Conversaciones de mañana y tarde
حديث الصباح والمساء
Géneros
حرف الألف
حرف الباء
حرف الجيم
حرف الحاء
حرف الخاء
حرف الدال
حرف الراء
حرف الزاي
حرف السين
حرف الشين
Página desconocida
حرف الصاد
حرف العين
حرف الغين
حرف الفاء
حرف القاف
حرف اللام
حرف الميم
حرف النون
حرف الهاء
حرف الواو
Página desconocida
حرف الياء
حرف الألف
حرف الباء
حرف الجيم
حرف الحاء
حرف الخاء
حرف الدال
حرف الراء
حرف الزاي
حرف السين
Página desconocida
حرف الشين
حرف الصاد
حرف العين
حرف الغين
حرف الفاء
حرف القاف
حرف اللام
حرف الميم
حرف النون
حرف الهاء
Página desconocida
حرف الواو
حرف الياء
حديث الصباح والمساء
حديث الصباح والمساء
تأليف
نجيب محفوظ
حرف الألف
أحمد محمد إبراهيم
في السماء زرقة صافية، وعلى الأرض تغفو ظلال أشجار البلخ، وأديم الميدان العتيق يشرق بنور الشمس، ويتلقى من الحارات هديرا لا ينقطع؛ ميدان بيت القاضي يضم قسم الشرطة الحديث، وبيت العدل والمال القديم، وتطؤه أقدام حافية، وشباشب مزخرفة، ومراكيب ملونة، وحوافر الخيل والحمير والبغال. ويطلع أحمد على ذلك الملعب الواسع فسرعان ما ينسى بيته الأصلي؛ بيت والديه بحارة الوطاويط. كان ابن أربعة أعوام عندما حمل إلى بيت جده لأمه بميدان بيت القاضي ليؤنس وحدة خاله قاسم الذي كان يكبره بعام ونصف عام. خلا البيت بعد زواج البنات والصبيان فلم يبق فيه إلا عمرو أفندي الأب وراضية الأم، وآخر العنقود قاسم. لم يعرف قاسم أخواته صدرية ومطرية وسميرة وحبيبة، وأخويه عامر وحامد إلا كضيف عابر مع أمه أو أبيه، يزورهم، كما يزور فروع أسرته في ميدان خيرت أو سوق الزلط أو العباسية الشرقية. وفي بيت شقيقته مطرية بحارة الوطاويط أحب ابنها أحمد حبا فاق حبه للجميع. وكان لأحمد أخ أكبر يدعى شاذلي وأخت في اللفة تدعى أمانة ولكنه خص أحمد بكل قلبه. وكانت مطرية تحب قاسم كأبنائها فأهدته إليه ليعيش في كنف جديه ويؤنس وحدته في بيت كبير خال من الأنيس. ولم يرتح محمد أفندي إبراهيم - أبو أحمد - لذلك كما لم ترتح له أمه - حماة مطرية - ولكنهما لم يعترضا مصممين على أن يسترداه حال بلوغه السن المناسبة لدخول الكتاب. وجهل قاسم تلك النية المبيتة فنعم بالصحبة في صفاء لا يشوبه كدر. وكان أحمد كأنه آية في الجمال، مورد البشرة ملون العينين ناعم الشعر خفيف الروح، يتبع خاله كظله في أرجاء الميدان، يشاهدان ألعاب الحاوي، وعربة الرش، وطابور جنود الشرطة، ويستقبلان معا عم كريم بياع الدندورمة، ويتابعان بشيء من الخوف مواكب الجنازات، وكانت الرائحة والغادية من الجارات تنظر إلى أحمد وتتساءل: من هذا الولد الجميل؟
فيجيب قاسم باعتزاز: أحمد ابن أبلة مطرية.
Página desconocida
فتمضي المرأة وهي تقول: الجميل ابن الجميلة.
وكان محمد أفندي إبراهيم يقول لراضية أم قاسم: لا تملئي رأس أحمد بحكايات العفاريت يا نينة.
فترمقه باحتقار وتقول: يا لك من مدرس جاهل!
فيضحك الرجل كاشفا عن ثنيتيه المتراكبتين ثم يواصل تدخين غليونه. ذلك أن ختام اليوم يتم عادة بين يدي راضية فتنداح النشوة في قلبي الطفلين على سماع الحكايات قبيل النوم، وتنهمر على خيالهما كرامات الأولياء وعبث العفاريت، وينغمس الواقع في دنيا الأحلام والخوارق والآيات الربانية. وتمضي بهما في أوقات الفراغ من بيت إلى بيت، ومن ضريح ولي إلى جامع حبيب من آل البيت. وظلت الدنيا لهوا ولعبا حتى حمل قاسم ذات يوم إلى الكتاب ليبدأ حياة جديدة وليحرم من رفقة أحمد ثلثي النهار. والكتاب يقع في منحنى من منحنيات عمارة الكبابجي على بعد خطوات من البيت، ولكنه محاط بسياج من التقاليد الصارمة تجعل منه سجنا تتلقى فيه المبادئ الإلهية تحت تهديد المقرعة ... ولم تجد التوسلات ولا الدموع. ويغادره عصرا فيلقى أحمد وأم كامل في انتظاره عند الباب. لم تعد الدنيا كما كانت. تسللت إليها هموم لا مفر منها. وبغريزة يقظة شعر بخطر آخر يتهدده من ناحية محمد إبراهيم والد أحمد، فهو لا يرتاح لإقامة أحمد بعيدا عنه. وتتجلى في عينيه الجاحظتين نظرة باردة نحوه، ويقول لأمه: أنا لا أحب هذا الرجل.
فيكفهر وجهها الأسمر الطويل وتقول له: يا لك من جاحد! ألم يهد إليك ابنه؟ - ولكنه يريده.
فتضحك قائلة: أترغب في أن ينزل لك عن ملكيته؟! •••
ولكنه ذات يوم لم يجد أحمد في انتظاره لدى خروجه من الكتاب، ووجد أمه جادة أكثر من عادتها، وقالت له: حبيبك مريض.
ورآه مستغرقا في نوم ثقيل في فراشه، وراحت أمه تعمل له مكمدات خل وهي تتمتم: يا ولدي ... يخرج منك صهد كالنار.
ولا تكف عن تلاوة الآيات. ولما رجع عمرو أفندي إلى البيت مساء رأى أن يرسل أم كامل لإخطار مطرية وزوجها. ولما لم تنخفض الحرارة بالبخور والتعاويذ، جاء عمرو أفندي بطبيب من الجيران، ولكنه أعلن أنه طبيب عيون ونصح باستدعاء الدكتور عبد اللطيف المقيم في باب الشعرية. واعترض عمرو أفندي قائلا: ولكنه متزوج من العالمة بمبة كشر!
فقال الطبيب ضاحكا: بمبة كشر لم تنسه الطب يا عمرو أفندي.
Página desconocida
وجاء الطبيب زوج العالمة المشهورة، وشعر قاسم بأنه شحن الجو بمزيد من التوتر. وسمع أمه وهي تقول: أنا لا أصدق الأطباء ولا أعترف إلا بطبيب واحد هو خالق السماوات والأرض.
وتمر الأيام ويتساءل قاسم أين أحمد؟! أين غابت نضارته وجماله؟!
عاد عصر يوم من الكتاب.
دهمه البيت بمنظر جديد، رأى أهله جالسين في صمت غريب. في حجرة أحمد لمح أمه وجدة صديقه لأبيه، وفي حجرة المعيشة رأى إخوته وأخواته ... عامر وحامد وصدرية وسميرة وحبيبة. أما مطرية فكانت تجهش في البكاء وإلى جانبها يجلس محمد إبراهيم واجما يدخن غليونه. وتسرب الخوف إلى قلبه مع الهواء المفعم بالحزن، وأدرك بطريقة ما أن ذلك العدو الذي سمع عنه في مناسبات ماضية، الذي رآه يخيم فوق الجنازات المتجهة نحو الحسين، قد اقتحم بيته وخطف أحب خلق الله إلى قلبه. وصرخ باكيا حتى حملته أم كامل إلى السطح. ومن وراء خصاص نافذة الحجرة الصيفية رأى جدة أحمد تحمل بين ذراعيها لفافة مزركشة وتستقل حنطورا مع ابنها وعمرو أفندي. وذهب الحنطور يتبعه حنطور آخر يحمل عامر وحامد وعمه سرور أفندي. جنازة من نوع جديد فهل انتهى أحمد؟! أبى أن يصدق ذلك أو يسلم به. آمن من كل قلبه بأنه سيراه مقبلا ذات يوم مطلا بعذوبته الوردية، ولكنه لم يكف عن البكاء. وفي الليل انفض الجميع، نهره أبوه قائلا: كفاية!
