تقديم جورج بشنر
موت دانتون
الأشخاص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
ليونس ولينا
تقديم
الشخصيات
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
فويسك
الأشخاص
فويسك
تقديم جورج بشنر
موت دانتون
الأشخاص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
ليونس ولينا
تقديم
الشخصيات
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
فويسك
الأشخاص
فويسك
جورج بشنر
جورج بشنر
الأعمال المسرحية
الكاملة
جمع وترجمة
عبد الغفار مكاوي
تصدير
بقلم أحمد سخسوخ
غادر العبقري جورج بشنر
Georg Buechner
عالمنا قبل أن يكمل الرابعة والعشرين من عمره. وعلى الرغم من حياته القصيرة، فقد ترك لنا كنوزا أدبية ودرامية وعلمية عظيمة الأثر، مهد بها الطريق إلى الدراما الحديثة كما يقول هاينر موللر
Heiner Mueller ، وكان تأثيره مباشرا على الحركة التعبيرية التي ظهرت بعد رحيله بأكثر من ثلاثة أرباع القرن - ظهرت في ألمانيا عام 1910م - وقد ظهر هذا التأثير على وجه الخصوص جليا لدى فرانك فيدكند
Frank Wedekind
وبرتولت بريشت
Bertolt Brecht ، كما استفاد من تقنياته في الكتابة الدرامية كتاب السينما فيما بعد، ويعتبر جورج بوشنر أول كاتب مسرحي في التاريخ يجعل بطله الدرامي بروليتاريا قبل أن يكتب ماركس
Karl Marx
وإنجلز
Friedrich Engels
بيانهما الشيوعي بعشر سنوات، كما ينسب إليه ما يسمى بالشكل الدرامي المفتوح، تمييزا له عن الطريقة الكلاسيكية أو الشكل الدرامي المغلق في الدراما الألمانية، والذي ارتبط ب «ليسنج»
Gotthold Ephraim Lessing
و«شيلر»
Friedrich Schiller
و«جوته»
Johann Wolfgang von Goethe
و«جريل بارتسر»
Grill Parzer . ويعتمد هذا البناء الدرامي لدى بشنر على مجموعة من المشاهد القصيرة يدور الحدث فيها في حلقات دائرية أو تصاعدية يتكشف فيها الحدث، كما يعتمد على الأغاني الشعبية (الفردية أو الجماعية) التي تتخلل الحدث الدرامي. ويبرز في أعماله صور التناقضات التي تظهر العالم على حقيقته وجوهره دون زيف، مثل الجحيم والجنة، الشقاء والسعادة، العدل والظلم، الفقر والغنى، الصقيع والدفء، البرودة والسخونة، وغير ذلك من المتناقضات. وتأتي جمله وتعبيراته الدرامية متقطعة وغير مكتملة، تظهر الإنسان - كما لدى شكسبير
Shakespeare - في عمقه وجوهره دون حتى ورقة توت تخفي عورته؛ إذ يظهره في عريه خالصا. وقد اعتمد بشنر في ذلك على المونولوجات الدرامية في بناء الحدث، حتى أصبحت هذه الطريقة نموذجا تحتذي به الحركات الحديثة فيما بعد، مثل الباتافيزيقية
والتعبيرية
Der Impressionismus
والسريالية
Der Surrealismus .
حياة قصيرة حافلة
جاء جورج بشنر إلى العالم من قرية جودلاو
Goddelau
في تمام الساعة الخامسة والنصف مساء من يوم الأحد السابع عشر من أكتوبر عام 1813م، وجودلاو قرية صغيرة تقع بين دارمشتات
Darmstadt
وفورم
Worm
في هسن
Hessen
بألمانيا.
1
وكان جورج هو الطفل البكر لوالده أرنست كارل بشنر
Ernst Karl Buechner
الذي كان يعمل طبيبا في جودلاو، وقد جاءها حديثا، وكان والده (جد جورج الصغير) ياكوب كارل بشنر
Jakob Karl Buechner
يعمل طبيبا أيضا.
كان أرنست والد جورج يعمل في جيوش نابليون
Napoleon ، حتى حصل على ممتلكات كنسية مصادرة مكافأة له، بالإضافة إلى حصوله على لقب الدوق الكبير، وفي عام 1812م عاد إلى مدينة جيسن
Giessen
واستقر بها، ولكنه كان يعمل في مستشفى هوف مايير بجودلاو.
2
لقد كان الأب معجبا بنابليون، وكان يتقن الفرنسية ويعشق حضارتها، وكان دائم الحديث عن الثورة الفرنسية أمام ابنه البكر جورج، حتى أصبح موضوع الثورة الفرنسية لدى الأخير مادة لمسرحيته الأولى موت دانتون
Dantons Tod . وقد شكل الأدب الفرنسي لجورج وإخوته اهتماما كبيرا في حياتهم؛ فقد عمل لودفيج
Ludwig
الأخ الثاني أستاذا للفلسفة في فرنسا، وحصل شقيقه التالي ألكسندر
Alexander
على الجنسية الفرنسية، وقد وصل إلى درجة الأستاذية في تاريخ الأدب بجامعة
Caën . أما الأخت لويزه
Louise
فقد تحققت ككاتبة رومانسية.
وعلى الرغم من تأثر جورج بشنر بالثورة الفرنسية، فقد كانت مثار خلاف بينه وبين والده، وقد انتهى الأمر بأن يترك جورج منزل الأسرة على إثر نزاع مع الأب، وعلى العكس كانت الأم لويزه كارولينا ريوس
Louise Caroline Reuss
مختلفة كثيرا عن والده، وكانت تحظى باهتمامات كل عالم بشنر الابن، وكانت تعشق الشعر الألماني، خاصة أشعار شيلر
Schiller
وأعماله مما أثر كثيرا على جورج. وهنا تجد أن تأثير الأم على جورج من الناحية الأدبية كان كبيرا، في الوقت الذي كان فيه تأثير الأب عليه من الناحية السياسية والعسكرية لا بأس به.
البداية
تبدأ علاقة جورج بشنر بالأدب في سن الخامسة عشرة عام 1828م، حينما كتب مجموعة أشعار في عيد ميلاد أمه. وفي العام نفسه، وهو في هذه السن الصغيرة، انضم إلى حلقة دراسية تهتم بالثقافة والأدب بدارمشتات التي انتقل إليها على إثر ترقية والده بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الطب عام 1815م. وقد أنجبت هذه المجموعة فريدريش تسيمرمان
Friedrich Zimmermann (1814-1884م) ولودفيج فيلهلم لوك
Ludwig Wilhelm Luck (1813-1881م)، وفي هذه المرحلة انكب جورج على دراسة شكسبير وجوته وهوميروس
Homer
وأسخيلوس
Aeschylos/Aischylos
وسوفوكليس
Sophocles/Sophokles .
وفي عام 1831م، وعلى إثر حصوله على الثانوية العامة التحق بكلية طب جامعة ستراسبورج، وهناك أقام لدى القس يوهان يعقوب
Johann Jakob
والد لويزا فيلهلمينا يجله
Louise Wilhelmine Jaegle ، التي أصبحت عشيقته وخطيبته فيما بعد. وتعد رسائله إليها ذات قيمة كبيرة في تاريخ الأدب الألماني.
في عام 1833م انتقل جورج بشنر إلى جيسن لاستكمال دراسة الطب، وهناك ينخرط في التجمعات الثورية، وينتهي من كتابة بيانه الثوري الذي سمي فيما بعد ب «رسول هسن»
Der Hessische Landbote ، ثم ينتقل إلى ستراسبورج ليرتبط رسميا بمينايجله، وبعدها ينتقل إلى دارمشتات ليؤسس جماعة الدفاع عن حقوق الإنسان، ثم يعود - بعد شهر واحد - إلى جيسن لمواصلة دراسة الطب، وهناك يطبع بيانه السياسي «رسول هسن».
في نهاية عام 1834م ينكب على دراسة الثورة الفرنسية لينتهي الأمر بكتابة مسرحيته الأولى «موت دانتون»، تنشرها دار فرانكفورت بداية عام 1835م، يعبر فيها عن مأساة الثورة الفرنسية التي تخضبت أيديها بالدماء، وهي التي جاءت لتحقق العدالة والحرية والمساواة.
وتتوالى أعماله الدرامية والأدبية، فيكتب مسرحيته ليونس ولينا
Leonce und Lena
ومسرحية فويسك
Woyzeck
عام 1837م، ويترجم عملين إلى الألمانية للشاعر الفرنسي فيكتور هوجو
Victor Hugo ، وهي لوكرتيا بورجيا
Lucretia Borgia
وماريا تودور
Maria Tudor ، وفي هذه الأثناء، وفي عام 1836م، ودون أن يكمل الثالثة والعشرين من عمره يحصل جورج بشنر على الدكتوراه في الجهاز العصبي لسمك الباربا (وهو نوع من السمك يعيش في المياه غير المالحة وسط أوروبا، ويقترب طوله من المتر، ويتراوح وزنه ما بين 5-13 كيلوجراما)، وينتقل على أثر ذلك للعمل مدرسا بكلية الفلسفة بمدينة زيورخ
Zuerich
بسويسرا، وبعد فترة يشعر بالملل من تدريس مادة «مقارنات في علم التشريح بين السمك والضفادع».
النهاية
وفي بداية عام 1837م يصاب جورج بشنر بمرض التيفوس، فاضطرت السيدة كارولينا شولتس
Caroline Scholz
وزوجها لرعايته في منزلهما بزيورخ. وفي 19 فبراير من هذا العام تصل خطيبته مينايجله إلى زيورخ. وكان جورج في هذه اللحظة - كما تصفه السيدة كارولينا شولتس - يتنفس بصعوبة شديدة، وقد قطع الأطباء أي أمل له في الحياة. وهنا تقول السيدة كارولينا: «جلست أنا ومينا في حجرتنا، وكنا نعرف أنه على بعد خطوات منا يتمدد جسد ميت.» وبعدها بيومين رحل جورج بشنر إلى عالم آخر غير عالم الأحياء.
دراما بشنر والخلاف الأبدي
يرى الدكتور عبد الغفار مكاوي، في مقدمة ترجماته المتميزة لأعمال جورج بشنر في هذا الكتاب، أن مسرحيته الأولى هي «الوحيدة التي أتمها قبل موته، وهي «موت دانتون»»، ثم يؤكد أن هذه المسرحية - يقصد موت دانتون - مسرحية «لا تسير إلى هدف أو خاتمة، سواء أكانت هذه الخاتمة نهاية سعيدة متخيلة، أم كارثة شاملة تحرر النفس وتطهرها. إن الفصل الرابع والأخير لا يأتي معه بالنهاية المنتظرة؛ فهو لا يزيد على أن يكون أحد المشاهد العديدة التي رأيناها تدور مع أرجوحة الأحداث.» وعبد الغفار مكاوي بذلك يميل إلى تقرير أن جميع أعمال جورج بشنر المسرحية - بما فيها موت دانتون - غير مكتملة، حيث - كما يقول - يتابع جورج بشنر «الكتابة كالمحموم، فيؤلف مسرحيته الشعبية «فويسك» أو ملهاته الباكية «ليونس ولينا» ورائعته القصصية «لنس» عن مأساة شاعر العاطفة والاندفاع ياكوب ميخائيل رينهولد لنس (1751-1792م)، وقد بقيت كلها أعمالا ناقصة لم تتم.»
وفي الواقع يؤكد بعض النقاد هذا الرأي حول أعمال جورج بشنر باعتبارها أعمالا ناقصة، وهو الرأي الذي تبناه الدكتور عبد الغفار مكاوي في مقدمته لأعمال الكاتب، وإن كنت أميل إلى تبني موقف مغاير يرى أن جميع أعمال جورج بشنر أعمال مكتملة وتامة غير ناقصة.
موت دانتون
كتب جورج بشنر مسرحية «موت دانتون» في أربعة فصول، تحتوي في مجملها على اثنين وثلاثين مشهدا دراميا قصيرا. وقد وضع بشنر بطله الدرامي (دانتون) منذ اللحظة الأولى في موقف مأساوي يرهص بكل ما سيأتي من أحداث مفجعة؛ إذ يبدأ بحديثه عن الوحدة والحب الذي يشبهه بالقبر، حتى يصل في المشهد الأخير إلى ميدان الثورة، وقد نصبت المقصلة ليدفع الجلادون به ورفاقه لقطع رقابهم. وهنا يستدير دانتون إلى الجلاد الذي يفرقهم قائلا: «أتريد أن تكون أكثر فظاعة من الموت؟ أتستطيع أن تمنع رءوسنا لكي تقبل بعضها البعض وهي في قاع السلة؟»
3
وفي المسرحية يبدو تأثر جورج بشنر واضحا بشكسبير، خاصة في رسمه لشخصية دانتون الذي رسمه في حالة هاملتية مترددة - إلا في لحظات نادرة كهاملت أيضا - تقعده عن العمل والفعل، حتى نهايته تحت المقصلة، ويصبح بذلك في النهاية ضحية لتركيبته الهاملتية.
ليونس ولينا
هي مسرحية مكتملة - أيضا - كتبها جورج بشنر خصيصا ليشترك بها في إحدى المسابقات المسرحية، وقد كتبها في ثلاثة فصول، وتتكون في مجموعها من أحد عشر مشهدا دراميا. وتدور المسرحية حول فكرة هروب الأمير ليونس
مع خادمه؛ نظرا لأن الأمير قد أعلنت خطبته على الأميرة لينا
من مملكة أخرى لأسباب سياسية دون أن يراها من قبل. وفي الوقت نفسه تهرب لينا مع خادمتها، ويلتقي ليونس مع لينا دون أن يعرف أحدهما الآخر، ثم يتفقا على الزواج، بعدها يعود الأمير إلى مملكته ومعه الأميرة لينا، ويضطر والده الملك أن يوافق على زواجهما، وبعد إزاحة الأقنعة يكتشف الملك أنهما ابنه وعروسه التي كان قد قرر تزويجها لابنه. هنا يقرر أن يتنازل عن الحكم لولده حتى يتمكن من الانصراف إلى التفكير الفلسفي دون أن تزعجه أمور المملكة، وتنتهي المسرحية بذلك.
وقد كتب جورج بشنر هذه المسرحية بأسلوب مخالف عن أسلوبه السابق في موت دانتون؛ إذ إنه يوصفها بالكوميديا، ويصور شخصياتها بشكل كاريكاتوري، ويتلاعب فيها بالألفاظ. والمسرحية تذكرنا - بشكل ما - بكوميديات شكسبير وشخصيات مهرجيه،
4
حيث يتجسد «في جسد بشنر روح شكسبير»، كما يقول ب. أولينين
عن بشنر وأعماله دون أن يقصد عملا واحدا، بل كل كتاباته.
لينز
5
كتب بشنر قصة لينز عن شاعر حركة العاصفة والاندفاع
Sturm und Drang
يعقوب ميخائيل رينهولد لينز
Jakob Michael Reinhold Lenz ، وكان تركيزه الأساسي على الناحية النفسية في لينز الذي أصيب بحالة من الشيزوفرينيا، وعاش «تعيسا ثم أصبح نصف مجنون»، كما وصفه جورج بشنر في إحدى رسائله إلى أسرته. وتغوص القصة في شرح وتحليل التناقض والصراع النفسي والتمزق الداخلي في نفس البطل حتى قاده ذلك إلى الجنون، وقد نشرت القصة لأول مرة عام 1839م؛ أي بعد رحيل جورج بشنر عن العالم بعامين، كما أعدت للمسرح ومثلت لأول مرة عام 1885م، وقد أعد فولفجانج زيهم
Wolfgang Ziehm
القصة إلى الأوبرا باسم «يعقوب لينز»، وعرضت في هامبورج عام 1949م.
فويسك
في طبعة شتوتجارت - عام 1978م - توجد نسختان لمسرحية فويسك؛ إحداهما منقولة عن خط يد بشنر، والأخرى منقحة للقارئ العادي. وتتكون النسخة المنقولة عن خط بشنر من ثلاثة أجزاء؛ يحتوي الجزء الأول منها على سبعة عشر مشهدا قصيرا، ويبدأ هذا الجزء بمشهد الخلاء بين فويسك
Woyzeck
وأندرز
Andres ، وينتهي بمشهد المعسكر الذي يودع فيه الأول الثاني.
ويبدأ الجزء الثاني بالمشاهد من الثالث حتى السابع (وربما يشير هذا إلى ضياع أو فقدان بعض المشاهد)، كما يبدأ الجزء الثالث بمشاهد مرقمة ما بين 4 حتى 10 (بالطبع يشير هذا أيضا إلى ضياع أو فقدان بعض المشاهد)، حيث يبدأ المشهد الرابع بماريا
Marie
أمام منزلها مع الأطفال، وينتهي بمشهد فويسك أمام المستنقع وهو يرمي بالسكين في الماء بعد قتله لماريا، ونجد المشاهد المرقمة في هذا الجزء أرقام 7، 9، 10 مشطوبة بخط يد بشنر، وهذا في الواقع ما جعل الناشرين يلجئون إلى إعداد نسخة من هذه المسرحية - مسرحية فويسك فقط - للقراءة أو للتمثيل بترتيب خاص بالمشاهد - من وجهة نظرهم - مع إضافة بعضها أو حذف البعض الآخر، ومن هنا تختلف نسخ هذه المسرحية - في ترتيب مشاهدها - من ناشر إلى آخر، ومن طبعة إلى أخرى، ويتركز هذا الاختلاف في الواقع على ترتيب المشاهد، وعلى حذف بعضها أو اعتماد المشطوب منها.
ويرجع هذا الاختلاف في الواقع إلى اعتماد الناشرين على مسودة خطية لبشنر فقد أو ضاع بعض مشاهدها، وشطب بعض ما تبقى منها، بالإضافة إلى تغيير في بعض الكلمات والجمل بالمسرحية. ونجد نهاية المسرحية رغم كل هذا مكتملة - إلا من مشهد أو اثنين في بعض الطبعات، كما يتضح فيما بعد؛ إذ تنتهي المسرحية - في كل الطبعات - بقتل فويسك لماريا وإلقائه للسكين التي قتلها بها إلى الماء ، ثم ذهابه إلى المستنقع أو البحيرة بحثا عن السكين ليخفي أداة الجريمة، ثم اغتساله في مياه المستنقع لإخفاء بقع الدم من على يديه وملابسه، وأثناء ذلك يمر شخصان من أمام المستنقع على بعد، وقد توقفا بعد سماعهما لأصوات إنسان يموت، وهي نهاية للمسرحية تتفق وتكنيك البناء الدرامي المفتوح الذي يطرح بعضا من الأسئلة بعد المشهد الأخير، مثل: هل سيموت فويسك غرقا؟ هل سينقذه الرجلان؟! وإذا أمسكاه هل سيبلغان عنه أو يقدمانه إلى البوليس؟! إلى آخر هذه الأسئلة التي لا تغلق التفسيرات على نهاية المسرحية، وهو تكنيك يختلف عن تكنيك البناء الدرامي المغلق للأعمال الكلاسيكية للسابقين على جورج بشنر في الدراما الألمانية، مثل ليسنج وشيلر وجوته وجريل بارتسر وغيرهم.
وفي طبعة شتوتجارت - عام 1985م
6 - ينهي الناشر المسرحية بفويسك وهو يتحدث إلى مياه المستنقع، وفي الوقت نفسه يأتي شخصان تصل إلى أسماعهما من بعيد أصوات لإنسان يحتضر في ظلمة الليل، ثم يتجهان إلى مصدر الصوت، بعدها يأتي مشهد قصير للأطفال - بضعة أسطر قليلة - وهم يقررون التوجه ناحية الجثة، ثم يأتي مشهد آخر من ثلاثة أسطر، يتحدث فيه رجل البوليس عن «القتل الجميل»، وأنه لم ير منذ زمن طويل قتلا جميلا بهذا الشكل،
7
وبالطبع تنتهي المسرحية.
ولهذا ربما تبنى بعض النقاد الرأي الذي يرى أن أعمال جورج بشنر هي أعمال ناقصة، وهو الرأي الذي ربما بني على أساس اختلاف طبعات مسرحية فويسك، وحذف بعض مشاهدها، وإعادة ترتيب هذه المشاهد وفقا لوجهة نظر الناشر.
إنك تجد - مثلا - أن المشهدين الأخيرين - مشهد الأطفال ومشهد رجل البوليس - ليسا في نص فويسك المترجم في هذه النسخة من الكتاب؛ إذ اعتمد د. عبد الغفار مكاوي في ترجمته من الألمانية على النص الذي حققه ونشره فرتز برجمان عام 1958م، وتتفق نهاية مسرحية فويسك بالكتاب مع النص الألماني للمسرحية في طبعة الكلاسيكيين الكبار التي طبعت بسالزبورج عام 1980م،
8
وهو ما جعل النقاد يختلفون حول بعض طبعات هذه المسرحية، وحول تحليلاتهم لمسرحية لعبت دورا كبيرا في تاريخ الدراما الحديثة، خاصة الدراما الألمانية، وقد وصفها فريدريش دورينمات
Friedrich Duerrenmatt
بأنها «أكثر المسرحيات التي سحرتني».
تقديم جورج بشنر
1813-1837م
كاتب ثائر وطبيب، عبر عن صرخة الخليقة المعذبة من عبث الوجود وفنائه، هذه الصرخة التي لا نزال نسمع صداها في الأدب العالمي حتى اليوم.
ولد في دارمشتات (مقاطعة هسن في ألمانيا)، كان أبوه طبيبا ريفيا عمل فترة في حرس نابليون، فتعلم كيف يقدر كل ما هو فرنسي، وكانت أمه التقية تجل الشاعر الكبير شيلر فوق كل شيء. التحق بالمدرسة الثانوية في دارمشتات، وعرف بميله إلى الفيزياء والرياضة، كما درس الطب في شتراسبورج، وأفعم قلبه بالثورة والحرية والتمرد على الطغيان في بلاده، وتعرف على خطيبته مينايجله التي كتب إليها رسائل من أجمل ما عرف الأدب الألماني. أكمل دراسة الطب في مدينة جيسن (1833م) التي أقام فيها في ظل حكم بوليسي متعنت، جعله يعاني أول أزمات حياته، ويشارك مشاركة إيجابية في الثورة، فيؤلف بيانا يحرض فيه الفلاحين على الثورة على مستغليهم سماه «رسول هسن» (1834م).
إنه يعود في أوائل عام 1834م إلى جيسن ليواصل دراسة الطب، بعد أن أمضى في بيت أبويه في دارمشتات فترة استشفاء من التهاب في المخ أصابه نتيجة أزمات نفسية متكررة. كانت الظروف السياسية في بلده لا تحتمل، وقد كتب قبل عودته إلى جيسن وهو على فراش مرضه إلى صديقه أوجست شتوبر يقول: «إن الظروف السياسية تكاد تصيبني بالجنون، إن الشعب المسكين يجر في صبر العربة التي يمثل عليها الأمراء وأدعياء التحرر ملهاتهم.» كانت الأسابيع القليلة التي قضاها في بيت أبويه كافية ليعرف عن كثب جبروت الدولة البوليسية الحاكمة، ولم يكن من الممكن بعد ذلك أن يبتعد بنفسه عن مجرى الأحداث، ولا لعاطفته الجياشة المتطلعة إلى الحرية والعدل أن تقنع بمجلدات الطب والفلسفة والتاريخ التي كان يغرق نفسه فيها ليل نهار.
كانت البلاد الألمانية الممزقة ما تزال تئن تحت حكم أمراء يتمسكون بحقهم الإلهي المطلق ، وكانت الوحدة الألمانية التي تمت بعد هزيمة نابليون وحدة فاسدة، استطاعت حقا أن تمنع الحروب بين الدويلات المتحدة، ولكنها لم تستطع أن توطد دعائم السلام. وكان الشباب يتوقون إلى الحرية في الداخل والخارج، وشعارات الثورة الفرنسية لا تزال تصرخ في آذانهم، وشوقهم إلى الحقوق المدنية وإنصاف الطبقات المظلومة يؤرق نومهم. كان دستور إمارة هسن الكبرى - موطن بشنر - الذي صدر في عام 1820م مجرد حبر على ورق. لقد أوجد بالفعل مجلسا نيابيا، ولكن حق الترشيح لعضوية هذا المجلس ظل مقصورا على ألف شخص فحسب من بين 70 ألفا من رعايا الإمارة! وكانت أغلبية هؤلاء الألف من كبار الموظفين، والقادرين على دفع مائة «جولد» من الذهب على الأقل ضرائب كل عام. وهكذا كان من حقهم أن يفرضوا الضرائب، ولكن لم يكن ينتظر منهم أن يعفو الشعب منها. ونشبت ثورة الفلاحين في «سودل» من مقاطعة هسن العليا، ولكنها سرعان ما أخمدت بقوة السلاح، وتركت وراءها المرارة التي لا حد لها في نفوس الشعب. وسوف يشير بشنر إلى هذه الحادثة في بيانه الثوري فيما بعد حيث يقول: «إن الجنود يخرسون بطبولهم تنهداتكم، وببنادقهم يمزقون رءوسكم، حين تجسرون على التفكير في أنكم بشر أحرار. إنهم السفاحون الشرعيون، الذين يحمون اللصوص الشرعيين. تذكروا سودل! إن إخوتكم وأبناءكم قد قتلوا هناك آباءهم وإخوتهم.»
1
كانت السنوات التي امتدت من 1815م إلى 1830م في ألمانيا في تلك الفترة التي تلت الحرب المريرة على نابليون سنوات جوع وحرمان وقهر لجموع الفلاحين والعمال اليدويين، وكانوا يقفون في جانب، مثقلين بالضرائب، مهددين بالعبودية والجوع، بينما يقف الموظفون الأذلاء ورجال البلاط والعسكريون في جانب آخر، وكانت أخبار الظلم الذي يزداد عليهم يوما بعد يوم تصل إلى بشنر وهو يدرس في شتراسبورج، ثم وهو يواصل دراسته في جيسن. ولم يكن من الممكن في نطاق المدينة الجامعية الصغيرة، وعيون الجواسيس تحيط بالطلبة من كل جانب، أن يخفي سخطه على الأوضاع الظالمة في بلاده، وتطلعه إلى العدالة واحترام الإنسان في ظل نظام جمهوري حر.
