وهنا قالت عائشة: والآن يا سيدي ألا تريد أن تثأر لي منهم؟ - لا يا عائشة. - يجمل بسيدي أن يدعوني «روزالي» فقد ألقيت باسم عائشة من ورائي منذ غادرت قرطبة. - روزالي؟ أصبح اسمك الآن روزالي؟ - نعم يا سيدي. - حسن، اطمئني يا روزالي، أقيمي بيننا الآن حتى تسكت العاطفة، وسآمر لك بدار تنزلين بها، وأجري عليك من المال ما يكفل لك حياة رغدة.
وأقامت عائشة أو روزالي ببرغش شهورا في سعة من العيش والجاه، وتوثقت صلتها بالملك، وظفرت منه بالرعاية والثقة. وفي صبيحة يوم دخلت عليه فصاح بها قبل أن تجاوز باب البهو: كنت سأبعث في طلبك يا روزالي. أقبلي بعد أن تغلقي الباب، فإن حديثنا يجب ألا يطرق أذن ثالث.
فسعت إليه بخطوات خافتة كأنها تخشى أن يكون في صوت أقدامها إذاعة لهذا السر الخطير وقالت في همس: أجد جديد يا سيدي؟ - لا يا روزالي ولكن رسولا طرق القصر عند منتصف الليل قادما من قرطبة. - أثار القرطبيون على ابن جهور؟ - لا، فإن ابن جهور أدهى من أن يدع الزمام يفلت من يديه، وهو يعرف متى يرخيه، ومتى يجذبه، ولكن الرجل تدب إليه الآن شيخوخة تسرع به إلى القبر، وما أظن أن الأمر يستقيم لأولاده من بعده. ثم زفر وقال: ولكننا نسبق الأيام، ولن يتم أمرنا بهذه العجلة، ومن يسبق إلى الطعام في قدرة تحترق يداه. جاء الرسول بالأمس من قبل راميرز بن بترو. - صاحب أكبر حانة بقرطبة. - نعم، وهو زعيم جواسيسنا هناك بعد أن مات أبوه. - إنه يعيش مع العرب كأنه واحد منهم، ويلتهب غيرة على الإسلام وتعصبا للمسلمين. - وهذا سر نجاحه يا بنية. - ما يحمل الرسول يا سيدي من أخبار؟
يقول إن ابن عباد بإشبيلية، يفكر في الإغارة على قرطبة واستخلاصها من يد ابن جهور، وأنه بعث إلى راميرز رسولا يرجو ويلح عليه في أن يحملني على محالفته ومعاونته بجنودي، لقاء إتاوة دائمة يبعث إلي بها في كل عام. - وماذا يرى سيدي؟ - أرى أن ابن عباد أسد رابض، وأن ابن جهور ثعلب ماكر، وأننا لو أعنا ابن عباد لم يكتف بقرطبة، وسمت نفسه الطموح إلى جمع الولايات العربية تحت رايته، وبذلك يضطرب الميزان، وينهار كل ما بنيناه. أما ابن جهور فرجل حذر شديد المراس حول قلب، يأخذ ولا يعطي، ويتقبل العون على ألا يدفع له ثمنا. - حقا إن الأمر لمعضل. - لا يا روزالي إن كل معضل يهون بالتفكير والصبر وحسن التأني. - وهل فكرت في الأمر يا مولاي؟ - فكرت فيه طويلا، ذلك أن ابن المرتضى الأموي الذي نفاه ابن جهور إلى شرقي الأندلس منذ شهور، عاد ثانية إلى قرطبة مختفيا، وأنصاره يبثون له الدعوة في الخفاء، والقرطبيون يتلهفون شوقا إلى عهود الخلافة الأموية. فوثبت عائشة قائلة: أتريد يا سيدي أن تجلسه على عرش قرطبة؟ - ولم لا؟ إنه رجل هادئ النفس لين القيادة، فإذا ناصرناه كان حليفا لنا، ويدا على أعدائنا. - وماذا تريد مني أن أفعل؟ - الحق أني لم أرد أن أزعجك، ولكني رأيت أن راميرز لا يستطيع أن يقوم بما أريد. - أتريدني على أن أعود إلى قرطبة؟ إنني لو عدت يا مولاي لقطعوني إربا إربا. - لا، أنت تحسنين التنكر، وستقيمين بدار راميرز ثم مد يده إلى خزانة بجانبه، وأخرج منها رسالة، وأخذ يتابع حديثه ويقول: الذي أريده أن تذهبي بهذه الرسالة إلى ابن المرتضى، وهو مختف في دار بأحد أرباض قرطبة يدعى «بربض البرج» وراميرز يعرف مكان الدار، وأترك لك يا روزالي اجتذابه، فإن لحديثك سحرا لا تنفع فيه الرقى.
