2
وطعامها الحنظل، والعواصف الثلجية تتناوح فوق رأسها في الليل والنهار؟ كيف تستطيع هذه الفتاة المترفة الناعمة أن تثبت لهذه النوازل، أو تصبر على هذه المكارة؟ إنها كلما رأت السهول والسهوب والأكام والصخور، ورأت جسمها يهبط ويرتفع فوق سرج بغلتها كأنه شكية لبن يمخضه ماخض، تذكرت ما حدثتها به أمها حينما خرجت مع جدها وجدتها من شنت ياقب فرارا من وجه المنصور أبي عامر وما لاقى الركب البائس يوم ذاك من كوارث وويلات.
كانت تفكر في ماضيها وحاضرها، أما الماضي فكان يبكيها، وأما الحاضر فكان سوادا بهيما ليس فيه بصيص من ضياء. كانت تفكر في ابن زيدون وكيف انتقمت لنفسها منه، وكانت تفكر في نائلة وكيف تستطيع أن تنتقم لنفسها منها على بعد الشقة، وتنائي الديار. إنها صديقة ابن زيدون التي سرقت رسائله من دارها، فلما حبس لم تجد إلا أن تصب الشبهة عليها، وأن تثأر منها، فاتخذت من هذا الأسباني المفلوك الأبله شصا لاصطيادها. ثم ما هذا الصنم الأجوف الذي يسمونه بابن جهور؟ إنه لم يستجب لبكائي، ولم تهزه عاطفة لأنوثتي. ويل لي! وويل من بلاهتي! فلكم أوصتني أمي بأن أحذر، وأن أقدر لرجلي قبل كل خطوة موضعها، وهكذا فعلت، ولكني ألم أحسب حسابا لمن يقرءون ما في الصدور. لقد عرف الأشقياء أنني حليفة الأسبان عدوة العرب! وماذا أفعل في ضغن ورثته من أهلي وبغض امتصصته من ثدي أمي؟ إنني أسبانية الدم والأرومة، وإن للوراثة سلطانا يسخر من وسائل التهذيب، ويهرأ بالبيئة وما يزعمون لها من سيطرة في تنشئة الأخلاق. إن للوراثة ينبوعا لا بد أن ينبثق وإن غطته طبقات السنين وحجبه تعاقب الأجيال. لقد كان جدي يبغض العرب وإن أخفى بغضه تحت ستار من المكر والدهاء، وقد يكون من سلالة ذاقت ويلات الذل من حاكم عربي عنيف، ملأ صدورها حقدا، فتسربت من هذا الحقد رواسب إلى أعقابها. ولكني لن أطيق الحياة بين أهل الشمال، إن هؤلاء العرب يعرفون كيف يعيشون وكيف ينعمون بملاذ العيش ومتعه، أما أولئك فغلاظ جفاة أميون، لم تهذبهم حضارة ولم يصقلهم أدب ولا تأديب. كيف أعيش بين هؤلاء بعد زهو قرطبة، وتلألؤ ندواتها، ورنين ضحكاتها، وقهقهة كاساتها وتغريد عيدانها، وازدحامها برجال الشعر والأدب والفنون؟ لقد خلفت ورائي مدينة صبغ السرور ليلها صباحا، وجعل أيامها السعيدة أفراحا، مدينة لا تنام إذا نامت الكواكب، ولا يكدر صفو شرابها ذكر العواقب. مدينة كأنها قطعة من الفردوس، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. ثم تنهدت وانهمرت الدموع من عينيها، ولكنها أماطتها عن خديها في كبر وغضب وهي تقول: إن ابنة جارسيا لا تبكي للخطوب!
نزلت عائشة «برغش» وقد أرخى الليل سدوله، وشمل المدينة برد قارس عضوض، كادت تجمد له أنات البائسين. وكانت برغش فوق شرف عال بعثرت فوقه الأكواخ في أزقة ملتوية، تكدست بها الأقذار والأوحال، وأرسل كل كوخ من خصاصه
3
ضوءا خافتا مضطربا، كأنه فواق المحتضر. ولم يرتفع بين أبنية المدينة إلا بناءان: أحدهما في الوسط، وهو قصر ملك قشتالة، وحوله منازل الجند ورجال الدولة، والثاني دير سنت بدو للراهبات.
وقفت عائشة حزينة باكية في هذا الظلام الدامس، حيرى لا تدري أين تقضي ليلتها. إنها لا تستطيع أن تزور الملك في قصره بعد أن مضى الهزيع الأول من الليل، ولا تستطيع أن تنزل في خان، لأن بؤسها ورثاثة أثمالها يغلقان في وجهها كل باب. وبعد تفكير مضطرب رأت أن تقصد إلى الدير، وكان منها على كثب، فطرقت بابه وجلة مترددة، وفتحت لها راهبة عجوز عابسة الوجه ساخطة على الحياة، متمردة على التبتل، فلقد ظنت في ضحا شبابها أن في البعد عن الناس سلامة وطهرا، ولكنها رأت في أصيل العمر أن الحياة لا تكون إلا بين الناس، وأن الطهر وعلاج النفوس لا يكونان إلا حيث تكون الفتن ونزغات الشياطين تجهمت الراهبة «شيمانة» لعائشة وقالت في صوت خشن أجش: ضحية جديدة للشيطان؟
فأجابت عائشة بصوت متردد حزين: لا يا أختي، إنها فتاة بائسة لا تجد في هذه الليلة القاسية مأوى ولا طعاما. وهي لا تريد إلا كنا وحسوة من حساء، وستغادر الدير في أول شعاع للصباح، فهل تجد فيه ما يمسك به رمقها؟ - أما المأوى فهين ميسور، وأما الطعام فلن تجدي منه الليلة إلا لقيمات. ادخلي.
