في الأدب العربي الحديث ما يصح أن نسميه «المدرسة الأمريكية»، ولعل هذه المدرسة، في اختلاط المحاولات وفوضى التيارات، أبرز مدارسنا الأدبية الجديدة خصائص، وأوضحها مميزات؛ سواء أمن ناحية التفكير، أم من ناحية التعبير. كادت هذه المدرسة، في الأدب العربي الحديث، تكون كالجزيرة الحائرة، تبحث في عرض الأوقيانوس عن ساحل تستقر فيه وتلتصق به، وهي في الأدب العربي على إطلاقه - قديمه والجديد - أشد حيرة وأنأى غربة، فكأن لم يكن من هم أصحاب هذه المدرسة، ولا سيما في نشأتها الأولى، إلا أن يأووا من الأدب في أرض عذراء بور، لا حائط ولا شجر؛ كي يزرعوا هم، ويرفعوا الجدران. وقديما اتهموا الشعب الأمريكي نفسه بحداثة العهد في الآداب والفنون وسائر أسباب الثقافة، فزعموا أن لا ماضي له، أي لا تقاليد. لقد اتسم الأدب الغربي في المهجر، بهذه السمة ذاتها، لا أكثر ولا أقل، وهي أحق أن تطلق عليه من صفة «الثورة» التي ادعاها، أو نحلوه إياها.
يقول «ريمي دي غورمون»: «كل تبديل يطرأ على أدب أمة من الأمم، فلا بد أن يكون ناشئا عن علة خارجية» أو أجنبية. فالأقرب إلى الصواب أن يعزى التبديل الذي طرأ على أدبنا العربي، بتأثير أصحاب المدرسة الأمريكية، إلى هذا الضرب من العوامل، وهو في ألوان الشعور وطرائق التفكير، أظهر منه وأبقى في أساليب الإنشاء وأنماط التعبير. وإذا كان أدب المهجر كوة أطل منها الأدب العربي على الدنيا الجديدة، فإن أصحابه قد جاءوا الأدب العربي من خارج.
انتهى الريحاني من وضع أول مؤلفاته «المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية» في 11 تموز سنة 1901. ويقول في مذكرات ذلك اليوم القصي: «ولكن سوف لا أطبعها قبل أن أصير قادرا على تصليح لغتها بنفسي ...»
على أن البند الأول في برنامجه عهدذاك هو أن يتعلم اللغة العربية وقواعدها في «بحث المطالب». منذ ذلك العهد ألف الريحاني في العربية أكثر من ثلاثين كتابا، في مواضيع شتى وبأساليب مختلفة، وكان يوفق إلى إفراغ كل موضوع في أفضل أساليبه. لقد تطور إنشاؤه خلال هذه الأربعين عاما التي حفلت بالدأب المتواصل والإنتاج المنتظم، تطورا عجيبا، كان أبلغ الأثر فيه - على ما نرجح - لرحلاته العديدة في الأقطار العربية؛ إذ أصبح فيما يكتبه، متوجها نحو أكبر عدد ممكن من الناطقين بالضاد؛ فازداد ترسله دقة وسلاسة ونبض حياة بكل معنى الكلمة، لكن أمين الريحاني لم يقطع صلته بالماضي تماما، بماضيه هو، بين رفاق النشأة الأولى في «مدرسة» المهجر، وبقي طوال عمره الكوة المفتوحة بين الشرق والغرب، يدخل منها النور وتلعب الريح.
أشياء كثيرة تذكرنا هذه الأيام بأمين الريحاني، شتى لكن غير متنافرة، حتى ولا متعارضة، بل بالضد، أولها الصدام الضخم الذي يشهده العالم - ويشهد نهايته - بين قوى التقدم والرجعية، لإنشاء مجتمع جديد يتمتع فيه الأفراد والشعوب بأكثر ما يمكن من اليسر والحرية، وقد كان أول كتاب أصدره الريحاني بالعربية عام 1903 «موجز تاريخ الثورة الفرنسية»، ثم استمر بقية عمره يناضل من أجل المبادئ التي أعلنتها الثورة الكبرى. وثانيها مشي الشعب اللبناني قدما نحو استكمال شروط السيادة والحياة الاستقلالية، وقد كان الريحاني من أنشط العاملين، بقلمه ولسانه، في الحقل الوطني، يلمس أثر ذلك في كل ما كتبه وأذاعه. وثالثها مشاورات التعاون العربي الذي كان الريحاني من أصدق الداعين إليه، والساعين له، عن الطريق المثلى، طريق التعارف بين مختلف الأقطار العربية، يعرف العرب بأنفسهم، ويعرف بعضهم إلى بعض، في مؤلفات قيمة ممتعة، من «ملوك العرب» إلى «قلب لبنان» آخر كتاب له لم يتمه. وأخيرا هذا المهرجان الألفي لمولد أبي العلاء الذي كان الريحاني سباقا إلى نظم مختارات من شعره في ترجمة إنكليزية جيدة، ينتقل القارئ الغربي بها إلى جو «اللزوميات»، وكانت هذه الترجمة أول مؤلفاته بالإنكليزية سنة 1903.
