Georg Büchner: Obras teatrales completas
جورج بشنر: الأعمال المسرحية الكاملة
Géneros
ولكن لنتأمل معا هذا المشهد الخامس عن قرب؛ فها هم أولاء أصدقاء دانتون قد شلت إرادتهم عن الفعل، ودخلوا معه بين فكي الثورة التي ستفترسهم بعد لحظات، وغابوا في تلك الطاحونة الكبرى التي ستطحنهم كما طحنت سواهم. إنهم يسألون الآن عن معنى الوجود أو عبثه، عن حقيقته أو باطله، كما يبحثون عن شيء لعلهم يصلون إليه في الظلام، ويمضون في حديثهم فيمزقون كل قناع، ويتحررون من كل الأوهام، ونسمع كلماتهم الجادة المخيفة التي لا تحاول أن تحل تناقض الوجود بالابتسامة الساخرة المريرة، ولا تستعير من التراجيديا القديمة ذلك الانفعال البطولي والهائل، بل تخلق لنفسها نوعا جديدا من الانفعال الأليم.
إن هيرو يكشف القناع عن اللعبة الخالدة، لا بالسخرية الحادة أو العبارات الطنانة، بل في نغمة تفيض بالجد والتعاسة. وكاميل، هذا الشاب الجميل الذي يحب الجمال في كل شيء، يلجأ إلى الاستعارة والتشبيه الجديرين بفنان مثله. ودانتون ينزع عنه دور بطل الثورة الذي تعب من تمثيله، ويتحدث بغير صيغ محفوظة أو أشكال جاهزة، فتكاد عباراته أن تتحول إلى دقات مطرقة: «عندما يأتي اليوم الذي يفتح فيه التاريخ قبوره، فسوف يختنق الاستبداد من رائحة جثثنا.» أو حين يقول: «العالم هو الفوضى والعلماء.» ولكن فيليبو هو الوحيد الذي يصر على تعزية نفسه وأصحابه بهذا التجانس والانسجام الأبدي الذي يؤمن بوجوده: «افرح يا كاميل؛ فسوف تكون ليلتنا جميلة»، «فلنسحب اللحاف الكبير علينا ونحن مطمئنون.» إنه وهو على حافة الموت لا يزال يملأ عينيه من الخطوط الإلهية الرائعة، ولا يزال يعتقد أن هناك آذانا ينسكب فيها الصراخ والعويل كأنه لحن منسجم. أما هيرو فيفضح ذلك الوهم القديم الذي يجعل البطل يتعزى بالتاريخ، ظنا منه أن الأجيال المقبلة هي التي ستنصفه: «إنها عبارات محفوظة للأجيال المقبلة. أليس كذلك يا دانتون؟ إنها لا تعنينا في شيء.» ماذا بقي إذن للمعزين؟ لم يبق أمامهم إلا أن يلتصقوا ببعضهم البعض ويصرخوا؛ فليس هناك أغبى من أن يطبق الإنسان فمه بينما يضنيه الألم.
وأما كاميل فهو يخلق صورة بعد صورة، يفضح بها الأقنعة التي يرتديها الإنسان في أعماله وأتعابه، وهو في الحقيقة يفتح فمه متصنعا الفرح، ويصبغ وجهه باللون الأحمر. إن علينا أن ننزع الأقنعة، كل الأقنعة. إن الفروق بيننا ليست بالقدر الذي نتصوره، ونحن جميعا أوغاد وملائكة، أغبياء وعباقرة، وكل هذا في وقت واحد. العناصر الأساسية في وجودنا تختفي وراء الأصباغ المعقدة، ولكنها في صميمها واحدة؛ فالأرجوحة الأبدية تدور ولا تكف عن الدوران، والحياة تنقضي بين نوم وهضم وإنجاب أطفال، وما الخلافات التي نتوهمها إلا متنوعات على لحن واحد، والطموح والبطولة والعبقرية وتكلف الظرف كلها أقنعة فارغة؛ فنحن في الحقيقة موسيقيون مساكين، وأجسامنا كما يقول دانتون هي الآلات التي نعزف عليها أنغامنا المملة المتشابهة، ولا حقيقة لشيء خلف هذا كله إلا للألم والعذاب؛ فلنصرخ إذن ولنبك كما ينبغي لنا! لا بل إن هذا الصراخ نفسه لا يعدم من يعريه ويكشف عنه القناع؛ فهيرو يقول إن الإغريق والآلهة قد صرخت، بينما ادعى الرومان والرواقيون البطولة والصبر. ومع ذلك فليس هذا الصراخ نفسه إلا نوعا من التلذذ الأبيقوري الذي يحاول الإنسان أن يريح به ذاته؛ علينا إذن أن نمضي في كشف كل الأقنعة، وأن نعري الإنسان من أوراق الغار وأكاليل الورد وأوراق العنب!
