قال: ماذا ستفعلين الليلة؟
قالت: لا أدري، لم يبق لي شيء.
قال: وأين أنا؟ أنا الباقي لك.
قالت: نعم؛ لم يبق إلا أنت.
قال: سأمر عليك بالمعمل في الثامنة والنصف. •••
كانت على وشك أن تخرج من باب البيت حين لمحت شيئا، شيئا أبيض يلمع من وراء الزجاج، وعادت إلى الوراء بضع خطوات، وقربت عينيها من الصندوق، نعم؛ كان هناك خطاب، وبدأ جسمها ينتفض، وفتحت الصندوق وأمسكت الخطاب بأصابع نحيلة طويلة ترتجف، والتقطت عيناها الحروف المربعة الكبيرة وتلك التاء الطويلة ذات الذيل الملفوف، ودب قلبها، إنه خط فريد. وتلفتت حولها في ذهول، حلم أم حقيقة؟ ورأت السلم والباب وصندوق البريد، ومدت أصبعا مرتجفا ولمست صندوق البريد. نعم؛ إنه موجود ومحسوس، وضغطت بأصابعها على الخطاب، إنه ورقة حقيقية لها سمكها وكثافتها. ورفعت أصبعها الصغيرة ولمست جفنها، إنه مفتوح.
وقلبت الخطاب على ظهره وبطنه، وتفقدت زواياه وأطرافه، لم يكن عليه إلا اسمها والعنوان، وقربته من أنفها، وشمت الرائحة المميزة للورق وختم البريد، وفتحت الخطاب وسحبت ورقة طويلة شفافة تملؤها السطور:
فؤادة ...
كم يوم مضى منذ لقائنا الأخير ... منذ تلك الليلة القصيرة المحملة بأول رياح الشتاء، كنت تجلسين أمامي ومن خلفك النيل، وفي عينيك ذلك البريق الغريب الذي يقول: عندي شيء جديد، وأصابعك الطويلة الرفيعة تنقر على ظهر المائدة بهدوء يخفي من تحته بركانا مكتوما. كنت صامتة وعرفت أنك تتألمين. وقلت لي بعد صمت طويل: ما رأيك يا فريد؟ سأترك الوزارة. كنت أفهمك، وأردت أن أقول لك في تلك اللحظة: اتركيها وتعالي معي، لكنك تذكرين أنني لم أرد، كنت أحس أن لك دورا آخر غير دوري، كان دورك هو أن تصنعي شيئا جديدا لو أعطيت الفرصة، وكان دوري هو أن أصنع الفرصة ليصنع الناس الجديد. وما الجديد؟ تغيير القديم؟ وماذا يصنع التغيير؟ أليس هو التفكير؟ هل تذكرين؟ ذلك الطفل الصغير الذي يدور حول الموائد في المطعم، هل تذكرين يده اليابسة المشققة وهو يمدها من أجل قطعة خبز أو قرش، وكان الناس يشفقون عليه ويعطونه قرشا بغير تفكير، لو أنهم فكروا ماذا يفعل قرش؟! لو أنهم فكروا لماذا هو يجوع؟! نعم يا فؤادة، إنه التفكير، إنها الفكرة التي تخرج من الرأس، وهل تخرج الفكرة من الرأس بغير نطق؟
كان دورك أن تصنعي الفكرة وكان دوري أن أصنع النطق، ولم أكن أستطيع وحدي شيئا. لم يكن دوري سهلا أو مقنعا كما تبدو الكلمات سهلة ومقنعة، كان نوعا من الجنون، فكيف تنطق الأفواه المكممة؟
Página desconocida