وبدأت شرارات الثورة تتجمع، ثورة صغيرة بغير شك قوامها الطلبة والمتعلمون وبعض أساتذة المدارس والجامعات، تقلق رجال البوليس أكثر مما تحرك مشاعر الشعب الذي كان لا يكاد يعرف عنها شيئا. وكان بشنر يشارك في تمرد المثقفين دون أن يخفي سخطه عليهم وارتيابه فيهم؛ ذلك أنه لم يؤمن بثورة تأتي من أعلى، وتردد شعارات الحرية والمساواة، بينما الشعب محروم من حقوقه الأولية، رازح تحت نير الجوع والظلم والوحشية، وكان لا بد في رأيه أن يرفع الحرمان المادي والظلم الاجتماعي عن الشعب قبل التفكير في حقوقه السياسية، وها هو ذا يعبر عن ذلك في بيانه الثوري فيقول: «إن الضغط المادي الذي ينوء به جزء كبير من الشعب الألماني يبعث على السخط والحزن، مثله مثل الضغط الروحي، وليس من المؤلم في نظري ألا يسمح لهذا المثقف أو ذلك بالتعبير عن أفكاره بقدر ما يؤلم حقا أن نجد آلاف الأسر لا تملك أن تسوي بطاطسها.» لقد كان كل همه أن يجد الإنسان يحترم في وطن يحرره من الظلم والجوع والهوان.
كان يعيش بقلبه مع الجائعين من العمال والفلاحين، وينظر نظرة الشك والحذر إلى مناقشات الأساتذة والمثقفين، وكانت أهم وسيلة لديه للوصول إلى هؤلاء الفلاحين هي طبع المنشورات وتوزيعها عليهم.
ويكتب بيانه الثوري «رسول هسن» في مارس من عام 1834م، ويساعده أستاذ اللاهوت «فيدج» على طبعه في مطبعته السرية وتوزيعه بمعرفة أصدقائه، وإن كان قد عدل فيه كثيرا ليخفف من لهجته الحادة ضد الأغنياء والمترفين! وألف في الشهر نفسه جمعية سرية سماها «جمعية الحقوق الإنسانية»، مهمتها تنوير جماهير الشعب ورفع الحرمان المادي عنهم، ولكن أنصار الملكية وجماعات الطلبة ابتعدت عنها، بل كادت تقاطعها حين طلب بشنر أن يسمح لغير الجامعيين بالانضمام إليها، ولكنه أصر على طلبه، ودخل في جمعيته السرية الخباز والترزي وصبي الجزار إلى جانب الطالب والأستاذ الجامعي، وفي نفس العام ألف في مسقط رأسه «دارمشتات» فرعا آخر لهذه الجماعة من المتمردين كانوا يجتمعون سرا؛ ليتدارسوا شئونهم، وينظموا دعايتهم بين الفلاحين، ويتمرنوا على استخدام الأسلحة تمهيدا للثورة الشعبية الشاملة. ووزع منشور بشنر الثوري بعد أسابيع طويلة من العمل فيه، فما أكثر المتحذلقين الذين راحوا يعدلون في أسلوبه ويخففون من لهجته! وراح أعضاء الجماعة السرية يوزعونه في حذر على الفلاحين، ويلقونه تحت أبواب البيوت. واعتبرت السلطات حيازة المنشور خيانة عظمى، حتى بلغ الأمر بكل من وجد منشورا تحت بابه أن يسلمه في فزع إلى رجال البوليس؛ خوفا من التشريد والتعذيب والحبس الانفرادي. ويقبض على أحد أصدقاء بشنر (منيجوروده) ومعه عدد كبير من نسخ البيان الثوري الرائع، ويسرع بشنر في شجاعة نادرة بالسفر إلى فرانكفورت وأوفنباخ ليحذر زملاءه. وتفتش غرفته في غيابه، فلا يجد البوليس شيئا يذكر، اللهم إلا مجموعة من رسائل خطيبته إليه كتبتها بالفرنسية، فأخذوها معهم من باب الاحتياط! وينتهي الفصل الدراسي الصيفي فيعود إلى بيت أبويه، اللذين ينصحهما الناس بإبقاء المتمرد الشاب تحت رقابتهما في فصل الشتاء أيضا.
هكذا ضاع صدى البيان قبل أن يعلن صوته، وتحطم السيف الناري قبل أن يثبت وجوده. لقد كان الضمير الاجتماعي في ذلك العهد ما يزال يغط في نومه، فبقي هذا الاحتجاج النبيل صرخة في الفضاء! وكان لدى الفلاحين من الصبر على الجوع أكثر مما كان يتوقع، فلم يكن من المستطاع أن يعوا لغته المدعمة بالإحصاءات، وإن فهموها فلم يكن من المستطاع أن يستجيبوا لها بالسرعة التي خيلها له حماس الشباب.
ها هو ذا يقول لهم: «اذهبوا يوما إلى «دارمشتات»، وانظروا كيف ينعم السادة هناك بأموالكم، ثم احكوا لأطفالكم ونسائكم الجياع كيف يوزع خبزهم على بطون الأجانب. احكوا لهم عن الثياب الجميلة التي صبغوها بعرقهم، والأشرطة المزخرفة التي فصلوها بشقوق أيديهم المتعبة. احكوا لهم عن القصور الرائعة التي بنيت من عظام الشعب، ثم انزووا في أكواخكم المدخنة، وأحنوا ظهوركم في حقولكم الجرداء ليستطيع أطفالكم ذات يوم أن يذهبوا إلى هناك، حيث يجتمع ولي عهد مع ولية عهد لينجبا ولي عهد آخر، وينظروا من وراء النوافذ ليروا ما يأكله السادة، ويشموا رائحة المصابيح التي يشعلونها بلحم الفلاحين.» كلمات واضحة ما كان يمكن أن تلتبس في ذهن الفلاحين لو كتب لها أن تصل إليهم: «ستة ملايين «جولد» تدفعونها في الإمارة لحفنة من الناس وضعت حياتكم وأملاككم تحت رحمتهم، مثلكم مثل غيركم في بقية أجزاء ألمانيا الممزقة؛ لستم شيئا ولا تملكون شيئا، حقوقكم سلبت منكم. إن عليكم أن تعطوا ما يطلبه منكم مستغلوكم الذين لا يشبعون، وأن تحملوا ما يلقونه على أكتافكم. افتحوا أعينكم وعدوا حفنة المستغلين الذين لا يستمدون قوتهم إلا من الدم الذي يمتصونه من عروقكم، والأذرع التي تعيرونها لهم وأنتم مسلوبو الإرادة.»
وهكذا ضاعت دعوة «السلام للأكواخ، والحرب على القصور»، وصودر البيان قبل أن يصل إلى الأيدي وقمعت الحركة الثورية، واستيقظت روح الفنان في نفس بشنر الذي فر إلى بيت أبويه في شتاء 1834 / 1835م؛ هربا من القبض عليه، حيث كتب هناك في شهري يناير وفبراير مسرحيته الوحيدة التي أتمها قبل موته، وهي «موت دانتون»، وقد أثبت الباحثون أن خمسها على الأقل منقول بنصه من تواريخ الثورة الفرنسية «تييرومنييه»، وما كان قصده أن يمجد هذه الثورة، بل أن يعبر عن فزعه من جبرية التاريخ وعدمية الوجود وتمزق البطل، ثم هرب في فبراير سنة 1835م إلى شتراسبورج، قبل صدور الأمر بالقبض عليه بقليل، ويواصل دراسة الطب هناك، وحصل على شهادة الدكتوراه برسالة «عن الجهاز العظمي للأسماك»، ويتابع الكتابة كالمحموم؛ فيؤلف مسرحيته الشعبية «فويسك»، وملهاته الباكية «ليونس ولينا»، ورائعته القصصية «لنس» عن مأساة شاعر حركة العاصفة والاندفاع ياكوب ميخائيل رينهولد لنس (1751-1792م)، وقد بقيت كلها أعمالا ناقصة لم تتم. •••
يعد بشنر المناهض الأول لمثالية الشاعر الكبير شيلر. إن صورة البطل المنتصر الذي يصارع عالم المادة من أجل تمجيد الفكرة المثالية لا أثر لها عنده؛ فأبطاله يعانون مأساتهم، وينحدرون إلى هوة من العدم، تحركهم كالدمى الذبيحة أو كخيالات الظل يد خفية باطشة، ويسحقهم قدر قاس مجهول. و«موت دانتون» تتألف من مشاهد مسرحية تأثر فيها بشنر بفن شكسبير، وجعل موضوعها رجل الثورة الفرنسية المشهور دانتون، بطل حوادث القتل المشهورة في سبتمبر 1792م الذي ساقه زميله روبسبيير إلى المقصلة في 5 أبريل عام 1794م، وتدور أحداثها في يومين اثنين معبرة عن احتقار دانتون لرعب الثورة التي جاءت لتحقق الحرية والمساواة، فإذا بها تخضب يديها في بحر من الدماء. إن دانتون بطل الثورة لم يعد بطلا. إنه ينظر بغير اكتراث إلى روبسبيير وهو يدفع به إلى المقصلة، ويشمئز من مشهد الدماء المسفوكة والرءوس المتساقطة، ويسأل: «ما هذا الذي يكذب فينا، ويفجر، ويسرق، ويقتل؟!» لقد صار هاملت جديدا يخنق فكره إرادته: «ما نحن إلا دمى، تشد خيوطها قوى مجهولة، ما نحن إلا عدم. لسنا نحن أنفسنا، بل السيوف التي تتصارع بها الأشباح، لكن المرء لا يستطيع أن يرى الأيدي التي تحركها، كما في حكايات الأطفال». إنه لم يعد يعرف ما يريد، أو هو بالأحرى لم يعد يريد شيئا، اللهم إلا الراحة الحقيقية في القبر: «جولي، أحبك كالقبر، صدرك رمسي وقلبك تابوتي.» إن الثورة عنده هي فوضى الجماهير، وأبطالها هم السفاحون، ويمر الزمن فتصبح الخدعة تاريخا. والمسرحية كلها تعبر عن مأساة الثورة، كما تعبر عن خيبة أمل شاب حساس بعد إخفاق ثورته وثورة أمثاله في تحطيم الطغيان الإقطاعي المستبد في بلده.
وأما قصته «لنس» فتشبه أن تكون دراسة سيكلوجية للعبقري المجنون، الذي أصبحت نفسه مسرحا تصطرع عليه قوى النور والظلام، وتهوي على الدوام في فراغ موحش يحيط بها من كل جانب، وملل قاتل يسلبها كل معنى للحياة، وعالم يضطرب لا تميز فيه الحلم من الحقيقة. كان يقف الآن على حافة الهاوية، تدفعه لذة مجنونة إلى إعادة التطلع إليها مرة بعد مرة، ومعاناة هذا العذاب من جديد. إن العالم يضيق الخناق عليه حتى يكاد أن يختنق ويصرخ كالطفل المريض يريد أن يدفع بيديه جدران الأرض والسماء التي تكاد تسحقه، ويبعد عنه أشباح القلق التي تكتم أنفاسه.
ومقياس الصدق الفني عند «بشنر» ليس هو الفكرة المثالية المجردة، بل العاطفة والشعور. و«لنس» يعبر عن رأي بشنر الأدبي خير تعبير: «إنني أطلب من كل شيء الحياة وإمكانية الوجود، عندئذ أرضى عنها، ليس لنا أن نسأل بعد ذلك إن كان جميلا أو قبيحا. إن الشعور هو المقياس الوحيد في مسائل الفن، غير أن هذا الشعور بالحياة يقابلنا نادرا. إننا نجده عند شكسبير، ونسمعه يتردد في الأغاني الشعبية، كما نلمسه في بعض الأحيان عند جوته. وكل ما عدا ذلك نستطيع أن نلقي به في النار. إن هؤلاء الناس يعجزون عن تصوير حظيرة كلاب. أرادوا أن يصوروا شخصيات مثالية، ولكن كل ما أراه منها أمامي ليس إلا دمى خشبية. هذه المثالية هي أخس احتقار للطبيعة الإنسانية.» إن بشنر يطالب الفنان بأن يغوص في كيان كل موجود، أن يترك الشخصية تخرج بنفسها إلى الحياة، فلا يحاول أن يحشرها في قالب أو ينسخها على صورة نموذج محدد من قبل، لا يختلج فيه نبض، ولا يتردد نفس. و«ليونس ولينا» هي ملهاته الوحيدة التي يغلفها جو صاف من المرح الحزين والسخرية المريرة. إنها تعبر عن انتصار الحب على الملل القاتل والخوف المتسلط من الموت والفناء.
وقد كتبت «ليونس ولينا» على أثر مسابقة أعلن عنها الناشر «كوتا» في الثالث من شهر فبراير عام 1836م ل «أفضل ملهاة ألمانية»، وحدد لها موعدا ينتهي في اليوم الأول من شهر يوليو من نفسه العام. كان نجاح مسرحيته «موت دانتون» قد منحه الشجاعة، كما أعانته ترجماته لبعض مسرحيات فيكتور هيجو (لوكرتسيا - بورجا - وماريا تودور) على فهم الكثير من أسرار المسرح، أجمل الفنون وأصعبها جميعا. وانتهى من كتابة ملهاته في أسابيع قليلة من فصل الربيع، غير أنه تأخر في إرسالها إلى الناشر، فوصلت بعد انتهاء موعد المسابقة بيومين، وأعيدت له المخطوطة دون أن تفتح!
كتب بشنر ملهاته وفي خياله نموذج للملهاة الرومانتيكية، هو مسرحية «فون برنتانو» «ليونس دي ليون»، التي كان قد اشترك بها في نفس المسابقة منذ سنوات عديدة، وسقطت في المسابقة. ومن يدري؟ لعله لم يكن أيضا يتوقع النجاح بقدر ما كان يريد أن يتحدى القدر!
والقراءة الأولى للمسرحية توحي بأنها مسرحية رومانتيكية، تسيطر على فن الملهاة كما فهمه هؤلاء الرومانتيكيون وعبروا عنه بروحهم الشاعرية الحالمة. والواقع أن بشنر قد كتب المسرحية تحت تأثير قراءاته للرومانتيكيين الألمان من أمثال برنتانو وتيك وهوفمان وكاميسو، والفرنسيين مثل فيكتور هيجو وألفريد دوموسيه، ولكن الواقع أيضا أنه أراد أن يتحرر من أحزانهم وأشواقهم، ويكشف الرومانتيكي في نفسه لكي يتخلص منه، ويتجاوز عالمهم بالسخرية منه وبالتحدي له. هي مسرحية حالمة، ولكنه الحلم الذي يفتش عن المعرفة، وهي حلم شفاف، ولكنه لا ينسينا مرارة الواقع المفزع أبدا. إنها من طراز مسرحيات الحلم؛ من حلم ليلة صيف لشكسبير إلى لعبة الحلم أو إلى دمشق لسترند برج، ومع ذلك فليس فيها مكان للمثاليين ولا للعاطفيين!
الحياة ملهاة، ولكن هذه المعرفة لا تأتيه إلا من معرفته بفناء الحياة وزوالها، وإذا كان الإنسان يشترك في تمثيل هذه الملهاة فليس ذلك لأنه يسعده أن يشترك فيها، بل لأن قدرا قاسيا قد كتب عليه ذلك؛ فعنصر الكوميديا ينمو من الجذور التراجيدية، بل إن العنصر التراجيدي يصبح عن طريق العنصر الكوميدي سخرية مرة شاملة، وهذا ينطبق على الأمير «ليونس» الذي يشف شفافية النور، ولكنه يكاد يقتل نفسه من طول التأمل في نفسه، مثله في ذلك مثل دانتون؛ البطل الذي شل تفكيره قدرته على الفعل.
إن ليونس أبيقوري من نوع عجيب؛ فهو يتلذذ بتعذيب نفسه، ويستقطر الألم الكوني قطرة قطرة، ويجد متعته في حب يموت كطفل رقيق شاحب مسجى في تابوت، قبل أن يجدها في نعمة الحب الذي ينمو ويتفتح ويزدهر. إنه يعشق نفسه، أو بعبارة أصح يعشق أن يمتص الدم من جراحه؛ أن يرى عواطفه تذبل وتتحلل، أن يجد نفسه يترنح كالراقص على الحبل بين الحلم والواقع، والوهم والحقيقة، واللعب والجد. إن كل همه أن يوقف اللحظة الراهنة ليستمتع بها إلى آخر قطرة، ولكن اللحظة تمر، وتزيده إحساسا بلوعة وعذاب المصير، فيتأملها وكأنه يقول لها على لسان فاوست: تريثي قليلا فما أجملك!
هذا الإحساس بالحياة يظل يتأرجح بين متعة الخيال التي لا حد لها، وبين خيبة الأمل التي يسببها السأم. والحياة تواصل عبثها، يشدها الإحساس الرومانتيكي الذي يموت من ناحية، وتجذبها حقيقة الواقع الذي يتجرد من سحره من ناحية أخرى.
إن الشخصيات لا تجد الفعل الذي تغوص في لجته؛ ولذلك فهي مهددة في كل لحظة بالسقوط في هوة الفراغ. إنها، على حد قول فاليريو، كصفحة بيضاء كتب عليها في كل لحظة أن تملأها بالكتابة. وتكاد الذات أن تتفرق وتتلاشى، لولا أن النظرة الساخرة المبتعدة تجدد سخريتها من هذه الذات في لحظات الملل وتجدد أيضا متعتها بعذابها، ولولا نعمة الأسطورة التي تحقق الحلم في النهاية، وتخلص الإنسان بالحب والسعادة من خوفه من الملل والعدم.
وقصة هذه المسرحية بسيطة؛ فالأمير ليونس من مملكة بوبو قد أعلنت خطبته لأسباب سياسية على الأميرة «لينا» من مملكة «بيبي»، ولكن الأميرين لم يسبق لهما أن تلاقيا وجها لوجه، وليس في إمكانهما أن يشعرا بالحب نحو بعضهما البعض؛ ولذلك يلجآن إلى الفرار من هذا الزواج الرسمي، فيهرب ليونس في صحبة خادمه فاليريو (وما أشبهه بشخصية مضحك الملك)، وتهرب لينا في صحبة مربيها، ولكن القدر يشاء أن يلتقي العروسان دون أن يعرف أحدهما الآخر، وأن يتحابا ويتفقا على الزواج. وكأن بشنر يريد بهذا أن يصور قدرية التاريخ على خشبة المسرح، وأن يمسك بيديه تلك الخيوط التي تحركنا بها قوة مجهولة، وكأننا دمى مسكينة في يديها. ويعود الأمير ليونس إلى مملكته بعد أن صمم على الزواج من حبيبته المجهولة، ويقدمهما فاليريو إلى البلاط كما يقدم «آلات حية»؛ المقدور إذن قد حدث. ويضطر الملك الذي لا يريد أن يؤجل احتفالات الزواج حتى لا يشغله كذلك عن تأملاته الفلسفية إلى الموافقة على عقد زواج العروسين المقنعين، ثم لا يلبث أن يكتشف أنهما هما ولده وعروسه، وتنتهي الرواية نهاية سعيدة، فيخلف ليونس أباه على العرش، وترفرف السعادة والحكمة على المملكة التي لا يعيبها سوى أن اسمها هو بوبو!
2
ويلاحظ القارئ أن بشنر يسجل بهذه المسرحية، في إطار ساخر، زهده في السياسة، وخيبة أمله في الثورة على الاستبداد. إنه هنا يكرر ما قاله في بيانه الثوري الفريد، وإن لم يقله بنفس اللهجة الجادة التي كادت تودي بحياته.
أما عن مسرحية فويسك فإن بطلها «السلبي» يعد أول شخصية كادحة تحتل مكان الصدارة في زمنها في مسرحية عالمية، وقد استمد بشنر موضوعها من حكاية واقعية جرت حوادثها لجندي بسيط قتل زوجته لخيانتها له، وتسود المسرحية كلها روح الانهيار الكوني الشامل والفزع من ظلام العدم والقلق أمام المجهول.
إن البطل هنا، مثله مثل دانتون، لا يقاوم ولا يتقدم إلى الأمام، بل يحني رأسه للقدر المعتم، لا عن ضعف، بل عن بصيرة بعبث كل فعل وانتصار. ولما لم يكن هناك فعل، فليس ثمة رد فعل له، ولا مسرحية بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة. إن الفصل ينحل إلى مشاهد منفصلة، ومحاورات ذاتية (مونولوج)، ولحظات خاطفة، وليس ثمة خط يرتفع بالحدث أو يهبط به إلى نهايته، بل لوحات وصور مفككة، ورعشات لا يجمعها غير التوتر المتصل؛ ولهذا يرى النقاد أنها تمثل خطوة هامة على طريق المسرح الملحمي الحديث.
3
وفويسك قد وجد حقيقة كما قدمنا، واختلف الأطباء الشرعيون في قواه العقلية. كان يقول في المحاكمة إنه سمع أصواتا تناديه: «اطعن! اطعن!» ليس هو الذي قتل إذن، بل قوة مجهولة طاغية يعجز عن إدراك كنهها. وتقول القضية التي تستند إليها المسرحية إن صانع القبعات يوهان كرستيان فويسك طعن أرملة الجراح فوست البالغ عمرها ستة وأربعين عاما بسكين حادة، وذلك في اليوم الثالث من شهر يونيو عام 1821م حوالي الساعة العاشرة مساء على عتبة مسكنها في مدينة «ليبزج». قتلها بدافع الغيرة؛ فقد كانت عشيقته، وكان يعلم أن لها علاقة برجال آخرين، وبالأخص بالضباط والجنود، وكانت قد وعدت أن تلقاه في المساء، ولكنها خرجت مع غيره؛ مما دفعه إلى الإقدام على جريمته. وأيا ما كانت تفاصيل القضية التي شغلت الرأي العام آنذاك فقد حكم على فويسك بالإعدام بالسيف، ونفذ فيه الحكم علنا في السابع والعشرين من شهر أغسطس عام 1824م في سوق ليبزج. ويحتمل أن تكون هذه القضية قد ظهرت في محيط عائلة بشنر، وربما تحدث في شأنها مع أبيه الذي كان هو نفسه طبيبا، وكان له رأيه في المناقشات الطبية الطويلة التي دارت حول فويسك ومدى قدرته العقلية. المهم أن بشنر قد تذكر هذه الحادثة التي ظلت كامنة في عقله الباطن أثناء دراسته في شتراسبورج، ووجد في شخصية فويسك تعبيرا عن اقتناعه بالقدرية التي تسير الإنسان وتلعب بمصيره وتسلبه إرادته.
وقد ظهرت المسرحيتان بعد موت بشنر المفاجئ بمرض التيفوس، ولم يكد يتم أربعة وعشرين عاما من عمره.
موت دانتون
تمهيد
بقلم عبد الغفار مكاوي
كتب جورج بشنر مسرحية «موت دانتون» في شتاء سنة 1835م، في أيام معدودة لم تتجاوز شهرا. كان يريد أن يمول بها هروبه عبر الحدود الفرنسية إلى مدينة شتراسبورج، التي عاش فيها ودرس الطب من سنة 1831م إلى 1833م؛ ليفلت من اضطهاد البوليس واستجواباته المستمرة؛ فقد ألف في مدينة جيسن قبل ذلك - كما قدمت - فرعا لجمعية سرية سماها «جمعية حقوق الإنسان»، كما وضع منشوره الثوري الخطير الذي فتح عيون الشرطة عليه، وحرمه الاستقرار في بلده.
تتألف «موت دانتون»، مثلها في ذلك مثل مسرحية «الجنود» للنس
1
من مشاهد صغيرة منفصلة تبلغ اثنين وثلاثين مشهدا، يساعد بعضها على دفع الحدث، ويخلق معظمها جو المسرحية العام الذي يشبه أن يكون قبرا مخيفا شاحب الضوء، تتردد فيه الأصداء وتتجاوب، وترقص الظلال والأطياف، ويحب الناس ويكرهون ويتعذبون ويخطبون ويقتلون ويجنون ويحاولون أن يعزوا أنفسهم عن قدر معتم محتوم يتربص بهم في كل لحظة. وإذا كان أحد معاصريه من رواد المسرح الواقعي الثائر، وهو جرابه
Grabbe (1801-1836م)، قد قال عن مسرحه: «ليكن هو العالم.» فلعل هذا القول أن ينطبق على مسرح بشنر أكثر مما ينطبق عليه، ولعل هذا قد حقق ما لم يحققه صاحبه من معارضة للمسرح المثالي-الكلاسيكي والمسرح الرومانتيكي، وتصوير لنبض الإنسان وعذابه وعالمه الباطن الدفين، بعيدا عن قوالب الأشكال الفنية وقيود المذاهب الفكرية والفلسفية والاجتماعية. •••
يبدأ الفصل الأول من المسرحية بصالة لعب الورق، حيث يحاول دانتون مع بعض رجال الثورة الفرنسية أن يطردوا السأم عن نفوسهم.
وليس في هذا المشهد مجال لتصوير الانفعال بالثورة؛ فالحزن والكآبة والشلل الإرادي يسيطر على جوه الثقيل.
