكار، وكل ما فيها كلمات لا تحمل معنى؛ لأنها لا ترسم سلوكا؟ وأول ما ينبغي أن تتنبه إليه في هذا الصدد هو أن المشكلة الحقيقية هي ما يحتمل الحل يوما ما، إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد مئات السنين، أعني أنه لا بد أن يكون الحل ممكنا، أما أن تكشف لنا إزاء مشكلة مزعومة أن حلها مستحيل بحكم طبيعتها، فعندئذ لا يجوز أن نكتفي بالقول عنها إنها مشكلة عسيرة، بل يجب إخراجها من عداد المشكلات الحقيقية؛ لأنها ليست منها، وإن تكن قد اتخذت صورة المشكلات الحقيقية بأن وضعت على هيئة سؤال يتطلب الجواب، فمتى نحكم على مشكلة مزعومة بأنها «زائفة»؟ نحكم عليها بالزيف إذا لم يكن موضوعها مما يدخل في حدود الخبرة البشرية فعلا أو إمكانا، ونضع هذا بعبارة أخرى، فنقول: إن المشكلة الزائفة التي يجب اطراحها هي التي تدور حول كلمات ليست بذات معنى؛ لأنها لا ترسم سلوكا، فمعنى الكلمة هو السلوك الذي يترتب عليها ولا معنى لها غير ذلك، فماذا في وسعك أن تعمله إزاء العقل والمادة لتعلم إن كانا عنصرين مختلفين أو لم يكونا؟ وماذا في وسعك أن تعمله لتعلم إن كانت الروح خالدة أو فانية؟ وعلى أي وجه يتغير السلوك إذا كان العقل والمادة عنصرين مختلفين أو متفقين؟ وماذا يكون نوع الآثار العملية المشاهدة في عالم الواقع حين تكون الروح خالدة، ثم كيف تتغير تلك الآثار العملية المشاهدة حين تكون الروح فانية؟ واضح ألا سلوك يقابل أمثال هذه المشكلات؛ وبالتالي فلا معنى، وإذن فهي مشكلات زائفة.
إن الناس يتفقون على المعنى المفهوم من «صلابة» الماس - مثلا - لأنهم يشتركون معا في مشاهدة السلوك الذي تعنيه كلمة «صلابة» وهو أن الجسم «الصلب» يخدش بقية الأجسام، وهو لا ينخدش بها، هذا سلوك تستطيع أنت ويستطيع كل إنسان أن يؤديه، وهو أن يمسك بقطعة المادة الصلبة، ثم يضغط بها على مادة ثانية فثالثة وهكذا، ويكون هذا السلوك الظاهر هو نفسه «معنى» كلمة «صلب» حين نصف الماس بالصلابة، ولك أن تسأل الآن: لماذا لا يتفق الناس على معنى كلمات مثل «حرية» و«ديمقراطية» وما إلى ذلك من كلمات، اتفاقهم على معنى كلمة «صلابة»؟ والجواب هو أن المعنى يتحدد حين يتحدد نوع السلوك المترتب على أمثال هذه الكلمات، وما دمنا لم نحدد بعد مثل هذا السلوك، بالنسبة لكلمة من الكلمات فستظل بغير معنى.
والعبارة تكون ذات معنى لو كانت كل كلمة فيها مما يمكن تحويله إلى سلوك وعمل، فإذا وقعنا من عبارة على كلمة لا ندري ماذا يكون السلوك الذي هو معناها، فسدت العبارة بأسرها وأصبحت كلاما خاليا من الدلالة، لا فرق في ذلك بين أي عبارة تقولها وبين العبارة التي يقولها عالم الطبيعة في معمله، فهذا العالم الطبيعي في معمله إذا ما استخدم كلمة - وحدها أو في عبارة - كان لا بد أن يكون ثمة ما يقابلها من إجراءات عملية تؤدى، فلو استخدم - مثلا - كلمة «ثقل» أو «سرعة» أو «انعكاس الضوء» أو ما شئت من كلمات، عرف ماذا يعمل إزاء الشيء المتصف بالثقل أو بالسرعة أو بالانعكاس، وهكذا الأمر في كل كلمة ، وكل عبارة يجوز النطق بها في أي موقف من مواقف الكلام الذي يراد به التفاهم بين الناس، ونعود الآن إلى سؤالنا الأول: متى تكون المشكلة التي يراد حلها مشكلة حقيقية؟ والجواب هو: تكون كذلك لو أمكن أن يخضع حلها للتجارب العملية، أعني أن يكون جوابها سلوكا يؤدى في عالم الواقع، وإلا فهي مشكلة زائفة.
الكلمة من كلمات اللغة، أو العبارة من عباراتها، هي بمثابة إرشاد لما يمكن عمله، وما لا تكون كذلك لا يجوز أن تكون جزءا من اللغة ذات المعنى، هكذا يجب أن نعرف الكلمات، فلا يكون تعريف الكلمة بكلمات أخرى، وهذه بأخرى، بحيث نظل ندور في كلمات ونوهم أنفسنا بأننا قد «عرفنا» معنى الكلمة المراد تعريفها، كلا، إنما تعريفها هو الخطة السلوكية التي هي منطوية عليها، «فحوى الكلمة أو العبارة إنما يقع بأسره في حدود دلالتها على ما يمكن أداؤه في الحياة السلوكية.»
7
وهي بغير معنى إذا لم يكن لها مثل هذه الدلالة العملية، وهذا المقياس العملي بعينه هو الذي نقيس به العبارة - لا من حيث معناها فحسب - بل من حيث كونها صوابا أو خطأ، فالعبارة من عبارات اللغة لا بد أن يكون شأنها شأن أي فرض علمي، بحيث يمكنك إزاءها أن تقول: لو كانت هذه العبارة صادقة لترتب عليها كذا وكذا في دنيا العمل والسلوك والتجارب، ثم تنطلق إلى هذه الدنيا التجريبية لترى هل يترتب عليها ما توقعته فتكون صحيحة وإلا فهي باطلة، لكن هب أنك إزاء عبارة يطلب إليك وصفها بصواب أو بخطأ، مع أنها لا تدلك على نتيجة واحدة عملية يمكنك الرجوع إليها لتفصل بها بين حالتي الصواب والخطأ، فهل يسعك عندئذ إلا أن تخرج مثل هذه العبارة من حدود الكلام المفهوم؟
ولما كان معنى العبارة هو نفسه ما يترتب عليها من عمل، نتج عن ذلك أن العبارتين إذا اختلفتا لفظا واتحدتا في العمل الذي يترتب عليهما، كانتا متحدتين في المعنى على الرغم من اختلافهما في اللفظ، والعكس صحيح أيضا، وهو أنه إذا اتفقت عبارتان في اللفظ، ثم ترتب على كل منهما عمل يختلف عن العمل الذي يترتب على الأخرى، كانتا مختلفتين في المعنى، وإن اتحدتا في اللفظ، ومن أنفع الأمثلة التطبيقية التي نسوقها لذلك، هذه الاختلافات التي تقوم بين المذاهب الفلسفية، والتي كثيرا ما تكون اختلافا في اللفظ فقط مع اتحادها في الجانب السلوكي، وإذن فلا اختلاف؛ وبالتالي فلا إشكال، مثال ذلك هذه المشكلة القائمة بين الواقعيين والمثاليين حول طبائع الأشياء، فهل للشيء الخارجي وجود مستقل عن الذات العارفة، أم أن وجوده ليس إلا ما تعرفه الذات عنه؟ يقول الواقعي إن للشيء وجودا مستقلا خارج الإنسان سواء عرفه هذا الإنسان أو لم يعرفه، ويقول المثالي إن الشيء موجود في إدراك الإنسان له، ولو لم يكن هنالك العقل الذي يدرك الشيء لما كان لهذا الشيء وجود، وبعبارة أكثر تفصيلا وتحديدا، يفرق الواقعي بين نوعين من صفات الأشياء الخارجية، فمنها صفات توجد في الشيء ذاته بغض النظر عن وجود الذات المدركة له، كشكله وحجمه، وهذه هي ما تسمى بالصفات الأولية، لكن هنالك إلى جانبها صفات ثانوية، كاللون والطعم، لا تكون في الشيء ذاته، بل تتكون عند من يدرك الشيء، فالشيء كما هو في الخارج لا لون له ولا طعم، وإنما اللون والطعم من صنع حواسنا، وأما المثالي فلا يفرق في ذلك بين صفات أولية وثانوية، ويجعلها جميعا من صنع العقل المدرك للشيء. هذان رأيان مختلفان عن طبيعة الشيء الخارجي، أهو قائم بذاته في الخارج مستقلا عن الإنسان، أم أن وجوده متوقف على وجود العقل المدرك؟ فكيف نفصل بين هذين الرأيين من حيث الصواب والخطأ؟ لو كان الأمر كلاما في كلام لما انتهينا إلى نتيجة حاسمة ولو لبثنا نناقش الأمر إلى يوم الدين، لكن طبق القاعدة البراجماتية في المعنى، وهي أن تسأل عن نوع السلوك الذي يترتب على قول الواقعي ونوع السلوك الذي يترتب على قول المثالي إزاء شيء معين، فماذا عسى أن أجد من النتائج العملية في هذه المنضدة التي أمامي إذا صح قول الواقعيين عنها ، ثم ماذا عسى أن أجد فيها إذا صح قول المثاليين عنها؟ ما هو الاختلاف في التجربة العملية بين الرأيين؟ إنه لا اختلاف، وإذن فالرأيان - على اختلافهما في اللفظ - متحدان في المعنى.
وننتقل الآن من مشكلة «المعنى» إلى مشكلة «الاعتقاد»، والمشكلتان مرتبطتان على كل حال إحداهما بالأخرى، وتؤديان إلى نتيجة واحدة، فما المقصود حين تقول: إن لديك فكرة أو اعتقادا بأن كذا وكذا صواب؟ يجيب «بيرس» أن المقصود ها هنا هو أن لديك عادة سلوكية معينة أنت شاعر بوجودها، وتستطيع ممارستها إزاء هذا الذي تقول عنه إنه صواب «... فالفكرة التي تظن بها الصواب تأويلها هو ما أنت على استعداد للقيام به من عمل إزاءها.»
8
ولنضرب لذلك مثلا يوضح ما يريده «بيرس» بهذا التحديد لمعنى الاعتقاد أو الفكرة، هبك قد رأيت على أرض الغرفة شيئا «اعتقدت» أنه ثقل من أثقال الحديد التي يحملها الرياضيون، فما معنى هذا «الاعتقاد» الذي نشأ لديك إزاء الجسم المعين الذي رأيته؟ معناه طائفة من القواعد تضبط بها سلوكك إزاء ذلك الجسم، فلو أردت السير على أرض الغرفة مارا به، وجب أن تدور حوله أو تخطو من أعلاه حتى لا تعثر قدمك عليه فتقع، وإذا أردت حمله، فلا بد أن تستعد لذلك استعدادا عضليا يتناسب مع ثقله المنتظر، وهكذا، هذه «النتائج العملية» التي تترتب على «اعتقادك» بأن ما أمامك ثقلا من حديد، هي نفسها مغزى ذلك الاعتقاد ومضمونه ومعناه، وقل هذا في كل «اعتقاد» لديك عن العالم الخارجي، وما فيه من أشياء، فلا يكون «الاعتقاد» جديرا باسمه إلا إذا كان دالا على أنماط من السلوك العملي حيال الشيء الذي يتعلق به ذلك الاعتقاد، لكن افرض أن قائلا زعم بأن على أرض الغرفة «شيطانا» لا تراه العيون، ولا تمسه الأيدي، ولا تعثر به قدم السائر، ولا يمكن حمله من مكانه، ولا زحزحته، ولا ينعكس عليه الضوء الساقط، فما هو السلوك الذي يقتضيه «اعتقاد» كهذا ممن يسير على أرض الغرفة، إنه لا سلوك؛ وبالتالي فليس «الاعتقاد» بذي معنى.
ويرتبط «بالاعتقاد » الشعور «بالشك»؛ لأنهما حالتان متصلة إحداهما بالأخرى، ذلك أنك لو «اعتقدت» في أمر معين، ثم سلكت إزاءه حسب اعتقادك فيه، فوجدت ما يعطل هذا السلوك أو يغيره على أي وجه من الوجوه، «شككت» في اعتقادك الأول الذي كان باعث ذلك السلوك أو بعبارة أخرى، يحدث الشك كلما وجدنا اختلافا بين السلوك الواقع والسلوك المتوقع، أما إذا كان السلوك الذي توقعناه هو نفسه السلوك الذي أجريناه، فيظل اعتقادنا الذي بعثنا على السلوك قائما، ونعود إلى ثقل الحديد الذي سقناه مثلا، فلو «اعتقدت» أو ظننت أن ما أمامك ثقلا ثقيلا من حديد، وأردت حمله، تأهبت لذلك بما يتناسب مع ذلك الاعتقاد، لكن افرض أنك حملته على هذا الظن، فإذا هو أخف جدا مما توقعت، فماذا يحدث لشعورك إزاءه؟ ستأخذك الدهشة أولا، ثم يأخذك «الشك» في صواب ما اعتقدته حين اعتقدت أنك مقدم على حمل ثقل من حديد؛ ومن ثم تغير من اعتقادك لتتخذ إزاء الشيء اعتقادا آخر يتناسب مع العادات السلوكية المطلوبة للتصرف حياله، كأن تعتقد - مثلا - أنه جسم مصنوع من ورق، أو من خشب، أو نحو ذلك، ويترتب على العقيدة الجديدة قواعد سلوكية جديدة، فلا تضعه في النار إذا لم ترد له احتراقا، ولا تقذف به من النافذة إذا شئت ألا يصيبه كسر أو عطب وهكذا، وها هنا نضع أيدينا على مبدأ منهجي خطير، وهو أن الباعث على التفكير العلمي والبحث المجدي هو الشعور بالدهشة الذي ينتابنا حين تدلنا المشاهدة على أن ظاهرة معينة من ظواهر الطبيعة لم تجر معنا في خبراتنا على النحو الذي توقعناه لها، فعندئذ فقط نشك فيما كنا قد اعتقدناه حيالها، ونحاول أن نعتقد في أمرها اعتقادا جديدا، يتضمن نمطا سلوكيا جديدا.
ومؤدى هذا الذي أسلفناه من حيث حالة الشك، هو أن الشك لا يكون شكا حقيقيا إلا إذا كنا إزاء موقف لم ينجح فيه السلوك الذي سلكناه على عقيدة معينة لدينا، فتحتم أن نشك في هذه العقيدة، وأن نبحث لها عن بديل، بحيث يقتضي هذا البديل سلوكا يتفق مع الموقف الذي نحن بصدد التصرف حياله، وها هنا مكان مناسب لمناقشة «ديكارت» في شكه المشهور الذي عرفت به فلسفته، أكان شكه ذاك قائما على أساس حقيقي مشروع، أم كان شكا مفتعلا زائفا، لقد بدأ «ديكارت» بزعمه أنه «يشك» في وجود الأشياء الخارجية، و«يشك» في وجود عقول فيمن يشاهد من الناس، وهكذا، لكنه وهو في حالة «شكه» في وجود المقعد الذي أمامه - مثلا - كيف تصرف إزاءه بحيث كان هذا التصرف مختلفا عن تصرفه، وهو في حالة «اعتقاد» بوجود المقعد؟ إنه لم يحدث له أن سلك نحو المقعد بما توقع أن يكون سلوكا ناجحا على افتراض أن المقعد موجود وله صفات معينة، ثم وجد شيئا غير الذي توقعه، كأن وقع على الأرض حين أراد الجلوس، مما كان يبرر له بحق أن «يشك» في صواب اعتقاده الأول، أنه لا اختلاف إطلاقا في عاداته السلوكية إزاء العالم الخارجي بين حالتي اعتقاده وشكه، كان قبل شكه وأثناء شكه وبعد زوال الشك عنه يتصرف بمثل ما كان يتصرف أولا، وإذن فلم يكن ديكارت يشك إلا بالقول دون العمل؛ فهو بهذا يكون شكا مفتعلا زائفا.
الغاية التي قصد إليها «بيرس» من نظريتيه في «الاعتقاد» و«المعنى» هي أن تسري قواعد البحث العلمي على الفلسفة، فلو أخذ عالم طبيعي بنظرية معينة، واعتقد في صدقها كان معنى هذا الاعتقاد أن ما نتوقعه منها في السلوك العملي هو نفسه ما يصادفنا في خبراتنا، ثم لو أراد متشكك أن يشك في صدق تلك النظرية، كان أساس هذا الشك أنه يجد في التجارب العملية ما يختلف مع ما نتوقعه من تلك النظرية، وعندئذ يقع عبء الإثبات على المتشكك؛ فهو الذي نطالبه بأن يبين أين يجد الناحية العملية التجريبية التي تخالف ما نتوقعه على افتراض صدق النظرية، فإذا كان هذا في ميدان العلم، فلماذا لا يكون هو نفسه منهج التفكير كذلك في ميدان الفلسفة؟ لماذا يسمح الفيلسوف لنفسه أن يقول قولا لا يمكن أن تترتب عليه نتيجة عملية، ومع ذلك يحسب أن لقوله معنى؟ أين يكون المعنى إذن؟ ثم كيف يتشكك الفيلسوف في اعتقاد معين حين لا يكون في الحياة العملية حالة تدعوه إلى هذا الشك؟ أين يكون موضع الشك إذن؟ نعم، إنه لا «معنى» لقول، ولا أساس «لاعتقاد» إلا إذا كان ذلك المعنى أو هذا الاعتقاد هو نفسه خطة سلوكية يمكن أداؤها، وما ليس كذلك فلا هو بذي «معنى» ولا هو بالفكرة التي يجوز أن تكون منا موضع «اعتقاد» هذا هو لباب المذهب البراجماتي عند «بيرس».
ويفيض «بيرس» القول في الفرق بين حالتي «الشك» و«الاعتقاد»، وفي الطرائق المختلفة التي يسلكها الناس في تثبيت اعتقاداتهم؛
9
لأنه يستحيل عليهم أن يعيشوا في حالة شك مستمر، ولا بد لهم - لكي يضطربوا في حياتهم العملية ونشاطها - من اعتقادات ثابتة عندهم، ليتصرفوا على أساسها.
وأول ما يقال في الموازنة بين حالتي «الشك» و«الاعتقاد» هو أن موضوعهما واحد، ينتقل الإنسان في علاقته به من حالة الاعتقاد إلى حالة الشك، أو من حالة الشك إلى حالة الاعتقاد، حسب ما تقتضيه نتائج سلوكه إزاءه؛ فالعبارة الواحدة المعينة التي «أعتقد» في صوابها، هي نفسها التي «أشك» في صوابها، لو رأيت أن سلوكي على أساسها لا يمضي في طريقه كما توقعت له أن يمضي، وبين حالتي الشك والاعتقاد فرق عملي وفرق في الشعور؛ فأما الفرق العملي فهو أننا نربط حالة الاعتقاد بالعمل الذي يتضمنه ذلك الاعتقاد، أما حالة الشك فلا يترتب عليها عمل، وأما الفرق بينهما في الشعور فهو أن الإنسان قلق في حالة الشك مطمئن في حالة الاعتقاد، فإذا ما أخذك الشك في حقيقة شيء معين، كان ذلك حافزا مثيرا لك أن تستقصي الصواب في أمره، حتى تصل فيه إلى اعتقاد ما، وعندئذ فقط يزول عنك القلق الذي انتابك مع الشك، معنى ذلك بعبارة أخرى، هو أننا ونحن في حالة من حالات الشك، لا نحب أن تدوم بنا هذه الحالة، ونسعى إلى تغييرها، وأما إذا كنا في حالة من حالات الاعتقاد، فالعكس هو الصحيح، أي إننا لا نحب لهذه الحالة أن تزول ونسعى نحو تثبيتها ودوامها، ورغبة الانتقال من حالة الشك إلى حالة الاعتقاد هي التي يطلق عليها «بيرس» اسم «البحث»؛
10
لأن الدافع إلى البحث العلمي دائما هو أن يصطدم أحد اعتقاداتنا بحقيقة الواقع، فيزول اليقين عن ذلك الاعتقاد، ونصبح إزاءه في حالة شك، فنحاول أن نجد اعتقادا آخر مكانه يصلح أساسا لسلوكنا حيال الواقع سلوكا ناجحا، وعلى كل حال ففي رأي «بيرس» أن ما يهتم له الإنسان أولا وقبل كل شيء، هو أن يرسو بفكره إلى حالة اعتقاد، بغض النظر عن صواب هذا الاعتقاد أو خطئه، «وأحسن الحالات، هي حالة نظن فيها أن اعتقادنا صواب».
وأيسر الوسائل التي يلجأ إليها الناس في تثبيت اعتقاداتهم إزاء مشكلة بعينها، هي أن «يتشبثوا» باعتقادهم في كل مرة تثور فيها المشكلة، حتى تتكون لديهم عادة الإجابة عن المشكلة على النحو الذي اعتقدوا فيه، وفي مثل هذه الحالة ترى «المتشبث» يرفض الاستماع إلى أي جواب آخر، فليس الناس بطبيعتهم مدفوعين إلى بلوغ الحق اندفاعهم إلى الوصول إلى حالة اعتقادية يريحون بها أنفسهم؛ ولذلك فهم يصمون آذانهم عن كل ما يخالف اعتقادهم، حتى لا يعكروا صفو الطمأنينة العقلية التي استراحوا لها، ولولا أن الناس في المجتمع الواحد لا ينفكون يتبادلون الرأي، ويؤثر بعضهم في بعض، لظل الفرد الواحد على اعتقاداته لا يغير منها شيئا إلا عند الضرورة العملية القصوى، لكن الناس - كما قلنا - يراجع بعضهم بعضا، ويعدل بعضهم بعضا، بحيث يستحيل على الفرد منهم أن يحتفظ باعتقاداته الخاصة أمدا طويلا، ومن هنا كانت وسيلة «التشبث» بالرأي وسيلة ناجحة بعض النجاح لا كل النجاح، وإلى أمد معين لا إلى غير نهاية؛ ولذلك يتحتم أن يبحث الناس عن وسيلة أو وسائل أخرى لتثبيت اعتقاداتهم.
فلأن الإنسان لا يعيش بمفرده، بل يعيش عضوا في مجتمع يتبادل أفراده الرأي، كانت الحاجة أمس إلى اعتقادات جماعية ثابتة، منها إلى اعتقادات فردية ثابتة؛ وهنا تأتي الوسيلة الثانية من وسائل تثبيت الاعتقاد، وهي الاستناد إلى سلطان معين ، كسلطان التقاليد، أو سلطان الثقات من الأقدمين وغير ذلك، والاستناد إلى سلطان معين في تثبيت الاعتقاد هو نفسه «التشبث»، وغاية ما في الأمر أن الأول خاص بتثبيت الاعتقاد الجماعي، والثاني خاص بتثبيت الاعتقاد الفردي، ومهما يكن من أمر فلا حيلة أمام المجتمع إذا أراد أن يجتمع أفراده على اعتقاد معين سوى أن يلجأ إلى سلطان رادع، مهما أدى ذلك إلى العسف بالأفراد، وما أكثر ما شهده التاريخ من تعذيب وإرهاب وقسوة، بل من قتل أولئك الذين سولت لهم نفوسهم الخروج على ما أرادت الجماعة لأفرادها أن يعتقدوا فيه، «هكذا كانت الوسيلة منذ أقدم العصور للمحافظة على المذاهب الصحيحة من دين وسياسة.»
11
ولما كان من العسير على المجتمع أن يستخدم سلطانه هذا في مراقبة كل اعتقاد تفصيلي مما عسى أن ينشأ في رءوس الناس، انصرف باهتمامه نحو العقائد الرئيسية وحدها يصونها ويرعاها.
على أنه قلما يخلو مجتمع من فئة قليلة لا يرضيها أن تثبت عقائدها بإحدى الوسيلتين السابقتين، فلا يرضيها مجرد «التشبث» الأعمى، ولا طاعة «السلطان» مهما كان نوعه، فأمثال هؤلاء إذا ما ساورتهم الشكوك في معتقداتهم. لجئوا إلى مراجعة بعضهم بعضا؛ لعل أحدهم يقيم البرهان الذي يقنع الآخر، ومن أمثال هؤلاء تتألف - عادة - طائفة الفلاسفة التي يكفيها أن ترضى من الوجهة النظرية العقلية عن صواب الاعتقاد المعين، حتى وإن اضطرتهم ظروف الحياة الاجتماعية ألا يتصرفوا على أساس ما اعتقدوه صوابا.
لكن خير الوسائل جميعا في تثبيت الاعتقاد، هي الوسيلة العلمية التي تجعل صواب ما نعتقد في صوابه أمرا يشاهده كل من أراد أن يشاهد، فليس الأمر هنا حجاجا عقليا أو لفظيا بين جماعة من الناس فيما بينهم، كما هي الحال حين يناقش الفلاسفة الميتافيزيقيون بعضهم بعضا، بل الأمر هنا مرجعه التجارب العملية التي تجعل الفكر عملا كما ينبغي له أن يكون، الطريقة العلمية وحدها هي التي تخرج بالفكرة من مجرد كونها اعتقادا ذاتيا عند أحد الأفراد، لتجعلها حقا عاما للناس أجمعين، كل الطرائق السالف ذكرها «التشبث» و«الاستناد إلى السلطان » و«الحجاج النظري»؛ كل هذه طرائق تحصر الحق في مكان معين أو زمان معين أو جماعة معينة، لكننا إذا أردنا له أن يجاوز هذه الحدود ليكون عاما شاملا، لم يكن لنا إلى ذلك وسيلة سوى اصطناع المنهج العلمي، فلن تكون الفكرة واضحة إلا إذا استطاع أكثر من فرد واحد تحويلها إلى عمل، بحيث يأتي تطبيقها في كل حالة على صورة واحدة، فعندئذ يكون لها معنى واحد عند الجميع، ولا يتغير معناها بتغير الأفراد أو الشعوب أو بتغير مكانها أو زمانها، هكذا يتفاهم العلماء المشتغلون في معمل واحد بعضهم مع بعض؛ إذ يجتمعون جميعا في فهم الفكرة على طريقة تطبيقها، وهنا يقول «بيرس»: لو استطعنا أن ننشئ «مجتمعا معمليا» - أي مجتمعا يقوم في التفاهم على نفس المنهج الذي يقوم عليه العلماء في المعمل - لانتهينا إلى معنى «الحق» في غير تنازع أو خلاف.
الفصل الخامس
غد بعد أمس
(1) «وليم جيمس» ومعيار النجاح
الانتقال من الفلسفة التقليدية - واقعية كانت أو مثالية - إلى الفلسفة البراجماتية هو انتقال من أمس إلى الغد، فبعد أن كان أساس الحكم على قول ما بالصدق أو بالبطلان هو الرجوع إلى الأصل الذي بعث على تقرير ما يقرره القول، أصبح الأساس هو النتائج التي تترتب عليه، فالكلام صواب أو خطأ، والنظرية من نظريات العلوم حق أو باطل، بمقدار ما يعين ذلك الكلام أو هذه النظرية على ترسم طريقنا في الحياة العملية، لا بمقدار تطابقه مع الواقعة التي يصورها، أو اتساقه مع غيره من الأفكار، وفي بيان الفرق بين نظرة الفلسفة التقليدية من جهة، ونظرة الفلسفة البراجماتية من جهة أخرى، لا تمييز في ذلك بين الشعبتين الرئيسيتين اللتين منهما تتكون الفلسفة التقليدية على اختلاف ألوانها، وهما الواقعية أو التجريبية، ثم المثالية، فالقول صادق عند الأولى إذا طابق العالم الخارجي على نحو ما، أي إنه نسخة من أصل موجود خارج الإنسان، وسواء جاءت هذه النسخة طبق أصلها - كما تذهب الواقعية الساذجة - أو أصابها تحوير في العقل - كما تذهب الواقعية النقدية - فأساس الحكم على كل حال هو علاقة بين الفكرة التي نشأت عند الشخص العارف وبين الشيء المعروف الذي هو حقيقة قائمة بذاتها مستقلة بوجودها - سواء صادفه العقل الذي يعرفه أو لم يصادفه - وإذن فتحقيق القول إنما يكون «بالرجوع» إلى ذلك الأصل الخارجي، وأما المثالية على اختلاف مذاهبها، فهي وإن خالفت الواقعية في رأيها بوجود الشيء المعروف خارج الذات العارفة، بأن جعلت وجود الشيء قائما في العقل الذي يعرفه، إلا أنها - كالواقعية - تحقق صدق الفكرة المراد تحقيقها «بالرجوع» إلى شيء سابق على وجودها، وهو في هذه الحالة مجموع الأفكار الأخرى، لترى هل هنالك بينها وبين تلك الأفكار اتساق فنقبلها، أو تناقض فنرفضها.
وجاءت البراجماتية لتغير وجهة النظر من أساسها، فبدل الالتفات إلى ما «كان» عند تحقيقنا لفكرة ما، نلتفت إلى ما «سيكون»، بدل الالتفات إلى الماضي السابق على نشأة الفكرة المراد تحقيقها، نلتفت إلى المستقبل الذي سيعقب وجود الفكرة ويتلوها؛ فهي صواب إن كانت نتائجها مما يسعف ظروف حياتنا العملية ويفيدنا في حل مشكلاتنا، وهي خطأ إذا لم يكن لها مثل هذا الأثر، هذه اللفتة الجديدة عنصر مشترك بين البراجماتيين جميعا، ثم يعودون فيختلفون في تفصيلات أخرى تميز أحدهم من الآخر، وقد أسلفنا لك القول - في الفصل السابق - عن «بيرس» الذي شق للناس هذا الطريق الجديد في منطق التفكير، وسنحدثك في هذا الفصل عن زعيمين آخرين سارا في هذا الاتجاه مع تعديل هنا وتبديل هناك، وهما «جيمس» و«ديوي».
