وبينت في مؤلفاتي التي أشرت إليها آنفا أنه يمكن العروق التي تتالف أمة منها بفعل الأحوال السياسية أن تصهر في عرق واحد مع الزمن، وذكرت أن تلك العروق تنتهي إلى عرق واحد عندما تؤدي البيئة والتوالد والوراثة في غضون القرون إلى اكتسابها صفات جثمانية وأخلاقية وعقلية واحدة.
وفي تلك المؤلفات أثبت أن ذلك الثبات لا يتم إلا بشرطين أساسيين؛ الأول: أن يكون التحول بطيئا وراثيا، والثاني: ألا يكون تفاوت في نسب العروق المتوالدة.
والشرط الثاني على جانب عظيم من الأهمية، فلا تلبث جماعات صغيرة من البيض أن تزول إذا توالدت هي وفريق كبير من الزنوج، فعلى هذا الوجه غاب الفاتحون من غير استثناء عندما اختلطوا بأمم أكثر منهم عددا، كالعرب في مصر؛ فالمصري المعاصر، وإن كان عربيا بلغته ودينه ونظمه، هو، بالحقيقة، من ذرية مصريي العصر الفرعوني كما تدل على ذلك مشابهته لما في المعابد والمقابر المصرية القديمة من الصور المنقوشة.
وما عزي إلى البيئات من التأثير في تحول العروق هو، بالحقيقة، ضعيف إلى الغاية، ولم يبد إلا بتراكم القرون، وإن شئت فقل قبل التاريخ، واليوم بلغ تأثير البيئات من الضعف في تبديل الأخلاق التي ثبت أمرها بالوراثة ما تراه، مثلا، في بني إسرائيل الذين حافظوا على مثالهم الثابت مع وجود أناس منهم في كل بلد.
والأخلاق التي ثبت أمرها بالوراثة هي من الرسوخ ما يهلك به العرق القديم إذا ما انتقل إلى بيئة تفرض عليه أن يتحول تحولا أساسيا، فالتبوء وهم باطل ، ومن هذا أن الإنجليزي لم يقدر على تبوء الهند مع مراعاته جميع قواعد الصحة، فتراه يربي أولاده في أوروبا، فلولا ذلك ما رأيت في الهند أوربيا بعد الجيل الثالث، فلا يفل الوراثة إلا الوراثة، ولن تجد للبيئات مثل هذا السلطان.
وأثر البيئات في العرق، مهما يكن ضعيفا، موجود على كل حال، والوراثة هي التي تمن عليه بالقوة، فإذا كانت العناصر المتقابلة غير متفاوتة، على حسب الشرط الثاني المذكور آنفا، تفاوتا مانعا من امتزاج عرقين انحلت مؤثرات الماضي الثقيلة بفعل المؤثرات الوراثية المعاكسة المساوية لتلك، فلم تجد البيئات، إذ ذاك، ما تكافحه فسارت طليقة وأتت بعملها حرة.
انتهينا إلى النتيجة الأولى القائلة إن جديد العروق يتكون بتوالد مختلف العروق، لا بفعل البيئة وحدها، والآن ترانا أمام مسألة ذات أهمية عملية لما يتوقف على حلها من تعيين مصير إحدى الأمم وهي: ماذا تكون قيمة عرق جديد تكون على هذا الوجه؟ لا ريب في خيره إذا كان مساويا لأرقى العرقين المتوالدين أو أعلى منه، ولا ريب في ضيره لأرقى ذينك العرقين على الأقل عند العكس.
درسنا هذه المسألة الأساسية في مباحثنا السابقة، ولا نذكر هنا غير النتائج، ونحن حين استندنا إلى درس ما نشأ عن التوالد من النتائج في مختلف أقطار الأرض أثبتنا أنه يكون نافعا أو ضارا بحسب الأحوال، فهو يكون نافعا عندما يكون بعض العناصر المتقابلة متما لبعض بدلا من أن تتعاكس، وذلك كما اتفق للعناصر التي تألف الإنجليز من توالدها، وهو يكون ضارا عندما تكون العناصر المتوالدة مختلفة حضارة وماضيا وأخلاقا، وذلك كما أسفر عنه توالد الأسود والأبيض وتوالد الهندوسي والأوروبي.
وسنعود إلى مسألة توالد الهندوس والأوروبيين في الفصل الذي خصصناه للبحث في طوائف الهند، وفيما نجم عن ذلك التوالد من النتائج السيئة، فسنرى أن مثل هذه النتائج السيئة، التي نشأت عن توالد متباين الشعوب، مما عرفه فاتحو الهند القدماء فوضعوا، على الأرجح، نظام الطوائف الذي هو أساس نظم الهند الإجتماعية.
وفي كتاب آخر درسنا أمور التوالد وبحثنا فيما تؤدي إليه من النتائج السياسية والاجتماعية بحسب الأحوال، فأثبتنا أنها أهم العوامل في انحطاط العروق والدول، وذكرنا ما تسفر عنه مصاقبة عرقين عبد أحدهما الآخر، وألمعنا إلى السبب في سهولة احتمال السيطرة الأجنبية عند قليل من التباين بين شعبين كما اتفق للمسلمين في الهند، حيث اعتنق خمسون مليون هندوسي دين النبي، وأشرنا إلى السبب في صعوبة احتمال تلك السيطرة عند شدة التباين بين شعبين كما يحدث للإنجليز الذين مضى على فتحهم لبلاد الهند قرون فلم يستطيعوا حمل رعاياهم على انتحال ديانتهم ولغتهم، والديانة واللغة هما العاملان اللذان يبدأ بهما ادغام إحدى الأمم.
Página desconocida