إننا نسمع أصواتا مخنوقة كانت من قبل تجلجل في الساحات وقاعات الاجتماعات، كما نسمع أصوات نساء تحاول أن توقظ الحب وتلمس القلوب. وبين الشك والمرارة على لسان دانتون: «إننا نعرف القليل عن بعضنا البعض، نحن وحيدون جدا»، وبين الكلمات المؤثرة على لسان جولي: «أنت تعرفني يا دانتون»؛ يدور الحوار في هذا المشهد، كما يتردد في بقية مشاهد المسرحية حتى تصرخ لوسيل صرختها الأخيرة قبل أن ينتابها الجنون، ويقتادها الجنود إلى مصيرها المحتوم. هذا التضاد المستمر في الأفكار والمشاعر والعبارات شيء أكبر وأعمق من كل الاتجاهات والأشكال والأساليب الفنية. إنه يعبر عن الصراع الكامن في قلب بشنر نفسه، ويصور كل ما شغل فكره وحرك عواطفه ويده بالكتابة، وهو ماثل في مسرحياته ووسائله، وفي حياته ونشاطه السياسي والعلمي، ممتد إلى جذور كل ثورة سياسية أو أدبية حين تفهم على الوجه الصحيح، «واقعي» إلى الحد الذي لا يمكن معه أن يوصف بالقدم أو الحداثة، معبر عن أهون أحداث المسرحية شأنا تعبيره عن أفظع الكوارث التاريخية. ويندر أن تجد كاتبا مثله استطاع أن يجد الكلمات التي تصور هذا كله بلا طموح أو ادعاء. ولعل هذا هو الجديد في «موت دانتون»، ولعله أن يكون هو سر عظمتها وغرابتها في وقت واحد. ذلك شيء يحس به القارئ ولا تنفع في توضيحه الشروح والتحليلات. وما قيمة كل التفاصيل التاريخية والعلمية عن مكانة المسرحية في الأدب الألمانية والعالمي إلى جانب هذا الإحساس الفريد؟!
ومع ذلك فإن هذا لا يمنعنا من أن نسأل: كيف استطاعت كلمات بشنر وعباراته ومشاهده أن تعبر عن هذا الإحساس؟ كيف وصل إلى ذلك بلا خطب طنانة ولا أنات باكية؟ كيف استطاع أن يكتب عن حدث تاريخي ضخم كالثورة الفرنسية، فلم يمجدها ولم يندب حظها، بل جعلها مناسبة ورمزا للتعبير عن عذاب الإنسان بوجه عام، وعن معنى وجوده في التاريخ أو عبث هذا الوجود؟ وبالجملة، لا بد أن نسأل أنفسنا كيف بنى بشنر مسرحيته؟
لا نكاد نمضي قليلا في قراءة المشهد الأول من المسرحية حتى نسمع كتائب الرعب والفزع الزاحفة، ونحس أن دانتون «بطل» الثورة الذي أنقذها من أعدائها ذات يوم، وكان مسئولا عن حوادث القتل المشهورة في سبتمبر سنة 1792م، لا بد أن يتحرك ويفعل شيئا، ولكننا سرعان ما نحس كذلك أن «البطل» لم يعد بطلا بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة، ولم يبق فيه شيء من الحماس والتزمت والجد الذي يحتاج إليه الثوار والسياسيون. إن كلماته تفيض أسى ومرارة وشكا، وفكره قد طغى على إرادته، فأصبح نسخة أخرى من هاملت لا يجد في نفسه القوة التي تحركه إلى الفعل، وإن وجدها فلن يقتنع بها.
دانتون :
يستطيع الإنسان أن يقرض الشرفاء، ويشهد حفلات التعميد لديهم، ويزوج بناته لهم، ولكن هذا هو كل شيء!
كاميل :
ما دمت تعرف هذا، فلماذا بدأت الكفاح؟
دانتون :
لأنني أحسست بالاشمئزاز من أولئك الناس. لم أستطع أبدا أن أنظر إلى أمثال «كاتو» المزيفين بغير أن أفكر في ركلهم، تلك هي طبيعتي (ينهض واقفا) .
جولي :
أتذهب؟
دانتون (لجولي) :
لا بد أن أنصرف. إنهم يثيرون أعصابي بسياستهم.
هذه المستويات المختلفة في الحوار والأسلوب، والتداخل المستمر بين كلام الخطباء والمشرعين، وحديث الذات إلى نفسها أو إلى إنسان قريب منها، وأدوار المغنين المتسكعين في الشوارع، وبذاءات الغوغاء في الحارات؛ هو الذي جعل بشنر يكتب ذلك الحوار الذي لم يسبقه إليه كاتب مسرحي في ألمانيا من قبل، ويخلق المسرح الذي نستطيع أن نسميه بالمسرح «الواقعي»، هذا إذا فهمنا الواقعية من خلال الحقيقة الإنسانية الحية، لا من خلال المذاهب والعقائد والنظريات، ويأتي بعد هذا المشهد في حجرة اللعب مشهد آخر في الشارع بين سكير بائس وزوجته القوادة وبعض المتسكعين المخربين بترديد الشعارات.
والمشهد يفيض بالسخرية والألم معا، ويصور اصطدام البطولة المهذبة بالوضاعة والتعاسة التي تسير حافية على أرض الطريق.
وبعد أن نعرف حكاية الزوجين البائسين، وندرك التناقض الواضح بينهما وبين عالم الخطب والوعود والآمال؛ نرى روبسبيير النزيه، رجل الثورة العنيد ومحاميها الجسور، بين طائفة من النساء والصعاليك ليبرز لنا هذا التناقض العجيب. لقد جعل من نفسه اللسان الناطق بأفكار الثورة، المدافع عن قسوتها وصرامتها، كما وضع نفسه بعيدا عن التضاد القائم بين المتشكك العارف والعاطفي المخلص؛ فأصبح تمثالا جامدا للفضيلة، لا يؤثر عليه الضحك ولا البكاء، ولكن هل ينتصر هذا الثائر الممل حقا أم يتحول إلى ترس في عجلة الثورة، وأداة من أدوات القتل والبؤس والتعذيب؟ الجواب على هذا يقدمه تاريخ الثورة الفرنسية نفسها، كما يعطيه المشهد السادس من الفصل الأول، الذي يلتقي فيه البطلان المشهوران، ويحاول كل منهما - على الرغم من القناع الذي يضعه على وجهه - أن ينظر في فؤاد صاحبه.
يقول دانتون لروبسبيير: «أليس فيك إذن شيء يهمس في الخفاء قائلا: أنت تكذب، تكذب؟» وعندما ينصرف دانتون نسمعه يقول لنفسه لست أدري ما الذي يكذب في صاحبه. إنه يحاول أن يمزق القناع الذي فرضه على نفسه، ويستمع إلى قلبه الذي يهمس له بصوت خافت أنه بشر كغيره من البشر، وأن وراء النظريات المجردة والقوانين القاسية «أنا» وحيدة لا يصح أن تذوب في «النحن» المطلقة. ويمتد حديث روبسبيير مع نفسه حتى يكاد يتشكك في فضيلته، ويرتاب في الشعارات والعبارات المحفوظة، ويدرك أن الثورة قد أصبحت آلة تتحرك من تلقاء نفسها، كما أصبح هو نفسه قائدها وضحيتها في آن واحد.
إنه يقف الآن أمام النافذة، ويرى الأطياف تتحرك في الليل، والهواجس الدفينة تتجسد أمامه وتطالب بحقها في الوجود: «الليل يغط في نومه فوق الأرض، ويلتف في حلم موحش. أفكار وأماني لا نكاد نحس بها، مضطربة وغامضة، تتوارى خائفة من ضوء النهار، تكتسي الآن شكلا ورداء.»
ولكن زميله سان جوست لا يلبث أن يوقظه من هذا الحلم، ويعيده إلى صحراء الخطط والأهداف، وينبهه إلى ضرورة التخلص من دانتون وأصدقائه، ويتعجله روبسبيير كأنه يحاول أن يهرب من هواجسه بأسرع ما يستطيع: «إذن فأسرع! غدا! لا نريد صراعا طويلا مع الموت! لقد اشتدت حساسيتي في الأيام الأخيرة. المهم أن تسرع!» وحين ينفرد بنفسه مرة أخرى لا نسمعه يردد جملة محفوظة، ولا نراه يشير إلى دور المخلص الذي أحب دائما أن يناديه الناس به، بل نسمعه يقول لنفسه في لهجة من أسيء فهمه وانفض الأصحاب عنه: «يا حبيبي كاميل! إنهم جميعا يتركونني. كل شيء حولي وحشة وخراب. إنني وحيد.»
وفي الفصل الثاني نجد دانتون يتحرك إلى الفعل، على الرغم من كل مرارته وسأمه ونزعته الرواقية الزاهدة، ولكن هل سيتحرك حقا، أم يكفي أن تشله عن الفعل عاطفة بسيطة تعبر عنها هذه الكلمات: «تعال يا ولدي! قلت لك إنهم لن يجرءوا»؟ إن كاتبنا يعرف كيف يشكل الحدث، أو بالأحرى مجموعة الأحداث والمواقف الخاطفة المنفصلة؛ ليجعلها تصب جميعا في حدث أكبر من الثورة الفرنسية نفسها. سيظل قائما ما بقي على الأرض إنسان أن أصغر الأحداث وأبسط المواقف يصبح أهم من نظريات روبسبيير الثورية، ومن خطبة دانتون التي يلقيها دفاعا عن نفسه؛ فمشهد لوسيل (حبيبة كاميل) في النهاية وهي تهذي وحدها على درجات المقصلة أعمق تأثيرا من كل عبارات البطولة التي تفيض بها المسرحية. والحكايات الكثيرة المتداخلة، والمشاهد القصيرة التي تضيء وتنطفئ كأنها أنوار أرجوحة تدور في المهرجان، وأغاني الشحاذين والمغنين المتسكعين، كلها ترسم خلفية الحدث الأساسي، وتحرك الحكاية الأصلية، وتساعد على تشكيل الجو الضبابي العام للمسرحية؛ فلا نكاد نحس بأن دانتون يريد أن يتحرك ويفعل شيئا حتى نسمع المغني يقول:
خبروني! خبروني!
ما الذي يلقى الرجال
من نعيم أو هناء؟
من صباح لمساء
بين هم وعناء
وعذاب وشقاء
وتدخل أغنية الشحاذ أو بكائيته فتساعد على خلق هذا الجو القدري الذي يبدو أن الشخصيات جميعا لن تستطيع الإفلات منه (وقد تعلم الكاتبان قيديكند وبرتولت برشت كيف يستفيدان من هذه الأغاني في داخل الحوار، كما تبعهما في ذلك كثير من الكتاب المعاصرين).
فالشحاذ يشكو الزمان ويقول:
يا أهل المروءة، يا أهل الثواب
ما بقي من الدنيا غير التراب!
وتتبع نتف متفرقة من الحوار، يعود الشحاذ بعدها إلى الغناء:
على الأرض بختي وآخر نصيبي
يا أهل المروءة، يا أهل الثواب!
وتتردد الأغنيات على هذا النحو في بقية المشهد على لسان الشحاذين والمتسكعين والبغايا والجنود. وفي المشهد الثالث يتحدث دانتون مع كاميل ولوسيل عن الفن، ويرثون لحال الشعراء والكتاب والرسامين الذين يخلقون شخصيات جامدة مصطنعة لا تتوهج فيها شرار الحياة. وقبل أن يأتيهم خبر اعتزام لجنة الإصلاح القبض عليهم، أي بين الحديث عن الفن ودوي الحدث التاريخي الهائل، نسمع هذا الحوار البسيط يدور بين كاميل وحبيبته لوسيل بعد أن استدعي دانتون إلى خارج الحجرة.
كاميل :
ماذا تقولين يا لوسيل؟
لوسيل :
لا شيء. إنني أحب أن أنظر إليك وأنت تتكلم.
كاميل :
هل تسمعينني أيضا؟
لوسيل :
بالطبع!
كاميل :
هل أنا على حق؟ أتعرفين ماذا قلت؟
لوسيل :
لا، في الحقيقة لا أعرف (يعود دانتون) .
وتتداخل المستويات المختلفة في الحوار من جديد، ويعود التضاد الذي عرفناه بين الشكاك المتعب الذي يقول: «نحن لا نعرف إلا القيل عن بعضنا البعض»، وبين النغمة الوفية الصادقة في سؤال الحبيبة: «هل تعرفني؟» وتلهث الجمل وتتقطع، وتدخل الأغاني والشتائم في الحوار، وتقوم الإشارة والإيماءة الصامتة مقام الجملة الطويلة، وتدوي الخطبة الفصيحة والشعارات المملة في المحكمة، وتنطلق الصيحات المجنونة من فم الزوجة والحبيبة، وتتساقط الكلمات الشاعرة كالأوراق الذابلة، ويعمل هذا كله على إبراز الطابع الفريد لهذه المسرحية التي ظلمها النقاد المعاصرون لبشنر، واتهموها بأنها مجرد إعداد مسرحي للمصادر التاريخية (وخمس المسرحية منقول بالفعل نقلا حرفيا من وثائق الثورة الفرنسية)، حتى قدرها الباحثون المحدثون حق قدرها، وعرفوا أن بشنر قد أعاد صياغة هذه المصادر التاريخية في الشكل الفني الذي يخدم غرضه، وجعل منها رموزا معبرة عن وجدان الإنسان أينما كان، وتصوير ضحكه وحزنه وفرحه وموته.
ويأتي بعد ذلك مشهدان شهيران، هما مشهد الخلاء والحجرة بالليل. إن دانتون يتعذب بذكرى حوادث القتل المشهورة في شهر سبتمبر سنة 1792. ويزداد جو المسرحية اتساعا وقتامة، وتتردد فيه أصداء الخواطر المرتعشة المفزوعة، وينتهي الفصل الثاني كله باجتماع المجلس الوطني بعد القبض على دانتون، وبخطبة روبسبيير الرائعة المشهورة التي ستحدد مصير دانتون.
وندخل مع بداية الفصل الثالث إلى سجن اللوكسمبورج، في قاعة معتمة كالقبر مزدحمة بالمساجين، ولا نكاد نمضي قليلا مع أحاديثهم العدمية (التي نخطئ خطأ كبيرا لو تصورنا أنها تدعو إلى الإنكار أو التجديف؛ لأنها في حقيقتها تعبير عن يأس بشنر، لا عن إنكاره للذات الإلهية لعذاب المخلوقات وفنائها المحتوم) حتى يدخل الحراس دانتون ولاكروا وكاميل وفيليبو، ومن ناحية أخرى يعد زملاء روبسبيير لتنفيذ الحكم على دانتون. ولا نلبث أن نسمع دانتون في المشهد الرابع من هذا الفصل، وقد استعاد صوته المجلجل في قاعة المحكمة، غير أننا نعلم سلفا أن الأوان قد فات، وأن المؤامرة قد أحكمت خيوطها حول رقبته. إنه ينجح نجاحا مؤقتا (في المشهد التاسع) في كسب معظم الأصوات في صفه، غير أن هتاف الجماهير التي تميل مع كل ريح يخيب ذلك الأمل؛ فها هي ذي أصواتها تختم الفصل الثالث وهي تدوي كالرعد: يحيا روبسبيير! يسقط دانتون! يسقط الخائن!
لماذا فشلت الثورة الفرنسية؟
لا بد أن بشنر سأل نفسه هذا السؤال وهو يكتب مسرحيته، ولا بد أنه تأثر عند كتابتها بفشل الثورة التي شبت في بلاده للقضاء على ظلم الأرستقراطية والإقطاع، وانعدام الوعي الثوري عند الألمان في ذلك الحين، سواء عند الفلاحين البائسين أو المثقفين المدعين الذين كانوا لا يملون من الكلام عن الحرية والحقوق الإنسانية، بينما ألوف الأطفال يموتون من الجوع. ولقد تصور بشنر أن الثورة الفرنسية تحطمت نتيجة الصدام بين رأيين يمثلهما روبسبيير ودانتون؛ فالأول يعتقد أن الثورة لن تنجح حتى تقضي على جميع أعدائها، وتنشر حكم الرعب في كل مكان؛ والثاني يرى أن الشعب لن يشبع من الدماء، وأنه في حاجة إلى الطعام والملبس، لا إلى الرءوس المتساقطة. إن الثورة يجب أن تكف عن افتراس أبنائها ليعيش كل فرد حياته، ويستمتع بحاضره. أحدهما يريد أن ينشر حكم الرعب والقانون والمقصلة، والآخر يريد أن يوقف عربة الثورة أمام الماخور. وكان لا بد للثورة أن تضيع بين هذين البطلين المتطرفين، وتصبح لقمة سائغة في فم طاغية أناني مثل نابليون، وكان لا بد لبشنر أيضا أن ييئس من الثورة ويفقد إيمانه بمعنى التاريخ، فلم يكن هو ولا عصره قد أدركا مفهوم الثورة بمعناها العلمي، ولم يكن في استطاعتهما أن يعرفا أن الثورة لا بد أن تغير من ظروف الإنتاج، وتعيد توزيع الثروات، وتقضي على التناقض البشع بين الطبقات، وإلا بقيت صرخة عالية ممزقة في الهواء. •••
إن بشنر - وهو في هذا صادق مع نفسه الحساسة المتشائمة - لا يعتقد أن التاريخ يسير نحو هدف معلوم، ولا يرى - كما رأى الكلاسيكيون من قبله - أن يتطور تطورا عضويا مستمرا نحو آفاق حضارية أرقى وأوسع؛ فهو يرى الوقائع وحدها، ويجد أن هذه الوقائع تقول عكس ما تقول به نظريات الكلاسيكيين؛ ولذلك فإن مسرحيته لا تسير إلى هدف أو خاتمة، سواء كانت هذه الخاتمة نهاية سعيدة متخيلة، أو كارثة شاملة تحرر النفس وتطهرها.
إن الفصل الرابع والأخير لا يأتي معه بالنهاية المنتظرة؛ فهو لا يزيد على أن يكون أحد المشاهد العديدة التي رأيناها تدور مع أرجوحة الأحداث؛ فنحن نعرف أن موت دانتون لم يحسم شيئا، ولم ينقذ الثورة ولا الفضيلة، وأن روبسبيير لن يلبث بدوره أن يلقى نفس المصير، فيسقط رأسه مع دورة هذه الأرجوحة الأبدية. والمسرحية نفسها تقول هذا، على لسان كولو (في المشهد السادس من الفصل الثالث) حين يهتف بأن حمم الثورة تسيل، وبأنه إذا كان روبسبيير يريد أن يجعل من الثورة كرسي اعتراف، فعليه أن يرقد عليه لا أن يقف فوقه.
هو إذن حدث غير إنساني أو حدث يتخطى حدود الإنسانية، ويسير في طريقه دون أن يعبأ بعذاب الإنسان ودمه ولحمه ونبضات قلبه. إنه يجري الآن وسوف يتكرر على الدوام، ويمتزج فيه اليأس بالعجز بالطموح بالإرادة الطيبة، ويجتمع فيه الشك والمرارة التي عبر عنها دانتون حين قال: «نحن لا نعرف إلا القليل عن بعضنا البعض»، مع الصدق والبراءة التي أجابته بها جولي المحبة الوفية: «أنت تعرفني.» مثل هذه الخلجات تومض كالشرر تحت التراب، أو كأنوار الفنارة فوق بحر مظلم. إنها تثبت وجودها على الرغم من كل شيء، على الرغم من عجزها وضعفها بين الصيحات المدعية الغاضبة، والنظريات المجردة والشعارات المكررة التي تلبس مسوح القداسة، وأصوات الجماهير التي تندفع مع كل ريح وتميل بسذاجتها وضعف بصيرتها وغلبة الشهوات عليها مع كل مجداف. هذه الخلجات البسيطة شيء لا ينبغي أن نطمسه أو نخرسه. إنه أعظم ما في الإنسان وأصدق ما يدل على وجوده، ولو أخرسناه وطمسناه في سبيل النظريات والشعارات فماذا يبقى من الإنسان؟! وليس من قبيل الصدفة ألا يبدأ هذا الفصل الرابع بحدث سياسي، بل بمشهد بسيط ترسل فيه جولي ولدها إلى دانتون ومعه خصلة شعر؛ علامة على أنها ستموت معه: «اذهب! أعرف أنني رأيته لآخر مرة. قل له إنني لا أستطيع أن أراه وهو في هذه الحال. (تعطيه خصلة من الشعر) خذ. أعطه هذه الخصلة وقل له إنه لن يذهب وحده إلى هناك. إنه يفهم ما أريد.»
وبداية هذا الفصل ونهايته لا تربطهما صلة مباشرة بالأحداث السياسية الجارية، بل يصوران «الحدث الأكبر» الذي أشرت إليه في بداية هذا الكلام، وقلت إنه سيظل يجري ويتكرر ما بقي على الأرض إنسان. وتصل المسرحية إلى ذروتها في مشهد «الكونسييرجيري» الذي يصور ذلك الحدث الأكبر، كما يعبر عن وحدة الفرد وعن نجاحه في بعض اللحظات في أن يخرج من هذه الوحدة، ويتحسس في الظلام طريقه إلى قلب جاره. وقبل أن نصل إلى الذروة التي تحدثنا عنها، يقابلنا مشهد بين كاميل ولوسيل، يكاد أن يكون مشهدا سيرياليا (المشهد الرابع، الفصل الثالث): «لوسيل (تظهر على المسرح وتجلس على حجر تحت نافذة المساجين): كاميل! كاميل! (كاميل يظهر في النافذة) اسمع يا كاميل. أنت تضحكني بهذا الرداء الطويل الضخم، والقناع الحديدي على وجهك، ألا تستطيع أن تنحني؟ أين ذراعاك؟ أريد أن أصيدك يا عصفوري العزيز.»
وتنبض هذه الخلجات المؤثرة قبل أن نصل إلى الذروة التي أشرنا إليها قبل نهاية المشهد الخامس من الفصل الرابع؛ فها هم المساجين يشتركون في حديث واحد هو في حقيقته مونولوج طويل موزع على فيليبو ودانتون وهيرو وكاميل، يجأرن فيه بالشكوى من قوة غيبية مسيطرة. إنهم في الحقيقة لا يجدفون، ولكنهم في يأسهم يصرخون. ويدخل السجان ليقتادهم إلى العربة التي ستنقلهم إلى ساحة الإعدام، فيشعرون بأنهم قد اقتربوا من بعضهم البعض أكثر من أي وقت مضى. إن فيليبو يقول لأصحابه: «تصبحون على خير أصدقاء! فلنسحب اللحاف الكبير علينا ونحن مطمئنون، اللحاف الذي تتوقف تحته كل القلوب وتغمض كل العيون.»
ويعانق المساجين بعضهم البعض، ويتأبط هيرو ذراع زميله كاميل وهو يقول له: «افرح يا كاميل؛ فسوف تكون ليلتنا جميلة.» ثم ينتهي مشهد الإعدام بموت جولي الذي تؤكد به قربها من دانتون وبموت لوسيل الذي تثبت به وفاءها لكاميل.
ولكن لنتأمل معا هذا المشهد الخامس عن قرب؛ فها هم أولاء أصدقاء دانتون قد شلت إرادتهم عن الفعل، ودخلوا معه بين فكي الثورة التي ستفترسهم بعد لحظات، وغابوا في تلك الطاحونة الكبرى التي ستطحنهم كما طحنت سواهم. إنهم يسألون الآن عن معنى الوجود أو عبثه، عن حقيقته أو باطله، كما يبحثون عن شيء لعلهم يصلون إليه في الظلام، ويمضون في حديثهم فيمزقون كل قناع، ويتحررون من كل الأوهام، ونسمع كلماتهم الجادة المخيفة التي لا تحاول أن تحل تناقض الوجود بالابتسامة الساخرة المريرة، ولا تستعير من التراجيديا القديمة ذلك الانفعال البطولي والهائل، بل تخلق لنفسها نوعا جديدا من الانفعال الأليم.
إن هيرو يكشف القناع عن اللعبة الخالدة، لا بالسخرية الحادة أو العبارات الطنانة، بل في نغمة تفيض بالجد والتعاسة. وكاميل، هذا الشاب الجميل الذي يحب الجمال في كل شيء، يلجأ إلى الاستعارة والتشبيه الجديرين بفنان مثله. ودانتون ينزع عنه دور بطل الثورة الذي تعب من تمثيله، ويتحدث بغير صيغ محفوظة أو أشكال جاهزة، فتكاد عباراته أن تتحول إلى دقات مطرقة: «عندما يأتي اليوم الذي يفتح فيه التاريخ قبوره، فسوف يختنق الاستبداد من رائحة جثثنا.» أو حين يقول: «العالم هو الفوضى والعلماء.» ولكن فيليبو هو الوحيد الذي يصر على تعزية نفسه وأصحابه بهذا التجانس والانسجام الأبدي الذي يؤمن بوجوده: «افرح يا كاميل؛ فسوف تكون ليلتنا جميلة»، «فلنسحب اللحاف الكبير علينا ونحن مطمئنون.» إنه وهو على حافة الموت لا يزال يملأ عينيه من الخطوط الإلهية الرائعة، ولا يزال يعتقد أن هناك آذانا ينسكب فيها الصراخ والعويل كأنه لحن منسجم. أما هيرو فيفضح ذلك الوهم القديم الذي يجعل البطل يتعزى بالتاريخ، ظنا منه أن الأجيال المقبلة هي التي ستنصفه: «إنها عبارات محفوظة للأجيال المقبلة. أليس كذلك يا دانتون؟ إنها لا تعنينا في شيء.» ماذا بقي إذن للمعزين؟ لم يبق أمامهم إلا أن يلتصقوا ببعضهم البعض ويصرخوا؛ فليس هناك أغبى من أن يطبق الإنسان فمه بينما يضنيه الألم.