و«وليم جيمس» بين هؤلاء جميعا هو الذي ينظر إليه العالم على أنه نموذج الفيلسوف الأمريكي، وعنوان الفلسفة الأمريكية؛ فهو أكثر منهم شيوعا، وأوسع منهم في سائر أنحاء العالم سيرورة وذيوعا، ترجمت كتبه - كلها أو بعضها - إلى كل لغات العالم المتحضر، ويرجع ذلك إلى عوامل عدة؛ فقد جاءت حياته (1842-1910م) في الفترة التي استكملت فيها الولايات المتحدة استقلالها الفكري، ولم تعد تابعة من توابع الفكر الأوروبي، أضف إلى ذلك ما أتيح له من إلمام بكثير من اللغات الأوروبية، ومن ثراء يمكنه من التجوال والسفر ، فلبث يتنقل في ربوع أوروبا يحاضر، ويخالط الناس فيجذبهم بحديثه وخفة روحه، ولا شك أن شيوع الفكرة الجديدة مرهون إلى حد كبير بشخصية قائلها، فها هو ذا زميله «بيرس» يدعو إلى الفكرة ذاتها، فلا يكاد يلتفت إليه أحد من أبناء وطنه أنفسهم، لطريقة اختياره لألفاظه وعباراته التي كان يتعمد فيها ألا تجري مع مألوف الناس في حديثهم اليومي، ولصرامة شخصيته التي لم تجعل طريق الاتصال بينه وبين غيره سهلا ميسرا، فإذا أضفت إلى ذلك في «جيمس» أن فكرة «البراجماتية» التي كان يتحدث فيها ويكتب ويحاضر، كانت في ذاتها جديرة بالاهتمام لخطورتها، أدركت كم صادف عند أصحاب الفكر في العالم كله من نجاح وتوفيق.
وقد عرف «جيمس» أول ما عرف باشتغاله بعلم النفس، وقد أخرج فيه كتابه العظيم «أصول علم النفس» من جزءين كبيرين، فكان نقطة تحول وانتقال في هذا العلم من عصر إلى عصر، فعلم النفس قبل كتابه كان محوره ترابط الإحساسات والأفكار ترابطا آليا، قائما على أساس من فلسفة التجريبيين الإنجليز، وعلى رأسهم «لوك» و«هيوم»، فالفكر عند هؤلاء مصدره الانطباعات الحسية، وهذه الانطباعات تأتي أشتاتا فرادى، ثم تتلاقى في الداخل أفكارا، لكن كيف تتلاقى؟ تتلاقى بالتداعي بعضها مع بعض، فهذه الفكرة أو هذا الانطباع الحسي يدعو زميله لما بينهما من شبه أو تضاد أو غير ذلك من قوانين الترابط التي فصلوا القول فيها، والتداعي أو الترابط يحدث من تلقاء نفسه، كما يحدث التجاذب بين الذرات المادية مثلا، فكأنما العقل قابل لا فاعلية فيه، ساكن بغير حركة، أو كأنه «لوحة بيضاء» - كما قال «لوك» - ترتسم عليه الانطباعات وتتجاذب، ولا حيلة له فيما يتلقاه إلا أن يسجله على صفحته تلك، أما بعد كتاب «جيمس» فقد بدأ علم النفس عهدا جديدا؛ لأنه جعل العقل أداة فعالة نشيطة، ومهمته هي كمهمة أي عضو آخر من أعضاء الكائن العضوي الحي، وهي أن يكون أداة للمواءمة بين الكائن وبيئته مواءمة تعين الكائن الحي على البقاء؛ فهو إذن أداة بيولوجية تطورية، لا تنفك تواجه الجديد من مواقف البيئة الخارجية وظروفها، فترد عليها بما يحفظ لصاحبها حسن البقاء ودوامه، وبهذا التفسير يكون «العقل» كلمة نسمي بها نمطا معينا من السلوك الحي النشيط المفيد، لا مجرد مرآة قابلة تمر أمامها أشياء الطبيعة وحوادثها، فترتسم على صفحتها كما ظن السابقون، ولعلك تلاحظ أن هذا التفسير للعقل يزيل الحاجز التقليدي بين العقل والجسم؛ لأنه إذا كان العقل ضربا من السلوك، فهذا السلوك هو نفسه الجسم السالك الفاعل المتصرف، وليس هنالك آمر ومأمور، وحاكم ومحكوم، بل هنالك كائن عضوي واحد يسلك في بيئته على نحو معين، وإذا كان هذا هكذا فقد تحطمت الثنائية التي شقت الإنسان - والكون بصفة عامة - جانبين: فعقل هنا وجسم هناك، أو نفس هنا ومادة هناك، تلك الثنائية التي سادت الفلسفة الحديثة كلها منذ «ديكارت»، وها هنا بذرة المذهب الفلسفي عند وليم جيمس، فعلى الرغم من أنه حاول في كتابه «أصول علم النفس» ألا يخلط العلم بالفلسفة، إلا أنه - بطبيعة الحال - لم يستطع تخليص ذلك العلم من وجهة نظره العامة التي كانت أساس علم النفس عنده، وستكون أساس فلسفته أيضا.
والمحور الرئيسي في فلسفة «جيمس» هو رأيه في «المعنى» - معنى اللفظة أو معنى العبارة - فماذا «نعني» بهذه الكلمة أو تلك، وبهذه العبارة أو تلك؟ إن لكل كلمة معناها الخاص، وكذلك لكل عبارة، لكن ما هي الصفة المشتركة بين كل ذي معنى، بحيث نستطيع أن نقول عن تلك الصفة المشتركة أنها «المعنى» الذي يجعل الكلمة المعينة أو العبارة المعينة ذات مدلول، ونظريته في «المعنى» لا تختلف في جوهرها عن نظرية «بيرس» التي أسلفنا لك القول فيها - في الفصل السابق - فهما معا يذهبان إلى أن «معنى» فكرة من الأفكار، المعنى الذي يجعل الفكرة مفهومة وذات دلالة، هو النتائج العملية التي تترتب على الفكرة في خبراتنا، فإذا قلت - مثلا: «قد انطفأ غليوني» كان «معنى» ذلك أن «أتوقع» نتائج معينة في خبرتي، كأن أتوقع ألا أحس طعم التبغ إذا جذبت أنفاسي خلالها، وألا يحترق إصبعي إذا وضعته في وعائها، وهكذا وهكذا ، فهذه كلها خبرات ستكون مختلفة في حالة انطفاء الغليون عنها في حالة اشتعاله، وقد لا يكون في هذا الكلام جديد بالنسبة إلى طريقة فهمنا لكثير من عباراتنا في الحياة اليومية وفي معمل العلوم الطبيعية على السواء، ففي هذين المجالين ننصرف - في كثير من الحالات - إلى النتائج المترتبة على القول لنفهم معناه، لكن الجديد فيه هو القول بأنه لا معنى للعبارة إلا هذه النتائج، هذا جديد، بل يستوقف النظر ويستثير الدهشة لو أمعنت في مضمونه، فأنت في حياتك اليومية، حتى إن فهمت العبارة على أساس نتائجها، قد تظن أن للعبارة معنى غير هذه النتائج العملية كأنما النتائج العملية تأتي عرضا، وقد لا تأتي ويظل للجملة معنى، فكم ألف ألف عبارة نقولها، ونتوهم أن قد فهمنا لها معنى، فإذا سئلنا عن النتائج العملية التي تترتب عليها في خبراتنا لم نجد شيئا، ومع ذلك نصر على أنها ذات معنى مفهوم، لكن هذه النظرية الجديدة في المعنى، نظرية «بيرس» و«جيمس» على السواء، تذهب إلى أنه لا معنى للعبارة إلا نتائجها العملية في خبراتنا البشرية، وإذا لم يكن ثمة في خبراتنا من نتائج تترتب على جملة معينة، لم يكن لتلك الجملة معنى، بل كانت لغوا فارغا لا يدل على شيء، وإن خيل إلينا غير ذلك.
هذه النظرية في «المعنى» تقضي على الخلافات اللفظية التي كثيرا ما تنشب بين المختلفين بغير داع يدعو إليها، إما لأن ما يختلفان عليه ليس بذي معنى على الإطلاق، وإما لأنهما يعنيان شيئا واحدا، وهما لا يعلمان، بحكم أن كلا منهما يقول كلاما غير الكلام الذي يقوله زميله، فيتوهمان أن اختلاف اللفظ يستتبع حتما اختلاف المعنى، مع أنه قد يكون المعنى واحدا في القولين، إذا كانت نتائج القولين واحدة، فإذا قلت مثلا عن منضدة إن طولها متران، وقال زميلي عنها إن طولها ليس مترين على وجه الدقة، لكنها تقرب من المترين قربا لا تستطيع أدوات القياس التي بين أيدينا أن تكشف عنه، فهذان قولان ظاهرهما اختلاف، لكن حقيقتهما اتفاق في المعنى؛ لأنه لا اختلاف من حيث النتائج العملية بين القول الأول والقول الثاني؛ فأنا وزميلي على حد سواء سنستخدم أدوات القياس التي بين أيدينا، وسيجد كلانا أن ما يعمله الأول هو نفسه ما يعمله الثاني، وليس في خبرة زميلي نتيجة واحدة سيختلف بها عن النتائج التي ستقع لي في خبرتي بسبب اختلاف قوله عن قولي في طول المنضدة، فلو اشترى لها غطاء، واشتريت لها غطاء، فسيكون ما يعمله - من حيث طول الغطاء - مطابقا لما أعمله، وهكذا، وإذن فقد انحسم الخلاف بيني وبينه في النتائج العملية؛ وبالتالي قد انحسم الخلاف بيني وبينه في معنى ما قاله وما قلته، على الرغم مما كان ظاهرا بين القولين من اختلاف.
وكذلك قد ينشأ الخلاف بين متنازعين على ما ليس له معنى على الإطلاق، حين يكون الحكم في المعنى على النتائج العملية التي تقع في خبراتنا، فافرض - مثلا - أني قلت لزميلي إن «أرواحا» تسكن هذه الغرفة، ونفى زميلي هذا القول، فما هي النتائج العملية التي تكون في خبرتي ولا تكون في خبرته بناء على إثباتي لشيء هو ينفيه؟ لا شيء؛ لن أمسك بيدي ما لا يستطيع هو أن يمسكه، ولن أرى بعيني ما لا يستطيع هو أن يراه، ولن أشم ولن أسمع ما لا يستطيع أن يشمه أو يسمعه، لو اختلفنا على وجود خيط مشدود فوق أرض الغرفة بين الجدارين المتقابلين، فأنا أزعم وجوده وهو ينفي، لكان هنالك اختلاف في السلوك المترتب على عقيدتي وعقيدته؛ فقد أخطو فوق الخيط محاولا ألا أتعثر فيه لعلمي بوجوده، وقد لا يحسب هو حسابا لذلك فيتعثر ويقع، ها هنا اختلاف في النتائج العملية، وهو الذي يدل على أن كلامي وكلامه كان لهما «معنى»، وهكذا قل في كل عبارة نقولها، فهي بغير معنى ما لم يترتب عليها نتيجة أو نتائج في خبراتنا البشرية العملية، وهذه النتائج هي وحدها معنى العبارة الذي لا معنى لها سواه، ومن التناقض أن تقول عن جملة - كائنة ما كانت - إنك قد فهمت معناها ولو أنها لا تغير شيئا من خبرتك السلوكية بين حالتي نفيها وإثباتها.
إلى هنا يتفق «جيمس» مع «بيرس»، لكن «جيمس» يختلف عن «بيرس» في المزاج؛ وبالتالي فهو يستطرد في النظرية استطرادا يختلف به عن «بيرس»، وحين أقول هنا إن اختلافهما في «المزاج» قد أدى إلى اختلافهما في الرأي، فإنما أستخدم نظرية ل «جيمس» نفسه، حين قال إن الناس نوعان؛ ففريق ذو عقل «ناشف» أو «صلب»، وفريق آخر ذو عقل «لين» أو «رخو»، العقل الأول معاند والعقل الآخر مطاوع، وبين الفلاسفة هذا الاختلاف نفسه، فالفلاسفة أصحاب العقول اللينة أو المطاوعة هم العقليون المثاليون المتفائلون المتدينون الواحديون الاعتقاديون القائلون بالإرادة الحرة، وأما الفلاسفة أصحاب العقول الناشفة أو المعاندة فهم التجريبيون الماديون المتشائمون الآخذون بشهادة الحواس وحدها، العازفون عن الدين، المتشككون، القائلون بأن العالم كثرة لا واحد، وقد كان «بيرس» من أصحاب العقول الناشفة المعاندة، أما «جيمس» فقد جمع الطرفين في شخصه؛ إذ كان في طبيعته جانب العالم وجانب الفنان في آن واحد؛ ولذلك تراه في بعض نواحيه من أصحاب العقول المعاندة، ذلك حين يحتكم إلى التجربة والحس وما إلى ذلك، لكنه في نواحيه الأخرى ذو عقل لين مطاوع، ومن هذه النواحي رأيه في الدين وفي وجود الله، وهنا أحد مواضع الاختلاف بينه وبين «بيرس» في نظرية المعنى؛ فبينما يتفق الاثنان على أن الجملة لا تكون ذات معنى إلا بمقدار ما لها من نتائج عملية تقع في خبراتنا البشرية، ترى «جيمس» يستطرد بالنظرية فيخرج بها عن حدودها، إذ يجعل أن جملة مثل «الله موجود» ذات معنى، وشرح ذلك عنده كما يأتي: إن وجود الله يستحيل بالطبع إثباته إذا احتكمنا إلى خبراتنا العملية؛ لأننا لا نراه ولا نسمعه ولا نمسه، وإذن فلا يجوز أن يكون ذلك طريق إثباته، ومع ذلك فهنالك طريق غير مباشر إلى إثبات المعنى لهذه الجملة إذا رجعنا في ذلك لا إلى النتائج الحسية المباشرة، بل إلى النتائج العامة التي تحدث في وجهة نظر المؤمن بصدقها، فالذي يؤمن بأن الله موجود يختلف شعوره في حياته عمن لا يؤمن بذلك، فتراه مثلا متفائلا قوي الرجاء؛ وبالتالي فهو مستبشر بحياته فرح مطمئن، على خلاف زميله المنكر؛ إذ يغلب أن يكون هذا متشائما منقبض النفس معدوم الرجاء والأمل، وهذا الاختلاف في وجهة النظر كاف وحده أن يجعل للجملة معنى لما لها من نتائج.
ولا يسوق «جيمس» هذا المثل جزافا، بل يجعله تطبيقا لمبدأ عام، نلخصه فيما يلي: هنالك حالات تقطع فيها الشهادة بالصواب أو بالخطأ، وعندئذ لا إشكال في قبولها أو رفضها، لكن هنالك أيضا حالات كثيرة جدا تمتنع فيها هذه الشهادة الحاسمة، فماذا يكون موقفنا إزاءها؟ يرى «جيمس» أنه في مثل هذه الحالات نأخذ «بأنفع» الفروض، ويكون النفع هنا هو هو بعينه صدق الفرض الذي أخذنا به، فانظر إلى هذا السؤال مثلا: هل الحياة تستحق منا أن نحياها؟ إننا لا نملك ما يعيننا على الإجابة الحاسمة عن مثل هذا السؤال، فسواء أجبت بالإيجاب أو بالنفي، جاز لمعارضك أن يسألك لماذا كان الإيجاب أو كان النفي، دون أن تجد ما تقنعه به، فليس محالا على إنسان أن يرى لنفسه أن الحياة لا تستحق منه أن يحياها، والعجيب أن مثل هذا المتشائم قد ينتهي به رأيه هذا في حياته إلى نوع من الحياة هو بالفعل لا يكون جديرا بالعناية أو الرعاية، ومن جهة أخرى قد تجد من يقنع نفسه بأن الحياة تستحق أن يحياها، وتراه بفضل قراره هذا يجعل حياته بالفعل حياة جديرة بالعيش، وهكذا ترى أن الاعتقاد بالصواب في مثل هذه الحالة قد خلق الصواب فعلا، فيكفي أن تأخذ بوجهة نظر معينة - في أمثال هذه الحالات التي يمتنع فيها القطع بصواب أو بخطأ - لتحدث لك هذه الوجهة من النظر نتائج عملية في حياتك تجعل رأيك صوابا، هذه هي النظرية التي يعرضها «جيمس» في مقالته المشهورة التي عنوانها «إرادة الاعتقاد»، وهو يقصد من العنوان نفسه أن الاعتقاد في الحالات التي لا تحسم فيها الشواهد، إنما يتوقف على إرادة الإنسان المعتقد، فاعتقد - إن شئت - وسيكون لعقيدتك أثرها في حياتك؛ وبالتالي ستكون عقيدة ذات معنى ومغزى ودلالة حكما بمقياس البراجماتية نفسها.
وهذا ينتقل بنا إلى نظرية «جيمس» في الحق، أو في الصدق، صدق العبارة التي نقولها، فمتى تكون العبارة صادقة؟ يجيب «جيمس» بأنها تكون كذلك إذا تصرفت على أساسها فلم تجد ما يعترض غايتك، فالصدق أو الحق هو هداية في السلوك لا أكثر ولا أقل، ألم نقل إن «المعنى» - مهما كانت الكلمة أو الجملة - هو ما ترتب على الكلمة أو الجملة من نتائج؟ وكلمة «الحق» أو «الصدق» لا تشذ عن هذه القاعدة العامة، معناها هو نتائجها، فكل ما يؤدي إلى النتائج المرجوة «حق»، وكل ما لا يؤدي إلى مثل هذه النتائج «باطل»، الأمر في ذلك شأنه شأن الفروض العلمية نفسها، فكيف يقرر العالم في معمله أن فرضا ما صحيح؟ يقرر ذلك بعد أن يرى النتائج التي تنتج عن الفرض، فإذا وجده مطابقا في نتائجه تلك لكل وقائع الظاهرة التي جاء الفرض ليفسرها، كان عنده فرضا صحيحا وإلا فهو باطل، فهكذا الأمر في كل عبارة نقولها، هي بمثابة فرض علمي نفرضه، ويكون تحقيقه مرهونا بانطباقه على الواقع، وليس في طبيعته شيء يجعله صوابا أو خطأ غير نجاحه أو فشله في تفسير الواقع.
وهذا القول نفسه يمكن التعبير عنه - كما عبر عنه جيمس - بعبارة أخرى، فنقول: إن الحق هو ما كان الاعتقاد فيه أفضل من إنكاره، أفضل بالنسبة إلى طرائق سلوكنا في الحياة العملية الواقعة، «الحق» أو «الصدق» هو ما تسلك على مقتضاه فلا تجد من الحوادث ما يعترض سبيلك أو يناقض اعتقادك، «الحق» أو «الصدق» هو ما ينجح من حيث الثمرة العملية التي يثمرها العمل بمقتضاه، ليس «الحق» صفة آسنة راكدة لاصقة بالعبارة التي نصفها بهذا الوصف، بل هو قابلية العبارة لأن تكون أداة للسلوك وخطة للعمل، فإن كان فيها ما يهدينا إلى العمل الناجح فهي «حق» وإلا فهي باطل، ومن هنا قال «جيمس»: إن «الحق» أو «الصدق» لا يكون في الجملة قبل النزول بها إلى معترك الحياة والعمل، بل هو «يطرأ» عليها عندئذ «فتصبح» حقا أو صدقا حين ألمس أثرها الناجح في ميدان السلوك، فالحوادث العملية وحدها هي التي تجعلها صادقة أو باطلة.
1
كلمة «الحق» وكلمة «النفع» مترادفتان، فنقول عن فكرة إنها نافعة لأنها حق، أو إنها حق لأنها نافعة، والقولان في المعنى سواء؛ لأنهما في النتائج العملية سواء، أو قل إن شئت أن «الحق» و«النفع» طرفان لخيط واحد، أحدهما داخل العقل والآخر خارجه، فعندما تكون الفكرة في أول سيرها نحو التحقيق، نصفها بكلمة حق، حتى إذا ما خرجت إلى عالم الخبرة عملا، وصفناها بأنها نافعة،
2
وفي هذا الصدد يقول «جيمس» تشبيهه المشهور الذي يوضح الفكرة بوضوحه، لكنه في الوقت نفسه كان موضعا سهلا للنقاد يهاجمونه منه، إذ يقول: إن الخبرة هي «القيمة الفورية»
3
لما نصفه بأنه حق، تشبيها للعبارة الصادقة بالسلعة المطروحة في السوق، قيمتها ليست في ذاتها، بل فيما يدفع فيها من ثمن، فأثار هذا التشبيه نقد المهاجمين، فكيف ينزل «جيمس» - في رأيهم - بالحق إلى هذه الدرجة من المادية التي تجعله سلعة من السلع؟ أما «جيمس» فقد فرح بتشبيهه هذا وعده توفيقا في التعبير الأدبي، وراح يستخدمه ويوسع من مدى تطبيقه، فقال في مناسبة أخرى إن الفكرة تظل صادقة ما دام لم يعترضها معترض ممن نعاملهم على أساسها؛ فهي كالذي يعامل الناس معتمدا على حسابه في البنك، فالفكرة كورقة النقد تصلح للتعامل إلى أن يعترضها معترض بحجة أنها باطلة،
4
وما دامت الفكرة سارية نسلك على أساسها فنحقق بسلوكنا ما نبتغي من نتائج فهي فكرة صواب.
مقياس النجاح في النتائج العملية، الذي جعله «جيمس» مقياس «الحق»، هو نفسه معيار الأخلاق، فالذي يجعل الفعل فضيلة هو أنه فعل ناجح،
5
فإذا استعرضت مختلف المواقف التي يقول عنها الناس إنها من الفضيلة أو من الرذيلة ألفيت فيها جميعا عاملا مشتركا، هو وجود الإنسان الذي يعي بشعوره ما في الموقف المعين من قيمة خلقية إن خيرا وإن شرا، وإذن فلأن يكون الفعل خيرا؛ فذلك لأنه كذلك في نظر واحد أو أكثر من الناس، ولو خلا العالم من البشر لبقي العالم غير موصوف بخير أو شر، ومعنى ذلك أن تقدير الإنسان للفعل عنصر جوهري في اعتبار قيمته الخلقية، وعلى أي أساس يكون هذا التقدير إن لم يكن على أساس إشباع الفعل لرغبات الإنسان، هذا معيار لا يقتصر تطبيقه على الفرد الواحد، بل يمتد ليشمل البشر أجمعين، وهو في الوقت نفسه يجمع في مضمونه أنظار الفلاسفة على اختلاف مذاهبهم، فلنفرض أن فعلا معينا قد أشبع رغبة فرد دون سائر الأفراد، فماذا يكون الحكم فيه؟ يجيب «جيمس» قائلا: إنه لا تفضيل لرغبة على رغبة، فالرغبات - من حيث هي رغبات - سواء، وإذن فلا أساس للمفاضلة بين الأفعال إلا بمقدار ما تحققه من رغبات، فأكثر الأفعال تحقيقا لها أكبرها قسطا من الفضيلة، وهذه الحالة نفسها - حالة الصراع بين الرغبات المختلفة - قد تكون في الفرد الواحد، وعندئذ تكون القاعدة الخلقية الواجب اتباعها، هي نفسها القاعدة التي تتبعها مجموعة الأفراد، وهي تغليب الفعل الذي يشبع الرغبة الأقوى، على أن نفهم «الأقوى» بمعنى الأمد الطويل، وما قد يظهر فيه من نتائج للفعل الذي أديناه، الفضيلة بهذا المعنى هي إشباع الرغبات، والفضيلة المثلى هي إشباع الرغبات جميعا، ولما كان هذا محالا، كان الأفضل دائما هو الأكثر إشباعا لأكبر قدر مستطاع من رغباتنا.
وليس بخاف على «جيمس» أن هذه النظرية في الأخلاق من التعميم، بحيث لا تصلح وحدها هاديا في السلوك إذا ما نشأ موقف معين، وكان على الإنسان فيه أن يختار طريقا للعمل، لكنه لا يجد وسيلة لتخصيص ما يعمل في كل موقف على حدة، فالأمر متروك للإنسان الفرد عندئذ؛ لأنه سيكون أدرى بالظروف التفصيلية المحيطة به، وعلى كل حال فليس من شأن الفلسفة الخلقية أن «تعظ»؛ فهي معنية بالمبادئ العامة وحدها، وعلى غيرها تقع مهمة التطبيق.
حسبنا هذا المقدار من «براجماتية» جيمس - لكن البراجماتية منهج وليست فلسفة إيجابية ذات نتائج معينة، فهل هو من فلاسفة المناهج وكفى؟ - إذ قد يقتصر الفيلسوف على منهج التفكير دون أن يكون له هو نفسه تفكير خاص يقوم على أساس هذا المنهج - أم أن له فلسفة قائمة على منهجه؟
لوليم جيمس فلسفته الخاصة التي يطلق عليها اسم «التجريبية المتطرفة»
6
عنها يقول في مقدمته التي يقدم بها كتابه «معنى الحق»
7
ما يأتي: «تتألف التجريبية المتطرفة أولا من مصادرة، ثم من حقيقة أقررها، وأخيرا من نتيجة عامة.»
8
أما المصادرة (والمقصود بكلمة «مصادرة» فرض يفرضه الباحث ويصدر به بحثه ويطالب القارئ بأن يسلم بصحته؛ فهي في ذلك شبيهة بالبديهية) فهي أن كل مناقشة فلسفية يجب أن تنحصر في موضوعات مما يقع في الخبرة البشرية، قد يكون في الكون ما لا يقع للناس في خبراتهم، لكن حديثنا عنه عندئذ يصبح بغير معنى، إن «جيمس» لا يدعي أن وجود الشيء متوقف على خبرتنا به، لكن الذي يدعيه هو أن الشيء لا يكون مفهوما لنا، وذا دلالة في حديثنا عنه، إلا إذا كان جزءا فعليا أو ممكنا من أجزاء الخبرة الإنسانية.
تلك هي «المصادرة» التي لو وقف عندها لكان على اتفاق مع التجريبية الإنجليزية؛ لأن رجال هذه المدرسة - لوك وباركلي وهيوم - هم أيضا يرون أن ما يستطاع معرفته هو وحده الذي يقع في حدود خبرات الإنسان، وعبثا نتحدث إذا لم يكن حديثنا عن شيء خبرناه فعلا، أو كان في الإمكان أن نخبره، لكن «جيمس» لا يقف عند حدود هذه المصادرة وحدها، بل يمضي فيقرر حقيقة هي التي ميزت تجريبيته وجعلتها تجريبية «متطرفة» - كما أسماها - وهي أننا حين ندرك أشياء العالم بالخبرة المباشرة، فإنما ندرك الأشياء وما يربطها من علاقات، فالعلاقات القائمة بين الأشياء هي - كالأشياء نفسها - مما ندركه في عناصر الموقف الذي يتاح لنا أن ندركه، وليست هي - كما كان الظن - من صناعة عقولنا،
9
كلا ولا هي شيء خارج عن طبيعة الموقف جاءه من أعلى، بل هي جزء منه لا يتجزأ، يدركه الإنسان إذ يدرك الموقف بكل ما فيه من عناصر؛ أشياء وعلاقات، والقارئ الذي لم يألف مشكلة العلاقات في الفلسفة قد لا يقدر خطورة هذه الحقيقة التي يقررها «جيمس »؛ إذ يقرر أن «العلاقات» تدرك في الخبرة المباشرة كالأشياء المرتبطة بتلك العلاقات سواء بسواء، ولكي أعينه على تقدير هذه الحقيقة أستطرد فأقول : إن الفلاسفة ينقسمون قسمين رئيسيين؛ المثاليون من جهة، والواقعيون من جهة أخرى، أما المثاليون فهم الذين يجعلون حقائق الأشياء في كونها أفكارا في عقولنا، أي إن الشيء المعين موجود إذا كان له فكرة في رأسي، وإلا فلا وجود له، وإن كان الأمر كذلك، فمجموعة الأشياء - أي الكون كله - هي بالتالي مجموعة أفكار في عقل الإنسان أو في عقل الله، فكيف تكون العلاقات بين الأفكار؟ إنها ليست علاقات مكانية؛ فالفكرة لا تكون على يمين الفكرة أو على يسارها - مثلا - لكن العلاقات بين الأفكار تكون في تضمن بعضها لبعض، والاستدلال على بعضها من بعضها الآخر وهكذا، وبهذا تكون مجموعة الأفكار بمثابة نسق واحد أو بناء واحد، تستطيع من كل فكرة أن تعلم فكرة أخرى؛ لأنها نتيجة تلزم عنها، أو لأنها مقدمة تقتضيها، وهكذا تظل تنتقل من فكرة إلى فكرة بالاستدلال وحده، حتى يكتمل لك النسق كله، إذن فمن فكرة واحدة - أي فكرة شئت - تستطيع أن تستدل على سائر الأفكار جميعا، الأمر في ذلك كالأمر في نظريات الهندسة - مثلا - حيث تستطيع من أي نظرية شئت أن ترجع قافلا إلى مقدماتها أو تتقدم سائرا إلى نتائجها حتى يكتمل لك البناء كله، فكأن كل نظرية واحدة تحمل في جوفها مجموعة النظريات، بعضها كامن فيها؛ لأنه مقدماتها، وبعضها الآخر كامن فيها أيضا؛ لأنه نتائجها، وفي مثل هذه الحالة لا بد أن يكون النسق كله وحدة واحدة، علاقة الكل بأجزائه هي علاقة الكائن العضوي بأجزائه ... وما شأن «العلاقات» بهذا كله؟ شأنها هو أن المثاليين - بناء على رأيهم هذا - يجعلون العلاقات التي تربط الأشياء بعضها ببعض أجزاء من طبيعة الأشياء نفسها، داخلية فيها وليست تأتيها من الخارج لتربط شيئا بشيء؛ لأن علاقة الشيء الواحد بسائر الأشياء هي نفسها جزء متمم لطبيعة ذلك الشيء، ولولاه لما عرفت حقيقته كلها، فمثلا إذا قيل لك عن «أ» إنه والد «ب» فأين ترى علاقة «والد» هذه التي تربط الشخصين «أ» و«ب»؟ عند المثاليين أن هذه العلاقة تراها بتحليل طبيعة «أ» وحقيقته ، وعندئذ ستجد أن جزءا من تلك الحقيقة أنه «والد»، فالعلاقة إذن داخلية فيه، وليست جزءا من المشاهدة التي تأتي عن طريق الحواس.