وهذا الألم الذي نريد أن نصرخ به يصبح ضحكات تتردد أصداؤها في فراغ العدم، ويضحك الآلهة على هذا «اللعب الملون لصراع الموت»، وكأننا، كما يقول كاميل، أسماك ذهبية على موائد الآلهة؛ وتموت الأسماك إلى الأبد، وتضحك الآلهة إلى الأبد. لم تفلح البطولة إذن بقناعها الحجري المتكلف، ولم تنجح صور الانسجام، ولا «الخطوط الإلهية العظيمة» التي جاء بها فيليبو، أن تجلب العزاء في موقف يصعب فيه كل عزاء. وها هو ذا دانتون يتدخل في هذا المونولوج الطويل بهذه الصورة الكونية البشعة عن الضحك الأبدي من عذاب البشر. إنهم خنازير تجلد حتى الموت لكي يلذ طعمها في أفواه الملوك والأمراء، وأطفال يشوبهم الإله السامي الرهيب «مولوخ» ويدغدغهم بأشعة الضوء لكي يسعد الآلهة بضحكاتهم الأليمة، وأسماك ذهبية تموت أبدا على موائد الآلهة المباركين، فيضحك الآلهة أبدا على صراعهم المميت. ويلخص دانتون هذه الصور المخيفة في عبارة واحدة تقول إن العالم هو العماء، والعدم هو إله الكون. ويأتي السجان فيعلن أن العربات تنتظرهم أمام الباب، وتهبط هذه الصور الكونية فجأة إلى مجال الإنسان وعلاقته الحميمة بالإنسان، ويعانق الأصدقاء بعضهم، ويمسك هيرو بذراع كاميل ويقول له: افرح يا كاميل؛ ستكون ليلتنا جميلة. ويحاول المساجين أن يواجهوا قدرهم وقد رفعوا الأقنعة عن وجوههم. يكتسب كل شيء وجهه البشري، حتى صفحة السماء وعليها خيالات الآلهة الشاحبة تبدو الآن في صورة بشرية، وتختلج القلوب بالنبض الإنساني فتحجب صورة «البشر الذين يموتون كالأسماك الملونة في أطباق الآلهة الضاحكين، كما تخفف من بشاعة هذه الضحكات التي كادت تخنق صرخات الألم. وحين يقبل السجان ويعلن في كلمة موجزة: «أيها السادة، تستطيعون الآن أن ترحلوا» بعمق إحساسنا بألم الإنسان، فنزداد منه قربا وبه انفعالا. ويبقى الفرد، على الرغم من كل عزاء، وحيدا مع عذابه، ما من شيء يخفف عنه هذا العذاب إلا العبارات المحفوظة التي قصدت بها الأجيال القادمة، ولا الوجوه المتحجرة التي تتصنع البطولة أو تتكلف الابتسام أو تصرخ للتلذذ بصوتها، ولا الخطوط الإلهية العظيمة وآيات التجانس والانسجام في الكون، ولا حتى إلقاء النفس بين أحضان العدم أن الإنسان يظل وحيدا مع ألمه، ولكن هناك نغمة طيبة تتسلل إلى هذه الوحدة الشقية المعتمة، وتتجاوز ضحكات البشر والآلهة لتشد «الأنا» إلى «الأنت»، وتجمع بين الإنسان وأخيه في العذاب بصوت هادئ هامس: «تصبحون على خير يا أصدقاء.» أو في صوت يحاول أن يكون مرحا: «افرح يا كاميل؛ فستكون ليلتنا جميلة!» وليس هذا هو الموضع الوحيد الذي تصلنا فيه هذه النبضات البسيطة؛ فنحن نسمعها قبل هذا المشهد بقليل على لسان لوسيل المجنونة وهي تغني أمام نافذة حبيبها: تعال! تعال يا صديقي! اطلع على السلالم بهدوء؛ فهم جميعا نائمون.» وفي كلمات كاميل المشغول بمصير لوسيل بعده: «كان الجنون يطل من عينيها.» «لتساعدها السماء على العثور على فكرة ثابتة مريحة.»