فسأل أباه برجاء: أين ذهبتم به؟
فقال عمرو: لم تعد طفلا، أنت في الكتاب وتحفظ سورا من كتاب الله، أحمد مات، وكل إنسان سيموت كما يشاء الله، وهذه هي إرادة الله.
فتساءل محتجا: ولكن لماذا؟ - إرادة الله، ألا تفهم؟! - لا أفهم يا بابا. - لا ... هذه قلة أدب أمام الله ... سيذهب أحمد إلى الجنة بغير حساب، وهذا حظ عظيم ...
فاحذر قلة الأدب.
فصاح: أنا حزين جدا يا بابا. - اقرأ الفاتحة يبرد قلبك.
لكن قلبه لم يبرد. وكان كلما تذكره بكى. وقيل إن حزنه عليه فاق حزن أمه نفسها ... ولم يسل عن حزنه حتى تحطم واقعه وخلق خلقا جديدا لم يجر لأحد على بال.
Página desconocida
أحمد عطا المراكيبي
عملاق في الرجال، بالطول والعرض، وقسمات الوجه الخليقة بتمثال، يجري دمه الدافق في أديم أسمر، صورة خيالية لبطل حكاية شعبية بشاربه الكث وراحته المنبسطة، وظاهر يده الأشعر، يملأ مقعد الحنطور وهو يتهادى به في ميدان بيت القاضي قبل أن يقف أمام البيت القديم إذا جاء لزيارته في هالة إقطاعي كبير، ويتلقى ابن أخته عمرو أفندي - وهو يماثله في السن - بين أحضان عامرة بالود، ويصافح راضية بحرارة، ويضع الهدايا فوق الكنصول وهو يتساءل: أين قاسم؟
ويند عنه صوت هادئ خفيض يعد غريبا بالنسبة للهيكل العملاق الصادر عنه، وتشع من عينيه البنيتين نظرة وانية متوددة تتحلى بالطيبة والسلام، كأنه مسجد ضخم يجمع بين الجلال والأمان. - حدثنا كيف حال أولادنا؟
يقصد البنات والأبناء. وكان يزور الجميع على فترات وخاصة البنات ليزكي مكانتهن أمام أزواجهن. وكان يغمر قاسم بالحلوى، وقد حزن لوفاة أحمد الذي أحبه كثيرا لجماله.
ويبقى عادة للغداء مشترطا تقديم وجبة بلدية من طواجن راضية التي اشتهرت بإتقانها مع إضافات جاهزة من طعمية الحلوجي وكباب العجاتي، ويواصل البقاء حتى يقضي السهرة مع عمرو، وشقيقه سرور في الكلوب المصري. وكان الفرع الفقير من الأسرة يسعد بزيارات الفروع الغنية مثل آل المراكيبي ، وآل داود ويزهو بما تحدثه من أثر باق في الحي رغم أن راضية كانت تقول لعمرو: لا أصل لأحد منهم، كلهم نشئوا في التراب!
ثم تلتفت إلى قاسم قائلة بتحد: يوجد رجل واحد ظفره بكل هؤلاء، هو جدك الشيخ معاوية!
فيبتسم عمرو ويصمت إيثارا للسلامة. على أن قاسم لا يفيق أبدا من سحر سراي آل المراكيبي بميدان خيرت. في حجم ميدان بيت القاضي وفي ارتفاع القلعة، ولها حديقة مثل حديقة الحيوان، لا حصر لحجراتها، ولا مثيل لأثاثها، وأي تحف مختلفة الأشكال والألوان وتلك التماثيل من الجص والبرنز في الأركان، وفوزية هانم حرم أحمد بك ونازلي هانم حرم محمود بك، ذواتا البشرة العاجية والأعين الملونة. عالم حقيقي يفوق بسحره عالم الحكايات والأحلام. وجدته لأبيه نعمة عطا المراكيبي هي أخت أحمد بك ومحمود بك. ولكنها امرأة فقيرة رغم ذلك لا تملك من دنيا الله سوى ابنيها عمرو وسرور وابنتها رشوانة، غير أن الأخوين الثريين كانا يحبان أختهما ويحبان ذريتها وخاصة عمرو أفندي الذي تميز بحكمة فطرية. وكان أحمد بك يوثق عزوته بآل داود، أقارب أولاد أخته نعمة وأصهاره، على ما بين الفرعين الثريين من غيرة متبادلة ويدعوهم لسراي ميدان خيرت، وكان أحمد أحب إلى عبد العظيم باشا داود من أخيه محمود لدماثة خلقه وبساطته وتواضعه. ولكن جرت العادة عند ذكر آل المراكيبي في بيت عمرو أن يقول عبد العظيم باشا بسخرية: مال كثير وجهل أكثر وما المنبع؟ ... بياع مراكيب حقير بالصلحية!
أو يقول محمود عطا عن آل داود: ألقاب رنانة ... والأصل أجير على باب الله!
فيقول عمرو بتقواه المعروفة: كلنا أولاد آدم وحواء.
وقد بدأ عمرو وسرور ومحمود وأحمد حياتهم التعليمية في سنوات متقاربة وقنعوا بالشهادة الابتدائية، فالتحق عمرو وسرور بالحكومة لفقرهما، واقتحم محمود تجربة الحياة تحت جناح أبيه، وجنح أحمد للدعة وحياة الأعيان، فأسقطه أبوه من حسابه. كان يمضي وقتا في العزبة ببني سويف على هامش العمل الزراعي، ثم يرجع وحده، أو هو وفوزية هانم إلى السراي بالقاهرة بمقامه في الدور الثالث، وينفق وقته بين زيارات الأهل واستقبال الأصحاب. كان بهوه الفخم معدا لاستقبال الأصدقاء والأقارب، يحتسون الشاي والقهوة والقرفة ويلعبون النرد والشطرنج ويدعون للغداء أو العشاء، ويسهرون في ليالي رمضان والمواسم حتى مطلع الفجر. كان الفونوغراف رفيق خلوته، والحنطور متعته، وحدائق شبرا والقبة مرتاده، والسيدة مصلاه أيام الجمع، وقد يحضر بعض ليالي الذكر الصوفية مع عمرو ابن أخته المنتسب للطريقة الدمرداشية. ولما مات الأب عطا المراكيبي تلقى مجرى حياته الهادئ الدائم الخضرة دفقة هواء عنيفة كادت تعصف به. وجد نفسه بغتة أمام مسئولية ضخمة لم يدرب على التعامل معها. كان عليه أن يدير أرضه الموروثة - ثلاثمائة فدان - بالإضافة إلى أرض زوجته البالغة المائة. وقال له محمود بك: ستتعلم كل شيء، ولديك من يعاونك، ولكن ... وكور الرجل يده الغليظة ثم واصل: عليك أن تتخلى عن طيبتك، فالتعامل مع الفلاحين والمستأجرين غير التعامل مع الأصحاب والأقارب!
Página desconocida
وفكر طويلا وهو يتخبط في الشرك، ثم قال: أنت أخي الأكبر، وما لقيت منك إلا البر والوفاء، وأنا لم أخلق لذلك.
بذلك حل محمود محل أبيه. ولم ترتح فوزية هانم للقرار وقالت له بأدبها الجم: شد ما تعجلت قرارك دون مشاورة.
فسألها بحيرة: هل يداخلك شك من ناحية أخي؟
فقالت بأمانة: نعم الأخ هو، ولكن لم تضع نفسك تحت وصايته؟!
فقال: إنه شقيقي وحبيبي، وأنت شقيقة زوجته، وأسرتنا مثال في الوئام والحب، وقد فعلت ما أراه مناسبا.
وواصل حياته الناعمة، وكان يتسلم نصيبه دون مراجعة، وكان الخير عميما والبال رائقا. وانقضت عليه ثورة 1919 فهزته من الأعماق وأشعله سحر زعيمها، وتبرع لها بعشرة آلاف جنيه مستجيبا لاقتراح أخيه. تناسيا وصية قديمة لأبيهما بالبعد عن السياسة وتجنب ما يثير غضب السلطات الشرعية وغير الشرعية. كان المد أقوى من أن يفلت منه إنسان. ولكن عندما أطل الشقاق بقرنه وحصل الخلاف بين سعد وعدلي، تشاور الرجلان فيما ينبغي فعله. أو راح محمود يفكر وأحمد يتابعه. قال محمود: انقضت فترة العواطف وجاءت فترة العقل.
فقال أحمد: الأرض كلها مع سعد. - نكون حيث تكون مصلحتنا.
