Vida del Pensamiento en el Nuevo Mundo
حياة الفكر في العالم الجديد
Géneros
قد كان يستحيل أن يندفع التفكير الفلسفي إلى حد التطرف في المثالية - كما رأيت عند جوزيا رويس - في بلد هيأته الظروف للعمل، وفي زمن غمره فيض من الإنتاج العلمي، دون أن يأخذ هذا التفكير في العودة إلى تطرف آخر يمعن فيما أخذت به العلوم من مبادئ التجارب العملية، فلئن كانت الفلسفة قد لبثت خلال عصور طويلة خادمة للدين - كما قيل عنها - فقد آن لها أن تخدم سيدا آخر، هو العلم، الذي كتبت له السيادة في عصرنا الحديث، ولعل الفاصل بين مرحلتين متتابعتين من مراحل التفكير الفلسفي، لم يبلغ قط من الاتساع والعمق، ما بلغه الفاصل بين المرحلة الحديثة التي بدأت في النصف الثاني من القرن الماضي، وبين المراحل السابقة جميعا،
1
وإنما الفارق الجوهري بين العهدين هو هذه النظرة العلمية التي شملت الحياة الإنسانية في شتى جوانبها.
وليس الأمر في ذلك مقتصرا على أن طائفة من النتائج العلمية قد انتهى إليها العلماء، وما أدت إليه تلك النتائج من تغير في أوضاع الحياة، بل كان أهم من هذا وذلك، أن ازداد اعتماد الناس على العلم والعلماء في حل مشكلاتهم على اختلاف ضروبها، وازداد بالتالي إقبال الناس على الدراسة العلمية، ولا غرابة في هذا التحول السريع، بعد أن تحول وجه الحياة كلها نتيجة للانقلاب الصناعي ولواحقه؛ إذ أصبحت ملايين الناس صناعا في المدن بعد أن كانوا زراعا في الريف، واشتد الاهتمام بموارد الطبيعة وطرائق استغلالها واستخدامها، فلم يكن بد من تغيير أساسي شامل لأنظار الناس، ولم يكن بد كذلك من أن ينعكس هذا التغيير في مذاهب الفلسفة ومناهجها.
فإذا أردت فكرة واحدة رئيسية يجوز لك أن تتخذها محورا لما أصاب الفلسفة من تغير في العصر الحديث، تغيرا هو إلى الثورة أقرب منه إلى التطور، فقل إنها الانتقال من البحث عن «العنصر الثابت» إلى البحث عن «مبدأ الصيرورة»، ذلك أن الكثرة الغالبة من الفلاسفة فيما مضى كانوا يؤمنون بأن وراء هذا التغير البادي في ظواهر الطبيعة عنصرا أو عناصر ثابتة دائمة لا تتحول ولا تتبدل، وجعلوا همهم البحث عن ذلك العنصر الثابت أو العناصر الثابتة، فهذا الإنسان - مثلا - ما ينفك متغيرا في أحواله وأطواره فهو طفل وشاب وكهل وشيخ، وهو آنا صحيح البدن، وآنا مريض، لكنه مع ذلك يحتفظ بذاتية واحدة مستمرة رغم ما ينتابه من تغير، وإذن فعلينا أن نزيح هذا الغشاء المتبدل لنكشف وراءه عن حقيقته الثابتة، من روح أو نفس أو عقل أو ما شئت من أسماء، وقل هذا في كل شيء؛ في المنضدة والشجرة والنهر والجبل، بل قله عن الكون بأسره جملة واحدة باعتباره كائنا واحدا ... هكذا كانت الفلسفة فيما مضى - إلا استثناءات قليلة جدا - تبحث عن الثبات وراء التغير، أما اليوم فقد جاءها العلم بفكر جديد - وعلى رأسه فكرة التطور - جعل هذا التغير نفسه هو طبيعة الأشياء وحقيقتها؛ ومن ثم أقلعت عن البحث عما ليس له وجود، وطفقت تجاري العلم في وجهته، وتوازيه في منحاه، فتجعل التغير والتطور والسير والترقي مدار بحثها.
ولك أن تصف هذا الانتقال بالفلسفة من مجال البحث عما هو ثابت إلى مجال النظر فيما هو متغير بحكم طبيعته، لك أن تصف هذا الانتقال بعبارة أخرى، فتقول: إنه انتقال من اللاهوت وما يجري مجراه إلى العلم وما يدور مداره؛ فقد كان اللاهوت يغض النظر عن الظواهر المتغيرة ليبحث فيما هو ثابت وراء هذا التغير، فوراء الكون المادي المتغير إله ثابت، ووراء جسم الإنسان المتغير روح ثابت، ووراء أي شيء مادي متغير عنصر ثابت وهكذا، وكانت هذه «الثوابت» أعلى منزلة من ظواهرها المتغيرات، بل كثيرا ما انتهى الأمر بالفلاسفة إلى إنكار وجود هذه المتغيرات إنكارا يبطل وجودها، حتى لا يتصف بالوجود إلا ما هو حق مطلق لا يتغير مع تغير المكان والزمان.