وأما كاميل فهو يخلق صورة بعد صورة، يفضح بها الأقنعة التي يرتديها الإنسان في أعماله وأتعابه، وهو في الحقيقة يفتح فمه متصنعا الفرح، ويصبغ وجهه باللون الأحمر. إن علينا أن ننزع الأقنعة، كل الأقنعة. إن الفروق بيننا ليست بالقدر الذي نتصوره، ونحن جميعا أوغاد وملائكة، أغبياء وعباقرة، وكل هذا في وقت واحد. العناصر الأساسية في وجودنا تختفي وراء الأصباغ المعقدة، ولكنها في صميمها واحدة؛ فالأرجوحة الأبدية تدور ولا تكف عن الدوران، والحياة تنقضي بين نوم وهضم وإنجاب أطفال، وما الخلافات التي نتوهمها إلا متنوعات على لحن واحد، والطموح والبطولة والعبقرية وتكلف الظرف كلها أقنعة فارغة؛ فنحن في الحقيقة موسيقيون مساكين، وأجسامنا كما يقول دانتون هي الآلات التي نعزف عليها أنغامنا المملة المتشابهة، ولا حقيقة لشيء خلف هذا كله إلا للألم والعذاب؛ فلنصرخ إذن ولنبك كما ينبغي لنا! لا بل إن هذا الصراخ نفسه لا يعدم من يعريه ويكشف عنه القناع؛ فهيرو يقول إن الإغريق والآلهة قد صرخت، بينما ادعى الرومان والرواقيون البطولة والصبر. ومع ذلك فليس هذا الصراخ نفسه إلا نوعا من التلذذ الأبيقوري الذي يحاول الإنسان أن يريح به ذاته؛ علينا إذن أن نمضي في كشف كل الأقنعة، وأن نعري الإنسان من أوراق الغار وأكاليل الورد وأوراق العنب!
وهذا الألم الذي نريد أن نصرخ به يصبح ضحكات تتردد أصداؤها في فراغ العدم، ويضحك الآلهة على هذا «اللعب الملون لصراع الموت»، وكأننا، كما يقول كاميل، أسماك ذهبية على موائد الآلهة؛ وتموت الأسماك إلى الأبد، وتضحك الآلهة إلى الأبد. لم تفلح البطولة إذن بقناعها الحجري المتكلف، ولم تنجح صور الانسجام، ولا «الخطوط الإلهية العظيمة» التي جاء بها فيليبو، أن تجلب العزاء في موقف يصعب فيه كل عزاء. وها هو ذا دانتون يتدخل في هذا المونولوج الطويل بهذه الصورة الكونية البشعة عن الضحك الأبدي من عذاب البشر. إنهم خنازير تجلد حتى الموت لكي يلذ طعمها في أفواه الملوك والأمراء، وأطفال يشوبهم الإله السامي الرهيب «مولوخ» ويدغدغهم بأشعة الضوء لكي يسعد الآلهة بضحكاتهم الأليمة، وأسماك ذهبية تموت أبدا على موائد الآلهة المباركين، فيضحك الآلهة أبدا على صراعهم المميت. ويلخص دانتون هذه الصور المخيفة في عبارة واحدة تقول إن العالم هو العماء، والعدم هو إله الكون. ويأتي السجان فيعلن أن العربات تنتظرهم أمام الباب، وتهبط هذه الصور الكونية فجأة إلى مجال الإنسان وعلاقته الحميمة بالإنسان، ويعانق الأصدقاء بعضهم، ويمسك هيرو بذراع كاميل ويقول له: افرح يا كاميل؛ ستكون ليلتنا جميلة. ويحاول المساجين أن يواجهوا قدرهم وقد رفعوا الأقنعة عن وجوههم. يكتسب كل شيء وجهه البشري، حتى صفحة السماء وعليها خيالات الآلهة الشاحبة تبدو الآن في صورة بشرية، وتختلج القلوب بالنبض الإنساني فتحجب صورة «البشر الذين يموتون كالأسماك الملونة في أطباق الآلهة الضاحكين، كما تخفف من بشاعة هذه الضحكات التي كادت تخنق صرخات الألم. وحين يقبل السجان ويعلن في كلمة موجزة: «أيها السادة، تستطيعون الآن أن ترحلوا» بعمق إحساسنا بألم الإنسان، فنزداد منه قربا وبه انفعالا. ويبقى الفرد، على الرغم من كل عزاء، وحيدا مع عذابه، ما من شيء يخفف عنه هذا العذاب إلا العبارات المحفوظة التي قصدت بها الأجيال القادمة، ولا الوجوه المتحجرة التي تتصنع البطولة أو تتكلف الابتسام أو تصرخ للتلذذ بصوتها، ولا الخطوط الإلهية العظيمة وآيات التجانس والانسجام في الكون، ولا حتى إلقاء النفس بين أحضان العدم أن الإنسان يظل وحيدا مع ألمه، ولكن هناك نغمة طيبة تتسلل إلى هذه الوحدة الشقية المعتمة، وتتجاوز ضحكات البشر والآلهة لتشد «الأنا» إلى «الأنت»، وتجمع بين الإنسان وأخيه في العذاب بصوت هادئ هامس: «تصبحون على خير يا أصدقاء.» أو في صوت يحاول أن يكون مرحا: «افرح يا كاميل؛ فستكون ليلتنا جميلة!» وليس هذا هو الموضع الوحيد الذي تصلنا فيه هذه النبضات البسيطة؛ فنحن نسمعها قبل هذا المشهد بقليل على لسان لوسيل المجنونة وهي تغني أمام نافذة حبيبها: تعال! تعال يا صديقي! اطلع على السلالم بهدوء؛ فهم جميعا نائمون.» وفي كلمات كاميل المشغول بمصير لوسيل بعده: «كان الجنون يطل من عينيها.» «لتساعدها السماء على العثور على فكرة ثابتة مريحة.»
ونظل نستمع إلى هذا الصوت الحميم العاري من كل قناع، الذي لا تحجبه عنه الضحكات المجنونة، ولا الصرخات المتألمة، ولا الضجيج المنبعث من دوران الأرجوحة الأبدية. إن جولي تموت وهي تفكر في دانتون: «لا أريد أن أتركه ينتظرني لحظة واحدة.» ولوسيل تهتف أمام نافذة السجن: «تعال! تعال يا عصفوري العزيز.» وعلى المقصلة يتكرر الصوت النقي الذي استطاع أن يتخلص من كل قناع؛ فكاميل يختم دعابته مع سائق العربة التي تقودهم إلى ساحة الإعدام بقوله لدانتون: «الوداع يا دانتون!» وحين يقول لاكروا في صوت لا زال يحتفظ بأثر من آثار البطولة: «ستكسر رقاب الطغاة فوق قبورنا.» يداعبه هيرو وينزع عنه هذا القناع الأخير بقوله: «إنه يحسب جثته مزبلة الثورة!» ولا تفلح كلمة فيليبو: «إنني أسامحكم وأرجو ألا تكون ساعتكم أمر من ساعتي» في إحداث الأثر الإنساني الذي كانت ترجوه. ولا يجد فابر ما يقوله خيرا من هذه الكلمة: «وداعا يا دانتون! إنني أموت مرتين.»
ويقول هيرو: «آه يا دانتون! لقد أصبحت عاجزا عن إخراج نكتة واحدة.» ويحاول أن يعانق دانتون فيدفعه الجلاد بعنف، فيقول له دانتون آخر كلمة نسمعها على المقصلة: «أتريد أن تكون أقسى من الموت؟ أيمكنك أن تمنع رءوسنا من تقبيل بعضها في قاع السلة؟!»
كلمات لا تذكر شيئا عن التاريخ، ولا البطولة، ولا الطغاة، ولا الفضيلة، ولا الدم. إنها لا تحاول أن تسخر أو تتألم أو تضحك أو تبكي، بل تعبر للمرة الأخيرة عن هذه النغمة الهادئة التي تتسلل إلى القلب، وتربط بين الإنسان وأخيه الإنسان برباط العذاب، وهو أول وآخر ما يتعلمه الإنسان من مواجهة الحقيقة والمصير. إنها النغمة التي تأتي على لسان هيرو وهو يمد يده ليلمس ذراع صاحبه: افرح يا كاميل ؛ ستكون ليلتنا جميلة.
هذه المشاهد الأخيرة من مسرحية «موت دانتون» ليست في صميمها إذن سوى حوار ذاتي، أو مناجاة (مونولوج) متصل يتحدث به بشنر إلى نفسه، وإن كان يوزع عباراته على الشخصيات المختلفة. صحيح أننا نجد خطبا عديدة ألقيت بنصها في زمن الثورة الفرنسية، كما نجد مستويات مختلفة من الكلام على ألسنة الشحاذين والمغنين والبغايا والجنود والزوجات والمتسكعين في الشوارع والحارات «وأبطال» الثورة أنفسهم، تمر إلى جانب بعضها البعض، فلا تكاد تتلاقى أو تلتحم إلا في لحظات قليلة يبلغ الحدث الإنساني فيها ذروته، ولكن المهم أن القاعدة الأساسية والخلفية الدائمة لكل هذه المستويات التعبيرية المختلفة هي إحساس بشنر بشفاء الإنسان وعذاب الخليقة.
إنه في نظره كالدمية المسكينة التي تحرك خيوطها يد مجهولة، ويتحكم في مصيرها قدر مجهول، يجبرها على أن تظهر فترة على المسرح فتضحك أو تبكي أو تدعي البطولة أو تبحث عن دور تقوم بتمثيله، ولكن مهمته أن يعريها من ثيابها المزركشة، وينزع عنها جميع الأقنعة، ويبرزها في وحدتها وعريها وصفائها.
إن دانتون يعبر عن ذلك حين يقول: «ما نحن إلا دمى، تشد خيوطها قوى مجهولة. عدم نحن. ما نحن إلا عدم. سيوف تتصارع بها الأشباح، غير أن الإنسان لا يرى الأيدي التي تحركها، كما يحدث في الخرافات تماما.»
والسطور التي يقولها بشنر على لسان دانتون أيضا عن الموسيقيين المساكين وعن صرخة الموت الإلهية التي تعزف على أجسامهم، لكي تصعد إلى آذان السماء وتخمد شيئا فشيئا لتموت هناك؛ ليست كذلك إلا تعبيرا عن هذا الإحساس بالعذاب المقدور. وبشنر يردد هذه الفكرة نفسها في إحدى رسائله إلى خطيبته (وقد كتبها من مدينة جيسن في شهر مارس سنة 1834م): «آه، نحن الموسيقيون المساكين الذين نرفع أصواتنا بالصراخ! ألا نئن وننشج على آلات تعذيبنا إلا لكي ينفذ النشيج من شقوق السحب، ويظل يتردد كالنغمة الهامسة حتى يموت في آذان السماء؟ إنني لا أجدف، ولكن الناس هم الذين يجدفون، ومع ذلك أراني وقد لقيت جزائي؛ فأنا أخاف من صوتي، وأخاف من مرآتي.» إنه يريد أن يكشف عن جوهر هذا الإنسان، ويصل إلى حقيقته المطموسة وراء الأقنعة والأشكال والتقاليد.
وكما حطم الشكل المسرحي التقليدي في كتاباته، ولجأ إلى ما يسمى الآن بالشكل الدرامي المفتوح والمشاهد الملحمية المستقلة كأنها الوحدات الفردة (المونادات) التي تحدث عنه ليبنتز، وملأ لغته بالنغم والإيقاع والصور الشعرية الحية والجمل المتقطعة اللاهثة والإيماءات الصامتة والحركات والإشارات والأغاني الشعبية متأثرا في ذلك بعض التأثر بشكسبير وجوته ولنس وشيلر؛ فقد أراد كذلك أن يحرر الإنسان بقسوة من كل القوالب والأشكال المفروضة عليه؛ ليصل إلى الإنسان الخالص في عريه وبؤسه وبراءته. هناك يستطيع أن يحب ذلك الإنسان لأنه يتعذب، ويقترب منه لأنه أخوه وشريكه في المصير المحتوم، ويلعن معه كل النظريات المجردة والقوالب الجامدة والتقاليد البالية التي وضعوه فيها كما وضع أوزيريس في التابوت، فحرموه من السعادة باللحظة الحاضرة، وأطفئوا الشرارة المضيئة التي أودعها الخالق فيه، وهناك أيضا سيلعن الأرستقراطية التي هي «أبشع احتقار مخز للروح المقدس في الإنسان»، ويسخر من ذلك الركام الميت الذي يسمى بالعلم، والغرور الكاذب الذي يدعى بالبطولة، والغنى الفاحش الذي يذل الناس ويجيع الأطفال. إن ما يحزنه أو يضحكه في آن واحد كما يقول في إحدى رسائله إلى أسرته (بتاريخ فبراير 1834م)، ليس هو حالة الإنسان، بل مجرد أنه إنسان، وهو أمر لا حيلة له فيه، وهذا هو الذي يجعله يضحك أو يبكي؛ لأنه إنسان مثله يشاركه نفس المصير؛ فهو يشعر أنه ينسحق تحت أقدام القدرية التاريخية المقيتة، كما يقول في خطاب آخر إلى خطيبته. ليس الفرد عنده إلا زبدا يطفو على الموج، وليست العظمة غير عرض زائل، ولا العبقرية سوى لعب بالدمى، وصراع مضحك مع قانون حديدي، أقصى ما يطمح إليه الإنسان أن يعرفه وإن كان من المستحيل عليه أن يتحكم فيه.
أهي العدمية إذن؟
إن الكلمة تتردد كثيرا في كتابات بشنر، ولكن من الخطأ أن نصفه بها أو نجعلها عنوانا على اتجاهه في الفن والحياة، بل إن من الخطأ والظلم أيضا أن نقيده بإحدى هذه المدارس الكثيرة التي نلغو بذكرها ليل نهار؛ ذلك أن بشنر، كما أشرت من قبل، هو الأب الحقيقي للمسرح الحديث بتياراته وأساليبه المختلفة، وهو كذلك بكفاحه الثوري في سبيل المظلومين والجائعين والمقهورين والمستغلين، أحد رواد الاشتراكية في بلاده، ولكننا لن نستطيع الاقتراب من قلبه حتى نتخلص من كل النعوت والأسماء التي تصف مسرحه بأنه واقعي أو طبيعي أو اشتراكي أو عدمي أو ملحمي أو غنائي أو شاعري ... إلخ. حقا إن مسرحه يجمع بين هذه الاتجاهات، ولكنه أكبر وأعمق وأشد تعقيدا من هذا كله. وإذا أردنا أن نعرف حقيقته فلا بد من السير على طريق المفارقة والتضاد، ولا بد من البحث عنها في عذاب الخليقة الغانية وومضة الحياة في كل كائن حي مهما صغر شأنه. •••
لا أحب أن أختم هذه المقدمة قبل أن أشير ببضع كلمات إلى ما سوف يلاحظه القارئ في لغة هذه المسرحية وشخصياتها؛ فهناك تعبيرات وتشبيهات لا بد أنها ستصدمه أو تفزعه، وفي بعض ألفاظها غلظة وقسوة وتلميح أو تصريح قد يستهجنه ويرفضه. وأنا لا أحاول تبريرها أو الاعتذار عنها؛ فالفن كما يعلم القارئ لا شأن له بالأخلاق، اللهم إلا في غايته الأخيرة وتأثيره النهائي غير المباشر، والفنان لا يكتب ليؤيد الفضيلة أو يحارب الرذيلة، ولكنني سأكتفي هنا بتكرار ما أشرت إليه مرارا في الهوامش والتعليقات على النص، من أن بشنر لا يقصد الألفاظ النابية أو التعبيرات الغليظة لذاتها، بل بقدر ما تصور الشخصيات وتعيد خلق العصر، وترسم لوحة تعبر في صدق عن تلك السنين المضطربة التي عاشتها فرنسا في ثورتها الإنسانية الكبرى. وقد لقيت المسرحية عند ظهورها في سنة 1835م في مدينة فرانكفورت (لدى الناشر زوارلندر) معارضة شديدة، وارتفعت أصوات تستنكر ما تصورته فيها من خروج أو إلحاد. أجاب بشنر على هذه الاحتجاجات في خطاب أرسله إلى أبويه في شهر يوليو من تلك السنة، وقال فيه إن الكاتب المسرحي في نظره ليس إلا مؤرخا وإن كان يتفوق على هذا في أنه يعيد خلق التاريخ، ويضعنا مباشرة في حياة العصر، ويقدم لنا بدل الأوصاف شخصيات حية. إن من أهم واجبات الكاتب المسرحي أن يقترب من واقع التاريخ ما أمكنه ذلك، بحيث لا تكون كتابته عنه أقل أو أكثر أخلاقية مما هو عليه في الحقيقة. ولم يخلق الله التاريخ لكي تتسلى الفتيات بقراءته؛ فإذا لام أحد الكاتب لاختياره هذه المادة أو تلك فلا بد عندئذ أن نلقي بأعظم نفائس الأدب في البحر.
ويواصل بشنر دفاعه عن مسرحيته ونظريته في الفن والكتابة في خطاب متأخر، فيقول إنه يرسم شخصياته بالطريقة التي يعتقد أنها تناسب الطبيعة والتاريخ، ويسخر بمن يحاولون أن يحملوه مسئولية اتفاقها مع قواعد الأخلاق أو خروجها عليها. وربما سارع القارئ باتهام المؤلف بالإنكار، وربما سخط على المشهد الأول من الفصل الثالث بوجه خاص، غير أنه يعلم بغير شك أن الآراء التي ترد على ألسنة الشخصيات المسرحية لا يتحتم أن تكون هي آراء المؤلف - ولا المترجم بالطبع! - كما أن إغفال هذا المشهد أو إسقاط بعض العبارات من نص عالمي معترف به في كل اللغات والآداب شيء لا يصح أن نقدم عليه؛ فإذا وجدنا أنه يخالف تقاليدنا أو عقيدتنا، أمكننا دائما أن نعلق عليه أو نبحث عن مبرراته، دون مساس بالنص الأصلي الذي ينبغي أن تكون له حرمته. ولست أدافع عن المؤلف إذا قلت إنني لم أجد في كل ما قرأت له أو عنه ما يشكك في عقيدته، بل لقد وجدت على العكس من ذلك أنه مؤمن صادق الإيمان، وأنه إذا كان يثور على الألم ويكفر بالعذاب الذي يقاسيه الإنسان في هذه الحياة وتقاسيه الخليقة معه، فلأنه يجد أن هذا الألم والعذاب هو الطريق الوحيد للوصول إلى الله. ولقد عبر كثيرا عن هذا المعنى في خطاباته إلى أبويه، كما قال قبل موته المفاجئ بيومين: «ليس لدينا الكثير من الآلام، بل إن ما لدينا منها جد قليل؛ لأننا لا نتصل بالله إلا عن طريق الألم.» كما قال أيضا فيما تشهد به كارولينه شولس، وهي السيدة الطيبة التي سجلت أخبار مرضه الأخير يوما بيوم: «نحن موت، وتراب، ورماد ، فكيف يجوز لنا أن نشكو؟» وليست القضية في نهاية الأمر قضية مؤلف أو مسرحية - مضى على صدورها أكثر من مائة وثلاثين عاما! - بل هي قضية تتصل بنظرتنا للفن، ووزنه بميزان الصدق والعمق، لا بميزان اللوائح والقوانين.
ملحوظة
رجعت في هذه الترجمة إلى النص الذي حققه ونشره فرتز برجمان في دار «أنزل» سنة 1958م، كما استفدت في كتابة المقدمة بالبحث الذي نشره الشاعر العالم فالتر هولرر
Walter Höllerer
عن موت دانتون في المجلد الثاني من كتاب «الدراما الألمانية»، الذي أشرف عليه ونشره العلامة بنوفون فيزه
Benns Von Wiese ، وبكتاب الأخير عن التراجيديا الألمانية من ليسنج إلى هيبل.
أما عن الترجمة فلا بد من الاعتراف بأن بعض المقطوعات الشعرية فرضت نفسها علي، فوجدتني أترجمها بالعامية، تجاوبا مع الروح الشعبية التي تسري في كل أعمال بشنر، وبخاصة في مسرحية «فويسك»، وقد أوردت النص الحرفي لهذه المقطوعات في الهامش باللغة الفصحى؛ مراعاة لحق إخوتنا من القراء في البلاد العربية الشقيقة، الذين قد يتعذر عليهم فهم بعض كلمات اللهجة المصرية.
هذا ويجب ألا ننسى أن بشنر قد ترك مسرحيته فويسك بغير أن يتمها، والنقاد والدارسون يختلفون حتى اليوم في المشهد الذي يناسب الخاتمة، كما يختلفون حول ترتيب المشاهد نفسها، سواء في هذه المسرحية أو غيرها. وقد اعتمدت في هذه الترجمة على طبعة برجمان السابقة الذكر، ولم أجد حاجة لمراجعة الطبعة الجديدة التي قام بها الأستاذ «ليمان»، ونشرتها جمعية الكتاب العلمية، وهي الطبعة التي صدرت بعد فراغي من الترجمة بسنوات، وتضمنت من النصوص والشذرات ما يهم الدارس المتخصص للأدب الألماني. وأخيرا أود أن أنوه بفضل أحد كبار الدارسين لفن بشنر، وهو أستاذي الدكتور جرهارت باومان الذي أصدر كتابا هاما عن مسرحه.
الأشخاص
نواب الجمعية الوطنية :
جورج دانتون - ليجيندرر - كاميل دي مولان - هيرو-سيشيل - لاكروا - فيليبو - فابر دجلانتين - مرسيير - توماس بين.
أعضاء لجنة الإصلاح:
روبسبيير - سان جوست - بارير - كوللو ديربوا - بللو فارن.
مفوض المجلس البلدي:
شوميت.
جنرال:
ديللون.
مدع عام:
فوكييه-تينفيل.
عضوا لجنة الأمن:
أمار - فولان.
رئيسا محكمة الثورة:
هيرمان - دوما.
صديق دانتون:
باري.
ملقن:
سيمون - زوجة سيمون - لافلوت.
زوجة دانتون:
جولي.
زوجة كاميل دي مولان:
لوسيل.
غانيات:
روزالي - أديلاد - ماريون.
سيدات على مائدة اللعب - رجال وسيدات وشاب مع أوجينيا يسيرون في نزهة - مواطنون - جنود وطنيون - وفد من مدينة ليون ونواب آخرون - يعقوبيون - رؤساء نادي اليعاقبة والمجلس الوطني - سجانون - جلادون - سائقون - رجال ونساء من الشعب - غانيات - مغنون متجولون - شحاذون ... إلخ.
الفصل الأول
(هيرو-سيشيل وبعض السيدات على مائدة اللعب، دانتون وجولي على مسافة قليلة منهم. دانتون جالس عند قدمي جولي على كرسي منخفض بغير مسند.)
دانتون :
انظري السيدة الجميلة وكيف تدير الأوراق بمهارة! حقا، إنها تفهم أصول اللعب. يقال إنها تبرز «القلب» دائما لزوجها و«الكارو» لغيره من الرجال.
1
إن في استطاعتكن أن تحببن الإنسان حتى في الكذب.
جولي :
هل تؤمن بي؟
دانتون :
وما يدريني؟ إننا نعرف القليل عن بعضنا البعض. نحن أصحاب جلود سميكة، نمد أيدينا إلى بعضنا، ولكن بغير طائل، فنكتفي بحك جلودنا الغليظة ببعضها البعض. نحن وحيدون جدا.
جولي :
أنت تعرفني يا دانتون.
دانتون :
نعم! ما يسميه الناس معرفة. عيناك سوداوان، وشعرك متموج الخصلات، وجهك نضير، وتقولين لي دائما حبيبي جورج! ولكن (يشير إلى الجبهة والعينين)
هنا، هنا، ماذا يخفى وراءهما! اذهبي! إن حواسنا غليظة. نعرف بعضنا؟ لا بد لذلك من أن نفتح جماجمنا، ونشد أفكارنا من تلافيف المخ.
السيدة الأولى (لهيرو) :
ماذا تريد بأصبعك؟
هيرو :
لا شيء!
السيدة :
لا تعلق إبهامك بهذه الطريقة؛ فلست أطيق أن أراه.
2
هيرو :
ألقي عليه نظرة. إن تعبيرات وجهه عجيبة.
دانتون :
لا يا جولي، إنني أحبك كالقبر.
جولي (تشير بوجهها بعيدا) :
آه!
دانتون :
لا! اسمعيني! يقول الناس إن القبر راحة، والقبر والراحة شيء واحد. لو صح هذا فأنا أرقد في حجرك كما أرقد تحت التراب. أنت أيها القبر الحلو، شفتاك ناقوس الموتى، صدرك رمسي، وقلبك تابوتي.
السيدة :
ضاع!
هيرو :
كانت مغامرة غرام، تكلف مالا كغيرها.
السيدة :
إذن فقد عبرت عن حبك بالأصابع، كالصم البكم.
هيرو :
ولم لا؟ إن الناس تؤكد أن هذه هي أسهل أساليب الحب على الفهم. لقد حاولت أن أغازل ملكة «كوتشينة»، أصابعي كانت كالأمراء الذين تحولوا إلى عناكب، وأنت يا سيدتي كنت الجنية، ولكن الأمور لم تسر على ما يرام؛ فالسيدة كانت ترقد دائما على فراش الوضع، وفي كل لحظة تضع ولدا. لن أترك بناتي يلعبن مثل هذه اللعبة؛ فالسادة والسيدات يهوون بعضهم بغير احتشام، والأولاد يتبعون على الفور. (كاميل دي مولان وفيليبو يدخلان.)
هيرو :
فيليبو، ما هذه النظرات الكئيبة! هل خرمت قبعتك الحمراء؟ هل كشر يعقوب المقدس
3
عن وجهه؟ هل أمطرت السماء في ساحة المقصلة؟ أم لم تجد مكانا مناسبا ولم تستطع أن ترى شيئا؟
كاميل :
أنت تتهكم على طريقة سقراط. هل تعرف أيضا ماذا قال الفيلسوف الإلهي لألكيبياديس
4
عندما رآه ذات يوم حزينا مقهورا؟ لقد سأله «هل فقدت درعك في ميدان الحرب؟ هل هزمت في السباق أو المبارزة؟ هل غنى أحد أو عزف على القيثار خيرا منك؟» يا لهؤلاء الجمهوريين الكلاسيكيين! قارن بينهم وبين رومانتيكية المقصلة عندنا!