وأما الواقعيون فيرون رأيا غير هذا؛ إذ يرون أن الأشياء التي ندركها موجودة وجودا خارجيا مستقلا عن عقولنا وما فيها من أفكار؛ فهي موجودة سواء صادفها العقل الذي يدركها أو لم يصادفها، وإذا كان الأمر كذلك، فعلمي بها متوقف على ما أشاهده منها، لا على استدلال عقلي، فإذا رأيت شيئا يقع قبل شيء، قلت إنه وقع قبله؛ لأني شاهدته هكذا، لا لأني وجدت الأول يستتبع بالضرورة حدوث الثاني كنتيجة له، ولما كان العالم يأتي في التجربة الحسية أشياء مختلفة كثيرة مرتبطة بعلاقات مختلفة كثيرة كذلك، وجب أن أقول: إنه عالم «متعدد»، وليس هو بالوحدة الواحدة كما يظن المثاليون، وأن هذا التعدد لا يكون الجزء منه دالا على الجزء الآخر دلالة حتمية كما يظن المثاليون أيضا، بل الأمر موكول إلى الخبرة، فإن وجدت جزءين متلازمين قلت إنهما كذلك، وإلا فلا أستدل على وجود الواحد من وجود الآخر ... وما شأن «العلاقات» وإدراكها بذلك؟ شأنها هو أن الخبرة الحسية - كما يقول التجريبيون - تأتي في الحقيقة مفككة إلى الذهن، والذي يربطها بعضها ببعض هو الإنسان المدرك، يربطها على مقتضى قوانين يسمونها قوانين تداعي الأفكار أو ترابطها.
فإذا ما جاء «جيمس» ليقول: إن الإنسان يدرك العلاقات إدراكا مباشرا مع الأشياء نفسها المرتبطة بتلك العلاقات، يكون قد سار بتجريبيته خطوة أخرى بعد التجريبية الإنجليزية التي قصرت المشاهدة على «الحالات» المتقطعة المتجزئة وحدها، ثم جعلت العلاقات التي تربطها تتم في الداخل ولا تأتي مع بقية المدركات من خارج - ومن ثم كانت تجريبية «جيمس» تجريبية «متطرفة» - وبعد هذه الحقيقة التي يقررها عن العلاقات، تجيء النتيجة التي ينتزعها منها، وهي أن العالم هو ما يجيء في الخبرة، وليس هنالك ما يدعو إلى إضافة شيء من عندي لبنائه أو تدعيمه، يجيئني العالم في خبرتي قائما في بنائه مدعما بروابطه، إذ يجيئني بعنصريه؛ الأشياء والعلاقات التي تربط تلك الأشياء في وقائع؛ فقد كانت مسألة العلاقات هي نقطة الضعف في التجريبية الإنجليزية التقليدية؛ ولذلك كانت أيسر نقطة يهاجمها منها أنصار الفلسفة المثالية؛ إذ كانت هذه الفلسفة تسأل المذهب التجريبي قائلة: إذا كان الإدراك أمره أمر حالات تأتي متقطعة عن طريق الحواس المختلفة، فما الذي يوجد العلاقات بين أجزائه؟ هذا مصباح على منضدة - مثلا - وهكذا أراه مرتبطا بالمنضدة بعلاقة «على»، لكن العين لا ترى «على»، بل ترى «مصباحا - منضدة»، فكيف وبأي الوسائل أدرك «على» التي ليست بين المحسوسات؟ أقول: إن هذه كانت أيسر نقطة للهجوم على المذهب التجريبي من جماعة المثاليين الذين ينكرون الكثرة، وينكرون خارجية الأشياء، فجاء «جيمس» واعترف للمثاليين بوجاهة نقدهم وصوابه، لكنه أعاد بناء المذهب التجريبي نفسه ليقابل هذا النقد، بأن جعل العلاقات جزءا يدرك بالخبرة المباشرة كأي جزء آخر، وبهذا أصبحت التجريبية مذهبا أوفى وأكمل وأقدر على مواجهة الهجوم.
10
لكن موضوع العلاقات، وجعلها جزءا من الخبرة المباشرة، ليس وحده يكون «التجريبية المتطرفة»، بل يقوم إلى جانبه موضوع آخر، أبعد منه أثرا في توجيه الفلسفة المعاصرة، ألا وهو فكرة «العنصر المحايد» الذي لا هو بعقل ولا هو بمادة، إنما العقل والمادة كلاهما اشتقاقان من مصدر محايد، ولشرح ذلك أقول: إن هذه المنضدة التي أمامي تبعث موجات ضوئية في كل مكان يمكن أن ينبعث الضوء منها إليه، وفي أي نقطة من هذا المكان يمكن رؤية المنضدة، وإذن فلو سألت: أين المنضدة؟ أجبت: هي في كل هذه النقط المكانية على السواء، فاجمع كل «الظواهر» الموجودة إمكانا في أرجاء هذا المكان، تكن لك المنضدة، فلو وقفت في نقطة مكانية من هاتيك النقط التي تنبعث إليها ظواهر المنضدة، تكون لديك منها صورة حسية، ومن الظواهر الخارجية مضافة إلى الصورة الحسية التي كونتها عنها تكون حقيقة المنضدة، فليس الفرق بين الشيء الخارجي الذي جرى العرف بأن نسميه بالمنضدة، وبين الصورة الحسية ، وهو فرق بين مادة في الخارج وعقل في الداخل، بل كلا الجانبين - الخارج والداخل معا - متكون من مصدر واحد هو الظواهر المنبعثة في نقاط المكان، تنظر إليها من خارج فإذا هي الحقيقة الخارجية، وتنظر إليها من داخل، فإذا هي الفكرة الداخلية، وخلاصة القول هي أن المادة لم تعد «مادية»، ولا أصبح العقل «ذاتا روحانية» كما كان يقال، بل انحلت المادة إلى ظواهر متناثرة ففقدت صلابتها، وانحل العقل إلى حالات إدراكية ففقد ذاتيته، والجانبان معا صادران عن عنصر محايد.
11
ويتفرع عن «التجريبية المتطرفة» نتيجة هي العقيدة بأن العالم ليس وحدة، بل هو متعدد المحتوى، وقد عبر «جيمس» عن هذا المذهب التعددي في كتابه «عالم متكثر»
12
أي إن العالم قوامه كائنات كثيرة لا كائن واحد، فكما أنه يرى أن المظهر الواحد من مظاهر الشيء المعين قد يكون جزءا من الشيء الذي اصطلحنا على أن نصفه بالمادية والموضوعية، أو أن يكون جزءا من الإدراك الحسي لشخص مدرك؛ ومن ثم فهو حالة من مجموعة الحالات الشعورية لذلك الشخص، وهي المجموعة التي اصطلحنا أيضا على أن نسميها عقلا، فكذلك المدرك الحسي الواحد قد يكون حالة شعورية في أكثر من عقل واحد؛ إذ قد يكون المدرك الحسي لهذه المنضدة - مثلا - حلقة من حياتي الشعورية، وحلقة من حياتك الشعورية، ثم ما هو أكثر من هذا، إذ قد يكون المدرك الحسي المعين جزءا من الحياة الشعورية لفرد من الناس، ويكون في الوقت نفسه جزءا من الحياة الشعورية لعقل أشمل من عقل ذلك الفرد، بحيث يشمل كل هذا العقل الفردي بجميع حالاته، مضافا إليه مدركات أخرى، وعندئذ يكون المدرك - أو الفكرة - حالة من حالات عقل أصغر، وحالة من حالات عقل أكبر، فيكون لها بذلك وضعان مختلفان، مع أنها هي هي الفكرة نفسها، ومن هذا ينفسح أمامنا المجال لاحتمال أن يكون العالم كله محتوى في عقل واحد كبير احتواء الأدنى في الأعلى يشمل كل العقول الفردية، بحيث يكون كل إدراك من إدراكات العقول الفردية إدراكا في العقل «الإلهي» الشامل، وعندئذ تتكون لدينا فكرة عن «إله» يختلف عن الفكرة التي تكونت عنه في الديانات التقليدية، وكذلك تختلف عن الفكرة التي تكونت عنه في الفلسفات الآخذة بمبدأ وحدة الوجود؛ وذلك لأن هذا الإله الذي هو عقل يشمل سائر العقول، ليس منفصلا عن الكون انفصال الخالق عن خلقه كما تصورت الديانات التقليدية، كلا ولا هو حال في الوجود كله كما تصورت فلسفة وحدة الوجود، ولكنه إله بينه وبين سائر العقول الفردية قسط مشترك، هو الاشتراك في إدراكات بعينها، لكنه في الوقت نفسه يتميز بفردية مستقلة، كما يتميز كل فرد من الأفراد الصغرى بفرديته المستقلة، فالصورة - كما يتخيلها «جيمس» - هي أقرب إلى سلم متدرج من عقول؛ فعقل أكبر من عقل؛ لأنه يدرك إدراكاته ثم يزيد عليها، ثم عقل ثالث أكبر من هذا العقل، فرابع أكبر وهكذا دواليك صعودا، دون أن يتحتم أن يكون هنالك عقل مطلق يسع كل شيء، فالعقل الأعلى فيه كل ما في الأدنى مع الاحتمال دائما بأن يكون هناك ما هو أعلى.
ولعل ما حدا بوليم جيمس إلى مثل هذه الفكرة التي تجعل العقول متصاعدة، دون أن تضيع في ذلك شخصية العقل الفردي، هو أنه أراد أن يحتفظ لكل فرد إنساني بإرادته المستقلة، لتقع عليه مسئوليته الخلقية، إنه لو جعل في الكون إلها يشمل كل شيء، وتنمحي فيه الأفراد، لتورط فيما تورطت فيه الديانات التقليدية والفلسفات الموحدة للوجود، وهو مشكلة الشر؛ فلو كان هنالك مثل هذا الإله الشامل، للزم أن يكون مسئولا عن كل ما يقع، والشر بعض ما يقع، فإما أن نقول: إن الله عندئذ مسئول عنه، أو إنه عاجز عن درئه، و«جيمس» يفضل البديل الثاني، ويكون العجز هنا معناه أن الله لا يشمل كل شيء في الوجود، بل إن هنالك إلى جانبه سائر العقول والإرادات، التي وإن تكن أدنى منه وأصغر في سعة الإدراك، إلا أنها موجودة مسئولة عما تصنع، فهذا الافتراض يجعل لكفاح الأفراد نحو الخير معنى؛ لأنه يجعل في مستطاع الأفراد تغيير ما هو كائن إذا كان شرا ليصبح أفضل مما هو وأكمل ... ولا تسل «جيمس» قائلا: ما برهانك؟ لأنه لا برهان، فهذه حالة من الحالات الكثيرة التي قال عنها إنه حيث لا يكون برهان يثبت أو ينفي، فعلينا بالاختيار اختيارا إراديا متعمدا لعقيدة يكون من شأنها أن تفسح مجال الأمل في حياة أفضل.
13 (2) «جون ديوي»
14
وتغيير القيم
هو ثالث ثلاثة عمالقة خلقوا الفلسفة البراجماتية خلقا، وأشاعوها في أرجاء العالم طرا بحيث لم يعد في وسع مثقف ألا يتابعهم في نتائجهم متابعة القبول أو متابعة الرفض والإنكار، وهؤلاء الثلاثة هم «بيرس» و«جيمس» و«ديوي»، على أنهم وإن ذهبوا جميعا مذهبا واحدا من حيث الأصول، إلا أن كلا منهم قد انشعب به في اتجاه يميزه عن زميليه، والصفة المميزة ل «ديوي» هي محاولته استخدام منهج العلوم في التفكير في القيم - الأخلاقية والسياسية والجمالية وغيرها - تفكيرا قد ينتهي إلى تغييرها تغييرا يناسب ظروف الحياة الحاضرة، أو بعبارة أخرى هي اتخاذه من الفكر «ذريعة»
15
للعمل على نحو يحقق للإنسان ما يبتغيه في مجتمع صناعي ديمقراطي كالمجتمع الذي نعيش فيه اليوم، أو على الأصح كالمجتمع الذي تعيش فيه الولايات المتحدة في عصرها الراهن.
ولم يكن «ديوي» براجماتيا منذ أول نشأته، بل تأثر في أولى مراحله بالفلسفة الهيجلية، ولم يكن له بد من ذلك؛ لأنه لم يجد حوله إلا أساتذة يذهبون في الفلسفة هذا المذهب، فأخذ عنهم، ثم أخذت ظروفه تتطور حتى اتخذ لنفسه طريقة البراجماتي بقية حياته، وقد كانت الأعوام التي شكلته من الوجهة الفلسفية تشكيلا حاسما، وهي الأعوام العشرة الممتدة من 1894م إلى 1904م (ولد ديوي عام 1859م ومات عام 1951م)، وذلك حين كان رئيسا لقسم الفلسفة في جامعة شيكاغو، وحين قام بتجربة في التربية على نطاق واسع، أجراها على مدرسة ملحقة بالجامعة، فعندئذ نفض يديه من الفلسفة الهيجلية، وبدأ في وضع الأساس لوجهة نظره التي التزمها منذ ذلك الحين، وهي التي يطلق عليها - كما قلنا - اسم «المذهب الذرائعي»، وهو مذهب شديد الشبه بما كان يدعو إليه «وليم جيمس» في ذلك الوقت نفسه باسم «الفلسفة البراجماتية».
وإنه لمما يعيننا على فهم وجهة النظر التي أخذ بها «ديوي» أن نذكر لمحة من حياته تلقي ضوءا شديدا على أصول تفكيره، ذلك أنه ولد ونشأ في ولاية «فيرمونت» في الشمال الشرقي، في منطقة ريفية هادئة يعيش أهلها على الزراعة، ولهم كل ما تقتضيه الزراعة من أخلاق المحافظة على القديم، وإيثار السلامة والأمن والدعة على المخاطرة، وما إلى ذلك، ثم انتقل في رجولته إلى ما يسمونه في الولايات المتحدة «بالغرب الأوسط»، وهو إقليم نزح إليه المغامرون من أهل الشرق - أعني شرقي الولايات المتحدة - الذي كان أول ما عمره الوافدون من أوروبا، حتى ازدحم، فماذا شهد «ديوي» في الغرب الأوسط خلال ستة عشر عاما أقامها هناك؟ شهد حياة اقتصادية تختلف اختلافا بعيدا عن حياة موطنه الزراعي الذي نشأ فيه؛ إذ رأى الثراء الطائل يجمعه صاحبه في مثل اللمح بالبصر، وقد يفقده كذلك في مثل اللمح بالبصر، رأى الناس تغلب عليهم المغامرة والمخاطرة، وأميل إلى العمل الحر الجريء منهم إلى العمل المستقر الثابت الآمن؛ لأن هذا الاستقرار وهذا الثبات وهذا الأمن يكلفهم الخضوع لقوانين الحكومة المطردة، ويكلفهم بالتالي الحد من أصالة التفكير وقدرة الابتكار، كانت الحياة هناك - كما شهدها «ديوي» - معرضة للخطر، ولكن بلوغ النجاح فيها كان كبير الاحتمال، فلم يكن الناس ينشدون اليقين في حياتهم، ومن هنا انعكس الأمر على تفكير «ديوي» حين أخرج فيما بعد كتابه «طلب اليقين» ليهزأ من طلب اليقين في حياة الفكر وحياة العمل على السواء، كان أهل الغرب الأوسط جميعا ممن نزحوا حديثا، فقلما تجد أسرة هناك عندئذ امتدت إقامتها أكثر من جيل واحد أو جيلين، وقد نزحوا من كل فج من فجاج الأرض، فكأنما جاءوا جميعا لا يحملون بين جنوبهم إلا شيئا واحدا، وهو أن يخاطروا ويغامروا، فمن ذا كان يعبأ عندئذ هناك بالتقاليد الموروثة أو بأصول الثقافات القديمة؟ نظر الجميع إلى أمام لا إلى وراء، مؤمنين بأن النجاح أكبر احتمالا من الإخفاق.
ذلك هو طراز القوم الذين ذهب «ديوي» بينهم ليعلم أبناءهم في جامعة شيكاغو، فأي شباب تتوقع له أن يختلف إلى الجامعة؟ شباب كالآباء، يريدون العلم الذي يعين على العمل، يريدون الفكر الذي يرسم طريق النجاح، إنهم لم يكونوا كالشبان الذين ألفتهم جامعات أوروبا، بل الذين ألفتهم جامعات الجهة الشرقية من الولايات المتحدة نفسها، جاءوا وفي رءوسهم تقدير للثقافة في ذاتها، كلا؛ فقد تغيرت معهم وجهة النظر، وجاءوا ينشدون العلم الذي يكون قريب الصلة بما هم مقبلون عليه من حياة عملية سريعة الخطا، لم يكونوا يريدون - بالطبع - دراسة اللاتينية أو الإغريقية أو غيرهما من الدراسات النظرية البحتة التي هي في الحقيقة مخلفات الثقافة الأرستقراطية القديمة، التي كانت تصلح لأهل الفراغ من أبناء الطبقات الثرية، أمثال هذه الدراسات لم يعد بذي نفع في مجتمع ديمقراطي كل أبنائه قد خلقوا للعمل، وللعمل الجاد، فإن كان طلاب الجامعات القديمة ينشدون النظريات التي يدرسونها وهم جالسون على مقاعدهم؛ فقد جاء هؤلاء إلى الجامعة يريدون العمل بأيديهم، فإذا ما كان الموضوع مما لا يقتضي عملا مباشرا، فليكن إذن شديد الصلة بما يعمل.
فكيف يجيء تيار الفكر في رأس فيلسوف حساس لما حوله من ظروف، إن كانت هذه الظروف هي التي تحيط به؟ هل يمكن أن يتجه بفكره إلى غير العمل؟ هل يمكن أن تدفعه هذه الرغبات الجامحة من حوله نحو النظر إلى المستقبل، ثم يلتفت رغم ذلك إلى الماضي؟ كلا، وهكذا كان الأمر مع «ديوي»، تشكك في قيمة التقاليد كلها، كالتقليد الذي جرى بين المفكرين الأمريكيين الأولين من أن للإنسان حقوقا طبيعية كانت لهم قبل اجتماعهم في مجتمع، وكالعرف الذي يقضي بالرجوع إلى السابقات في أحكام المجتمع أو أحكام القضاء، وكالاعتقادات الدينية في صورها الجامدة، بل والافتراضات العلمية التي قد تكون قائمة على غير أساس يبرر قيامها، إن كل شيء في حياة الإنسان قابل للتغير إن دعت الضرورة إلى تغييره، ولا يجوز أن يقف شيء - كائنا ما كانت قيمته وقداسته - حائلا في مجرى الإصلاح الاجتماعي وتوفير العيش الرغيد للإنسان العامل ، لا بد من تغيير قواعد الأخلاق إن اقتضى الإصلاح هذا التغيير، ولا بد من تغيير أسس السياسة والاقتصاد والتربية وكل شيء مما قد يظن به الدوام والثبات، في سبيل تغيير الحياة تغييرا يجعلها أكثر ملاءمة لظروف العصر الجديد.
وماذا تكون الفلسفة إن لم تكن - كما يصفها «ديوي» - تعبيرا عقليا عن الصراع الداخلي الذي يسري في ثقافة العصر؟ مهمة الفلسفة هي أن تتعقب خيوط هذا الصراع إلى أصولها لتضع أمام النظر مصادر القوى التي تتجاذب عقول الناس، فيسهل بذلك تشخيص الداء ووصف الدواء، والحق أنك إذا أمعنت النظر في أي فلسفة شئت، فمهما كانت هذه الفلسفة في ظاهرها منعزلة عن تيارات الحياة العملية، فستجدها في الحقيقة معبرة عما تنطوي عليه تلك الحياة في عصرها من مبادئ أساسية يسير الناس في نشاطهم العملي على مقتضاها، شعروا بذلك أو لم يشعروا، فهكذا كانت فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو - مثلا - دفاعا في صميمها عن المثل العليا التي كانت هدف المدنية اليونانية يدافعون عنها إزاء هجمات الشكاك، فلولا تلك الهجمات الانقلابية لكان من المحتمل ألا ينشأ سقراط مدافعا عن القيم الأخلاقية الثابتة، أو ألا ينشأ أفلاطون ليقيم الحجة على وجود عالم فكري ثابت رغم ما قد يبدو للعين من صيرورة وتغير، أو ألا ينشأ أرسطو ليستهدف الغاية نفسها في الأخلاق وغيرها، ثم انتقل إلى العصور الوسطى الدينية، وانظر ما مهمة الفيلسوف عندئذ، كان همه الأول والأخير أن يدافع عن العقيدة الدينية السائدة بسند من الفلسفة.
لكن مهمة الفيلسوف وإن تكن دائما تعبيرا عقليا عما تنطوي عليه حياة الناس من مبادئ، إلا أنها قد لا تكون دائما دفاعا عن النظام القائم، كما كانت الحال في أعلام الفلسفة اليونانية والفلسفة الوسيطة؛ لأنه قد يحدث أن تأخذ حياة الناس في التغير والانقلاب، وأن تأخذ مبادئ حياتهم - بالتالي - في التحول والتبدل، وعندئذ يقوم الفيلسوف بمهمته نفسها، مهمة التعبير العقلي عن المبادئ التي تنطوي عليها حياة الناس، فإذا هي فلسفة تدعو إلى وجوب الانقلاب والثورة؛ لأنها فلسفة جاءت في عهد انقلاب وثورة، هكذا كانت فلسفة «ديكارت» مثلا عند خروج أوروبا من عصرها الوسيط إلى عصرها الحديث، حين دعا الناس إلى تغيير منهج التفكير، وهكذا أيضا «ديوي» الذي لم يسعه إلا أن يكون بفلسفته داعيا إلى تغيير القيم؛ لأن الحياة التي أحاطت به كانت تسير بالفعل نحو هذا التغيير، «فلو استطعنا أن نحدد الأهداف التي ارتسمت في تصوره، والوسائل التي رآها موصلة إلى تلك الأهداف، استطعنا فهم فلسفته، وعندئذ نرى كيف تتكامل آراؤه التي أدلى بها في ميادين مختلفة فيما بينها اختلافا بعيدا، لكنها مع ذلك تتكامل في نظرة واحدة شاملة لما عساه أن يحقق التقدم في مجتمعنا ... وأول ما تعنى به فلسفة ديوي من أهداف هو مشكلات الديمقراطية الأمريكية.»
16
وليس من شك في أن أول حجر يوضع في بناء الديمقراطية هو التربية التي تؤدي إلى ذلك؛ ومن ثم كانت التربية أحد ميادينه الأساسية التي خلق فيها وابتكر، ففي عام 1899م أخرج كتابه «المدرسة والمجتمع» يشرح فيه طرائقه التي كان يتبعها في مدرسته التجريبية الملحقة بالجامعة، وكان مبدؤه الأساسي هو أن يجعل من تلاميذ المدرسة مجتمعا صغيرا يشبه المجتمع الكبير في حياته ونشاطه، فيهيئ للتلاميذ المواد الخامة المختلفة ليصنعوا منها أشياء تتناسب مع قدراتهم، وخلال هذه الصناعة يتعلمون ما يتعلق بها من علوم، ثم تلا ذلك كتاب آخر في التربية أخرجه عام 1916م، هو «الديمقراطية والتربية» يبين فيه أن التربية هي العملية التي تعين الجماعات الإنسانية على استمرار وجودها، لا بمجرد المحافظة على التقاليد القديمة مهما يكن نوعها، بل بسرعة المواءمة بين نفسها وبين بيئتها، فتغير من نفسها بما يقتضيه تغير البيئة.
فلو أردت عبارة واحدة قصيرة تلخص لك صميم فلسفة «ديوي» فهاك هذه العبارة: «إن التطبيق العام لمناهج العلم في كل ميدان ممكن من ميادين البحث، هو الوسيلة الوحيدة القادرة على حل مشكلات الديمقراطية الصناعية.»
17
هذه هي النتيجة التي انتهى إليها «ديوي» بكل فلسفته على تنوع ميادينها، وهي أن نصطنع المنهج العلمي في كل موضوع نفكر فيه، لا فرق في ذلك بين اقتصاد أو تربية أو دين أو أخلاق أو سياسة، ففلسفته إذن هي في حقيقتها «منهج»، لا يعنيه أن يقدم للناس حقائق بعينها بقدر ما يعنيه أن يقدم لهم منهجا يطبقونه في كل موضوع، وهو إذا ما بحث موضوعا معينا، فإنما يبحثه أولا وقبل كل شيء على أنه «مثل» يطبق عليه منهجه في البحث، فما عناصر هذا المنهج؟
كان كتاب «وليم جيمس» في أصول علم النفس (صدر 1890م) هو الضوء الذي اهتدى به «ديوي» أخيرا في تشكيل منهجه وخطته في التفكير والبحث، فلم يكن ذلك الكتاب مجرد كتاب في علم النفس كسائر الكتب، بل كان فاصلا بين عهدين في ذلك العلم، إذ اعتبر «العقل» نمطا معينا من السلوك، يعالج به الإنسان بيئته على نحو يعينه على الحياة، فالعلامة الدالة على وجود «العقل» في أية ظاهرة سلوكية هي أن نلحظ فيها استهدافا لغايات مستقبلة، واختيارا للوسائل المؤدية إلى بلوغ تلك الغايات،
18
واستخراج مكنون هذه العبارة - ومكنونها طويل عريض عميق غزير - هو الأساس الذي أقام عليه «ديوي» منهجه وبنى عليه تفكيره.
وأولى النتائج التي تترتب على هذه العبارة، هي أن «العقل» سلوك ذو طابع معين، وليس هو بالكائن الروحاني الغيبي الذي يختلف عن الجسم الحي الفعال، كما هو الرأي عند الفلسفة المثالية، وعند «ديوي» نفسه في مرحلته الأولى؛ لأنه كان إبان تلك المرحلة - كما أسلفنا - هيجلي الاتجاه في فلسفته، وثانية النتائج التي تنتج من العبارة نفسها هي أن القيم والغايات التي بمقتضاها يعمل الإنسان ويسعى، إما أن تكون جزءا لا يتجزأ من طبيعة العالم الخارجي نفسه، بحيث يجيء الإنسان فيدركها، ثم يعمل على تحقيقها، أو أن تكون من خلق الإنسان، يخلقها لتكون له وسائل يوائم بها بين نفسه وبين العالم الطبيعي أو المجتمع الذي يعيش فيه، وهي على كلا الفرضين ليست شيئا سابقا بوجوده على وجود العالم الطبيعي أو المجتمع، بل تنشأ نتيجة لازمة لاتصال الإنسان بمحيطه اتصالا يظهر فيه كفاحه واختياره وأسلوبه في معالجة المواقف الجزئية التي تعترضه أثناء الحياة الجارية ، وثالثة النتائج التي تستخلص من العبارة المذكورة، وربما كانت أهم النتائج أن الإنسان إذا ما نشط حيال بيئته من طبيعة ومجتمع، فإنما يكون المستقبل هو رائد نشاطه، أي إن معنى نشاطه هذا لا يكون إلا بالنظر إلى ما يتولد عنه من نتائج من شأنها أن تغير أوضاع الأشياء تغييرا كبيرا أو صغيرا، يكون سببا في إزالة مشكلاته التي اعترضت سبيله، وما دام الأمر كذلك، فالنتيجة الرابعة هي أن ليس هنالك قيم ثابتة على الزمن، لا تتغير مهما تغيرت الظروف والمواقف، إنما القيم ملازمة للحياة في تغيرها، فكلما تغيرت هذه، تغيرت تبعا لها تلك؛ إذ ماذا عسى أن تكون هذه القيم - في الأخلاق أو في السياسة أو غيرهما - إن لم تكن أدوات يستخدمها الإنسان في سلوكه؟
وهنا نصل إلى صميم فلسفته، فلسفة «الذرائع»؛ وهو اسم أطلقه «ديوي» على اتجاهه البراجماتي الخاص، الذي اختلف به عن زميليه «بيرس» و«جيمس»، وإن يكن في اتجاهه ذاك أقرب إلى «بيرس» منه إلى «جيمس»؛ فقد كان من رأي «بيرس» أن الأفكار الكلية إن هي إلا عادات سلوكية اعتادها الإنسان ليتصرف بها في المواقف العملية التي تشير إليها تلك الكلمات، فكأنما الفكرة الواحدة من هذه الأفكار الكلية هي بمثابة خطة تضبط السلوك وتوجهه، وهكذا ارتأى «ديوي» حين جعل الأفكار «ذرائع» تتذرع بها في توجيه السلوك وضبطه توجيها وضبطا يحقق للإنسان غاياته المنشودة، فمهما تكن الفكرة، فهي تتضمن خطة للعمل، وإذا لم تكن كذلك فهي ليست من الفكر في شيء، وكما أن هذا العمل المتضمن في الفكرة هو معناها، فهو نفسه كذلك طريقة تحقيقها التي نميز بها الفكرة الصائبة من الفكرة الخاطئة، فأما الصائبة فهي التي إذا ما سلكنا وفق الخطة العملية التي ترسمها، انتهى بنا ذلك السلوك إلى ما نبتغي، وأما الخاطئة فهي التي لا تؤدي خطتها العملية إلى الغاية المقصودة، وإذن فتحقيق صواب الفكرة لا يكون في الخلاء، إنما يكون في نسيج الواقع، هذا الواقع الذي لا نراه دائما متفقا مع أهدافنا، فنلجأ إلى تغييره بما يتفق مع صوالحنا، تغييره بماذا؟ تغييره بأفكارنا، فإذا لم تكن هذه «الأفكار» أدوات أو ذرائع تعين على ذلك فهي لغو باطل، وخطأ فاحش أن نفرق بين ما هو نظري وما هو عملي من جوانب حياتنا؛ إذ يستحيل فصل «الأفكار النظرية» عن «تطبيقها العملي»، ثم تظل مع ذلك أفكارا توصف بالصواب والحق، فالفكر والعمل طرفان لخيط واحد، أو جانبان من شيء واحد، أحدهما مكمل للآخر، ومتصل به اتصالا وثيقا، ليست علاقة الفكر بمقصورة على زميلاتها من أفكار؛ بحيث يبدأ الأمر وينتهي داخل الرأس بغض النظر عن الواقع الخارجي، بل الفكرة خيط من نسيج خيوطه مزيج محتوم من أفكار في الداخل وحوادث طبيعية في الخارج.
