الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الحقيقة اللبنانية
الحقيقة اللبنانية
خواطر وأحاديث
تأليف
عمر فاخوري
... أيحتاج لبنان - كما نعرفه قطعة من جغرافيا، وفلذة من تاريخ - إلى أن يتسلق ذروة من ذرى الزمن، وإلى أن يضرب في مسافات الأرض والسماء، فيجيل أنظارا ثابتة أو حائرة، في ظلمة الماضي أو غيب المستقبل، في الآفاق القريبة أو البعيدة ... ترى، أيحتاج لبنان إلى ذلك النصب الشديد، المقعد المقيم؛ كي ينتهي به الأمر إلى القول في سره أو على رءوس الأشهاد: «أنا صغير، جد صغير ... صغير جغرافيا، وصغير تاريخيا»؟ لعمري إن تلك الكلمة ليست مما يقال قولا؛ بل مما يهتف به هتافا، فلبنان منذ كان، لم يقف على ساحل هذا الأبيض المتوسط، بإزاء مدنياته القديمة والحديثة، كما يقف الصياد الذي دهمته العتمة ولم يعطه البحر سمكة واحدة ... لا، لكنها قصة شعب من الشعوب، ما كان صغر جغرافيته وتاريخه ليعوقه أو يكفه أو يمنعه عن أن يعطي العالم - في عصر من عصور تمدينه - أداة التخاطب المثلى، وأساليب العبادة الفضلى، وطرائق للفكر والعمل قويمة، بل لعل صغره في رقعة الأرض وفي زحمة التاريخ، كان حافزا لذلك الشعب، دافعا إياه بعزم لا يغلب، إلى الأخذ بضرب من ضروب العظمة أو السمو أو التوسع، يكفي به طموح ذاته، ويسد عوزها.
وهكذا رأينا لبنان يتبسط سفنا ومدنا، ويتسامى آلهة وهياكل، ويتوسع بالحرف والفكر، ومن غاباته المقدسة كان يشيد معابده الذاهبة صعدا، ويبني مراكبه الذاهبة بعيدا، كأن له من ضيق مساحته، وصغر حجمه، عند المسافة ثأرا، فلن يقر له قرار حتى يدرك ثأره؛ مقربا الأبعاد، جامعا الأضداد، واصلا قطيعة المادة والروح على سواء.
ليست الثقافة في بلد من البلدان، ولا رسالتها في شعب من الشعوب؛ مما يرتجل ارتجالا، ولا مما يسن في ضجة المجالس والمجامع، ولا مما تحدس به مخيلة شاعر أو ينضح به ذهن حكيم، ثم يفرض على الوجود فرضا. فالحياة نفسها (والتاريخ الذي يحكي حكايتها) ليست سوى حوار لا ينتهي، بين الإنسان والطبيعة . ويندر أن تكون الكلمة الأخيرة في ذلك الحوار لهذا الكائن من لحم ودم؛ حوار لطيف تارة وتارة عنيف، مضطرد أو منعكس، في صراحة أو جمجمة، كزقزقة العصفور وسقسقة الجدول، كاصطفاق الموج وتقصف الرعد، يهمس همس النسيم أو يدوي دوي البركان.
لبنان ملقى السبل المتفرقة، ومعترك الأمم المتنافسة، ومزدحم الثقافات المتقاطعة. ما من قوة في الأرض تستطيع أن تغلق ساحله الغربي، هذا الباب المفتوح على مصراعيه للأبيض المتوسط، من مدنيات وشعوب، يعطيها ويأخذ عنها، ثم يقذف به واحة غريقة في الصحراء. كذلك ما من قوة في الأرض تستطيع أن تسلخه عن هذا الشرق السامي الذي وصلته به، منذ كان التاريخ، بل قبل أن يكون، وشائج دم ولغة، وتقاليد وأساطير، وعبادات وثقافات، ثم يقذف به جزيرة عائمة في الأوقيانوس. سيظل لبنان حيث هو وحيث كان، من الطبيعة ومن التاريخ، همزة وصل بين الشرق والغرب اللذين يلتقيان فيه. وإذا صح أن ثمة مستقبلا، قريبا أو بعيدا، ليس يعرف الأثرة القومية وما يلازمها من مظاهر الطمع والفتح والغلبة، ولا التحريم الفكري وما ينشأ عنه من تعصب على اختلاف أنواعه؛ فقد كانت إذن ثقافة لبنان هي المثلى، ورسالته في الدنيا هي الفضلى: ثقافة تمازج، ورسالة تواصل.
ولعل أكرم ما يصدره لبنان من بضاعة، أبناؤه في النواحي الأربع من الأرض، بناة المدن والسفن، المخاطرون غير مغامرين، المثقفون طبعا وتطبعا، المحافظون في غير تزمت، المجددون من غير تعسف، ناشرو الأبجدية قديما وحضنة العربية حديثا، أبناؤه السمر الميامين، حملة رسالته الثقافية في العالم (شباط 1942). •••
ليس سوء الظن دائما من حسن الفطن، رغم قول الشاعر، ولا سيما إذا كان الرجل من الرجال أو الفئة من الفئات، يتخذون من سوء ظنهم مذهبا لا محيد عنه، أو طريقة لا مخرج منها، في حال من الأحوال، فهو حينئذ أقرب إلى أن يكون من باب سوء النية. وبالفعل، لا مندوحة عن افتراض سوء النية في كل سوء ظن «منظم»، كما أنه لا مندوحة عن الاعتقاد بأن المقصود به ليس إظهار الحقيقة أو جلاءها ؛ بل بالضد، طمسها أو تعميتمها.
من الطبيعي ومن المعقول أن يحاسب امرؤ على ما يقوله أو يعمله، أما أن ينحل المرء رأيا لم يقل به، أو عملا لم يبدر منه، فليس من الطبيعي ولا من المعقول. على أن هذا لا يقع - لحسن الحظ - إلا في النادر القليل، أو في نوبات متقطعة؛ لسبب بسيط هو أنه غير طبيعي وغير معقول، في وقت معا. لكن الأمر الشائع فينا المتداول بيننا، حتى ليكاد يعد «ظاهرة» في حياتنا الاجتماعية، هو أن نحاسب المرء أو الجماعة على ما نخشى - وأحيانا على ما نود - أن يضمروه، ولو جاهروا بعكسه. نقول ذلك لمناسبة ما يتأوله بعضهم، كلما سمع أو قرأ هذه الصفة «لبناني» تضاف إلى «الثقافة» أو إلى «التاريخ» أو إلى «الحقيقة» أو ما بمعناها، زعما منه أن في هذه الإضافة «الطبيعية» في نظرنا، إنكارا أو محاولة إنكار لشأن الثقافة العربية والتاريخ العربي في ثقافتنا وتاريخنا، أو للحقيقة العربية بنوع عام ... لا، فليس يخطر لأحد ببال، هنا أو هنالك، أن ينكر الصلات الوثيقة التي تربط هذا البلد اللبناني بسائر الأقطار العربية: صلات مادية وروحية، صلات في الماضي وفي الحاضر. وليس يخطر لأحد ببال، هنا أو هنالك، إلا تحبيذ كل مسعى يهدف إلى توثيق هذه الصلات ودعمها في المستقبل. وليس يخطر لأحد ببال، هنا أو هنالك، إلا الاستمرار، فكرا وعملا، على تغذية اليقظة الوطنية والاتحاد الوطني اللذين قطع الشعب اللبناني دليلا، بل أكثر من دليل، على اتصافه بهما. قد تتعدد آراء اللبنانيين في بعض المسائل؛ كنوع العلاقات بين لبنان في جانب، وبين الأقطار العربية الشقيقة أو غيرها من الدول في الجانب الآخر، لكن ثمة أمرا يجمع عليه كل الوطنيين - وهم ولله الحمد الكثرة الغالبة - هو المحافظة على كيان هذا الوطن اللبناني، واستكمال عناصر استقلاله، وذلك أولا: بتوثيق روابط الإخاء بين أبنائه وطوائفه جميعا، وثانيا: بإنشاء الصلات الخارجية التي تدعم الاستقلال، وتضمن مصالح الشعب.
فأما ونحن جميعا ضمن هذه الدائرة، فلم يبق من موضع أو من مبرر لسوء الظن أو للحذر - الطبيعي والمصطنع على السواء - لا من هنا ولا من هنالك. إن الطمأنينة والثقة المتبادلة لمن الأشياء المستحبة التي آن لنفوسنا أن تعرفها وتألفها (شباط 1944). •••
زعموا أن الحقيقة مرة المذاق ... إن الحقيقة ليست مرة وليست حلوة، إن لها طعما خاصا هو طعم الحقيقة (بلا تاريخ).
الفصل الأول
أقسم أني هذه المرة عييت؛ أعياني سائل من الفضوليين أو غير الفضوليين، يسألني: «علام نحتفل لانتصار الحلفاء في أفريقيا؟» لم أعي من السؤال؛ بل من وجود السائل ... كنت فيما مضى أتحاشى السائلين، فرارا من القيل والقال، فإذا بالسائلين - منذ زمن - كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة. لعلهم هذه المرة توقعوا سلفا - من البداية - جوابنا الصارخ؛ بل الصاعق: «العمى! إذا لم تحتفل لهذا الحادث العظيم، عصبة مكافحة النازية والفاشية، فمن يحتفل له؟! وإذا لم نحتفل الآن - وعندنا أسباب أخر - فمتى نحتفل؟» ذلك أن المحور قد أضاع نهائيا، وفي وقت معا، قارة هي أفريقيا، وبحرا هو المتوسط، وأضاع جيشا جرارا وعتاده ضخم، وأضاع وقتا ثمينا «سحبه» على المستقبل لإطالة أجله القريب. وعما قليل، تنتصب الأمم المتحدة على عتبة ذلك الصرح الممرد الذي أسماه هتلر: حصن أوروبا الحصين (ونسميه نحن: سجنها المطبق)، فتهوى على بابه المخوف، بقبضات من حديد ونار، ثم تنقض بنيانه، وتدك جدرانه. عما قليل تتنفس الصعداء، وتقطع السلاسل شعوب طعينة سجينة، شريدة شهيدة، وقد أخذ بعنق النازية من الشرق والغرب، فكا الكلابة التي لا تدفع، فيلفظ الوحش نفسه الأخير.
وقفت عشية يوم بباب فاكهاني، وكان قد سبقني إليه بعض الزبائن، يطلب كيلو أو كيلوين من العنب، فوضع البائع عنبه في كيس من ورق، وجعل الكيس (طبعا) في إحدى كفتي الميزان، وكان يزيد في الكيس، خصلة بعد خصلة ليتم الوزن، لكن يظهر أن الكفة لم تكن عند رغبة الفاكهاني، أو وفق هواه؛ لم تهبط بما يرجو من السهولة، فأراد أن ينتقم من عناد الميزان، فتناول خصلة صغيرة يصح أن نسميها «الضربة القاضية» لأنها رجحت الكفة عنوة، بفضل قبضة يد البائع العنيف، في عتمة القنديل الأزرق، وبأسرع من لمح البصر، قبل أن «يرتاح» الميزان، ينتزع الفاكهاني الكيس بمهارة بهلوانية، ويقول للزبون بلطف نادر المثال: «تفضل!» لقد أعطاه بعض حقه وزيادة، أعطاه ثقل يده الغاشمة. فهل رأيتم أرأف من هذا التاجر بميزانه؟ إنه يساعده بكل ما فيه من قوة، وما عنده من حيلة. ثم ابتدرني الفاكهاني بالسؤال قائلا: «اؤمر.» أجبت: «لا شيء، كنت أفكر في هتلر ذلك اللعين ونظامه الجديد، وكيف أنه وقع أخيرا على من يكيل له الصاع صاعين، ويبادله الضربة ضربتين ...» فقاطعني الفاكهاني قائلا: «هكذا تقول الجريدة!» وانصرف إلى «خدمة» زبون آخر لا يشتغل مثلي في السياسة.
إذا كان هتلر قد أضاع قارة وبحرا، وجيشا وعتاده الضخم، ووقتا ثمينا من المستقبل كان يرجو أن يطيل به أجل النازية ونظامها الجديد، فماذا أفدنا نحن؟ ماذا جنينا من ثمار النصر العظيم الذي أحرزه الحلفاء في أفريقيا؟
لقد أفدنا مباشرة إبعاد شبح الحرب الذي طالما جاس خلال ديارنا، وأفدنا بصورة عامة اقتراب ساعة النصر الحاسم المبين الذي طالما بشرنا به - نعني: فوز قضية الحرية في العالم. وبديهي أن عصبة مكافحة النازية والفاشية لم تجتمع، ولم تنشط، ولم تجاهد للدفاع عن قضية عالمية؛ إلا لأن هذه القضية العالمية هي في الوقت نفسه قضيتنا، قضية بلادنا، وبالدرجة الأولى. لقد أفدنا تصريحا باستقلالنا الوطني، وتمكينا من ممارسة الحياة الدستورية - المرحلة الأولى، أو قبل الأخيرة نحو الاستقلال المنشود - وهكذا ترون أن الثمار التي جنيناها، أو سنجنيها من انتصار الأمم المتحدة، في ميادين القتال: الجيش الأحمر العظيم في الشرق، والجيوش البريطانية والأمريكية والفرنسية في أفريقيا، وعما قليل في الغرب الأوروبي. أن هذه الثمار لا تشبه في شيء عنب صاحبنا الفاكهاني الذي يطبق النازية في دكانه، كلما سول له الهوى أن يساعد الميزان بقبضة يده اللبقة الغاشمة. وإني لأتساءل الآن: ما الذي كان يصل إلينا من حقنا في الحياة الحرة الرغدة الآمنة، لو وزن ذلك الحق في ميزان النازية التي لا تخلو كفتها - الراجحة أبدا - من عصا مارشال، وتدجيل داعية، وأفضلية العرق الجرماني؟ ذاك ميزان، لو وضع العالم كله في كفته الثانية، لما رجحت الميزان الذي لا يعتدل.
أعجبتني كلمة للكاتبة الأمريكية بيرل باك ... كتبت أخيرا تقول: «إن أهل الفيلبين، يوم قاتلوا إلى جانبنا، لم يحاربوا الاستعباد الياباني دفاعا عن استعبادنا لهم، أو عن عبوديتهم لنا؛ بل لإنهم شعروا بأن حقهم في الحرية والكرامة يحترم عندنا.» ولعمري متى يفقد امرؤ أو شعب هذا الشعور بأن حقه في الحرية والكرامة محترم، ومحترم إلى حد التقديس، فأي معنى يبقى لحياته؟ وأي ثمن لا يؤديه، لفرض هذا الحق في الحرية والكرامة، بوجه العالم قاطبة؟ ولعمري إن الفرق لواضح بين من يدافع عن شيء هو له، وبين من يدافع عنه وللآخرين في شركة، حظه منها القسمة الضئزى. لقد أتى هتلر على حريات الشعوب الأوروبية، وانتهك أقدس كراماتها، ثم سمى سجنه المخوف حصنا حصينا. فواعجبا لذلك الحصن، ليس الخصوم الذين يهاجمونه من خارج أقل عددا وعداء من الخصوم الذين يناوشونه داخل السور! لو كانت القارة الأوروبية في ظل النظام النازي، ذلك الحصن الحصين الذي تتوافر الهمم، وتتضافر الجهود على حمايته والدفاع عنه، لكان من العسير أخذه. لكن القارة الأوروبية اليوم سجن مخوف لشعوب مستعبدة تحتدم بالثورة، ولن تلبث حتى تنفجر كالبركان. كذلك كانت روسيا القيصرية، فبادت، كما سيقضى على النظام الهتلري. إن حق الشعوب في الحرية والكرامة لا يمكن أن يبقى منتهكا، أو سليبا، أو مسكوتا عنه، إلا إلى حين. وفي هذا السياق من المعاني يصح القول إن لبنان المستقل المتمرس بالحياة الدستورية، لن يكون همه الأول سوى التضامن مع الأمم المتحدة، ومساعدتهم وسع الطاقة في مجهودهم الحربي؛ للقضاء على النازية أصلا وفروعا.
لم يكن من الحسن ولا الرشد في شيء أن تفاجئنا السلم، وليس في الأرض اللبنانية المستقلة حكومة دستورية ديمقراطية يختارها الشعب اللبناني من أبنائه البررة العاملين الصادقين لتصريف شئونه، ولا سيما لتمثيله بين الأمم؛ لهذا يدعى اللبنانيون إلى انتخاب نوابهم، ولهذا يجب أن يحسنوا الاختيار، هذه المرة ولا أية مرة! هو شرط بديهي، لكنه أساسي، أساسي كالحياة.
فلينظر اللبنانيون، ثم لينظروا، بأي وجه يهمهم أن يطلع وطنهم على الدنيا، من ظلمة هذه الحرب! إن اللبنانيين أنفسهم هم الذين يصورون ذلك الوجه، ويرسمون ملامحه وشياته، ويؤلفون محاسنه ومفاتنه. وأكبر الظن أنهم لن يريدوا - منذ اليوم - وجها من الوجوه الزائفة والمستعارة؛ فهذه الوجوه لا موضع لها، إذا جد الجد في حياة الأمم. إنما تصلح الوجوه الزائفة أو المستعارة للمساخر.
نريد وطنا، لا طيف وطن. نريد وطنا من لحم ودم. نريد وطنا يحب ذاته ويحترمه الآخرون، يعرف كيف يحب ذاته، وكيف يفرض احترامه على الآخرين.