فيليبو :
سقط اليوم أيضا عشرون ضحية. كنا على خطأ. لقد أرسلوا «الهيبرتيين» إلى المقصلة لأنهم لم يكونوا منظمين بما فيه الكفاية، أو ربما لأن «الديسمفيري»
5
اعتقدوا أنهم سيضيعون حتما إذا بقي هناك رجال غيرهم لمدة أسبوع واحد يخافهم الناس أكثر مما يخافونهم.
هيرو :
إنهم يريدون أن يعودوا بنا إلى عصر الجليد! سيعجب سان جوست أن يرانا نزحف على أربع؛ لكي يستطيع محامي «أراس» أن يخترع لنا قبعات واطئة ومقاعد تلاميذ وإلها رحيما على طريقة صانع الساعات من جنيف.
6
فيليبو :
لن يتورعوا عن إضافة بضعة أصفار إلى حساب مارا. إلى متى يتحتم علينا أن نظل قذرين ملوثين بالدماء كالمواليد الجدد؟! إلى متى ننام في التوابيت بدل المهود ونلعب بالرءوس؟ لا بد أن نخطو إلى الأمام؛ لجنة الرأفة يجب أن تتشكل، والأعضاء المطرودون يجب أن يعودوا من جديد.
هيرو :
لقد بلغت الثورة مرحلة إعادة التنظيم. لا بد أن تتوقف الثورة وتبدأ الجمهورية. يجب أن يتقرر في المبادئ التي تقوم عليها الدولة أن يحل الحق محل الواجب، وتقوم السلامة مقام الفضيلة، ويحل الدفاع عن النفس محل العقاب. يجب أن يتمكن كل فرد من إثبات صلاحيته وتحقيق طبيعته. ليكن عاقلا أو غير عاقل، مثقفا أو غير مثقف، طيبا أو شريرا، فذلك شيء لا يعني الدولة. كلنا حمقى، وليس من حق أحد أن يفرض حماقته على غيره. يجب أن يكون من حق كل إنسان أن يتمتع على طريقته، بشرط ألا تكون متعته على حساب غيره، أو يزعج سواه في المتعة التي يفضلها على غيرها.
كاميل :
يجب أن يكون شكل الدولة كالثوب الشفاف الذي يلتصق بجسد الشعب. كل انتفاخ في العروق، كل توتر في العضلات، كل اهتزاز في الأعصاب؛ يجب أن ينطبع عليه. ليكن الشكل جميلا أو قبيحا، فمن حقه أن يكون على ما هو عليه، وليس من حقنا أن نفصل له ثوبا على هوانا. أولئك الذين يريدون أن يلقوا نقاب الراهبات على كتفي فرنسا المذنبة الحبيبة، سنعرف كيف نضربهم على أيديهم. نريد آلهة عارية، عابدات باخوس،
7
ألعابا أوليمبية، ومن الشفاه المنسجمة نريد الحب الذي يريح الأعضاء، الحب الشرير! لا نريد أن نمنع الرومان من أن يجلسوا في ركن ويطبخوا البنجر كما يشاءون، ولكننا لن نسمح لهم بعد اليوم بأن يقدموا لنا مصارعات الجلادين. يجب أن يقف أبيقور الإلهي وفينوس
8
ذات المؤخرة الجميلة حارسين على باب الجمهورية، بدلا من مارا المقدس وشالييه. دانتون! ستقوم بالهجوم في الجمعية.
دانتون :
سأقوم، ستقوم، سيقوم، إن عشنا، كما تقول العجائز، بعد ساعة ستكون ستون دقيقة قد انقضت. أليس كذلك يا ولدي؟
كاميل :
ما معنى هذا؟ هذا شيء مفهوم من تلقاء نفسه.
دانتون :
آه! كل شيء يفهم من تلقاء نفسه. من عليه إذن أن ينفذ كل الأشياء الجميلة؟
فيليبو :
نحن والشرفاء.
دانتون :
هذه الواو بينهما حرف طويل، فهي تبعد بيننا بعض الشيء. إن المسافة طويلة، والشرف يفقد أنفاسه قبل أن نجتمع سويا. وحتى لو حدث هذا! يستطيع الإنسان أن يقرض الشرفاء ويشهد حفلات التعميد لديهم، ويزوج بناته لهم، ولكن هذا هو كل شيء!
كاميل :
ما دمت تعرف هذا، فلماذا بدأت الكفاح؟
دانتون :
أحسست بالاشمئزاز من أولئك الناس. لم أستطع أبدا أن أنظر إلى أمثال «كاتو»
9
المزيفين بغير أن أفكر في ركلهم. هذه هي طبيعتي (ينهض واقفا) .
جولي :
أتذهب؟
دانتون (لجولي) :
لا بد أن أنصرف. إنهم يثيرون أعصابي بسياستهم. (وهو يتهيأ للخروج من الباب)
أريد أن أتنبأ لكم بين الباب والمقصلة
10
بأن تمثال الحرية لم يصب بعد. لا زال الفرن يتوهج، وقد تحترق أصابعنا جميعا فيه. (يخرج.)
كاميل :
دعوه! هل تظنون أنه يمكن أن يرفع يديه إذا آن أوان العمل؟
هيرو :
نعم، ولكن لمجرد التسلية، كلعب الشطرنج.
حارة
سيمون - زوجته
سيمون (يضرب زوجته) :
يا قوادة، يا حبة التصعيد المكرمشة،
11
يا تفاحة الخطيئة التي تفترسها الديدان.
الزوجة :
النجدة! النجدة! (يهرع بعض الناس): فرقوهما! فرقوهما!
سيمون :
لا، اتركوني أيها الرومان! أريد أن أحطم هذه المومياء! أنت يا فستالية.
12
الزوجة :
أنا؟ هذا ما أريد أن أراه.
سيمون :
إذن فسوف أنزع رداءك عن كتفيك، وأدحرج جثتك في الشمس، يا فراش العار! في كل ثنية من جسدك تعشش الفحشاء. (يفرق الناس بينهما.)
المواطن الأول :
ماذا حدث؟
سيمون :
أين العذراء؟ تكلمي! لا، لا يمكن أن أقول عنها هذا. الآنسة! لا، ولا هذا. المرأة، السيدة! ولا هذا! ولا هذا! لم يبق إلا اسم واحد، إنه يخنقني! لا أجد النفس الذي يساعدني على النطق به.
المواطن 2 :
هذا حسن، وإلا فاح الاسم برائحة الخمر.
سيمون :
يا فرجنييوس
13
العجوز، غط رأسك الأصلع. إن غراب العار يقف عليها وينقر عينيك. أعطوني سكينا، أيها الرومان! (يسقط على الأرض.)
الزوجة :
آه! إنه في العادة شهم، إلا أنه يستطيع التحمل؛ فالخمر توقعه من طوله.
المواطن 2 :
ولذلك يسير على ثلاثة.
الزوجة :
بل يسقط.
المواطن 2 :
تماما، يسير أولا على ثلاثة، ثم يقع على الثالثة حتى تسقط هي أيضا.
سيمون :
أنت الغول الذي يمتص دم قلبي الدافئ.
الزوجة :
اتركوه؛ فهو دائما يغلبه التأثر في مثل هذا الوقت، سيعود إلى طبيعته.
المواطن 1 :
ماذا حدث إذن؟
الزوجة :
انظروا. كنت أجلس هناك على الحجر أتدفأ في الشمس. انظروا؛ لأننا لا نملك خشبا. انظروا.
المواطن 2 :
تدفئي إذن بأنف زوجك.
الزوجة :
وكانت ابنتي قد ذهبت إلى الناصية هناك. إنها بنت طيبة وتجري على أبويها.
سيمون :
ها! إنها تعترف!
الزوجة :
يا يهوذا! وهل كنت تجد سروالين تلبسهما إذا لم يخلع الشبان سراويلهم مع ابنتك؟ يا برميل خمرة! هل تحب أن تموت من العطش إذا جفت البئر؟ هه؟ إننا نعمل بكل أعضائنا، فلماذا لا نعمل بهذا العضو أيضا؟ أمها ظلت تشقى حتى جاءت إلى العالم، وذاقت المر. ألا يمكنها أن تشقى قليلا لأجل أمها؟ هه؟ ولو ذاقت المر أيضا؟ يا غبي! هه؟
سيمون :
لوكريتسيا!
14
سكين! أعطوني سكينا أيها الرومان! ها! أبيوس كلاوديوس.
المواطن 1 :
نعم! أعطوه سكينا، لا للعاهرة المسكينة. ماذا جنت؟ لا شيء. إن جوعها هو الذي يفجر ويتسول. ويل لأولئك الذين يشترون لحم نسائنا وبناتنا! ويل لهؤلاء الذين يفجرون مع بنات الشعب! أحشاؤكم تتلوى من الجوع، وأمعاؤكم تتلوى من التخمة، ثيابكم مملوءة بالخروق وثيابهم دافئة، أيديكم متشققة من التعب وأيديهم ناعمة كالحرير؛ إذن،
15
فأنتم تعملون وهم لا يعملون شيئا، إذن فقد كسبتم اللقمة بالعرق وهم الذين سرقوها منكم، إذن فإن أردتم أن تستمدوا بضعة ملاليم من أملاككم المسروقة فلا بد أن تلجئوا إلى الدعارة والشحاذة، إذن فهم لصوص ولا بد من قتلهم!
المواطن 3 :
إن عروقهم لا يجري فيها إلا الدم الذي امتصوه منا. قالوا: لنا اقتلوا الأرستقراطيين، فهم ذئاب! وعلقنا الأرستقراطيين على المشانق. قالوا: «الفيتو»
16
يفترس خبزكم. وقتلنا الفيتو. قالوا: الجيرونديون يجيعونكم. فأرسلنا الجيرونديين إلى المقصلة. ولكنهم جردوا الموتى من ثيابهم، وها نحن نسير الآن على سيقان عارية، ونتجمد من البرد كما كنا نفعل من قبل. نريد أن ننتزع جلدهم من أفخاذهم ونفصل منه سراويل، نريد أن نعتصر شحمهم ونطبخ به شربتنا. هيا! اقتلوا من لا تجدون ثقبا في ردائه!
المواطن 1 :
اقتلوا كل من يقرأ ويكتب!
المواطن 2 :
اقتلوا كل من يغادر بيته.
الجميع (يصرخون) :
اقتلوا! اقتلوا! (بعض العامة يسحبون شابا وراءهم.)
أصوات :
معه منديل! أرستقراطي! إلى المشنقة، إلى المشنقة!
المواطن 2 :
ماذا؟ ألا يمخط في يديه؟ إلى المشنقة! (تعلق إحدى المشانق.)
الشاب :
آه يا سادتي!
المواطن 2 :
ليس فينا سادة. إلى المشنقة!
البعض (يغنون) :
أجدي من الرقاد في التراب،
فريسة للدود والفساد؛
أن تسلموه ليد الجلاد،
فيرفع الجثة في العراء؛
لكي تشم نسمة الهواء!
الشاب :
الرحمة!
المواطن 3 :
لعبة بسيطة بالحبل حول الرقبة! لحظة واحدة لا غير! نحن أرحم منكم. حياتنا قتل بطيء بالعمل، نعلق ستين سنة في حبل ونتلوى، ولكننا سنعرف كيف نخلص أنفسنا. إلى المشنقة!
الشاب :
كما تحبون، لن يجعلكم هذا ترون رؤية أوضح.
17
الواقفون :
برافو! برافو!
أصوات :
اتركوه يذهب! (الشاب يهرب بجلده.) (يظهر روبسبيير في صحبة نساء وبعض المتسكعين الصعاليك.)
روبسبيير :
ما هذا، أيها المواطنون؟
المواطن 3 :
وماذا عسى أن يكون؟ إن قطرات الدم القليلة التي سالت من أغسطس إلى سبتمبر لم تجعل خدود الشعب حمراء. المقصلة في غاية البطء، نحن في حاجة إلى سيل!
المواطن 1 :
زوجاتنا وأطفالنا يصرخون طلبا للخبز. نريد أن نطعمهم من لحم الأرستقراطيين. ها! اقتلوا كل من يلبس رداء لا ثقب فيه!
الجميع :
اقتلوه! اقتلوه!
روبسبيير :
باسم القانون!
المواطن 1 :
ما هو القانون؟
روبسبيير :
إرادة الشعب.
المواطن 1 :
نحن الشعب، ونريد ألا يكون هناك قانون؛ إذن فهذه الإرادة هي القانون، إذن فباسم القانون لم يعد هناك قانون، إذن فاقتلوا!
أصوات :
استمعوا إلى أرستيدس!
18
استمعوا إلى النزيه!
امرأة :
اسمعوا المخلص
19
الذي أرسل ليحكم ويقتص! سيقضي على الأشرار بحد السيف. عيناه عينا القضاء، يداه يدا العدالة!
روبسبيير :
أيها الشعب الطاهر المسكين! أنت تؤدي واجبك، وتضحي بأعدائك. أيها الشعب، أنت عظيم! أنت تكشف عن روحك في الصواعق والرعود، لكن معاركك لا يجب أن تجرح جسدك، وإلا قتلت نفسك بغضبك. إنك لن تسقط إلا بإرادتك، وهذا ما يعرفه عنك أعداؤك. إن الذين يشرعون لك يقظون، وسوف يأخذون بيديك. إن عيونهم لا تنخدع، ويداك لا يفلت منها أحد. تعالوا معي إلى اليعاقبة! إن إخوتكم سيفتحون أذرعهم لكم، وسنؤلف محكمة الدم لأعدائنا.
أصوات كثيرة :
إلى اليعاقبة! عاش روبسبيير. (الجميع يخرجون.)
سيمون :
ويلي، لقد تركتني!
الزوجة :
هاك! (تسنده.)
سيمون :
آه يا حبيبتي باوكيس!
20
أنت تجمعين الفحم على رأسي.
الزوجة :
قف!
سيمون :
هل تتخلين عني؟ هل تسامحينني يا بورسيا؟
21
هل ضربتك؟ لم تكن يدي، لم تكن ذراعي، جنوني هو الذي فعلها والجنون عدو هاملت المسكين. هاملت لم يفعل شيئا. هاملت ينكر ما فعله. أين ابنتنا؟ أين سوزانا الصغيرة؟
الزوجة :
هناك على الناصية.
سيمون :
هيا بنا إليها! تعالي يا زوجتي الصالحة! (يخرجان.)
نادي اليعاقبة
رجل من سكان ليون :
لقد أرسلنا إخوتنا في ليون لنفرغ سخطهم المرير في صدوركم. إننا لا نعرف إن كانت العربة التي حملت رونسان
22
إلى المقصلة هي نفس العربة التي حملت جثة الحرية، ولكننا نعرف أن قتلة شالييه قد عادوا منذ ذلك اليوم يسيرون في طمأنينة وثبات على الأرض، كأنه ليس هناك قبر يسعهم. هل نسيتم أن ليون قطعة من أرض فرنسا يجب أن نغطيها بعظام الخونة؟ هل نسيتم أن عاهرة الملوك هذه لا يمكنها أن تغسل صديدها وقبحها إلا في مياه الرون؟ هل نسيتم أن هذا النهر الثائر لا بد أن يحطم أساطيل بت
23
في البحر الأبيض فوق جثث الأرستقراطيين؟ إن رأفتكم تقتل الثورة. إن النفس الذي يتردد في صدر أرستقراطي هي الحشرجة الأخيرة في صدر الحرية. الجبان وحده هو الذي يموت في سبيل الجمهورية، أما اليعقوبي فهو يقتل من أجلها. اعلموا أننا إن لم نجد فيكم حمية رجال العاشر من أغسطس وسبتمبر والواحد والثلاثين من مايو، فلن يبقى أمامنا إلا خنجر كاتو،
24
كما فعل الوطني جايار.
25 (تصفيق وصيحات مختلفة.)
يعقوبي :
سنشرب معكم السم الذي شربه سقراط.
ليجندر (يقفز فوق المنصة) :
لسنا في حاجة إلى توجيه أبصارنا إلى ليون. إن هؤلاء الذين يلبسون الحرير، ويركبون العربات الفخمة، ويجلسون في المسرح في «الألواج»، ويتكلمون على طريقة قاموس الأكاديمية، قد اطمأنوا منذ أيام إلى أن رءوسهم ثابتة فوق أكتافهم. إنهم يتظرفون ويقولون إن من الواجب أن نساعد مارا وشالييه على الاستشهاد مرتين وقطع رءوسهم بعد موتهم في احتفال كبير.
26 (حركة عنيفة في الاجتماع.)
أصوات :
إنهم أموات، وألسنتهم هي التي ستقطع رءوسهم.
ليجندر :
ليغرقهم دم هؤلاء القديسين! إنني أسأل الأعضاء الموجودين من لجنة الإصلاح؛ منذ متى أصبحت آذانكم صماء؟
كوللوديربوا (يقاطعه) :
وأنا أسألك يا ليجندر؛ صوت من هذا الذي جعل مثل هذه الأفكار تتنفس وتحيا وتجرؤ على الكلام؟ لقد حان الوقت لانتزاع الأقنعة. اسمعوا أن العلة تتهم معلولها، والنداء صداه، والسلب نتيجته. إن لجنة الإصلاح تفهم كثيرا في المنطق يا ليجندر. هدئ نفسك! إن تماثيل القديسين النصفية
27
لن تمس، وستظل كرءوس المدوزا
28
تحول الخونة إلى أحجار.
روبسبيير :
أطلب الكلمة.
اليعاقبة :
اسمعوا! اسمعوا النزيه!
روبسبيير :
لقد كنا ننتظر أن نسمع صيحة السخط التي تتردد الآن من كل جانب لكي نتكلم. كانت أعيننا مفتوحة، وقد رأينا العدو يتسلح ويتحفز، ولكننا لم نعط الإشارة بالتحرك. لقد تركنا الشعب يسهر على نفسه بنفسه، ولم ينم الشعب، بل أمسك بالسلاح. لقد تركنا العدو يبرز من مخبئه. تركناه يتقدم، وهو الآن يقف حرا مكشوفا في وضح النهار. كل ضربة توجه إليه ستصيبه. إنه سيموت بمجرد أن تقع عيونكم عليه. لقد قلت لكم من قبل إن الأعداء الداخليين للجمهورية قد انقسموا إلى فرقتين أو معسكرين. إنهم يحملون أعلاما مختلفة الألوان، ويسيرون في طرق متعددة المسالك، ولكنهم يسرعون جميعا إلى نفس الهدف. إن أحد هذين المعسكرين لم يعد له وجود.
29
لقد حاول في جنونه وتطرفه أن يدمغ أصلب الوطنيين بالضعف والخور لينحيهم جانبا، ويحرم الجمهورية من أشد أذرعتها قوة، وأعلن الحرب على الألوهية والملكية لكي ينفذ مؤامرته المنحرفة لصالح الملوك، وتهكم على مسرحية الثورة السامية لكي يسيء إلى سمعتها ويفضحها بالاستهتار والفحش المتعمد المدبر. لو قدر لهيبر أن ينتصر لتحولت الجمهورية إلى فوضى ولرضي الاستبداد. إن سيف القانون قد أصاب الخائن، وماذا يهم الأجانب ما بقيت هناك مجموعة أخرى من المجرمين الذين يعملون على الوصول إلى نفس الهدف؟ إذا لم ندمر هذا المعسكر الآخر فكأننا لم نعمل شيئا. إنه يسير في عكس الاتجاه الذي سار فيه المعسكر الأول. إنه يدفعنا إلى الضعف وصيحته في المعركة هي: الرحمة! إنه يريد أن ينتزع السلاح من الشعب، كما ينتزع القوة التي يقبض بها على السلاح؛ لكي يسلمه عاريا خائر القوة إلى الملوك.
إن سلاح الثورة هو الرعب، وقوة الجمهورية هي الفضيلة. الفضيلة لأن الرعب بدونها مهلك، والرعب لأن الفضيلة بدونه عاجزة. إن الرعب هو النتيجة المترتبة على الفضيلة. ليس الرعب إلا العدالة الحاسمة الصلبة الصارمة. يقولون إن الرعب هو سلاح الحكومة المستبدة، ويريدون بذلك أن يشبهوا حكمنا بالحكم المستبد. هذا صحيح! ولكن بقدر ما يشبه السيف في يد بطل الحرية؛ ذلك السيف الذي يحمله أتباع الطاغية. إذا كان المستبد يحكم بالرعب رعاياه الذين يشبهون القطعان، فذلك حقه كطاغية مستبد. اسحقوا بالرعب أعداء الحرية، وسيكون ذلك من حقكم كمؤسسين للجمهورية. إن حكومة الثورة هي استبداد الحرية ضد الطغيان.
بعض الناس (ينادون قائلين) :
ارحموا الملكيين! هل نرحم الأشرار؟ لا، بل نرحم البراءة، نرحم الضعف، نرحم البؤساء، نرحم الإنسانية! إن المواطن المسالم هو وحده الذي يستحق حماية المجتمع.
ليس هناك مواطنون في ظل الجمهورية إلا الجمهوريين، أما الملكيون والأجانب فهم أعداؤها. إن إنزال العقاب بأولئك الذين يضطهدون الإنسانية هو الرحمة، أما العفو عنهم فهو الوحشية. إن كل علامات الحساسية الزائفة تبدو لي تنهدات تطير في اتجاه إنجلترا أو النمسا. لم يقنعوا بتجريد الشعب من السلاح، بل راحوا يسممون أقدس منابع قوته بالرذيلة. هذا هو أخبث وأخطر وأبشع هجوم على الحرية. إن الرذيلة هي علامة قابيل
30
التي تسم الأرستقراطية. إنها ليست في النظام الجمهوري جريمة أخلاقية فحسب، بل هي كذلك جريمة سياسية. إن مرتكب الرذيلة هو العدو السياسي للحرية، ويعظم خطره عليها كلما عظمت الخدمات التي يدعي أنه أداها لها. إن أخطر المواطنين هو ذلك الذي يسهل عليه أن يستهلك بضع قبعات حمراء
31
من أن يقوم بعمل واحد نافع.
سيكون من السهل عليكم أن تفهموا قصدي إذا فكرتم في أولئك الذين كانوا يعيشون في حجرات على السطوح، فأصبحوا الآن يركبون العربات المطهمة بالخيول، ويرتكبون الفحش مع الماركيزات والبارونات السابقات. إن من حقنا أن نسأل: هل نهبنا ثروة الشعب أم هل أصبحنا نضغط على أيدي الملوك الذهبية،
32
إذا كنا، نحن المشرعين للشعب، نتظاهر بكل رذائل رجال البلاط السابقين وترفهم، إذا كنا نرى ماركيزات الثورة وأمراءها يتزوجون النساء الثريات، ويولمون الولائم ويقامرون ويستخدمون الخدم ويلبسون الثياب الفخمة؟ إن من حقنا أن نتعجب حين نرى الأفكار الملهمة تهبط عليهم، ونسمع أحاديث المثقفين المهذبين تتدفق من أفواههم. لقد حدث منذ وقت غير بعيد أن تهكم أحدهم ب «تاسيت» على نحو مخجل،
33
في استطاعتي كذلك أن أجيب على طريقة «ساللوست» وأن أعرض بكاتيلينا،
34
غير أنني فيما أظن لم أعد في حاجة إلى لمسات أخرى؛ فقد تم رسم أصحاب هذه الوجوه. لن تكون هناك معاهدة ولا هدنة مع أناس لم يفكروا إلا في نهب الشعب، أناس اطمأنوا إلى أنهم سيستطيعون أن يواصلوا هذا النهب بغير عقاب، وحسبوا أن الجمهورية مضاربة، وأن الثورة أداة في أيديهم. إنهم يحاولون في هدوء تام أن يبردوا حرارة العدالة بعد أن أفزعهم التيار الجارف الذي يضرب الأمثلة كل يوم، يكاد الإنسان يعتقد أن كل واحد منهم يقول لنفسه: لسنا فضلاء إلى الحد الذي يجعلنا مرعبين بهذه الدرجة. أيها المشرعون المتفلسفون، ارحموا ضعفنا! إنني لا أجرؤ أن أقول لكم إنني أحب الرذيلة؛ ولهذا أفضل أن أقول لكم: «لا تكونوا قساة بشعين!»
هدئ نفسك، أيها الشعب العفيف! هدئوا نفوسكم أيها الوطنيون! قولوا لأخوتكم في ليون إن سيف الحرية لا يصدأ في الأيدي التي وضعتم ثقتكم فيها! ستضرب مثلا عظيما للجمهورية. (تصفيق عام.)
أصوات كثيرة :
عاشت الجمهورية! عاش روبسبيير!
الرئيس :
رفعت الجلسة!
حارة
لاكروا - ليجندر
لاكروا :
ماذا فعلت يا ليجندر؟! هل تعلم من الذين أسقطت رءوسهم بتماثيلك النصفية التي حطمتها؟
ليجندر :
بعض التافهين المتحذلقين والنساء الأنيقات، هذا هو كل شيء.
لاكروا :
أنت إنسان ينتحر، ظل يقتل أصله ويقتل بذلك نفسه.
ليجندر :
لست أفهم ماذا تقصد.
لاكروا :
أظن أن كوللو تكلم بوضوح.
ليجندر :
وما أهمية هذا؟ لقد كان مخمورا كعادته.
لاكروا :
الحمقى والأطفال و... السكارى يقولون الحقيقة. من الذي تعتقد أن روبسبيير قد قصده بالكلام عن كاتيلينا؟
ليجندر :
ما رأيك أنت؟
لاكروا :
المسألة بسيطة. لقد أرسل الملحدون والثوريون المتطرفون إلى المقصلة، ولكن الشعب لم يستفد شيئا؛ فما زال يمشي حافيا في الحواري ويطالب بأن يفصل أحذيته من جلود الأرستقراطيين. إن ترمومتر المقصلة لا يجب أن يهبط، لم تبق إلا بضع درجات وتذهب لجنة الإصلاح إلى ميدان الثورة لتنام هناك.