ولا تفكير إلا إذا اعترضت الإنسان مشكلة تتطلب الحل، أعني أنه لا تفكير إذا لم نجد حقائق الواقع متعارضة مع تحقيق أغراضنا على وجه من الوجوه، فعندئذ نقف حيال ذلك الواقع «لنفكر» كيف نغير من أوضاع عناصره وأجزائه، بحيث يتخذ الوضع الذي يخدم أغراضنا، لا تفكير إذا ظل الإنسان سابحا في «فكره» بعيدا عن دنيا الحوادث الخارجية؛ لأنه عندئذ يكون حالما أو كالحالم، ويسوق «ديوي» لذلك مثلا مشهورا، جاء في كتابه «كيف نفكر»،
19
مثل من يمشي خلال الغابة قاصدا إلى غاية معينة ليبلغها في وقت معين، ثم تعترضه قناة، فإن كان عبور القناة ممكنا بقفزة واحدة، فلا تفكير؛ لأنه لا إشكال، لكن يبدأ التفكير حين تنهض أمامه المشكلة: كيف يعبر القناة ما دامت القفزة الواحدة لا تكفيها؟ أيخوض بثيابه في الماء إن كان الماء ضحلا؟ أيبني جسرا من فروع الشجر؟ هل يترك غايته المنشودة ويقفل في طريقه راجعا؟ إلى آخر هذه الأسئلة التي يظل يلقيها على نفسه وهو واقف أمام القناة «يفكر» ماذا عساه صانع للتغلب على هذه المشكلة التي اعترضت طريقه، وواضح أن الفكرة التي تنشأ عندئذ لا بد أن تكون ذات علاقة وثيقة بالموقف الراهن الماثل أمامه، ولا بد لها أن ترسم خطة واضحة التفصيلات لما ينبغي عمله، فإن لم تكن كذلك لم تكن شيئا، وواضح كذلك أن الفكرة التي تطرأ لذلك السائر الذي يريد أن يعبر قناة معينة في ظروف معينة، إنما يكون تحقيقها عملا وفعلا هو معناها وهو وسيلة اختبار صوابها في آن واحد، أي إنه لا تمييز بين أن يكون للفكرة «معنى» وأن تكون «صوابا»، وبعبارة أخرى لا نحكم على الفكرة بأنها صواب على أساس معيار عقلي خالص، منفصل عن دنيا العمل، بل نحكم بصوابها بالاحتكام إلى تنفيذها، وهكذا ينشأ الفكر وينمو مصاحبا لنشأة مشكلة عملية أولا، ثم لتتابع حلقات من أفعال مؤدية إلى الغرض المقصود، وبعبارة ثالثة، الفكر لا يتم فكرا إلا إذا ارتبط بما ليس فكرا، لو ظل الفكر دائرا حول نفسه، بأن ينتقل من فكرة في الرأس إلى فكرة في الرأس ثم إلى ثالثة فإلى رابعة، فلن يكون جديرا باسمه، وإنما يكون الفكر فكرا حين يمتد إلى ما وراء حدوده النظرية إلى حيث العمل والتنفيذ.
وما «المنهج العلمي» إلا الطريقة التي يستخدمها الإنسان في خروجه من دائرة الفكر المحض إلى دنيا العمل، فكيف يتم هذا؟ يتم بالاستنباط وبالاستقراء في آن معا، فأنت إزاء المشكلة تفرض فرضا معينا تظن أنه ممكن التنفيذ، وأنه بتنفيذه سيزيل المشكلة التي اعترضت سبيلك، وتنفيذه يقتضي بالطبع أن تستخلص منه النتائج التفصيلية التي تترتب عليه، وذلك هو الاستنباط، وعندئذ تخرج إلى الدنيا الخارجية بغية التنفيذ وفق تلك التفصيلات التي تحددت بفضل الفرض الذي فرضته معينا لك في موقفك، وها هنا ستصطدم بالوقائع ذاتها والحوادث ذاتها، فتراها بالعين وتلمسها باليدين، وعندئذ تدرك إدراكا عمليا قائما على المشاهدة وعلى التجربة إن كان فرضك الأول صوابا، بمعنى أنه مؤد إلى الغاية المنشودة، أو لم يكن، وهذه هي مرحلة الاستقراء في حل المشكلة، ولا تتم عملية التفكير إزاء مشكلة من المشكلات إلا إذا أجرينا التجربة العملية على الفرض الذي فرضناه حلا لها، وتمت التجربة بالنجاح المطلوب.
ومرحلة «الفرض» - أي مرحلة «الحل المقترح» - هي التي يسميها «ديوي» فكرة، وإذن «فالفكرة» هي اقتراح قدمه الإنسان لنفسه لحل مشكلة معينة من مشكلات حياته، حين يكون ذلك الاقتراح لا يزال معلقا ينتظر التنفيذ؛ وبالتالي ينتظر الاختبار، وبديهي أن مثل هذه «الفكرة» لا توصف بأنها «حق» إلا إذا كانت دليلا هاديا يسدد خطا صاحبها في مرحلة السلوك، أي في مرحلة التنفيذ، فصوابها هو في هدايتها لصاحبها، وليس صوابها صفة لاصقة بها بغض النظر عن أثرها في مجرى السلوك والعمل «فالحق هو ما يهدينا هداية موفقة، القدرة المحققة في مثل هذه الهداية الموفقة هي على وجه الدقة ما نعنيه بكلمة الحق»،
20
وهنا نلاحظ الفرق البعيد بين هذا المعنى «للحق» وبين ما جرى به التقليد عند الفلاسفة السابقين، الواقعيين منهم والمثاليين على حد سواء؛ فقد كان صدق الفكرة عند هؤلاء جميعا صفة ننعت بها «كائنا» ساكنا لا حركة فيه ولا فاعلية؛ إذ ننعت بها شيئا قائما برءوسنا، فنقول عن ذلك الشيء إنه صادق أو إنه حق إذا كان صورة صحيحة لأصل في الخارج - وهؤلاء هم الواقعيون - أو إذا كان متسقا مع سائر ما يحتويه العقل من أفكار - وهؤلاء هم المثاليون - أما عند «ديوي» وزملائه البراجماتيين، فالصدق أو الحق صفة ننعت بها «صيرورة» وحركة وسيرا وفعلا، الحق صفة «سكونية» عند أولئك، وهو صفة «حركية» عند هؤلاء، ويقتضي هذا الرأي الجديد في طبيعة «الحق» ألا يكون سابقا على الإنسان وخبرته، لم يكن هنالك قبل الإنسان ومشكلاته ونشاطه في حل تلك المشكلات «حق» أزلي، إذ كيف يكون ولا إنسان هناك ولا إشكال ولا نشاط لحل ذلك الإشكال؟ ثم جاء الإنسان ونشأت مشكلاته، فنشأت مع ذلك حلوله لها، فكان الحل الموفق منها «حقا» ومن مجموعة هذه الحلول الموفقة لمجموعة المشكلات العملية في الحياة الإنسانية يتألف «الحق»، ولعلك تلاحظ أن هذا الاختلاف بين الرأي التقليدي في «الحق» وبين الرأي الجديد، يتضمن اختلافا في الأساس الاجتماعي والأخلاقي على السواء؛ فقد كان المجتمع قديما مؤلفا من سادة يأمرون ورعية تؤمر؛ وبالتالي فهو مؤلف من فئة تفرض معيار الحق فرضا، وما على الناس إلا أن يقيسوا أفكارهم إلى ذلك المعيار المفروض، فإن طابقته كانت صوابا وإلا فهي خطأ، وهذه حالة من يريد أن يحافظ على النظام القائم لا يتناوله بالتعديل والتبديل، وهي حالة تستتبع ألا تقع على السواد من أفراد الناس تبعة خلقية؛ إذ التبعة كلها واقعة على السيد الآمر الذي سن القانون وشرع المعيار، أما النظرة البراجماتية فتفترض عدم الثبات في القيم والمعايير، وتفترض - بل تستوجب - ضرورة تغييرها لتلائم الظروف القائمة، وإذن فكل فرد مسئول أمام المشكلة التي تعترضه، مسئول عن حلها حلا موفقا، فيكون هذا الحل الموفق هو الصواب والحق؛ «فاعترافنا بأن الحق هو نجاح التنفيذ، وليس يعني إلا هذا، إنما يضع على الناس تبعة، هي أن ينفضوا أيديهم من الاعتقادات الجامدة في السياسة والأخلاق، وأن يخضعوا أعز معتقداتهم للاختبار العملي الذي يجعل النتائج مقياس الحق، وأن هذا التغيير في وجهة النظر ليتضمن تغييرا في مركز السلطة وفي وسائل اتخاذ القرارات في حياة المجتمع.»
وفي هذه النقطة الأخيرة تتبين إحدى أوجه الاختلاف بين «ديوي» و«جيمس» كما يتبين الاتفاق بينه وبين «بيرس»، فهم جميعا متفقون على أن النتائج الناجحة الموفقة هي ما نعنيه بصفة «الحق» أو «الصدق» أو «الصواب» التي نصف بها فكرة معينة، لكن «جيمس» يجعل نجاح النتائج مرهونا بالفرد الواحد، وإن يكن يفضل أن يكون ما يرضي الفرد الواحد مرضيا في الوقت نفسه للناس جميعا، لكن الأساس هو أن تصادف الفكرة في نفس صاحبها رضا من حيث نتائجها في حياته العملية؛ ومن ثم كان رأيه الخاص بصواب عبارة مثل «الله موجود»؛ لأن الفرد المعتقد في صوابها ستتغير وجهة نظره إلى الحياة وطريقة سلوكه، ومن هنا يكون صدقها له، مهما يكن أمرها عند سائر الناس، وأما «بيرس» و«ديوي» معا فيجعلان نجاح النتائج مرهونا «بالمجتمع»؛ أي مرهونا باتفاق الأفراد، فلا فرق عندهما بين المنهج العلمي عند مجموعة العلماء في المعمل، وبينه عند مجموعة الأفراد في المجتمع، حتى لقد كان المثل الأعلى عند «بيرس» هو أن يتكون في الحياة «مجتمع معملي» أي مجتمع كالذي ينشأ حين يجتمع العلماء على مشكلة معينة يتعاونون معا على حلها، فهل ينفرد العالم في معمله بالنتيجة التي ترضيه هو بغض النظر عن زملائه، أم يتحتم عليه أن يعرض نتيجة تجاربه على الزملاء العلماء ليقروه على نجاحها في حل المشكلة التي هي موضوع البحث؟ النجاح المقصود إذن عند «بيرس» وعند «ديوي» هو نجاح بالنسبة لمجموعة الأفراد.
21
وكما يختلف «ديوي» عن الفلسفات التقليدية في معنى «الحق» بأن جعله متغيرا مع تغير الظروف العملية بعد أن كانت تلك الفلسفات تجعله ثابتا رغم تغير الظواهر، فكذلك يختلف عنها في حقيقة الطبيعة ذاتها؛ لأنها عنده متغيرة الحوادث، وكانت عندهم - أو عند أغلبهم - حقيقة ثابتة،
22
فالفيلسوف - في رأي «ديوي» - إذا ما تنكر للحوادث في تغيرها الدائب، انتظارا منه للحق الثابت، فإنما يقطع الصلة بينه وبين الكون الذي يزعم أنه موضوع تفكيره وتحليل عملية التفكير على النحو الذي أسلفناه، هو في ذاته دليل على أن قوام الطبيعة حوادث تطرأ ويتغير مجراها؛ إذ ما دام التفكير لا يكون إلا بتغيير عناصر الموقف الذي نفكر فيه، فالعالم إذن طبيعته تسمح بهذا التغير، ولا يقين هناك ولا ثبات؛ لأننا في كل موقف وعند كل مشكلة ننتظر نتائج الخطة التي ننفذها، غير موقنين بنجاحها، حتى إذا ما نجحت كانت صوابا أو أخفقت كانت خطأ.
خذ هذا المنظار وانظر به إلى بعض المشكلات الإنسانية الكبرى، وكيف كان يتناولها الفلاسفة الأقدمون، وأولها مشكلة الأخلاق: فمتى يكون الفعل فضيلة؟ إنك لو استثنيت المذهب المنفعي في الأخلاق - وهو مذهب «بنثام» و«مل» في إنجلترا - الذي يقيس أخلاقية الفعل بنتائجه في حياة الإنسان، وجدت الكثرة الغالبة من سائر المذاهب الفلسفية تضع للفضيلة معيارا فرض على الحياة الإنسانية من خارج، فالمعيار آنا يكون دينيا هبط من السماء كالوصايا العشر مثلا، فإذا كان الإنسان لا ينبغي له أن يقتل أو أن يسرق، فلأن أمرا نزل إليه من السماء بألا يقترف إثما كهذا، والمعيار آنا آخر يكون عقليا، فيقول لك الفيلسوف الذي يسند الأخلاق إلى حكم العقل - مثل «كانت» - إن الفعل يكون فضيلة؛ لأن منطق العقل يقره، بمعنى أنه لا يقتضي من النتائج ما ينقض بعضه بعضا، فالقتل - مثلا - رذيلة وإثم؛ لأنه لو عم الناس جميعا لما بقي هناك من الناس قاتل، وإذن فسيفنى الفعل نفسه، أي ينقض نفسه بنفسه وهكذا، لكن هذه المذاهب في الأخلاق تغض النظر عن حياة الإنسان بتفصيلاتها، كأنما الإنسان حقيقة مجردة قائمة في الفراغ، وليس متصلا بأقوى الوشائج مع بيئته وظروفها، كيف تنمو الشجرة إلا باتصالها بتربة الأرض وضوء الشمس؟ الشجرة النامية جزء من كل عضوي لا يمكن تصورها وحدها معزولة مفصولة عن سائر الظروف التي تحيط بها، وكذلك الإنسان حين يعمل ويسلك في حياته، وإذن فيستحيل الحكم على أفعاله إلا وهي منبعثة من ظروف معينة وفي محيط معين وإزاء مشكلة معينة؛ ولذلك لا يمكن أن تستقل «الأخلاق» علما قائما بذاته لا يتصل بسائر العلوم؛ لأن الأفعال الإنسانية التي هي موضوع البحث عند «الأخلاق» هي تعبير عن الطبيعة البشرية التي تتعاون على دراستها وفهمها طائفة من علوم، لا علم واحد بذاته، ودارسة هذه الطبيعة البشرية واجبة، لا لنعرف ما هي، ثم نقف بعد ذلك بأيد مكتوفة على صدورنا، بل ندرس الطبيعة البشرية - كما ندرس أية ظاهرة أخرى - لنمسك بزمامها ونعرف كيف نغيرها لتلائم بيئتها وظروفها، وإذا كان هذا هكذا، فالأمر في «الأخلاق» إنما يتخذ موقفا وسطا بين طرفين؛ فلا هو يتنكر للحوادث الجزئية المتغيرة حبا منه لمثل أعلى يتصف بالثبات والدوام على مر الزمان واختلاف المكان - كما يفعل المثاليون - ولا هو يقبل الواقع كما هو ليخضع له دون أن يغير منه - كما يفعل الواقعيون، ولكنه يتناول هذا الواقع نفسه بالتغيير ليسير به نحو قيم خلقها الإنسان لنفسه بوحي من ظروفه، وتلك هي «الأخلاق» التجريبية كما فهمها «ديوي»، وهي - في رأيه - الأخلاق التي تحقق للإنسان حريته؛ إذ لا معيار له في أخلاقه إلا حياته ومشكلاته هو وطريقته هو في حل تلك المشكلات حلا موفقا ناجحا، ثم هي الأخلاق التي تحقق للإنسان ديمقراطيته بمعناها الصحيح؛ لأن مبدأه الأول سيكون استعداده لتغيير ما يحتاج إلى تعديل وتبديل في حياته الاجتماعية، وليس هو الطاعة العمياء لسابقة مر زمانها وانقضى، وهبطت إلينا في ثوب من العرف أو التقليد.
23
المثل الأعلى للمجتمع الديمقراطي هو أن يتعاون الناس معا كما يتعاون العلماء في المعمل، فالقاعدة الأولى هي - إذن - «الإخاء» بمعنى التعاون، ومن هذه القاعدة تتفرع «الحرية» و«المساواة» فليست هاتان حقين طبيعيين من حقوق الإنسان كما زعم قادة الثورة وحركة التنوير في آخر القرن الثامن عشر، أي إنهما لم ينشآ إلا بعد تكوين المجتمع، وبعد قيام التعاون بين أفراده، فالإنسان «حر» في مجتمع ديمقراطي يتعاون أفراده على قدم «المساواة»؛ ولذلك وجب أن يكون الاعتماد الأول في مثل هذا المجتمع الديمقراطي، على الجمعيات التطوعية لا على الحكومة، فلا ينبغي أن تجاوز الحكومة بنشاطها حدود تنظيم تلك الجمعيات بحيث لا تتضارب وسائلها وغاياتها، أما فيما عدا ذلك فالجماعة تحدد أهدافها ووسائلها، ثم يتعاون أفرادها في سبيل تحقيق تلك الأهداف تعاونا يتبعه الحرية والمساواة بين هؤلاء الأفراد، يتبادلون الخبرة بما يعين بعضهم بعضا، كما يفعل العلماء في المعمل إزاء مشكلة معينة.
وهذا التعاون هو الدين في جوهره، فالإيمان الحق إنما هو إيمان بالكشف عن الحقيقة التي تحل ما يعترض الإنسان من صعاب، الإيمان الحق إيمان بمنهج يساير التفكير ويساير الحياة العملية مسايرة تعمل على ازدهار تلك الحياة ورخائها، لا إيمان بحقيقة ثابتة كمل تكوينها وعرفناها بالوحي معرفة لا تقبل التغير ولا النمو،
24
و«الله» هو هذه العلاقة بين الإنسان ومثله العليا، يحاول تغيير أوضاع الحياة على مقتضاها،
25
ليس للدين مثل عليا خاصة به ولا منهج للتفكير خاص به، إنما هو روح تسري في مواقف الإنسان كلها إزاء خبراته، هو الروح الذي يصطنعه إذ هو فرد متعاون مع إخوان له في مجتمع واحد، يريد أن يبلغ وإياهم هدفا واحدا، ليس الدين في «الكنيسة» إنما هو في مواجهة المشكلات وحلها.
الفصل السادس
الفلاسفة يتشبهون بالعلماء
(1) الواقعية الجديدة
كان غرور الإنسان منذ أقدم عصوره قد خيل له امتيازا لنفسه عن سائر الكائنات؛ فهو ذو عقل وبقية الكائنات لا عقول لها، فإن كان يبدو في رأي العين واللمس أنه جسد كسائر الأجساد، فذلك جانب منه ظاهر، وأما جانبه الآخر الخفي، جانبه الحقيقي؛ فهو عقله أو نفسه أو روحه، أو ما شئت من هذه الألفاظ التي تتفق على الإشارة إلى ما ليس بجسد من حقيقة الإنسان، وإذن فالإنسان في حقيقته عنصران مختلفان: جسم يشترك في طبيعته مع ما في الطبيعة من أجسام، وعقل يمتاز به من سواه، ثم وسع الإنسان رقعة هذا التخيل الذي أوهم به نفسه عن طبيعته، حتى شمل به الكون كله، بحيث جعل هذا الكون أيضا ذا عنصرين: طبيعة مادية، يكمن فيها أو وراءها أو فوقها عقل كبير يسيرها ويدبرها كما يسير عقل الإنسان جسده ويدبره.
هكذا لبث الإنسان قرونا طويلة يعتز بنفسه إذا قيست إلى سائر الكائنات، وبكوكبه الأرضي إذا قيس إلى سائر الكواكب؛ إذ لبث يتوهم طوال تلك القرون أنه في هذا الكون سيد مكرم، من أجله خلق العالم، وحول أرضه تدور الكواكب.
ثم جاء العلم الحديث، فلم يزل به خطوة بعد خطوة، كاشفا له عن حقيقة نفسه، مزيحا لهذه الغشاوة عن عينه، حتى أوشك آخر الأمر أن يقنعه بأن أرضه كوكب كسائر الكواكب، وبأنه هو نفسه ظاهرة طبيعية كسائر الظواهر، وبدأت مجهودات العلم في هذا السبيل ب «كوبرنيق» (في القرن السادس عشر) الذي أثبت أن الشمس - لا الأرض - هي مركز المجموعة الشمسية، حولها تدور أجزاء تلك المجموعة ومن بينها الأرض، وإذن فالأرض مسكن الإنسان هي كغيرها جرم يدور حول الشمس، لا يزيدها شرفا عن غيرها أن الإنسان يسكنها.
فأخذ الإنسان بعد هذه الضربة العلمية لغروره، يعزي نفسه ويغذي غروره بأنه وإن زالت عن الأرض مكانتها الممتازة بين سائر أخواتها الكواكب، فلا يزال الإنسان بين سائر الكائنات التي تسكن تلك الأرض صاحب امتياز وسيادة، وهنا جاءت الخطوة العلمية الثانية على يدي «دارون»؛ إذ أوضح له بنظريته في التطور أنه كغيره من الكائنات الحية حلقة في سلسلة التطور، وأنه كغيره من تلك الكائنات نتيجة لعوامل الانتخاب الطبيعي الذي يمحو ما ليس يصلح للبقاء في هذه المعركة الدائمة بين الطبيعة من ناحية، وبين صنوف الكائنات الحية من جهة أخرى.
فاستمسك الإنسان بآخر حصن له في الاعتداد بنفسه، وراح يقنع نفسه بأنه وإن تكن العوامل الطبيعية قد أمدت كل ضرب من ضروب الأحياء بالوسيلة التي تعينه على دوام البقاء؛ فقد كانت الوسيلة التي اختصت بها الإنسان هي أرقى الوسائل؛ إذ وسيلته في معركة البقاء هي العقل، بينما وسائل الكائنات الأخرى في تلك المعركة ذاتها هي الغرائز، وها هنا جاءت الضربة العلمية الثالثة على يدي «فرويد» الذي أزاح آخر ما بقي لنا من قناع الوهم؛ إذ بين لنا كيف نصدر في سلوكنا عن اللاشعور لا عن العقل، وإن خيل إلينا أن سلوكنا ذاك صادر عن عقل ومنطق.
هكذا انتهى العلم إلى «تطبيع العقل» - إن صحت هذه العبارة - أي إلى جعل «العقل» جزءا من الطبيعة وظاهرة من ظواهرها، فأزال بذلك تلك الثنائية التي ظلت شغل الفلسفة الشاغل منذ «ديكارت» الذي شطر الإنسان شطرين؛ فعقل طبيعته التفكير من ناحية، وجسم طبيعته الامتداد من ناحية أخرى، ولو جاز لنا أن نلخص أهم مجهودات الفلاسفة في هذه العصور الحديثة منذ «ديكارت» إلى يومنا هذا في عبارة واحدة موجزة قصيرة، لقلنا إنها مجهودات منصبة حول مشكلة «المعرفة» التي تترتب على هذه الثنائية التي شقت الإنسان نصفين، فما وسيلة العقل إلى معرفة عالم الأجساد، أي عالم الأشياء، أو الطبيعة، إذا كان العقل على هذا الاختلاف كله عن موضوع معرفته؟ كيف يتصل العقل بالمادة ليعرفها؟
لكن وجهة النظر الحديثة إن تكن قد انتهت إلى «تطبيع العقل» - كما قلنا - فقد اقتضى ذلك بالبداهة إلى «تعقيل الطبيعة» في الوقت نفسه؛ إذ أين نذهب بهذه الظاهرة ذات الطابع الخاص المميز، ظاهرة السلوك المعين الذي اصطلحنا على تسميته «عقلا»، أين نذهب بهذه الظاهرة إن لم ندمجها في ظواهر الطبيعة الأخرى، باعتبارها واحدة منها، وبذلك نكون - بفعلة واحدة - قد جعلنا العقل طبيعة، كما جعلنا الطبيعة محتوية على عقل، واذكر ما أسلفناه لك في الفصل السابق من المذهب البراجماتي الذي جعل الفكرة عملا، واذكر كذلك نظرية «وليم جيمس» فيما أسماه بالتجريبية المتطرفة، التي كان من أجزائها رده العقل والمادة إلى أصل واحد محايد لا هو بالعقل ولا هو بالمادة، بل يرتب على نحو فيكون عقلا، ثم يرتب على نحو آخر فيكون مادة.
وإنما نقول ذلك كله لنقرر به أثرا من آثار سيادة العلم في عصرنا الحديث على التفكير الفلسفي، لكن الأثر الأكبر للعلم الحديث على الفلسفة الحديثة - في رأيي - ليس هو في اصطناع الفلسفة لفكرة معينة وانتهائها إلى رأي بذاته، بل هو في انتهاج الطريقة العلمية في التفكير، بعد أن كان للفلسفة طريقتها الخاصة بها، كان الفيلسوف فيما مضى وحدة فكرية قائمة بذاتها - مهما تكن علاقته بسابقيه ومعاصريه ولاحقيه - لأنه كان دائما يستهدف بعمله الفلسفي إقامة بناء كامل، ونسق شامل يسع كل شيء، ويفسر كل شيء، فكان يتخذ لنفسه مبدأ يدركه بالحدس، ثم يستنبط من ذلك المبدأ نتائجه، ثم النتائج التي تترتب على هذه النتائج، وهكذا، حتى يتكامل البناء من سقفه الأعلى إلى أرضه السفلى، وإذا بهذا البناء فيه عن كل جوانب الوجود ما يفسرها في ضوء ذلك المبدأ، حتى إذا ما جاء فيلسوف آخر، ولم يعجبه هذا البناء، أقام لنفسه بناء آخر من سقفه الأعلى إلى أرضه السفلى، ليسع هو الآخر كل شيء ويفسر كل شيء على ضوء مبدأ جديد، وهلم جرا.
لكن ما هكذا العلماء، فإن كانت الخاصة المنهجية للفيلسوف هي أن ينفرد ببنائه، فخاصة العالم هي أن يتعاون مع زملائه العلماء، كل يضيف شيئا، وإن يكن هدف الفيلسوف أن يجعل الكون كله موضوع بحثه دفعة واحدة، فهدف العالم هو أن يقتصر - مع زملائه في البحث - على جزء واحد أو مشكلة واحدة، ولا عجب أن كان المكان المختار للفيلسوف، المكان الذي يختاره ويفضله أثناء قيامه بعملية التفكير، مكانا معزولا، كالدير أو ما يشبهه، وأن يكون المكان المختار للعالم معملا يلتقي فيه مع زملائه، وكان السكون وكانت الظلمة من موحيات التفكير عند الفلاسفة، فأصبحت الحركة وأصبح النور من لوازم التفكير عند العلماء.
وأراد الفلاسفة المحدثون أن يتشبهوا - من حيث المنهج - بالعلماء، فلم يطمع الواحد منهم في أن تخرج من رأسه الحكمة كلها كاملة التكوين كما خرجت «منيرفا» من رأس «زيوس» في أساطير اليونان، بل ما هو أكثر من ذلك، لم يطمع واحد منهم في أن ينفرد بنفسه في وضع كتاب في موضوع بحثه، حتى لقد أصبح الطابع الذي يميز التأليف الفلسفي في العصر الحاضر أقرب جدا إلى أن يتعاون جماعة من الفلاسفة على إخراج كتاب واحد في موضوع واحد، كل منهم يتناول الموضوع من ناحية خاصة على أن يكون بين الجميع أساس مشترك، هو وجهة النظر.
ومن الأمثلة على هذا الاتجاه العلمي في منهج البحث عند الفلاسفة، جماعة «الواقعيين الجدد»، ففي عام 1910م اجتمع ستة من الفلاسفة الأمريكيين؛
1
ليضعوا فيما بينهم أساسا يتفقون عليه جميعا، ثم يتعاونون معا على بناء فلسفة واقعية على ذلك الأساس المشترك، ولما كانت واقعيتهم التي اتفقوا على أساسها جديدة؛ فقد أسموها بهذا الاسم، ثم عرفوا به في الكتابات الفلسفية المعاصرة، ولم يلبثوا بعد بضعة اجتماعات عقدوها للمناقشة والمباحثة والدرس، أن أصدروا - في يوليو سنة 1910م - بيانا أطلقوا عليه هذا العنوان: «برنامج ومنصة أولى لستة من الواقعيين»،
2
ومضى بعد ذلك عامان، فأخرج هؤلاء الستة أنفسهم كتابا تعاونوا عليه، جعلوا عنوانه: «الواقعية الجديدة»
3 - دراسات تعاونية في الفلسفة - فكان هذا الكتاب المشترك هو بداية تسميتهم في دوائر البحث الفلسفي، حتى يومنا هذا باسم «الواقعيون الجدد».
لم يكن معنى اشتراكهم هذا اتفاقا بينهم على كل التفصيلات، ولا كان معنى اختلافهم في التفصيلات اختلافا كذلك على المبادئ، بل كانوا على اتفاق من حيث المبادئ، ثم ظهرت بينهم اختلافات تفصيلية لم تمنع أن يكون بينهم وحدة مشتركة في وجهة النظر، وماذا يكون موضوع البحث عندهم إلا هذا الموضوع الذي شغل الفلاسفة في العصور الحديثة كلها، وأعني به «المعرفة»؛ عندما يعرف الإنسان شيئا، فهنالك عارف ومعروف، فما العلاقة بينهما؟ أمن الضروري في تحديد تلك العلاقة المعرفية بين الطرفين أن ندرس الطرفين ذاتيهما أم يجوز الاكتفاء ببحث العلاقة دون الإيغال في بحث العارف على حدة والمعروف على حدة؟
أخذ الواقعيون الجدد بهذا الرأي الثاني، وهو أن البحث في «المعرفة» إنما يقتصر على تحليل «العلاقة» الكائنة بين الشخص العارف والشيء المعروف، وهم في تحليلهم لتلك العلاقة قد دمجوا ثلاثة من المذاهب الفلسفية في مذهب واحد.
فأما المذهب الأول فهو الذي كان قد شاع في إنجلترا عندئذ على يدي «جورج مور» وعرف باسم «فلسفة الحس المشترك»
4
التي تعتمد على خبرة الإنسان المباشرة في حياته اليومية، فما ينبئ به «الحس المشترك» هو صحيح، ولسنا بحاجة إلى إثبات صحته بالبراهين أيا كان نوعها، فهذه الدواة أمامي وهذا القلم في يدي، ولو تركت القلم إلى جانب الدواة على المنضدة، وخرجت من الغرفة لا أراهما ولا أمسهما، فسيظل القلم والدواة موجودين على الرغم من غيابي وعدم إدراكي لهما، هذا هو ما ينبئني به «الحس المشترك» وهو نبأ صحيح، فإن جاء مذهب مثالي بعد ذلك يحاول أن يبرهن لي على أنهما ليسا موجودين إلا باعتبارهما فكرتين في رأسي، كان كاذبا في دعواه، وكان كاذبا في برهانه على السواء، ودليل الكذب عندي هو نبأ «الحس المشترك» الذي لا يحتاج إلى دليل، وكذلك إن جاء مذهب واقعي يعترف معي بوجود القلم والدواة على الرغم من عدم إدراكي لهما أثناء غيابي عن الغرفة، كان صادقا في دعواه كاذبا في برهانه؛ لأنها دعوى لا تحتاج إلى برهان، فبين التجريبيين الإنجليز «باركلي» - في أول القرن الثامن عشر - الذي يدير مذهبه على مبدئه المشهور «وجود الشيء هو في إدراكه» أي إن ما لا يدرك لا وجود له، لكن هذه الواقعية الجديدة تأخذ بغير ذلك؛ إذ تأخذ بأن الشيء الموجود موجود بغض النظر عن إدراكنا أو عدم إدراكنا له، فإذا كنت وأنا أدرك الدواة أمامي على وعي بما أدرك، أي إنه إذا كان الوعي عنصرا من عناصر الموقف الإدراكي، فليس معنى ذلك أنه إذا غاب هذا العنصر زالت بقية عناصر الموقف كلها، بل قد يغيب عنصر الوعي؛ وبالتالي يمتنع الإدراك، ومع ذلك يظل الشيء المدرك على حاله موجودا كما كان، ولئن كانت حالة الإدراك تحدث تغييرا ما فإنما يقع هذا التغيير في الشخص المدرك؛ إذ يصبح على وعي بما لم يكن على وعي به.
