وثمة عامل آخر، لكنه خاص بلبنان، لا ينازعه فيه منازع، يصح أن نسميه «الإشعاع اللبناني»؛ تلك المزية التي عرف بها لبنان من أقدم عهوده التاريخية، والتي يصعب معها الادعاء بأن لبنان منحصر ضمن حدوده الجغرافية؛ فالأبجدية هي من الإشعاع اللبناني، ومن الإشعاع اللبناني أيضا هذه المادة السخية التي لا تفتأ تغذي بالهجرة كل بقعة من بقاع الأرض، حتى ليمكن القول إن لبنان شبكة مطروحة على العالم تنتظم أجزاءه، بل هناك لبنانان لا لبنان واحد: لبنان المقيم، الرابض بين تخومه، ولبنان المهاجر، الموزع في الدنيا.
ونحن على مثل اليقين من أنه قد كان لهذا العامل الأخير، في جعل الحدث اللبناني حدثا عالميا، أعظم الأثر؛ نعني أن لبنان مدين في الدرجة الأولى لنفسه.
لبضع سنوات خلت، اتخذ فريق من أبناء هذا البلد موقفا صريحا في صف الأمم المتحدة، وجعلوا يشتغلون تارة في «مكافحة النازية والفاشية»، وتارة أخرى في «مصادقة الاتحاد السوفييتي»، أو في كلا الأمرين، في وقت معا. ولقد كان يخيل إلى أكثر العوام، وإلى بعض الخواص، أن هؤلاء النفر ليسوا سوى شعراء يعيشون في المريخ، أو تجار تخصصوا للبضاعة الأجنبية، أي إنهم، في كل حال، مصابون بمس من الانحراف الفكري أو المسلكي، يصرفهم عن الحركة الوطنية الصحيحة التي يتمخض بها لبنان وسائر الأقطار العربية.
لست أدري - ولا يهمني كثيرا أن أدري - ما يقوله الخاصة الآن، لكن أحب أن أعتقد أن العامة - أي السواد الأعظم - قد غيروا شيئا من رأيهم، وعدلوا بعض انحرافهم، بتأثير تلك الخبرة المباشرة للحدث اللبناني الأخير، الكبير، الذي كانوا هم مادته الحية بلا مراء؛ فالحركة الوطنية الاستقلالية في لبنان، بما أحدثته من رد الفعل في أنحاء المسكونة، وبما أحرزته من توفيق في الناحيتين النظرية والعملية، أقامت الدليل - دليلا جديدا - على أن أولئك «الشعراء» لم يهاجروا إلى المريخ في حين، أو أن أولئك التجار لم يتعاطوا يوما «البضاعة الأجنبية». لقد كشفت هذه الحرب العالمية عن ثلاث أو أربع حقائق كانت غامضة، وكان يزيد في غموضها تعامي أهل النظر عنها، وأقرب تلك الحقائق إلينا عهدا، وأمسها بنا صلة، هي أن لبنان جزء من العالم، فلن يسعه أن يخرج منه، وأن مصير لبنان متوقف إلى حد بعيد على نتيجة الحرب، فما من سبيل إلى فصل مصيره عن نتيجتها. إن هذه الحرب العالمية كانت حربنا، كما أن السلم العالمية ستكون سلمنا نحن أيضا. تلك «حقيقة لبنانية» لا يصح أن نغفلها أو نتغافل عنها، فما من شيء في العالم لا يعنينا، سواء أرضينا أم لم نرض، وعلمنا أم لم نعلم.
على أن تلك «الحقيقة اللبنانية» التي أشرت إليها، ليست في الواقع إلا انعكاسا لهذه «الحقيقة العامة» المزدوجة، التي أصبحت من الوضوح والقوة بحيث يصعب نكرانها أو تجاهلها - نعني أن الحرية في العالم هي، كالسلم، وحدة لا تقبل التجزئة. فمن ميثاق الأطلسي إلى مؤتمر طهران، نرى الخطوط التي سيتألف منها عالم الغد، ترتسم في أفق الوجود، بأجلى فأجلى، وأبرز فأبرز، ولا يدهشن أحدا قولنا اليوم إن اشتراك الاتحاد السوفييتي في ذلك «التكوين» الجديد يعتبر ضمانة جديدة متينة العرى؛ فالاتحاد السوفييتي قد بنى سياسته الداخلية والخارجية على أصرح مبادئ الحرية القومية، ناهيك بحركة التحرر العاصفة بضمائر الشعوب وعزائمها، في مشارق الأرض ومغاربها.
