Conversaciones de mañana y tarde
حديث الصباح والمساء
Géneros
أحمد عطا المراكيبي
عملاق في الرجال، بالطول والعرض، وقسمات الوجه الخليقة بتمثال، يجري دمه الدافق في أديم أسمر، صورة خيالية لبطل حكاية شعبية بشاربه الكث وراحته المنبسطة، وظاهر يده الأشعر، يملأ مقعد الحنطور وهو يتهادى به في ميدان بيت القاضي قبل أن يقف أمام البيت القديم إذا جاء لزيارته في هالة إقطاعي كبير، ويتلقى ابن أخته عمرو أفندي - وهو يماثله في السن - بين أحضان عامرة بالود، ويصافح راضية بحرارة، ويضع الهدايا فوق الكنصول وهو يتساءل: أين قاسم؟
ويند عنه صوت هادئ خفيض يعد غريبا بالنسبة للهيكل العملاق الصادر عنه، وتشع من عينيه البنيتين نظرة وانية متوددة تتحلى بالطيبة والسلام، كأنه مسجد ضخم يجمع بين الجلال والأمان. - حدثنا كيف حال أولادنا؟
يقصد البنات والأبناء. وكان يزور الجميع على فترات وخاصة البنات ليزكي مكانتهن أمام أزواجهن. وكان يغمر قاسم بالحلوى، وقد حزن لوفاة أحمد الذي أحبه كثيرا لجماله.
ويبقى عادة للغداء مشترطا تقديم وجبة بلدية من طواجن راضية التي اشتهرت بإتقانها مع إضافات جاهزة من طعمية الحلوجي وكباب العجاتي، ويواصل البقاء حتى يقضي السهرة مع عمرو، وشقيقه سرور في الكلوب المصري. وكان الفرع الفقير من الأسرة يسعد بزيارات الفروع الغنية مثل آل المراكيبي ، وآل داود ويزهو بما تحدثه من أثر باق في الحي رغم أن راضية كانت تقول لعمرو: لا أصل لأحد منهم، كلهم نشئوا في التراب!
ثم تلتفت إلى قاسم قائلة بتحد: يوجد رجل واحد ظفره بكل هؤلاء، هو جدك الشيخ معاوية!
فيبتسم عمرو ويصمت إيثارا للسلامة. على أن قاسم لا يفيق أبدا من سحر سراي آل المراكيبي بميدان خيرت. في حجم ميدان بيت القاضي وفي ارتفاع القلعة، ولها حديقة مثل حديقة الحيوان، لا حصر لحجراتها، ولا مثيل لأثاثها، وأي تحف مختلفة الأشكال والألوان وتلك التماثيل من الجص والبرنز في الأركان، وفوزية هانم حرم أحمد بك ونازلي هانم حرم محمود بك، ذواتا البشرة العاجية والأعين الملونة. عالم حقيقي يفوق بسحره عالم الحكايات والأحلام. وجدته لأبيه نعمة عطا المراكيبي هي أخت أحمد بك ومحمود بك. ولكنها امرأة فقيرة رغم ذلك لا تملك من دنيا الله سوى ابنيها عمرو وسرور وابنتها رشوانة، غير أن الأخوين الثريين كانا يحبان أختهما ويحبان ذريتها وخاصة عمرو أفندي الذي تميز بحكمة فطرية. وكان أحمد بك يوثق عزوته بآل داود، أقارب أولاد أخته نعمة وأصهاره، على ما بين الفرعين الثريين من غيرة متبادلة ويدعوهم لسراي ميدان خيرت، وكان أحمد أحب إلى عبد العظيم باشا داود من أخيه محمود لدماثة خلقه وبساطته وتواضعه. ولكن جرت العادة عند ذكر آل المراكيبي في بيت عمرو أن يقول عبد العظيم باشا بسخرية: مال كثير وجهل أكثر وما المنبع؟ ... بياع مراكيب حقير بالصلحية!
أو يقول محمود عطا عن آل داود: ألقاب رنانة ... والأصل أجير على باب الله!
فيقول عمرو بتقواه المعروفة: كلنا أولاد آدم وحواء.
وقد بدأ عمرو وسرور ومحمود وأحمد حياتهم التعليمية في سنوات متقاربة وقنعوا بالشهادة الابتدائية، فالتحق عمرو وسرور بالحكومة لفقرهما، واقتحم محمود تجربة الحياة تحت جناح أبيه، وجنح أحمد للدعة وحياة الأعيان، فأسقطه أبوه من حسابه. كان يمضي وقتا في العزبة ببني سويف على هامش العمل الزراعي، ثم يرجع وحده، أو هو وفوزية هانم إلى السراي بالقاهرة بمقامه في الدور الثالث، وينفق وقته بين زيارات الأهل واستقبال الأصحاب. كان بهوه الفخم معدا لاستقبال الأصدقاء والأقارب، يحتسون الشاي والقهوة والقرفة ويلعبون النرد والشطرنج ويدعون للغداء أو العشاء، ويسهرون في ليالي رمضان والمواسم حتى مطلع الفجر. كان الفونوغراف رفيق خلوته، والحنطور متعته، وحدائق شبرا والقبة مرتاده، والسيدة مصلاه أيام الجمع، وقد يحضر بعض ليالي الذكر الصوفية مع عمرو ابن أخته المنتسب للطريقة الدمرداشية. ولما مات الأب عطا المراكيبي تلقى مجرى حياته الهادئ الدائم الخضرة دفقة هواء عنيفة كادت تعصف به. وجد نفسه بغتة أمام مسئولية ضخمة لم يدرب على التعامل معها. كان عليه أن يدير أرضه الموروثة - ثلاثمائة فدان - بالإضافة إلى أرض زوجته البالغة المائة. وقال له محمود بك: ستتعلم كل شيء، ولديك من يعاونك، ولكن ... وكور الرجل يده الغليظة ثم واصل: عليك أن تتخلى عن طيبتك، فالتعامل مع الفلاحين والمستأجرين غير التعامل مع الأصحاب والأقارب!
Página desconocida