وأما المذهب الثاني من المذاهب الثلاثة التي أدمجها الواقعيون الجدد في فلسفة واحدة؛ فهو الاعتراف بالوجود الضمني للمعاني الكلية جريا على المبدأ الذي أخذ به أفلاطون في «نظرية المثل»؛ فالمشكلة كما رآها أفلاطون، صاحب هذا المبدأ، يمكن وضعها كما يلي: خذ - مثلا - فكرة «العدالة»، فلو سألنا أنفسنا «ما العدالة؟» كان من الطبيعي للإجابة عن هذا السؤال أن نستعرض أمثلة من العدالة، فنستعرض هذا الفعل العادل وهذا وذاك، لكي نستخرج منها ما هو مشترك بينها، فيكون هذا المشترك هو معنى «العدالة»؛ لأنه من غير المعقول أن نطلق اسما واحدا على هذه الأفعال المختلفة دون أن يكون بينها جانب مشترك هو الذي يبرر لنا أن نسلكها جميعا تحت ذلك الاسم الواحد هذا الجانب المشترك هو «العدالة» نفسها، «العدالة» الخالصة قبل مزجها بعناصر أخرى لتكون هذا الفعل العادل أو ذاك، وقل هذا في كل اسم كلي آخر، حيث ينطبق الاسم الواحد على مسميات كثيرة؛ لأنها مشتركة في طبيعة واحدة أو جوهر واحد، وهذا الجوهر الواحد، أو الفكرة الواحدة التي تلبس السياقات المختلفة، التي هي الجزئيات المسماة باسم واحد، هي ما يسميه أفلاطون «بالمثال» - فمثال «العدالة» أو «فكرتها» موجودة وجودا ليس هو بذاته وجود الجزئيات التي تسمى بها، ولما كانت تلك «الفكرة» متمثلة في الجزئيات الكثيرة المتصفة بها، فهي ليست جزئية مثلها، بل «كلية» تنطبق على أمثلة كثيرة؛ وبالتالي ليست هي مما يدرك بالحس كما تدرك الجزئيات، كلا ولا هي متغيرة كما تتغير الجزئيات - هذا هو المبدأ الأفلاطوني في الأفكار الكلية، أو المعاني الكلية، هي موجودة، لكن وجودها من نوع يختلف عن وجود الجزئيات، ولنسم وجودها ذاك «وجودا ضمنيا» تمييزا له عن وجود الجزئيات الذي هو وجود علني ظاهر،
5
والواقعيون الجدد من رأيهم أن المعاني الكلية موجودة «وجودا ضمنيا» حتى في حالة عدم تفكيرنا فيها وإدراكنا لها ووعينا بها، على غرار ما قالوه عن الأشياء المحسوسة أنها تكون موجودة حتى في حالة غيابنا عنها وعدم إدراكنا لها، أي إن وعينا للحقيقة ليس شرطا لازما لوجودها، في ذلك يقول «مونتاجيو» أحد الواقعيين الجدد: «إن حقيقة كون 7 + 5 = 12 يمكن تفسيرها تفسيرا كاملا بتفسيرنا لطبيعة السبعة وطبيعة الخمسة وطبيعة الاثني عشر، وليس هذا التفسير بمعتمد إطلاقا على طبيعة الوعي (بهذه الحقيقة).»
6
والمذهب الثالث من المذاهب التي اندمجت على أيدي الواقعيين الجدد، هو أن إدراكنا للشيء الذي ندركه إنما يأتي مباشرة ولا يأتي عن طريق حلقة وسطى تقع بيننا وبينه؛ وذلك أن الواقعية التقليدية - واقعية «لوك» مثلا - كانت تفترض ارتسام صورة ذهنية للشيء الذي ندركه بحواسنا، ثم يكون فعل التفكير على هذه الصورة الذهنية، فكأن الصورة الذهنية حلقة وسطى تقوم بين الشيء المدرك من ناحية، والعقل المدرك من ناحية أخرى، ومذهب الواقعية الجديدة التي نحن بصددها الآن، هو أن الإدراك إنما يجيء مباشرا، فلا وساطة بين المدرك والمدرك، ومن هذا تنتج نتيجة هامة، وهي ألا فرق بين الشيء كما هو في حقيقته الخارجية، وبينه كما هو في وعينا إذا ما أدركناه؛ لأننا بإلغاء الوساطة بيننا وبينه؛ فقد ألغينا بالتالي احتمال أن يكون الشيء في حقيقته الخارجية مختلفا عنه في شعورنا به، كان «لوك» - وكذلك كان «ديكارت» - يذهب إلى أن عملية إحساسنا بالشيء تغير منه، كما تغير حرارة الشمس قطعة الشمع بإذابتها، فإذا ما أدركت عقولنا تلك الصور الحسية التي رسمها الإحساس للأشياء المدركة، فإنما هي تدرك شيئا مختلفا عما هو في الحقيقة كائن خارج عقولنا، فنحن - مثلا - ندرك اللون والطعم على نحو يختلف عما كان مبعثا للإحساس الذي أحدث هذا اللون أو الطعم، وباختصار كان «لوك» يعتقد أننا ندرك «تأثير» الشيء فينا، لا الشيء نفسه، وأما الواقعية الجديدة فمذهبها هو أن الإدراك يكون للشيء نفسه، على أن أنصارها قد اختلفوا اختلافا بينا في هذا الجانب من الموضوع.
تلك هي الاتجاهات العامة عند الواقعيين الجدد، وسنحصر الحديث الآن في واحد منهم، هو أشهرهم، ولعله أبرزهم وأقدرهم في آن واحد، وهو «بري»
7
الذي بسط وجهة نظره في بحث مشهور عنوانه «حرج التمركز الذاتي»
8
يهاجم به المذهب المثالي وما ينحو نحوه، في قوله بأن وجود الشيء معتمد على إدراكنا له، أو إدراك العقل له، أيا كان ذلك العقل، وبغير هذا الإدراك العقلي للشيء لا يكون له وجود، فيرد «بري» على ذلك قائلا: نعم إنه محال على إنسان بشري أن يدرك شيئا معينا بحواسه أو بفكره دون أن يكون إدراكه هذا قائما بالنسبة لشخصه، إنه لا خلاف في ذلك مهما يكن المذهب الذي ينتمي إليه الفيلسوف، فلا اختلاف في الرأي هنا بين واقعي ومثالي؛ لأننا نقول بديهية إذ نقول: إن الإنسان وهو مدرك لشيء ما، يكون مدركا لذلك الشيء في علاقته به، وكيف يكون الأمر غير ذلك، ما دام الإنسان وهو مدرك للشيء بحواسه أو بفكره، تكون الحواس حواسه هو والفكر فكره هو؟ لكن سؤالنا هو هذا: هل يقتضي ذلك أن يكون «وجود» الشيء متوقفا على كونه مدركا عند فرد أو أكثر من الناس؟ ألأننا لا نستطيع أن نتحدث بعضنا مع بعض إلا في حدود أفكارنا التي في رءوسنا عن الأشياء التي أدركناها، أو بعبارة أخرى، لا نستطيع تبادل الحديث عن الأشياء إلا إذا حولناها إلى أفكار في رءوسنا، نستنتج بالضرورة ألا وجود للأشياء إلا على صورة أفكار في رءوسنا؟ كلا، فكل ما في وسعنا استنتاجه من ذلك هو أننا لا نستطيع «ذكر شيء إلا بعد أن يتحول عندنا إلى فكرة»، لكن ذلك لا يعني البتة «ألا وجود إلا لأفكارنا»، فالتمركز في الذات إنما يتناول «الفكر» لا «الوجود الشيئي»، فعن «الفكرة» نقول بغير شك إنها لا تكون إلا بإدراكنا لها، أي لا توجد إلا بتفكيرنا فيها؛ لأننا عندئذ لا نقول في الحقيقة شيئا أكثر من تكرارنا للموضوع الواحد مرتين، فكأننا نقول: «لا يكون التفكير إلا إذا حدث التفكير»، أما عن «الوجود» بالنسبة للشيء الذي هو موضوع التفكير، فالأمر جد مختلف؛ لأنه يكون موجودا إذا أدركناه، ويكون موجودا إذا لم ندركه على حد سواء .
9
إن «بري» ليرفض أن يسلم بأية وجهة من وجهات النظر، يكون من شأنها أن تعلق وجود الشيء على علاقة الإنسان به، ومن هنا وجه النقد كذلك إلى المذهب الپراجماتي، إلى الحدود التي يكون فيها هذا المذهب صنو المثالية في تعليق الوجود على الإنسان المدرك؛ فهو لا يقبل - مثلا - من البراجماتية أن تقول - والقول هنا لوليم جيمس - إن معرفتنا تخلق الواقع،
10
على اعتبار أن الواقعة المعينة لا تعني إلا ما استخدمها به استخداما يحقق صالحي، لكن «بري» لا يرضى عن مثل هذا الاتجاه الذي إذا سار فيه صاحبه إلى آخر الشوط، انتهى به الأمر إلى نسبية مطلقة لا تترك حقيقة واحدة ثابتة في ذاتها، فستتغير الحقائق العقلية بالنسبة لتغير الناس واختلاف مواقفهم وظروفهم - ولا يمانع «بري» في هذه النسبية
11 - وستتغير كذلك طبائع الوقائع الخارجية نفسها، أي سيتغير الوجود الخارجي، بتغير الأشخاص واختلاف أنظارهم وأفكارهم ومصالحهم، وذلك ما لم يقبله «بري» بحال من الأحوال.
إلى هنا لم نقل شيئا عن «بري» سوى ما وجهه من نقد إلى المثالية والبراجماتية على السواء، وكان مدار نقده لكلتيهما هو إصراره على أن يظل للشيء الخارجي وجوده المستقل عن معرفة الإنسان إياه، لكن ل «بري» رأيا إيجابيا إلى جانب نقده السلبي، ويبدأ «بري» عرض مذهبه الإيجابي هذا - كما هي العادة عند الكثرة الغالبة من فلاسفة العصور الحديثة - بالبحث في نظرية المعرفة،
12
ومنها يستطرد إلى عرض مذهبه الواقعي الجديد، وما مشكلة المعرفة - في رأيه - إلا تحديد «العلاقة بين عقل ما وبين ذلك الذي يتصل بذلك العقل على أنه موضوع معرفته»؛
13
فأول ما نلاحظه بين طرفي العلاقة - أي بين العقل العارف من ناحية والشيء المعروف من ناحية أخرى، بين العقل والشيء المتصل بالعقل - هو أن «العقل» عامل في كل منهما، وإذن فخير سبيل نسلكه في تحليل الموقف الذي نحن بصدد تحليله، هو أن نبدأ بمعرفة ماذا عسى أن يكون المقصود بهذا العامل - الذي هو العقل - المشترك بين الطرفين المرتبطين أحدهما بالآخر في حالة المعرفة؛ لأننا لو حددنا المعنى المقصود «بالعقل»، ثم طرحنا هذا المعنى من الطرفين، تبقى لدينا الطرف الخارجي - طرف الشيء المعروف - مطروحا منه عامل العقل، فيكون لدينا بذلك حقيقة الشيء الخارجي مستقلا عن علاقة العقل به أثناء عملية الإدراك.
ولمعرفة «العقل» طريقتان تقليديتان، كان يلجأ الباحث إلى إحداهما أو إلى كلتيهما حسب وجهة نظره، فإما أن تستبطن نفسك وتلاحظها من داخل لترى ماذا هناك مما نسميه عقلا - وعندئذ تكون الملاحظة ذاتية خاصة مقصورة على صاحبها وحده - وإما أن تنظر إلى الطبيعة أو إلى الناس من خارج كيف يسلكون فرادى أو مجتمعين، فإذا ما شاهدنا الطبيعة كيف يطرد سيرها، والناس كيف يتصرفون على نمط معين هو الذي نسميه تصرفا عاقلا، كان لنا بذلك معنى «للعقل» كما يشاهد من الخارج الظاهر، وعندئذ تكون المشاهدة موضوعية عامة يشترك فيها كل من أراد، وواضح أن هاتين الطريقتين في البحث عن «العقل» لا تؤديان إلى نتيجة واحدة في كلتا الحالتين؛ لأن ما يمكن مشاهدته في الداخل بالتأمل الباطني شيء يختلف كل الاختلاف عما يمكن مشاهدته في الخارج بالملاحظة الخارجية، حتى لترى من المفكرين من ينكر على هذه المشاهدات الخارجية الظاهرة في حركات الطبيعة وسلوك الإنسان، أن تكون هي نفسها «العقل»، بل هي «ظواهر» تدل على عقل كامن في الباطن، وهو الذي يعبر عن نفسه بهذه «الظواهر» والرأي الذي يتقدم به «بري» في هذا هو اعتبار الجانبين معا، وفي وقت واحد، «عقلا» وعندئذ يكون العقل ذا جانبين، تنظر إليه من جانبه الباطن، فإذا هو هذا الذي تدركه في نفسك وأنت تتأملها، وتنظر إليه من جانبه الظاهر فإذا هو هذا السلوك الذي نراه، شأنه في ذلك شأن الدرع المحدب من جانب والمقعر من جانب آخر، دون أن يكون معنى اختلاف الجانبين أن الدرع درعان، إنما هو درع واحد ذو مظهرين، وإذن فلا الذي نلاحظه في بواطن أنفسنا إذ نحن نفكر هو العقل كله، ولا الذي نلاحظه خارج أنفسنا من نتيجة التفكير هو العقل كله، بل العقل هو هذا وذاك معا، وتستطيع بادئا من أحد الطرفين أن تستدل الآخر، فمن مكنون العقل تعرف ما السلوك الذي ينتج، ومن الناتج السلوكي تعرف ماذا كان في مكنون العقل من مضمون، وليس الطرفان بمختلف أحدهما عن الآخر من حيث العنصرية كما كان الظن قديما، بل ما في الداخل وما في الخارج يتألفان من عناصر بعينها، اختلف ترتيبها في كلتا الحالتين، كانت مرتبة على نحو فكانت عقلا من الداخل، ثم كانت مرتبة على نحو آخر، فكانت عقلا من الخارج، وأما عناصر التكوين نفسها فمحايدة، لا هي عقلية خالصة ولا طبيعية خالصة.
14
ولما كان الناس على اختلاف فيما بينهم من حيث اهتمامهم كان كل منهم مسوقا بميله الخاص إلى ناحية معينة من بيئته، فترى أحدهم مشغوفا بما لا يطرأ على زميله ببال، وفي مقدور الباحث دائما أن يلاحظ إلى أي ناحية من البيئة يتجه فرد معين باهتماماته ورغباته، ومنها يسير مستدلا ماذا يكون في باطن نفسه من تفكير، على أنه مهما اختلف الناس في ألوان نشاطهم الفكري، فهم على كل حال أفراد من نوع واحد هو النوع البشري، والنوع البشري - كسائر أنواع الأحياء الأخرى - تريد له الحياة أن يبقى؛ ولذلك زودته بما يعينه على البقاء، فهذه الاهتمامات المختلفة والرغبات المتباينة عند الأفراد، إنما تلتقي جميعا في أرومة واحدة، هي حفظ بقاء النوع، ثم تتفرع فروعا يقابل كل منها طبيعة في الفرد الواحد أن يحفظ ذاته وبقاءه، أريد أن أقول إن كل فرد من الناس - بما يبديه من أوجه النشاط - يستهدف غرضين في آن واحد؛ حفظ بقائه هو، وحفظ بقاء النوع الذي هو أحد أفراده، فلو جمعت هذه الرغبات إلى الوسائل التي تتخذ لتحقيقها كان لك بذلك ما نسميه «عقلا»، فعقل الفرد الواحد هو ميوله ورغباته واهتماماته - وكلها في النهاية يرمي إلى حفظ بقائه وبقاء نوعه - مضافا إليها الوسائل التي تحققها، ولما كان محالا أن تفصل بين النشاط العقلي وبين الشيء الذي هو موضوع ذلك النشاط، كان ذلك الشيء جزءا من العقل حين يكون موضوعا لنشاط العقل - وعندئذ يكون «فكرة » - لكن هذا الشيء نفسه لا تستنفد وجوده هذه العلاقة وحدها؛ إذ قد يكون بينه وبين شيء آخر علاقة أخرى، وإذن فلا بد من الاعتراف له بوجود مستقل عن كونه موضوعا لمعرفة عقلية في لحظة معينة، وبعبارة أخرى فإن الشيء الواحد المعين قد يكون «فكرة» آنا، وشيئا ماديا آنا آخر، بل هو في اللحظة الواحدة المعينة قد يكون «فكرة» بالنسبة إلى العقل الذي يدركه، و«شيئا» بالنسبة إلى أشياء أخرى بينه وبينها ضروب أخرى من العلاقات.
على هذا الاعتبار تكون «المعرفة» علاقة قائمة بين العقل والشيء، وذلك هو نفسه الأساس الذي يقيم عليه «بري» نظريته في القيم
15 - القيم الخلقية والجمالية - فقيمة الشيء هي في علاقته بفرد معين، وقوامها قدرة الشيء على حفز الإنسان على نحو ما، وقد تكون القيمة موجبة أو سالبة؛ فهي موجبة لو كان للشيء قدرة جاذبة، وهي سالبة إذا كان فيه ما ينفر، ولا تكون الجاذبية أو النفور دائما على صورة بعينها، فللجاذبية صور مختلفات وكذلك للنفور، على أن المجموعة الأولى تتفق في عنصر مشترك، وكذلك المجموعة الثانية، وإذن فلا يكمل وجود «القيمة» إلا بوجود الطرفين معا: الشيء والشخص، أي إن القيمة لا تكون في الشيء وحده دون وجود الشخص الذي ينجذب إليه أو ينفر منه، وكذلك لا تكون القيمة في الذات وحدها دون وجود الشيء الذي يجذب أو ينفر، على أن موضوعية القيمة وواقعيتها تزداد حين نعلم أنه ليس حتما على الشخص المعين أن يكون هو نفسه المنجذب إلى الشيء أو النافر منه؛ لكي يحكم لذلك الشيء بقيمته، بل حسبه أن يعلم أن للشيء ذلك الأثر في غيره من الناس، وذلك كما تحكم على الرصاصة بأنها قاتلة دون أن تكون أنت قتيلها، وهكذا يجعل «بري» من القيمة وإدراكها في الأشياء، ضربا من «المعرفة» كسائر ضروبها، فيجعل لها جانبها الذاتي وجانبها الموضوعي بنفس المقدار الذي يجعله لهذين الجانبين في حالات «المعرفة»، فأنا «أعرف» أن للشيء الفلاني قيمة جمالية - مثلا - سواء جاءت هذه المعرفة عن طريق اتصال الشيء بذاتي ، أو اتصاله بشخص آخر، وهكذا يصبح في مقدورنا أن نعلم أن لشيء ما قيمة معينة بمجرد ملاحظة سلوك الآخرين إزاءه، أي قبل أن نمارس نحن أنفسنا قيمته بالنسبة إلى ذواتنا، فمقياس «القيم» - إذن - عام وواقعي، وليس هو بالذاتي الخاص. (2) الواقعية النقدية
16
بنفس الروح العلمية التي اجتمع بها الواقعيون الجدد، والتي تتلخص في تعاونهم على موضوع البحث كما يتعاون العلماء في المعمل إزاء مشكلة واحدة، بدل أن ينفرد كل منهم ببنائه الفلسفي الخاص، وفي أن يتناولوا المشكلات الجزئية واحدة بعد واحدة، دون أن يشطح بهم الطموح الواهم - كما شطح بالفلاسفة الأقدمين - إلى تناول الكون كله دفعة واحدة موضوعا لبحثهم، كأنما ذلك في حدود المستطاع، أقول: إنه بنفس هذه الروح العلمية التي اجتمع بها أنصار الواقعية الجديدة، اجتمعت جماعة أخرى من الواقعيين الذين رأوا في عمل زملائهم شيئا من السذاجة في التحليل، حتى لقد نعتوهم بهذه الصفة - صفة السذاجة - فذهبت في الكتابات الفلسفية مميزا لهذا النوع من الواقعية التي لا تمعن في النقد والتمحيص إذا ما تعرضت لتحليل «المعرفة»، وأما هذه الجماعة الجديدة فقد وصفت نفسها بأنها «نقدية» أي إنها أكثر دقة في عملية التحليل.
تألفت هذه الجماعة من سبعة فلاسفة في الولايات المتحدة،
17
تعاونوا على البحث المشترك، وخصوصا في الفترة الواقعة بين عامي 1916-1920م، وكزملائهم أعضاء «الواقعية الجديدة» في تعاونهم على مؤلف مشترك، أخرج هؤلاء أيضا مؤلفا اشتركوا فيه جميعا، عنوانه «مقالات في الواقعية النقدية»،
18
ثم أضافوا إلى هذا العنوان الرئيسي عنوانا فرعيا يعبر عن روح التعاون، وهو «دراسة تعاونية لمشكلة المعرفة»، وقد كان الاتفاق بين هؤلاء - كما كان بين أولئك - منصبا على موضوع البحث ووجهة النظر الأساسية، لا على التفصيلات التي ذهب كل منهم فيها مذهبه الذي قد يختلف فيه مع بقية الزملاء، فكان مما اتفقوا عليه جميعا أنه في بعض حالات المعرفة يمكن التمييز بين الشيء المعروف وبين الحالة الشعورية التي تكون عندئذ وسيلة للشخص العارف في معرفة ما يعرفه عن ذلك الشيء، فلئن كانت «الواقعية الجديدة» قد تنكرت تنكرا تاما لكل انقسام بين العارف والمعروف في حالة المعرفة، وأصرت على أن تجعل الموقف كلا واحدا لا تمييز بين طرفيه؛ فقد عادت «الواقعية النقدية» إلى الاعتراف بهذه الثنائية التي يمكن التمييز فيها بين الشخص العارف من ناحية والشيء المعروف من ناحية أخرى، لكنها إذ اعترفت بإمكان هذا التمييز، حرصت ألا تجعل الشخص العارف منحصرا في معرفته وفي حالته الشعورية بحيث يقال - كما تقول المثالية - إن كل ما يعرفه ذلك الشخص هو نفسه، وألا سبيل أمامه إلى معرفة ما في العالم الخارجي من أشياء، وذهبت إلى أنه على الرغم من أن الإنسان يتصل بالشيء الذي هو موضوع معرفته في حالة معينة، عن طريق حالته الشعورية - سواء كانت هذه الحالة الشعورية إدراكا حسيا أو إدراكا عقليا أو تذكرا لإدراك ماض - إلا أن هذه الحالة الشعورية المتوسطة بين الطرفين لا تحجب العقل العارف وراء ستار، بل إنه ليتصل بالشيء الخارجي ذاته، ومعنى ذلك هو القول بأن الشيء المعروف موجود في الخارج، وتجيء معرفتي إياه فتبصرني بهذا الوجود، دون أن تكون معرفتي هذه هي الخالقة له المنشئة لوجوده، بل هو موجود وجودا مستقلا سواء صادفه الشخص المدرك أو لم يصادفه، أضف إلى هذا أن ما أعرفه عن الشيء حين أعرفه إنما هو كل حقيقة الشيء، وليس الأمر هنا - كما ذهب «كانت» - مقصورا على إدراك الظواهر وحدها، دون الجوهر، أو ما أسماه «كانت» «الشيء في ذاته»، المعرفة الإنسانية إذا ما ألمت بشيء ألمت به كله ظاهره وخافيه، ولا تفرقة بين ما هو عرض وما هو جوهر.
وعملية المعرفة في كل حالاتها تبدأ عند بداية معينة، دون أن تكون هذه البداية نفسها جزءا من العملية المعرفية، كما يبدأ حل المشكلة بوجود مشكلة دون أن تكون المشكلة نفسها جزءا من الحل، وهذه البداية هي ما اصطلح الواقعيون النقديون على تسميته «بالمعطى»،
19
وها هنا نصل إلى صميم المذهب الواقعي النقدي، وهو التمييز بين الشيء المعروف وبين «المعطى» الذي يبعثه ذلك الشيء إلى الإنسان، فتبدأ به عملية المعرفة، هذا «المعطى» هو بطبيعة الحال حلقة شعورية وسطى تقع بين الشيء من ناحية ومعرفة الشخص له من ناحية أخرى، خذ مثلا إدراكي لهذا المصباح القائم أمامي، كيف أدركه؟ يأتيني منه انطباع على عيني، وهذا هو «المعطى»، وعندئذ أبدأ في «تفسير» ذلك الانطباع بأنه مصباح، فالمعطى نفسه ليس جزءا من عملية التفسير، كلا ولا هو المصباح القائم في الخارج، إنما هو حلقة الاتصال بيني وبين الخارج، وهنا أجد مواضع النقص في تحليل «الواقعيين الجدد» أو «الواقعيين السذج» - كما أطلق عليهم زملاؤهم النقديون - لأنهم قالوا إن الإنسان حين يدرك شيئا إنما يتصل به مباشرة بلا وساطة كائنة ما كانت، كأنما المصباح الذي أدركه الآن يدخل في رأسي بأكمله، مع أن الأمر يصبح - بعد التحليل - واضحا وهو أن ما أدركه عن المصباح صورة تصوره وتمثله، أو هو «المعطى» أو «المعطيات» التي يعطيها إياي المصباح، فتكون عندي نقطة ابتداء لعملية معرفتي له.
فمن رأي الواقعيين النقديين أنه لا بد من التمييز في عملية المعرفة بين «المعطيات» التي هي «حاضرات» في العقل، وبين «الأشياء» التي ليست بحاضرة في العقل إلا عن طريق الإنابة أو التمثيل؛ إذ ينوب عنها «معطياتها»، لكن هذا معناه اعتراف ببعض جوانب المذهب المثالي؛ لأنه اعتراف بأننا في حالة المعرفة نجاوز حدود الخبرة المباشرة؛ لأن الخبرة المباشرة هي معطيات، ثم نجاوزها إلى ما ليس فيها، لنقول: إن وراءها حقائق هي الأشياء الخارجية، لا، بل إنا لنذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في التجاوز لحدود خبراتنا المباشرة إذا ما تعرضنا لأي تفكير علمي من شأنه أن يصوغ القوانين العامة، فليس ما نخبره من الأشياء «قوانين عامة»، إن كل ما نخبره هو خبرة جزئية في لحظة جزئية هي اللحظة الحاضرة، فإذا توقعت ما سيحدث في المستقبل في ظروف معينة، وكذلك إذا تذكرت ما قد حدث في الماضي، فأنا في كلتا الحالتين لا ألتزم حدود خبرتي الجزئية المرتهنة باللحظة الجزئية الحاضرة، بل أجاوزها إلى ما ليس منها.
ومع ذلك فهم لا يودون أن يخلطوا بين أنفسهم وبين المثاليين؛ لأنهم واقعيون يعترفون بوجود العالم الخارجي مستقلا عن عقل الإنسان وأفكاره، ولا يوافقون على تفرقة المثاليين - وبصفة خاصة عمانوئيل كانت - بين الشيء من حيث ظواهره المدركة، والشيء في ذاته الذي هو مستحيل على الإدراك، لا يوافقون على هذه التفرقة، ويجعلون كل شيء جزءا من هذه الطبيعة؛ العقول المدركة والأشياء المدركة على السواء؛ وبالتالي ليس هنالك ما يصح أن يقال عنه إنه وراء الطبيعة أو فوقها أو مفارق لها بأي وجه من الوجوه.
وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار الواقعيين النقديين - أو بعضهم على الأقل - من «الطبيعيين» الذين جعلوا محور تفكيرهم هو المبدأ القائل بأن قاموس الطبيعة محيط بكل شيء، وعلى رأس هؤلاء «جورج سانتايانا»، لكني أوثر أن أفرد للحديث عن هذا الجانب فصلا خاصا، هو الفصل التالي، لأهمية الفكرة في الفلسفة الأمريكية المعاصرة.
الفصل السابع
كل الصيد في جوف الفرا
(1) «جورج سانتايانا» وعوالم الوجود
كل شيء في جوف الطبيعة، هذه هي الدعوى التي تتردد على أقلام الفلاسفة - وعلى أقلام كثير من الأدباء - خلال النصف الأول من القرن العشرين، فإن كان الإنسان جسما من ناحية، وعقلا من ناحية أخرى، فكلتا الناحيتين من مقومات الطبيعة على حد سواء، إنه ليس هناك ما يبرر البتة أن تجاوز الطبيعة بحثا عما يفارقها لنفسر به الطبيعة وما يجري فيها، فالطبيعة تفسر نفسها بنفسها، الطبيعة هي الحقيقة الشيئية برمتها، ليس وراءها شيء وليس فوقها شيء، وبهذه النظرة تتخلص من التفكير الثنائي الذي كان يشطر الكون شطرين؛ مادة وروح، كما يشطر الإنسان شطرين؛ جسم وعقل، فسم ما شئت بما شئت من أسماء، لكنك لن تجاوز بأسمائك ومسمياتك مجال الخبرة، والخبرة بكل مجالها في الطبيعة لا تعدو حدودها، تكوين الأشياء وفسادها كلاهما من ظواهر الطبيعة، الولادة والموت كلاهما طبيعي، وكذلك الثبات والتغير، قسم الإنسان ما أردت من تقسيم، قل إنه جسم وعقل، أو قل إنه جسم فقط وما العقل فيه إلا ظواهر سلوكه، أو قل إنه عقل خالص وما الجسم إلا أداة، فهذه الوحدة الواحدة التي هي الإنسان، أو هذه الأقسام كلها التي هي الإنسان، هي الطبيعة في وجه من وجوهها.