في صيف 1940 كنت - كل أسبوع، مرة أو مرتين - أستقبل في منزلي سرا، كأننا على موعد لقاء، جريدة لا توحي بشيء من صفات الجرائد الضخمة الرنانة التي يلوح بها، وينادى عليها في السوق، بأصوات تصم الآذان، وتطاير من كل مكان.
كانت هذه الجريدة عجيبة حقا، غير مرتبة ولا مبوبة ولا مزينة باسم مخلوق من هؤلاء الذين يدعون بالمحررين، أو المديرين، أو المالكين. ولأمر ما كانت أيضا خلوا من عنوان المطبعة التي تخرجها (أو تزفها)، فهي تطبع على الجلاتين. صحيفة ساذجة، بسيطة الزي والشكل، متواضعة، محتشمة، كحسناء فقيرة لكن تحترم ذاتها. صحيفة «شاذة» وكفى!
ما كان أعجلني عهدذاك إلى قراءة الصحيفة الحرام، تأتيني أعدادها كالمواد الخطرة المهربة، وإلى قراءتها من الألف حتى الياء! كان يجيئني بها فتى ولا كالفتيان؛ ليس تفارق الابتسامة ثغره، والعزيمة الصادقة نظره، يناولني «بضاعته» من كوة الباب، ثم ينصرف معجلا، ولم يكد يحييني أو يسمع مني كلمة الشكر. لكن بعد أن «تعاملنا» مدة من الزمن، وأنس كل بصاحبه، صرت أدعوه إلى فنجان قهوة، فيقبل الدعوة، فنجلس ساعة أو بعض ساعة نتجاذب أطراف الحديث، فكان يخيل إلي دائما أن الفتى ليس سوى «عدد ممتاز» من الجريدة التي ينشرها، بل «يبشر» بها. كأنما الصحيفة تحيا فيه لحما ودما، فكرا وشعورا، حمية وإقداما، ثقة وأملا في المستقبل، كما يريده وسيكون.
لقد كنت أجهل اسم ذلك الصديق الجديد - الجديد بكل معاني الجدة - كنوع مستحدث من الآدميين. فكنت، ولا أدري لماذا، أدعوه بيني وبين نفسي: «بشارة.» اليوم يقولون لي بلطف: «أجل، هو أدوار.» وأنا أحتج بشدة: «كلا، هو بشارة!» وليس في هذا خسارة.
لو سألتموني عما كنت أجد في تلك الصحيفة المتواضعة برغمها، والتي كانت تحمل إلي كرسالة خاصة، مرة أو مرتين كل أسبوع، لاختلطت في ذهني صور وأفكار وخواطر شتى، فلا أعرف كيف أبتدئ ولا كيف أنتهي. حتى الحوادث (أو الأخبار) كان لها في تلك الصحيفة معنى جديد، وصدى غريب، كأنما ينظر إليها من زاوية غير مألوفة أو مبتذلة، لكنها الزاوية «المستقيمة» الصحيحة، منها يسعى في السبيل الأقوم، إلى الغاية الأسمى. تلك الصحيفة هي آخر مدرسة تعلمت فيها سداد الفكر وصدق العمل؛ سواء أفي إعلانها على النازي حربا لا هوادة فيها، يوم كان النازي كل شيء، أم في صمودها للدفاع عن خبز الشعب وحريته وسلامته ... وكانت تقول في كل مناسبة، ما لا بد من قوله، ما يجب أن يقال، ببساطة لا بساطة وراءها. أعني أنها لم تكن بحاجة إلى تضخيم صوتها؛ إذ لا صوت يعلو على صوتها ... هو «صوت الشعب».
في ذلك الزمن - يذكر ولا يعاد! كان خالد بكداش، وفرج الله الحلو، ونقولا شاوي وبعض الرفاق، يضطهدون في السجن، أو يطاردون فيما هو أضيق من السجن، لكن صوتهم لم يحبس، وجهادهم لم يكبح، ونورهم لم يطفأ. كانت أصداء من الصوت المدوي، ومآثر من الجهاد الدامي، وآشعة من الضياء المحيي، تملأ بيتي، وتشغف نفسي، وتنير بصيرتي ... وبيوت كثيرين، ونفوس كثيرين، وبصائر كثيرين.
في ذلك العهد، عهد فيشي، واللجنة الخبيثة، والتربص الأخبث، والجيش الألماني الذي لا يغلب، إلى آخر الخرافة؛ لم أكن أعرف خالد بكداش، وفرج الله الحلو، ونقولا شاوي، أو واحدا من رفاقهم الميامين. كان ينبغي - كي أعرفهم - أن أمسي سجينا متطوعا، أو طريدا مختارا، وليس هذا بالأمر السهل، نظريا أو منطقيا على الأقل.
ثم جاء غير ذلك الزمن، جاء عهد أحسن حالا، عهد لا يزال في تحسن مطرد، كالمريض الذي يتماثل إلى العافية، وكان من أيادي هذا العهد عندي أني - أخيرا! عرفت خالد بكداش الخطيب الذي يحلق كالنسر، والقائد الذي يحارب في أكثر من جبهة؛ لأنها - حيثما كانت - جبهة الحرية. يحلق كالنسر في آفاق الفكر والبيان، وكالنسر لا تفلت من بصره الحديد تفاصيل الأمور أو جزيئاتها، مهما دقت عن النظر، أو صغرت على البعد. وعرفت فرج الله الحلو المجاهد الأمين، كل عمل يأتيه خطبة بليغة، وكل خطبة يلقيها عمل رائع. وعرفت نقولا شاوي ... ماذا أقول لكم، وهو هنا، قد رأيتموه وسمعتموه؟ لكن تعالوا أهمس في آذانكم من خلال هذا المذياع، بأنكم لن تجدوا خيرا منه نائبا يمثلكم؛ يفهمكم فهما صحيحا، ويحس معكم إحساسا صادقا؛ فلهذا، ولهذا فقط، كان نقولا شاوي في السجن. علام إذن لا يكون في مجلس النواب، لهذا ولأسباب أخر؟
وهكذا عرفت خالد بكداش وفرج الله الحلو ونقولا شاوي، ورفاقهم الكثيرين اليوم، الأكثرين غدا، الذين يعملون كالنمل، ويجنون كالنحل، ويمشون كالجنود الأبطال، وفي سبيل أمتهم وحقها في الحياة الحرة الرغدة الآمنة، ما يعملون وما يجنون. جزاهم الله عنا كل خير! لقد علمونا بالكلمة والمثل، أن المولهين بحب الحرية لا يرجعون - برغمهم - خطوة إلى وراء، إلا ليقفزوا خطوتين إلى أمام، ودلونا على الطريق.
في هذه «المزرعة» المخصاب، شجرة شابة عجوز تعهدها من زمن بعيد هذا الحي الكريم، بالسقيا والعطف والعناية، فصارت راسخة أصولا، منبسطة فروعا، وارفة ظلالا، دانيا قطوفها. شجرة تستمد من الماضي الأصيل قوة، لتمتد غصونها نحو المستقبل الوضاح تحية؛ هي شجرة الإخاء في الوطن الواحد، وفي العقيدة الواحدة. وكأنما الشجرة هنا، كي يأوي إلى فيئها، ويجني من ثمرها، العهد المقبل الذي طالما تاقت إليه نفوسنا، واستهدفته جهودنا.
هنيئا للمزرعة وبنيها، وللبنان وأهله، الشجرة المباركة التي رسا أصلها، وفرعها في السماء.
لو كنت أخوض المعركة الانتخابية، ولا هم لي إلا أن أصل إلى المجلس النيابي، فأستلم الكرسي بشوق ولهفة، وأرتاح نائما على الثقة، ثم أغط في النوم مع زملائي الكرام، لقلت لكم منذ الآن: «شكرا، شكرا! إن عطفكم وتأييدكم ومناصرتكم تكفيني؛ بل هي فوق الكفاية.» عبارة من عبارات اللياقة والامتنان وعرفان الجميل. لكن لا، لن أقولها، وليؤذن لي أن لا أشكركم!
أنتم تعلمون - وأنا أيضا أعلم، وإلا كنت متهما في فهمي - أن هذه المظاهر الصغرى اللطيفة، والكبرى الرائعة، تتجاوز كل الأشخاص ولا سيما شخصي، إلى المبادئ والقيم التي كنا، ولا نزال، نناضل من أجلها في مختلف الميادين. أنا أعرف ما ينتظرني؛ تريدون أن نحمل هذا النضال إلى ميدان جديد هو البرلمان اللبناني الذي كان - والحق يقال - تخيم عليه في الأغلب سكينة مشبوهة، فلا يرتفع بعض الضجة إلا حينما يؤمرون بالانصراف، كالتلاميذ الخارجين من الصف، ثم يتفرقون ... يتفرقون متواعدين إلى المجلس المقبل. وبالفعل ليس يتخلف منهم أحد إلا لموانع قاهرة، كأن يأتيهم هادم اللذات ومفرق الجماعات، وسبحان الحي الذي لا يموت.
سيكون لكم، أيها الإخوان، ما أردتم. هذا النضال لأجل المبادئ التي تجعل للحياة قيمة، بل التي لا قيمة للحياة بدونها، سنحمله إلى مجلسكم النيابي. لقد أثبتت هذه الحرب أن النصر يكون حيث تكون المؤخرة والجبهة معسكرا واحدا، يناضل في معركة واحدة، ويرمي إلى هدف واحد. وقد آن لنا أن نجعل من الشعب اللبناني ومن مجلسه النيابي، معسكرا واحدا يناضل في معركة واحدة، ويرمي إلى هدف واحد. أما أن يظل الشعب اللبناني في جهة، بآلامه وآماله، ومشاغله ومطامحه، ومجلسه النيابي في جهة ثانية، ينعقد كمجالس الإدارة لشركات المساهمة، فذلك ما لن يكون.
أيها الإخوان! إن البرنامج الذي أتقدم به إلى جمهرة الناخبين بسيط جدا، واضح جدا، متواضع جدا؛ إنه يتألف من أحد عشر بندا، قد لا تخرج في محتواها - إلا بعض الشيء - عما تلوح به أكثر البرامج الانتخابية. إنه يعد بتوطيد الاستقلال الصحيح، وبتأمين الحريات الديمقراطية على أنواعها، وبتوثيق روابط الإخاء بين جميع المواطنين على اختلاف طوائفهم وأديانهم، والروابط الاقتصادية والثقافية بين لبنان وسائر الأقطار العربية، وبتشجيع الاقتصاد الوطني وحمايته في مختلف فروعه من تجارة وزراعة وصناعة، وبإصلاح التنظيم المالي، وبسن تشريع للعمل مستمد من روح العدل الاجتماعي والتضامن القومي، ثم يستمر إلى آخر حلقات السلسلة. هو ككل برنامج محترم يعد كثيرا، أعني يأتي البيوت من أبوابها. إنه البرنامج الذي لم يتغير ولم يتبدل منذ عشرات السنين، منذ وجد الدستور اللبناني؛ لسبب واحد هو أنه لم ينفذ. يظهر، أيها الإخوان، أن البرامج كانت دائما أفضل من النواب الذين يحملونها، فأرجو أن توفقوا هذه المرة إلى نواب يكونون أفضل من البرامج التي تحملهم، نواب يكون برنامجهم الانتخابي برنامج حياتهم، نواب يقولون، ساعة تقرير المصير، كلمة الشعب اللبناني الطامح إلى الحرية والاستقلال والسعادة، لا يهمسون بها همسا؛ بل يهتفون بها هتافا.
إن البرنامج الذي أتقدم به إليكم، يتألف من أحد عشر بندا، كلها عزيز علي، حبيب إلى نفسي؛ كالأولاد ليس يؤثر الأب أحدهم على الآخر، بعطفه وإشفاقه وعنايته، لكن لا أجد بدا من الاعتراف بأن لي نظرة خاصة إلى البند الرابع من بنوده: «توثيق روابط الإخاء بين جميع المواطنين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأجناسهم، بروح العدل والمساواة والتضامن القومي.» فكثيرا ما أرجع إلى هذا البند، حتى ليسبق نظري إليه دون غيره. إن آفة لبنان هو الاستغلال بأنواعه، وشر هذه الأنواع إيقاع التفرقة - ثم استغلالها - بين أبنائه الذين أجمعوا على إرادة واحدة، هي إرادة العيش في ظلال هذا الوطن، بحرية وعدل وتضامن. لقد عزز هذا اليقين في نفوسنا، الاجتماعات الكثيرة التي عقدناها، والتي كانت تضم الوطنيين الصادقين الواعين، من كل مذهب ودين.
إن العالم مشغول بحل مشاكله العظمى، ونحن ما زلنا منهمكين في حل مشكلة ابتدائية حيوية، كدت أقول: حيوانية. ليس بكاف، كلما رأينا البيت يحترق، أن نهب جميعا لإخماد النار، يجب أن نمنع أسباب الحريق، وأن نبعد عن البيت المحرقين. لنقل بصراحة: لا يمكن أن يكون لبنان وطنا مسيحيا، ولا وطنا إسلاميا، لا يمكن أن يكون وطنا لأي دين من الأديان، أو مذهب من المذاهب، لا يصح أن يكون لبنان إلا وطنا لجميع اللبنانيين على السواء.
إن وعد الحر دين، إن وعد الأحرار دين. في العام الماضي، احتفلنا أكثر من مرة، وفي أكثر من بلد ؛ لانتصار الحلفاء في أفريقيا، ذلك الانتصار الذي انتهى بتطهير القارة السمراء من رجس المحور. وقد تخيلنا عامئذ لضرورة الموقف، سائلا يسألنا، وهو ضائق ذرعا باحتفالنا المستمر الملحاح، سائلا يسأل: أما لهذا الاحتفال حد؟ كما يتساءل المغني الذي يردد، من أول الليل حتى ساعة متأخرة منه، الدور المشهور: «أما لهذا الليل آخر؟» والحق أن ذلك السائل لم يكن واحدا، كما أنه ليس خياليا بهذا المقدار؛ لذلك أجبناهم عن سؤالهم قائلين: سنظل نحتفل للنصر الأفريقي ونحتفل، حتى يرزق الحلفاء نصرا جديدا، أو تفتح الجبهة الثانية مثلا. حينئذ، وحينئذ فقط، نكف عن الاحتفال لذلك النصر؛ كي نفرغ للاحتفال للنصر الجديد، أو لفتح الجبهة الثانية.
إن وعد الحر دين. وها نحن أولاء، ننجز الآن وعدنا، نفي ديننا، فنعلن على رءوس الأشهاد أننا عدلنا عن الاحتفال لذلك النصر الأفريقي، فهو تاريخ قديم؛ كي ننصرف بكليتنا إلى الاحتفال لهذا النصر الجديد، الذي يحرزه الجيش الأحمر في الشرق، والجيوش الحليفة في الغرب، والذي سينتهي عما قليل، بتطهير الأراضي السوفييتية، والأرض الفرنسية، وأوروبا بأسرها، من آفة النازية، وكل آت قريب.
يقولون إن النازية لم يبق عندها شك في فشلها المتحتم، لكنها تود أن تكسب ما أمكن من الوقت. نحن إذن متفقون أن الانحدار متحتم، لكن المسألة مسألة وقت، سوى أن الوقت كان يمشي في ركاب الأمم المتحدة، كان في خدمتها؛ بالأمس كان هتلر يمني نفسه بالنصر الصاعق، وها هو اليوم يعزي نفسه بالانهزام البطيء. (لا يجوز الحكم على هذه الحرب بما يحدث من تطورات بين عشية وضحاها؛ إذ لا يمكن أن يكون للانتصارات أو للهزائم الموقتة أهمية حاسمة، بالنسبة إلى حرب لها هذا المجال العالمي و«التاريخي» الواسع ...)
يخيل إلينا، أول وهلة، أن هذه الكلمة قيلت منذ ثلاث أو أربع سنوات، وأن الذي قالها هو أحد قادة الأمم المتحدة التي لم تكن على تمام الأهبة المادية والمعنوية، أو التي أخذت على حين غرة. لكن لا، إن هتلر هو الذي قالها منذ بضعة أيام: لهذه الحرب مجال عالمي وتاريخي واسع ... ليؤذن لي هذه المرة، أن لا أرسل نفسي على سجيتها، فأتمثل هتلر، وقد فتحت عليه الجبهة الثانية في الغرب، يتعزى أو يتسلى بفتح جبهته الثانية في ... التاريخ. كلا، إن لكلمته معنى آخر هو جدير بالروية، الروية التي كنا ولم نزل ندعو إليها بني قومنا. إن ما يعنيه هتلر هنا يهمنا بالدرجة الأولى، ولا يصح أن نغفل عنه طرفة عين.
وماذا يعني هتلر بقوله ذاك؟
يريد أن يقول إنه قد غلب هو، لكن النازية لم تغلب نهائيا، وإن الماكنة الحربية الضخمة التي أعدها لنصرة النازية قد تحطم، لكن النازية لا تحطم إلى الأبد، وإن ألمانيا معقل النازية في هذا الزمن، قد تضطر إلى طرح سلاحها، إلى التسليم، لكن النازية لا تطرح سلاحها، ولا تسلم ... يريد هتلر، بعبارة واحدة، أن يقول: إن النازية التي فشلت في هذه الحرب، في مجالها العالمي، لم تفشل بعد في هذه الحرب، في مجالها التاريخي. فليس بكاف أن يغلب هتلر، وأن تتحطم ماكنته الحربية، وأن ترمي ألمانيا سلاحها، كي نطمئن إلى أن النازية قد لفظت أنفاسها الأخيرة، وأنه لن يبعث من في القبور. إن هتلر الذي انهزم في ميدان العالم، يضرب لنا موعدا في مجال التاريخ.