ونظل نستمع إلى هذا الصوت الحميم العاري من كل قناع، الذي لا تحجبه عنه الضحكات المجنونة، ولا الصرخات المتألمة، ولا الضجيج المنبعث من دوران الأرجوحة الأبدية. إن جولي تموت وهي تفكر في دانتون: «لا أريد أن أتركه ينتظرني لحظة واحدة.» ولوسيل تهتف أمام نافذة السجن: «تعال! تعال يا عصفوري العزيز.» وعلى المقصلة يتكرر الصوت النقي الذي استطاع أن يتخلص من كل قناع؛ فكاميل يختم دعابته مع سائق العربة التي تقودهم إلى ساحة الإعدام بقوله لدانتون: «الوداع يا دانتون!» وحين يقول لاكروا في صوت لا زال يحتفظ بأثر من آثار البطولة: «ستكسر رقاب الطغاة فوق قبورنا.» يداعبه هيرو وينزع عنه هذا القناع الأخير بقوله: «إنه يحسب جثته مزبلة الثورة!» ولا تفلح كلمة فيليبو: «إنني أسامحكم وأرجو ألا تكون ساعتكم أمر من ساعتي» في إحداث الأثر الإنساني الذي كانت ترجوه. ولا يجد فابر ما يقوله خيرا من هذه الكلمة: «وداعا يا دانتون! إنني أموت مرتين.»
ويقول هيرو: «آه يا دانتون! لقد أصبحت عاجزا عن إخراج نكتة واحدة.» ويحاول أن يعانق دانتون فيدفعه الجلاد بعنف، فيقول له دانتون آخر كلمة نسمعها على المقصلة: «أتريد أن تكون أقسى من الموت؟ أيمكنك أن تمنع رءوسنا من تقبيل بعضها في قاع السلة؟!»
كلمات لا تذكر شيئا عن التاريخ، ولا البطولة، ولا الطغاة، ولا الفضيلة، ولا الدم. إنها لا تحاول أن تسخر أو تتألم أو تضحك أو تبكي، بل تعبر للمرة الأخيرة عن هذه النغمة الهادئة التي تتسلل إلى القلب، وتربط بين الإنسان وأخيه الإنسان برباط العذاب، وهو أول وآخر ما يتعلمه الإنسان من مواجهة الحقيقة والمصير. إنها النغمة التي تأتي على لسان هيرو وهو يمد يده ليلمس ذراع صاحبه: افرح يا كاميل ؛ ستكون ليلتنا جميلة.
هذه المشاهد الأخيرة من مسرحية «موت دانتون» ليست في صميمها إذن سوى حوار ذاتي، أو مناجاة (مونولوج) متصل يتحدث به بشنر إلى نفسه، وإن كان يوزع عباراته على الشخصيات المختلفة. صحيح أننا نجد خطبا عديدة ألقيت بنصها في زمن الثورة الفرنسية، كما نجد مستويات مختلفة من الكلام على ألسنة الشحاذين والمغنين والبغايا والجنود والزوجات والمتسكعين في الشوارع والحارات «وأبطال» الثورة أنفسهم، تمر إلى جانب بعضها البعض، فلا تكاد تتلاقى أو تلتحم إلا في لحظات قليلة يبلغ الحدث الإنساني فيها ذروته، ولكن المهم أن القاعدة الأساسية والخلفية الدائمة لكل هذه المستويات التعبيرية المختلفة هي إحساس بشنر بشفاء الإنسان وعذاب الخليقة.
إنه في نظره كالدمية المسكينة التي تحرك خيوطها يد مجهولة، ويتحكم في مصيرها قدر مجهول، يجبرها على أن تظهر فترة على المسرح فتضحك أو تبكي أو تدعي البطولة أو تبحث عن دور تقوم بتمثيله، ولكن مهمته أن يعريها من ثيابها المزركشة، وينزع عنها جميع الأقنعة، ويبرزها في وحدتها وعريها وصفائها.
إن دانتون يعبر عن ذلك حين يقول: «ما نحن إلا دمى، تشد خيوطها قوى مجهولة. عدم نحن. ما نحن إلا عدم. سيوف تتصارع بها الأشباح، غير أن الإنسان لا يرى الأيدي التي تحركها، كما يحدث في الخرافات تماما.»
Página desconocida