ليجندر :
وما علاقة تماثيلي النصفية بهذا؟
لاكروا :
ألم تفهم العلاقة بعد؟ لقد أعلنت وجود الثورة المضادة، وحفزت الرجال العشرة
35
إلى العمل الحاسم، وقدتهم من أيديهم. إن الشعب مينوتاوروس
36
يصر كل أسبوع على أن يتسلم جثثه، وإلا افترسهم.
ليجندر :
أين دانتون؟
لاكروا :
ومن أين لي أن أعلم؟ إنه يحاول أن يجمع فينوس المديشية من كل بغايا القصر الملكي،
37
أو يصنع على حد قوله فسيفساء.
38
السماء وحدها تعلم ما هو العضو الذي وصل إليه الآن. إنه لشيء محزن حقا أن تمزق الطبيعة الجمال، وتوزع أجزاءه المتفرقة بين الأجساد، كما مزقت ميديا
39
شقيقها. هيا نذهب إلى القصر الملكي! (يخرجان.)
حجرة
دانتون - ماريون
ماريون :
لا! دعني راقدة عند قدميك. أريد أن أحكي لك شيئا.
دانتون :
يمكنك أن تستعملي شفتيك فيما هو أفضل.
ماريون :
لا، دعني هكذا. كانت أمي امرأة ذكية، وكانت تقول لي دائما إن العفة فضيلة جميلة. وعندما كان يأتي الناس لزيارتنا ويبدءون في الحديث عن أمور معينة كانت تطلب مني أن أغادر الحجرة، فإذا سألتها عما يريدون قالت إن علي أن أخجل من نفسي. وإذا أعطت لي كتابا لأقرأه كنت دائما أمر على بعض صفحاته بغير قراءة، ولكنني كنت أقرأ الكتاب المقدس كما يحلو لي؛ فقد كان كل شيء فيه مقدسا، ولكن كان فيه شيء لم أستطع فهمه، لم أحاول أن أسأل أحدا عن معناه، وعكفت على نفسي ورحت أفكر فيه وحدي. وجاء الربيع؛ أحسست أن هناك أمورا تجري في كل مكان من حولي دون أن أشارك فيها، ووجدتني أعيش في جو غريب يكاد يخنق أنفاسي . رحت أتأمل أعضائي، كان يبدو لي في بعض الأحيان كأن حجمي يتضاعف، وكأنني أعود فأصبح عضوا واحدا يندمج فيه كياني كله. في ذلك الوقت بدأ شاب يتردد على البيت. كان جميلا، وكان يتكلم في معظم الأحيان كلاما عجيبا. لم أكن أفهم ما يريده تماما، ولكنني لم أكن أستطيع أن أمنع نفسي من الضحك. دعته أمي إلى الإكثار من زيارتنا، وأعجبنا هذا. وأخيرا لم نجد ما يمنع من أن ننام معا بين ملاءتي سرير، مثلما نجلس معا على كرسيين. وجدت في هذا متعة أعظم من المتعة التي كنت أجدها في الاستماع إلى كلامه، ولم أفهم لماذا كانوا يسمحون لي بالمتعة القليلة ويحرمونني من المتعة الكبيرة. ورحنا نفعل ذلك سرا، واستمر الحال على هذا، ولكنني أحسست كأنني أصبحت بحرا يبتلع كل شيء وتجيش أعماقه وتجيش. كان هناك ضد واحد بالنسبة لي، وذاب لدي كل الرجال في جسد واحد. أمي أيضا كانت كذلك، وهل يستطيع أحد أن يهرب من طبيعته؟ وأخيرا لاحظ كل شيء. جاء في صباح يوم من الأيام وقبلني قبلة كادت تكتم أنفاسي، وطوق رقبتي بذراعيه فأحسست برعب هائل، ثم ابتعد عني وضحك وقال إنه كان على وشك أن يقوم بفعلة غبية، وإن علي أن أحتفظ بثوبي وأستعمله؛ لأنه سيبلى من نفسه، وهو لا يريد أن يفسد علي حظي قبل الأوان؛ لأنه هو الشيء الوحيد الذي أملكه. ثم ذهب، ولم أعرف مرة أخرى ماذا كان يريد. وعندما جاء المساء كنت أطل من النافذة، فأنا شديدة الحساسية ولا شيء يربطني بما حولي إلا العاطفة، واستغرقت في أمواج الشفق، ثم انتبهت على موكب يهبط الشارع تتقدمه الأطفال وتتبعه النساء من النوافذ. نظرت إلى هناك فرأيتهم يحملونه في سلة كبيرة والقمر يسطع على جبهته الشاحبة، وخصلات شعره مبتلة؛ كان قد أغرق نفسه. ووجدتني أنشج بالبكاء، كأن هذا هو الكسر الوحيد في كياني. إن غيري من الناس يعملون في أيام ويستريحون في أيام. إنهم يعملون ستة أيام ويصلون في اليوم السابع. وفي كل سنة يتأثرون مرة في عيد ميلادهم ويفكرون قليلا في رأس السنة. أما أنا فلا أفهم شيئا من هذا ولا أعرف راحة أو تغييرا. أنا دائما كيان واحد، شوق لا ينقطع، لهيب تيار. أمي ماتت من الغم، الناس يشيرون إلي. هذا غباء؛ ففي النهاية يتساوى الناس في المتعة التي يجدونها في الأجساد أو صور المسيح أو الزهور أو ألعاب الأطفال. إنه دائما نفس الشعور، من يزدد متعة يزدد عبادة.
دانتون :
لماذا لا أحتوي جمالك كله وأعانقه كله؟
ماريون :
دانتون، لشفتيك عينان.
دانتون :
تمنيت أن أكون بعضا من الأثير؛ لكي تستحمي في موجي وأتكسر على كل موجة من أمواج جسدك الجميل. (لاكروا، أديلاده وروزالي يدخلون.)
لاكروا (يظل واقفا بالباب) :
لا بد أن أضحك! لا بد أن أضحك!
دانتون (متبرما) :
وبعد؟
لاكروا :
الحارة خطرت على بالي.
دانتون :
ثم ماذا؟
لاكروا :
كانت هناك كلبة كبيرة وكلب بولوني صغير يعذبان نفسيهما.
دانتون :
ما معنى هذا؟
لاكروا :
خطر هذا على بالي فلم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك. كان منظرا يشرح القلب! كانت البنات تنظر من النوافذ. لا بد أن يحتاط الإنسان ولا يتركهن يجلسن في الشمس، وإلا قرصهن البعوض في أيديهن، وهذا يهيج الأفكار. طفت أنا وليجندر على كل الصوامع تقريبا. تعلقت راهبات الوحي الجسدي بحجرنا وطلبن البركة. أنزل ليجندر بركته على إحداهن، ولكنه سيضطر أن يصوم من أجل ذلك شهرا. وها أنا ذا أحضر معي راهبتين من راهبات الجسد.
ماريون :
صباح الخير يا آنسة أديلاده! صباح الخير يا آنسة روزالي!
روزالي :
لم نتشرف من مدة طويلة.
ماريون :
كان على عيني.
أديلاده :
آه يا ربي! نحن مشغولون بالليل والنهار.
دانتون (لروزالي) :
أنت يا صغيرة! لقد أصبحت ملفوفة الأوراك!
روزالي :
طبعا ، نحن كل يوم في تحسن.
لاكروا :
ما هو الفرق بين أدونيس القديم وأدونيس الجديد؟
40
دانتون :
وأديلاده أصبحت مؤدبة وظريفة، تغيير يرد الروح.
وجهها يبدو كورقة التين التي تستر بها جسدها كله. شجرة تين كهذه على طريق مريح كهذا تلقي ظلا منعشا.
أديلاده :
كنت سأصبح طريقا تسير عليه القطعان لو أن السيد ...
دانتون :
فهمت. المهم ألا تغضبي يا آنستي!
لاكروا :
أرجوك أن تسمعني! إن أدونيس الجديد لن يمزقه خنزير بري، بل ستمزقه إناث الخنازير. إنه لن يجرح في فخذه بل في جنبيه، ولن تنبثق الورود من دمه بل ستتفتح براعم الزئبق.
41
دانتون :
الآنسة روزالي تشبه تمثالا ناقصا
42
أعيد ترميمه، وليس فيه شيء قديم سوى الساقين والقدمين.
إنها مثل إبرة المغنطيس؛ ما يطرده قطب الرأس يجذبه قطب القدم، أما المركز فهو منطقة استوائية، كل من يعبر خط الاستواء فيها يحصل على تعميد طبي.
43
لاكروا :
إنهما ممرضتان رحيمتان، كل منهما تخدم في مستشفى؛ أقصد في جسدها هي.
روزالي :
أخجل من أن تجعل آذاننا حمراء من الخجل!
أديلاده :
يجب أن تتعلم فن الحياة أكثر من هذا. (تخرج أديلاده وروزالي.)
دانتون :
ليلتكم سعيدة يا حلوات!
لاكروا :
ليلتكم سعيدة يا مناجم الزئبق!
دانتون :
إنني أرثي لهما؛ فهما لا تأتيان إلا لتناول العشاء.
لاكروا :
اسمع يا دانتون! لقد كنت الآن مع اليعاقبة.
دانتون :
أليس لديك أكثر من هذا؟
لاكروا :
قرأ وفد ليون بيانا أعلنوا فيه أنه لم يبق أمامهم الآن إلا أن يلتفوا بالتوجا.
44
إن كل واحد منهم يضع تكشيرة على وجهه، كأنما يريد أن يقول لجاره «بيتووس»: إنه لا يؤلم.
45
هتف ليجندر مطالبا بتحطيم تماثيل مارا وشالييه النصفية. أعتقد أنه يريد أن يحمر وجهه مرة أخرى من الخجل. لقد خرج من زمرة الكبار المخيفين ولم يعد أحد يأخذه مأخذ الجد، والأطفال في الحارة يشدونه من ثيابه.
دانتون :
وروبسبيير؟
لاكروا :
أشار بأصبعه إلى المنصة، وقال: يجب أن تحكم الفضيلة بالرعب. لقد جعلتني عبارته أحس الألم في رقبتي.
دانتون :
لأنها تنجر ألواح الخشب للمقصلة.
لاكروا :
وصاح كوللو كمن مسته الشياطين: لا بد من انتزاع الأقنعة!
دانتون :
إذن فسوف ينتزعون معها الوجوه. (يدخل باري.)
لاكروا :
ما هي الأخبار يا فابريسيوس؟
باري :
تركت اليعاقبة وذهبت إلى روبسبيير لأطلب منه تفسيرا. حاول أن يتظاهر بالحزن كأنه بروتوس وهو يضحي بأولاده.
46
تكلم عن الواجبات بوجه عام، قال إنه لا يعبأ في سبيل الحرية بأي اعتبار، وإنه لن يتردد عن التضحية بكل شيء؛ بنفسه وشقيقه وأصدقائه.
دانتون :
لقد تكلم بوضوح. علينا أن نقلب السلم فحسب؛ وبذلك يقف في الدور الأسفل ويحمل السلم لأصحابه. نحن مدينون بالشكر لليجندر؛ فقد جعلهم يتكلمون.
لاكروا :
إن الهيبرتيين لم يموتوا بعد، والشعب يعيش عيشة بائسة، وهذا ثقل فظيع. إن كفة الدماء لا يجب أن تثقل؛ حتى لا تتحول إلى مشانق لأعضاء لجنة الإصلاح. إنه في حاجة إلى حمل يثقل دماغه.
دانتون :
أعرف أن الثورة مثل ساتورن؛
47
فهي تفترس أبناءها، (بعد تفكير) ولكنهم لن يجرءوا!
لاكروا :
دانتون، أنت قديس ميت، ولكن الثورة لا تعترف بالعظام الباقية. لقد ألقت بعظام الملوك جميعا إلى الشارع، وقذفت بكل التماثيل من الكنائس. أتظن أنهم سيتركونك كتمثال أثري؟
دانتون :
اسمي! الشعب!
لاكروا :
اسمك! إنك معتدل، وكذلك أنا، وكاميل، وفيليبو وهيرو. والشعب يعتبر الاعتدال والضعف شيئا واحدا؛ ولذلك يقتل كل من يتأخر ويتباطأ. إن خياطي قسم القبعات الحمراء
48
سيحسون بالتاريخ الروماني كله على طرف إبرتهم،
49
إذا شعروا بأن رجل سبتمبر يقف منهم موقفا معتدلا.
دانتون :
هذا حقي. أضف إليه أن الشعب كالطفل الذي يصر على أن يكسر كل شيء ليرى ما بداخله.
لاكروا :
أضف إلى هذا أيضا يا دانتون أننا، كما يقول روبسبيير، نرتكب الرذائل؛ فنحن نستمتع، في حين أن الشعب فاضل؛ أي لا يستمتع؛ لأن العمل أصاب حواسه بالصدأ، ولا يسكر لأنه لا يملك المال، ولا يتردد على المواخير لأن رائحة الجبن والرنجة تصعد من رقبته، والآنسات يشعرن بالاشمئزاز لذلك.
دانتون :
إنه يكره القادرين على الاستمتاع كما يكره الخصي الرجال.
لاكروا :
إنهم يسموننا الأوغاد، (يميل على أذن دانتون) وفي هذه التسمية - فيما بيننا - شيء من الحق. روبسبيير والشعب يتمسكان بالفضيلة. سان جوست سيكتب رواية، وباربر سيفصل «كارمانيولا»،
50
ويضع معطف الدماء حول جسم الجمعية، و... إنني أرى كل شيء.
دانتون :
أنت تحلم. لم تكن لديهم الشجاعة أبدا بدوني. لن تكون لديهم الشجاعة لمواجهتي. إن الثورة لم تنته بعد وقد يحتاجون إلي. إنهم سيحتفظون بي في ترسانتهم.
لاكروا :
يجب أن نعمل شيئا.
دانتون :
سنرى.
لاكروا :
إلى أن يتم هذا سنكون قد ضعنا.
ماريون (لدانتون) :
شفتاك أصبحتا باردتين، كلماتك خنقت قبلاتك.
دانتون (لماريون) :
ما أكثر الوقت الذي ضيعناه! كان الأولى أن نستفيد منه! (للاكروا)
سأذهب غدا إلى روبسبيير، سأثير غضبه ولن يستطيع أن يسكت. إلى الغد إذن! طابت ليلتكم يا أصدقائي! طابت ليلتكم! إنني أشكركم!
لاكروا :
تثبتوا يا أصدقائي الأعزاء، تثبتوا! طابت ليلتك يا دانتون. إن أفخاذ الآنسة ستفصل رقبتك عن جسدك، والمونس فنيريس
51
سيكون هو صخرتك الترابية.
52 (يخرج مع باري.)
حجرة
روبسبيير - دانتون - باري
روبسبيير :
قلت لك إن من يمسك بذراعي عندما أجرد سيفي فهو عدوي. لا أهمية بعد هذا لقصده ونيته، ومن يحل بيني وبين الدفاع عن نفسي فهو يقتلني تماما كما لو كان يهاجمني.
دانتون :
حيث يتوقف الدفاع عن النفس تبدأ جرائم القتل. لست أرى سببا يحملنا على الاستمرار في القتل.
روبسبيير :
إن الثورة الاجتماعية لم تنته بعد. من يكتف من الثورة بنصفها يحفر لنفسه قبرا. إن المجتمع المرفه لم يمت بعد، والقوة الشعبية السليمة يجب أن تحل محل هذه الطبقة المتفشية في كل اتجاه. يجب أن تلقى الرذيلة العقاب الرادع، وتحكم الفضيلة عن طريق الرعب.
دانتون :
أنا لا أفهم معنى لكلمة العقاب. أنت وفضيلتك يا روبسبيير! إنك لم تسرق، ولم تستدن، ولم تنم مع امرأة، تعودت دائما أن تلبس الثياب المحترمة، لم تسكر أبدا في حياتك. روبسبيير، إنك مستقيم إلى حد مزعج. لو أنني عشت ثلاثين عاما بأكملها أدور بين السماء والأرض بنفس السحنة الأخلاقية، لمجرد الإحساس بهذه اللذة البائسة التي تجعلني أجد غيري أسوأ مني، لو فعلت هذا لخجلت من نفسي. أليس في داخلك إذن شيء يهمس لك في الخفاء قائلا: أنت تكذب، تكذب؟!
روبسبيير :
إن ضميري نقي.
دانتون :
الضمير مرآة، يعذب القرد نفسه أمامها. كل إنسان يتزين بقدر ما يستطيع، ثم يمضي ليروح عن نفسه كما يشاء، هذا شيء يستحق أن نشد من أجله شعور بعضنا! من حق كل إنسان أن يدفع عن نفسه إذا وجد من يفسد عليه مزاجه.
هل من حقك أن تجعل من المقصلة حوض غسيل للملابس المتسخة لغيرك من الناس، ومن رءوسهم المقطوعة كرات لإزالة البقع من ثيابهم القذرة، لمجرد أنك تلبس دائما ثوبا منظفا بالفرشاة؟
نعم من حقك أن تدافع عن نفسك إذا بصقوا عليه أو أحدثوا ثقوبا فيه، ولكن ما شأنك بهم ما داموا يتركونك في حالك؟ وإذا كان لا يضايقهم أن يدوروا هكذا في الشوارع، فهل يعطيك ذلك الحق في أن تحبسهم في القبور؟ هل أنت شرطي السماء؟ إذا كنت لا تستطيع أن تنظر إليهم كما ينظر إلهك العزيز فضع منديلك أمام عينيك.
روبسبيير :
هل تنكر الفضيلة؟
دانتون :
والرذيلة أيضا. ليس هناك إلا أبيقوريون، غلاظ ورفيقون، وقد كان المسيح أرقهم. هذا هو الفارق الوحيد الذي أميز به الناس. كل إنسان يتصرف على حسب طبيعته؛ أي يعمل ما يروقه. أليس شيئا فظيعا أن أدوس على كعب حذائك أيها النزيه؟
روبسبيير :
دانتون، إن الرذيلة في بعض الأوقات خيانة.
دانتون :
لا يجوز لك بحق السماء أن تحتقرها، وإلا كان هذا جحودا منك. إنك مدين لها بالكثير، على الأقل بالضد المقابل لها. زد على هذا - لكيلا أبتعد عن أفكارك - أن معاركنا يجب أن توجه لصالح الجمهورية، ولا يجوز أن نأخذ الأبرياء بذنب المجرمين.
روبسبيير :
من قال لك إذن إن أحد الأبرياء قد أصيب؟
دانتون :
هل سمعت يا فابريسيوس؟ لم يمت بريء واحد حتى الآن! (ينصرف وهو يقول لباري)
لا يجب أن نضيع لحظة واحدة. يجب أن نكشف عن أنفسنا! (يخرج مع باري.)
روبسبيير (وحده) :
اذهب! يريد أن يوقف خيول الثورة أمام الماخور، كما يفعل السائق بجياده المدربة، ولكنهم سيجدون القوة الكافية لسحبه إلى ميدان الثورة. يدوس على كعب حذائي! لكيلا أبتعد عن أفكارك! قف! قف! هذه هي الحقيقة؟ سيقولون إن هيئته العملاقة ألقت ظلالها الكثيرة علي؛ ولذلك عملت على إبعاده عن الشمس. وإذا كانوا صادقين في قولهم؟ أهو أمر ضروري حقا؟ نعم! نعم! الجمهورية! لا بد أن يذهب. من المضحك أن تراقب أفكاري بعضها البعض. لا بد أن يذهب. إن من يتوقف عن السير وسط الجماهير الزاحفة فهو يقاومها كما لو كان يمنع تقدمها، ولا بد أن تدوسه الأقدام.
لن ندع سفينة الثورة تتحطم على تقديرات هؤلاء الناس الضحلة وشواطئهم الموحلة. يجب علينا أن نقطع اليد التي تجرؤ على وقفها، حتى ولو تشبثت بها الأسنان! فلتستأصل هذه الجماعة التي جردت الأرستقراطية الحمراء من ملابسها وورثت عنها قروحها!
لا فضيلة! الفضيلة كعب حذائي! لكيلا أبتعد عن أفكارك! لماذا تلح علي هذه الخواطر؟ ألا أستطيع أن أتخلص من هذه الفكرة؟ إنها تشير دائما بأصبع دامية إلى هناك! إلى هناك! وكلما حاولت أن ألف الخرق حولها نفدت منها الدماء! (بعد فترة صمت)
لست أدري من الذي يكذب في صاحبه (يتقدم إلى النافذة) . الليل منسدل فوق الأرض يغط في نومه، ويلتف في حلم موحش. أفكار وأماني لا نكاد نحس بها، مضطربة وغامضة، تتوارى خائفة من ضوء النهار، تتلقى الآن شكلا ورداء وتتسلل إلى بيت الأحلام الساكن. إنها تفتح الأبواب، تطل من النوافذ، تتجسد وتمد أعضاءها في النوم، وتتمتم منها الشفاه. أليست يقظتنا حلما ناصعا؟ ألسنا نسير نياما؟ أليست أفعالنا هي نفس الأفعال التي نقوم بها في الحلم، ولكن بصورة أوضح وأدق؟ من الذي يستطيع أن يلومنا على هذا؟ إن العقل ينجز في ساعة واحدة من الأفعال الفكرية أكثر مما يقدر الكيان العضوي الكسول على إنجازه في أعوام. إن الخطيئة كامنة في الفكرة. أما أن تصبح الفكرة عملا، أو أن يؤديها الجسم بعد ذلك، فهذا أمر متروك للصدفة. (يدخل سان جوست.)
روبسبيير :
ها، من هناك في الظلام؟ ها! نور! نور!
سان جوست :
هل تعرف صوتي؟
روبسبيير :
أنت يا سان جوست! (إحدى الخادمات تحضر مصباحا.)
سان جوست :
هل كنت وحدك؟
روبسبيير :
دانتون كان هنا وذهب منذ لحظة.
سان جوست :
قابلته في الطريق في «القصر الملكي»، كان يستعرض جبهته الثورية ويتكلم بالحكم، ويتحدث مع الرعاع
53
بغير كلفة. وكانت البغايا تمشي وراءه والناس يقفون مذهولين ويتهامسون بما يقوله. سنضيع مزية الهجوم، إلى متى تتردد؟ سنتصرف من غيرك. لقد عزمنا على هذا.
روبسبيير :
ماذا تريدون أن تفعلوا؟
سان جوست :
نريد أن ندعو لجان التشريع والأمن والإصلاح إلى اجتماع عام.
روبسبيير :
تعقيد لا داعي له.
سان جوست :
يجب أن ندفن الجثة العظيمة باحترام، كالكهنة لا كالقتلة. لا يصح أن نشوهها، بل يجب أن نواري معها كل أعضائها.
روبسبيير :
أوضح كلامك!
سان جوست :
يجب علينا أن ندفنه في التراب وهو بكامل سلاحه، وأن نذبح خيوله وعبيده على قبره؛ لاكروا.
روبسبيير :
وغد حقيقي، كاتب محام سابق، وجنرال فرنسا في الوقت الحاضر. استمروا.
سان جوست :
هيرو-سيشيل.
روبسبيير :
رأس جميل!
سان جوست :
كان الحرف الأول الجميل في وثائق الدستور، لم نعد الآن في حاجة إلى هذه الحلية. سنمحوها. فيليبو، كاميل.
روبسبيير :
وهذا أيضا؟
سان جوست (يناوله ورقة) :
أظن. اقرأ!
روبسبيير :
آه! الفرنسسكاني العجوز! لا شيء غير هذا؟ إنه طفل وقد ضحك عليكم.
سان جوست :
اقرأ هنا، هنا! (يبين له وضعا بعينه.)
روبسبيير (يقرأ) :
هذا المسيح الملطخ بالدماء فوق جبل جلجاثة
54
بين زميليه كوتو وكوللو، حيث يضحي ولا يضحى به. الأخوات البتول يقفن تحت المقصلة مثل مريم والمجدلية. سان جوست حبيب إلى قلبه مثل يوحنا والمسيح، وهو الذي يعرف المجلس بالوحي الذي يهبط على المعلم. إنه يحمل رأسه كما يحمل القسيس وعاء السر المقدس.
سان جوست :
سأجعله يحمل رأسه كما حمله القديس دنيس.
55
روبسبيير (يواصل القراءة) :
هل نصدق أن سترة المسيح النظيفة هي كفن فرنسا، وأن أصابعه النحيلة المرتعشة التي يشير بها إلى المنصة هي سكاكين المقصلة؟ وأنت يا بارير، أنت يا من قلت إن عملات النقود ستسك في ميدان الثورة!
56
ومع ذلك فلست أريد أن أنكش الكيس القديم.
57
إنه أرملة تزوجت نصف دستة من الرجال، ونجحت في أن تقبرهم جميعا. وهل لأحد يد في هذا؟ إنها موهبة طبيعية. إنه يرى السحنة الأبقراطية
58
على وجوه الناس قبل موتهم بنصف سنة. ومن الذي يحب أن يجلس مع الجثث ويشم العفن ؟
أنت كذلك يا كاميل؟ ليذهبوا جميعا! وبسرعة! إن الأموات وحدهم هم الذين لا يرجعون. هل أعددت وثيقة الاتهام؟
سان جوست :
إعدادها سهل. لقد أشرت إليه عند اليعاقبة.
روبسبيير :
أردت أن أرعبهم.
سان جوست :
علي أن أنفذ فحسب. المزورون
59
سيقدمون البيضة، والأجانب
60
التفاحة. سيموتون من هذه الأكلة. أعدك بهذا.
روبسبيير :
إذن فلنسرع! غدا! لا نريد صراعا طويلا مع الموت! لقد اشتدت حساسيتي في الأيام الأخيرة. المهم أن نسرع! (يخرج سان جوست.)
روبسبيير (وحده) :
أجل! المسيح الملطخ بالدماء، الذي يضحي ولا يضحى به. لقد خلصهم بدمه، وأنا أخلصهم بدمائهم. جعلهم يذنبون، وأنا أحمل الذنب على كتفي. من منا الذي أنكر نفسه أكثر من صاحبه؛ أنا أم هو؟ ومع ذلك ففي الفكرة نفسها نصيب من الحمق. لماذا نتطلع جميعا إليه وحده؟ حقا إن ابن الإنسان يصلب فينا جميعا. كلنا يصارع في بستان جتسمان
61
في عرقنا الذي يقطر دما، ولكن لا أحد يخلص الآخر بجراحه. يا حبيبي كاميل! إنهم جميعا يتركونني، كل شيء حولي وحشة وخراب، إنني وحيد.