كل ذلك عرفناه، ولم نكن بحاجة إلى أن يذكرنا به مذكر. سنكون دائما في الموعد، مهما يكن الاسم الذي تتسمى به النازية، والقناع الذي تتقنع به النازية، سنكون دائما في الموعد، وفي المعسكر نفسه، معسكر الحرية والتقدم، معسكر النصر.
كل هذا عرفناه، ولم نكن بحاجة إلى من يذكرنا به، حتى ولا هؤلاء المتسمين بالقوميين، الفهاررة الأقزام، الذين يطمعون هم أيضا بأن يشدوا العجلة إلى وراء، بأن يرجعوا بنا القهقري، فإذا غاية جهدهم أنهم يمثلون في بلادنا، بعد فاجعة النازية في العالم وفي التاريخ، ذلك الفصل الهزلي الذي يظهر أنه لا بد منه. لكن حبذا لو كانوا يختارون لهذه المهزلة مسرحا غير لبنان! سنحملهم على أن يختاروا لها مسرحا غير لبنان!
منذ اجتمعنا آخر مرة في هذا المكان، وكان ذلك لمناسبة أول نوار على ما أذكر، حدثت في البلد أحداث وأحاديث ... ماذا أقص عليكم مما حدث، وهي حياتكم اليومية والعامة على السواء؟ خلاصة الخبر أنه جاءت حكومة، بعد أن ذهبت حكومة، أو جاءتا وذهبتا في وقت معا، وهو الأصح وليست تدري إحداهما لماذا جاءت، ولا الأخرى لماذا ذهبت، كذلك نحن لا نعرف على التدقيق من الذين ذهبوا، ومن الذين جاءوا. يقول بعضهم بإن الحكومة التي جاءت هي خير من الحكومة التي ذهبت، ويقول فريق آخر بالعكس، وكل من الفريقين غير مقتنع كل الاقتناع.
ثم إنه انعقدت مؤتمرات وانفضت مؤتمرات، أو لم تنعقد حتى انفضت، وقد كانت هذه المؤتمرات كالسؤال وجوابه، أو كالصوت وصداه، لكن الجواب ما لبث حتى صار سؤالا يحتاج إلى جواب، والصدى صوتا يثير أصداء ... وهكذا دواليك. ثم إنه تغيرت السياسة؛ كانت سياسة أشخاص و«بعض» المبادئ، فأمست سياسة مبادئ من غير أشخاص، فسياسة أشخاص من غير مبادئ، وأخيرا - وهو الأقرب إلى الروح العملي - سياسة «بعض» المبادئ و«بعض» الأشخاص.
ماذا تريدون أن أقص عليكم؟ الأفضل أن «نسافر» من هذا الزمن، ونرجع إلى الوراء قرنا ونصف قرن، فنتحدث عن الثورة الفرنسية مثلا، مخافة أن يرجعوا بنا إلى أبعد من ذلك العهد، إلى ما قبل التاريخ.
تعيد الأمة الفرنسية ويعيد العالم معها كل عام ليوم الرابع عشر من تموز، ويسمونه: عيد الحرية. في ذلك اليوم من سنة 1789 أثبت الشعب ذاته وإرادته وقوته، وفي ذلك اليوم أيضا كانت الإنسانية، وفرنسا في الطليعة، تجتاز إحدى المراحل التاريخية الكبرى نحو انعتاق الإنسان من العبودية بأنواعها.
ماذا كانت حالة فرنسا في ذلك العهد؛ حالتها السياسية والاجتماعية؟ أخاف إذا أنا أطلت الكلام في الموضوع أن يتبادر إلى الأذهان أني أحدثكم عن حالة بلادنا أو أدعو إلى الثورة. حاشا وكلا! إن حقوق اللبناني قد أعلنت عندنا من زمن بعيد، منذ الدستور العثماني على الأقل، ولم يبق إلا أن تطبق، وكل آت قريب. على أن سلسلة الأحداث الخطيرة التي عرفت بالثورة الفرنسية، لم تكن حلقاتها الأولى سوى حركة تقدمية سلمية يراد بها رفع المظالم الصارخة؛ بل «الزوائد» الفاحشة التي إن يكن عجيبا من الشعب الفرنسي، العمل على إزالتها حتى بالعنف، فقد كان الصبر على بقائها، أو على محاولة إبقائها، من بعض الطبقات، بالعنف والخيانة معا، أعجب وأدهى وأبلغ في النكاية.
في أواخر القرن الثامن عشر تغيرت أشياء كثيرة في فرنسا، ومن جملتها الأفكار، هكذا تبدأ الحكاية؛ فالأوضاع والأساليب التي كان الشعب الفرنسي مذعنا لها كمفاسد لا مندوحة عنها، أضحت في نظره مظالم لا تطاق، من الواجب ومن الممكن إزالتها. لم يكن الشعب عهدذاك يطلب غير وضع حد لاستبداد الحكام، وللتعصب الديني أو المذهبي، ولعدم المساواة بين الأفراد. كانت مطالبه تلخص في شعار مشهور تداولته الألسنة والأقلام، منذ أواسط القرن: «حرية - مساواة»، وهي - كما ترون - ليست على شيء من التطرف، نظريا على الأقل، لكن معنى هذا بطبيعة الحال، كان القضاء عمليا على طريقة الحكم المطلق، وعلى سنة الإكراه في الدين، وعلى قاعدة التفاوت في الضرائب والمكوس، وعلى بقايا الإقطاعية بوجه عام - أي بكلمة واحدة: على الامتياز. سوى أن ذوي الامتياز لا يريدون حرية ولا مساواة، لسبب بسيط هو أنهم مكتفون؛ تكفيهم الامتيازات!
لقد أجمع المؤرخون على القول بأنه لم يكن في المجلس الوطني المنعقد سنة 1789، والذي أعطى فرنسا دستورها الجديد، ثوري أو رجل فتنة واحد. إذن فمن هم الذين ثاروا وأضرموا نار الفتنة؟ إن الرجعيين من الطبقات الممتازة، أخذوا يحاربون بكل الوسائل، في داخل وفي خارج النظام الذي استصلحه الشعب الفرنسي، أو ارتضاه لذاته؛ ذلك أن الرجعية لم تؤت صبر الشعب وسعة صدره، فتسلم بأن هذه الأنظمة إصلاحات واجبة لا بد منها، أو على الأقل لا بأس بها؛ فطفق ذوو الامتياز من النبلاء وغيرهم، يهاجرون إلى البلاد الأجنبية، حيث عبئوا جيشا على رأسه ستة آلاف ضابط، من تسعة آلاف هم كل ضباط الجيش الفرنسي، وكان في عدادهم شقيق الملك لويس السادس عشر، وأهله الأدنون. فما الذي يتورع ذوو الامتياز عن اقترافه لحفظ امتيازاتهم، ولدوام استغلالهم، كأن الوطن «حقل » لا شركة لأحد فيه، حتى ولا للكادحين العاملين فيه؟ (يظهر أن ثمة فرقا بين الاشتغال في «الحقول» والاشتغال في «حقل الوطنية»، فكلتاهما مهنة خاصة على حدة، لها أربابها ...)
والآن، ماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة المعقولة الطبيعية أن المجلس الفرنسي اتخذ قرارا عادلا منصفا لأولئك الأشراف الذين أثبتوا - مرة أخرى في تاريخ الأمم - أن لفظة «الشرف» هذه قد تكون، في كل اللغات، من أسماء الأضداد ... وأن الملك لم يوافق على قرار مجلس الأمة، بل أخذ يعمل على استمالة أعضائه وقادة الجيش، بالرشوة وغيرها من الحيل أو الطرق غير المشروعة؛ لحملهم على مناوأة النظام الجديد، وكان في الوقت نفسه يفاوض زملاءه ملوك أوروبا طالبا النجدة. وقد حاول الفرار من باريس عاصمته، فقبض عليه وأرجع بالقوة، ثم سجن وحوكم وأعدم بتهمة ممالأة العدو والتآمر على سلامة الوطن ... زعموا أن ذلك الرجل كان ملكا بإرادة الله. أما الأمر الثابت فهو أن شعبه ضاق به ذرعا!
إن الثورة الفرنسية لم تعلن حقوق الفرنسي وحسب؛ حقوقه السياسية والمدنية، بل أعلنت أيضا حقوق الإنسان. وهكذا كانت الثورة ومبادؤها بشير خير وصلاح للأمم جميعا، حتى ليصح القول إنها ثورة إنسانية عالمية، بقدر ما هي ثورة فرنسية وطنية ... وإلا كانت كل أمة في العالم تترك للفرنسيين مؤنة الاحتفال لثورتهم، ثم تفتش لها عن ثورة أو شبه ثورة خصوصية تتسلى بها، إذا لم يكن بد من الاحتفال.
كانت الثورة الفرنسية بشير خير وصلاح وأمل للأمم جميعا، فلا عجب أن تكون في الوقت نفسه نذير ويل وخطر وخسران، للملوك والأمراء وذوي الامتياز في العالم كله. كذلك لم يلبث هؤلاء الملوك والأمراء وذوو الامتياز حتى تألبوا على الشعب الفرنسي واجتاحوا أرضه، فكانت الملحمة المجيدة التي هب فيها الشعب يذود عن وطنه وعن كرامة الإنسان، صامدا في وجه الرجعية الأوروبية، فضاربا في أقفيتها، فناشرا حيثما حل بذور المبادئ الجديدة، مبادئ الحرية والمساواة والإخاء للأفراد وللأمم على السواء.
لقد انقضى قرن ونصف قرن منذ ذلك العهد، واجتاح العدو الغاصب الأرض الفرنسية، كرة أخرى، وشهدنا في فرنسا ثورة، لكن معكوسة؛ ثورة على الشعب الفرنسي، تريد أن ترجع به القهقري. إن الرجعية حيثما كانت، تلغ في كل إناء، فلا تدع فرصة إلا اغتنمتها، وقد اغتنمت الرجعية الفرنسية، هذه المرة، فرصة هتلر القائل وهو الكاذب: «ليست الديمقراطية سوى أكذوبة.» وغوبلز الصارخ وهو ينبح القمر: «إن عام 1789 سيلغى من التاريخ.» حقا إن الرجعية حريصة على تقاليدها، فهي لم تحد قيد شعرة، عن خطة مهاجري الثورة الذين ائتمروا والأجنبي، ومشوا صفا واحدا في خدمة ملك بروسيا، لمحاربة جيوش الجمهورية الأولى. لكن للشعب الفرنسي، وهو من أعظم شعوب الدنيا ثورية واندفاعا إلى الإصلاح، تقاليده أيضا، وليس يحيد عنها قيد شعرة ساعة الخطر. إن المقاومة الفرنسية، في داخل وفي خارج، تحمل المشعل الوهاج الذي لا ينطفئ؛ مشعل الحرية وحقوق الإنسان والتقدم.
من حقكم الآن، وأنا أهم بالانصراف، أن تسألوني: (ونحن ما شأننا؟ أين مشعل تقدمنا وحريتنا، وحقوق «إنسانيتنا»؟) هذه أيضا أقصوصة من تلك الأقاصيص القديمة الجديدة؛ كالحكومات التي تروح وتجيء، والمؤتمرات التي تنعقد وتنفض، والسياسات التي تتبدل وتبقى هي هي ... كقصص الحيات لا تنتهي إذا لم يوضع لها حد.
من منكم لم ير في ساحات هذه العاصمة البهلوان الذي يزدحم الناس حوله، فيشهدهم من مخاريقه العجب العجاب؟ أنا لست أنسى صنعه بالمشعل، كيف يلوح به في الفضاء فإذا نوره يخطف الأبصار، ثم يبتلعه فإذا لا نور ولا نار! هو مشعبذ محتال، لكن انطفاء النور في فمه حقيقة مشهودة، وواقع راهن. فإذا أردتم أن تعرفوا أين مشعل تقدمكم وحريتكم وحقوقكم، فاطلبوه في حلق السياسة «الممتازة»، اطلبوه ثمة قبل فوات الأوان، فإن حلق السياسة أقرب الطرق إلى جوفها.
يأتي على كل امرئ، وكذلك على كل أمة، حين من الدهر، يجب فيه أن تختار، ولا سيما أن تحسن الاختيار. وأكبر الظن أن اللبنانيين اليوم سيكفون السياسة عناء الاختيار لهم، أو عنهم، أو باسمهم. سيختارون هم بأنفسهم لأنفسهم، ويجربون هكذا حظهم. فلنثبت للملأ أن مبادئ الثورة الفرنسية وما سواها من الحركات التقدمية، ليست فقط في الكتب التي نقرؤها، بل هي أيضا في الحياة التي نحياها.
صديق اللبنانيين، سجين فيشي بضع سنين، من قادة الشعب الفرنسي في مناضلته النازية منذ كانت، وهو في السابقين الأولين.
إن صفة واحدة من هذه الصفات، إن مأثرة واحدة من هذه المآثر، كافية لأن تجعل المرء عندنا جديرا بالتكرمة الخالصة، والحفاوة البالغة، فكيف و«جاك غريزا» قد اجتمعت فيه كل تلك الصفات، كل تلك المآثر؟
على أني لست أضمن أن لا صفات له ولا مآثر، إلا ما ذكرت.
آه! نسيت أن أقول لكم إنه شيوعي أيضا. إنكم ولا ريب ستحتجون بأن «أيضا» هذه هي في غير موضعها هنا؛ بهذا كان يجب أن تبتدئ وبه تنتهي، فعلام التطويل؟!
وسترون عما قليل، كيف يقابل «جاك غريزا» تكرمتنا وحفاوتنا: لقد فهم - ولم يرض بأن يفهم شيئا آخر - أننا نطالبه بحديث مسهب، بمحاضرة عن «مقاومة الشعب الفرنسي وفرنسا الجديدة»: ذلك في نظره هو كل هذا الاحتفال.
وسترون أنه تكلف وحده من الجهد أكثر مما تكلفنا نحن جميعا، فأتى - يا للضيف الكريم! حاملا إلى مضيفيه «الزوادة» الفاخرة، المنشطة، المحيية، رادا التحية بمثلها، بل بخير منها.
إن «جاك غريزا» وصحبه يعرفون كيف يصرفون هذه الحفلات والتظاهرات عن وجوههم إلى وجهاتها؛ الوجهات التي هم يرونها أحق بالتكرمة والحفاوة، إلى الأشياء الباقية والقيم الرفيعة التي لا معنى للحياة بدونها.
إن «جاك غريزا» وصحبه الذين صمدوا في الجحيم النازي أو في «تفرعاته» للتعذيب، للتنكيل، للتقتيل، للإبادة، راسخي القدم، ثابتي الجنان، عالي الجبين، يعرفون كيف يحنون رءوسهم الأبية؛ كي تتجاوزها باقات الزهر التي يرشقون بها، إلى تلك الأشياء الباقية، والقيم الرفيعة التي لا معنى للحياة بدونها: إلى وطنهم، إلى شعبهم، إلى مثلهم الإنساني الأعلى ... ولعل ذلك، والحق يقال، ناشئ عن أنهم تعودوا من الرشق، إلى زمن قريب، غير هذا النوع الزاهر!
لسنا من الذين يتصنعون اليأس من الشعب الفرنسي تصنعا. لسنا من الذين يوطنون أنفسهم على «ضرورة» اليأس من الشعب الفرنسي، أكثر من أي شعب من الشعوب، وكأنهم يريدون أن يخصوه بهذه «المعاملة الممتازة» كي يتفرغوا لهوى أجنبي آخر، لرجاء «متضخم». أجل، لسنا من هؤلاء.
إننا - ولسنا نخشى لومة لائم، ونحن فوق تهمة أي متهم - نرحب بفرنسا الجديدة كما يصورها «جاك غريزا» صديق اللبنانيين، ورفاقه أصدقاء الشعوب.
تلك الصداقة التي نرحب بها، والتي لا محل لسواها، لا في عقولنا ولا في قلوبنا، صداقة الوطن المستقل لوطن مستقل، والشعب الحر لشعب حر، والجماهير العاملة لجماهير عاملة، ليست صداقة فئة هنالك لفئة هنا، هي أحرى بأن تدعى «شركة» أي أن تسمى باسمها.
ذلك الضرب من الصداقة هو الذي أنطق «جاك غريزا»، هنا في بيروت، منذ عام 1938 بهذه الكلمة: «نحن لا نريد استقلال لبنان وحسب. نحن نريد استقلال الشعب اللبناني أيضا.» ولا حاجة بي إلى القول إن استقلال الشعب اللبناني - في رأي «جاك غريزا» وفي رأينا - إنما هو تحرره، تحرر جماهيره، تحررها بكل معنى الكلمة، بمعناها العميق الشامل؛ ذلك هو الاستقلال الأمثل.
والآن، قبل أن يفر «جاك غريزا» من معركة الزهر هذه، ويلجأ إلى محاضرته الحصينة ليؤذن لي أن أحيي في شخصه المناضل، شيوعيي الفرنسيس والعالم أجمع، طليعة جيش التقدم والمساواة والحرية. إن مستقبل الإنسان مدين لهؤلاء.
قلت: مستقبل الإنسان!
منذ عام، وإذا شئتم أن يصح الحساب تماما وجب أن نقول: منذ عام وأسبوع ...
من أين جاء ذلك الأسبوع؟ لقد غاظنا جدا ذلك الأسبوع، غاظنا من كل الوجوه، لكن بوسعنا، وبوسعنا نحن وحدنا، أن نفترض أن ذلك الأسبوع لم يكن، لسبب بسيط هو أنه لا محل له من الإعراب؛ فلولا ذلك الأسبوع، ما كنا اليوم في السابع من أيار، لولاه كنا حيث ينبغي أن نكون، أي في الأول من أيار، نحتفل في الموعد المضروب لعيد العمل والعمال.