فاشتد انتباه أحمد حتى استطرد أخوه: لا يغرنك الهتاف، الإنجليز هم القوة الحقيقية، عدلي قريب منهم ولكنه لا يوفر الأمان الدائم، هناك سلطة شرعية هي الوسيلة الباقية بين الإنجليز وهي العرش، فليكن ولاؤنا للملك!
فقال أحمد مستسلما: الصواب معك دائما يا أخي!
وعرف ذلك الموقف في بيت القاضي حيث يتجاور بيتا عمرو وسرور. وهمس عمرو بأسلوبه الهادئ: سلوك غير لائق.
Página desconocida
فقال سرور بسخرية: أقاربنا الأغنياء، وهبهم الله مالا لا يعد وخسة لا تدانى.
وكان عمرو يتحرج من العنف لأكثر من سبب؛ لهدوء طبعه من ناحية، ولزواج حامد ابنه من شكيرة بنت محمود بك، وعامر من عفت بنت عبد العظيم باشا، ولكنه لم يخف رأيه عن خاله أحمد بك وهو يتعشى معه في السراي، فقال له أحمد باسما: علم الله أن قلبي معكم ولكنه رأي محمود!
فقال عمرو آسفا: الميدان تحت بيتنا يموج بالمظاهرات كل يوم، والهتاف بسقوط الخونة يتصاعد إلى السماء.
فقال أحمد: أصحاب المصالح لا يحبون الثورات يا ابن أختي.
والواقع أن أحمد هو الذي تعرض للنقد لاختلاطه بالناس ليل نهار، أما محمود فكان أكثر وقته منغمسا في عمله في العزبة. ونتيجة للولاء المعلن في تلك الفترة الحرجة فاز الأخوان برتبة البكوية في عيد الجلوس، وسر بها الرجلان سرورا فاق كل تصور. وأولم أحمد وليمة دعا إليها جميع الأقارب نساء ورجالا، من آل عمرو وسرور وداود، وبدت السراي في حلة لا تبدو بها إلا في الأفراح. وغاص أحمد في حياته الخاصة حتى قمة رأسه، ولم يأذن لهموم الوطن بالتسلل إلى خلوته وتكدير صفوها. ولكن بتقدم الزمن ونمو الأبناء جاءته المتاعب من حيث لم يحتسب. لم يوافق ابنه الأكبر على الوضع الذي اختاره لنفسه تحت وصاية أخيه. وخاض نزاعا طويلا عنيدا مع أمه أولا ثم مع أبيه ثانية. ولم يعف أباه من ملاحقته حتى وعد باسترداد حقه الذي نزل عنه بمحض اختياره. ومن تلك الشرارة اندلعت النيران في أركان الأسرة المتحدة. انتهز أحمد فرصة زيارة محمود للقاهرة لبعض شأنه وفاتحه في الموضوع على استحياء، وختم حديثه كالمعتذر قائلا: الأولاد كبروا ولهم رأيهم!
أدار محمود ما سمع في رأسه طويلا وهو يتلقى من الغضب أمواجا هادرة. كان قد تطبع بسلطة غير محدودة، ومارس في السراي هيبة تجاوزت أسرته إلى أسرة أخيه الوديع الطيب. كانت فوزية هانم تهابه وتصدع بأوامره على حين تناقش زوجها مناقشة الند للند. وكان ابنا أحمد يلتزمان أمامه حدود الأدب والطاعة على حين يتعاملان مع أبيهما بالحب والمرح والحرية. وأفلت الزمام من يدي محمود فقال لأخيه: يا لك من رجل ضعيف! كيف سمحت لابنك بهذا العبث؟!
فاستاء أحمد ولم يشأ أن يفرط في احترام أبنائه له فقال: لا ضرورة للكلمات القارصة يا أخي.
فسأله بوحشية: هل تشكون في ذمتي؟
فبادر يقول: معاذ الله، ما هو إلا حقي في تولي شئوني بنفسي. - حقك في تدمير نفسك بنفسك بوحي من حماقة أولادك؟
فقال عابسا: الله المستعان.
Página desconocida
وتلا ذلك مناقشة مع عدنان الابن الأكبر لأحمد اعتبرها محمود بك قحة تستحق الزجر. وكان أن خاطب الشاب عمه بشيء من العنف اعتده الرجل جريمة. وسرت النار من فرد إلى فرد. تخاصم الشقيقان، وانحازت كل زوجة إلى زوجها ممزقة الولاء لشقيقتها، وتبادل أبناء العم أسوأ ألوان السباب. وتهرأت عروة الأسرة، وانطوى كل فرع على نفسه في دوره بالسراي كأنه لا يعرف الآخر، وخابت مساعي رشوانة وعمرو وسرور في إصلاح البين، بل إن حامد بن عمرو - وكان يقيم مع زوجته شكيرة في دور محمود وأسرته - وجد مشقة وحرجا ليحافظ على صلته الطيبة بآل أحمد خال أبيه. وانتقل أحمد بك إلى العزبة في بني سويف ليتسلم أرضه على كبر، فيزرع ما يزرعه منها ويؤجر ما يؤجره، ولقي في ذلك من المتاعب ما لم يتصوره وتعرض لخسائر لم تجر له في حسبان. وقبيل الحرب العظمى الثانية بقليل أصيب الرجل بالفالج وحمل إلى فراشه بالقاهرة في انتظار النهاية. كان أول من هوى من الجيل الثاني العتيد، وكانت الأمراض ترشح بقية الجيل للحاق به بطريقة أو بأخرى، وكان عمرو ما زال يقاوم الأجل، وفي الحال زار محمود بك وقال له: آن لك أن تنسى الخصام وأسبابه وأن تعود شقيقك.
وصمت الرجل متأملا ثم قال: ثمة أمور لا تنسى، ولكني سأفعل ما يليق بي .. وما تدري أسرة أحمد بك إلا ومحمود بك يستأذن في الدخول. وجموا ووقفوا له متأدبين وقد دمعت أعينهم. وكان بصحبته زوجته وأبناؤه فتم التصافح وقال الرجل: يذهب الشقاق وينسى ويظل القلب ينبض بدقات القربى.
ومضى إلى أخيه المطروح فوق فراشه بلا حركة ولا نطق. انحنت فوزية هانم فوق أذنه وهمست: أخوك محمود بك جاء ليطمئن عليك.
فانحنى بدوره فوقه ولثم جبينه ثم استقام وهو يقول: العفو عند الرحمن، شد حيلك.
ورفع الرجل جفنيه الثقيلين، وتبدى عجزه عن النطق، ولكن لم يشك أحد في الأثر الطيب الذي اختلجت به وجنتاه المحتقنتان. وأسلم الروح عند منتصف تلك الليلة الحزينة.
أدهم حازم سرور
مهندس معماري من خريجي عام 1978. استقبل حياته العملية وهو ابن خمسة وعشرين في القاهرة الحافلة بالمشكلات، ولكنه لم يعثر في حياته بمشكلة واحدة. وتلاطمت حوله أمواج البشر والمركبات وانفجر هديرها مثل عزيف البراكين، ولكنه نعم في فيلا والديه بالدقي بالهدوء والسكينة وشذا الورد والأزهار، وتحير جيله في مسالك الحياة بحثا عن الهوية والبيت والزوجة وتحقيق الذات ولكنه وجد مكتب والده الهندسي في انتظاره ليشغل فيه مركز السيادة المرموق. وسيم مثل أبيه، ومثله أيضا ضعيف العين اليسرى لدرجة العمى، ولا يعرف من شئون الدنيا إلا فنه ولا ينتمي إلا لأحلام التفوق والثراء، ويكاد لرقة دينه أن يكون بلا دين عن غير إلحاد. وقالت سميحة هانم أمه مخاطبة أباه: خسرنا أخاه الأكبر، فدعني أهيئ له حياة محترمة!
فقال برقة مشفقا كالعادة من إغضابها: هذا جيل يختار لنفسه فلا تتحدي كبرياءه ... ولكنها غضبت رغم رقته، اشتعلت كالعادة صائحة: في أسرتكم عرق قذر أخشى أن يسوقه إلى طريق أخيه.
فأشعل سيجارة وقال لها: افعلي ما بدا لك.
ولكن أدهم كان مبادرا بأكثر مما تخيلت، فأخبرهما وهم جلوس في حديقة ميناهاوس صباح يوم العطلة بأنه اختار شريكة حياته ... وفزعت أمه وحملقت في وجهه متسائلة، وحدس الشاب مخاوفها فقال باسما: كريمة، في السنة النهائية بكلية الحقوق، أبوها محمد فوزي مستشار بقضايا الحكومة.
Página desconocida
هدأت أعصابها فيما بدا وتناولت ملعقة من الكاساتا وراحت تلوكها في فمها المنقوشة حوافيه بتجعيدات السنين، ثم تمتمت: لا بد من التحري.