ذلك كان أمر اللاهوت وما اقتضاه من تفكير فلسفي مثالي على مر العصور، ثم جاء العلم الحديث، وفي مقدمته فكرة التطور، فلم يعد هنالك ما هو «ثابت»؛ لأن الطبيعة كلها تغير دائم وتطور دائب، لم تعد تستطيع - كما كنت تستطيع فيما مضى - أن تصنف الكائنات أجناسا وأنواعا؛ بحيث يظل التقسيم إلى الأبد قائما؛ وذلك لأن الكون متطور تتغير أجناسه وأنواعه؛ فقد كان الإنسان - مثلا - يعد نوعا قائما بذاته لا صلة بينه وبين سائر الكائنات من حيث التقسيم، فإذا هو الآن حلقة من حلقات التطور في عالم الحيوان، وكذلك كان الإنسان نوعا قائما بذاته من حيث اتصافه بالعقل والذكاء مما لا يتصف به كائن سواه، وإذا هذا الإنسان اليوم بعقله وذكائه ظاهرة طبيعية تنساب في مجرى الطبيعة بما فيها من شتى الظواهر، فإن كان للإنسان ذكاء عقلي يتميز به، فما ذاك إلا وسيلة بيولوجية يتصل عن طريقها ببيئته ليحيا، كما لكل كائن حي آخر وسيلته التي يتصل بها مثل هذا الاتصال.
حل العلم محل اللاهوت سيدا تخدمه الفلسفة وتتبعه، فأصبحت شارحة للعلم بعد أن كانت مؤيدة للدين، وبات «المعمل» ومناهجه ونتائجه ميدان الفلسفة كما هو ميدان العلوم؛ العلوم تجري التجارب وتنتج النتائج، والفلسفة وراءها تحلل وتشرح وتستخرج المضمون وما يقتضيه بالنسبة إلى الحياة الإنسانية، بعد أن كان «الدير» أو ما يشبهه من أبراج وصوامع ملاذ الفلسفة كما كان ملاذ الدين؛ فالدين يستلهم الوحي والفلسفة من ورائه تسنده وتؤيده، قد أصبح المعمل هو ميدانها، فلا غرابة أن يقول «بيرس» - الذي سنحدثك عنه في هذا الفصل بعد قليل: إن الفكر في عصرنا هذا العلمي العملي لم يعد بحاجة إلى السكون والظلام اللذين كان يستعين بهما فيما مضى، بل أصبحت حياته مرتبطة بتجارب المعامل التي تقام في وضح النهار.
2
هذه الفلسفة العلمية العملية، التي يطلق عليها اسم الفلسفة البراجماتية، قد أصبحت طابعا يميز التفكير الأمريكي حتى ليرتبط بها هذا التفكير على أقلام الكتاب وألسنة المتكلمين في أرجاء العالم ارتباطا يجعل الواحد منهما دالا على الآخر، فإن قيل «فكر أمريكي» وثب إلى الأذهان صفته البراجماتية، وإن قيل «فلسفة براجماتية» ورد على الخاطر معها الفكر الأمريكي ورودا مباشرا، وساعد على هذا الارتباط بين الموصوف وصفته - فضلا عن أنها فلسفة نشأت في الولايات المتحدة وتعهدها أعلام من أبناء تلك البلاد - أنها كذلك جاءت صورة تصور وجهة الثقافة الاجتماعية هناك، فليس في الولايات المتحدة بين الطبقات كل ما تراه في غيرها من فوارق وفواصل؛ إذ إن مكانة الفرد في المجتمع لا يحددها ما قد هبط إليه من أسلافه من ثروة أو جاه، إنما المقياس الذي يعلو به الفرد أو يهبط هو ما أنتجه إذن فالأساس هو العمل، هذا إلى أن العمل لم يعد هناك منفصلا عن القدرة العقلية كما كانت الحال في شتى عصور التاريخ، بحيث لا تستطيع وأنت في أمريكا أن تقسم الناس قسمين، فهذا مفكر وذلك عامل؛ لأن المفكر هناك إنما يفكر في مجال عمله، والعامل يطبق في عمله نظرات فكره، وبهذا اشتدت الصلة بين نشاط العقل من جهة، وعمل اليدين من جهة أخرى، ولم تعد التفرقة قائمة - كما كانت - بين الرأس واليدين، ففريق من الناس يحيون برءوسهم وفريق آخر يعيشون على كدح أيديهم، هذه التفرقة التقليدية التي برزت واضحة في جمهورية أفلاطون، والتي لا يزال أثرها واضحا في كثير جدا من أقطار العالم، وسايرت المدارس في أمريكا هذا الاتجاه، فأصبح كل متعلم تقريبا يمزج إلى حد كبير بين حياته العقلية ونشاطه البدني، ولم تعد الأبراج العاجية ملاذ الفلاسفة هناك، بل نشأ فلاسفتهم من ميادين العمل؛ إذ نشئوا في مزرعة أو مصنع أو سوق للتجارة، حتى إذا ما تحدث الواحد منهم عن هذه الأشياء، جاء حديثه عن خبرة شخصية، لا نقلا عن كتب قرأها في الزراعة أو في الصناعة أو في التجارة،
Página desconocida