لقد أردتم بملء إرادتكم، بمحض اختياركم، أن يؤخر الاحتفال؛ ضنا بهذا العيد المجيد أن تشوبه أية شائبة، أيا كان مصدرها، وأيا يكون مصيرها. إن كثيرا من الأعياد لا تنتظر، يجب أن يحتفل لها في وقتها، وإلا لم يبق لها موضع أو موضوع. أما عيد العمل والعمال، أول أيار، فهو يعرف أن ينتظر، إنه تعود الصبر الطويل، إنه كقضية العمل والعمال نفسها، يعرف أن ينتظر، ويعرف أن ينتصر.
إذن لقد انقضى عام، منذ اجتمعنا في هذا المكان لهذه المناسبة، عام ضخم سمين حافل بأحداث لها ما بعدها، نكاد من أجلها نغتفر له الذيل الذي ألحق به إلحاقا، أو ألصق إلصاقا، ونكاد نضرب صفحا عن التأخير في موعد عيدنا.
في ذلك العام السعيد، طرد الجيش الأحمر من الأراضي السوفييتية، الوحش النازي، وهو الآن رافع يده الجبارة لينزل به الضربة القاضية. وهكذا أعطى الاتحاد السوفييتي البرهان على أن قضية الحق والحرية في العالم بأسره، تمشي بخطى سريعة، بخطى محتمة، إلى النصر المبين، إلى النصر المحتوم. لقد أعطى الاتحاد السوفيياتي على ذلك آخر برهان، لآخر المشككين.
وفي هذا العام السعيد أيضا تمكن الشعب اللبناني من ممارسة شطر كبير من خصائص استقلاله وسيادته القومية، التي ظل محروما منها خلال قرون متطاولة. وهو يسير قدما نحو استكمال سيادته واستقلاله، محمولا على جناحي تلك الروح الجديدة التي تتجلي رغم كل شيء، رغم كل الأشياء التي لا يعتد بها، في إرادة اللبنانيين الواعين المخلصين، على اختلاف طوائفهم وأجناسهم، أن يعيشوا معا أبناء شعب واحد حر، في وطن واحد سعيد. ونحن على يقين من أن هذه الروح ستبقى متجلية في جهود اللبنانيين المتوافرة، لحفظ كيانهم الوطني وتعزيز كرامتهم القومية، كما أننا على يقين من أن هذه الروح الخيرة تتجلى بأروع مظاهرها وأنبلها وأبقاها، في العمال ومنظماتهم الرشيدة.
لقد أنقذ العمال الحرية في العالم، فليس بدعا أن ينتظر منهم أن يحفظوا الحرية في لبنان. ليس أول أيار عيد العمال وحسب، فهو أيضا عرس الحرية، وإنما هو عرس الحرية لأنه عيد العمال.
الفصل الثاني
... وذاك - أيها السادة - صاحب الذكرى، كما ترون؛ لم تسر به الحياة على خط واحد؛ بل على خطوط عدة، متوازية تارة، متقاطعة تارة أخرى، تتناوب قصرا وطولا، شطر غاياتها، كمد البحر وجزره، وفق ملابسة الدنيا ومناسبة الزمن. وإنه لمن سعد الطالع أن الوجود لم يتغن به، كما يصنع بالخلق عادة، على الوتيرة الواحدة - من سعد المنشد والسامعيه على السواء. لكن التلخيص والتبسيط قد يصوران تلك السيرة، مجردة من الملابسة الدنيوية، والمناسبة الزمنية، تدور على محوريها من القول والعمل، من جودة القول وصلاح العمل.
قال الشعر بالفصحى سالكا الجدد، وهواه في العامية، ابنتها الحسناء غير الشرعية. عمل في الإدارة «النظامية» لكن حنينه إلى هامشها؛ النضال حتى التمرد. وإنه لمما يشغل الذهن حقا، هذا الاتصال البعيد الغور، الأصيل عند الشعراء، بين عبقرية القول وعبقرية العمل. فالمتنبي مات على إيمان بأنه حرم كل شيء لأنه لم يعط ولاية، ورنبو دفن ذاته، تاجرا مغامرا، في أنكد عيش. ناهيك بأبي نواس، ذلك الماجن الذي يتوعد في بعض شعره البصري جادا، بأن «سيبغي الغنى، إما جليس خليفة، أو مخيف سبيل.
بكل فتى لا يستطار جنانه
إذا نوه الزحفان باسم قتيل
لنخمس مال الله من كل فاجر
أخي بطنة للطيبات أكول»
فكأني بالشعراء يعييهم الخلق بالكلمة، في دنيا الصور والفكر، فيلوذون بدنيانا، ليضعوا طابعهم في طينتها المجبولة بعرق البشر ودمهم، وهكذا يهبطون من حالق، فيثأرون من أنفسهم؛ إذ يحسبون أنهم يثأرون لها، فيا للفجيعة!
على أن صاحب هذه الذكرى وفق أخيرا، إلى التوفيق بين القول الجيد والعمل والصالح، في ذلك المزيج الفذ «كلنا للوطن». فالنشيد اللبناني، ككل نشيد وطني يحيا في الجماهير، هو كلام متجدد الروعة، وفعال باقي الأثر.
كنت أفكر في الكتاب العربي. أقول: الكتاب العربي، وأعني: اللغة العربية، لكن ليس بوصفها أداة للعبارة عن إدراك الإنسان وتصوره وإحساسه، شأن سائر اللغات - أداة وحسب - بل أيضا بما حملته تلك الأداة، قديما وحديثا، من روائع المنظوم والمنثور، في كل فن، ومن كل لون. ولا حاجة بي إلى القول إن تفكيري هذا لم يكن تفكير كاتب من الكتاب، بل تفكير قارئ من القارئين.
وكنت في الوقت نفسه أستعرض، عن غير قصد ولا روية، بسرعة البرق الخاطف، صورا ناصعة وباهتة من حياتي، في مختلف أطوارها وبيئاتها المادية والمعنوية؛ فانتهيت - ولست أجد في ذلك غرابة ولا غضاضة - إلى هذه النتيجة البسيطة المركبة على السواء، وهي أني، بعد كل حساب، مدين للكتاب العربي بأرغد شطر من عمري.
لقد عرفت، كأي من خلق الله - من غمار الناس، فلا محل للتواضع الكاذب - حالات لذة وبهجة وهناء، مما تيسره لنا، أو تغدقه علينا، هذه الحياة الدنيا. لكن ما أعطانيه الكتاب العربي هو أبعد غورا وألصق بسويدائي، وأكثر شمولا وأبقى على الأيام، وأصفى جوهرا وأسمى من كل ما عداه. وليس في هذا الحكم إجحاف بأي حق، ولا نكران لأي جميل. كذلك أدخلت في الحساب، ومنذ البداية، قضية «السن» أيضا، سوى أني لا أعرف في حياتنا من المباهج والملاذ ما ليس يمازجه أو يعقبه كثمالة الكأس، شيء من الخيبة أو الندم أو القلق، خلا مباهج الكتاب وملاذه؛ الكتاب الجيد الذي تقرؤه أكثر من مرة، فكل مرة يزيدك لذة وابتهاجا.
كنت أفكر في الكتاب العربي، في متعته الباقية وجوهره الصافي، لما جائني نعي شيخنا الغلاييني - رحمه الله. لا أريد أن استبق الحوادث، فأذكر علامة بيروت وفقيد اللغة العربية، بما هو أهله، قبل أن تقام لإحياء ذكراه وتكريمها حفلة أو حفلات يتبارى فيها الشعراء والخطباء. لا، لكن هذا الكتاب العربي الذي كنت أفكر فيه، ليس يفترق في ذهني - وفي ذهني خاصة - عن صورة للغلاييني وهو فتى. هو في أول عهده بالتدريس، وأنا في أول عهدي بالدراسة؛ يعلمنا العربية فيجيد تعليمنا، ويؤدبنا بها فيحسن تأديبنا، بكل ما أوتيه من معرفة وإيمان. إني - وكثير أمثالي في هذا البلد - مدين للشيخ مصطفى الغلاييني، بأفضل ما عندي من معرفة وإيمان بلغة الضاد، ومدين له بما قد يكون خيرا من هذا كله؛ مدين له بالانطباع الأول، بالدفعة الأولى. وإن أنس لا أنس كيف كان - رحمه الله - يعلمنا العربية وقواعدها، في مؤلفاته وهي بعد مخطوطة، في حيز التأليف، قبل أن تصير «سلسلة الدروس العربية» المطبوعة والمتداولة في أيدي الألوف من الطلاب، في جميع الأقطار، فكأننا كنا نحضر مولد تلك الكتب النافعة، أو كأن لنا في وضعها حظا.
منذ نحو ثلاثة أعوام، نظمت ورزارة التربية والفنون الجميلة، سلسلة محاضرات أذيعت من محطة بيروت، في موضوع «الثقافة ومظاهرها المختلفة في لبنان»، وقد طلب يومذاك إلى فقيدنا الكبير أن يحدث المستمعين عن اللغة العربية ونصيب لبنان منها، فألقى - رحمه الله - محاضرة قيمة لا يزال أثرها في نفوس الكثيرين ممن سمعوها أو قرءوا نصها. في تلك المحاضرة أتى الغلاييني على تعداد عشرات الأسماء لأعلام اللبنانيين الذين كان لهم في تدريس العربية ونشر آدابها أوفر نصيب، مبتدئا بالشيخين محمد الحوت وناصيف اليازجي، ومنتهيا بالمعلمين جبر ضومط وأحمد عباس الأزهري. وهذه اليوم في تاج العربية الذي يزين مفرق لبنان، جوهرة جديدة فريدة. رحم الله أستاذنا الغلاييني بقدر ما أشرب قلوبنا من محبة للكتاب العربي.
لخمسة عشر عاما خلت، كنت أزاول المحاماة على طريقة خاصة؛ أعني: أتمرس بها كتمرس أبي الطيب المتنبي بالآفات، لا المحاماة تنقاد إلي صاغرة، ولا أنا أبش لها متزلفا، فكنت أدعو الله سرا وعلانية أن يصرفها عني بالتي هي أحسن؛ كي لا يكون من ذلك علي حجة، ولا سيما عند الذين لا شأن لهم معي، وهكذا الناس.
في ذلك الوقت العصيب أغارت مجلة «الكشاف» بخيلها ورجلها، وبين بكرة وضحاها احتلت مكتبي، كأنما ألهمت أن تملأ فراغه، مخافة أن يطير. وإذا قلت: «بخيلها ورجلها» فقد أسميت - لا أكثر ولا أقل - بهاء الدين الطباع مدير تلك المجلة، الذي كان والحمد لله، بمختلف حركاته وجميع أصواته، جيشا وحده. لكن لم يكن لهذا الجيش اللجب من العتاد، سوى قلب صادق شجاع، وهو على ما يظهر دون الكفاية.
وكان أمين الريحاني يعطف على الكشفية، وكان هذا العطف يتجلى في أجمل صوره؛ مقالة يمد بها مجلتهم «الكشاف» كل شهر أو شهرين، لا يكاد ينقطع مدده، ولا حاجة إلى القول إن خير ما في أجزاء تلك المجلة، كان فصولا للريحاني من كتابه القيم «تاريخ نجد الحديث» قبل طبعه، بذلها بسخاء وأريحية لم أعرف لهما مثيلا عند كبار مؤلفينا. لكن ظللت زمنا نفسي تحدثني وهي فخور، بأنه إنما يفعل هذا إكراما لي، ثم لم ألبث حتى علمت أنه سخاء في الطبع وأريحية في الفطرة، شاء الريحاني أن يؤثر بهما «القلب الصادق الشجاع» عسى أن يثبت للملأ أن هذا وحده، رغم كل شيء، قد يكفي أحيانا. وأصبحت مجلة «الكشاف» ولها أمين الريحاني - ليس لها إلاه - وكفى!
الآن، وكأن ذلك العمر البعيد القريب سفينة عصفت بها أهواء وأنواء لا أدري أيهما كان أشد هولا، وقد تحطمت السفينة وضاعت حمولتها بين سمع الزمان وبصره، تعود بي الذكرى الأمينة إلى الحقبة السعيدة، هنيهات أنا منها في واحة المسافر بلغ منه الظمأ والعياء. في هذه الواحة لا أفتأ أتمثل الريحاني، كلما قدم بيروت من صومعته في الفريكة، مقبلا علينا بوجهه الطلق، فلا يستقر به المجلس حتى يسأل متلهفا: «كيف المجلة؟» ثم يلتف إلى الطباع قائلا بلهجة المعتذر: «وبهاء؟ كيف صحته؟» وترن في أنحاء الغرفة الضيقة، ضحكة بريئة لا تحفظ فيها ولا إسفاف، عادلة بين السخر الطاري، والوداد المقيم. أما بهاء الدين فيكون مشغولا عن الجواب بانتظار المدد الذي يأتيه، أغلب الأحيان، في صورة مقالة، أو فصل من كتاب لم يطبع، أو بعض فصل.
فمن تراث ذلك الزمن الرغد الذي تجده الذكرى اليوم، حتى كأني لم أبارحه قيد لحظة أو شبر؛ وريقات معدودات بخط الريحاني، لست أدري كيف ولماذا حفظتها، منذ نشرت في أحد أجزاء «الكشاف» سنة 1928، وها هي، بعد أن لبثت في درجي أعواما كالأسماء المنسية المطوية في غيابة الذاكرة، تنبعث فجأة وتطفو كحطام السفينة الغريقة بين السماء والماء؛ صحائف خطها قلم الريحاني، واضحة مثل نفسه، مستقيمة استقامة تفكيره، بذلك الخط المعروف المألوف لدى أرباب الصحف في العالمين القديم والجديد؛ خط وسط بين التربيع والتدوير. وهنا، على زوايا الوريقات الثمينة، لطخ أسود من بصمات مرتب الحروف الذي قرأها - ولا بد - متهجئا، فأنا أيضا ما زلت أقرأ هذه الصحائف بضرب من التهجئة الذهنية، لست أخرم من معانيها ومقاصدها معنى أو مقصدا، فلا أزداد إلا إعجابا بها. ثم تغلبني الذكرى، وترجع بي القهقرى، حتى إذا اكتنفني ذلك الماضي، علمت علم اليقين أني ما ادخرتها يومذاك، إلا لهذا الإعجاب الذي يعاودني الساعة، ممزوجا بالحنين.
تلك الصحائف مقالة عنوانها «في ربيع اليأس» هي عندي من أروع ما كتبه الريحاني، وأبقاه على وجه الأيام، حكى فيها حكاية نفسه، مهملا الفضول، نابذا القشور التي تلازم حياة أي إنسان مهما يكن عظيما، ولا سيما إذا كان عظيما. ترجمة حال بقلم صاحبها، متبلورة، صافية كالذهب الإبريز، بل لوحة رسم عليها المصور البارع خطوط آرائه في المجتمع والسياسة والدين، في المبدأ والمصير وما بينهما، وسط هالة من الذكريات الخاصة تنبض إحساسا، وتفيض قوة إيحاء. في هذه المقالة «فتح الريحاني - كما يقول - كتاب النفس، ليطلع قارئه العزيز على صفحة من صفحاته الشخصية الخصوصية». وهو كتاب لم يكن الريحاني، بوازع من الأنفة الحيية، ليفتحه إلا في النادر القليل، ولقد يخيل إلي حينا أنه إنما أنشأ هذا المقال الفذ خلال أزمة نفسانية لم نعرف مداها، انتقل فيها من شتاء اليأس إلى ربيعه، لكنه لم يخرج من اليأس، تتغير الفصول وتبقى الدنيا كما هي. وكان عزاء الريحاني في تلك الأزمة النفسانية أن «ليأسه - كما يقول - سلما لولبيا من الأشواق والآمال، وأنه وهو المقيم في وادي الفريكة، في هذا الزمان، زهرة من يأس الأنبياء؛ زهرة نورت، فذوت، فتناثرت أوراقها، ثم انتثرت من قلبها بذور الحياة، فحملتها الرياح إلى النواحي الأربع من الأرض».
لا أعرف من ترجم للريحاني بأصدق من هذا الكلام.
في الأدب العربي الحديث ما يصح أن نسميه «المدرسة الأمريكية»، ولعل هذه المدرسة، في اختلاط المحاولات وفوضى التيارات، أبرز مدارسنا الأدبية الجديدة خصائص، وأوضحها مميزات؛ سواء أمن ناحية التفكير، أم من ناحية التعبير. كادت هذه المدرسة، في الأدب العربي الحديث، تكون كالجزيرة الحائرة، تبحث في عرض الأوقيانوس عن ساحل تستقر فيه وتلتصق به، وهي في الأدب العربي على إطلاقه - قديمه والجديد - أشد حيرة وأنأى غربة، فكأن لم يكن من هم أصحاب هذه المدرسة، ولا سيما في نشأتها الأولى، إلا أن يأووا من الأدب في أرض عذراء بور، لا حائط ولا شجر؛ كي يزرعوا هم، ويرفعوا الجدران. وقديما اتهموا الشعب الأمريكي نفسه بحداثة العهد في الآداب والفنون وسائر أسباب الثقافة، فزعموا أن لا ماضي له، أي لا تقاليد. لقد اتسم الأدب الغربي في المهجر، بهذه السمة ذاتها، لا أكثر ولا أقل، وهي أحق أن تطلق عليه من صفة «الثورة» التي ادعاها، أو نحلوه إياها.