ودخلت عائشة، وقضت ليلتها نهبا للأحزان والبرد والجوع، حتى إذا صاحت الديكة التفت بإزارها وودعت صاحبة الدير وخرجت قاصدة قصر الملك. فلما اقتربت منه أسرع خدم القصر يذودونها عنه، لولا أن همست في أذن كبيرهم بأنها تحمل إلى الملك رسالة من قرطبة، وما كان إلا ذهاب وجيئة، وانتظار وترقب حتى كانت في حضرة ملك الإفرنجة، فرأت فيه رجلا كهلا أسمر اللون ضخم الجثة، أميل إلى الطول، جالسا على وسادة عالية، مكشوف الرأس أصلع، لم يغلب عليه الشيب بعد، وكان عليه ثياب من ثياب المسلمين. تقدمت منه عائشة فقبلت يده، ثم غلبها البكاء أو اصطنعته وصاحت: انتقم لي يا سيدي من ابن جهور ومن جماعة المسلمين، فابتسم الملك وكان داهية في الرجال، وقال وهو لا يحول عنها نظراته النافذة المخيفة: خففي عن نفسك يا فتاة، وانفضي إلي جلية الخبر. ثم من أنت أولا فإني لا أحب أن أخاطب مجهولا؟ - أنا يا سيدي عائشة بنت غالب، فشده الملك واتسعت حدقتاه وصاح: صديقتنا عائشة العاملة المخلصة لنصرة الأسبان؟! فكشفت عائشة عن كتفها اليسرى لتظهر أثر الوسم بالنار وقالت: وهذا يا سيدي عاقبة إخلاصي في خدمتك، وبلائي في نصرتك.
فوقف الملك بعد أن كان جالسا وقال في غضب مضطرم: من فعل هذا؟ - ابن جهور بعد أن صادرأموالي، وطردني من قرطبة بلد آبائي. فأطرق برأسه كالمفكر وقال: هل أصابك كل هذا لأجلي؟ - لأجلك يا مولاي، ولأجل الغاية التي نسعى إليها معا. - ومن الذي وشى بك؟ - امرأة تنازعني في رجل. - آه. كان عليك يا فتاتي أن تعرفي أن الجاسوس لا قلب له، وأنه إذا أحب فسد عليه كل أمره، ولكنا نتعلم من هفواتنا. والآن لا عتب عليك ولا تثريب، فالأيام كفيلة بأن ننتقم لك، والضعيف الذي يدرج إلى القوة أقوى من القوى الذي يتدلى إلى الضعف. لقد تغلب علينا العرب بقوة كانت فوق قوتنا، وإيمان كان أعظم من إيماننا، ومدنية لم يكن لنا منها قليل أو كثير، ولكن جذوة خامدة بقيت في صدورنا، فطفقنا ننفخ فيها حتى تقطعت أنفاسنا، غير أنها تأججت في النهاية وأصبحت نارا صاخبة اللهب فوارة السعير، يخافها العرب، ويصم آذانهم حسيسها. ولن ننام عن ثأرنا يا بنية، ولكن الأمور تعالج بالصبر والدهاء، حتى يسكت قرع النواقيس أصوات الأذان. أتدرين ما كان من أول أمرنا يا فتاة؟ كان بجليقة قس قوي الشكيمة شديد المراس، يسمى «بلاي» رأى قومه وهم يفرون أمام الفاتحين، فامتلأ قلبه غيظا، وصاح بينهم يذكي عزائمهم، ويثير هممهم لطلب الثأر، والاستماتة في الذود عن بلادهم، ولكن سيل العرب كان جارفا، فتحصن مع نفر من قومه في قنة صخرة، فمات أكثرهم جوعا، ولم يبق منهم إلا ثلاثون رجلا وعشر نسوة، ولم يكن لهم من طعام إلا ما يشتارونه من عسل النحل. وبقي هؤلاء الأبطال ممتنعين بالصخرة، وقد أعيا العرب أمرهم حتى يئسوا في النهاية من الوصول إليهم، وقالوا: ثلاثون رجلا ما عسى أن يجيء منهم؟ ولكن هؤلاء الثلاثين ما زالوا يتكاثرون ويقوون ويغيرون على أطراف ممالك العرب، حتى أصبحوا الآن كما ترين، وأصبحت دولتهم عزيزة الجانب، يهابها الملوك ويتقرب إليها الأمراء. صبرا يا بنيتي، فإن الخمر والنساء والتبذل في الشهوات وتفرق الكلمة، كفيلة بأن تذهب بشوكتهم. ربما لا ندرك هذا في أيامنا، ولكن من تحقق من وقوع الشيء فقد رآه.
Página desconocida