نحن لا نحب أن نحشر في زمرة المتفائلين الحمقى، كما أننا لا نرضى أن نعد في المتشائمين الذين هم أحيانا أشد حماقة، برغم كل الظواهر. لكن لا ندحة لنا ولسائر الشعوب الصغيرة المستضعفة، عن مواجهة هذا الأمر البديهي، وهو أن إحدى الضمانات الأساسية لاستقلال لبنان الصحيح، وتمتعه بجميع حقوقه وحرياته ، هو استقرار النظام العالمي، على دعائم راسخة من احترام حريات الأمم وحقوقها وأمانيها المشروعة. في مثل هذه البيئة العالمية «السليمة» يحيا الاستقلال اللبناني، وينمو، ويبلغ أشده، فيؤدي اللبنانيون قسطهم مرة أخرى في بناء الصرح الإنساني العام.
يوجد بضع حقائق لا يحتاج المرء في معرفتها إلى كثير من الذكاء والألمعية، بحسبه شيء من الفكر والروية؛ نحن لا نعني هنا «حقائق علمية» بالمعنى الاصطلاحي المحدود، إنما نعني «حقائق إنسانية» لم تخرج - أو لم تكد - من نطاق الحوادث، ويمكن القول إنها في متنوال كل منا، كل ذي فكر سليم، يستخدم فكره السليم حينا بعد حين، ويعمل الروية في ما يريده، ولا سيما في ما يراد به. وليست هذه الحقائق، لقلة ما تجري على الألسنة والأقلام، بمبتذلة ولا رائجة ولا متداولة؛ هي من الحقائق المغمورة المطموسة التي تحملنا بسهولة، على الاعتقاد بأن أحدا لم يسبقنا إلى معرفتها، بل كنا نحن السابقين إلى كشف القناع عن وجهها، أو إطلاقها من سجنها، ولا بأس بذلك؛ فإن من الحقائق «الإنسانية» ما يجمل بالإنسان أن يعرفه بما يشبه «الخبرة الشخصية». وعلى كل، فليس لمن عنده مسكة من عقل، أن يلتمس هذه الحقائق وأمثالها في كتب المعارف «التوجيهية»، ناهيك بكتب التاريخ، لسبب بسيط هو أن المعارف «التوجيهية» لم توضع لهذه الغاية، أي «توجيه» الشعوب نحو معرفة الحقائق، بل بالضد. ولماذا؟ لسبب بسيط أيضا هو أن الحقائق التي أشرنا إليها، كانت، ولم تزل، تعد حقائق خطرة تدور حول علاقة الناس بعضهم ببعض، وحول علاقتهم جميعا بما يقتنون أو يملكون (ويدخل فيه المنقول وغير المنقول من المال، والثابت وغير الثابت من الامتياز)، وكذلك حول علاقتهم بذلك الشيء المشترك، أو على الأقل المفترض أنه مشترك، نعني: الحكم وما يتناوله من توزيع الحقوق والتكاليف، والمغانم والمغارم، وهلم جرا.
لكن قبل التبسط في الموضوع، أحب أن أمهد له بأبيات من الشعر، ومن شعر المعري الخالد. فأولا: إن المعري جاء بعد ألف من السنين، يظل هذه السنة التي نحياها، فأحالها واحة من واحات الفكر. وثانيا : نحن أمة نحب الشعر كما هو مشهور، ونتذوقه، وقد يكون فهمنا إياه أيسر وأجود من فهمنا أي شيء آخر، اللهم ما خلا التجارة، لكن الحالة الراهنة عندنا جديرة بأن تنفي - إن شاء الله - كل تناقض ينشب بين الشعر والتجارة.
لأبي العلاء المعري بيتان سمعناهما وقرأناهما لمناسبة عيده الألفي، ألف مرة ومرة، وما إخالنا بلغنا منهما حد التخمة، كأننا أبدا في جوع وظمأ إلى إنشادهما أو سماعهما. ذلك قوله:
مل المقام فكم أعاشر أمة
Página desconocida