يقول «ريمي دي غورمون»: «كل تبديل يطرأ على أدب أمة من الأمم، فلا بد أن يكون ناشئا عن علة خارجية» أو أجنبية. فالأقرب إلى الصواب أن يعزى التبديل الذي طرأ على أدبنا العربي، بتأثير أصحاب المدرسة الأمريكية، إلى هذا الضرب من العوامل، وهو في ألوان الشعور وطرائق التفكير، أظهر منه وأبقى في أساليب الإنشاء وأنماط التعبير. وإذا كان أدب المهجر كوة أطل منها الأدب العربي على الدنيا الجديدة، فإن أصحابه قد جاءوا الأدب العربي من خارج.
انتهى الريحاني من وضع أول مؤلفاته «المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية» في 11 تموز سنة 1901. ويقول في مذكرات ذلك اليوم القصي: «ولكن سوف لا أطبعها قبل أن أصير قادرا على تصليح لغتها بنفسي ...»
على أن البند الأول في برنامجه عهدذاك هو أن يتعلم اللغة العربية وقواعدها في «بحث المطالب». منذ ذلك العهد ألف الريحاني في العربية أكثر من ثلاثين كتابا، في مواضيع شتى وبأساليب مختلفة، وكان يوفق إلى إفراغ كل موضوع في أفضل أساليبه. لقد تطور إنشاؤه خلال هذه الأربعين عاما التي حفلت بالدأب المتواصل والإنتاج المنتظم، تطورا عجيبا، كان أبلغ الأثر فيه - على ما نرجح - لرحلاته العديدة في الأقطار العربية؛ إذ أصبح فيما يكتبه، متوجها نحو أكبر عدد ممكن من الناطقين بالضاد؛ فازداد ترسله دقة وسلاسة ونبض حياة بكل معنى الكلمة، لكن أمين الريحاني لم يقطع صلته بالماضي تماما، بماضيه هو، بين رفاق النشأة الأولى في «مدرسة» المهجر، وبقي طوال عمره الكوة المفتوحة بين الشرق والغرب، يدخل منها النور وتلعب الريح.
أشياء كثيرة تذكرنا هذه الأيام بأمين الريحاني، شتى لكن غير متنافرة، حتى ولا متعارضة، بل بالضد، أولها الصدام الضخم الذي يشهده العالم - ويشهد نهايته - بين قوى التقدم والرجعية، لإنشاء مجتمع جديد يتمتع فيه الأفراد والشعوب بأكثر ما يمكن من اليسر والحرية، وقد كان أول كتاب أصدره الريحاني بالعربية عام 1903 «موجز تاريخ الثورة الفرنسية»، ثم استمر بقية عمره يناضل من أجل المبادئ التي أعلنتها الثورة الكبرى. وثانيها مشي الشعب اللبناني قدما نحو استكمال شروط السيادة والحياة الاستقلالية، وقد كان الريحاني من أنشط العاملين، بقلمه ولسانه، في الحقل الوطني، يلمس أثر ذلك في كل ما كتبه وأذاعه. وثالثها مشاورات التعاون العربي الذي كان الريحاني من أصدق الداعين إليه، والساعين له، عن الطريق المثلى، طريق التعارف بين مختلف الأقطار العربية، يعرف العرب بأنفسهم، ويعرف بعضهم إلى بعض، في مؤلفات قيمة ممتعة، من «ملوك العرب» إلى «قلب لبنان» آخر كتاب له لم يتمه. وأخيرا هذا المهرجان الألفي لمولد أبي العلاء الذي كان الريحاني سباقا إلى نظم مختارات من شعره في ترجمة إنكليزية جيدة، ينتقل القارئ الغربي بها إلى جو «اللزوميات»، وكانت هذه الترجمة أول مؤلفاته بالإنكليزية سنة 1903.
إن أمين الريحاني توفي في الثالث عشر من أيلول سنة 1940، وقد كنت ونفرا من إخواني، تعودنا أن نقول، في مثل ذلك اليوم من كل عام، كلمات نعرض فيها لنواح من هذا الذهن الفريد الذي لو أتيح له أن يعيش سنين معدودات، زيادة عما قدر له، لرأى بعيني رأسه تحقيق تلك الأشياء العزيزة عليه، والتي كانت بعض أمانيه الغالية. على أنه بوسعنا القول إن أمين الريحاني لم يكن غائبا، لا عن مشاورات التعاون، ولا عن العيد الألفي، فضلا عن المراحل التي يجتازها لبنان نحو التمرس بحكمه الوطني الديمقراطي الصحيح.
ليس الريحاني بغائب تماما؛ فما أكثر ما اقتبسته الصحف هذه الأيام من مؤلفاته النفيسة عن الأقطار العربية، حتى كأن هذه المؤلفات مرجعها الوحيد. ولنعم الرأي ارتآه شقيق الريحاني ألبرت؛ إذ أصدر في أيلول من هذا العام، طبعة رابعة من ترجمة «اللزوميات» الإنكليزية، مساهمة في إحياء ذكرى المعري. فإذا كان أمين الريحاني لم يفته، برغم الموت، تكريم شاعره العربي المختار، فلن يفوتنا نحن الأحياء تذكير الناسين من بني قومنا، هذه السنة أيضا، بأن الريحاني في أسفاره - بالمعنيين - كان طليعة التعاون العربي الذي تلهج به الألسنة، وتعقد له المؤتمرات. كما أن الريحاني، بسبقه إلى نظم طرائف من آراء المعري وصوره بالإنكليزية، منذ أربعين عاما ونيف، كان خير أنموذج لذلك الإشعاع اللبناني الذي يتجلى في مظاهر متنوعة، ليست الكتابة نثرا وشعرا باللغات الأجنبية أضعفها شأنا، ولا أقلها جدوى. إن اللبناني إنسان مولع بالتغرب، تغريه به عوامل عارضة وأصيلة؛ التغرب مادة ومعنى، بالجسد والروح، للأخذ والعطاء. هكذا كانت حياة الريحاني رحلتين اثنتين؛ رحلة إلى الشرق ورحلة إلى الغرب، وتبقى الفريكة مرفأه الأمين، وحصنه الحصين. كاد الريحاني، في سيرته وفي كتابته، أن يكون رمزا.
الفصل الثالث
كنت ذات يوم، اجتاز ببعض الشوارع، لا ألوي على شيء. لم يكن من همي، في تلك الساعة، إلا أن أسرع إلى الترام، فآخذه قبل زحمة الغروب. إذا بعبارة تصك سمعي كالمفاجآت الغريبة، قيلت بما يشبه الهمس، لكنها «سلطنت» على ذلك المزيج الضخم من أصوات، الذي يسمونه ضجة المدينة. سمعت قائلا يقول: «لا ... بعد الاستقلال.» وكانت اللهجة التي قيلت بها هذه العباة لا تخدع، تدل على أن قائلها يريد أن يؤرخ أمرا من الأمور، حادثا من الحوادث، أي أن يضعه في موضعه من الزمان، فهو لا يذكر اليوم ولا الشهر ولا العام، كما جرت العادة، لكن يؤكد أن الحادث كان «بعد الاستقلال»، وبالطبع لقد التفت ورائي كي أنظر إلى «مصدر» هذا التاريخ الجديد الذي جاء ينافس الطوفان والميلاد والهجرة، في الحفظ البشري؛ فرأيت رجلين مثلنا، مثل كل الناس، يتحاوران في شأن من شئونهما اليومية، وقد اختلفا على الزمن ليس غير، ولعل أحدهما - وياللأسف! كان يطالب الآخر بدين، قائلا له: «لقد مطلت وأطلت ...» فيجيبه الآخر معتذرا: «لا ... ذلك كان بعد الاستقلال.»
ليس من قصدنا هنا أن نفصل في هذا الخلاف بين هذين المتجادلين على رصيف الشارع؛ الدائن والمدين. إن الدائن ملحاح يحاول إقناع صاحبه بأن استقلالنا عجوز؛ لأنه بلغ من العمر بضعة أشهر (وهو عمر الكمبيالات الطبيعي)، وأما المدين فمتقاعس، يحاول إيهامنا بأن ذلك الاستقلال هو ابن اليوم، أو على الأكثر ابن الأمس؛ لأن حياة الأمم لا تقاس بما يقاس به عمر الأفراد، وهلم جرا وهلم جرا ... ليس من قصدنا الفصل في هذا الخلاف الذي قد يهم وقد لا يهم، حسب وجهات النظر، كما هو شأن الدائن الملحاح والمدين المتقاعس، شأنهما على السواء، وشأن كل طالب وكل مطلوب، لكن ما لا خلاف فيه هو أن هذا النبأ «الاستقلال اللبناني» قد أحدث في الأذهان، ولا سيما أذهان العامة، أثرا بليغا، حتى صاروا يؤرخون به شئونهم اليومية. وأكبر الظن أن السبب الأساسي في هذه النتيجة هو أنهم ساهموا في «الاستقلال» مساهمة ذات وزن، اشتركوا فيه اشتراكا فعليا، كانوا إلى حد ما مادته الحية، فالاستقلال البناني، هذه المرة، لم يكن حدثا غريبا عن اللبنانيين، يقرر فقط في الأوساط العليا والدواوين، أو يثبت في العهود والقراطيس. لا، لقد كان أيضا وبالدرجة الأولى صنع الشعب اللبناني، صنع روحه ودمه، وليس هذا بالأمر التافه أو اليسير.
سوى أنه بقي شيء؛ بقي أن لا تبعد الشقة بين العهد الاستقلالي والشعب اللبناني، أن لا تنقطع الصلة بينهما، بقي أن يستمر هذا الشعب على رجائه في أن يكون هذا العهد له حقا وصدقا، وليس لأفراد منه ولا لفئات. ومتى قلنا: «العهد الاستقلالي»، فقد قلنا: «الوطن اللبناني» الذي يريده أبناؤه حرا سعيدا، بهم جميعا ولهم جميعا؛ كي يؤرخوا دائما شئونهم اليومية بيوم من أيام السعد.
بوسعنا القول إن لبنان، خلال فترة ما بين الحربين، لم يتمرس بسوى تجربة واحدة، لم يعرف سوى عهد سياسي واحد. ولا ننس أن تلك الفترة دامت نحوا من ربع قرن، وليس ذلك في زمننا المجد السريع، بالبرهة القصيرة.
نحن لا نزعم أن الشعب اللبناني لم يكن، طوال هذه المدة المديدة، منطويا على أية رغبة ملحة أو فاترة، في أن يستبدل بتجربته تلك غيرها، أو في تخطي ذلك العهد السياسي إلى غيره، إلى ما هو خير منه، لكن الواقع أنه لم تبدر منه أية حركة رفيقة أو عنيفة، صائبة أو طائشة، تستهدف التغيير والتبديل؛ حتى لقد كان يخيل إلى الناظر أن لبنان جامد، بينما الأرض تدور، أو هو على الأقل واقف، بينما الأقطار المجاورة تحرك أرجلها تحفزا للمسير، بل أخذت تسير.
ترى، هل غلب على ظن لبنان الذي أطلع، قبيل الحرب العظمى الماضية وفي أثنائها، نفرا كانوا بلا مراء في مقدمة ذلك الجيش الباسل النبيل، جيش الدعاة إلى التحرر القومي، والمجاهدين في سبيل الاستقلال الوطني؟ ترى، هل غلب على ظن لبنان أنه قد بلغ أخيرا الغاية، فاستراح؟
لا نظن ذلك، بل كل شيء ينطق بعكسه؛ فإن ما أوتيه الشعب اللبناني من أصالة التهذيب وشيوع الثقافة، ومن النضج الاجتماعي والوعي السياسي، كفيل بأن يدفع تلك التهمة؛ تهمة النوم. وأي نوم؟ على أكاليل من غار مستعار، ومستعار بالمعنيين. لقد سنحت للشعب اللبناني فرصة سعيدة مؤاتية، فأثبت أن جميع تلك المؤهلات فيه لم تذهب - ولا يصح أن تذهب - باطلا؛ المؤهلات للتمرس بتجربة سياسية جديدة، في هذا العهد الاستقلالي الذي نحن الآن فيه. لم يذهب باطلا ولا يصح أن يذهب باطلا، أن لبنان بقي عصرا وبعض عصر، في طليعة الأقطار العربية، نهضة علمية وأدبية واجتماعية، وفي الطليعة أيضا حركة «تحررية» بمعناها العام الشامل. لم يذهب باطلا، ولا يصح أن يذهب باطلا، ذلك الإشعاع اللبناني الذي ينتظم بالهجرة، فبالإقامة، ثم بالنبوغ، الجهات الأربع من الأرض.
ونحن إذ نقول هذا، لا نقوله - يشهد الله - تبجحا أو تزيدا، بل ولا تلذذا بالنبأ المفرح الذي يحلو بالاستعادة، إنما نقوله كي نتأول لأنفسنا كيف أن لبنان، وفيه تلك المؤهلات الأصيلة القيمة، ومنه ذلك الإشعاع المتصل المتعدد، ظل في سنيه العشرين الأخيرة، بينما كانت الدنيا تدور، والأقطار المجاورة تسير؛ ظل واقفا على «سياسته» وقوف شاعر على الأطلال.
سوى أننا لسنا بحاجة إلى إطالة فكر أو روية، كي نعزو ذلك جميعه إلى سببه الواحد المباشر، وهو أن لبنان كان خلال الفترة الخرساء - ولنسم الأشياء بأسمائها - منقسما على ذاته، وكان كل من جزئيه الاثنين يشعر نحو الآخر ببعض الحذر وبكثير من الوحشة، وإنما على صعيد الوطنية الصرف، يبطل الحذر وتزول الوحشة، «وقد يجمع الله شتيتين ...»
تجوس الأحاديث هذه الأيام، خلال الحركة العربية ماضيها أو حاضرها، ولا سيما ماضيها. إن «الحركة العربية» تسمية عامة مطلقة يكتنفها شيء من الغموض، كسائر التسميات التي تدمغ بها التطورات السياسية القومية، قبل أن تعين حدودها ومعالمها، أو تبلغ مداها الأخير الذي تستقر فيه إلى حين، لكن مهما يكن من أمر، فثمة شيء ثابت بين، لا خلاف فيه، ولا إبهام حوله، هو النشاط الفكري والسياسي الذي استهدف في سياق تاريخنا الحديث - ولا يزال - بالدرجة الأولى: استقلال الأقطار العربية، وبالتالي توثيق الروابط على أنواعها، بين هذه الأقطار.
وبديهي أن النقاش لم يتناول هذا الموضوع الجليل، إلا لعلاقته المباشرة بما تعاقب من مفاوضات في الأشهر الأخيرة بين أقطاب السياسة العربية في جانب، وبين رفعة مصطفى النحاس باشا في الجانب الآخر. وأقرب هذه المفاوضات عهدا، وأمسها بنا في الوقت نفسه صلة، مفاوضات البعثة اللبنانية الكريمة.
لقد درجت الصحف المصرية، والبلاغات الرسمية أحيانا، على التعبير عن تلك المفواضات بلفظ «المشاورات»، فهم يقولون: مشاروات الوحدة أو الاتحاد أو التعاون وهلم جرا ... ولما كانت القضية العربية متقدمة على كل هذه التعابير، فلا يفسر استعمال لفظ «المشاورة» هنا إلا بأن رئيس الحكومة المصرية (السابق) هو الذي ابتده؛ بل وهو الأصح «استأنف» تلك المفاوضات العربية؛ إذ طفق يقوم بها على التوالي مع رجال الحكم أو ممثلين لهم من سائر الأقطار. وعلى كل، فإنه لمما يسترعي الانتباه والتقدير، أن تصبح مصر قطب الرحى في هذه المفاوضات، برغم عدم سبق الشقيقة الكبرى إلى اعتناق مذهب القومية العربية والدعوة له. على أن هذا لم يكن سوى نتيجة طبيعية لبضعة عوامل، لعل على رأسها أن الحركة الوطنية في مصر، بحكم وضعها السياسي وظروفها الخاصة، قد لبثت زمنا وهي تستند في شخص أحد قادتها أو روادها؛ مصطفى كامل باشا (مثلا)، إلى ارتباطها بالسلطنة العثمانية (في الوقت نفسه دار الخلافة أو الإمامة العظمى)، أو على الأقل تحتج بهذه الرابطة، بينما كانت الأقطار العربية الخاضعة عهدذاك لتلك السلطنة تعاني من جراء تلك الرابطة بعينها ضروبا من الاضطهاد القومي، دفعتها دفعا عنيفا في سبيل المطالبة بحقوقها المشروعة، كأقوام متميزة بخصائص، متفردة بمصالح، ثم إلى محاولة الانفصال عن ذلك الجسم «الخليط»، في كيان سياسي خاص يستقل بإدارة شئونه، وحكومة ذاته. ولقد أتى زمن لم يكن ينظر فيه بعين الرضى أو الارتياح في مصر إلى «حركة» الملك الشريف حسين «العربية» لعلة خروجه على الخليفة العثماني، كما أنه لم يكن يتردد على الألسنة والأقلام، من التعابير الدالة على التكتل، سوى «الجامعة الإسلامية» في الكثير الغالب، و«الرابطة الشرقية» في بعض المناسبات. لكن ليس في وسع أحد نكران ما تنطوي عليه جميع تلك المظاهر، من نزعة استقلالية مصرية.