فقطب أدهم، وقال الأب ملاطفا: مجرد إجراءات ولكني متفائل.
وتبودلت زيارات، وحظي الاختيار بالرضا، وكان لا بد أن تعلق بنقد ما فقالت لحازم زوجها: أمها جاهلة فيما يبدو.
فعجب الرجل لقولها إذ إنها - سميحة - لم تحصل على البكالوريا ولكنه قال: لا أهمية لذلك.
وتم الاتفاق على كل شيء، واشترى حازم لابنه شقة في المعادي بتسعين ألفا من الجنيهات، استقر ابنه وعروسه فيها في نهاية العام.
ولم يكن أدهم يعرف من شجرة أهله إلا فرع أمه، جده محمد سلامة منشئ المكتب الهندسي وأخواله وخالاته. أما أهل أبيه فكان يعرف - ربما معرفة عابرة - أن جده سرور أفندي عزيز كان موظفا بالسكك الحديدية، وأن عمرو أفندي عم والده كان موظفا بالمعارف، وكان له عمات ولكل أبناء وبنات ولكنه لم ير أحدا منهم. يعرف أيضا أن أسرته من حي الحسين وهو حي يقترن في ذهنه بالفقر والتأخر فلا حاجة به إلى تذكره، ولم يمر به إلا عابرا وهو في سيارة. وكثيرا ما يلتقي بنفر منهم في الميادين أو بعض الأماكن العامة فلا يعرفهم ولا يعرفونه. وتابع أبوه نشاطه بارتياح، واطمأن إلى أنه إذا تقاعد يوما - وهو قريب - فسيترك المكتب لرجل قادر. وقد قال له يوما بمناسبة ما ذاع وشاع عن الفساد: كل الفرص متاحة، لك العلم والذكاء والهمة فتجنب الانحراف، لا تسخر من النصيحة. إن كنت ممن يسخرون من القيم، فعلى الأقل احرص على السمعة واخش السجن!
أمانة محمد إبراهيم
مشرقة اللون، دقيقة القسمات، ناعمة الشعر، صورة جديدة لأمها مطرية لولا بروز ما في ثنيتيها وهي آخر من أنجبت مطرية، وجاء ميلادها قبيل وفاة أحمد بأشهر. وأحبها خالها قاسم ولكنه لم يجرؤ على المطالبة بها كما فعل مع شقيقها الراحل. فجعل يحبها من بعيد حتى انتزعته مأساته الشخصية من هموم الدنيا جميعا. وماتت جدتها لأبيها وهي في السابعة فحزنت عليها حزنا أكبر مما يجوز في سنها. ودخلت المدرسة الابتدائية دون اعتراض بحكم زمنها، وبحكم زمنها أيضا انتقلت منها إلى المرحلة الثانوية. ومع أن مطرية لم يكن يشغل بالها إلا الزواج إلا أنها قالت لزوجها: كبنات أختي سميرة، الدنيا كلها تود أن تتعلم اليوم.
وكان محمد إبراهيم يسلم بذلك دون مناقشة. وكان قد رقي لدرجة مدرس أول مع بقائه في مدرسة أم الغلام بشفاعة عبد العظيم باشا داود. والحق أن أمانة أبدت استعدادا طيبا للتعليم وتجلى تفوقها في الرياضيات، وتراءت لها الجامعة كحلم سهل التحقيق. وحصلت على البكالوريا ولكن في العطلة الصيفية التالية مرض أبوها مرضا لم يمهله فسرعان ما توفي وهو في الخمسين. ورثت الأسرة البيت والمعاش وإيجار دكان في أسفل البيت، وكانت الحرب العظمى الثانية قد انتهت ورحل من الجيل الثاني عمرو وسرور ومحمود عطا، فشعرت مطرية بأنها تواجه الحياة وحيدة. في ذلك الوقت تقدم عبد الرحمن أفندي أمين الموظف بدار الكتب لطلب يد أمانة. رجل يكبرها بخمسة عشر عاما ذو سمعة طيبة، وكان رأي أمانة أن الرجل مقبول ولكنها تود أن تكمل تعليمها. وقالت لها مطرية بعطف: ظروفنا تقتضي تفضيل الزواج.
وشاورت مطرية أمها فقالت راضية: الرجل المناسب أهم من الجامعة ألف مرة.
Página desconocida
ونظرت إلى أمانة بإعجاب وقالت: كيف تهتم بالتعليم بنت في جمالك؟
وقال لها خالها الشيخ قاسم: رأيتك في المنام وأنت ترقصين في قسم الجمالية!
وسألت مطرية أمها عن تأويل الحلم فقالت دون تردد: القسم هو الأمن والأمان، هو بيت الزوجية.
وجهزت مطرية أمانة بمهرها وثمن حليها وحلي جدتها لأبيها وما تبقى من مدخر قليل للمرحوم محمد إبراهيم، وزفت إلى زوجها بشارع الأزهر. ووضح أن الحب أظل بجناحه الأسرة الجديدة، ولكن التوافق بين الزوجين بدا من أول الأمر أنه يقتضي عناء مريرا. المسألة أن عبد الرحمن أمين آمن بسيادة الرجل، وأنها كانت شديدة الحساسية تتهول في وجدانها قرصة نملة فتخالها قرصة ثعبان. سرعان ما تبكي وتنفرد بنفسها أو تذهب من الأزهر على حارة الوطاويط. وتمضي بها مطرية لتفض الاشتباك فتتورط في الخصام. وقالت لها شقيقتها الكبرى صدرية: ليس زوج بنتك بأسوأ من زوجي ... ومع ذلك لم يدر أحد بما ينشب بيننا، لا تتدخلي بينهما ولا تميلي مع أمانة مع كل خلاف.
وعلمت راضية بذاك النقار المتجدد فاستعانت بالتعاويذ والرقى وزيارة الأضرحة، وبدا أن الحال تنذر دائما بمزيد من الشقاق حتى لاح شبح الطلاق بوجهه القبيح كالوطواط الأعمى. وضاعف من عمق المأساة أن أمانة بمجرد أن أنجبت بكرها محمد استحوذت عليها الأمومة واختفت الزوجة الجميلة أو كادت. وأنجبت بعده عمرو وسرور وهدية، وابتعد شبح الطلاق، واستمر النقار، وانطبع الوجه الجميل بطابع أسى دائم. وشرع الأبناء في التعليم مع أول جيل لثورة يوليو، وعبروا جو بيتهم الكئيب فحلقوا في سماوات من الآمال والمجد حتى غرقوا في بحر الحيرة الذي ابتلع ضحايا 5 يونيو 1967، ومضوا يستقبلون حياة عملية بعد رحيل الزعيم الأول، وفي موجة النصر والانفتاح فازوا بعقود عمل في البلاد العربية، حتى هدية لم تتخلف عن ذلك وكانت مطرية قد رحلت بدورها بعد معاناة طويلة لخيبة الأمل، بعد موت البكري ورحيل الزوج قبل الأوان، وانحراف شاذلي، وسوء حظ أمانة، وسلم عبد الرحمن أمين بالواقع بعد طعنه في السن، ونعمت أمانة بنجاح أبنائها وإن حل بها الكبر والسقام قبل الأوان. وبحكم الزمن شهدت رحيل الأعزة من الأخوال والخالات وبقية الأقارب، وقرأت كتاب الأحزان وهو يقلب صفحاته صفحة في إثر صفحة ... واستمعت إلى نبوءات الشيخ قاسم المرسلة من وراء السحب لتجري أحكامها فوق المصائر.
أمير سرور عزيز
ولد ونشأ في بيت القاضي، وكان بيت سرور أفندي يلاصق بيت شقيقه عمرو أفندي، كما كان أمير يقارب ابن عمه قاسم في سنه، وقد شارك ابن عمه في لعبه وجولاته، وانفصل عنه عقب مأساته على رغمه، وكان بخلاف إخوته قويا مع ميل إلى البدانة وحب للدعابة، وكان أشبه الجميع بعمه عمرو في رجولته وتقواه. وقد عرف ثورة 1919 كأسطورة من المظاهرات والمعارك والقصص فترعرع سعديا وطنيا مؤمنا. وحاول أن يقلد أخاه لبيب في تفوقه واجتهاده فشق طريقه بنجاح ولكن دون أخيه بمراحل. وبسبب من تقواه وروحه المحافظة على الآداب والتقاليد ساءت علاقته بأخته جميلة التي كانت تكبره بأربع سنوات، لاعتراضه على ما اعتبره تحررا في سلوكها لا يليق بسمعة الأسرة ولا بكرامة الدين. ولم ير أحد من أسرته رأيه فزادوا غضبه حتى قال له أبوه: أنت متعصب أكثر من اللازم فدع الأمر لي.