وما دام الأمر كذلك فالمنهج العلمي هو منهج التفكير كله مهما يكن موضوع التفكير؛ إذ ليس هناك ما يستحيل على هذا المنهج، فما العلوم إن لم تكن نظرا إلى الطبيعة من هذه الناحية أو تلك؟ وأي موضوع تتناوله بالبحث سيكون أيضا نظرا إلى الطبيعة من إحدى نواحيها، والمنهج الذي يصلح هنا يصلح هناك، فليس لما اصطلحنا على تسميته بالموضوعات العلمية امتياز خاص على سائر الموضوعات من حيث طريقة البحث، كلها أجزاء من خبرة الإنسان، ولا فرق بين خبرة وخبرة من حيث علاقتها بالإنسان وقابليتها للبحث والنظر، لكن ماذا نعني بالمنهج العلمي؟ نعني به أساسا أن يكون موضوع البحث مما قد يشترك في ملاحظته أكثر من فرد واحد؛ فهو علمي وعام، وليس بالغيبي الكامن في ذات الفرد الواحد، لا يدركه إلا صاحبه دون سواه؛ ولذلك فليس من المعرفة ما هو بحكم طبيعته مقتصر على فرد واحد في رؤيته وإدراكه، ليس منها ما يراه الصوفي بحدسه أو ما يراه الإنسان في استبطان ذاته، وليس منها ما يقوم على الإيمان - إن كان مبعث الإيمان ذاتيا - وليس منها ما يستند صدقه إلى سند من سلطة دون أن يكون قابلا للتحقيق بعيدا عن ذلك السند.
لك أن تنظر إلى الطبيعة على أنها مادة وحركة، ولك أن تنظر إليها على أنها سيال من حوادث، لك أن تقول: إن الطبيعة لا تقصد إلى غرض معين، أو إنها تنحو نحو غاية مقصودة، وإن فيها من القيم ما يشعر به الإنسان من خير أو جمال، لكنها ستظل هي الطبيعة كما كانت، وكما ستكون إلى الأبد، إن الطبيعة في واقعها لا تتغير بنظرة الإنسان إليها، ولا بالقيمة التي يلصقها بها؛ فقد يختار الناظر إليها نظرة العالم، أو قد يختار نظرة الفنان، أعني أنه قد ينشد فيها الباحث ما هو حق، أو قد ينشد فيها ما هو خير أو جميل، لكن هذه النظرات المختلفات كلها لن تجعل من الطبيعة شيئا آخر غير ما هي عليه، فالعالم والفنان معا يتغذيان بغذاء مصدره واحد، وإن اختلف الغذاء، وها نحن أولاء نعرض عليك من هؤلاء الطبيعيين من اختار نظرة الشاعر، لكنه مع ذلك «طبيعي»، بل سرعان ما أصبحت كتبه مرجع الطبيعيين جميعا، وهو «جورج سانتايانا».
كان «سانتايانا» (1863-1953م) شاعرا وأديبا ناثرا وفيلسوفا، ولد في إسبانيا ونشأ وتربى في أمريكا، وظفر بأستاذية الفلسفة في جامعة هارفارد، وهو في الفلسفة واقعي، غير أنه التفت بالواقعية لفتة خاصة هي هذه التي أطلقنا عليها اسم «الفلسفة الطبيعية»؛ فهو - كسائر الواقعيين في عصره - يدير فكره حول نقطتين رئيسيتين هما: أن الأشياء التي هي موضوعات المعرفة الإنسانية موجودة وجودا خارجيا مستقلا عن تلك المعرفة؛ وأن تلك الأشياء الموجودة - موضوع المعرفة - لا يتحتم أن تكون كائنات عينية، بل قد يكون وجودها مما اصطلحنا على تسميته بالوجود الضمني.
1
فهو يذهب - كما يذهب كذلك كثير من الواقعيين
2 - إلى أن وعي الإنسان - أو شعوره أو عقله - إنما يدله على حقائق الأشياء التي يعيها، كما هي في ذاتها خارج نفسه، وليس وعيه إياها، أو معرفته لها، مما يغير من تلك الحقائق أو يحورها أو يبطلها؛ فمعرفة الإنسان للشيء الذي يدركه صورة تمثل ذلك الشيء تمثيلا صحيحا، على أن الإنسان إذ يتصل بالأشياء ليدركها، فإنما يتصل بها اتصالا مباشرا لا تكون فيه حلقة وسطى بين الجانب العارف والشيء المعروف اللهم إلا المعطيات الحسية، نعم يتصل الإنسان في عملية المعرفة بالعالم المعروف اتصالا مباشرا، فيدرك فيه ما يحتوي عليه من خصائص وحقائق، يدرك اللون كما هو واقع، ويدرك الشكل كما هو واقع، ويدرك اطراد وقوع الحوادث كما يقع، فإن أدرك الإنسان في شيء ما لونه الأزرق كانت الزرقة صفة في الشيء لا إضافة أضافها الإنسان من عنده خلال عملية الإدراك ، وإن أدرك في شيء ما أنه مثلث أو مربع، كان التثليث أو التربيع صفة في الشيء المدرك، وإن أدرك أن الأشياء تتجاذب على اطراد معين يصوره قانون الجاذبية، كان هذا الاطراد المدرك جزءا من الطبيعة، وهكذا، هذه الصفات وهذه الخصائص وهذه الطبائع كلها هي ما يسميه «سانتايانا» بالجواهر
3 - جمع جوهر - ولما كانت هذه «الجواهر» لا بد لها من سنادة أو ركيزة تستند إليها لتظهر، تحتم افتراض وجود عنصر مادي
4
ليكون مسرحا - إن صحت هذه الكلمة في هذا السياق - تظهر عليه تلك الصفات والخصائص والطبائع، فلا بد - مثلا - من مادة تتلون بالزرقة ليدرك الإنسان اللون الأزرق، ولا بد من مادة تتشكل على هيئة المثلث ليدرك الإنسان هذه الصفة، وهكذا إلى آخر ما يدركه الإنسان في عالم الطبيعة من ضروب المعرفة.
فإن سأل سائل: ومن ذا أدراك حين تعي مجموعة من الصفات مجتمعة كاللون الأزرق وشكل المثلث إلخ أن هذه الصفات المجتمعة إنما اجتمعت في شيء خارجي له وجود مفارق لوجود أفكارك في ذهنك؟ إن الإنسان إذ يعرف ما يعرفه إنما يكون على وعي بخبرته الخاصة التي هي في طوية نفسه، فما الذي يبرر له أن يقرر للشيء الخارجي وجودا مستقلا بحيث يكون ذلك الشيء الخارجي مقابلا لتلك الخبرة الخاصة الباطنية؟ إن سأل سائل سؤالا كهذا - وهكذا يسأل المثاليون - أجاب «سانتايانا» بما أسماه «الإيمان الحيواني»،
5
ففي كيان الإنسان الطبيعي هذا «الإيمان» بأن معرفته الداخلية صورة من عالم خارجي موجود، على اختلاف ما بين الجانبين، فالجانب الداخلي وعي وعقل، والجانب الخارجي مادة.
إنه لا بد من الركون إلى مثل هذا «الإيمان» لكي نفرق بين حالتين مختلفتين من حالات الإدراك؛ أما أولاهما فحالة نثق فيها بأن «الجوهر» - أو إن شئت فقل «الفكرة» - الماثل في أذهاننا هو كذلك متجسد في شيء عيني خارجي، وأما الثانية فحالة تعلم فيها أن «الجوهر» الماثل في الذهن ليس متجسدا في شيء عيني خارجي، كما هي الحال في المدركات العقلية وفي التصورات الخيالية وما إلى ذلك، فليس منا من لا يفرق في خبرته بين هذين النوعين من حالاته الإدراكية الشعورية، فكيف نعلل هذا الفرق بين الحالتين إذا نحن لم نفترض في الحالة الأولى وجود عالم خارجي يقابل أفكارنا، ثم نفترض في الحالة الثانية أن الموقف الشعوري قاصر على أنفسنا، وليس له امتداد في عالم الأشياء؟ وإذا كان ذلك كذلك فكيف يجوز الافتراض في الحالة الأولى إذا لم نركن فيه إلى «إيمان» بأن العالم الخارجي موجود إلى جانب ذواتنا المدركة الواعية؟ إذن فهذان نوعان من الوجود؛ وجود عيني ووجود ضمني؛ الأول يكون له أصول خارج الذهن وصور لتلك الأصول داخل الذهن، والثاني يكون مقتصرا على التصور الذهني وحده دون أن يكون لذلك التصور طرف فعلي مقابل له في عالم الطبيعة، على أن الوجودين معا سيظلان موجودين حتى إذا انمحت من وجه الأرض كل العقول الإنسانية، فستظل الشمس - مثلا - جزءا من الطبيعة، أدركها الإنسان أو لم يدركها، وستظل «فكرتها» موجودة وجودا ضمنيا، حتى إذا لم تكن قد ظهرت بعد في عالم الطبيعة الظاهر، وهذا المربع المرسوم أمامي سيظل هناك سواء وقع في إدراكي أو لم يقع، وكذلك ستظل «فكرة» المربع موجودة وجودا ضمنيا سواء بقيت على وجه الأرض مربعات مرسومة أو انمحت، وإذن فالتفرقة بين «الوجود الفعلي» و«الوجود الضمني» ستظل قائمة حتى ولو لم يكن هناك العقل الإنساني الذي يدركها.
ونقول هذا الذي قلناه بعبارة أخرى؛ إذ نقول: إن هنالك ما لا نهاية له من حقائق موجودة وجودا ضمنيا، أي وجودا ممكنا، وإن بعض هذه الحقائق قد سلك سبيله إلى الوجود الفعلي في هذه التشكيلات التي ندركها في عالم الطبيعة، والتي قوامها خصائص وصفات ائتلفت معا في مجموعات معينة هي هذه الأشياء التي نصادفها في خبراتنا، أي إن ما هو ممكن أكثر جدا مما هو كائن بالفعل، فليس هنالك ما يحتم أن تكون الكائنات الموجودة فعلا هي وحدها الموجودة، وأن يكون التقاؤها على النحو الذي تلتقي عليه هو الطريقة التي لا طريقة سواها لظهور تلك الكائنات، بل كان «يمكن» أن تكون الأشياء على غير ما هي عليه الآن، بأن تخرج مجموعة أخرى من الحقائق الضمنية أو الحقائق الممكنة، بدل هذه المجموعة التي خرجت بالفعل، أريد أن أقول إن العالم الموجود الآن ليس هو العالم الوحيد الذي يمكن تصوره، إذ يمكن تصور كائنات أخرى تجيء على ترتيب آخر، ويطرد فيها حدوث الحوادث على نحو آخر، وسؤالنا الآن هو هذا: على أي أساس برز إلى الوجود الفعلي هذا العالم الراهن من مجموعة العوالم الممكنة التي لا نهاية لعددها؟
وليس هو بالسؤال الحديث الجديد، بل هو سؤال ألقاه على نفسه «ليبنتز» - في القرن السابع عشر - وأجاب عنه بقوله: إن الله قد اختار هذا العالم الفعلي من بين الممكنات؛ لأنه «أفضل» الممكنات كلها، أي إنه «لم يكن في الإمكان أبدع مما كان»؛ ولذلك وقع اختيار الله على هذا الذي «كان»، أي إن مبدأ الاختيار هو مبدأ «خلقي» من قبل الخالق الذي خلق واختار، ثم هو سؤال سأله كذلك الفيلسوف الحديث «وايتهد» - وسيرد ذكره في هذا الفصل بعد قليل - وأجاب عنه بقوله: إن مبدأ اختيار ما هو فعلي من بين الممكنات مبدأ «عقلي»؛ لأن هذا العالم الواقع هو أقرب عالم يمكن تصوره إلى منطق العقل، وأما «سانتايانا» فيجيب عن السؤال نفسه بجواب آخر هو الذي ميز فلسفته بأنها فلسفة طبيعية مادية رغم كل ما اتصف به من شاعرية وروحانية، وذلك أنه جعل مبدأ اختيار العالم الفعلي الواقع من بين العوالم الكثيرة الممكنة لا هو بالمبدأ الخلقي كما ظن «ليبنتز» ولا هو بالمبدأ العقلي كما ذهب «وايتهد»، بل هو مبدأ مادي صرف.
وكيف يمكن أن يكون هذا العالم الموجود قد خرج إلى الوجود دون سواه من الممكنات؛ لأنه يمثل مبدأ خلقيا؟ كيف يتفق هذا التفسير مع خبراتنا التي منها أن العالم يفيض بما ليس من الأخلاق في شيء، ففيه الآلام، وفيه الشقاء، وفيه الشر، وفيه التناحر والتقاتل؟ إن العالم في مجرى حوادثه لا يعبأ بالأخلاق ولا شأن له بها، فليس ثوران البركان وإغراق سكان الإقليم المجاور بحممه سببه أن هؤلاء السكان قد اقترفوا الإثم، ويراد عقابهم على ما اقترفوا، وليس حلول المجاعة بقوم وفتكها بهم سببه أنهم ضلوا سواء السبيل، والغيث لا يسقي أرض من أقاموا للعدل ميزانه وحدهم، بل هو يسقي أرض الظالم والعادل على السواء، فإذا اعتقدنا في العالم غير هذا كنا بمثابة من تنكر لخبرته، فأدرك شيئا، واعتقد شيئا آخر، كلا ولا يجوز أن نفرض لتفسير حدوث العالم الواقع دون سائر العوالم الممكنة وجود مبدأ عاقل سابق على وجود هذا العالم، نعم إن حوادثه لتتسق مع مقتضيات عقولنا، بحيث تستطيع هذه العقول أن تفهمه، لكن هذه العقول نفسها قد جاءت خلال ظهور العالم نتيجة من نتائجه، وظاهرة من ظواهره، فإن كان في مستطاعها فهم مجراه ومسيره؛ فلأنها جزء منه، فالعقل إذ يفهم وإذ يعرف لا يقسر ظواهر الطبيعة على سلوك معين يتفق مع طرائقه في الفهم والمعرفة، بحيث يجوز لنا أن نقول: إن العالم قد جاء وفق منطق العقل، إنه لا يخلق سير الحوادث خلقا على نمطه وغراره، بل هكذا وجدت الطبيعة وهكذا جاءت سننها، وبعدئذ يجيء العقل - الذي هو جزء منها - فيدرك المبادئ التي تسري في ظواهرها، والتي على مقتضاها تسير وتجري، ولو جاءت الطبيعة على واقع آخر ونظام آخر، ثم أنتجت عقولا فيما أنتجت، لفهمتها تلك العقول عندئذ على نحو ما تفهم عقولنا عالمها الذي أنتجها.
كلا، بل الطبيعة مادة تسير إلى غير غاية، فلا هي غايتها تحقيق مبدأ خلقي، ولا هي تجري نحو هدف يقره منطق العقل ويقتضيه، وهذه الحقيقة المادية التي هي الطبيعة هي نفسها الأساس الذي عنه صدرت الحياة وصدر الوعي، ولولاها لظل الوجود كله من صنف واحد، هو وجود «الجواهر» أو الأفكار الممكنة التحقيق، دون الوجود الآخر، وهو وجود تلك الجواهر بعد أن لبست صورة حقائق فعلية، بل لم يكن الأمر ليقف عند هذا الحد لولا وجود الطبيعة المادية، إذ لولا هذه لما وجد العقل الذي يدرك تلك الأفكار الممكنة التحقيق، وإذن كانت تلك الأفكار لتظل قائمة في «دنيا الممكنات» دون أن تجد سبيلها إلى التحقيق ودون أن تجد العقل الذي يدركها في دنياها تلك.
وبينما يترك «سانتايانا» لعلماء الطبيعة أن يقرروا بأبحاثهم التجريبية ماذا عسى أن تكون طبيعة المادة، فإنه يدلي برأيه في خصائصها العامة، فيقول: إنها زمانية مكانية، وإنها ممتدة ومؤلفة من أجزاء كل جزء منها منفصل عن زميله، وإن تكن بين هذه الأجزاء علاقات تربطها بعضها ببعض، غير أن تلك العلاقات ليست جزءا من طبيعتها، بل هي علاقات تتغير، وذلك مساو لقولنا إن أجزاء المادة تتحرك، ولا تستقر في مكان بعينه، وكلما تحركت تغيرت بالتالي مجموعة العلاقات التي تصلها بعضها ببعض، بل قد تغير حركتها تلك من خصائصها الذاتية، وإذن فالمادة سيال متدفق دائم الحركة، دائب التغير، وتوزيع أجزائها على المكان والزمان ما ينفك يتغير، فينشأ عن هذا التغير تكون الأجسام والحوادث، وما قد يتركب من الأجسام والحوادث من تركيبات مختلفة التكوين منوعة البناء.
هذه التكوينات التي تحدث بسبب تحرك المادة، إنما تتخذ صورا معينة قد تعاود الحدوث مرة بعد مرة، أعني أن سيال الحوادث في الطبيعة المادية قد يجري على نسق معين آنا بعد آن، فإذا حدث مثل هذا التكرار في وقوع النسق الواحد، كان ذلك قانونا طبيعيا، ومن هذا الاطراد في وقوع الحوادث، وإمكان صياغته في قوانين، أمكن التنبؤ بما سيحدث في ظروف معينة بناء على ما اطرد عليه وقوع الحوادث فيما مضى في مثل تلك الظروف، دون أن يكون هذا الاطراد «ضروريا» يقتضيه منطق العقل اقتضاء لا مفر منه؛ ذلك لأن كل نسق من الحوادث، أو كل سلسلة منها تكون وحدة، إنما تحدث - إذ تحدث - حدوثا تلقائيا بغض النظر عن أن تكون مسبوقة بأشباه لها أو غير مسبوقة، وهذا معناه «ألا ضرورة في العلاقة القائمة بين السبب والمسبب، وألا يقين بأن القانون (الطبيعي) ثابت»،
6
فليس لأية حادثة مبرر لوقوعها من حادثة غيرها، أي إن الحادثة المعينة لا تقع لأن شبيها لها قد وقع، أو لأن أي شيء آخر غيرها قد حدث، وليس هناك في حكم العقل ما يمنع أن يقف هذا الاطراد الملحوظ في وقوع الحوادث، بحيث يجيء المستقبل فيقطع الشبه بالماضي، لا، بل إن هذا بعينه هو ما يحدث، ولولا ذلك لما كان هناك خلق جديد ولا تطور، فما أكثر ما تجيء الواقعة أو الحادثة أو الشيء جديدا كل الجدة، بحيث يكون فريد نوعه، وبحيث لا يكون له في كل ما وقع في الماضي من شبيه.
وما الكائنات الحية إلا مثل من أمثلة التكوينات المادية التي تحدث من تجمع الأجزاء المادية على إطار معين، فكأنما الخصائص «العضوية» كائنة في الطبيعة مستعدة لأن تظهر فعلا بعد أن كانت موجودة إمكانا، إذا ما تجمعت أجزاء المادة على النحو الذي يمكنها من الظهور، وماذا يميز الكائن الحي من خصائص لا تكون في المادة الجامدة؟ يميزه أنه قادر على الاحتفاظ بوجوده عن طريق التغذي بموجودات أخرى، كما أنه قادر على تكرار نمطه بالتناسل، وكذلك يميز الكائن الحي أنه مستطيع أن يصلح بنفسه ما فسد من تكوينه، ولا كذلك المادة الجامدة، فلا هي تقتات على غيرها ليدوم بقاؤها، ولا هي تكرر نمطها بالتناسل، ولا هي قادرة على أن تصلح بنفسها ما قد يفسد من نظام تكوينها وتركيبها وهاته القدرات في الكائن الحي هي ما نطلق عليه اسم «النفس»؛
7
فالنفس هي مجموعة وظائف الأعضاء والحوافز والدوافع التي تجتمع في الكائن العضوي، والتي بفضلها ينشط ذلك الكائن، ويمارس ما يمارسه من صلات مختلفات بمحيطه الطبيعي الذي يتحرك فيه، وإذن فالنفس هي هذه المجموعة المادية المعينة - التي هي الجسد - وقد عبرت عن حقيقتها في نشاط وفاعلية وعمل.
غير أن الأحياء على اختلاف ضروبها وإن اتفقت في «النفس» - أي في قدرتها على الاحتفاظ بحياتها، وعلى تكرار نمطها، وعلى إصلاح نفسها بنفسها - إلا أن منها ما يعود فيتميز عن بقيتها بالوعي الذي يعي به أنه كائن حي ذو خصائص معينة وألوان من النشاط معلومة، فالشجرة تتغذى كما يتغذى الإنسان، وتكرر نمطها كما يكرر الإنسان نمطه، وتصلح عطبها كما يصلح عطبه، إلا أنها لا تكون على وعي - كما يكون الإنسان على وعي - بأنها تقوم بهذا الذي تقوم به، هذا الوعي في الإنسان هو ما يسميه «سانتايانا» بالروح أو بالعقل، فليس الروح أو العقل - إذن - شيئا قائما بذاته، بل هو ظاهرة من ظاهرات الجسم الحي نفسه، يتصف بها حين يتصل بمحيطه وبظروفه على نمط سلوكي معين.
انتهى بنا التحليل حتى الآن إلى وجود عالمين؛ عالم الممكنات (وهو الذي أطلق عليه سانتايانا عالم الجوهر أو الأفكار)،
8
وعالم المادة
9
التي تمكن بعض تلك الممكنات من الظهور الفعلي، لكن هذا الانتقال نفسه من عالم الإمكان إلى عالم الواقع في الطبيعة المادية، يخلق لنا عالما ثالثا هو ما يسميه «سانتايانا» بعالم «الحق»،
10
وهو ذلك الجزء من عالم الجوهر - عالم الممكنات - الذي خرج إلى عالم الواقع الفعلي؛ ولذلك كان «عالم الحق» هذا عالما عرضيا كالوجود نفسه، وأعني بذلك أنه لم يكن هناك ضرورة عقلية تقتضي أن يخرج من عالم الممكنات هذا الجزء الذي خرج فعلا دون سائر أجزاء الممكنات التي لم تخرج وظلت على حالها عالما ممكنا، فالوجود كله عرضي بمعنى أنه قد كان يجوز ألا يحدث؛ وبالتالي يكون «الحق» عرضيا بمعنى أن ما قد تحقق في عالم الواقع قد كان يجوز ألا يتحقق، وأن يتحقق سواه من بقية الممكنات التي لم تقع، وإذن فقد أخطأ الفلاسفة المثاليون جميعا حين ظنوا أن ثمة مبادئ عقلية قبلية ضرورية شاملة صدقها محقق ويقينها ثابت، أخطئوا إذ ظنوا ذلك؛ لأن الوجود كله بما فيه من عقول وما يترتب عليها من مبادئ الرياضة والمنطق - دع عنك مبادئ الأخلاق والميتافيزيقا - قد جاء عرضا، وقد كان يمكن ألا يجيء.
تلك إذن ثلاثة عوالم في الوجود كما تصوره «سانتايانا»: عالم الممكنات، وعالم المادة، وعالم الحق، وأما رابع تلك العوالم، وبه يكمل البناء الفلسفي للفيلسوف؛ فهو «عالم الروح»
11
فما هو؟ ألم نقل فيما سلف إن بعض الممكنات، أو بعض «عالم الجوهر» يتحقق في عالم الواقع الفعلي دون بعضه الآخر؟ إذن فافرض أن الإنسان لم يعجبه هذا العالم الواقع، وصور له خياله مثلا أعلى كان يتمنى لو أن العالم جاء على غراره، فمن أين له العناصر التي ينشئ بها تلك الصورة المثلى؟ إنه لا شك يستمدها من الممكنات التي لم تجد سبيلها إلى عالم التحقيق، يستمدها من عالم الجوهر في جوانبه التي لم تخرج من حيز الإمكان إلى حيز الواقع، من هذه العناصر يبني الإنسان لنفسه مثلا أعلى لو تحقق لكان عالما أجمل من هذا العالم الذي نعيش فيه، وأكثر خيرا منه، لو تحقق هذا العالم المثالي لحقق معه أحلام الإنسانية وغاياتها التي قد يستحيل تحقيقها في عالم الطبيعة كما هو قائم، ذلك العالم المثالي هو «عالم الروح»، لكن الإنسان إذ ينتقي لنفس العناصر التي تكون له في خياله عالما أمثل وأكمل من عالمه الواقع، فإنه لا ينسى - أو لا ينبغي له أن ينسى - أنه عالم قد استمد كماله من خدمته لأغراض الإنسان، وتحقيقه لغاياته وأحلامه وأمانيه، ولو أن نوعا آخر من أنواع الأحياء تخيل عالما يتخذ منه مثلا أعلى، لتخيل شيئا آخر غير ما تخيل الإنسان، فلكل نوع مصالحه ولكل نوع أغراضه.
وعلى ذلك فليس كمال العالم المتخيل كمالا مطلقا، بل هو كمال نسبي، هو كمال بالنسبة للإنسان، وفضلا عن ذلك فإن قيمة ذلك العالم الأمثل هي في مجرد تخيله لا في تطبيقه تطبيقا عمليا، ولو كان كماله في تطبيقه وتنفيذه لانقلب واقعا لا مثلا أعلى، ولأصبح نثرا بعد أن كان شعرا؛ ذلك لأن الأحلام لا يزيد من سحرها أن تتحقق، فلا الخير يزيد في خيريته، والجمال يزيد في جماله بأن نخرج ذلك العالم المتخيل بخيره وجماله من عالم العقل إلى عالم الواقع، لا، بل لعل الفكرة تكون أنقى، وهي في عالم الجوهر الخالص منها، وهي في عالم الواقع؛ لأنها عندئذ تكون صفاء لا تكدره غشاوة النقص التي لا بد أن تغشي حوادث العالم الطبيعي، فلماذا لا نكتفي بأن تطمح الروح إلى ذلك العالم الخيالي، فترسم لنفسها صورتها المثلى، بل ولها أن تتصور كذلك أن ذلك المثل الأعلى قد تحول إلى عالم حقيقي واقع؟ إنها إن فعلت كان لها بذلك عالم هو بعينه العالم الذي يحاول الشعر كما يحاول الدين أن يرسمه، وماذا يصنع الشاعر سوى أن يصور لنفسه جمالا هو أصفى وأنقى من أي جمال على هذه الأرض؟ وماذا يصنع الدين سوى أن يصور خيرا هو أعظم وأسمى من كل خير في هذه الدنيا؟ الشاعر يصور لنفسه جمالا كاملا في صورة يخلقها بخياله، والشعور الديني يصور لنفسه خيرا كاملا في إله يعبده، لكننا لا ينبغي لنا أبدا أن ننسى أن صورة الجمال في الشعر، وصورة الخير في الدين إن هي إلا صور في عالم الخيال لا عالم الحقيقة؛ لأن مادة الطبيعة لا تسعف أمثال هذه الصورة الخيالية بوسائل الظهور العيني والتحقيق الفعلي؛ ولذلك فستظل هذه المثل العليا الخيالية رموزا نهتدي بهديها لا عناصر من عناصر الواقع الذي نعامله في حياتنا اليومية، نعم إن أمثال هذه الصور الخيالية لتغذي نفوسنا، وتزيد من خصوبة حياتنا، لكننا إن زعمنا لأنفسنا أنها موجودات حقيقية، فعندئذ نحط من شأن القيم العليا التي جاءت تلك الرموز الخيالية لترمز إليها، ويصبح الأمر خرافة وتخريفا بعد أن كان مثلا أعلى واهتداء بصيرا.
ومع ذلك فإنا نلاحظ أن الفلسفة والدين كليهما لا ينفكان يحطان من شأن هذه القيم العليا بأن يحاولا خلط المثل العليا بالواقع، إنهما بذلك يحولان الشعر نثرا والحلم حقيقة، إنهما لا يرضيان بأن يجعلا من الله رمزا صافيا في خيال الإنسان، وصورة للخير الكامل كما صورته الروح، ويصران على أن يلقيا به في مضطرب الحياة اليومية بأوشابها ونقائصها؛ وذلك بأن يجعلاه كائنا متعينا وشخصا حيا، إنهما بذلك ولا شك يحولانه من روح إلى مادة، لكنهما يغطيان هذا الخزي منهما بمجرد اللفظ الأجوف حين يقولان إنهما يتحدثان عن وجود روحاني حين يتحدثان عن الله، إنهما لا يفرقان في حديثهما هذا بين ما هو جوهري وما هو عرضي من الأمور؛ لأن جوهر ما يؤديان بصنيعهما - رغم كل ما يزعمانه - هو أنهما قد هبطا بالإله من عالم الوجود الضمني - الوجود العقلي - إلى عالم الوجود العيني - الوجود الفعلي - فنزلا به من مرتبة المثل الأعلى إلى مرتبة الواقع، والعجيب أنهما لا ينكران ذلك، بل يزهوان بما يصنعان.
12
وها هنا يأتي دور العقل الإنساني وما يصنعه بذكائه، فمن مهامه أن يزيل عنا هذا الخلط بأن يهدينا إلى الصواب، والصواب هو أن نفرق بين القيم المختلفة ولا نجعلها جميعا من صنف واحد وطراز واحد، فقيمة «الحق» إنما تتجسد في عالم الطبيعة، فما هو «حقيقي» موجود وجودا فعليا، لكن ما كذلك قيمتا الخير والجمال، فهاتان قيمتان من عالم الروح لا من عالم الطبيعة المتحقق؛ إذ الخير والجمال كلاهما تصوران يتصورهما الإنسان بخياله ليرسم مثلا أعلى يستريح له في أحلامه ما داما لا يتحققان في دنيا الواقع، إن الإنسان لتتم راحته النفسية من حيث الخير والجمال إذا هو جعلهما موضوع تأمل وتفلسف، لكن راحته النفسية من حيث الحق لا تتم إلا إذا وجد الحق متمثلا في الواقع، وهكذا ترى أن ما يكفي في حالة الخير والجمال لا يكفي في حالة الحق، والعكس صحيح، فلماذا إذن تتطلب من الخير والجمال أن يغيرا من طبيعتيهما ليصبحا واقعا من الواقع كأنما يراد بهما أن ينقلبا «حقا» بعد أن كانا «خيرا» و«جمالا»، وكذلك كما أن الخير ليس حقا، والجمال ليس حقا، فالخير والجمال معا وإن اتفقا في كونهما معا مما تتعلق به الأوهام والأحلام دون الواقع، إلا أنهما يختلفان اختلافا بعيدا بعد ذلك؛ ولهذا كان من العبث والخلط وسوء الفهم أن تتطلب من «الجميل» أن يكون كذلك «خيرا» أو من «الخير» أن يكون كذلك «جميلا»، وما أكثر ما نرى الفنان - وهو الذي يصور الجمال - على خلاف شديد مع الأخلاقي، فترى هذا ينقد ذاك بأن فنه لا يؤدي إلى الفضيلة، فيرد الفنان - وهو على حق - بأنه لا شأن له في فنه بالفضيلة، وكذلك قل فيما ينشب من خلاف بين «الحق» الذي تنشده العلوم، وبين الفضيلة التي يريدها الأخلاقيون، فترى هؤلاء يتهمون العلم في بعض نتائجه بأنه هادم للأخلاق، لكن العالم قد يجيب - وهو على حق - بأنه لا شأن له في بحثه العلمي بالفضيلة، وهكذا ترى كيف تفترق هذه القيم الثلاث، ويجب أن تفترق؛ لأنها مختلفة الأصول، ومن الخلط توحيدها وإهمال ما بينها من فروق.