وهكذا فلا يعد من قبيل التبجح قولنا الآن، إن السوريين واللبنانيين، سواء أفي مواطنهم أم في مهاجرهم، وسواء أفي الحقل النظري أم في المضمار العملي؛ كانوا إلى عهد غير بعيد، طليعة العاملين على صب الحركة الوطنية الاستقلالية في البلاد العربية، في بوتقة «القومية الصرف» التي لا غبار عليها من التفرقة الدينية، أو الصبغة الإقليمية. ليس في قولنا أثر للتبجح، فذاك حادث تاريخي - طبيعي - حتمته ظروفنا الخاصة ووضعنا السياسي والاجتماعي، في داخل البلاد وخارجها، لكنه على كل حال مما يحمل على الابتهاج، ويبعث على التفائل؛ لأن التكتل في العالم إنما يستوحي في تطوره الأخير، هذه المبادئ، ويمشي إلى هذه الغايات؛ إن عالم الغد سيكون عالم القوميات الحرة المتضامنة.
ليس من الضروري أن يتفلسف أحدنا، أو أن يتعرض لتهمة «التفلسف»، بل ليس من الضروري أن يكون على رأي من الآراء، أو مذهب من المذاهب في التاريخ والاجتماع، كي يدعي بأن للعامل الاقتصادي شأنا أساسيا في حياة الأفراد والجماعات، يتناول جميع مظاهر حياتهم ومقوماتها. إن أهمية هذا العامل صارت من البروز والوضوح والشمول بحيث يكفي «العقل العصري السليم» أن ينظر ويفكر فيما حوله، فيما هو فيه، حتى يذعن لحقيقة أو لضرورة تفرض كل هنيهة نفسها، ويذكر كل شيء بها، في الدائرة الأوسع فالأوسع، فإذا نحن أخيرا محشورون في تلك الدائرة العالمية الكبرى، أو الشبكة المتكاثرة خطوطا، المتداخلة المتعاسكة إلى أقصى حد. ولقد كان هذا الشرق الأدنى والأوسط - وبوسعنا أن نسميه الشرق العربي - يؤلف في ماضيه السحيق والقريب على السواء (وفي حاضره أيضا) جزءا من الأجزاء «الممتازة» بتعقدها في الشبكة العالمية الكثيفة، تتعدد فيه الخطوط، متداخلة متعاكسة، وأكبر الظن أنه سيبقى كذلك حتى يقضي الله أمره. فنحن لسنا على مفترق الطرق، طرق النزهة والاصطياف، أو الزيارات الدينية والأثرية، بقدر ما نحن عند مصطدم المرافق والمصالح الدولية الاقتصادية العظمى.
ومن المؤرخين الذين يؤمنون بخطر العامل الاقتصادي، بأهميته الأساسية في أحداث التاريخ الجسام، حتى هذه التي لا تمت في ظاهرها إلى الشئون أو العوامل «المادية» بسبب - لا تمت إليها في الظاهر فقط - من أولئك المؤرخين نفر كانوا يطلقون على الشرق الأدنى والأوسط، هذا الاسم الشعري: «الهلال الأخضر» وبالطبع يعنون: الخصيب. الهلال الأخضر أو الخصيب الذي تنتظم أقنيته أرض الرافدين ووادي النيل، ثم ما يتصل بهما أو يقع بينهما، من حاضر وباد. وإن أولئك المؤرخين، وهم أبعد الخلق عن التنجيم، ليعزون إلى الهلال الأخضر بعض، بل أكثر، بل كل الحركات أو الأحداث التاريخية الكبرى التي لا يندر أن تنشأ، أو تتولد في أقصى الأرض، ولا سيما بعد أن انطوت الصحائف المشرقية من سفر الإنسانية الكبير. فمن لي الآن، بمن يقرئ عني أولئك السادة المؤرخين السلام؟ من لي بمن يقول لهم - على الماشي أو على الطاير، كيف يشاء - إن الهلال، ولله الحمد، لم يزل الهلال الخصيب، بل لم يكن في زمن أخصب منه اليوم. سوى أنه كان الهلال الأخضر، فأمسى الأسود، وكان الهلال ذا الأقنية، فأمسى ذا الأنابيب، لكنه لم يزل بفضل النفط العربي الهلال الخصيب، ينتظم هذه المرة الجزيرة وشبه الجزيرة، وما يتصل بهما ويقع بينهما من حاضرة وبادية. لم يتغير شيء، أو لم يكد؛ لقد «اصطلح» التاريخ والجغرافيا على أن يجعلانا دائما وأبدا، في إحدى النقاط المركزية الممتازة الحساسة من التقائهما، بل من اشتباكهما.
ولا يحملن أحد كلامي هذا على محمل تهجم أو تشاؤم، ولا تذمر أو تنكر؛ فهذا النفط قد ظهر في شبه الجزيرة، حيث تقوم الدولة العربية السعودية، وهي أقرب الدول العربية إلى تحقيق معاني الاستقلال أو السيادة بأنواعها، كما أنه قد ظهر في عهد ميثاق الأطلسي وتضامن الشعوب، كثيفها وخفيفها، صغيرها وكبيرها؛ عهد يبشر بمنح الأمم المغلوبة على أمرها حريتها واستقلالها، على أساس من المصالح المتبادلة والتعاون العادل. ومن يدري، فلعل النفط العربي يحدث في حياة هذا الشرق انقلابا من أعظم الانقلابات التي عرفها تاريخه. على أنه في كل حال، جدير بأن يرسل منذ الآن على المشاورات العربية «نورا ساطعا»، ثم بأن يدفع - أكثر من أي عامل آخر - بالتعاون بين الأقطار العربية، مهما يكن من شكله، خطى واسعة إلى الأمام.
لا أحسب أن أحدا تأخذه الدهشة إذا قلت إن شغل اليوم الذي لا شغل سواه في لبنان هو الاستقلال. لن تأخذكم الدهشة، كما أننا لم تأخذنا نحن الحيرة؛ فالاستقلال كلمة لم يهمس بها لبنان في الأيام الأخيرة همسا، بل هتف هتافا.
ليس لبنان عظيما في رقعة الأرض، ولا الشعب اللبناني ضخما بين الشعوب، لكن لبنان مشى قدما نحو حريته واستقلاله في مزدحم الأمم الضخمة والدول العظيمة، في سياق تاريخه الدامي، حتى صار له من المؤهلات ما يجعل ممارسة هذا الحق كالنتيجة الطبيعية المتحتمة، ثم أصبح الحق «الطبيعي» حقا شرعيا أو رسميا إذا صح التعبير، بما قطعته الأمم الحليفة على نفسها ونحو لبنان من مواثيق وعهود. كذلك لم يكن لبنان على خطأ؛ إذ وقف منذ البداية في صف الديمقراطيات الكبرى التي أعلنت على النازية - وهي شر أنواع الاستعمار - حربا لا هوادة فيها؛ وإذ ساهم لبنان في هذه الحرب ولا يزال مساهمة ذات وزن؛ وإذ أدى لبنان، المقيم والمهاجر على السواء، قسطه في الجهاد عن طيب خاطر، موفورا غير مضمون.
وليست أول مرة يهتف فيها الشعب اللبناني لحريته، ويتنادى لاستقلاله، ويغضب لكرامته؛ فهذه الألفاظ الشريفة: الحرية والاستقلال والكرامة، لم تكن غريبة على جونا النظري والعملي. لا، لكن يخيل إلينا أن لهذه الألفاظ اليوم، صدى بل معنى جديدا، كأنما كانت في الهواء، فداخلت وجدان الأمة القومي، بل كأن الحرية والاستقلال والكرامة كانت تعني عند فريق شيئا، وعند فريق شيئا آخر، فإذا بهذه الألفاظ تسترد اليوم معانيها الصحيحة السليمة، فتأتلف وتنسجم في فكر واحد، وشعور واحد، أو بكلمة في «كيان» واحد. ذلك هو المغزى الجديد الرائع لحركتنا الوطنية الأخيرة، كأنما ولد الوطن اللبناني واستقلاله في وقت معا.
كان من الممكن، وسط النزاع الضخم الذي يعانيه العالم منذ خمس سنوات، كل يوم منها حافل بأحداث عسكرية أو سياسية خطيرة تتوقف عليها إلى حد ما نتيجة هذه الحرب الكونية العظمى. كان من الممكن أن يقع الحدث اللبناني أو ما يشبهه، ثم ينقضي دون أن يثير في أنحاء المسكونة ما ملأ الآذان من أصدائه المدوية المتجاوبة المدهشة. ذلك ما كان، لأول وهلة، ممكنا أو منتظرا، ولا سيما عند من ينزع فكره إلى تبسط الأشياء، أو يكتفي بظواهر الأمور، فإذا بالحدث اللبناني، على الضد، يشغل حيزا «محترما» من مشاغل العالم الكبرى، وإذا بأخباره تصطدم على موجات الأثير، وأخبار المعارك الطاحنة في مختلف الميادين، حتى قال بعضهم إن لبنان في تاريخه الطويل لم تتداول ذكره الألسنة والأقلام بمثل ما تداولته في هذه الأيام.
فكيف كان ذلك؟ ما هو العامل الذي جعل لبنان خلال هذه الأزمة الكونية العظمى في هذه الحقبة القصيرة - الحاسمة - من تاريخه الحديث، ملء الأذهان والأسماع؟
لم يكن ذلك على ما نرى نتيجة عامل واحد، بل نتيجة عوامل متعددة، ولعل في رأس هذه العوامل، لعل أول ما يتبادر منها إلى الذهن، بتأثير ظروف الحرب العالمية، أن العلاقات بين الأمم والبلدان، بل بين القارات، أصبحت من التوثق والتداخل والاشتباك بحيث يكاد العالم بأجزائه المتباينة - مهما تباينت - يؤلف وحدة دقيقة الإحساس، لم تكن في زمن أدق منها إحساسا، كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت سائر الأعضاء. ويزيد هذا الواقع وضوحا وبروزا وتمكنا، أن العالم المحترب اليوم يعيش في جو لا عهد له به، أو بكل عناصره، هو الجو الذي أوجدته الحركة التحررية العامة - العاصفة بالأفراد والشعوب - التي تستهدف خلق عالم جديد، تقوم فيه العلاقات بين الأفراد وبين الشعوب، على أسس أقرب إلى الإنصاف والحق والخير؛ ففي جو عالمي كهذا الجو، لم يكن في الإمكان أن يبقى الحدث اللبناني حدثا لبنانيا وحسب، وهكذا كان الحدث اللبناني حدثا عالميا أيضا.
وثمة عامل آخر، لكنه خاص بلبنان، لا ينازعه فيه منازع، يصح أن نسميه «الإشعاع اللبناني»؛ تلك المزية التي عرف بها لبنان من أقدم عهوده التاريخية، والتي يصعب معها الادعاء بأن لبنان منحصر ضمن حدوده الجغرافية؛ فالأبجدية هي من الإشعاع اللبناني، ومن الإشعاع اللبناني أيضا هذه المادة السخية التي لا تفتأ تغذي بالهجرة كل بقعة من بقاع الأرض، حتى ليمكن القول إن لبنان شبكة مطروحة على العالم تنتظم أجزاءه، بل هناك لبنانان لا لبنان واحد: لبنان المقيم، الرابض بين تخومه، ولبنان المهاجر، الموزع في الدنيا.
ونحن على مثل اليقين من أنه قد كان لهذا العامل الأخير، في جعل الحدث اللبناني حدثا عالميا، أعظم الأثر؛ نعني أن لبنان مدين في الدرجة الأولى لنفسه.
لبضع سنوات خلت، اتخذ فريق من أبناء هذا البلد موقفا صريحا في صف الأمم المتحدة، وجعلوا يشتغلون تارة في «مكافحة النازية والفاشية»، وتارة أخرى في «مصادقة الاتحاد السوفييتي»، أو في كلا الأمرين، في وقت معا. ولقد كان يخيل إلى أكثر العوام، وإلى بعض الخواص، أن هؤلاء النفر ليسوا سوى شعراء يعيشون في المريخ، أو تجار تخصصوا للبضاعة الأجنبية، أي إنهم، في كل حال، مصابون بمس من الانحراف الفكري أو المسلكي، يصرفهم عن الحركة الوطنية الصحيحة التي يتمخض بها لبنان وسائر الأقطار العربية.
لست أدري - ولا يهمني كثيرا أن أدري - ما يقوله الخاصة الآن، لكن أحب أن أعتقد أن العامة - أي السواد الأعظم - قد غيروا شيئا من رأيهم، وعدلوا بعض انحرافهم، بتأثير تلك الخبرة المباشرة للحدث اللبناني الأخير، الكبير، الذي كانوا هم مادته الحية بلا مراء؛ فالحركة الوطنية الاستقلالية في لبنان، بما أحدثته من رد الفعل في أنحاء المسكونة، وبما أحرزته من توفيق في الناحيتين النظرية والعملية، أقامت الدليل - دليلا جديدا - على أن أولئك «الشعراء» لم يهاجروا إلى المريخ في حين، أو أن أولئك التجار لم يتعاطوا يوما «البضاعة الأجنبية». لقد كشفت هذه الحرب العالمية عن ثلاث أو أربع حقائق كانت غامضة، وكان يزيد في غموضها تعامي أهل النظر عنها، وأقرب تلك الحقائق إلينا عهدا، وأمسها بنا صلة، هي أن لبنان جزء من العالم، فلن يسعه أن يخرج منه، وأن مصير لبنان متوقف إلى حد بعيد على نتيجة الحرب، فما من سبيل إلى فصل مصيره عن نتيجتها. إن هذه الحرب العالمية كانت حربنا، كما أن السلم العالمية ستكون سلمنا نحن أيضا. تلك «حقيقة لبنانية» لا يصح أن نغفلها أو نتغافل عنها، فما من شيء في العالم لا يعنينا، سواء أرضينا أم لم نرض، وعلمنا أم لم نعلم.
على أن تلك «الحقيقة اللبنانية» التي أشرت إليها، ليست في الواقع إلا انعكاسا لهذه «الحقيقة العامة» المزدوجة، التي أصبحت من الوضوح والقوة بحيث يصعب نكرانها أو تجاهلها - نعني أن الحرية في العالم هي، كالسلم، وحدة لا تقبل التجزئة. فمن ميثاق الأطلسي إلى مؤتمر طهران، نرى الخطوط التي سيتألف منها عالم الغد، ترتسم في أفق الوجود، بأجلى فأجلى، وأبرز فأبرز، ولا يدهشن أحدا قولنا اليوم إن اشتراك الاتحاد السوفييتي في ذلك «التكوين» الجديد يعتبر ضمانة جديدة متينة العرى؛ فالاتحاد السوفييتي قد بنى سياسته الداخلية والخارجية على أصرح مبادئ الحرية القومية، ناهيك بحركة التحرر العاصفة بضمائر الشعوب وعزائمها، في مشارق الأرض ومغاربها.
نحن لا نحب أن نحشر في زمرة المتفائلين الحمقى، كما أننا لا نرضى أن نعد في المتشائمين الذين هم أحيانا أشد حماقة، برغم كل الظواهر. لكن لا ندحة لنا ولسائر الشعوب الصغيرة المستضعفة، عن مواجهة هذا الأمر البديهي، وهو أن إحدى الضمانات الأساسية لاستقلال لبنان الصحيح، وتمتعه بجميع حقوقه وحرياته ، هو استقرار النظام العالمي، على دعائم راسخة من احترام حريات الأمم وحقوقها وأمانيها المشروعة. في مثل هذه البيئة العالمية «السليمة» يحيا الاستقلال اللبناني، وينمو، ويبلغ أشده، فيؤدي اللبنانيون قسطهم مرة أخرى في بناء الصرح الإنساني العام.
يوجد بضع حقائق لا يحتاج المرء في معرفتها إلى كثير من الذكاء والألمعية، بحسبه شيء من الفكر والروية؛ نحن لا نعني هنا «حقائق علمية» بالمعنى الاصطلاحي المحدود، إنما نعني «حقائق إنسانية» لم تخرج - أو لم تكد - من نطاق الحوادث، ويمكن القول إنها في متنوال كل منا، كل ذي فكر سليم، يستخدم فكره السليم حينا بعد حين، ويعمل الروية في ما يريده، ولا سيما في ما يراد به. وليست هذه الحقائق، لقلة ما تجري على الألسنة والأقلام، بمبتذلة ولا رائجة ولا متداولة؛ هي من الحقائق المغمورة المطموسة التي تحملنا بسهولة، على الاعتقاد بأن أحدا لم يسبقنا إلى معرفتها، بل كنا نحن السابقين إلى كشف القناع عن وجهها، أو إطلاقها من سجنها، ولا بأس بذلك؛ فإن من الحقائق «الإنسانية» ما يجمل بالإنسان أن يعرفه بما يشبه «الخبرة الشخصية». وعلى كل، فليس لمن عنده مسكة من عقل، أن يلتمس هذه الحقائق وأمثالها في كتب المعارف «التوجيهية»، ناهيك بكتب التاريخ، لسبب بسيط هو أن المعارف «التوجيهية» لم توضع لهذه الغاية، أي «توجيه» الشعوب نحو معرفة الحقائق، بل بالضد. ولماذا؟ لسبب بسيط أيضا هو أن الحقائق التي أشرنا إليها، كانت، ولم تزل، تعد حقائق خطرة تدور حول علاقة الناس بعضهم ببعض، وحول علاقتهم جميعا بما يقتنون أو يملكون (ويدخل فيه المنقول وغير المنقول من المال، والثابت وغير الثابت من الامتياز)، وكذلك حول علاقتهم بذلك الشيء المشترك، أو على الأقل المفترض أنه مشترك، نعني: الحكم وما يتناوله من توزيع الحقوق والتكاليف، والمغانم والمغارم، وهلم جرا.