وبدخوله المرحلة الثانوية بدأ يشارك في المعارك الحزبية التي نشبت بعد رحيل سعد زغلول. اشترك في المظاهرات التي قامت احتجاجا على دكتاتورية محمد محمود، وأصابته هراوة لبث بسببها في المستشفى أسبوعين. وكان له ثلاثة أقارب من ضباط الشرطة في مراكز حساسة بالداخلية، حامد عمرو ابن عمه، وحسن محمود عطا ابن خال أبيه، وحليم عبد العظيم داود ابن عم أبيه، وتشاوروا في الأمر وكلفوا أقربهم إليه بتحذيره وترشيده. وكان حديث قدمه حامد على مسمع وشهود من سرور عمه، وعمرو أبيه. قال مخاطبا ابن عمه: اسمك على رأس قائمة سوداء في الداخلية.
فقال أمير ضاحكا - وكان الضحك عادته: لي الشرف.
فأشار ابن عمه إلى أثر الجرح في صدغه وقال: ما كل مرة تسلم الجرة.
Página desconocida
وقال له أبوه: لا يتورعون عن فصلك من الكلية.
وقال حامد: إني وفدي مثلك، ولكن لا بد من النصيحة.
وكان الشاب لا يخفي احتقاره لآل عطا وآل داود، وكان يشعر بفتور عواطف أبيه نحوهما، وتهكمه عند كل مناسبة بأصلهما. ومضى أمير يتألق في سماء السياسة في أوساط الشباب الوفدي، ويقدم لزعماء الوفد، ويطير بطموحه الوطني إلى آفاق بعيدة. وحاول شقيقه لبيب - وكان وكيل نيابة في ذلك الوقت - أن يفرمل من اندفاعه ولكنه قال له: قد عرفت سبيلي ولن أتراجع عنه.
فسأله بهدوئه الطبيعي: وإذا رفت ونحن فقراء كما تعلم؟
فقال بثقة: في تلك الحال أعمل في الصحافة.
ولكنه لم يرفت ولم يعمل في الصحافة ولم يواصل جهاده السياسي. ففي أوائل عهد إسماعيل صدقي، وفي طوفان المظاهرات التي قامت احتجاجا على إلغاء دستور 1923، أردته رصاصة قتيلا في شارع محمد علي. وقد تولى رجال الأمن دفنه مع كثيرين حتى لا تهيئ جنازاتهم فرصة لقيام مظاهرات جديدة، ولم يسمح لشهود دفنه إلا لأبيه وعمه وإخوته، وقد هز موته المبكر آل سرور من الأعماق، وكذلك آل عمرو، وتذكروا ما قاله له الشيخ قاسم في آخر زيارة لبيت عمه: سترفع العلم الأحمر.
فأولوا قوله بأنه إشارة إلى دمه المسفوح يوم استشهاده!
حرف الباء
بدرية حسين قابيل
ولدت في شقة بعمارة حديثة بشارع ابن خلدون، فكانت بكرية حسين قابيل تاجر التحف بخان الخليلي وسميرة كريمة عمرو أفندي والرابعة في ترتيب ذريته. وكان الحي يعبق برائحة اليهود المتفرنجين. وكانت العذوبة في ملامحها والرشاقة في أطوار سلوكها. وكانت إذا زارت البيت القديم في بيت القاضي بصحبة والديها لفتت الأنظار بنضجها المبكر. ويضحك جدها عمرو أفندي ويقول: الظاهر أنها ستستعمل الحجاب والنقاب قبل الأوان.
Página desconocida
فيقول حسين قابيل: ولكنها يا عمي ستواصل تعليمها إلى النهاية.
فتقول راضية ضاحكة: يا له من عالم مجنون، ولكنه لذيذ.
فتقول سميرة: لن نفرق بين البنات والصبيان في شيء.
وتسألها راضية: وإذا جاء عريس في السكة؟
فتقول سميرة دون تردد: عليه أن ينتظر أو يذهب مع السلامة.
فيقول الأب مداريا اعتراضه بابتسامة: سميرة ... أنت خواجاية غريبة في أسرتنا!
وفعلا حين المراهقة رآها تاجر في زيارة لدكان والدها فأراد أن يخطبها، ثم عدل لما عرف أن عليه أن ينتظر حتى تنتهي من تعليمها. ولكن جاء زائر آخر عجزوا عن التعامل معه. كانت قد جاوزت الخامسة عشرة، وكانت تجالس أمها وإخوة لها في الشرفة، عندما سقطت على وجهها متصلبة الجسد مرتجفة الأطراف وفوها ينثر الزبد ... آه ... إنه الصرع. وكانت مأساة قاسم قد حفرت في الوجدان ... ولكن هذا صرع شديد العنف. واستدعي الطبيب ونصح بالراحة وتغيير الهواء ومزيد من لين المعاملة، وانقطعت عن المدرسة، وحلت في عينيها النجلاوين، مكان النظرة المتألقة، أخرى خابية ذاهلة، وتلاشى الحوار وحل محله هذيان. واستغاثت سميرة بأمها، وقال حسين قابيل: لو كانت تملك نفعا لنفعت به ابنها.
ولكن سميرة لم تأخذ بذلك المنطق، وجاءت راضية ببخورها ورقاها وتعاويذها. وطافت بالبنت أضرحة الأولياء وآل البيت، ومضت الحال من سيئ إلى أسوأ، فلم يبق منها إلا خيال.
وفي صباح يوم من الأيام قالت بدرية لأمها: رأيت في النوم أميرا يدعوني إلى نزهة في القناطر.
فران التشاؤم على قلب سميرة، وعند الضحى احتضرت الفتاة ثم أسلمت الروح. هكذا فقدت سميرة بكريتها كما فقدت مطرية بكريها، ولكنها فقدتها وهي في أوج صباها، وأحاط بها المعزون من آل عمرو وسرور، ومحمود بك عطا وأحمد بك عطا، وعبد العظيم باشا داود. وشد ما حزنت راضية، وكانت تتذكر حال ابنتها وتناجي ربها قائلة: رحمتك يا رحمن يا رحيم.
Página desconocida
وكان سرور أفندي يحنق عليها في باطنه ويتهمها بأنها كانت السبب في عدم اختيار إحدى كريمتيه لأحد أبنائها، فراح يشنع بها كعادته في ذلك ويقول لزينب زوجته: كل ذلك موروث عن أسرتها، فما من رجل بها أو امرأة إلا وبه مس من الجنون، وهي في مقدمة الجميع.
بليغ معاوية القليوبي
هو آخر عنقود الشيخ معاوية القليوبي، وشقيق راضية زوجة عمرو أفندي، وقد ولد في بيت الشيخ بسوق الزلط بباب الشعرية، ولعله المولود الوحيد الذي أنجبه الشيخ بعد خروجه من السجن. ونشأ من صغره نشأة دينية، وألحقه أبوه بالأزهر في سن مبكرة. ويزور شقيقته في بيت القاضي فيلفت الأنظار بشبابه وجبته وقفطانه وعمامته، ويحدث في أسرة راضية إثارة تجمع بين الاحترام والفكاهة معا، وهو بطبعه يشبع الناحيتين، فيرتل القرآن بصوت جيد استجابة لأخته، ويداعب البنات والصبيان بالملح. وكان ذا وجه قمحي مستدير جذاب الملامح، ولا يخفي حبه للطعام اللذيذ، وخبرته بصنوفه لا تقل عن خبرته بالدين الذي يدرسه. وتقول له راضية بلسانها اللاذع: الأصلح أن تكون طباخا من أن تكون عالما من علماء الدين كأبيك.
فيقهقه قائلا: أنا رجل حائر بين أب عالم وأخت مؤاخية للعفاريت.
في ذلك الوقت كان الشيخ معاوية قد انتقل إلى جوار ربه، وقد تمت خطبة راضية على يديه ولكنه لم يشهد دخلتها. وعقب وفاته لم تجد غرائز بليغ من يكبحها. وفي جلسة جمعت راضية مع جليلة أمها العجوز فوق الكنبة، في مدخل البيت الذي يتصدره الفرن وتقع البئر في جناحه الأيسر، في جلسة حزينة لاحظت راضية أن أمها غارفة في بحر من الغم على غير عادة، ولما سألتها عما بها قالت: أتصدقين يا راضية؟ ... أخوك الشيخ الأزهري بات يرجع كل ليلة سكران فاقد الوعي؟
وفزعت راضية وهتفت: أعوذ بالله. - أنا ... أمامه بلا حول.
