Vida del Pensamiento en el Nuevo Mundo
حياة الفكر في العالم الجديد
Géneros
سبيل النجاة من هذه القيم الفاسدة كلها هو تقويم الفرد ليعيش حرا مستقلا، وإنه لناقم أشد النقمة على تربية الناس لأبنائهم فيما يسمونه بالمعاهد أو المدارس، وكلها معاول تقوض الفردية وتهدمها، بدل أن تقيمها وتبنيها، التربية في هذه المعاهد والمدارس - كما يقول «ثورو» - مهزلة وأضحوكة، وحسبك منها أنها لا تعلم أحدا كيف يكسب قوته! إنها تحشو الرءوس بالآراء النظرية التي ابتكرها المجتمع، والتي لا تسمن ولا تغني من جوع، فلا حياة للإنسان إلا باستخدام حواسه وجسده، ولكن الناس ممعنون في الخطأ، فتراهم ينشدون الإصلاح، ولكن أي إصلاح يريدون؟ إنهم يسعون إلى الزيادة من ترف الإنسان وراحته، ولكنه يوجه السؤال إلى هؤلاء المصلحين: ما غناء الإصلاح في أسباب الحياة المادية إن ظلت نفس الإنسان على حالها؟ ماذا يفيدنا تغيير وجه الأرض إن لم نغير ما بأنفسنا حتى تعتدل عواطفنا وتستقيم؟ إنه ليستحيل على إصلاح مادي أن تقوم له قائمة إلا إن سبقه إصلاح فردي باطني، ولكنا نعود فنقول: إنك إن قومت باطن الإنسان، فما أتفه ظواهر الحياة المادية بعد ذلك!
الفصل الثالث
الفيلسوف يؤيد الشاعر
(1) «بوردن باركر باون»
1
وتوكيد الذات الإنسانية
كان «إمرسن» وكان «ثورو» يعبران عن الاتجاه المثالي تعبير شاعر ينطق لسانه بما يخفق به قلبه، فيجيء القول فياضا بالعاطفة جياشا بالشعور، تقرأ لهما فتحس أنك إزاء لمعات من الضوء، وقبسات من الإلهام، فعلى الرغم من أنهما كانا يصدران فيما ذهبا إليه عن أصول من الفلسفة المثالية انتقلت إليهما - وإلى معاصريهما في أمريكا - في الأعم الأغلب عن طريق ما كتبه الشعراء الإنجليز عندئذ - وبخاصة كولودچ - عن الفلاسفة المثاليين من الألمان، وعن هيجل بصفة خاصة، أقول: إنه على الرغم من أن «إمرسن» و«ثورو» كانا يصدران عن أصول من الفلسفة الألمانية المثالية، إلا أنهما اكتفيا من تلك الفلسفة بما أوحت به إلى نفسيهما، ولم يدرساها دراسة تفصيلية عميقة، كلا، ولا هما قد أخذا نفسيهما بكتابة فلسفية منطقية تجعل من الفكر نسقا مرتبط الأطراف متصل الأجزاء، أو - إن شئت - فقل إنهما تناولا الفلسفة كما يتناولها الهواة لا كما يتناولها المحترف، فكان لا بد أن تكمل الحركة الفلسفية المثالية بفلاسفة محترفين يضعون الفكرة المقصودة في الأسلوب الذي ألفته الفلسفة، وهو الأسلوب الذي يوجه الخطاب إلى العقل، ومنطقه لا إلى القلب ومشاعره.
والفلسفة المثالية - في اختصار - هي الفلسفة التي تحاول أن تبين أن أي شيء يستحيل تصور وجوده إلا على صورة فكرية أو عقلية، أي إن الأشياء التي نظن أنها مادية وقائمة خارج عقولنا، إن هي في واقع الأمر إلا كائنات عقلية في رءوسنا، وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما دمت لا أستطيع لأي شيء إدراكا إلا بعد أن يتحول إلى فكرة في عقلي، وما دام قد تحول إلى فكرة فليس هو عندي بالشيء المادي مهما دلت ظواهر الأمر على غير ذلك، فالحق أن الفلسفة الحديثة كلها تدور حول هذه المشكلة، وهي: إذا كان الإنسان عقلا وجسما، أو إذا كان الكون كله عقلا ومادة، ثم إذا كان العقل والمادة مختلفين في طبيعتهما، فطبيعة العقل هي أن يفكر وطبيعة المادة هي أن تشغل حيزا من مكان، فكيف يمكن للعقل أن يعرف المادة؟ كيف يمكن للعقل أن يعرف الأشياء؟ كيف تكون الصلة بينهما مع أنهما - كما رأيت - مختلفان اختلافا بعيدا؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال تجد من الفلاسفة من يحاول أن يبقي لكل من العقل والمادة طبيعته، ثم يحاول أن يصل بينهما على نحو ما، ومنهم من يحاول أن يحول أحدهما إلى طبيعة الآخر، فالماديون - من جهة - يقولون إن العقل في الحقيقة إن هو إلا المخ والجهاز العصبي، ولما كان هذان من مادة فالاتصال بينهما وبين الأشياء المادية الأخرى لا إشكال فيه، إذ الأمر كله لا يزيد على ذرات مادية تتحرك في المكان، والمعرفة نفسها ليست إلا اهتزازات في ذرات المخ والجهاز العصبي، والمثاليون - من جهة أخرى - على عكس ذلك، يحولون المادة إلى عقل؛ إذ يقولون إن ما نظنه مادة ممتدة هو في الحقيقة أفكار في عقول مدركيها، المثالية لا تنكر وجود الأشياء كما هو شائع عنها، بل تقرر وجودها، وغاية ما في الأمر أنها تجعل وجودها عقليا لا ماديا.