لكن قبل التبسط في الموضوع، أحب أن أمهد له بأبيات من الشعر، ومن شعر المعري الخالد. فأولا: إن المعري جاء بعد ألف من السنين، يظل هذه السنة التي نحياها، فأحالها واحة من واحات الفكر. وثانيا : نحن أمة نحب الشعر كما هو مشهور، ونتذوقه، وقد يكون فهمنا إياه أيسر وأجود من فهمنا أي شيء آخر، اللهم ما خلا التجارة، لكن الحالة الراهنة عندنا جديرة بأن تنفي - إن شاء الله - كل تناقض ينشب بين الشعر والتجارة.
لأبي العلاء المعري بيتان سمعناهما وقرأناهما لمناسبة عيده الألفي، ألف مرة ومرة، وما إخالنا بلغنا منهما حد التخمة، كأننا أبدا في جوع وظمأ إلى إنشادهما أو سماعهما. ذلك قوله:
مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها!
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
وعدوا مصالحها وهم أجراؤها
ويستنتج العلامة الدكتور طه حسين من هذين البيتين أن المعري «لا يرى الملك ولا وراثته، وإنما يرى الانتخاب والبيعة، كما يراهما الجمهوريون»، سوى أن صديقنا البحاثة الدكتور عمر فروخ يعجب كيف فهم صاحب «الذكرى وتجديدها» من هذين البيتين، معاني البيعة والانتخاب ومبادئ الجمهوريين «إلا أن يكون قاده إلى ذلك لفظة: أمراؤها. ولعله لو أنعم الفكر في الكلمة، ثم قرأ البيت الثاني بأيسر قراءة، لتبين له وراء كل ريب وشك أن أبا العلاء يهاجم هنا جميع الحكام، أورثوا الأمر، أم اغتصبوه، أم حملوا إليه على الأكتاف.»
ليس من قصدنا الوساطة بين الدكتورين الفاضلين، وهما من لا يخشى - ولله الحمد - أن تضيع الحقيقة بينهما. على أن ما يهمنا من شعر المعري هو مدلوله الطبيعي - إذا أمكن القول - مدلوله القريب الذي نرجو أن لا يكون موضع اختلاف ولا تأول. أما ما قد يستقر في «مؤخرة» رأس المعري، فهو ما لم نؤت علمه، وأكبر الظن أننا إذا زعمنا إثباته، لم تكن قصارانا إلا أن نثبت ما في «مقدم» رءوسنا. ذلك المدلول الطبيعي القريب هو أن الحكام، سواء أورثوا الحكم (والوراثة ضرب من الغصب)، أم حملوا إليه بالبيعة (والبيعة ضرب من الانتخاب)، هم «أجراء الأمة» في عقل المعري الظاهر والباطن على السواء. ذلك هو الأمر الجوهري الذي لا نريد أن يضيعنا عنه مضيع، أما يكفي أنهم كثيرا ما يضيعوننا عنه بالفعل، حتى نضيع عنه أيضا بالقول؟
إذا نحن سلمنا عن طيب خاطر، بأن الاستقلال «شيء يؤخذ» مبدئيا، فيجب أن نسلم أيضا بهذه الحقيقة التي ليست دون الحقيقة الأولى، لا بداهة ولا خطورة - بل على الضد - وهي أن الاستقلال «شيء يحقق» عمليا. ففي هذا «التحقيق العملي» حفظ الاستقلال وضمان دوامه وتثبيت دعائمه، فلا يبقى موضع نظر أو إعادة نظر، لا في أنفسنا ولا عند غيرنا، أي بعبارة أخرى: لا في داخل، ولا في خارج. ولا ندحة في ذلك عن أن يستوفي الاستقلال شروطه، كل شروطه، المادية والمعنوية.
وصحيح أن للاستقلال شروطا معنوية أو روحية لا غنى عنها، كالشعور الوطني وروح التضحية والإرادة المشتركة وحس التضامن القومي، وما إلى ذلك. صحيح أن الاستقلال يستلزم، كي يعيش وينمو ويبلغ أشده، هذه «البيئة المعنوية». صحيح أن تلك القيم لا بد منها في حياة الأمم، لكننا بفطرتنا أو - وهو الأصح - بحرماننا التقليدي الطويل، من ممارسة الحريات العامة ممارسة فعلية، ومن التمتع عمليا بنعم الحياة الاستقلالية، ميالون إلى «تعاطي» هذه القيم «الروحية» وإدمانها، إلى حد يوهم أننا في غفلة عمياء عن تلك الشروط أو «البيئة المادية» التي لا يمكن أن يحيا استقلال، وأن يضمن بقاؤه أو تثبت دعائمه، إلا بها وفيها. على أن الشروط المعنوية نفسها متوقفة على الشروط المادية، مذعنة لها بالدرجة القصوى، وليس يصح تماما قول العكس؛ فالشعور الوطني وروح التضحية والإرادة المشتركة وحس التضامن القومي لا تتولد من ذاتها، في الهواء، تولدا فطيريا، بل تعوزها الأوضاع الملائمة والمؤسسات اللازمة. يعوزها أقل ما يكون: كتاب ومعلم ومدرسة وطلاب. الكتاب يحتاج إلى اختصاصي يؤلفه، ثم إلى معلم يعلم به، والمعلم يحتاج إلى مدرسة يدرس فيها، والمدرسة تحتاج إلى طلاب في وسعهم أن يؤموها. ولقد يمكن أن تحشر هذه الأشياء جميعا في صف القيم المعنوية أو الروحية، لكن بعد أن تصنع، وتوجد الشروط الضرورية لصنعها، أما قبل أن تصنع الأشياء وتتوافر شروط صنعها، فلا مناص من أن تعامل «معاملة» القيم والشروط المادية.
لسنا في معرض المقايسة أو المفاضلة بين طائفتين من القيم: المادية والمعنوية، في حياة الأفراد والأمم، على انه إذا كان ثمة مجال للمفاضلة بينهما موضوعيا وذاتيا، فلا مسوغ للمفاضلة، لا عمليا ولا اجتماعيا، إنما أردنا التنويه بارتباط بعضهما ببعض، بل بملازمة بعضهما لبعض. أردنا الإشارة إلى وجوب العناية بحياتنا الاقتصادية، والاهتمام بمستقبلنا الاقتصادي. ولنضرب مثلا معيشتنا اليومية؛ فنحن لا نعرف السبيل، لا نظريا ولا عمليا، إلى «الترفع عن الدنايا» التي تتألف منها «حياة» كل يوم. وعلام هذا السمو بأنفسنا؟ أليقال فقط إننا قد تبعنا نصيحة يمن بها فريق من المواطنين الكرام، ليس يكفيهم الجمع بين تلك الأسباب، بل هم يحرصون أشد الحرص على ادخارها؟
الاستقلال مثل أعلى. أجل، لكنه كسائر المثل العليا، لا بد له من جناحين يطير بهما.
ليس الاستقلال كرة يتقاذفها لاعبون، مهما أفرغوا في ذلك من جهد، واصطنعوا من جد، وسواء ألزموا القواعد المحترمة في اللعبة، أم تجاوزوا حدودها وخرقوا حرماتها. ولأبادر إلى القول إني لا أحمل هذه الصورة «الرياضية» أية إشارة إلى الخلافات والمنافسات، ما كان منها طارئا أو مزمنا، طبيعيا أو متكلفا، كما إني لا أعد نفسي مسئولا عما قد يرد على الخاطر، من شتى التآويل ومختلف النتائج. صحيح أن الصورة خصبة غنية، تتسع لأكثر من تفسير أو تخريج واحد. (بدا لي هذا منذ جرت الصورة على قلمي، فأخذت أفكر فيها وأقلبها على وجوهها العديدة، ثم أمسكت، مخافة أن أتوصل أخيرا إلى ما لا تحمد عقباه.)
لكن أردت - ولم أرد أمرا آخر - أن الاستقلال ما كان، ولا يصح أن يكون، معنى قائما بذاته في دنيا القيم النظرية، منفصلا عن البلد المستقل أو - وهو الأقرب إلى الصواب - عن أبناء البلد، فضلا عن أن الاستقلال ما كان، ولا يصح أن يكون، لفظا من هاتيك الألفاظ الطنانة التي تدل على كل شيء ما خلا الواقع والحقيقة. لا، فالاستقلال مادة حية، أو هو جسم يستمد الحياة من لحم الأمة ودمها، ومن ثمة أيضا يستمد القوة والبقاء. ولست أعني بهذا أن الشعب هو الذي يقدم في الأزمات الحادة قرابينه، ذودا عن الاستقلال، أو يفتديه بأفراد منه في ساعات الخطر، بقدر ما أعني ذلك المدد «الجمهوري» المستمر، من النشاط والتضحية، في الحالة الطبيعية، في سياق الحياة العادية.
إن الوطن اللبناني قد استتم - أو كاد - حدوده الدولية أو الدبلوماسية، باعتراف الدول الديمقراطية الكبرى وجاراته العربيات بهذا الاستقلال، وكان طبيعيا أن تخص تلك الناحية من الوضع الجديد، بما خصت به من الاهتمام والعناية خلال عام ونيف. لكن من الطبيعي أن لا نغفل في الوقت نفسه، عن هذه الحقيقة، وهي أن الاستقلال ليس وضعا خارجيا دوليا وحسب، بل هو أيضا وبالدرجة الأولى وضع داخلي شعبي؛ فإن أوثق ضمانة لاستقلالنا هي أن يحس الشعب إحساسا مباشرا حيا بأن هذا الوطن الذي «ينعم» اليوم بالاستقلال، هو له، هو وطنه، «ينعم» هو بخيراته - وليس لأفراد أو فئات منه، كل شيء يتبدل في الدنيا وهم لا يتبدلون. فقد نسلم بأن الوطن اللبناني ينعم بالاستقلال «مجازا»، إنما الذي يمكن القول إنه ينعم بالاستقلال «حقيقة» فهو الشعب اللبناني. على أنه ليس بكاف أن يقال هذا للشعب حتى يخف إلى التصديق؛ فالشعب اللبناني اليوم يطمح إلى ما ما وراء القول: الشعب اللبناني الضمانة الباقية؛ إذ كل ضمانة سواها عرضة للزوال. ... الشعب اللبناني، الضمانة الأولى والأخيرة - الضمانة الباقية - للاستقلال وللكرامة الوطنية. وبعد، أليس هذا الاستقلال وهذه الكرامة الوطنية الملازمة له، واسطة لا واسطة سواها، إلى الغاية التي لا غاية وراءها، وهي أن يحيا الشعب اللبناني حياة سعيدة، في أرضه العزيزة، متفيئا ظلالها، ناعما بخيراتها؟ إن استقلال الوطن اللبناني يتوقف، إلى مدى بعيد، على استقلال الشعب اللبناني، وتمتعه بحرياته المدنية والسياسية تمتعا صحيحا. ومتى قلنا الشعب اللبناني، فلا بد من أن ندخل في الحساب جماهيره العاملة المنتجة، في كل ميادين العمل والإنتاج؛ نعني: السواد الأعظم الذين هم، بفضل أنظمتنا الحاضرة، بعيوبها الأصيلة وعيوب تطبيقها، يحسون إحساسا بليغا بأنهم بعيدون جد البعد من أن يحققوا في أنفسهم معاني الاستقلال والكرامة؛ فليس يجدي الوطني شيئا أن تعلن حقوقه وحرياته، إذا لم يعط في الوقت ذاته الوسائل الضرورية لممارسة تلك الحقوق والحريات، إنها تبقى هكذا حبرا على الورق، بل كتابة على الماء. ومن البديهي أن هذه العناصر الشعبية لم تكن ممثلة، على صورة ما، في جهاز الحكم اللبناني، لا مباشرة ولا بالواسطة. وتأويل ذلك بسيط غاية في البساطة؛ ذلك أن جميع القوى تضافرت، خلال الانتخابات الأخيرة، على عزل تلك العناصر وتنحيتها، ويجب القول إنها قد وفقت كل التوفيق. لكن ترى، هل يظل لبنان في معزل عن الحركة العظمى التي تغمر العالم، حركة القوى الشعبية المتصاعدة، حتى تسد الأفق؟ أكبر الظن أن هذا لم يبق في الإمكان، ولا سيما بعد أن أثبت الشعب اللبناني نضجه السياسي، ووعيه الاجتماعي، ورغبته الصادقة في أن توجد لمشاكله الحيوية الحلول الملائمة. ونحن أحرياء، منذ تحققت أمنية الوطن اللبناني في الاستقلال والكرامة، بأن ننتظر تحقيق أماني الشعب اللبناني في استقلال جماهيره العاملة المنتجة، وفي «مراعاة» كرامتها الإنسانية، بتوفير الأسباب لتمتعها بالحقوق كل الحقوق، وبالحريات كل الحريات.
كل شيء يؤذن بوشك انتهاء الحرب، وبانتهائها على ما نشتهي ونريد. لم نكن بحاجة إلى هذا البرهان الأخير كي تطمئن نفوسنا؛ إنارة البلد، على أنه - والحق يقال - برهان «ساطع». إن هذه العبارة «البرهان الساطع» قد استعملت في معميات كثيرة، كان البرهان الساطع يزيدها تعمية في بعض الأحيان، وكأنها ظلت مئات السنين تنتظر، حتى استعملت الآن في الموضوع الذي خلقت من أجله. إن إنارة البلد لبرهان ساطع على وشك انتهاء الحرب، وعلى انتهائها كما نشتهي ونريد؛ فالعدو الألد أمسى عاجزا عن أن ينالنا بسوء، ولا ننس أنه يوجد نوع من الخلق ما كانوا ليؤمنوا إلا بهذا النوع من البراهين. - أأنت تقضي سهرتك هنا؟
هكذا تكلم صديق غاب عني نحو أسبوعين، وقد رآني جالسا على الفرندا في فيض من النور.
أجبت: نعم! هو كما ترى. وأنا أقرأ اليوم (سقط الزند) للمعري، وشرحه (ضوء السقط)، وشرح شرحه (التنوير)؛ أريد أن أثأر لنفسي من تلك (اللزوميات) التي قضيت فيها سني الحرب بطولها، ملتمسا النور في «تعتيمات» شيخنا الأعمى رحمه الله، ثم لا تنس أن المعري هو القائل:
ليلتي هذه عروس من الزن
ج عليها قلائد من جمان ... إذن لأيام خلت، كنا في حالة يسمونها تارة التعتيم، وتارة خنق الأنوار. إن في خنق الأنوار معنى، بل زيادة معنى ليست في التعتيم، هو معنى العنف الذي يلابس الأجرام؛ خنق الأنوار، وخنق العلم، وخنق الحرية، وما أشبه. ويدل في الوقت نفسه على الحالة الروحية الناشئة عن ذلك التعتيم الذي لا أجد ما أصفه به إلا أنه، في عصر النور هذا، ظلام «مصطنع»، وكذلك هم يسمون الدهان الذي يطلى به زجاج النوافذ «تمويها».
يحكى أن أعرابيا أعور أصيبت عينه السليمة بحجر، فوضع يده عليها وقال: «الحمد لله! أمسينا.» يريد أنه دخل في العتمة التامة، أو بعبارة أخرى أصابه العمى، كما أصبنا نحن بالتعتيم، خلال هذه السنوات الخمس التي جردت فيها الزنجية الحسناء، دون حياء، من حليها الوضاءة، وهي كل ثيابها.
لقد حرمتنا الحرب ممارسة حريات متنوعة، وكانت أول حرية أبيحت لنا حرية التنوير، وهي الحرية التي تهم الحرب مباشرة بلا مراء، وأكبر الظن أن ستتبعها سائر الحريات التي لا علاقة لها، قريبة أو بعيدة، بميادين القتال وسلامة القواعد، وإنما تنسبها السياسة إلى الضرورات العسكرية، على سبيل الاختصار، أو حسما للقيل والقال. وهكذا فإن الأعضاء الزائدة في الجسم الإنساني، تبقى بعد أن ضاعت وظائفها، لكنها هنا تؤدي من الوظائف غير ما وجدت له، وبالأمس طالب فريق من أفاضل النواب برفع المراقبة عن الصحف، ومما هو حري بالانتباه أن الاقتراح جاء خلال نقاش دائر حول الحملات التي يكون المجلس النيابي عرضة لها من وقت إلى آخر، فأثبت النواب أنهم لا يخشون العدو الوهمي، كما أثبت الدفاع السلبي أننا صرنا في نجوة من غارات النازي المتخاذل، فطلبوا إلغاء هذا الضرب الآخر من التعتيم الذي يدعونه بالمراقبة؛ عسى أن يسير عهدنا الاستقلالي الديمقراطي نحو أكثر فأكثر، من الحرية والنور.
لما تسلم الجانب اللبناني من الجانب الفرنسي، في احتفال رائع وصفه الواصفون، طابورا من القناصة، كما ترد الأمانات إلى أهلها، جالت الألسنة والأقلام في موضوع الجيش الوطني، ولا غرو فهو حقا موضوع جدير بأن تجول فيه الألسنة والأقلام، بل لعله أجدر المواضيع بالإكثار من التحدث عنه، وبالإفاضة في شأنه، وتقليب وجوهه العديدة. إن المتحدثين كلهم نظروا في الموضوع من ناحية أو نواح معينة، فألقوا عليها نورا كاشفا، لكنهم جميعا كانوا يخلصون إلى مثل الغاية الواحدة، فتمتزج الآشعة في «شلة» من الضياء واحدة. وغني عن البيان أن هذه الأحاديث، على بكرة أبيها، كانت تنبض بشعور الغبطة العميقة الشاملة التي تخالج قلب كل لبناني، كلما رأى بعيني رأسه، استقلال الوطن يستتم تدريجا شروطه ومقوماته، كشخص الحبيب تنحسر عن ملامحه الوسيمة، رويدا رويدا، عتمة الخفاء. وبديهي أن تلك الغبطة العميقة الشاملة ما كانت ولن تكون وقفا على الكتاب والشعراء، وإن يكن هؤلاء يجيدون أكثر من غيرهم، وصفها والعبارة عنها والإشادة بذكرها، ليؤذن لي أنا أيضا أن أقول كلمتي في الموضوع.