ووجدت راضية نفسها أعجز من أمها حياله ... واستعانت بعمرو أفندي ولكن بليغ كان يتظاهر بالندم ويتمادى في ضلاله. وأثار فيما حوله استهجانا عاما وسخطا متصاعدا، فترامت الأنباء إلى إدارة الأزهر، وانتهى الأمر بفصله وطرده بدون أن يحصل على العالمية. وجد نفسه ضائعا وبلا مورد. وكانت أمه تملك قطعة أرض فضاء فنزلت له عنها فباعها، وقرر أن يستثمرها في بقالة الجملة. وسافر إلى أهل أبيه في قليوب وراح يشتري الجبن والسمن، ويحملها إلى القاهرة ليوزعها على البقالين، وقامت الحرب العظمى الأولى فأثرى ثراء مذكورا وتحسنت أحواله. ومن يومها أخذ نجمه في التألق والصعود. وفي تلك الفترة تزوج من أمينة الفنجري؛ أسرة ذات مال واحترام، ولما قامت الحرب العظمى الثانية بلغ غايته من الثراء، فشيد العمائر، وبنى لنفسه سراي في القبيسي عرفت في الحي ب «عابدين القبيسي» لعظمتها وفخامتها، ولم ينجب إلا ولدا واحدا رآه من كبار القضاة، وأثبت أنه تاجر ماهر، ولكنه لم يتخل عن الداء الذي طرد من أجله من الأزهر حتى آخر عمره. وكان يزور بيت القاضي في الحنطور تارة أو السيارة فيما بعد، محملا بالهدايا، مشيعا في الخلق الأثر الذي يتابعه خفية بسرور لا مزيد عليه. وكان يحافظ على صلاته وصومه وزكاته محافظته على كأسه، ويثابر على الاستغفار مثابرته على الغرور والفخار. وقد امتد به العمر حتى مشارف الخمسينيات، بعد أن رحل أحمد عطا وعمرو وسرور ومحمود عطا وجليلة أمه وأخواته نهيرة وشهيرة وصديقة فلم يبق بعد إلا أخته الكبرى راضية مؤاخية العفاريت. وقد أصيب بتليف الكبد، ولازم الفراش الوثير نصف عام ثم فارق الحياة وهو نائم، أو هكذا خيل لزوجته أمينة الفنجري.
بهيجة سرور عزيز
شهد ميدان بيت القاضي ملاعب طفولتها مع أخيها لبيب وأختها جميلة، ومنذ نشأتها خالطت بنات وأبناء عمها عمرو. وجمع الطبع الهادئ بينها وبين أخيها الأكبر لبيب وابنة عمها سميرة، وإن ماثلت في العمر ابن عمها قاسم. تبدى وجهها في هالة بيضاء كأمها ست زينب مشربة بحمرة. صافية العينين الخضراوين، في صوتها دسامة تذكر بصوت والدها سرور أفندي. وفي سجيتها رزانة فطرية جرت عليها تهمة ظالمة بثقل الدم، ومحافظة على التقاليد وتدين حصناها ضد عبث الصبا. واكتفى في تعليمها بالكتاب كبنات عمها وأختها جميلة. وتفرغت مثلهن لفن البيت من طهي وحياكة وما يجري مجراهما، وأخذت موضعها منذ وقت مبكر في محطة الانتظار التقليدية، انتظار ابن الحلال. ولعل أنسب أحد لها من الأسرة كان حامد ابن عمها، ولكن آل عطا المراكيبي استولوا عليه بوضع اليد مما أثار أشجان سرور أفندي وزوجته زينب هانم. وكانا قد مرا بالتجربة نفسها عندما راودتهما الأحلام في زواج عامر من جميلة. وعلى ذلك قام سرور لشقيقه عمرو: ألم تفكر في بهيجة قبل أن تهدي حامد لمحمود المراكيبي؟
فقال له عمرو: نحن يا سرور فقراء على باب الله ونبحث لطيورنا عن ريش، وابنتك جميلة والحمد لله ولن يطول انتظارها.
Página desconocida
من أجل ذلك تناقضت عواطف سرور حيال شقيقه الأكبر بين الحب والمرارة، كعواطفه حيال أهله جميعا مما أطلق لسانه فيهم كالخنجر بلا رحمة، ومما أنزله في النهاية من قلوبهم منزلة لا تقارن بحال بالمنزلة التي حظي بها أخوه عمرو. وغضبت زينب زوجته لذلك الجواب الناعم المحبط الذي يلطمهم به للمرة الثانية، وقالت بسخط شديد رغم أنها لم تخرج عن برودها السطحي: أنا أعرف السر وراء ذلك كله!
فقال سرور: المسألة أن أخي شديد الشعور بضعته بين أقاربه الأغنياء، ويتحرق دائما على التعلق بفروعهم العالية. - ولا تنس راضية ربيبة الجان والسحر أنها تغار مني وتضن علي بالخير.
لم تكترث بهيجة لضياع حامد ... كانت تنفر من خشونته وابتذاله. في الوقت نفسه راقبت بازدراء شديد العبث الفاضح الذي تمارسه أختها جميلة مع ابن عمها قاسم. كانت أختها ابنة ست عشرة وابن عمها في الثانية عشرة أو يزيد قليلا، فما هذا الذي تضبطه أحيانا فوق السطح أو تحت بئر السلم؟! الأخلاق تأباه والدين يتوعده وهي تكتمه خوف العواقب. ولما خطبت جميلة وعقلت وجدت نفسها تفكر في قاسم بدورها. لم تكن كأختها النزقة المجنونة. خفق قلبها بعاطفة رقيقة ولكن داخل قفص ذي قضبان صلبة من الحياء والتقاليد. وقد انتبه الفتى لها وقرأ في عينيها الصافيتين النداء الصامت، وسرعان ما لبى مفعما بالشهوة والأمل في أن يواصل معها العبث الذي انقطع بضياع جميلة. ولكنه وجد قلبا وإرادة من فولاذ. وحام حولها كالمجنون حتى قالت لها أمها: إنه من سنك فلا يصلح لك.
لم تعترض ولكنها لم توافق فقالت الأم: أمامه مرحلة طويلة ولا تنسي أمه.
وشعرت بالتعاسة. ولما ألم بالفتى ما ألم فاعتبر مفقودا غرقت في التعاسة حتى قمة رأسها. ولم تر بدا من العودة إلى محطة الانتظار. ولكن انتظارها طال دون سبب حتى وضعتها ألسنة الأسرة في سلة واحدة مع دنانير بنت عمتها رشوانة. البنت جميلة ومثال كريم للأخلاق الفاضلة، فلم صد عنها الخطاب؟! وطال الانتظار وانكسار القلب حتى توفي عمها عمرو وأبوها سرور وأمها زينب.
وجاء عام 1941 وهي وحيدة في بيتهم القديم المجاور لبيت عمها في بيت القاضي، تعاونها أم سيد، وينزل بها أخوها لبيب كالضيف الذي أقصاه عمله عن القاهرة. وجعلت تقترب من الثلاثين وهي تمضغ اليأس ليل نهار، وليس لها من الدنيا إلا نصيبها من معاش أبيها. وفجأة - وكأنما بوحي - انتبه لها الشيخ قاسم من جديد وقال لأمه: أريد أن أتزوج من بهيجة!
واعتبرت راضية الطلب كرامة من كراماته، وأمرا تنزل يحيط به الغمام، فحدثت لبيب في أول زيارة. ففكر الرجل طويلا. ابن عمه لا ينقصه المال ولكن ...! وعرض الأمر على أخته فتلقى الموافقة. أهو اليأس؟ أهو الحب القديم؟ ... أهو الخوف من الوحدة؟
وتم الزواج الذي تندرت به الأسرة طويلا في ليلة تعرضت فيها القاهرة لغارة جوية طويلة وزلزلت أركانها بدوي المدافع المضادة.
وانتقلت بهيجة إلى بيت عمها، لأن قاسم أمر بألا يغادر بيته. ومضت أعوام دون أن تنجب ولكن قاسم طمأنها قائلا: سوف تنجبين ذكرا عندما يرضى القمر.
وقد أنجبته في عام 1945 وأسماه أبوه النقشبندي، بدأ حياته التعليمية عقب قيام ثورة يوليو، وثمل طوال عهد دراسته بالعظمة والمجد، وحظي بوجه مشرق وقوام رشيق وذكاء لماح، وتخرج مهندسا عام 1967. وتقرر إرساله في بعثة، ودعت له راضية وهي في قمة شيخوختها، وقال له أبوه: الله معك، إني أودعك بلا دموع.