والمتدينون المؤمنون بوجود الله، والمرتفعون بقيمة الإنسان ومكانته في الكون، حريون أن يكونوا في فلسفتهم من المثاليين؛ لأنهم لا يريدون للعالم أن يكون كتلة من مادة بغير روح إلهي أعلى يحيط بكل شيء علما، أي يجعل كل شيء فكرة معلومة، ولا يريدون للإنسان أن يكون جسما كسائر الأجسام بغير عقل يدرك به نفسه، ويدرك به الأشياء من حوله؛ ولذلك ترى الفلسفة المثالية أكثر شيوعا وأقرب إلى القلوب من الفلسفة المادية العلمية، أو قل إنه كلما غمرت الإنسان موجة علمية تهتم بالمادة وظواهرها، كان الأرجح أن يتلوها رد فعل من فلسفة مثالية تؤكد الروح - أو العقل - وأصالته في الكون عامة، وفي الإنسان خاصة، هكذا حدث في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فبعد التطرف إبان القرن السابق له في التمسك بالعلوم الطبيعية وما يتفرع عنها، وفي الفلسفة التجريبية التي ترد علم الإنسان كله إلى أصول حسية جاءت من هذه الحاسة أو تلك، قامت موجة مثالية تعلي من شأن الروح الإلهي والروح الإنساني معا، ثم لم يكد ينتصف القرن التاسع عشر حتى أخذت النزعة العلمية تظهر من جديد، متمثلة في نظرية التطور التي تفسر الكون - لا بأنه من صنع خالق خلقه دفعة واحدة، بل تفسره بتطور ينمو به على مر الزمن، وتفسر الإنسان - لا بأنه كائن ذو مكانة فريدة في الكون إذا ما قيس إلى سائر الكائنات، بل تفسره بأنه حلقة من حلقات التطور لا يختلف عن سائر الحلقات إلا في ترتيب ظهوره، فكان حتما أن تنهض الفلسفة المثالية مرة أخرى لتعود إلى توكيد الروح الإلهي والروح الإنساني معا كما فعلت أول مرة، لكنها في المرة الأولى قد تعهدها هواة من الشعراء، وفي المرة الثانية تولاها محترفون من الفلاسفة، وإنه لمما يلفت النظر أن ذلك بعينه ما حدث في إنجلترا أيضا، ففي إنجلترا - كما في الولايات المتحدة - تتابعت موجتان من الفلسفة المثالية إبان القرن التاسع عشر، أولاهما في نصفه الأول، وثانيتهما في نصفه الثاني، وفي إنجلترا - كما في الولايات المتحدة - تعهد المثالية في المرة الأولى هواة من الشعراء، على رأسهم «كولردج» في إنجلترا، و«إمرسن» في الولايات المتحدة، وتولاها محترفون من أساتذة الفلسفة في المرة الثانية، أمثال «برادلي» و«جرين» في إنجلترا، و«باون» و«رويس» في الولايات المتحدة، وعن هذين سندير الحديث، أما «باون» فقد كانت النفس الإنسانية نقطة ارتكازه، وأما «رويس» فقد جعل الروح المطلق، أو الله، محور تفكيره.
التجريبية هي الصفة الغالبة على الفلسفة الإنجليزية منذ عصر النهضة الأوروبية حتى اليوم، فعلى الرغم من موجات مثالية تظهر في مجرى الفكر الإنجليزي هنا وهناك، إلا أن الكثرة العظمى من فلاسفة الإنجليز كانت تؤمن بالتجريبية، وبأن المعرفة مصدرها الحواس، والعلم أساسه المشاهدة والتجارب، هكذا كان «بيكن» و«لوك» و«هيوم» في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ثم هكذا كان «مل» و«سبنسر» في القرن التاسع عشر، ولو سلمنا مع هذا الاتجاه التجريبي بأن معرفتنا بالعالم الخارجي قد جاءت إلينا عن طريق حواسنا، لنتج عن ذلك بالضرورة أن نسلم كذلك بأن المعرفة تأتينا مجزأة، ويتلقاها عقل قابل لا يسعه إلا أن يتلقى ما يعطى إليه كأنه آلة تصوير لا تملك سوى أن تصور ما يبعثه إلى لوحتها الشيء المصور، نعم إنه لو كانت الحواس وحدها هي مصدر علمي بالعالم الذي حولي، لكان علمي بالعالم، بل علمي بالشيء الواحد، سلسلة من إحساسات يتبع بعضها بعضا، فلست أعلم عن هذه المنضدة - مثلا - إلا حالات متعاقبات، جاءت كل حالة منها إلى حاستي، بصرا كانت تلك الحاسة أو لمسا أو غير ذلك، في لحظة معينة، ثم أعقبتها الحالة التي تليها في اللحظة التي تليها وهكذا، وإذن فسيكون الأمر في معرفتي بالشيء، بل سيكون الأمر في معرفتي بنفسي، كالأمر في شريط السينما حين يصور الشيء الواحد في سلسلة من الصور متعاقبة.
Página desconocida