لكل امرئ هوى، بل هوس يملك عليه لبه وشعوره، يقيمه ويقعده، يلازمه في جميع حالاته ومواقفه، حتى ليحسب عارفوه أنه، وهو الكائن المركب، قد قطعة واحدة ليست تتحرك بسوى حركة تشنجية لا تبديل لها. فأنا - ولا بأس بأن أتعرض لتهمة البساطة التي لا برء منها - هواي أو هوسي فيما يدعونه الوحدة الوطنية، لكن يعزيني عن هذه البساطة المملة أمران: أولهما أن ما أسميه هوسا ليس في غير موضعه، ليس من الأمور التي لا موضوع لها؛ فالوحدة الوطنية لم تتحقق بعد، وإن يكن الشعب اللبناني قد خطا نحوها خطى واسعة. وثانيهما أن هوسي هذا ليس منحصرا بي، مقصورا علي، وإنما يشاركني فيه وفي الإذعان له وفي معاناة لجاجه، أكثر اللبنانيين، كلما رجع واحدهم إلى ذاته، يتدبر شئون بلده العامة، في ماضيه وحاضره ومستقبله على السواء.
وهناك حقيقة لست أجد بدا من الجهر بها، وإن يكن من شأنها أن تفجع نفرا كبيرا من خاصة اللبنانيين، من النخبة الصالحة أو قادة الرأي - كما يسمونهم - تفجعهم في ما هو أعز شيء لديهم، أعني ما يرسلونه نثرا أو ينظمونه شعرا؛ تلك الحقيقة هي أن الوحدة الوطنية التي نرجو أن تتحقق في الشعب اللبناني، والتي تنعدم أو على الأقل تنسجم فيها الفوارق الجنسية والطائفية بين العناصر المؤلفة لهذا الشعب؛ أن الوحدة الوطنية لن تكون من صنع هذه النخبة الصالحة: الشعراء والكتاب والخطباء ... لسوء الحظ! إذ لو كان هكذا لكان الأمر أيسر وأقصر سبيلا؛ فالشعراء والكتاب الذين تكفيهم الدعوة إلى الوحدة، يقين أنها تتحقق بمجرد الدعوة إليها، إنما هم خادعون، أو مخدوعون وهو الأرجح، إنهم يؤخذون بسحر كلامهم. «كم وعظ الواعظون منا!» كما قال المعري منذ ألف سنة.
إن الوحدة الوطنية لا تتحقق إلا بشرائع تسن وتنفذ، ومنشآت تقام ويعنى بها. إن الوحدة الوطنية يعوزها مصنع؛ المصنع الذي ينتجها كما تنتج الأمتعة المادية، كما تصنع عمليا. وإني أدل الآن على مصنعين اثنين (لا على مصنع واحد) يصح أن يتعاونا على صنع الوحدة الوطنية، هما حقيقان بصنعها، كما يصب الفولاذ: الثكنة والمدرسة.
الثكنة والمدرسة، لكن بشرط أن لا تقوما على هذا الأساس «المزمن» الذي تقوم عليه حياتنا العامة والخاصة، وهو ما يسمونه «الطائفية البغيضة». بالطبع، وإلا فذاك من قبيل تحصيل الحاصل، أي لا شيء.
لقد أصبحنا ولنا طليعة جيش. عسى أن يكون لنا أيضا في القريب العاجل طابور كامل العدد والعدة من المعلمين.
دعيت في أواخر الصيف الماضي، إلى سماع محاضرة من أحد قادة الرأي عندنا، وكان العنوان مغريا يثير في النفس شعورا هو أعلى من الفضول مرتبة، وأطيب عنصرا، فجئت استمع. كان الحضور لا يزيدون على المائتين عدا، لكنه من النخبة التي لا يعدمها احتفال، مهما يكن نوعه، في قرية من قرى الاصطياف، يتوافدون عليه رجالا ونساء، من المحلة ذاتها ومن المحلات القريبة، ثم ينصرفون بعد ساعة من الزمن، راضين مطمئنين إلى أنهم لم يضيعوا ثلاثة أشهر بكاملها، بل اهتموا أيضا لما يحسن الاهتمام له من الشئون التي تتجاوز دائرة الحياة اليومية، أو تسمو عنها. ويقبل الجنس اللطيف على أمثال هذه الحفلات بنسبة «محترمة»، كأن النساء أعظم حاجة إلى ذلك اللون من راحة الضمير.
كان في الحضور وجوه عرفتها جيدا في العاصمة، استرعى انتباهي أن نفرا منهم يعاملون المحاضر كأركان حرب القائد. وقد نصب المنبر وصفت المقاعد في الخلاء، وسط ملعب يملأ الفراغ المنبسط من الكنيسة القديمة إلى النادي الجديد، وهذا الملعب بين الكنيسة والنادي، أو بين كنيسة ومدرسة، «مشهد» تكاد لا تخلو منه قرية تحترم نفسها من قرى المتن. ثم تصوروا المشهد بتمامه، ونحن منه، في إطار فخم من مفاتن الجبال والأودية!
كان موضوع المحاضرة: لبنان والشعب اللبناني، وبالطبع: في الماضي والحاضر والمستبقل؛ ذلك أن هذه الثلاثة تمشي في بلادنا، وفي خطب خطبائنا، كأسنان المشط، وقد يدوس بعضها على أقدام بعض في الزحمة.
لا شك في أن ما قاله الخطيب يومذاك، كل ما قاله، هو الحقيقة، ولكنه ليس كل الحقيقة؛ فهو لم يتحدث في الواقع إلا عن جزء من لبنان جغرافيا وتاريخيا، وإلا عن فريق من الشعب اللبناني اجتماعيا وسياسيا. وكان حنينه إلى الماضي أشد منه إلى المستقبل، لا يفتأ يتلفت نحوه، موليا إيانا ظهره. كنت وأنا أستمع إليه، إخال أن الوطن اللبناني ليس في فكره (الظاهر والباطن، ولا سيما الباطن) سوى ذلك الجزء من أراضي الجمهورية اللبنانية، برغم «الحدود الحاضرة»، كما أن الشعب اللبناني ليس سوى أهل ذلك الجزء دون غيرهم، برغم «تذاكر الهوية».
ولست أدري كيف ملت بنظري يسرة، فإذا على سطح بيت قروي تفصله عنا الطريق، على مسافة عشرين ذراعا، شخص ماثل كالصنم، لا يتحرك فيه عضو، أسند يده إلى سطح البيت المجاور، وكأنه يصغى بكليته إلى الخطيب. وكانت الشمس تدلف إلى مغربها، مطرزة بالذهب الأكمة البعيدة؛ فشغلت وقتا بالتساؤل عن ذلك التمثال، كيف ولماذا نصب على سطح بيت؟ ثم رأيته يتحرك للتصفيق، فينقلب قرويا بثيابه «العربية» وقف يشهد الحفلة، ويسمع الحديث. ولا عجب، فلقد كان الخطيب آنذاك يختم باللازمة الحماسية التي لا يستغني عنها قائل وسامع على السواء، وانفض المجلس.
وأنا ما شأني هنا؟ لقد أمسيت بعد تلك المحاضرة، خارج الحدود جغرافيا، وخلف الأمجاد تاريخيا؛ على هامش القصيدة العصماء. وأخذت أترقب بوجل أن يأتيني، بين هنيهة وأخرى، موكل بنزع الهويات الزائفة أو المستعارة، لا يرق ولا يرحم. ولماذا؟ لا لشيء سوى أنني، فيما غبر من القرون، لم يتح لي القدر أن أعتصم بشعاب الجبل حرصا على الحرية، حيث أستنبت الصخر طلبا للرزق. إن هذا لأمر عظيم حقا، لكن ليس لي فيه يدان.
لست أذهب إلى اتهام الخطيب بأنه، فوق هذا، لم يعن من أبناء ذلك القسم من الجمهورية الواسعة، غير «طائفة» بعينها، لا أكثر ولا أقل. لا، لست أذهب إلى هذا الحد، وإن يكن خبيث من طائفة أخرى قد وسوس إلي بالملاحظة غامزا، فأنا لم أؤت حسه الطائفي الدقيق. ولأبادر إلى القول منذ الآن - أثمة إليه حاجة؟ إني برغم كل شيء ... وأنف صديقي الذي يشم من أقصى الأرض، لمن أصح الناس تقديرا للصورة اللبنانية التي يشف عنها كلام الخطيب، ومن أصدقهم إعجابا بالمعجزة التي ظهرت على أيدي سلفه الصالحين، لكن ليؤذن لي أن أقول أيضا إن تلك الصورة، على روعتها، ليست كل لبنان، كما أن ذلك الضرب من الخوارق، على جلالته، لم يكن عاما في الشعب اللبناني. إن ما ذكره خطيبنا القح هو الحقيقة، لكنه ليس كل الحقيقة؛ لقد أخرج من الدائرة بضع حقائق، كل واحدة هي من نوع حقيقته، وإن لم يكن لها جمالها أو روعتها، أخرجها جملة، دفعة واحدة.
والآن، ما أنا بتارككم طويلا تنتظرون على أحر من الجمر، حتى أعلن على رءوس الأشهاد، أن لتلك النغمة «الخاصة» جوابا من «القرار» بعينه، في الجهة المقابلة، في الجهات المتقابلة، يهتف به هنا وهناك وهنالك، هتافا ليته يخدش آذان الهاتفين، بقدر ما يصم آذان السامعين! إذن لاضطروا بحكم «حسن الجوار» إلى شيء من التؤدة، سوى أننا جميعا مأخذون بلذة الإزعاج والنكاية. ينبغي أن نبادر إلى إعلان هذا الحكم الصريح، وإلا كنا عرضة للتهمة ذاتها، أو بالفعل مصابين بالعاهة نفسها. على أن ما في هاتيك النغمات من الحقيقة «الخاصة» ليس دون ما تكلم عنه، أو أشار إليه، أو عناه ، خطيب الحفلة.
وهكذا تنعدم الحقيقة، الحقيقة الحقة، الحقيقة اللبنانية، بين أنصاف حقائق، كل نصف حقيقة منها هو في موضوعنا، خطأ محض؛ فإن نصف الحقيقة خطأ تام، وليس في الإماكن أن يجمع بين أنصاف الحقائق، على شكل اصطناعي أو نظري، لتؤلف منها حقيقة تامة، أي حقة. كما أن مسخين يكشر أحدهما في وجه الآخر، وهو رافع عقيرته بالغناء، لا يؤلفان إنسانا بهي الطلعة وسيما، حتى ولا خلقة طبيعية. إن المسخين اللذين يندغمان معا، يصيران مسخا مضاعفا، وكذلك أنصاف الحقائق إذا اجتمعت، يتألف منها خطأ مركب، هو أشد إيذاء وأبلغ ضررا من الخطأ البسيط.
ولست أنسب هذا «الخلل» النفسي في جمهرة اللبنانيين، إلى التعصب بمفهومه الشائع والمنكر، بقدر ما أنسبه إلى ذلك النقص الذي ينشأ دائما عن غلبة الروح الذاتي في تفكير الفرد والجماعة؛ أعني: «الذاتية» المضادة لما يسمونه «الموضوعية» وهي في أبسط مظاهرها، أن يتكلف الفرد أو الجماعة مؤنة الانتقال آنا بعد آن إلى الجهة المقابلة، إلى الجهات المقابلة، حيث يتخيل أحدنا «ذاته» في «وضع» الآخر، وتلك لعمري طريق المعرفة والتعارف والمعروف، وسواها من المشتقات - الرغيبة لأنها تنفي أسباب الشقاق، أو على الأقل، تكسر من حدتها. وإن هذه «التنقلات» التي ندعو إليها، ليست خطرة ولا «مكلفة»، فنتوسل في الترويج لها بما تتوسل به شركات التسفير. «لبنان في عهد جديد!» ذلك ما يقوله كل منا أو يحسه، وهو قول أو إحساس يدلان على واقع الحال، إلى مدى بعيد. فالشعب اللبناني يمارس اليوم، في «ذات» حكومته الشرعية، شطرا كبيرا من خصائص سيادته القومية التي ظل محروما منها خلال قرون، حتى ليمكن القول إن تسلمنا المصالح المشتركة مع حق الإدارة والتشريع، يعد باكورة ذلك الاستقلال الذي طالما تاقت إليه نفوسنا، واستهدفته جهودنا. وقد تكون البواكير أشهى ثمار الشجرة العزيزة التي تروى بعرق الجبين ودم الفؤاد، لكن لا جدال أيضا في أنها ليست كل الموسم. إن ما ينتظرنا يقظة لا يغل لها طرف، ودأب لا تعثر به قدم.
على أن الحدث اللبناني لم يكن وحده الجديد في الدنيا. وقد قلنا منذ البداية، إن استقلال لبنان ليس في الواقع سوى حلقة من حلقات في سلسلة تنتظم أجزاء الكون القريبة والبعيدة، أو مظهر من مظاهر متصلة متشابهة يتجلى فيها ذلك «الجديد» الشامل الذي يتمخض به النظام العالمي، ويقاسي من جرائه آلاما كآلام الوضع، وإنه من هذه الحرب لفي إحدى أزماته الحادة الحاسمة. وقد أثبتت محنة لبنان الأخيرة أن بلادنا ما كانت، ولن تكون، في نجوة من تلك الآلام، أو بالأقل من «انعكاسها». نريد أن نخلص إلى هذه الحقيقة البسيطة وهي أنه لم يبق في وسعنا، إذا نحن فكرنا في وطننا وفي شئونه الحاضرة والمقبلة، أن نفكر لبنانيا ولا عربيا، حتى ولا شرقيا وحسب؛ فلا مندوحة لنا أيضا عن أن نفكر دوليا وعالميا وإنسانيا. إننا ككل شعب من شعوب الدنيا، لفي مأتم الحرية وفي عرسها على السواء.
وإذا لم يكن الحدث اللبناني وحده بالشيء الجديد في الدنيا، فكذلك ليس تسلمنا المصالح المشتركة وحدها بالشيء الجديد في لبنان. نحب أن نعتقد أننا قد تسلمنا مع تلك المصالح، روحا جديدا هو «الروح اللبناني» الذي كان متنازعا فاصطلح، ومتوزعا فاجتمع، ومتغايرا فائتلف. لقد تجلى هذا الروح اللبناني الجديد في إرادة اللبنانيين جميعا، على اختلاف طوائفهم وأجناسهم، أن يعيشوا معا، أبناء شعب واحد حر، في وطن واحد سعيد. وإنا لنرجو أن يتجلى هذا الروح كل ساعة، ولكل مناسبة، في جهود اللبنانيين المتوافرة المتضافرة المتناصرة، لحفظ كيانهم الوطني، وإنماء مرافقه، وتعزيز كرامته. إن هذا الروح اللبناني المشترك لفي رأس مصالحنا المشتركة.
لقد أتى على لبنان زمن وهو يتخبط في حيرته، ولا يفتأ يبحث جادا عن ذاته، تارة مشرقا وتارة مغربا؛ فوجد ذاته أخيرا، لكن حيث يجب أن يجدها، أعني في لبنان. ولعمري إنها للقية لا ينبغي لنا أن نضيعها، فالله يعلم متى نجدها مرة ثانية، إذا أضعناها هذه المرة. إن اللبنانيين يلتقون اليوم على الصعيد الذي يسمونه الوطنية أو القومية؛ فكأني بهم إخوان تلاقوا بعد تغرب طويل، محفوف بالمخاطر والأهوال، فطفقوا يحيي بعضهم بعضا، ويتباشرون بسلامة العودة، ثم يتعاهدون جميعا على أن لا يبرحوا ذلك الصعيد الطيب، مخافة أن يتورطوا في شبهات التخوم التي تقيمها الفوارق من جنس ومذهب ودين. قلت ذات يوم، إن في لبنان بين المذهب والمذهب، وبين الجنس والجنس، من الحدود والحواجز ما يحتاج معه إلى جوازات سفر، كأننا شعوب في شعب، وأوطان في وطن. نحن لسنا في حاجة إلى ما يفرق ويقطع، فما أكثر هذا عندنا، بل إلى ما يؤلف ويجمع. إن ذلك الروح اللبناني الذي يتجلى في إرادة اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم وأجناسهم، أن يعيشوا معا أبناء شعب واحد حر، في وطن واحد سعيد؛ إن ذلك الروح الجديد ليؤلف ويجمع، بل ليس إلاه يؤلف ويجمع، فما أجدرنا إذن بأن نتعهده بالصون والرعاية، وأن نغذيه بالعقول والأفئدة، حتى ينمو ويبلغ أشده، فلا تخشى عليه عوادي الزمان.
إن لبنان حديث عهد بالاستقلال، هذا ما يقوله التاريخ القريب، وهو كذلك حديث عهد بالروح الجديد الذي خلق اللبنانيين أمة، وبلادهم وطنا. هذا ما تنطق به خبرة كل واحد منا، في قرارة نفسه؛ فأي جهود نبذلها، وأي عزائم نضاعفها، فلا توازي في كفة الميزان ذلك الروح الجديد الذي لا استقلال بدونه؛ إذ لا وطن ولا أمة بدونه.
الروح الجديد! لقد أكثرت من الكلام على هذا «الجديد» حتى مللته. يجب أن يصبح هذا الجديد الطريف في لبنان، قديما أو كالقديم، تليدا أو كالتليد، وكأنه تراث آباء لنا صالحين.
Página desconocida