الفصل الثاني
حجرة
دانتون - لاكروا - فيليبو - باري - كاميل - دى مولان
كاميل :
أسرع يا دانتون. ليس لدينا وقت نضيعه.
دانتون (يرتدي ملابسه) :
ولكن الوقت يضيعنا. هذا شيء ممل إلى أقصى حد؛ أن نبدأ بالقميص ثم نلبس السروال فوقه ونتسلل إلى الفراش بالليل، ونتسلل منه في الصباح ونقدم رجلا على الأخرى، فلا يدري الإنسان كيف يمكن أن يتغير هذا كله. هذا شيء محزن إلى أقصى حد، ويزيد من حزنه أن الملايين من الناس قد فعلوه من قبل، وأن الملايين سيفعلونه في المستقبل، وأننا بالإضافة إلى ذلك نتكون من نصفين يقومان بنفس الشيء، بحيث يتضاعف كل فعل. إنه شيء محزن حقا.
كاميل :
أنت تتكلم كالأطفال تماما.
دانتون :
المشرفون على الموت يكونون في الغالب كالأطفال.
لاكروا :
إنك بترددك هذا تلقي بنفسك إلى الهلاك، وتشد كل أصدقائك معك. أبلغ الجبناء أن الوقت قد حان لكي يتجمعوا حولك. ناد على سكان الوادي والجبل! أطلق صيحتك عن طغيان الديسمفير.
1
تكلم عن الخناجر، خاطب بروتوس، وسوف تزلزل المنابر من الرعب وتجمع حولك حتى أولئك الذين يهددونهم بأنهم مشتركون مع هيبير في الجريمة! يجب أن تطلق العنان لغضبك. لا تتركنا على الأقل نموت منزوعي السلاح مهانين، كما مات المخزي هيبير.
دانتون :
إن ذاكرتك ضعيفة. لقد سميتني القديس الميت، وكنت صادقا أكثر مما تظن أنت نفسك. لقد كنت في زيارة الأقسام، كانت تبدو عليهم الهيبة والوقار، ولكن كما تبدو على أهل الميت. إنني بقية عظام، وبقايا العظام يلقى بها في الطريق. كان معك الحق.
لاكروا :
لماذا تركت الأمور تصل إلى هذا الحد؟
دانتون :
إلى هذا الحد؟ حقا، لقد أحسست بالملل من أن أتمشى دائما في نفس الثوب، وأضع على وجهي نفس التجاعيد! هذا شيء يثير الشفقة؛ أن تكون آلة بائسة، يردد الوتر المشدود فوقها نفس النغمة! إنه شيء لا يحتمل، أردت أن أيسر الأمر على نفسي، وقد وصلت إلى هذا؛ إن الثورة تحيلني على المعاش، ولكن على غير ما كنت أتصور. ومع ذلك، فعلام أستند؟ إن عاهراتنا يستطعن أن يؤدين العمل الذي تقوم به الأخوات المتبتلات بجانب المقصلة، ولست أعرف شيئا غير هذا. كل شيء يمكن أن يعد الآن على الأصابع. لقد أعلن اليعاقبة أن الفضيلة أصبحت في جدول الأعمال، وأتباع كور ديلييه يلقبونني جلاد هيبير، والمستشار
2
يكفر عن ذنبه، والجمعية ربما استطعنا أن نلجأ إليها! ولكن سيأتي يوم مثل 31 مايو، وحينئذ لن يرضوا بالتراجع. إن روبسبيير هو عقيدة الثورة، ولا يجوز أن تمحى، لا يصح أيضا أن يحدث هذا. إننا لم نصنع الثورة، ولكن الثورة هي التي صنعتنا.
وحتى إذا تم ذلك، إنني أفضل أن تقطع رأسي على أن أتسبب في قطع الرءوس. لقد سئمت. ما الذي يدعونا نحن البشر إلى أن نتصارع؟ خير لنا أن نجلس بجانب بعضنا البعض وننعم بالهدوء. إن هناك غلطة ارتكبت عندما خلقنا، هناك شيء ينقصنا لا أدري كيف أسميه، ولكننا لن نستطيع أن ننتزعه من أحشائنا، فلماذا نحاول أن نشق أجسامنا؟ اذهبوا! إننا كيماويون تعساء!
3
كاميل :
وبصورة عاطفية أكثر حدة يمكن أن نسأل: إلى متى تظل البشرية على جوعها الأبدي تفترس أعضاءها؟ أو إلى متى نظل نحن الذين تحطمت سفينتهم عطاشا نمتص دماء بعضنا بغير أن نرتوي؟ أو إلى متى نظل نحن أصحاب الجبر
4
نبحث في اللحم البشري عن «س» المجهولة الممتنعة أبدا، ونكتب مسائلنا بأعضاء ممزقة؟
دانتون :
أنت صدى قوي.
كاميل :
أليس كذلك؟ إن طلقة المسدس تدوي كقصف الرعد، وهذا من مصلحتك. عليك أن تحتفظ بي دائما إلى جوارك.
فيليبو :
وهل تبقى فرنسا في أيدي الجلادين؟
دانتون :
وما الضرر؟ إن الناس مستريحون لهذا. إنهم أشقياء الحظ، وهل يطلب المرء أكثر من هذا لكي يكون عاطفيا، نبيلا، فاضلا أو ساخرا، أو لكي يتخلص تماما من الملل؟ وسواء بعد ذلك أن يموتوا بالمقصلة أو بالحمى أو بالشيخوخة! ما زال أمامهم أن يختاروا؛ فهم يدخلون وراء الكواليس يحركون أعضاءهم المرنة، ويستطيعون قبل مغادرة المسرح أن يؤدوا حركات لطيفة، ويستمعوا للمتفرجين وهم يصفقون لهم. هذا كله شيء جميل ومناسب لنا؛ فنحن نقف دائما على خشبة المسرح، وإن كنا نطعن في النهاية طعنة جادة. من الخير أن يختصر العمر قليلا. لقد كان الثوب طويلا جدا، وعجزت أعضاؤنا عن ملئه. ستصبح الحياة حكمة موجزة،
5
وهذا شيء لا بأس به، ومن لديه النفس أو الروح الذي يكفي لملحمة من خمسين أو ستين نشيدا؟ لقد حان الوقت لنكف عن شرب القليل من عصير الروح
6
من أحواض الغسيل لنشربه من كئوس الخمر المسكرة؛ بهذا يمتلئ الفم، ولولاه لما أمكننا أن نجمع بضع قطرات في الإناء الغليظ. وأخيرا، ليتني أستطيع أن أصرخ. هذا شيء لا يستحق كل هذا العناء، والحياة لا تستحق الجهد الذي يبذله الإنسان في سبيل المحافظة عليها.
باري :
اهرب إذن يا دانتون!
دانتون :
هل يأخذ الإنسان وطنه في كعب حذائه؟ وأخيرا، وهذا هو المهم، فإنهم لن يجرءوا. (لكاميل)
تعال يا بني، قلت لك إنهم لن يجرءوا. الوداع! الوداع! (دانتون وكاميل يخرجان.)
فيليبو :
إنه ذاهب إلى هناك.
لاكروا :
ولا يؤمن بكلمة واحدة مما قاله. يا للكسل ! إنه يفضل أن تقطع رأسه على أن يلقي خطبة.
باري :
والعمل؟
لاكروا :
نذهب إلى بيوتنا وندرس قضية محترمة مثل فعل لوكرتسيا.
نزهة (رجال ونساء في نزهة.)
مواطن :
حبيبتي جاكلين، أردت أن أقول كورذ ... أردت كور ...
سيمون :
كورنيليا يا مواطن، كورنيليا.
المواطن :
حبيبتي كورنيليا، فرحت قلبي بمولود صغير.
سيمون :
أهدت الجمهورية ولدا.
المواطن :
الجمهورية؟ ولكن هذا تعبير عام جدا. ربما أمكننا أن نقول ...
سيمون :
بالضبط، يجب أن يهب الفرد نفسه للمجموع.
المواطن :
آه! نعم! هذا ما تقوله زوجتي أيضا.
مغن متجول (يغني) :
خبروني! خبروني!
ما الذي يلقى الرجال
من نعيم أو هناء؟
المواطن :
الاسم هو الذي يحيرني الآن.
سيمون :
عمده على بيكي أو مارا!
المغني المتجول :
من صباح لمساء،
بين هم وعناء،
وعذاب وشقاء.
المواطن :
أفضل أن تكون ثلاثة أسماء. إن العدد ثلاثة له دائما جاذبية خاصة، ثم أريد أن يكون الاسم شيئا نافعا وصحيحا. الآن وصلت إليه؛ فلوج،
7
روبسبيير، والثالث؟
سيمون :
بيكي.
المواطن :
أشكرك يا جاري؛ بيكي، فلوج، روبسبيير، كلها أسماء لطيفة، حلوة على اللسان.
سيمون :
اسمع كلامي. إن ثدي زوجتك كورنيليا سيكون كضرع الذئبة الرومانية. لا، ليس هذا ما أريده، روسولوس
8
كان طاغية. لا، ولا هذا أيضا. (يسيران.)
شحاذ (يغني) :
دي دنيا غرورة، ودنيا زوال.
إلهي ما تحتاج لذل السؤال!
يا أهل المروءة، يا أهل الثواب،
ما باقي من الدنيا غير التراب.
السيد الأول :
أنت يا جدع! اشتغل! الشبع ظاهر عليك!
السيد الثاني :
خذ! (يعطيه قطعة نقود)
يده ناعمة كالقطيفة. شيء مخجل!
الشحاذ :
سيدي! لماذا اشتغلت؟
السيد الثاني :
يا أحمق! لأشتري الثوب الذي علي.
الشحاذ :
عذبت نفسك لتحصل على متعة؛ لأن مثل هذا الثوب متعة. يمكن أيضا أن توفرها لك الخرقة البالية .
السيد الثاني :
بالطبع، وإلا أصبحت الحياة مستحيلة.
الشحاذ :
ليتني كنت أحمق. إن هذا شيء يحقق التوازن. الشمس دافئة على الناصية، والمسألة تتم ببساطة. (يغني):
ما باقي من الدنيا غير التراب،
يا أهل المروءة، يا أهل الثواب!
روزالي (لاديدلادة) :
خذي بالك! العساكر قادمون! من أمس لم نضع شيئا في بطوننا.
الشحاذ (يغني) :
على الأرض بختي وآخر نصيبي،
يا أهل المروءة، يا أهل الثواب!
يا ستات هوانم، يا زينة الشباب!
جندي :
حاسب عندك! إلى أين يا أولادي؟ (لروزالي)
كم سنك؟
روزالي :
سني من سن أصبعي الصغير.
الجندي :
لسانك حامي.
روزالي :
وأنت كلك صدا.
الجندي :
إذن أسن نفسي عليك. (يغني) :
يا حلوة يا قمورة،
قولي لي يا شطورة،
الجرح بيئذيكي،
وبتشكي زي زمان؟
روزالي (تغني) :
لا أبدا يا حضرات،
يا عساكر يا صولات.
أنا عايزه منه كمان!
أنا عايزه منه كمان! (يظهر دانتون وكاميل.)
دانتون :
أليس هذا شيئا ظريفا؟ إنني أشم شيئا في الجو، كأن الشمس تفرز الفحشاء والرذيلة. ألا يود الإنسان أن يقفز وينزع سرواله عن جسده، ويضاجعهم كالكلاب في الحارة؟ (يمران.)
شاب :
آخ يا مدام! لحن الناقوس، ضوء المساء على الأشجار، بريق النجم.
المدام :
عطر زهرة! هذه الأفراح الطبيعية، هذه المتعة الخالصة التي توفرها الطبيعة! (لابنتها)
انظري، يا أويجيني، الفضيلة وحدها هي التي ترى هذا.
أويجيني (تقبل يد أمها) :
آخ يا ماما! أنا لا أرى غيرك.
المدام :
يا طفلتي الطيبة!
الشاب (يهمس في أذن أويجيني) :
هل ترين السيدة الجميلة التي تمشي هناك مع الرجل العجوز؟
أويجيني :
أنا أعرفها.
الشاب :
يقال إن حلاقها قص شعرها على طريقة الأطفال.
أويجيني (تضحك) :
طول لسان!
الشاب :
الرجل العجوز يمشي بجوارها. إنه يرى البرعم يتفتح، وينزهه في الشمس، ويظن أن المطر هو الذي جعله ينمو.
أويجيني :
قلة أدب! يكاد وجهي يحمر من الخجل.
الشاب :
أما أنا فكان من الممكن أن يصفر وجهي. (يخرجان.)
دانتون (لكاميل) :
لا تقل أين الجد في هذا! إنني لا أفهم لماذا لا يقف الناس في الحارة ويضحكون في وجوه بعضهم البعض. كان الواجب عليهم أن ينظروا إلى النوافذ والقبور ويضحكوا، وكان على السماء أن تنفجر من الضحك، وتتمرغ الأرض على بطنها من الضحك. (يخرجان.)
السيد الأول :
أؤكد لك أنه اكتشاف خارق للعادة! كل الصناعات والفنون سيتغير وجهها قريبا. إن الإنسانية تسرع بخطوات جبارة إلى مصيرها المجيد.
السيد الثاني :
هل رأيت المسرحية الجديدة؟ برج بابل! خليط من الأقبية والسلالم والأروقة، وكل هذا يرتفع في الهواء في خفة وجسارة. إن الإنسان يشعر بالدوار في كل خطوة. رأس عجيب. (يقف مرتبكا.)
السيد الأول :
ماذا جرى لك؟
السيد الثاني :
آه! لا شيء! يدك يا سيدي! النقرة هكذا! أشكرك كنت على وشك الوقوع فيها، كان من الممكن أن يحدث شيء خطير.
السيد الأول :
ولكنك لم تكن خائفا؟
السيد الثاني :
نعم! إن الأرض قشرة رقيقة، أقول لنفسي دائما إنني قد أسقط فيها حيث يكون ثقب كهذا. يجب أن يطأها بحذر؛ فقد تنزلق قدمه، ولكن لا تنس أن تذهب إلى المسرح. اسمع نصيحتي.
حجرة
دانتون - كاميل - لوسيل
كاميل :
صدقوني إنه لم يقدم إليهم كل شيء في نسخ خشبية، موزعة بين المسارح وصالات الموسيقى ومعارض الرسم. لم يستطيعوا أن يروا شيئا أو يسمعوا شيئا. إن صنع أحد دمية يظهر الحبل الذي تشد منه، وتطقطق مفاصلها مع كل حركة على الوزن اليامبي؛
9
قالوا: يا لها من شخصية! يا له من إتقان! إن أخذ أحد إحساسا، أو عبارة، أو فكرة وألبسها سترة وسروالا، وجعل لها يدين ورجلين ولون وجهه، وجعل المخلوق المسكين يتعذب ثلاثة فصول بأكملها حتى يتزوج أو يطلق النار على نفسه في النهاية؛ صاحوا: يا له من مثل أعلى! إن لحن أحدهم أوبرا تصور كيف ترتفع العواطف وتنخفض في الوجدان، كما تصور الصفارة صوت البلبل؛ هتفوا: آخ! يا للفن! اترك الناس تغادر المسرح إلى الحارة، يا للواقع المحزن! إن الفنان الرديء ينسيهم الفنان الأكبر، فهم لا يسمعون ولا يرون شيئا من الخليقة التي تتوهج وتفور وتضيء فيهم وحولهم، وتخلق نفسها في كل لحظة خلقا جديدا. إنهم يذهبون إلى المسرح ويقرءون الأشعار والروايات، ويقلدون المسخ التي يجدونها فيها، ويقولون لمخلوقات الله: كم هي عادية! لقد فهم الإغريق ما كانوا يقولون حين رووا أن تمثال بيجماليون دبت فيه الحياة حقا، ولكنه لم ينجب أطفالا.
دانتون :
والفنانون يعاملون الطبيعة معاملة دافيد،
10
الذي راح في برود يرسم قتلى سبتمبر عندما ألقوا بهم من مغارة «الفورس» إلى الشارع، ويقول: إنني أسجل آخر اختلاجات الحياة في هؤلاء الأشرار. (دانتون يستدعى إلى الخارج.)
كاميل :
ماذا تقولين يا لوسيل؟
لوسيل :
لا شيء. أحب أن أنظر إليك وأنت تتكلم.
كاميل :
هل تسمعينني أيضا؟
لوسيل :
بالطبع!
كاميل :
هل أنا على حق؟ أتعرفين ماذا قلت؟
لوسيل :
في الحقيقة لا. (دانتون يعود.)
كاميل :
ماذا بك؟
دانتون :
قررت لجنة الإصلاح القبض علي. لقد حذروني وعرضوا علي مكانا ألجأ إليه. إنهم يريدون رأسي، كما يحبون. لقد سئمت الكسل والإهمال، فليأخذوه إذا شاءوا. وما أهمية هذا؟ سأعرف كيف أموت بشجاعة، هذا أسهل من الحياة التي أعيشها.
كاميل :
دانتون. ما زال الوقت أمامك!
دانتون :
مستحيل، ولكنني لم أكن أتصور.
كاميل :
كسلك!
دانتون :
لست كسولا، بل متعب. إن قدمي ملتهبتان.
كاميل :
إلى أين؟
دانتون :
نعم، ومن يدري؟!
كاميل :
أنا لا أمزح، إلى أين؟
دانتون :
أتنزه يا ولدي، أتنزه (ينصرف).
لوسيل :
آه! كاميل.
كاميل :
اهدئي يا طفلتي المحبوبة!
لوسيل :
حين أتصور أن هذه الرأس ... كاميل، حبيبي! هذا جنون، أليس كذلك؟ أنا مجنونة؟
كاميل :
اهدئي. دانتون وأنا لسنا شخصا واحدا.
لوسيل :
الأرض واسعة، وعليها أشياء كثيرة، لماذا إذن هذا الشيء بالذات؟ من يجرؤ على أخذه مني؟ سيكون شيئا محزنا، وما الذي سيفعلونه به؟
كاميل :
أكرر لك ما قلت؛ يمكنك أن تهدئي. لقد تكلمت أمس مع روبسبيير، كان لطيفا معي. إن أعصابنا متوترة بعض الشيء. هذا صحيح. اختلاف في الرأي، ولا شيء غير هذا.
لوسيل :
اذهب إليه!
كاميل :
لقد كنا نجلس على مقعد واحد في المدرسة. كان دائما متجهما ووحيدا. أنا الوحيد الذي كنت أتحدث معه وأضحكه أحيانا. لقد كان دائما يظهر حبه لي. أنا ذاهب.
لوسيل :
بهذه السرعة يا صديقي؟ اذهب! تعال! هذه القبلة فقط! (تقبله)
وهذه، اذهب! اذهب! (ينصرف)
هذا زمن شرير، وهكذا الأيام. من الذي يملك تغييرها؟ لا بد من الصبر. (تغني) :
أنفترق؟ يا ويلتي! أنفترق؟
من الذي أوجد لفظ نفترق؟
كيف خطر هذا على بالي؟ كيف عرف الطريق من تلقاء نفسه؟ لا، ليس هذا علامة خير. عندما خرج خيل لي أنه لن يعود. سيبتعد دائما عني، دائما. كم تبدو الحجرة خالية، النوافذ مفتوحة، كان ميتا كان يرقد فيها. إنني لا أحتمل البقاء هنا. (تنصرف.)
خلاء
دانتون :
لا أريد أن أواصل السير. لا أريد أن أزعج هذا السكون بثرثرة خطاي ولهاث أنفاسي. (يجلس. بعد فترة صمت)
لقد حكوا لي عن مرض يجعل الإنسان يفقد ذاكرته. لا بد أن الموت يشبهه في هذا، ويراودني الأمل أحيانا أن يكون أقوى أثرا، وأن يجعل الإنسان يفقد كل شيء. لو كان الأمر كذلك، لجريت كمسيحي لأنقذ عدوا؛ أعني لأنقذ ذاكرتي.
لا بد أن المكان مأمون، لذاكرتي لا لي. القبر أكثر أمانا؛ فهو على الأقل يمنحني النسيان. إنه يقتل ذاكرتي، ولكن ذاكرتي تحيا هناك وتقتلني. أنا أو هي؟ الجواب سهل. (يقف ويعود من نفس الطريق)
أنا أداعب الموت. إنه شعور ممتع أن يغازله الإنسان على البعد بمنظار مكبر. الحقيقة أنني لا بد أن أضحك على التاريخ. إن الشعور بالبقاء هو الذي يقول لي: سيكون الغد وبعد الغد إلى ما لا نهاية مثل اليوم. إنها ضجة فارغة. يريدون أن يخيفوني. لن يجرءوا أبدا! (يخرج.)
حجرة (ليل.)
دانتون (وهو يطل من النافذة) :
أليس هذا كله نهاية؟ ألن ينطفئ النور ويخمد الصوت؟ ألن ينتشر السكون والظلام حتى لا نسمع أو نرى خطايانا البشعة؛ سبتمبر!
جولي (تنادي من الداخل) :
دانتون، دانتون!
دانتون :
هيه؟
جولي (تدخل) :
ما هذا الهتاف؟
دانتون :
هل هتفت؟
جولي :
كنت تتكلم عن الخطايا البشعة، ثم تأوهت وقلت: سبتمبر!
دانتون :
أنا؟ أنا؟ لا، لم أتكلم، لم يخطر هذا على بالي. كانت مجرد أفكار خفية هامسة.
جولي :
أنت ترتعش يا دانتون!
دانتون :
كيف لا أرتعش والجدران تثرثر هكذا؟ وجسدي قد تهشم إلى حد أن أفكاري تتحدث قلقة حائرة بشفاه الأحجار؟
جولي :
جورج! جورج حبيبي!
دانتون :
أجل يا جولي. إنه شيء غريب. لا أحب أن أفكر بعد الآن، إذا كانت الأفكار تتكلم بهذه الطريقة. هناك يا جولي أفكار لا يجب أن توجد الآذان التي تسمعها. ليس حسنا أن تصرخ عند ولادتنا كما تصرخ الأطفال، ليس حسنا.
جولي :
ليحفظ الله عقلك! جورج جورج، هل تعرفني؟
دانتون :
ولم لا؟ أنت إنسانة وامرأة وأنت أخيرا زوجتي، والأرض فيها خمس قارات؛ أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا وأستراليا، واثنان مضروبين في اثنين يساوي أربعة. إنني في تمام عقلي. أرأيت؟ هل سمعتني أصرخ: سبتمبر؟ ألم تقولي شيئا كهذا؟
جولي :
نعم يا دانتون، ملأت الصرخة الحجرة كلها.
دانتون :
عندما اقتربت من النافذة (يطل على الشارع)
كانت المدينة هادئة، وكل الأنوار مطفأة.
جولي :
هناك طفل يصرخ بجوارنا.
دانتون :
عندما اقتربت من النافذة، كانت صرخة الاستغاثة تدوي في كل الحارات: سبتمبر!
جولي :
كنت تحلم يا دانتون. عد إلى نفسك!
دانتون :
أحلم؟ نعم، لقد كنت أحلم، ومع ذلك فقد كان شيئا يختلف عن هذا.
سأصفه لك حالا؛ رأسي المسكين ضعيف، حالا! نعم. الآن وصلت إليه، كانت الكرة الأرضية تلهث تحتي وهي تتذبذب وتهتز، كنت قد أمسكت بزمامها كأنها جواد شرس، ورحت أغوص بأعضاء ضخمة في خصلات عرفها، وأضغط بكل قوة على ضلوعها. كان رأسي يتدلى إلى أسفل، وشعري يرفرف فوق الهاوية، وهكذا وجدتني أجر جرا إلى الأعماق. هناك صرخات في فزع، وصحوت من النوم. اتجهت إلى النافذة، وهناك سمعتها يا جولي.
ماذا تريد هذه الكلمة مني؟ لماذا تعود هي نفسها؟ ما شأني بها؟ لماذا تمد نحوي يديها المخضبتين بالدماء؟ لست أنا الذي أطلقها. آه! ساعديني يا جولي! إن حسي قد تبلد! ألم يكن ذلك في سبتمبر يا جولي؟
جولي :
كان الملوك على بعد أربعين ساعة فقط من باريس.
دانتون :
وكانت القلاع قد سقطت، والأرستقراطيون في المدينة.
جولي :
كانت الجمهورية قد أوشكت على الضياع.
دانتون :
نعم على الضياع . لم نستطع أن نترك العدو في ظهورنا، وإلا لكانت حماقة منا. كان هناك عدوان يقفان على لوح واحد، إما نحن أو هم، والأقوى يطيح بالأضعف، أليس هذا عدلا؟
جولي :
نعم! نعم!
دانتون :
ضربناهم الضربة القاضية، لم يكن ذلك قتلا، بل حرب من الداخل.
جولي :
لقد أنقذت الوطن .
دانتون :
نعم، لقد أنقذت الوطن. كنا في حالة دفاع عن النفس. كان لا بد أن نفعل ما فعلناه. المخلص على الصليب هون الأمر على نفسه؛ لا بد أن يأتي كدر، ولكن الويل لمن يتسبب في الكدر! لا بد! كل شيء جاء من هذه «اللابد». من يستطيع أن يلعن اليد التي نزلت عليها لعنة «لا بد»؟ من الذي نطق بهذه الكلمة؟ من؟ ما هذا الذي يكذب فينا، ويفجر، ويسرق، ويقتل؟ نحن دمى، تشدها قوى مجهولة من السلك المعلقة فيه. لا شيء. لسنا نحن أنفسنا! فما نحن إلا السيوف التي تتصارع بها الأشباح، لكن لا أحد يرى الأيدي التي تحملها، تماما كما يحدث في الحواديت. الآن هدأت نفسي.
