وكان دخل بيت المال يقوم على الضرائب والمناجم، كما في بغداد، وكانت مناجم الفضة والذهب والزئبق غنية في ذلك الزمن، وكانت الضرائب تتألف من العشر العيني لمحاصيل أراضي المسلمين، ومن الجزية التي يعطيها النصارى واليهود، ومن الجمارك والمكوس، فبلغ دخل دولة الخلافة في إسپانية ثلاثمائة مليون في إبان عظمتها، أي في عهد الحكم الثاني.
وقلنا: إن الإمامة الثقافية كانت للعرب في البلاد، وأما العوام فكانوا من البربر، ومن سكان البلاد القدماء على الخصوص، وكان باب المناصب مفتوحا للنصارى، وكان النصارى يستخدمون في الجيش غالبا، ولم يكن توالد المسلمين والنصارى غير قليل، وكانت أم الخليفة عبد الرحمن الثالث نصرانية.
واستطاع العرب أن يحولوا إسپانية ماديا وثقافيا في بضعة قرون، وأن يجعلوها على رأس جميع الممالك الأوربية، ولم يقتصر تحويل العرب لإسپانية على هذين الأمرين؛ بل أثروا في أخلاق الناس أيضا، فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل حاولوا أن يعلموها، التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان، وبلغ حلم عرب إسپانية نحو الأهلين المغلوبين مبلغا كانوا يسمحون به لأساقفهم أن يعقدوا مؤتمراتهم الدينية، كمؤتمر أشبيلية النصراني، الذي عقد في سنة 782م ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عقد في سنة 852م، وتعد كنائس النصارى الكثيرة التي بنوها أيام الحكم العربي من الأدلة على احترام العرب لمعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانهم.
شكل 6-10: بهو ملوك المغاربة في القصر بأشبيلية (من صورة فوتوغرافية).
وأسلم كثير من النصارى، ولكنهم لم يسلموا طمعا في كبير شيء، وهم الذين استعربوا فغدوا هم واليهود مساوين للمسلمين قادرين مثلهم على تقلد مناصب الدولة، وكانت إسپانية العربية بلد أوربة الوحيد الذي تمتع اليهود فيه بحماية الدولة ورعايتها، فصار عددهم فيه كثيرا جدا.
وكان عرب إسپانية يتصفون بالفروسية المثالية خلا تسامحهم العظم، وكانوا يرحمون الضعفاء، ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم ... وما إلى هذا من الخلال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوربة منهم مؤخرا، فتؤثر في نفوس الناس تأثيرا لا تؤثره الديانة.
وللفروسية العربية شروطها كما للفروسية الأوربية التي ظهرت بعدها، فلم يكن المرء ليصير فارسا إلا إذا تحلى بهذه الخصال العشر: «الصلاح، والكرامة، ورقة الشمائل، والقريحة الشعرية، والفصاحة، والقوة، والمهارة في ركوب الخيل، والقدرة على استعمال السيف، والرمح، والنشاب.»
ونرى تاريخ العرب في إسپانية حافلا بالأنباء الدالة على كثرة انتشار تلك الخصال، ومن ذلك أن والي قرطبة لما حاصر، في سنة 1139م مدينة طيطلة التي كانت بيد النصارى أرسلت إليه الملكة بيرنجر التي كانت فيها من بلغه أنه لا يليق بفارس بطل شهم كريم أن يحاصر امرأة، فارتد القائد العربي من فوره محييا الملكة.
وذاعت خصال الفروسية تلك بين النصارى، ولكن ببطء، ويمكننا أن نتمثل ما كانت عليه الفروسية النصرانية في القرن الحادي عشر عند النظر إلى أمر السيد الكنبيطور رودريك الڨيڨاري.
لم يكن هذا البطل الشهير الذي تغنى به الشعراء كثيرا سوى رئيس عصابة بالحقيقة، أي كان محل مزايدة، فيبيع نفسه من العرب تارة ويبيعها من النصارى تارة أخرى، ومما حدث أن دخل مدينة بلنسية صلحا فلم يحجم عن شي حاكمها الهرم على النار؛ ليكرهه على كشف ما كان يظن وجوده في القصر من الكنوز.
Página desconocida