لكن الإنسان بعقله لا بد له - من جهة أخرى - أن يتبين كذلك أنه على ما بين عالم الجوهر وعالم الخبرة الفعلية من فوارق، فهما قد ينطبقان في بعض النواحي، بحيث يتحقق أحدهما في الآخر، وعندئذ يتبين أنه لا استحالة - كما أنه لا ضرورة - في أن تكون دنيانا دنيا حق ودنيا خير ودنيا جمال في آن معا، ليس مستحيلا، كما أنه ليس ضروريا، على هذا العالم الذي نعيش فيه أن يحقق جزءا من أمانينا في الخير والجمال، وإن كنا لا نقصر خيالنا على الحدود التي يحققها لنا عالم الواقع من هاتين القيمتين، بل نمده إلى حيث عالم الجوهر، وهو عالم الممكنات، لنجد فيه بقية ما يشبع فينا المثل الأعلى.
أسمى ما يسمو إليه العقل في أدائه لمهمته هو أن يحقق الاتساق والانسجام بين الأجزاء المختلفة في خبرته من حيث إيجاد التعادل والتوازن بين القيم المختلفة، وذلك بأن يستحضر أمام الفكر أكبر عدد ممكن من ممكنات عالم الجوهر، دون أن يقع بينها تعارض وتناقض، فها هو ذا عالم الطبيعة قد حقق بعض تلك الممكنات دون بعضها الآخر، لكن حتى في هذا الجانب الذي حققه قد لا يخلو فيه الأمر من متناقضات ومفارقات، وسمو العقل هو في أن يسمو بخياله ويعلو، بحيث يضيف إلى فكره - فوق ذلك الذي حققته دنيا الطبيعة المادية - أفكارا أخرى، وأن يذيب من المجموعة كلها التي اجتمعت له كل ما بينها من دواعي التعارض، وبمقدار ما يوفق في تجميع عدد كبير من الأفكار - الممكن منها والمتحقق - وفي تنسيق ما تجمع لديه تنسيقا يجعله وحدة متناغمة، تكون منزلته من السمو، فتراه - مثلا - يوفق بين الدين والفلسفة والعلم، بأن يجعل الدين والفلسفة ضربين من ضروب الشعر، لا وسيلتين من وسائل الوصف العلمي لما هو واقع؛ ولذلك فهما لا يصلحان لتفسير العالم تفسيرا صحيحا، لكن ذلك بالطبع لا يعني الحط من شأنهما، إنما يعني تحديد مجاليهما، وما مجالاهما إلا رسم المثل العليا التي يحلم بها الإنسان ولا يجدها متحققة في العالم الواقع، فإن يكونا غير قائمين على أساس يجعلهما من العلوم، فهما قائمان على أساس آخر يدخلهما في مجال الشعر الرفيع، والعاقل هو من لا يتخذ من إخفاقهما في مجال سببا لانتقاص ما لهما من قدر كبير في مجال آخر، وكذلك قل في التفسير العلمي الذي يفسر العالم تفسيرا صحيحا، لكنه لا يتمشى مع مثل الإنسان الأعلى في الأخلاق، فلا يجوز أن يتخذ هذا النقص الخلقي فيه سببا للحط من شأنه في مجال التفسير العلمي الصحيح.
13
تلك خلاصة لفلسفة «سانتايانا» - وهو فيلسوف أمريكي بالإقامة والإنتاج، وإن لم يكن أمريكيا بالمولد والجنسية - هي خلاصة كتابيه العظيمين «حياة العقل»
14 (1905-1906م) و«عوالم الوجود»
15 (1927-1940م) مضافا إلى هذا الأخير مقدمته التي خرجت في كتاب مستقل هو «التشكك والإيمان الحيواني»
16 (1923م) وهو كما ترى فيلسوف طبيعي بمعنى أنه يدخل كل شيء في جوف الطبيعة، على الرغم من هذه الروحانية الشاعرة التي تشع من أفكاره، فكأنما هو من هؤلاء الناس الذين يرون بالعقل شيئا، ويحسون بالقلب شيئا آخر، فيبالغون في تلبية نداء العقل ليخفوا بهذه المبالغة خفقات القلوب. (2) «ألفرد نورث وايتهد»
17
والبناء العضوي
وهذا فيلسوف آخر - مثل سانتايانا - أمريكي بالإقامة والإنتاج، وإن لم يكن أمريكيا بالمولد والجنسية، ولكن «وايتهد» - على خلاف سانتايانا - لم يكن أمريكيا بالنشأة والسيرة أيضا؛ لأنه لم يرتحل إلى أمريكا ليتولى منصب الأستاذية في هارفارد إلا بعد أن بلغ الثالثة بعد الستين من عمره في وطنه إنجلترا، حيث أتم مدة عمله أستاذا بجامعة لندن، وبعدئذ وجهت إليه هارفارد دعوة ليكون أستاذا بها، وهنالك لبث حتى وافته منيته عام 1947م، وكان قد بلغ من عمره السابعة بعد الثمانين، وإذن فهي أربعة وعشرون عاما قضاها «وايتهد» في الولايات المتحدة، لكنها كانت هي الفترة الأخيرة من عمره ، فكانت بالتالي فترة الإنتاج الفلسفي الناضج؛ لأنه وإن يكن قد أخرج وهو في أرض الوطن مؤلفات هامة في التحليلات الرياضية المنطقية - مثل كتاب «أسس الرياضة» الذي اشترك فيه مع برتراند رسل، وأخرجاه معا في أربعة أجزاء - إلا أن مذهبه الفلسفي لم يكتمل بناؤه ولم يلتمس سبيله إلى التعبير إلا وهو في أمريكا، حيث أخرج كتابه الذي عرض فيه لباب فلسفته، وهو كتاب «التطور وعالم الواقع»،
18
فنحن إذ نذكر «وايتهد» في كتاب يستعرض حياة الفكر في أمريكا، فإنما نعتمد في ذلك على تاريخ إنتاجه الفكري وعلى تأثيره في الاتجاهات الفلسفية أيام إقامته هناك، وإلا فهو كذلك حلقة من تاريخ الفلسفة الإنجليزية المعاصرة، ومرحلة هامة من مراحل الفلسفة الأوروبية الحديثة بوجه عام.
وكما يساورني التردد في نسبة «وايتهد» إلى تيار الفكر الأمريكي،
19
فكذلك يساورني تردد آخر في إضافته إلى «سانتايانا» في فصل واحد يتحدث عن الاتجاه نحو إدخال كل شيء في عالم الطبيعة؛ لأنه وإن يكن شديد الشبه بسانتايانا في اعتباره لعالم الواقع تحقيقا لجزء يسير من الممكنات، وفي نظرته إلى الممكنات على أنها كائنات عقلية أبدية، إلا أنهما يختلفان في نواح رئيسية أهمها هي أن «سانتايانا» قد اعترف - مع الفلسفة التقليدية - بوجود عنصر مادي وبأن الحوادث إن هي إلا أعراض تطرأ على ذلك العنصر، على حين أن «وايتهد» - كسائر التطوريين في العصر الحديث - قد استبدل بالعنصر الثابت تيارا من صيرورة وتغير، لكن حسبنا بين الفيلسوفين شبها يبرر ضمهما معا في اتجاه واحد، أن كليهما قد تخلص من الثنائية التقليدية بين العقل من ناحية، والطبيعة من ناحية أخرى، فمزجاهما معا في كون واحد، وجعلا العقل جزءا من الطبيعة غير مفارق لها، وهكذا انتهيا إلى «تطبيع العقل» أو إن شئت فقل «تعقيل الطبيعة».
بدأ «وايتهد» حياته العلمية رياضيا من الطراز الأول، وعالما من علماء الطبيعة؛ ولذلك جاءت أولى أعماله الفلسفية الكبرى متأثرة بتلك الدراسة الأولى، وذلك بأن تعاون مع «رسل» - كما أشرنا - في إخراج مؤلف ضخم في منطق الرياضة، يعد بداية عهد جديد في الدراسة المنطقية، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن لهذا المؤلف، وأعني به «أسس الرياضة»
20
أبعد الأثر وأعمقه في توجيه تيار الفكر الفلسفي كله في هذه العشرات الأربع الأخيرة من أعوام القرن العشرين؛ إذ وجه ذلك الفكر الفلسفي نحو التحليل على نموذج ما ورد في «أسس الرياضة» من تحليلات، ولو جعلنا للفلسفة المعاصرة صفة واحدة غالبة لقلنا إنها الانتقال من «التأمل» الميتافيزيقي إلى «تحليل» القضايا العلمية، ثم استطرد «وايتهد» بعد هذه البداية فتناول علم الطبيعة بنظرة الفيلسوف، فأخرج في ذلك «أصول المعرفة الطبيعية»
21
و«فكرة الطبيعة»
22
و«العلم والعالم الحديث»،
23
ثم كتابه الرئيسي في مذهبه الفلسفي وهو «التطور وعالم الواقع»،
24
وأخيرا «مغامرات أفكار»،
25
فكان بهذا المحصول الفلسفي من قادة الحركات المعاصرة في الفلسفة، التي يغلب عليها الاتجاه الواقعي بصفة عامة، على اختلاف التفريعات التي ذهب إليها مختلف الفلاسفة، لكن هنالك مميزا فريدا يطبع «وايتهد» دون سائر الواقعيين على اختلافهم، وذلك أن الكثرة الغالبة من هؤلاء قد اتخذت الواقعية مذهبا بعد أن غاصت إلى آذانها في دراسة الفلسفة المثالية التي كان لها السيادة في أواخر القرن التاسع عشر، في إنجلترا وفي أمريكا على السواء، فجاء اتخاذهم للواقعية مشوبا بروح التعصب ضد المثالية، شأن المرتد من عقيدة قديمة إلى أخرى جديدة، فتراه يسرف في مناصرة هذه العقيدة الجديدة إسرافا يميل به إلى غض النظر عن كل ما في العقيدة القديمة من حسنات، كأنما يخشى أن يعود إلى خطيئة الماضي، فيدرأ عن نفسه هذا الخطر بمضاعفة جهاده في سبيل الرأي الجديد، ومن أجل هذا تلمس في مؤلفات الواقعيين المعاصرين كثيرا من التزمت في واقعيتهم، فهم أشد اهتماما بعدائهم للمثالية منهم بالتماس الحق لذاته فيما يكتبون، أما «وايتهد» فقد دخل ميدان الفلسفة عن طريق الرياضة والعلم الطبيعي، فلم يكن به حاجة إلى تزمت أو تعصب، ولذلك تراه يسترسل وراء فكرته التي يحللها، لا يعبأ إلى أي نهاية يسوقه البحث، فلتكن نهايته واقعية خالصة أو ممزوجة ببعض العناصر المثالية أو كائنة ما تكون؛ لأنه لا يقصد إلى نتيجة بعينها، بل ينشد الحق كما يراه.
26
وأول ما نذكره عن رأيه في الطبيعة هو أنه يجعل حقيقة الشيء في طريقة تركيبه لا في المضمون الذي يملأ ذلك التركيب، فمثلا حقيقة الهرم - والمثل من عندي - ليست في صخوره التي بني منها، بل في إطاره أو في صورته أو في هيكله؛ لأنه يظل هرما إذا أقمناه من خشب أو حديد أو أية مادة أخرى ما دامت طريقة التركيب أو هيكل البناء لم يتغير، غير أن «التركيبات» التي هي الأشياء التي تتألف منها الطبيعة ليست دائمة على حال واحدة، بل هي في تغير دائم وحركة دائبة، بحيث يصبح ذلك التغير أو هذه الحركة جزءا من طبيعتها، ولو حللنا هذه «التركيبات» إلى عناصرها الأولية، وجدناها مؤلفة مما يسميه «وايتهد» «بالحوادث» أو «العوابر»،
27
و«الحوادث» - كما هي مستعملة في الفلسفة المعاصرة - معناها سلسلة الحالات التي تكون تاريخ الشيء، فهذه المنضدة - مثلا - لا تنفك باعثة إلى مشاهديها لمعات مختلفات من الضوء وأشكالا مختلفة لسطحها وهكذا، ومن مجموع هذه الحالات التي يراها عليها مشاهدوها في لحظات الزمن المتتابعات، أو بعبارة أخرى، من مجموع هذه «الحوادث» تتألف حقيقة المنضدة في الواقع، وفي هذا التحليل يتفق «وايتهد» مع كثير من زملائه الواقعيين، لكنه يتفرد دونهم بقوله إنه وإن يكن تحليل الشيء ينتهي بنا إلى مجموعة من «حوادث» إلا أن هذه المجموعة نفسها لا تكون هي الشيء الذي نحلله إلا إذا ظلت محتفظة بهيئة معينة أو بتركيبة معينة، أي إن تحليل الكل إلى أجزائه ووحداته وإن كشف لنا عن مقومات ذلك الكل، إلا أنه يبطله ويفسده ويغير من حقيقته؛ لأن الكل ليس مجرد كومة من وحدات، بل هو هذه الوحدات حين تكون على تركيب خاص، وهذا التركيب الذي يكون عليه الشيء هو حقيقته وجوهره.
من ذلك نفهم لماذا سميت فلسفة «وايتهد» بفلسفة البناء العضوي؛ لأن كل شيء وكل موقف وكل واقعة هي في حقيقتها بناء ذو هيكل معين، ولو تغير هيكلها ذاك لتغيرت شيئا آخر، حتى وإن بقي لها كل مقوماتها كما كانت؛ فالأمر في كل شيء كالأمر في الكائن العضوي، ليس هو مجرد كومة من خلايا أو مجموعة من أعضاء، بل هو فوق هذا «تركيبة» خاصة تنتظم هذه الأجزاء وتجعل بينها علاقات معينة، فالوجود كله كائن عضوي، وكل شيء فيه كذلك كائن عضوي بهذا المعنى الذي أسلفناه، ذلك أن الوجود مؤلف من «كائنات فعلية»،
28
كل منها له وضعه الخاص في مجموعة الكائنات، بحيث يتكون من ترتيب هذه الكائنات في أوضاعها المعينة لها بناء عضوي، ويعبر «وايتهد» عن المعنى نفسه بلغته الاصطلاحية، فيقول: إن كل شيء في الكون هو «مجتمع»، وإذن فالكون مجموعة «مجتمعات»، «وليس المجتمع مجرد مجموعة من كائنات نطلق عليها اسما يدل على فئتها»،
29
وهنا نقطة الاختلاف بين «وايتهد» وزملائه الواقعيين: فهل هذه المنضدة - مثلا - مجرد مجموعة من معطيات حسية - أو حوادث - يتلقاها مشاهدوها؟ يجيب معظم الواقعيين المعاصرين أن نعم، ويجيب «وايتهد» بأنها - كأي مجتمع آخر - لا تقتصر حقيقتها على عدد أفرادها، بل هي كذلك طريقة بناء هذه الأفراد في كائن عضوي.
ونريد أن ننبه قارئنا في هذا الموضع من سياق الحديث، إلى أن «وايتهد» عسير القراءة، فيصعب جدا حتى على من مارسوا القراءة الفلسفية زمنا طويلا أن يدركوا معنى عباراته في سهولة ويسر؛ وذلك لأنه يستخدم لغة اصطلاحية، فلو علمنا معاني مصطلحاته لزال كثير جدا من صعوبة فهمه، وإنما أقول ذلك هنا لكي يأخذ القارئ هذه المصطلحات التي أوردناها في الفقرة السالفة بمعانيها عند «وايتهد» لا بمعانيها في اللغة الجارية أو في لغة العلوم الأخرى، فعبارة «كائن عضوي» ليس المقصود بها هو معناها في علم الحياة، بل المقصود بها هو أن تكون بين أجزاء الشيء المعين أو الموقف المعين علاقات ذات هيكل خاص، ولفظة «مجتمع» ليس المقصود بها مجتمعا من أفراد الناس كمألوف استعمالها، بل المقصود بها هو مجموعة الوحدات التي منها يتألف شيء معين أو موقف معين، بحيث يكون بين تلك الوحدات من العلاقات ما يجعلها بناء عضويا.
وننتقل الآن إلى نقطة ثانية رئيسية في فلسفته، وهي أن الطبيعة ليست فقط مقامة على أساس عضوي، بل هي كذلك في تغير دائم وتطور دائب وسير لا يقف، فالكائن العضوي إذ ينشط بحركات متتاليات وفاعلية مستمرة، لا يكون مصدر ذلك النشاط وهذه الفاعلية فحسب، أعني أنه لا يكون هو في جانب ونشاطه في جانب آخر، بل إن مناشطه كلها وفاعلياته كلها هي هي نفسها الكائن العضوي؛ إذ سيكون بينها من العلاقات ما يجعلها كذلك، بعبارة أخرى نقول: إن الشيء - كائنا ما كان - أو الطبيعة بأسرها باعتبارها كلا واحدا هي عبارة عن مجموعة نشاطها، ولو جاز لي أن أسوق مثلا يوضح الفكرة من نغمة الموسيقى، لقلت إن كل شيء، بل والطبيعة بأسرها ككل واحد هي كنغمة اللحن الموسيقي مؤلفة من حركات صوتية، بحيث تكون هذه الحركات هي نفسها النغمة، فليست النغمة شيئا وحركات الصوت شيئا آخر، بل إن هذه هي تلك، كذلك قل في كل شيء، وفي الطبيعة بأسرها، إنه فاعلية متصلة، أو نشاط مستمر، على ألا نفهم من ذلك أن النشاط منبعث من مصدر ثابت قائم وحده قد ينشط، وقد يفتر عن نشاطه، بل هو هو نفسه ذلك النشاط أو تلك الفاعلية.
ذلك هو المبدأ الأساسي في فلسفة «وايتهد»؛ العالم تغير وتطور وحركة وعمل وسير، وهل يمكن لفيلسوف مثله نشأ في جو من علم الطبيعة الحديث أن يقول غير هذا؟ فهذا العلم الحديث - كما تعلم - قد حلل المادة إلى ذرات، والذرة إلى كهارب سالبة وكهارب موجبة، أو قل إلى إشعاعات ضوئية متحركة أبدا، ليست هذه المنضدة التي أمامي جسما صلبا بالمعنى الذي كنا نعرفه للأجسام الصلبة، بل هي خلية كبيرة من أشعة تتحرك بسرعة كسرعة الضوء، وإذن فالطبيعة كلها قوامها هذه الحركة الدائبة؛ وبالتالي فقوامها تغير وتطور لا وقوف وسكون، وأخص خصائص هذا التغير في الطبيعة هو أنه يخلق الجديد، أعني أن الأجزاء لا تتحرك مجرد حركة تنتقل بها من مكان إلى مكان، بل إنها لتتحرك وتنشط ليتكون منها دائما «تركيبات» جديدة كل الجدة لم يسبقها شبيه في ماضي الطبيعة؛ ومن ثم يكون التطور، بل يكون الترقي والتقدم.
ولهذا التطور في الطبيعة خصيصتان، هما «الامتداد» و«الهدف»؛ فهو «ممتد» في المكان وفي الزمان معا، بمعنى أن حركة التغير تسري في نطاق مكاني معلوم ، وعلى فترة زمنية معينة، وحركة التغير هذه لا تسير إلى غير غاية، بل تقصد إلى «هدف» يراد تحقيقه، فالطفل - مثلا - في تغيره الدائم من حالة إلى حالة إنما يسير بتغيره هذا نحو أن يكون رجلا، وهكذا قل في كل شيء.
الحق أنه ليتعذر علينا أن نتبين في فلسفة «وايتهد» واقعية صريحة، أو مثالية صريحة، بل لعله تعمد أن يمزج هذه بتلك حتى تجيء نظرته أعلى وأشمل من كل من المذهبين مأخوذا على حدة؛ فمثلا لو كان واقعيا خالصا لذهب مع الواقعيين إلى القول بتعدد الكون وتكثره، فهكذا يذهب الواقعيون إذ يرون أن العالم ليس وحدة واحدة، بل هو مجموعة مشتملة على كثرة من أشياء، كما تدل على ذلك خبراتنا، ولو كان مثاليا خالصا لذهب مع المثاليين إلى أن الكون وحدة على الرغم مما قد يبدو من تعدد أشيائه وتكثرها، لكن «وايتهد» يجمع الرأيين معا في رأي، فيقول: إن الكثرة التي تأتينا مع تجاربنا بالواقع كثرة حقيقية، لكنه مع ذلك يصر على استحالة أن يستقل شيء بذاته، بحيث يستغني بكيانه عن بقية الأشياء، وكثيرا ما وجه النقد إلى الواحديين من قبله؛ لأنهم لم يدفعوا بواحدية العالم إلى نهايتها القصوى؛ إذ كانوا يكتفون بأن يجعلوا الأشياء كلها معتمدة في وجودها على وجود الله، لكنهم لم يجعلوا وجود الله كذلك معتمدا على وجودها، أما هو فيرى الوجود المستقل الذي يكفي نفسه بنفسه محالا على أي كائن مهما يكن؛ فهو مستحيل على الله استحالته على أصغر ذرة من ذرات الوجود، وهو مستحيل على الأفراد استحالته على الأمم، وهو مستحيل على الأشياء استحالته على معاني الألفاظ والعبارات، فيستحيل أن تفهم شيئا من هذه جميعا وهو قائم وحده، بل لا بد - لكي تفهمه - أن ترى نسبته إلى بقية الأشياء ، بحيث تراها جميعا في صحبة واحدة «كل منها في حاجة إلى بقيتها».
كل شيء في الوجود، أو كل «كائن فعلي» - كما يحب «وايتهد» أن يسمي الأشياء - هو بحاجة في وجوده إلى سوابق وأسلاف، كلها تتجمع فيه، ومع ذلك تراه يبرز في الوجود فردا فريدا ليس له شبيه مما سبقه أو عاصره، حتى إذا ما تكامل بناؤه وكيانه واكتمل نموه ونضوجه، استقر في الوجود مقوما من مقوماته، وعضوا من أعضائه، ليجيء من بعده فيتشربه كما كان هو قد تشرب أسلافه، ليكون بدوره فردا في الوجود فريدا، وهكذا دواليك، وانظر إلى الطبيعة كلها هذه النظرة التي تراها وهي في سيرها تنمو، تجدها في كل مرحلة من مراحلها تهضم في كيانها كل ما قد سلف، ثم تتفرد بعد ذلك في مرحلتها الراهنة تفردا يميز هذه الحالة من كل سالفاتها، فكأنما الطبيعة في تشابك أجزائها تجعل من الكثرة وحدة، ثم تضيف عند كل مرحلة في سيرها إلى تلك الوحدة واحدا، أي إنها تضيف - عند كل مرحلة في سيرها - إلى سالف تاريخها فصلا جديدا أو حالة جديدة، وهذا هو ما نعنيه إذ نقول: إن من خصائص الطبيعة الهامة عند «وايتهد» أنها في سيرها تقصد إلى «هدف»؛ فهدفها دائما هو خلق الجديد، الجديد الذي يهضم القديم كله، ثم يزيد بما يجعله جديدا، فقوة الخلق هذه - خلق الجديد - هي عند «وايتهد» المبدأ الذي تنطوي عليه حركة التطور، فما قوام الكون إلا مخلوقاته، كل مخلوق منها فريد، تمثلت في فرديته تلك القوة الخالقة التي ما تنفك ساعية نحو خلق الجديد، على ألا نفهم من ذلك أن هذه القوة الخالقة شيء غير مخلوقاتها التي تمثلت فيها، أي إنها ليست شيئا خارجيا بالنسبة إلى مخلوقاتها، بل هذه هي نفسها تلك، فلو تصورنا انعدام هذه الكائنات المجسدة للقوة الخالقة لتبع ذلك انعدام هذه القوة أيضا، وقوة الخلق هذه إنما تتمثل في مخلوقاتها، أو مجسداتها، أو «الكائنات الفعلية» أو «العوابر الفعلية»
30
على حد سواء، فهذه الكائنات أو هذه «العوابر» هي قوام العالم بكل ما فيه، ليس وراءها شيء وليس فوقها شيء، هي الحقيقة التي لا حقيقة بعدها، وهي وإن تكن متفاوتة القيمة والأهمية ومتباينة النشاط والفاعلية، إلا أنها جميعا سواء من حيث تجسيدها للمبادئ التي تجسدها.
31
وقد حان الحين لنا أن نسأل: ما هذه «الكائنات الفعلية» أو «العوابر الفعلية» التي يرى «وايتهد» أنها قوام العالم، وأنه لا فرق بين واحدة منها وواحدة من حيث تمثيلها للمبادئ العامة التي على سننها تجري الطبيعة، حتى لقد أسرف في ذلك وقال: «ألا فرق بين الله - وهو أيضا «كائن فعلي» - وبين أتفه نفثة من نفثات الوجود في أرجاء المكان الخالي القصي البعيد»؟
32
وجواب «وايتهد» عن هذا السؤال هو: الكائنات الفعلية التي هي قوام الوجود هي حالات من خبرة، انظر إلى نفسك وأنت على وعي بما يحيط بك تجد في نفسك سيالا من «الخبرة» - أعني وعيك بما تدرك - بما يقع تحت إدراكك، فهذه «الخبرة» التي تتتابع في نفسك «قطرات»،
33
قطرة في إثر قطرة، هي قوام العالم، ليس قوام العالم ذرات من مادة، ولا وحدات من روح، ولا مجموعة من عناصر، بل قوامه «قطرات من خبرة»، كل «كائن فعلي» هو نبضة خبرية يدرك بها النابض بخبرته وجود ذلك الكائن الفعلي إدراكا مباشرا.
وإذ تتتابع «نبضات» الخبرة أو «قطراتها»، يشعر الكائن صاحب تلك الخبرة بشعورين في وقت واحد: يشعر بفرديته التي يتفرد بها في تلك الخبرة الخاصة، ثم يشعر بأنه رغم فرديته إن هو إلا جزء تجاوره أجزاء أخرى، بحيث يدخل معها في نسيج واحد هو الوجود، وهنا يستعمل «وايتهد» اصطلاحا آخر من اصطلاحاته الكثيرة، وهو لفظة «التشرب»
34
أو «الهضم» أو «الامتصاص» أو ما يكون له معنى شبيه بهذا، ليعبر به عن احتواء الفرد للكل الذي حوله وإدخاله معه في عملية تطورية واحدة، في هذه الوحدة التي تدمج الفرد بغيره من الكائنات، يكون الفرد «ذاتا» شاعرة بما حولها، وتكون تلك الكائنات بمثابة الموضوعات التي تتناولها تلك الذات بخبرتها، وإذن فالموقف الذي نسميه «خبرة» يتألف من مركز ذاتي فردي خاص من جهة، وأشياء خارجية موضوعية عينية علنية من جهة أخرى، الأول يكون هو الذات الخابرة، والثاني يكون هو الجانب المخبور، والجانبان معا يكونان وحدة لا تقبل الانقسام، هي التي تمثل قطعة من الحياة وهي في حالة التجاوب مع سواها من حقائق الوجود، وفي هذا التجاوب بين الذات ومحيطها تكون العلاقة أشبه شيء بانسياب تيار من الخارج إلى الداخل، من الموضوع إلى الذات، وكذلك من الماضي إلى الحاضر؛ لأن كل ما هو «هناك» مما ينساب تياره إلى «هنا» إنما هو سابق في الزمن - مهما كانت فترة الأسبقية بالغة القصر - أي إنه ماض بالنسبة إلى حالة الخبرة به، وبهذه النقلة من الماضي إلى الحاضر من حيث الزمن، ومن الخارج إلى الداخل من حيث المكان، تتم عملية الخبرة التي تدمج الفرد بمحيطه، وهكذا ترى «وايتهد» في تحليله للوقف الشعوري أو الموقف الخبري، بدل أن يذهب إلى ما ذهب إليه «كانت» من حيث خلع الإنسان لذاته على ظواهر الأشياء التي يدركها فيصوغها على قوالب تلك الذات ووسائلها، يجعل خبرة الذات وليدة العالم الخارجي وصنيعته، إن الذات في حالة خبرتها بمحيطها الخارجي لتخلق نفسها بنفسها أثناء عملية الخبرة نفسها، فلا هي كانت هناك قائمة قبل ممارستها لخبرتها، ولا هي من خلق عامل خارجي عنها، وما يحدث هو هذا: هنالك كثرة من أشياء تحيط بمن سيتناولها بخبرته، فإذا ما تناولها خابر بخبرته جعل من كثرتها تلك وحدة؛ لأنه سينظر إليها من وجهة نظر واحدة، ويلاحظ أن توحيدها على هذا النحو في خبرته هو تكوين فريد، لا تكرار له أبدا في أي خبرة أخرى، ويلاحظ كذلك أن صاحب هذه الخبرة هو الذي يقرر ما الأجزاء التي سيضم بعضها إلى بعض في خبرة واحدة متماسكة، بحيث تصبح وإياه جزءا من كل عضوي، وبحيث تحقق له غاية منشودة.