Página desconocida
وسافر النقشبندي إلى ألمانيا الغربية بعد مضي أشهر على 5 يونيو، مهيض الجناح حزين الفؤاد، وعلم هناك بموت الزعيم فلم يحزن، ولما حصل على الدكتوراه عدل نهائيا عن العودة إلى مصر، وعمل في ألمانيا وتزوج من ألمانية ثم تجنس بالجنسية الألمانية، ولما علم أبوه بذلك قال مرة أخرى: الله معك، إني أودعك بلا دموع.
وبعد رحيل راضية بقي قاسم وبهيجة في البيت القديم وراء شجرة البلخ التي شهدت حبهما القديم، وما زال قلباهما ينبضان بالحب والعزلة.
حرف الجيم
جليلة مرسي الطرابيشي
ولدت في أواخر الربع الأول من القرن التاسع عشر في باب الشعرية لأب كان يعمل في مصنع الطرابيش الذي أنشأه محمد علي فيما أنشأ من مصانع. وكان الأب قريبا للشيخ القليوبي وغير بعيد من بيته بسوق الزلط، فخطب ابنته جليلة لابنه الشيخ معاوية الذي بدأ حياته في ذلك الوقت كمدرس مبتدئ بالأزهر الشريف. هكذا صارت ربة البيت القديم بسوق الزلط وعرفت في الحي بجليلة الطرابيشية. وكانت ذات قامة طويلة، جعلتها تنظر إلى الشيخ من عل - الأمر الذي لم يغفره لها أبدا - سمراء رشيقة ذات جبهة عالية وعينين بنيتين نجلاوين، وقد أنجبت له مع الأعوام راضية وشهيرة وصديقة وبليغ ، وعرفت بأنها موسوعة في الغيبيات والكرامات والطب الشعبي، وكأنما أخذت من كل ملة بطرف بدءا من العصر الفرعوني، ومرورا بالعصور الوسطى. وحاول الشيخ معاوية ما استطاع أن يلقنها أصول دينها ولكنه من خلال المعاشرة الطويلة أخذ منها أكثر مما أعطاها. فكان يطاوعها «حين المرض» وكلما دهمه خطب من خطوب الحياة، يسلمها رأسه لترقيه، أو يستسلم لبخورها، أو يردد وراءها بعض التعاويذ. وكانت صلبة، عنيفة إذا لزم الأمر، فكانت الجارات يعملن لها ألف حساب، ولقد لقنت بناتها جميع ما لها من علم وخبرة، فاستجبن لها بدرجات متفاوتة، وبرعت راضية في استيعاب ميراثها أكثر من الجميع، وحظيت بحبها أكثر من أي من ذريتها بما فيهم الابن بليغ. وكلما أراد الشيخ معاوية التسلط عليها صمدت له بصلابة، حتى التهديد بالطلاق لا يخيفها، ولم تغب عنه قوة أخلاقها ومهارتها المنزلية الفائقة، فتراجع راضيا بالمهادنة والمشاركة. وكانت تقدس معتقداتها لدرجة التفاني والتصلب، وتجلى ذلك يوم وفاة زوجها الشيخ معاوية في عصر الاحتلال. كانت خطبة راضية لعمرو، وقد أعلنت عقب اتفاق جرى بين الشيخ معاوية وعزيز زياد والد عمرو وصديق الشيخ. وعقب الوفاة بساعة واحدة، وصوات ست جليلة يذيع الخبر المشئوم، وصل نيشان العروس، أولى هدايا العريس، على غير علم منه بما حدث. وتقبلت جليلة الهدية - سمكة في حجم ابنها بليغ - ونفحت حامليها بما قسم. وانقبض قلبها لمجيء النيشان وسط هدير الصوات، وأشفقت من عواقب ذلك على مستقبل أحب ذريتها إليها. ووقفت فوق رأس الشيخ المسجى بلحافه الأخضر وناجته من قلبها المكلوم: اغفر لي يا معاوية.
وهرولت إلى حجرة في الجانب الشرقي للبيت تطل من بعيد على جامع سيدي الشعراني وهي تقول لنفسها: لا يفك عقدة النحس إلا استقبال الهدية بما يليق.
وجففت دموعها ووقفت وراء النافذة وأطلقت زغرودة مجلجلة ترقص على أنغام فرح متدفق. ورجعت بسرعة إلى حجرة الجثمان وراحت تصوت من أعماق صدرها. ولم يغب ذلك عن بعض الآذان الماكرة، وتهامسن به، ثم تندرن به على مدى العمر وتنوقل كشهادة حية على غرابة أطوار المرأة المثيرة، التي جمعت بين التقوى والحب والجنون. ولكن لم ينل خطب من بنيانها المتين ما ناله رحيل زوجها، حزنت عليه بالطول والعرض ولبثت تلهج بمآثره الحقيقية والخيالية طيلة عمرها الطويل. فقد عمرت حتى جاوزت المائة ... بعشرة أعوم، عاصرت فيها فترة من حكم محمد علي وعهود إبراهيم وعباس وسعيد وإسماعيل وتوفيق والثورة العرابية وثورة 1919. ولم يرسب في أعماقها زمن كالثورة العرابية التي اعتبرت من أهم رجالها، وما أكثر ما روت من بطولاته وسجنه لأحفادها، وذهب بها الخيال في ذلك كل مذهب حتى ليخيل للسامع من أبناء وبنات راضية أن الشيخ معاوية هو الذي عرب محمد علي، وهو الذي اعتمد عليه عرابي بعد الله، واختلطت صورة عرابي في رأسها بعنترة والهلالي وآل البيت إكراما قبل كل شيء لذكرى الشيخ معاوية. ولم تسعد بذريتها سوى براضية وأبنائها. وحظي عمرو برضاها، وإن لم تزر بيت القاضي إلا مرات معدودات بسبب طعونها في السن، أما شهيرة وصديقة وبليغ فقد تركن في قلبها جراحا لا تلتئم. أنت تقول لبليغ وهو ملقى مخمورا على كنبة المدخل: أنت سكير عاص وعار على زيك الشريف.
ولما أورقت شجرته وصار تاجرا مرموقا قالت له: وهبك الله الثروة ليمتحنك فاحذر امتحانه.
وكان بليغ يحبها ويشك في سلامة عقلها، وقد رجعت شهيرة إلى بيتها طريدة فملأته قططا، أما صديقة فوا أسفا عليك يا صديقة.
وكان قاسم أحب الأحفاد إلى قلبها؛ يغمرها بقبلاته، وينصت لحكاياتها، ويصدقها بقلبه وحواسه، ولما حصل ما حصل، لم تجزع وقالت لراضية: أبشري، ربنا وهبك وليا.
Página desconocida
وفي السنوات الخمس الأخيرة من عمرها نهاية الربع الأول من القرن وعند مشارف الثلاثينيات، أقعدها الكبر، وسدت المنافذ بينها وبين الوجود ففقدت السمع والبصر، وبقي لها الوعي فكانت تعرف الأحباب بأناملها، وقامت شهيرة بخدمتها ما استطاعت حتى ضاقت بها، وكانت أحن على القطط منها على أمها. وكانت تشكوها إلى راضية كلما قامت بزيارة لها، فتعاقب راضية شقيقتها وتذكرها بوصية الرسول بالأم فتقول شهيرة: ما أسهل الوعظ، ولكنك تعيشين مكرمة في بيتك وتلقين علي وحدي تنفيذ الوصية!
وفي إحدى الزيارات وجدت راضية المدخل يموج بالقطط، تموء وتتداخل بأسلوب وحشي ينذر بالدهشة، ورأت جليلة ملقاة على الكنبة مسلمة الروح، وكانت شهيرة نائمة في الدور الأعلى.
جميلة سرور عزيز
لم ير ميدان بيت القاضي وأشجاره المثقلة بأزهار «ذقن الباشا» أجمل منها إلا تكن مطرية ابنة عمها عمرو، وهبتها أمها بشرتها العاجية وعينيها الخضراوين النجلاوين، وفاقت أمها بفيها الأنيق كالقرنفلة وجسمها المدمج. وبخلاف أمها كانت تموج بالحيوية والخفة واستمدت من غرائز أبيها لفحات حارة خضبت وجنتيها بماء الورد الأحمر، وسبقت زمنها لا بالتعليم، فلم يجاوز نصيبها منه محو الأمية كأختها وبنات عمها، ولكنه بالتحرر التلقائي المنطلق بقوة نضج مبكر ونداء الأشواق المبهمة، فتلوح في النافذة لتسقي أصيص الورد، أو تخطر بنصف نقاب فيما بين بيتها وبيت عمها المجاور، أو تلاقي النظرات الجائعة بدلال متمرد، في طفولتها كانت تجول في الميدان بصحبة أخيها الأكبر لبيب، وانضم إليهما بعد سنوات قاسم. كانت تكبر قاسما بسنوات ولما ناهزت الحلم لم تجد سواه لعبة لقلبها المتحفز. وكلما خلت به لاعبته لتوقظه من براءته فتبعها في حيرة ثملة ممتعة كرؤية جمال الفجر لأول مرة، ولمس بأنامله المتشنجة جواهر حال الجهل بينه وبين معرفة قيمتها. ولما قارب الثالثة عشرة سقط في الشهد قبل الأوان. وتفتح على راحتها الناعمة المخضبة بالحناء كالوردة وأخلد بكل عذوبة إلى نفثات صدرها المضطرم، وبسبب من تلك الرعونة تصدى لها أخوها أمير، وعنفها حتى ضاقت به وبكت. وقالت له أمه: تذكر أنك أخوها الصغير.