إن أمين الريحاني توفي في الثالث عشر من أيلول سنة 1940، وقد كنت ونفرا من إخواني، تعودنا أن نقول، في مثل ذلك اليوم من كل عام، كلمات نعرض فيها لنواح من هذا الذهن الفريد الذي لو أتيح له أن يعيش سنين معدودات، زيادة عما قدر له، لرأى بعيني رأسه تحقيق تلك الأشياء العزيزة عليه، والتي كانت بعض أمانيه الغالية. على أنه بوسعنا القول إن أمين الريحاني لم يكن غائبا، لا عن مشاورات التعاون، ولا عن العيد الألفي، فضلا عن المراحل التي يجتازها لبنان نحو التمرس بحكمه الوطني الديمقراطي الصحيح.
ليس الريحاني بغائب تماما؛ فما أكثر ما اقتبسته الصحف هذه الأيام من مؤلفاته النفيسة عن الأقطار العربية، حتى كأن هذه المؤلفات مرجعها الوحيد. ولنعم الرأي ارتآه شقيق الريحاني ألبرت؛ إذ أصدر في أيلول من هذا العام، طبعة رابعة من ترجمة «اللزوميات» الإنكليزية، مساهمة في إحياء ذكرى المعري. فإذا كان أمين الريحاني لم يفته، برغم الموت، تكريم شاعره العربي المختار، فلن يفوتنا نحن الأحياء تذكير الناسين من بني قومنا، هذه السنة أيضا، بأن الريحاني في أسفاره - بالمعنيين - كان طليعة التعاون العربي الذي تلهج به الألسنة، وتعقد له المؤتمرات. كما أن الريحاني، بسبقه إلى نظم طرائف من آراء المعري وصوره بالإنكليزية، منذ أربعين عاما ونيف، كان خير أنموذج لذلك الإشعاع اللبناني الذي يتجلى في مظاهر متنوعة، ليست الكتابة نثرا وشعرا باللغات الأجنبية أضعفها شأنا، ولا أقلها جدوى. إن اللبناني إنسان مولع بالتغرب، تغريه به عوامل عارضة وأصيلة؛ التغرب مادة ومعنى، بالجسد والروح، للأخذ والعطاء. هكذا كانت حياة الريحاني رحلتين اثنتين؛ رحلة إلى الشرق ورحلة إلى الغرب، وتبقى الفريكة مرفأه الأمين، وحصنه الحصين. كاد الريحاني، في سيرته وفي كتابته، أن يكون رمزا.
الفصل الثالث
كنت ذات يوم، اجتاز ببعض الشوارع، لا ألوي على شيء. لم يكن من همي، في تلك الساعة، إلا أن أسرع إلى الترام، فآخذه قبل زحمة الغروب. إذا بعبارة تصك سمعي كالمفاجآت الغريبة، قيلت بما يشبه الهمس، لكنها «سلطنت» على ذلك المزيج الضخم من أصوات، الذي يسمونه ضجة المدينة. سمعت قائلا يقول: «لا ... بعد الاستقلال.» وكانت اللهجة التي قيلت بها هذه العباة لا تخدع، تدل على أن قائلها يريد أن يؤرخ أمرا من الأمور، حادثا من الحوادث، أي أن يضعه في موضعه من الزمان، فهو لا يذكر اليوم ولا الشهر ولا العام، كما جرت العادة، لكن يؤكد أن الحادث كان «بعد الاستقلال»، وبالطبع لقد التفت ورائي كي أنظر إلى «مصدر» هذا التاريخ الجديد الذي جاء ينافس الطوفان والميلاد والهجرة، في الحفظ البشري؛ فرأيت رجلين مثلنا، مثل كل الناس، يتحاوران في شأن من شئونهما اليومية، وقد اختلفا على الزمن ليس غير، ولعل أحدهما - وياللأسف! كان يطالب الآخر بدين، قائلا له: «لقد مطلت وأطلت ...» فيجيبه الآخر معتذرا: «لا ... ذلك كان بعد الاستقلال.»
ليس من قصدنا هنا أن نفصل في هذا الخلاف بين هذين المتجادلين على رصيف الشارع؛ الدائن والمدين. إن الدائن ملحاح يحاول إقناع صاحبه بأن استقلالنا عجوز؛ لأنه بلغ من العمر بضعة أشهر (وهو عمر الكمبيالات الطبيعي)، وأما المدين فمتقاعس، يحاول إيهامنا بأن ذلك الاستقلال هو ابن اليوم، أو على الأكثر ابن الأمس؛ لأن حياة الأمم لا تقاس بما يقاس به عمر الأفراد، وهلم جرا وهلم جرا ... ليس من قصدنا الفصل في هذا الخلاف الذي قد يهم وقد لا يهم، حسب وجهات النظر، كما هو شأن الدائن الملحاح والمدين المتقاعس، شأنهما على السواء، وشأن كل طالب وكل مطلوب، لكن ما لا خلاف فيه هو أن هذا النبأ «الاستقلال اللبناني» قد أحدث في الأذهان، ولا سيما أذهان العامة، أثرا بليغا، حتى صاروا يؤرخون به شئونهم اليومية. وأكبر الظن أن السبب الأساسي في هذه النتيجة هو أنهم ساهموا في «الاستقلال» مساهمة ذات وزن، اشتركوا فيه اشتراكا فعليا، كانوا إلى حد ما مادته الحية، فالاستقلال البناني، هذه المرة، لم يكن حدثا غريبا عن اللبنانيين، يقرر فقط في الأوساط العليا والدواوين، أو يثبت في العهود والقراطيس. لا، لقد كان أيضا وبالدرجة الأولى صنع الشعب اللبناني، صنع روحه ودمه، وليس هذا بالأمر التافه أو اليسير.
Página desconocida