إننا في العادة نتصور الثبات في أنفسنا حتى إن تصورنا التغير الدائب في الأشياء التي ندركها، لكن «وايتهد» - كما رأيت - يجعل الداخل والخارج معا في تغير لا ينقطع فلا ينفك ما حولنا يتغير، وكذلك ما تنفك الذات المدركة تتغير، فإذا كانت الأشياء الخارجية لا تظل لحظتين متتابعتين على حالة واحدة، فكذلك الذات المدركة لا تثبت على حالة إدراكية واحدة لحظتين متتابعتين، كان هرقليطس - وهو من فلاسفة اليونان السابقين على سقراط - يذهب مذهب التغير في الأشياء، وقد صور ذلك في عبارته المشهورة: «إنك لا تعبر النهر الواحد مرتين.» ومعناها أنك حين تعبر النهر للمرة الثانية يكون نهرا آخر، فليس الماء هو نفسه الماء الذي كان، وجاء «وايتهد» فوسع من المبدأ نفسه، بحيث شمل الذات أيضا، حتى ليصح أن يقال عنها عبارة شبيهة بتلك، فنقول: «إنك لا تفكر الفكرة الواحدة مرتين.» أو «إنك لا تمارس الخبرة الواحدة مرتين.»
35
لأنك في كل لحظة تتغير ذاتا بتغير موضوع إدراكك، وهكذا يكون العالم - ذاتا وموضوعا - خلاقا أبدا جديدا أبدا، لا يدوم على حال واحدة لحظتين متتابعتين.
لكن الشيء إذ يتغير - كما نقول - تغيرا لا يقف تياره فهو إنما يفعل ذلك باطراحه لصفات واكتسابه لصفات أخرى هذا بديهي؛ إذ لو دامت للشيء صفاته لما طرأ عليه تغير، فلنا إذن أن نسأل: ومن أين للشيء المتغير صفاته الجديدة التي بها يتغير؟ إن تفسير ذلك محال، إلا إذا افترضنا وجود تلك الصفات وجودا كامنا، لا بد أن تكون هنالك كل الصفات الممكنة، وأن يكون وجودها «أبديا»؛ لأنها هناك منذ الأزل وستظل هناك إلى الأبد، حتى يتسنى للعالم أن يلبس منها ثوبا ويخلع ثوبا في تطوره الذي لا يقف لحظة، وفي تغيره الدائب الذي لا يفتر ولا يني، وإذن فهذا أفلاطون يتحدث من جديد! إذ لا فرق بين القول بوجود أشياء وجودا أزليا أبديا، وبين «المثل» التي جعلها أفلاطون قائمة كذلك في وجود أزلي أبدي، لتظل الأشياء الجزئية تخلق على غرارها،
36
أو قل كذلك إنه أرسطو يتحدث من جديد حديثه عن الوجود بالقوة والوجود بالفعل، فما هو موجود الآن بالفعل كان موجودا - قبل ظهوره - بالقوة، وهكذا يتحدث «وايتهد» إذ يقول: إن عملية التطور إن هي إلا عملية اختار متصل التركيبات وصفات كانت موجودة بالقوة، فأصبحت باختيارها موجودة بالفعل، ولعلك أيضا تدرك الشبه الشديد هنا بين «وايتهد» وبين «سانتايانا» حين قال إن هناك عالما للممكنات - أسماه بعالم الجوهر - يتحقق بعضه فيكون هو العالم الفعلي الواقع.
الفصل الثامن
تيارات أخرى معاصرة
(1) الوضعية المنطقية
سميت هذه الحركة الفلسفية المعاصرة بهذا الاسم؛ لأن أنصارها «وضعيون» بمعنى أنهم - كالعلماء - يريدون للإنسان أن يقف بفكره عند الحدود التي يستطيع عندها أن يقيم علمه على تجاربه وخبرته، وأن يثبت صدق أقواله إثباتا يستند إلى الملاحظة الحسية، وإذن فلا يجوز له أن يجاوز بشطحاته التأملية هذه الحدود، بحيث يزعم ما ليس في وسعه أن يستند فيه إلى الخبرة الحسية، وإلى هنا لا جديد في هذه الحركة؛ لأن «الوضعية» بهذا المعنى بدأت بصورة جادة منذ «كانت» و«أوجست كونت» اللذين كان من رأيهما كذلك ألا يعدو الإنسان - إذا ما تحدث عن العالم وما فيه - ظواهر الأشياء كما تقع له في خبرته، لكن هذين الفيلسوفين كليهما قد ظن أن وراء تلك الظواهر المشاهدة حقائق ليس في وسع الإنسان أن يدركها بأدواته الحسية، فكأنهما أرادا أن يقولا إن قدرة الإنسان على معرفة الكون محدودة، وإنه لو كان مركبا على نحو آخر لجاز أن يكون في مستطاعه إدراك ذلك الجانب الغيبي الذي يجاوز عالم الحس والشهادة، أما هؤلاء «الوضعيون المنطقيون» فيذهبون إلى غير هذا؛ إذ يعتقدون أن الأمر هنا ليس عجزا من الإنسان كما هو الآن، بل إن استحالة الحديث عن تلك الحقائق المزعومة وراء عالم الحس استحالة «منطقية» بمعنى أن كل عبارة يقولها قائل عن تلك الحقائق الغيبية المزعومة، لو حللناها، وجدناها فارغة من المعنى؛ لأنها استخدمت ألفاظ اللغة في غير ما وجدت له تلك الألفاظ، فكأنما المشكلات الفلسفية كلها، تلك المشكلات التي قيل عنها إنها مستعصية على الحل لعجز في قدرة الإنسان الفكرية، إن هي في حقيقة الأمر إلا «أشباه مشكلات»، وليست بالمشكلات الحقيقية، هي «أشباه مشكلات»؛ لأنها تضع المشكلة المزعومة على هيئة سؤال يتطلب الجواب، فإذا لم نجد للسؤال جوابا، قلنا إنه سؤال عسير، فوق مقدور الإنسان أن يجيب عنه، مع أن الأمر كله لا يزيد على خلط في استخدام العبارات اللغوية خلطا يوهم بأن السؤال المطروح سؤال كهذه الأسئلة التي يلقيها العلماء على أنفسهم، والتحليل المنطقي لأمثال هذه الأسئلة كفيل أن يفضح مواضع هذا الخلط، وهو بالتالي كفيل أن يمحو هذه المشكلات المزعومة من قائمة التفكير الجاد المنتج؛ ولهذا كانت الفلسفة عند الوضعيين المنطقيين تحليلا صرفا، لا تقول من عندها شيئا، بل تترك للعلماء حق الحديث عن العالم بما لهم من أدوات الملاحظة والتجارب العلمية، وعلى الفيلسوف واجب واحد، هو أن يحلل العبارات اللغوية التي يستخدمها هؤلاء العلماء - أو غيرهم - تحليلا يقوم على منطق اللغة ذاتها، وبذلك يفرقون بين ما يجوز قوله وما لا يجوز.
1
ولعله من الخير أن نذكر في إيجاز كيف نشأت هذه الجماعة من الفلاسفة المعاصرين؛ لأن نشأتها تلقي ضوءا قويا على اتجاهها؛ فقد نشأت أول أمرها في فينا عاصمة النمسا؛ ولذلك أطلق على أنصارها الأولين اسم «جماعة فينا»، ولا يزال هذا الاسم دالا على أنصار الحركة؛ لأن كثيرين من هؤلاء الأنصار الأولين لا يزالون هم قادة الحركة في الولايات المتحدة بنوع خاص، كان في جامعة فينا تقليد تراعيه؛ وهو أن يكون البحث الفلسفي فيها مناصرا للفلسفة التجريبية، ومنصرفا باهتمامه إلى العلوم الطبيعية، وبدأ هذا التقليد في تلك الجامعة منذ أن شغل «إرنست ماخ»
2
كرسي الأستاذية لفلسفة العلوم في الفترة الواقعة بين سنة 1895م وسنة 1901م، فحدث سنة 1922م أن أسندت الأستاذية في هذا القسم من الجامعة إلى «مورتس شليك»
3
الذي ولج ميدان الفلسفة من باب العلوم الطبيعية، كسائر أسلافه، لكنه تميز من هؤلاء الأسلاف بإلمامه التام بالفلسفة، وقد كان أسلافه لا يعرفونها معرفة الخبير، وسرعان ما تكونت حول «شليك» جماعة من المشتغلين بالعلوم الطبيعية والرياضة، والمهتمين في الوقت نفسه بالدراسات الفلسفية، نخص بالذكر منهم «وايزمان»
4
و«نوراث»
5
و«فايجل»
6
و«كارناب»
7
و«كرافت»
8
و«كاوفمان»
9
و«جيدل».
10
كونت «جامعة فينا» حلقة فلسفية على النمط الحديث الذي يجعل البحث الفلسفي تعاونا كما هي الحال بين جماعة العلماء الذين يتعاونون على حل مشكلة بذاتها، ولم يكن الأمر فيها أمر فلسفة من الطراز التقليدي الذي يتلقى فيه الأتباع آراء أستاذهم، تعاونت هذه الجماعة على التحليل، بحيث لم يكن رئيسهم «شليك» أبرز الأعضاء، فكلهم ممن نبغ في مجال العلوم الطبيعية أو الرياضة، وكلهم قادر قدرة زميله، فلا يبقى إلا أن يدور بينهم البحث على تعاون ومساواة، وقد كان «فتجشتاين»
11
على اتصال بهم وإن لم يشاركهم في اجتماعاتهم، فكان له في توجيههم أعمق الأثر.
لبثت «جامعة فينا» في فينا نفسها حينا، وجعلت تزداد نشاطا باشتراك أعضائها في المؤتمرات الفلسفية وبإصدارها لمجلة خاصة بهم؛ حتى حدث عام 1938م أن ضمت النمسا إلى ألمانيا وتلا ذلك من أحداث السياسة العالمية ما تلا، فانحلت تلك الجماعة وتفرقت، أما «وايزمان» و«نوراث» فقد ذهبا إلى إنجلترا؛ وأما «فايجل» و«كاوفمان» و«جيدل» و«كارناب» فقد رحلوا إلى الولايات المتحدة، أضف إليهم من قادة الوضعية المنطقية ممن لم يكونوا في فينا نفسها، ولكنهم رحلوا كذلك إلى الولايات المتحدة بمناسبة الحرب العالمية الثانية «رايشنباخ»
12
و«فون ميزس»،
13
وهؤلاء وأولئك جميعا هم الآن على رأس حركة فلسفية عميقة نشيطة في الولايات المتحدة، قوامها التحليل الفلسفي للقضايا العلمية.
والوضعيون المنطقيون على اختلاف نزعاتهم يجمعون على نقط رئيسية أهمها أربع، حتى ليجوز لنا أن نقول عن هذه الموضوعات الأربعة المشتركة بينهم إنها أهم ما يشغل أنصار هذه الحركة اليوم في الولايات المتحدة، وقد ذكرنا من هذه النقط اثنتين: الأولى هي أن مهمة الفلسفة تحليل لما يقوله العلماء، وما يقوله الناس في حياتهم اليومية، لا تفكير تأملي ينتهي بالفيلسوف إلى نتائج معينة يصف بها الكون وما فيه، والثانية هي نتيجة ترتبت على النقطة الأولى، وهي حذف الميتافيزيقا من مجال الكلام المشروع؛ لأن التحليل - تحليل عباراتها الرئيسية تحليلا منطقيا - قد بين أنها عبارات خالية من المعنى، أي إنها ليست بذات مدلول، حتى يصح وصفها بالصواب أو بالخطأ، وأما النقطة الثالثة فهي اتفاقهم على نظرية «هيوم» في تحليل السببية تحليلا يجعل العلاقة بين السبب والمسبب علاقة ارتباط في التجربة، لا علاقة ضرورية عقلية، أي إننا إذا شاهدنا في تجاربنا شيئين «أ» و«ب» متصلين دائما، حدث بينهما ارتباط في أذهاننا، بحيث إذا حدثت بعد ذلك «أ» توقعنا أن تحدث معها «ب» كما حدثت معها في الخبرات السابقة، لكن لا ضرورة هناك تقتضي حتما أن يتبع حدوث «أ» حدوث «ب»، فالأمر كله احتمال وترجيح، لا ضرورة ويقين، وبهذه النظرة تغير الرأي في القوانين العلمية كلها؛ إذ أصبحت هذه القوانين قائمة على درجة كبيرة من الاحتمال، لا على أنها يقينية حتمية، وبعبارة أخرى أصبح العلم الطبيعي قائما على نفس الأساس الذي يقوم عليه الإحصاء، فإن دل الإحصاء على أن ظاهرة معينة مرجحة الوقوع في ظروف معينة، كان ذلك قانونا علميا، مع أنه لا يقين هناك؛ إذ ما يدل الإحصاء على أنه يقع غالبا قد يحدث أحيانا ألا يقع.
وهنا ننتقل إلى النقطة الرابعة والأخيرة مما يتفق عليه الوضعيون المنطقيون جميعا، وهي أن قضايا الرياضة - وكذلك قضايا المنطق الصوري - تحصيلات حاصل لا تضيف عن العالم الخارجي علما جديدا، فالقضية الرياضية مثل قولنا 2 + 2 = 4 إن هي إلا تكرار لحقيقة واحدة برمزين مختلفين، فالرياضة معادلات، والمعادلة معناها أن جانبيها متساويان، أي إن ما عبرنا عنه برمز معين في ناحية، نعبر عنه هو نفسه برمز آخر في ناحية أخرى؛ ومن ثم قيل إن قضايا الرياضة كلها تحليلية، أو تكرارية، وإذن فهي تحصيل حاصل؛ إذ إني أحصل في الشطر الثاني من المعادلة نفس الشيء الذي حصلته في الشطر الأول منها، ولا يغير الموقف أن يكون ما حصلته في الشطر الأول مرموزا له برمز معين، وأن ما حصلته في الشطر الثاني مرموز له برمز آخر، لكنه يساويه، تلك نتيجة خطيرة انتهت إليها تحليلات الوضعية المنطقية؛ لأنها تفسر يقين الرياضة، فالرياضة يقينية؛ لأنها لا تقول شيئا، وعلى عكس ذلك العلوم الطبيعية، فقوانينها احتمالية؛ لأنها تتعرض لوصف العالم الواقع؛ ومن ثم جاز أن تتعرض للخطأ في وصفها. (2) عودة إلى «عمود الفلسفة»
14
لعلك قد لاحظت في معظم الاتجاهات الحديثة والمعاصرة محاولات للخروج على الطريق التي ألفته الفلسفة طوال القرون؛ البراجماتيون، والواقعيون، والطبيعيون، والوضعيون المنطقيون، وغير هؤلاء وأولئك يحاولون ألا يتقيدوا بمألوف التقاليد الفلسفية في وجهة النظر، فكان من الطبيعي أن يقوم فيلسوف أو فلاسفة ليصدوا هذا التيار الجارف نحو التجديد، ولينادوا بالعودة إلى السبيل التي سارت عليها الفلسفة عصورا طوالا، كأنما يريدون أن يقولوا: ماذا يعيب القديم حتى نندفع بكل هذا التهور نحو الجديد؟ إن «التقاليد العظيمة» التي سادت الفلسفة «منذ أفلاطون إلى هيجل» لجديرة بالرعاية والتقدير.
ولم يكن هؤلاء الداعون إلى الأخذ بوجهة النظر التقليدية في الفلسفة على رأي واحد في كل التفصيلات، بل هم لا يجتمعون معا إلا على هذه الدعوة، ثم بعد ذلك يفترقون فلكل سبيله ولكل مذهبه، وهم إذ يجتمعون على الدعوة إلى الأخذ بالنظرة التقليدية، فإنما يعنون على وجه التخصيص تلك النظرة التي تحاول أن ترى للكون معنى مفهوما، إن الفلاسفة على مر التاريخ لم يتفقوا على مذهب بعينه حتى يقال إن الأجدر بنا أن نعود إلى الأخذ بذلك المذهب، لكنهم كانوا - مع اختلاف مذاهبهم - يحاولون تفسير الكون تفسيرا يخرجه من الفوضى والخبط العشوائي، ويجعله مكانا معقولا يستحق أن يكون مسكنا للإنسان، وأن يكون من صنعة الله الذي لم يرد بخلقه أن يسير على غير هدى، وفي ذلك يقول «ولبر إيربن»
15 - الذي سنحدثك عنه في هذا القسم لنتخذ منه مثلا لهؤلاء الداعين إلى الأخذ بالتقاليد الفلسفية القديمة المجيدة - يقول: «إنه منذ أفلاطون حتى هيجل، كان طابع الفلسفة التي ما انفكت قائمة على مر السنين، هو فكرة معقولية العالم، وهي معقولية ترتد إلى ما وراء عالم الحس والظاهر.»
16
أحس «إيربن» بأن العالم ذو معنى ومغزى، وأنه له هدفا معقولا مقصودا، لكنه تلفت حوله فرأى ضروبا من العلم، وألوانا من الدراسات كلها يدور حول محور واحد، وهو أن العالم مجموعة من الظواهر تأتلف أو تختلف، دون أن يكون وراءها معنى أو أمامها هدف، حتى الذات الإنسانية قد تفككت - على يدي علم النفس الحديث - حالات يعقب بعضها بعضا، وإذا كان هذا هو الشأن في الطبيعة وفي الإنسان، فأين تكون «القيمة» في هذا الوجود؟ إن كان كل ما هنالك ظواهر تحس بالبصر أو بالسمع أو بغيرهما من الحواس، إذن فلا وجود «للقيم»؛ لأن «القيم» - قيم الأخلاق والجمال - ليست من نوع الظواهر التي تحس، وبغير «القيمة» لا يكون لأي شيء معنى مفهوم، يقول «إيربن»: «إن عالم الواقع كما نحياه وكما نعرفه، لا يصبح عالمنا إلا إذا صيغت خبراتنا عنه في مقولات القيمة، إننا نوجه أنفسنا في العالم على هدى من علاقة «فوق» و«تحت»، و«يمين» و«شمال»، و«أكثر» و«أقل»، لكننا كذلك نوجه أنفسنا - إلى جانب تلك العلاقات - بعلاقات ليست دونها خطرا، وهي علاقات «أعلى» و«أدنى» و«أفضل» و«أسوأ».»
17
لقد كان «كانت» قد فرق بين العقل والأخلاق من حيث أصل الإدراك وطبيعته؛ إذ قال إننا إذ ندرك ظواهر الطبيعة إدراكا معقولا مفهوما، فإنما نصوغ مدركاتنا الحسية في قوالب - أو مقولات - فطرية في عقولنا، وبهذا وحده تكتسب معناها، فلولا هذه المقولات التي هي جزء من طبائعنا، لجاءتنا الإحساسات من العالم الخارجي أشتاتا مهوشة، لكننا بتلك المقولات نصوغ الأشتات في تماسك ووحدة، ونخلق من الهائش اتساقا ومعنى، لكنه لم يمد هذا الأساس ليشمل عالم القيم أيضا، فليس لدينا - بناء على وجهة نظره - مقولات فطرية ندرك بها ما في الأشياء من قيم، بعبارة أخرى ليس «العقل الخالص» أو العقل النظري هو المنوط بإدراك القيم، إنما نضطر إلى هذا الإدراك اضطرارا بحكم أوضاع الحياة العملية، أي إنه إذا كان إدراك الطبيعة من شأن «العقل النظري»، فإدراك القيم من شأن «العقل العملي»، ويحلل «إيربن» وجهة النظر الكانتية هذه، لينتهي إلى إزالة التفرقة التي أقامها «كانت» بين العالمين؛ عالم الطبيعة وعالم القيم، ويجعلهما معا معتمدين في إدراكهما على مقولات فطرية في طبيعة الإنسان؛ إذ يجعلهما معا داخلين في نطاق العقل النظري، أو العقل الخالص؛ فهو الذي يدرك «الشيء» كما يدرك «القيمة» على حد سواء، هو الذي يدرك الزهرة ويدرك جمالها في آن معا، وهو الذي يدرك الإحسان ويدرك ما فيه من فضيلة في وقت واحد، فالشيء وما له من قيمة جانبان متصلان لا ينفصلان في عملية الإدراك، والأداة التي بها ندرك أحد الجانبين، هي نفسها الأداة التي ندرك بها الجانب الآخر.
و«القيمة» التي يدافع عن وجودها «إيربن» قيمة مطلقة، أعني أن وجودها لا يتوقف على صالح الإنسان، إنها ليست هناك بالنسبة إلى الإنسان وحده، أو بالنسبة لفريق من الناس هنا أو هناك، في هذا العصر أو ذاك، بل قيمة العالم موجودة فيه، لذلك لم يوافق، بل لم يفهم دعوى البراجماتيين والتطوريين حين زعموا أن قيم الأشياء إنما تكون بالنسبة لنفع تلك الأشياء وأهميتها في حياة الإنسان، وعلى هذه الدعوة يرد «إيربن» ردا مفحما إذ يقول: إن في هذا الكلام مغالطة الدور؛ لأنه كلام يجعل النتيجة سببا، ثم يجعل السبب نتيجة، إذ لماذا يكون لما ينفع الحياة قيمة؟ هكذا نسأل البراجماتيين وأنصار التطور البيولوجي، ولا أحسبهم إلا مجيبين الجواب الأوحد الذي لا جواب سواه؛ وهو لأن للحياة قيمة، إذن فقد افترضنا منذ البداية وجود «القيمة» أي إنها كانت هي «المبدأ» الذي على أساسه يحكم بعد ذلك على مختلف الأشياء بالصواب أو بالخطأ، فما يخدم تلك «القيمة» الأولية - قيمة الحياة لذاتها - هو الصواب، وما لا يخدمها هو الباطل، وهكذا إذ يجعل البراجماتيون وأصحاب التطور القيمة نسبية، يكونون في الوقت نفسه قد افترضوا افتراضا سابقا بوجودها وجودا مطلقا.
ويسوقه هذا إلى البحث في نظرية المعرفة من أساسها؛ ليرى هل يمكن أن ينفصل الحق والباطل في معارفنا عن معيار قيمي، وما هو إلا أن ينتهي إلى نظرية ميتافيزيقية عرف بها بين الفلاسفة المعاصرين، ومؤداها أن تحليل المعرفة مؤد حتما إلى التوفيق بين المثالية والواقعية؛ لأن أصولها تمتد إلى ما وراء نقطة الاختلاف بين هذين المذهبين؛ ذلك أن تحليل المعرفة لا بد أن يؤدي في النهاية إلى أن ثمة ذواتا شاعرة على صلة بعضها ببعض لتنقل الذات الواحدة إلى الذات الأخرى ما تعرفه، لكن هذا التبادل في المعرفة هو في ذاته تبادل في القيم أيضا؛ لأن المعرفة لا تكون صوابا إلا إذا كان في صوابها قيمة، ولكي يتفق اثنان يتبادلان المعرفة على صواب ما، فلا بد بالتالي أن يكونا متفقين على القيمة التي هي أساس ذلك الصواب، هذا الأساس لتبادل المعرفة بين الناس قائم سواء كان المتبادلان للمعرفة من أنصار الواقعية، أو أنصار المثالية، أو خليطا من هؤلاء وأولئك، وإذن فالبحث في نظرية المعرفة وردها إلى أصولها الأولى، سرعان ما يجاوز بنا حدود الاختلاف الناشب بين المثاليين والواقعيين؛ ومن ثم إطلاقه على فلسفته اسم «ما وراء المثالية والواقعية».
ورأيه في المعرفة يتلخص في هذه المبادئ الثلاثة الآتية: أولا: لا يمكن دراسة الفاعلية التي تحدث أثناء عملية المعرفة دراسة علمية؛ لأن العلم ذاته إن هو إلا ضرب من المعرفة التي تقتضي تلك الفاعلية، فإن كانت الفاعلية العقلية مفروضة كأساس أولي للمعرفة العلمية، فكيف يمكن أن نخضع تلك الفاعلية نفسها للمعرفة العلمية؟ ثانيا: لا بد أن يكون موضوع المعرفة شيئا آخر غير التفكير نفسه، أعني أن التفكير نفسه يستحيل أن يكون موضوعا لمعرفة حقيقية، لكننا إذا ما عرفنا شيئا وجب أن يكون هنالك سبيل لانتقال تلك المعرفة من عقل إلى عقل، وهذا الانتقال محال بغير افتراض سابق، وهو أن من يتبادلون المعرفة قد تم اتفاقهم على قيم معينة. وثالثا: إن نظرية المعرفة تضرب بجذورها الأولى إلى ما وراء نقط الاختلاف بين الواقعية والمثالية؛ لأن كلا المذهبين قائم على أساس التبادل والتفاهم والاتفاق على القيم التي بغيرها لا يكون تفاهم ولا تبادل لفكر.
18
على أن هذه النقطة الأخيرة بحاجة إلى تفصيل؛ لأنها - كما قلنا - قد أصبحت صفة مميزة ل «إيربن» بين الفلاسفة المعاصرين، وبخاصة بعد أن أخرج سنة 1949م كتابه الذي جعل عنوانه «ما وراء الواقعية والمثالية» فماذا يعني على وجه الدقة؟ يريد أن يقول: إن الصراع بين الواقعية والمثالية هو صراع بغير موجب، وأن الفلسفة التقليدية الخالدة قد استطاعت أن تعلو على وجهتي النظر هاتين بنظرة تشملهما معا، فليست الواقعية في ذاتها أو المثالية في ذاتها «معرفة» حتى يجوز أن يصطرع أنصار هذه مع أنصار تلك، أعني أنهما لا يختلفان على حقيقة بعينها أو واقعة بذاتها حتى يمكن فض ما بينهما من خلاف بأي من مناهج البحث، فلا المنهج التجريبي ولا المنهج العقلي بقادر على أن يحسم موضع النزاع؛ لأن موضع النزاع ليس هو مما يقع في مجال الخبرة حتى ينحسم بالمنهج التجريبي، ولا هو مما يقع في مجال التفكير العقلي - كالرياضة مثلا - حتى ينحسم بمنهج ذلك التفكير.
وإذن ففيم يختلف هذان المذهبان؟ الحق أن كلا منهما هو طريقة للنظر إلى «المعرفة» وقد ينظر إلى الأمر الواحد بعدة طرق مختلفة، على ألا تكون تلك الطرق متناقضة بعضها مع بعض، وإن صح أن يكون هناك اختلاف حقيقي فهو ذلك الذي يقع بين الواقعية والمثالية كليهما من جهة وبين المذاهب الطبيعية من جهة أخرى؛ لأن هذه الأخيرة - على خلاف ذينك المذهبين - لا تعترف بشيء اسمه «المعرفة» بصفة عامة شاملة، إنما الأمر عندها ينحل إلى «معارف» جزئية أو معلومات، ومن مجموعة هاته المعارف أو المعلومات تتكون «المعرفة» - أما ذانك المذهبان - الواقعية والمثالية على السواء، فهما على العرف التقليدي في الفلسفة يعتقدان بأن «المعرفة» بصفة عامة موضوع للتفكير، وهو مختلف عن المعارف المتفرقة، ثم هما بعد ذلك يبحثان في: كيف أمكن تحصيلها، وما مصدرها، وما حدودها، إلى آخر هذه المباحث التي شغلت الفلاسفة في العصر الحديث بصفة خاصة. بعبارة أخرى، الواقعية والمثالية كلاهما يعلو على المعارف الجزئية التي تراها متمثلة في قضايا العلوم المختلفة وقوانينها، هما يعلوان على هذه المعارف الجزئية لينظرا إلى «المعرفة» باعتبارها حقيقة مجردة غير هذه الحقائق المفردة المتعينة التي تقول كل منها شيئا بعينه عن عالم الطبيعة أو عالم العقل، وإذن فلا اختلاف بينهما من حيث الأساس، وإن اختلفا في التقدير، كلاهما يذهب إلى أن الإنسان «يجب» أن يعرف،
19
وهما بتقرير هذا «الوجوب» إنما يجعلان للمعرفة «قيمة خلقية» تكون قائمة قبل أن يبدأ الإنسان في تحصيل معارفه الجزئية المتفرقة، إنه يبدأ في هذا التحصيل صادرا عن «وجوب»، أي صادرا عن «قيمة» فها هنا يتفق المذهبان، هما متفقان على المبدأ القيمي الأولي قبل أن يفترقا مذهبين: واقعية في ناحية، ومثالية في ناحية أخرى؛ ومن ثم كانت تسمية «إيربن» لكتابه «ما وراء الواقعية والمثالية».
مراجع
مراجع عامة
ADAMS, G.P., and Montague, W.P., Contemporary American
BALW, Joseph, Men and Movements in American Philosophy.
TOWNSEND, H.G., Philosophical Ideas in the United States.
مراجع خاصة مرتبة حسب فصول الكتاب
KOCH, A., and Peden, W., The Life and Selected Writings of Thomas Jefferson.
CLARK, H.H., Thoman
RUSK, R.L., Life of Ralph Walds Emerson.
KRUTCH, J.W., Henry David Thoreau.
THOREAU, Walden; or Life in the Woods.
EMERSON, Essays.
وقد نقله إلى العربية الأستاذ أمين مرسي قنديل.
وقد نقل الأستاذ محمود محمود مختارات كثيرة من أهم مقالات إمرسن، بعنوان «مختارات من إمرسن».
BOWNE, Borden Parker, Metaphysics.
ROYCE, Josiah, The Religious Aspects of Philosophy.
ROYCE, Josiah, The Spirit of Modern
ROYCE, Josiah, The Conception of God.
ROYCE, Josiah, The World and the Individual.
ROYCE, Josiah, The Philosophy of Loyalty.
BUCHLER, Justus, Charles Peirce’s Empiricism.
and Character of William James.
JAMES, William,
JAMES, William, The Will to Believe.
JAMES, William, A Pluralistic Universe.
JAMES, William, Essays in Radical Empiricism.
JAMES, William, Varieties of Religions Experience.
SCHILPP, Paul A., (editor) The
DEWEY, John, How to Think.
DEWEY, John, School and Society.
DEWEY, John, Human Nature and Conduct.
DEWEY, John, Freedom and Culture.
وله ترجمة عربية بقلم الأستاذ أمين مرسي قنديل.
DEWEY, John, A Common Faith.
DEWEY, John, Art as Experience.
DEWEY, John, Ethics (with James Tufts).
DEWEY, John, Experience and Nature.
DEWEY, John, The Quest for Certainty.
DEWEY, John, Logic.
MONTAGUE, W.P., The Ways of Things.
LOVEJOY, A.O., The Revolt Against Dualism.
Tendencies.
SELLAR S.R., W., Critical Realism.
SCHILPP, Paul A., (editor) The
Santayana.
SANTAYANA, G., Scepticism and Animal Faith.
SANTAYANA, G., The Life of Reason.
SANTAYANA, G., Realms of Being.
WHITEHEAD, A.N., Process and Reality.
WHITEHEAD, A.N., Adventures of Ideas.
WHITEHEAD, A.N., Science and the Modern World.
URBAN, W.M., The Intelligible World.
URBAN, W.M., Beyond Realism and Idealism.
Página desconocida