Conversaciones de mañana y tarde
حديث الصباح والمساء
Géneros
وراح عطا يفكر بعقل مدبر لم يجد من قبل الفرصة المناسبة لاستغلال مواهبه. وشاور في أمره أهل الحل والعقد في تلك الشئون من جيرانه الأغنياء واليهود المدربين. وفي الحال اقتنى أراضي فضاء، وشرع في تشييد السراي الكبرى بميدان خيرت، وعقب مرور زمن اشترى عزبته في بني سويف وأقام فيها السراي الريفية. وأنجبت له هدى هانم الألوزي محمود وأحمد، ومضى يدرس الزراعة ويوثق علاقاته بجيرانه الجدد، والحق أن الثروة كشفت عن مواهبه الكامنة وقوة شخصيته، كما هتكت حرصه وشحه وجشعه اللانهائي إلى الثراء. وبخلاف الظنون فرض سيطرته الكاملة على امرأته والمتعاملين معه حتى شبهه الشيخ القليوبي بالوالي الذي جاء مصر جنديا بسيطا ثم تعملق فوق هامة إمبراطورية مترامية، بل كانت نهاية إمبراطور بني سويف خيرا من نهاية الوالي ألف مرة. ووهنت علاقته بأصدقائه القدامى، ولكنه لم ينقطع من زيارة نعمة وعزيز في الغورية، يغزو الحي في حنطوره طاويا نظرات الحسد تحت حذائه، مقدما الهدايا العابرة في المناسبات، ويدعو الأسرة إلى سراي ميدان خيرت، الأمر الذي ربط بالمحبة قلوب رشوانة وعمرو وسرور ومحمود وأحمد. ولكن نوبات كرمه تلك لم تجاوز حدودها أبدا، بل بدا أن ابنيه أحن على أختهما الفقيرة نعمة منه هو. وطبعا دفع بابنيه إلى المدارس ولكن أنفاسهما انقطعت بعد الابتدائية كابني أختهما عمرو وسرور، ولم يأبه لذلك وراح يعدهما للزراعة إلى جانبه، أما محمود فقد شرح صدره بقوة استجابته وصلابة شخصيته، وأما أحمد فقد خاب أمله فيه حتى تركه يائسا لحياته الوادعة. وكان بكري العرشي رب أسرة مملوكية تجاور عزبته وكانت له بنتان، نازلي وفوزية، مثالان في الجمال والتهذيب، فخطبهما لابنيه محمود وأحمد، واحتفل بزواجهما في فرح واحد أحياه عبده الحامولي وألمز. وعمر عطا في الوجود حتى أدرك الثورة العرابية، ولم تغز وجدانه من مدخل وطني ولكن من زاوية أملاكه وأمواله، فلما صعدت موجتها حتى ظن لها النصر المبين أعلن تأييده لها، وتبرع بشيء من المال طاويا آلامه في صدره، ولما تكالبت عليها القوى المعادية ولاح فشلها في الأفق أعلن ولاءه للخديو. وجاء عصر الاحتلال البريطاني فساوره القلق مرة أخرى من تلك الأحداث التي لا يدري ما عقباها على أرضه. وقال له نسيبه بكري العرشي: لن يغادر الإنجليز هذا القطر، ولن نخرج ما حيينا من الإمبراطورية البريطانية.
ولما شعر بأنه يمضي نحو النهاية قال لابنه محمود: سأترك لك نصيحة هي أغلى من المال، اعتبر العزبة وطنك وهبها كل نقطة إخلاص في قلبك، وحذار من الخطب والشعر.
ومات الرجل بالشيخوخة وحدها، ولحقت به زوجته بعد أشهر، فورث الثروة كلها محمود وأحمد، وانطفأ أمل عزيز ونعمة إلى الأبد.
عقل حمادة القناوي
في خان جعفر ولد، وفيما بين بيت القاضي وبين القصرين وحارة الوطاويط وابن خلدون والعباسية الشرقية وبين الجناين وميدان خيرت، لعب وطاف وساح وصادق وأحب. وهو الثاني في ذرية صدرية وحمادة القناوي، اقتبس من أمه عينيها الجميلتين، ومن أبيه أنفه الأفطس وقوة جسده مع ميل شديد إلى القصر. وعشقه أبوه وكرسه بكل فخار وليا للعهد. وتابع نجاحه في التعليم بسعادة وزهو، فعوضه عن جهله وأميته خيرا وأي خير. وعشق منذ صباه الدين والهندسة، والتحق بكلية الهندسة، ولم ينقطع عن القراءات الدينية، ومال إلى الفلسفة الدينية أيضا، ثم جرفه تيار من الأفكار المتضاربة فاستقر عمرا في مقام الحيرة. وفي تجواله في فروع أسرته أعجبته هنومة بنت خالته سميرة فأراد أن يحجزها لنفسه ولكن البنت قالت لأمها: أنا أطول منه بصورة واضحة فهو غير مناسب!
وصدمه ذلك وأشعل في جوارحه الغضب. وظل مواظبا على الصلاة والصوم رغم شكوكه؛ لم يستطع أن يؤمن ورفض أن يكفر، ولاذ بالفرائض. وتفشى الشك في خلاياه فلم يستطع أن ينتمي. انتبه إلى الوفد في عصر هبوطه، وكره انغلاق الماركسيين، واحتقر تهريج مصر الفتاة، ولما قامت ثورة يوليو نفر منها رغم عدم مساسها له؛ لشعوره بعداوتها لطبقة الملاك التي ينتسب في النهاية إليها. وحزن كثيرا على أخته وردة كما حزن على أبيه. ولما تخرج توظف في مكتب هندسي وفكر جادا في الزواج لعله ينتشله من الخواء الذي يخنقه. وأعجبته أخت لزوج أخته نهاد فخطبها وتزوج منها، وأقام معها في شقة في عمارة صغيرة مجاورة لبيت خاله عامر ب «بين الجناين». وكانت لهفته على الإنجاب حارة كآل أبيه، ولكن تبين له أنه عقيم لا ينجب، وشد ما أحزنه ذلك وأوجعه. وقالت له جدته راضية : لا تصدق الأطباء ولا تيأس من رحمة الله.
وتبدت له الحياة في صورة رغائب مستحيلة، دائما حبيبة ومستحيلة. ولما خلا بيت أمه من الأنيس وانفردت صدرية بوحدتها قال لها: تعلمين كم أحبك، أقيمي معنا في بين الجناين.
فقالت باسمة: لا أترك الحسين ولا جدتك.
وحرص أكثر على أداء الفرائض وعلى جني أرباح موهبته المعمارية. وذات يوم قال لحكمت زوجته: لا أحب أن تبقي معي يوما واحدا دون رغبة حقيقية.
فتجهمت دقيقة ثم قالت: إني راضية تماما والحمد لله.
Página desconocida