فقال لها: سمعتنا!
فقالت زينب بهدوئها الذي لا تخرج عنه: إني أعرف بنتي تماما وهي مثال للأدب.
ولما جاوز أمير حدوده قال له سرور أفندي: دع الأمر لي.
وكان سرور أفندي يميل إلى التسامح المعتدل، وكان في ذلك الوقت يتساءل عما جعل عامر ابن أخيه عمرو يميل إلى عفت بنت عبد العظيم داود دون جميلة بنت عمه. ويقول لزوجته: الله يخيبه. أليست بنتنا أجمل؟
فتقول زينب ساخرة: أليس هو ابن راضية المجنونة؟!
ويقول سرور بمرارة: أخي يزعم أنه من أهل الطريق، ولكن رغبته في القرب من أهله الأغنياء تفوق رغبته في القرب من الله!
Página desconocida
والحق أن جميلة أخافت الأسر المحافظة من الجيران فأحجمت عنها رغم جمالها، حتى قيض لها حظها ضابط شرطة جديدا بقسم الجمالية يدعى إبراهيم الأسواني. كان ممشوق القوام طويله غامق السمرة، رآها فأعجبته، ووجد سمعة البنت طيبة، فخطبها بلا تردد. وما يدري قاسم إلا وفاتنته ومعلمته تتغير بين يوم وليلة كتفاحة اجتاحها العطب؛ اختفت وحل بها وقار، لا يحل إلا مع الزمن الطويل، وزفت إلى العريس في مسكنه بدرب الجماميز في حفل أحيته الصرافية والمطرب أنور. وما لبثت الأسرة الجديدة أن غادرت القاهرة بحكم عمل الزوج، فمضت أعوام وأعوام وهي تشرق وتغرب دون إنجاب، وبعد أن مات سرور أفندي قبل أن يرى أحفاده من جميلة. وفي أثناء ذلك حصلت لإبراهيم الأسواني أمور، فقد كان وفديا، وافتضحت عواطفه في تراخيه بالقيام بواجبه في عهود الديكتاتوريات، حتى انتهى الأمر بفصله. وكان قد ورث عشرين فدانا فرحل بأسرته إلى أسوان، وانضم إلى الوفد جهرا، وانتخب عضوا بمجلس النواب، وثبت عضوا دائما بالهيئة الوفدية. وأنجبت جميلة بعد العلاج من عقمها خمسة ذكور عاش منهم سرور ومحمد، وكان الزواج قد حولها من الرعونة إلى رزانة عجيبة وجدية فائقة وأمومة سخية، وكأنها قد تمادت في بدانتها إلى درجة يضرب بها المثل. ولم يكن إبراهيم الأسواني يخلو من انفعالات وأحوال، ولكنها كانت كالمحيط الذي يستقبل الأمواج العالية والعواطف الهادرة ثم يهضمها في صبر وأناة كي يعود إلى هدوئه الشامل وسيادته الكاملة. فهذا يصدق أنها هي التي نصحت أمانة بنت مطرية مرة فقالت لها: على الزوجة أن تكون مروضة للوحوش!
ولما قامت ثورة يوليو أيقن إبراهيم الأسواني أن حياته السياسية قد انتهت، فاعتزل في أرضه وتفرغ للزراعة، وكان ابناه سرور ومحمد قد صارا ضابطين طيارين، وانقرضت هذه الأسرة بقضاء لا راد له. أما إبراهيم الأسواني فقد قتل في تصادم بين قطارين عام 1955. كان في الخامسة والخمسين وجميلة في الخمسين . وأصيبت طائرة سرور في حرب 1956 ولقي مصرعه، ولحق به أخوه محمد في حرب 1967، وأنقذت جميلة من الوحدة والأحزان عام 1970 فماتت بسرطان المعدة وهي في الثالثة والستين من عمرها. وكانت حين وفاتها كأنها مقطوعة من شجرة لا أهل لها.
حرف الحاء
حازم سرور عزيز
من أيامه الأولى نشأ عزوفا متوحدا يقف أمام بيته مبتعدا عن إخوته وأبناء عمه يتفرج على الرائح والغادي بين حارات الميدان. لم يدخل بيت عمه عمرو مرة واحدة، وكان عمرو يقول لسرور ضاحكا: ابنك حازم عدو للبشر.
وكان وسيما كأمه، قصيرا كبهيجة، وفي عينه اليسرى ضعف طبيعي بلغ بها العمى، ولم ير ضاحكا أو منفعلا قط. وتجلت نجابته منذ كان في الكتاب فأوشك أن يعيد سيرة أخيه الأكبر لبيب، وانحصر في ذاته فلم يعرف هدفا في الحياة سوى النجاح والتفوق، وجهل وجوده جميع أهله من آل عطا وآل داود. ولتفوقه لم يكلف أباه مليما في تعليمه، حتى الهندسة دخلها بالمجان بكل جدارة وتبين لأخيه أمير أنه لا يعرف اسم رئيس الوزراء ولا ينظر في الصحف ولا تصل إلى وجدانه أي موجة من بحر الأحداث التي يضطرب بها الوطن. وسأله: أتظن الدنيا مذاكرة فحسب؟!
ولكن لم يكن بوسع أحد أن يجره إلى مناقشة على الإطلاق. ولما رحل أمير ضحية لجهاده، ذهل وصمت ووجم ولم ينبس بكلمة ولم يذرف دمعة، وسرعان ما واصل حياته وتخرج مهندسا في عام 1938، ولم يتجه نحو الحكومة بسبب عجزه، ولكنه وجد وظيفة أفضل في شركة مقاولات الدكتور محمد سلامة الذي كان أستاذا له في المدرسة. كان الدكتور المهندس يعجب به ويحبه ويرى فيه مثالا للذكاء والعمل والبعد عما يثير المتاعب. وكان يزور أستاذه في ڨيلته بالدقي لإنجاز بعض الأعمال، وهناك عرف كريمته سميحة. كانت على درجة من الجمال مقبولة ولكنها كانت كريمة مديره وأستاذه، وهو الأهم. ولم يغب عن فطنته أن البك يشجع تعارفهما، وأدهشه ذلك لما يعرفه الرجل من بساطة أصله وفقره. وركبه الغرور حينا من الدهر، إلى أن تم الزواج وأقام في شقة بعمارة يملكها الدكتور المهندس وحسب أنه ملك العالمين. هناك وضحت له الحقيقة وجابهته بوجه منذر بالخطر، بأن العروس ذات جهاز عصبي لا يخلو من خلل، وسرعان ما أسفرت عن طبيعة لا يمكن مداراتها. كانت عاصفة تهيج وتنتشر لأوهى الأسباب. وربما بلا سبب ألبتة. وكان قد خلق بجهاز مانع للصواعق فطري اقتبسه من ست زينب أمه، وكان يعيش برأسه لا بقلبه، فقال لنفسه وهو ملتف بالروب الحريري الكحلي وغائص في الفوتيل بحجرة المعيشة: ليكن، فهي زيجة على أي حال عادلة.
ضمنت له مستقبلا يعز عن الأحلام، وهو يملك من الذكاء والهمة ما يجعله قادرا على استثماره على خير ما يمكن أن يكون، ولو كانت سميحة عروسا كاملة أو حتى عادية لاستحقت زوجا من طبقتها في درجة عالية أو في السلك السياسي، ولقد أهداها أبوها إليه بعد تفكير وتدبر وعليه أن يقبل الهدية بتفكير وتدبر كذلك، وقال لنفسه أيضا: إن تكن مريضة فأنا الطبيب!
وقد كان.
وتتابعت وفيات آل سرور وعمرو الهامة قبيل الحرب العظمى الثانية، وفي أثنائها بدأت برحيل عمرو، فسرور، ثم زينب. وكانت سميحة قد ضاقت بزيارات أمه وأبيه وإخوته فقررت في لحظة جنون ألا تشارك في العزاء! ونظر إليها بتوسل وقال: ولكن.
Página desconocida