فكتمت عائشة ابتسامة وقالت: وماذا كتبت له في الرسالة يا سيدي، إذا ساغ لي أن أسأل؟ - ذكرته بمجد آبائه، وأوغرت صدره على ابن جهور، وعرضت عليه معونتي، وأني لا أطلب من ورائها إلا نصرة الحق على الظلم الصراح، ولكني اشترطت قبل أن أبعث جيوشي لنصرته، أن يرسل إلي رسالة يطلب مني فيها المعونة. - إنها صك الاستعباد يكتبه بيده! - لقد فهمت يا روزالي، لو كان لبعض رجالي بعض ذكائك لنمت هادئ البال. ثم وقف مادا يده بالرسالة إليها وقال: اذهبي الآن فقد أمرت بأن يعد كل شيء لسفرك، ولن أوصيك بشدة الحذر، فقبلت يديه وانصرفت.
كانت عائشة قد ألفت حياة الترف والنعيم ببرغش، واستمرأت ما غمرها به ملك الإفرنجة من صنوف البر، وما أحاطها به من العطف، حتى أصبحت بالمكان المرموق والخطر المرموق، وحتى بلغت في الدولة من الجاه والكلمة المطاعة والدالة على الرؤساء ما تتوق إليه نفس كل متوثب طموح. نسيت عائشة في ظل هذا النعيم ما لاقت في ماضيها القريب من ذل ومهانة ونفي وتشريد. نسيت خروجها من قرطبة وحيدة منبوذة تعصف بها الرياح، وتتقاذف بها الطرق في قسوة وجفاء كأنها لعنة من السماء. نسيت ليلة الدير الذي بني للرحمة وأقيم للإحسان فلم تجد فيه رحمة ولا إحسانا. نسيت عائشة كل هذا، ولكنها لم تنس أمرين حفرا في دماغها وأثرين لا يعفي عليهما النسيان هما: ابن زيدون وابن جهور أو ابن جهور وابن زيدون، فإنها لا تستطيع أن تعقد بينهما ترتيبا، فهما عندها سواء فيما تثور به نفسها من كراهية وحقد ورغبة في الانتقام. ابن زيدون يجب أن يخضع لها خضوع العبد، وأن يتزوجها وأنفه راغم، وأن يهجر ولادة تلك المرأة اللعوب التي تخدع الناس برشاقة مصنوعة، وغرام بالأدب زائف، ونسب إلى الخلفاء حينما هزلت أنساب الخلفاء. وابن جهور الرجل المرائي الماكر، الذي وثب إلى الحكم، برغم أنه لا يحب الحكم، وأنه يتعفف عن الرياسة. ذلك الرجل الذي جلدها ووصمها بميسم العار ونفاها من الأرض، كأن دولته الزائلة لم يكن بها من أسباب الاختلال إلا أن تكاتب ملك الإفرنجة امرأة مثلها لا حول لها ولا قوة!
لم تنس عائشة هذين. وحينما رأت أن الفرصة مواتية للانتقام، حركت الحية رأسها، ولمعت عيناها بشر ولم يكن إلا أثرا لما يضطرم به فؤادها، وهمست تحدث نفسها: غدا يعلم ابن جهور أن النار التي أوقدت لوصمي بالعار ستجتاح دولته. وغدا يعلم ابن زيدون أن اليد التي امتدت إليه ضارعة مستعطفة ستنقلب عاصفة تهوي به إلى الجحيم، إلا إذا آثر السلامة وألقى الخطام
4
خاضعا ذليلا.
الفصل الحادي عشر
Página desconocida