جولي :
هل هدأت تماما، يا حبيبي؟
دانتون :
نعم يا جولي، تعالي إلى الفراش!
شارع أمام بيت دانتون
سيمون - جنود من المواطنين
سيمون :
كم تقدم الليل الآن؟
المواطن الأول :
ماذا فعل الليل؟!
سيمون :
أقول كم تقدم الليل؟
المواطن الأول :
مسافة ما بين شروق الشمس وغروبها.
سيمون :
يا وغد! أسألك كم الساعة!
المواطن الأول :
انظر إلى الميناء؛ فهو الوقت الذي يتوقف فيه البندول تحت اللحاف.
سيمون :
يجب أن نصعد إليه. هيا أيها المواطنون! لقد تكفلنا لذلك برءوسنا. حيا أو ميتا! إن أعضاءه جبارة. سأتقدم أيها المواطنون. لنشق للحرية طريقا. اعتنوا بزوجتي! سأترك لها إكليلا من فروع البلوط.
المواطن الأول :
إكليل من البلوط؟ سيسقط كل يوم في حجرها على كل حال من ثمره ما يكفي.
11
سيمون :
إلى الأمام، أيها المواطنون! ستؤدون خدمة جليلة للوطن!
المواطن الثاني :
ليت الوطن هو الذي يؤدي لنا خدمة! من كل الثقوب التي خرمناها في أجسام الناس، لم يرتق ثقب واحد في سراويلنا.
12
المواطن الأول :
هل تحب أن يستروا ثقوب سروالك؟ ها! ها! ها! ها!
الآخرون :
ها، ها، ها!
سيمون :
هيا! هيا! (يدخلون بيت دانتون.)
الجمعية الوطنية
جماعة من الأعضاء
ليجندر :
ألن يتوقف إذن ذبح الأعضاء؟ من الذي يضمن الآن متى يسقط دانتون؟
عضو :
وما العمل؟
عضو آخر :
يجب أن يسمع صوته أمام الجمعية. إن نجاح هذه الوسيلة مؤكد. وما الذي يستطيعون أن يردوا عليه؟
عضو آخر :
مستحيل، هناك قرار يمنعنا من ذلك.
ليجندر :
يجب أن يسحب هذا القرار أو يسمح باستثناء خاص. سأقدم طلبا بذلك، وسأعتمد على تأييدكم.
الرئيس :
فتحت الجلسة.
ليجندر (يصعد إلى المنصة) :
لقد ألقي القبض في الليلة الماضية على أربعة من أعضاء الجمعية الوطنية، وقد علمت أن دانتون هو أحد الذين تم القبض عليهم، أما أسماء بقية الأعضاء فلا أعرفها. ليكن هؤلاء الأعضاء من يكونون، فكل ما أطالب به أن تسمع أقوالهم أمام الجمعية. أيها المواطنون، ها أنا ذا أعلنها صريحة أمامكم؛ إنني أعد دانتون طاهر النفس مثلي تماما، ولا أظن أن هناك أي مأخذ يمكن أن يوجه إلي. لا أريد أن أتهم أحدا من أعضاء لجنة الإصلاح أو لجنة الأمن، ولكن هناك أسبابا تجعلني أخشى أن يكون الحقد الشخصي والعواطف الشخصية هي التي دفعت البعض إلى أن ينتزعوا من الحرية رجالا أدوا لها أعظم الخدمات. إن الرجل الذي أنقذ فرنسا في سنة 1792م بعزيمته يستحق أن تسمع أقواله. يجب أن يكون من حقه الدفاع عن نفسه إذا اتهمه أحد بالخيانة العظمى. (اضطراب بين الأعضاء.)
بعض الأصوات :
نحن نؤيد اقتراح ليجندر.
أحد الأعضاء :
نحن هنا باسم الشعب، ولا يستطيع أحد أن يقصينا عن أماكننا إلا بإرادة ناخبينا.
عضو آخر :
كلماتكم تفوح منها رائحة الجثث. لقد أخذتموها من أفواه الجيرونديين. هل تريدون امتيازات؟ إن بلطة القانون تحوم فوق كل الرءوس.
عضو آخر :
لا يمكننا أن نسمح للجان بأن تنتزع مشرعينا من ملجأ القانون لتبعث بهم إلى المقصلة.
عضو آخر :
الجريمة لا ملجأ لها. المجرمون المتوجون هم وحدهم الذين يلجئون إلى عروشهم.
عضو آخر :
الأشرار وحدهم هم الذين يطالبون بحق الالتجاء.
عضو آخر :
والقتلة وحدهم هم الذين لا يعترفون بهذا الحق.
روبسبيير :
إن الاضطراب الغريب الذي يسود هذا الجمع من وقت طويل يثبت أن الأمر يتعلق بقضايا خطيرة. سوف يتقرر اليوم إن كان من حق بعض الرجال أن يفرحوا بالانتصار على الوطن . كيف يمكنكم أن تذهبوا في التنكر لقوانينكم إلى حد أن تمنحوا اليوم بعض الأفراد ما منعتموه بالأمس عن شابو وديلوناي وفابر؟ ما معنى هذه التفرقة لصالح بعض الرجال؟ وماذا تعنيني المدائح التي يغدقها البعض على أنفسهم وأصحابهم؟ إن التجارب الكثيرة التي مرت بنا علمتنا أن نتبين قيمتها على حقيقتها. إننا لا نسأل إن كان الرجل قد قام بهذا العمل البطولي أو ذاك، وإنما نسأل عن تاريخه السياسي كله. يبدو أن ليجندر لا يعرف أسماء المعتقلين، بينما تعرفهم الجمعية كلها. إن صديقه لاكروا واحد منهم. لماذا يتظاهر بألا يعرف هذا؟ لأنه يعلم تمام العلم أن الوقاحة وحدها هي التي يمكنها الدفاع عن لاكروا. إنه لم يذكر إلا اسم دانتون؛ لاعتقاده أن هذا الاسم يرتبط به امتياز معين. لا، نحن لا نريد امتيازات، نحن لا نريد أصناما! (تصفيق.)
ما هو فضل دانتون على لافاييت ويدمورييه وبرسو وشابو وهيبير؟ ماذا يمكن أن يقال عن هؤلاء ولا يقال عنه؟ هل أبقيتم عليهم؟ ما الذي يميزه عن مواطنيه؟ ألأن بعض المخدوعين فيه وبعض الذين لم يستطع خداعهم قد اصطفوا حوله لكي يلقي بهم في أحضان السعادة والسلطة؟ بقدر ما خدع الوطنيين الذين وضعوا ثقتهم فيه، يجب أن يحس بقسوة أصدقاء الحرية.
يريد البعض أن يبث في قلوبكم الخوف من سوء استعمال السلطة التي مارستموها بأنفسكم. إنهم يصرخون من استبداد اللجان، وكأن الثقة التي أهداها الشعب إليكم ووضعتموها في هذه اللجان لا تكفي لكي تكون ضمانا أكيدا على وطنيتكم. إنهم يصورونكم وكأنكم ترتعشون، ولكنني أقول لكم إن من يرتعش في هذه اللحظة فهو مذنب؛ لأن البراءة لا ترتعش أبدا أمام يقظة الشعب (تصفيق عام).
لقد أرادوا أيضا أن يرهبوني، حاولوا أن يفهموني أن الخطر الذي يقترب من دانتون يمكن أيضا أن يصل إلي. لقد كتبوا إلي يقولون إن أصدقاء دانتون يحاصرونني؛ ظنا منهم أن ذكريات صداقة قديمة أو الإيمان الأعمى بالفضائل الخادعة يمكن أن تجعلني أخفف من حماسي وعاطفتي للحرية، ولكن ها أنا ذا أعلنها أمامكم : ليس هناك شيء يمكنه أن يقف في طريقي، ولو تعرضت للخطر الذي يتعرض له الآن دانتون. نحن جميعا في حاجة إلى شيء من الشجاعة والكبرياء. إن المجرمين والسفلة هم الذين يخافون أن يروا أشباههم يسقطون إلى جانبهم؛ لأنهم إذا انفض شركاؤهم الذين يتخفون بينهم وجدوا أنفسهم يواجهون نور الحقيقة. وإذا كان أمثال هؤلاء موجودين في هذا الاجتماع، ففيه كذلك غيرهم من الأبطال. إن عدد الأوغاد ليس كبيرا، لم يزل أمامنا بعض الرءوس التي يجب أن نقطعها؛ وبذلك ننقذ الوطن (تصفيق).
إنني أطالب برفض اقتراح ليجندر. (يقف الأعضاء جميعا علامة الموافقة.)
سان جوست :
يبدو أن في هذا الجمع بعض الآذان التي لا تتحمل سماع كلمة «الدم». إن بعض الخواطر العامة قد تقنعهم بأننا لسنا أقسى من الطبيعة ولا أفظع من الزمان. إن الطبيعة تخضع في هدوء وبغير مقاومة للقوانين التي تتحكم فيها، وحيثما دخل الإنسان في صراع معها قضى عليه. إن تغييرا يطرأ على العناصر المكونة للهواء، أو تأججا في النار الكامنة في جوف الأرض، أو تذبذبا في توازن كتلة من المياه، أو وباء أو انفجارا بركانيا أو فيضانا؛ يمكنها جميعا أن تدفن ألوف البشر. وما هي النتيجة؟ تغيير تافه لا يكاد يلاحظ في مجموع الطبيعة الفيزيائية، تغيير كان من الممكن ألا يترك وراءه أثرا لو لم توضع الجثث في طريقها. إنني أسأل الآن: هل ينبغي على الطبيعة العاقلة في ثوراتها أن تعطي للحياة من الاعتبار أكثر مما تفعل الطبيعة الفزيائية؟ أليس من حق الفكرة كما هو من حق القانون الطبيعي أن تقضي على كل من يقف في طريقها؟ ألا يجوز لحدث يغير بناء الطبيعة الأخلاقية كله؛ أعني يغير البشرية، أن يتم عن طريق الدم؟ إن الروح الكوني يستخدم أذرعنا في مجال العقل، بمثل ما يستخدم البركان والفيضانات في مجال الطبيعة. وما أهمية أن يموت الناس بالوباء أو يموتوا بالثورة؟!
إن خطوات البشرية بطيئة جدا، ولا نستطيع أن نعدها إلا بالقرون، ووراء كل خطوة ترتفع قبور أجيال. إن الوصول إلى أبسط الاكتشافات والمبادئ قد كلف الملايين من الناس حياتهم لكي يصلوا إليها. أليس من الطبيعي إذن أن تتقطع أنفاس بعض الناس في وقت تتحرك فيه عجلة التاريخ بسرعة أكبر؟ من هذا نستنتج بسرعة وبساطة أن الجميع ما داموا قد خلقوا في نفس الظروف، فهم جميعا متساوون، ولا تقلل من ذلك الفروق التي أوجدتها الطبيعة بنفسها؛ ولذلك فلكل إنسان أن يتمتع بفضائل تميزه من غيره، ولكن ليس له أن يستأثر بحقوق يحرم منها سواه، سواء في ذلك الفرد أو الفئة الصغيرة أو الكبيرة من الأفراد. إن كل فقرة من هذه العبارة التي طبقت في الواقع قد قتلت عددا من الناس، وأيام 14 يوليو و10 أغسطس و31 مايو هي علامات التنقيط فيها. لقد احتاجت إلى أربع سنوات لكي تنفذ في العالم المادي، ولو كنا في ظروف عادية لاحتاجت إلى قرن من الزمان وإلى أجيال عديدة لتضع فيها النقط على الحروف. فهل من العجيب إذن أن يلفظ نهر الثورة جثثه عند كل تقاطع أو عند كل منحنى جديد؟
إن علينا أن نضيف إلى عبارتنا بعض النتائج، فهل تمنعنا من ذلك بضع مئات من الجثث؟ لقد قاد موسى قومه فشق بهم البحر الأحمر وعبر بهم الصحراء، حتى قضى على الجيل القديم الفاسد واستطاع أن يقيم الدولة الجديدة. أيها المشرعون! نحن لا نملك البحر الأحمر ولا الصحراء، ولكننا نملك الحرب والمقصلة!
إن الثورة أشبه ببنات بلياس؛
13
فهي تمزق البشرية إربا لكي تعيدها شابة من جديد. إن البشرية ستخرج من مرجل الدم كما خرجت الأرض من الطوفان، فتبعث بأعضاء قوية شابة، وكأنها خلقت لأول مرة. (تصفيق حاد متصل، بعض الأعضاء يأخذهم الحماس فيقفون.)
إننا نطلب من كل أعداء الطغيان المنتشرين في أوروبا وعلى سطح الأرض كلها، أولئك الذين يخفون خنجر بروتوس تحت ثيابهم، نطلب منهم أن يشاركونا في هذه اللحظة المجيدة. (ينشد الأعضاء وجمهور المستمعين النشيد الوطني الفرنسي «المرسلييز».)
الفصل الثالث
سجن اللوكسمبورج - قاعة بها مساجين
شوميت - بين - مرسييه - هيرو دي سيشيل ومساجين آخرون
شوميت (يشد بين من كمه) :
اسمع يا بين، قد يكون الأمر كما تقول، فهكذا تسلط علي هذا الإحساس منذ قليل. أشعر اليوم بصداع. أرجوك أن تساعدني قليلا بحججك المنطقية. إنني أحس بانقباض فظيع.
بين :
تعال إذن أيها الفيلسوف أناكساجوراس،
1
سوف أعلمك على طريقة السؤال والجواب.
2
ليس هناك إله؛ لأنه إما أن يكون الإله قد خلق العالم أو لا يكون قد خلقه؛ فإن لم يكن قد خلقه، فالعالم يحمل علته في ذاته، وبذلك لا يكون هناك إله؛ لأن الإله لا يكون إلها حتى يحمل في ذاته علة الوجود كله، ولكن لا يمكن أن يكون الإله قد خلق العالم؛ لأنه إما أن تكون الخليقة أزلية مثل الإله، وإما أن تكون لها بداية؛ فإذا صح الفرض الأخير فلا بد أن يكون الإله قد خلقها في لحظة زمنية محددة. يتحتم إذن أن يكون الإله قد أصبح في وقت من الأوقات فعالا، بعد أن استراح زمنا يمتد كالأزل؛ أي يتحتم أن يكون قد عانى نوعا من التغيير في ذاته يسمح بتطبيق فكرة الزمن عليه، وكلا الأمرين مخالف لماهية الإله. لا يمكن إذن أن يكون الإله قد خلق العالم، وإلا ما كنا نعلم الآن بوضوح تام أن العالم، أو أن ذاتنا على الأقل موجودة، وأنها بحسب ما تقدم لا بد أن تحمل علتها في ذاتها، أو شيء آخر ليس هو الإله؛ فلا يمكن تبعا لذلك أن يكون هناك إله. وهو ما أردنا إثباته.
3
شوميت :
صدقت. إن هذا يضيء لي الطريق من جديد. أشكرك. أشكرك!
مرسييه :
مهلا يا بين! ولكن ما قولك إذا كانت الخليقة أزلية؟
بين :
عندئذ لا تكون خليقة، عندئذ تكون هي والإله شيئا واحدا، أو تكون صفة من صفاته كما يقول اسبينوزا. بذلك يكون الإله قد حل في كل شيء؛ فيك، أيها المحترم، وفي الفيلسوف أناكساجوراس وفي. لو حدث هذا فلن يكون الأمر سيئا كما تتصور، ولكن لا بد أن تعترف بأنه لا يشرف الجلالة السماوية أن يحس الإله في كل واحد منا بألم في الأسنان أو يصاب بمرض تناسلي أو يدفن حيا، أو يتخيل على الأقل أفظع التصورات عنها.
مرسييه :
ولكن لا بد مع ذلك أن تكون هناك علة.
بين :
ومن الذي ينكر هذا؟ ولكن من الذي يقول لك إن هذه العلة هي ما نتصور أنه هو الإله؛ أي ما نتصور أنه الموجود الكامل؟ هل تعتقد أن العالم كامل؟
مرسييه :
لا.
بين :
كيف تريد إذن أن تستدل من المعلول الناقص على وجود العلة الكاملة. إن فولتير لم يجسر على إفساد الأمر بينه وبين الإله ولا بينه وبين الملوك؛ ولذلك فقد فعلها. إن من لا يملك غير العقل ومع ذلك لا يعرف أو لا يجد الشجاعة التي تجعله يستخدمه استخداما منطقيا، فهو غشاش ومضلل.
مرسييه :
أريد أن أسأل سؤالا غير هذا: هل يمكن أن يكون للعلة الكاملة معلول كامل؟ أعني هل يمكن لموجود كامل أن يخلق موجودا كاملا؟ أليس هذا مستحيلا؛ لأن المخلوق لا يمكن أن يحمل علته في ذاته، وهو الأمر الذي يدل على الكمال كما قلت؟
شوميت :
اسكت! اسكت!
بين :
هدئ نفسك يا فيلسوف! إن الحق معك، ولكن إذا كان من الضروري أن يخلق الإله، وإذا لم يكن في استطاعته أن يخلق غير الموجودات الناقصة، فأولى به أن يترك كل شيء على ما هو عليه. أليس طبعا بشريا خالصا ألا نستطيع تصور الإله إلا من جهة الخلق؟ ألأننا ننفعل دائما ونهذي لكي نقول لأنفسنا نحن موجودون، يتحتم علينا أيضا أن نلصق هذه الحاجة التعيسة بالإله؟ هل يتحتم علينا حين تستغرق روحنا في حقيقة كائن سعيد أزلي مكتف بنفسه ومنسجم مع نفسه، أن تفترض دائما أنه لا بد أن يمد أصبعه ويجبل من العجين بشرا صغارا؟ عن حاجة مفرطة إلى الحب، كما نتهامس بذلك في آذان بعضنا البعض؟ هل من الضروري أن نفعل هذا كله لمجرد أن نجعل من أنفسنا أبناء للآلهة؟ إنني أفضل أن أقنع بإله أضعف شأنا؛ فأنا على أقل تقدير لن أستطيع أن أقول عنه إنه قد أنشأني في حظائر الخنازير أو بين عبيد الحرب المقيدين على أسطح السفن القديمة. تخلصوا من كل الموجودات الناقصة، وعندئذ تستطيعون أن تثبتوا وجود الإله. لقد حاول اسبينوزا ذلك. قد يستطيع الإنسان أن ينكر وجود الشر، ولكنه لن يستطيع أن ينكر وجود الألم. العقل وحده يمكنه أن يبرهن على وجود الإله، أما الشعور فيحتج عليه. انتبه يا أناكساجوراس لماذا أتعذب؟ إن هذه هي صخرة الإلحاد. إن أقل رعشة ألم ولو كانت في ذرة ضئيلة، تحدث صدعا في الخليقة من أعلاها إلى أسفلها.
مرسييه :
والأخلاق؟
بين :
إنكم تبدءون بإثبات وجود الإله عن طريق الأخلاق، ثم تثبتون وجود الأخلاق عن طريق الإله، فماذا تريدون إذن بأخلاقكم هذه؟ أنا لا أعرف إن كان هناك شر أو خير في ذاته، ولا أجد لذلك داعيا لتغيير سلوكي. إنني أتصرف بما يوافق طبيعتي، فكل ما يتلاءم معها فهو عندي خير وأنا أفعله، وكل ما يتعارض معها فهو عندي شر ولا أقربه، بل أدفعه عن نفسي إذا وقف عقبة في طريقي. إنك تستطيع، كما يقولون، أن تظل على أخلاقك الفاضلة، وأن تدافع عن نفسك ضد الرذيلة، بغير أن يلزمك ذلك باحتقار خصومك، وهو كما تعلم إحساس مؤسف.
شوميت :
صادق، عين الصدق!
هيرو :
ونستطيع أيضا، يا أيها الفيلسوف أناكساجوراس، أن نقول: لأجل أن يكون الإله كل شيء فلا بد كذلك أن يكون الضد من ذاته؛ أي أن يكون كاملا وناقصا، وخيرا وشريرا، وسعيدا وشقيا، وستكون النتيجة بالطبع مساوية للصفر، وسيلغي نفسه بنفسه، وسنصل في النهاية إلى العدم. افرح يا أناكساجوراس، فسوف تنجو بنفسك! إنك تستطيع وأنت مطمئن أن تتعبد في مدام مومورو
4
أنفس تحفة أخرجتها الطبيعة؛ فهي على أقل تقدير قد تركت أكاليل الورد التي تثبت ذلك في جنبيك.
5
شوميت :
أشكركم من صميم قلبي، يا سادتي! (يخرج.)
بين :
إنه لم يطمئن بعد. سيطلب في النهاية حسن الختام، فيلتمس البركة من الكنيسة، ويمد قدميه ناحية القبلة، ويطاهر نفسه؛ لكيلا يفوته طريق واحد. (يدخل الحراس دانتون، ولاكروا، وكاميل، وفيليبو.)
هيرو (يندفع إلى دانتون ويعانقه) :
صباح الخير! لا، بل يجب أن أقول مساء الخير، لا أستطيع أن أسألك كيف نمت، كيف سننام؟
دانتون :
حسن. يجب على الإنسان أن يذهب إلى الفراش وهو يبتسم.
مرسييه (لبين) :
هذه الكلمة التي تحمل أجنحة الحمام! إنه روح الثورة الشرير. لقد تجرأ على أمه، ولكنها كانت أقوى منه.
بين :
إن حياته وموته كلاهما نكبة فظيعة.
لاكروا (لدانتون) :
لم أتصور أنك ستأتي بهذه السرعة.
دانتون :
كنت أعلم، وقد حذروني.
لاكروا :
ولم تقل شيئا.
دانتون :
عن أي شيء؟ إن موت الفجأة هو أفضل أنواع الموت. هل كنت تريد أن تمرض قبله؟ ثم إنني لم أتصور أنهم يمكن أن يجرءوا على ذلك. (لهيرو)
الأفضل أن يرقد الإنسان في جوف الأرض على أن يمشي فوقها بقدمين متورمتين، وأنا أحب أن تكون الأرض مخدتي على أن تكون الكرسي الذي أجلس عليه.
هيرو :
على الأقل لن تداعب خدي السيدة الجميلة التي يسمونها «الفساد» بأصابع مشققة.
كاميل (لدانتون) :
لا تتعب نفسك! تستطيع أن تخرج لسانك إلى أقصى مسافة تشاء، فلن يمكنك أن تلعق عرق الموت الذي يتصبب على جبينك. آه يا لوسيل! هذه تعاسة فظيعة!
دانتون (لبين) :
إن ما قدمته لخير بلدك، قد حاولت أنا أيضا أن أقدمه لبلدي. كنت أقل منك حظا، وها هم يرسلونني إلى المقصلة؛ ليفعلوا ما يشاءون، فلن أتعثر.
مرسييه (لدانتون) :
إن دم الاثنين والعشرين يغرقك.
سجين (لهيرو) :
إن قوة الشعب وقوة العقل شيء واحد.
سجين آخر (لكاميل) :
والآن، يا مدعي الشنق العام، إن إصلاحك للإضاءة في الشوارع لم يزد الأمور وضوحا في فرنسا.
6
سجين آخر :
دعوه! فهاتان هما الشفتان اللتان نطقتا بكلمة «الرأفة». (يعانق كاميل، ويتبعه في ذلك عدد كبير من المساجين.)
فيليبو :
نحن كهنة صلينا مع أموات . لقد أصابتنا العدوى، وها نحن نموت بنفس الوباء.
بعض الأصوات :
إن الضربة التي تصيبكم ستقتلنا جميعا.
كاميل :
سادتي! إنني أرثي لجهودنا التي لم تؤت ثمرة. الآن أذهب إلى المقصلة؛ لأنني نظرت إلى مصير بعض الأشقياء فابتلت عيناي بالدموع.
حجرة
فوكييه-تينفيل - هرمان
فوكييه :
هل أعددت كل شيء؟
هرمان :
سيكون من الصعب تنفيذ خطتنا. لو لم يكن دانتون بينهم لتم الأمر بسهولة.
فوكييه :
يجب أن نبدأ به.
هرمان :
سيبث الرعب في قلوب المحلفين. إنه هو خيال الصحراء
7
الذي يخيف الثورة. هناك وسيلة، ولكنها ستكون انتهاكا للشكل القانوني.
فوكييه :
هات ما عندك!
هرمان :
من رأيي ألا نختار بالقرعة، بل ننتقي المضمونين منهم.
فوكييه :
يجب أن يتم هذا. يجب أن نشعل النار المطلوبة على الفور. إنهم تسعة عشر وهم خليط ممتاز. المزيفون الأربعة، ثم بعض رجال البنوك والأجانب. ستكون محكمة مثيرة. الشعب دائما في حاجة إلى مثل هذا. علينا إذن بمن يعتمد عليها! من على سبيل المثال؟
هرمان :
ليروا. إنه أصم ولا يسمع لذلك شيئا من كل ما يقوله المتهمون. يستطيع دانتون أن يصرخ أمامه حتى يبح صوته!
فوكييه :
عظيم جدا، ومن غيره؟
هرمان :
فيلات ولوميير؛ أحدهما يجلس دائما في الخمارة، والآخر ينام على الدوام، وكلاهما لا يفتح فمه إلا ليقول «مذنب»! وجيرار يسير على المبدأ القائل بأن من يقدم للمحاكمة لا يجوز أن يفلت من العقاب. ورينوادان.
فوكييه :
وهذا أيضا؟ لقد ساعد مرة بعض القسس على الإفلات من المقصلة.
هرمان :
اطمئن. لقد جاء إلي منذ أيام وطالب بأن نفصد بعض الدماء من المحكوم عليهم قبل تنفيذ الإعدام فيهم؛ لكي يصابوا قليلا بالضعف والهمود. إنه ساخط على موقف العناد والتحدي من جانبهم.
فوكييه :
آه، عظيم جدا؛ إذن فأستطيع الاعتماد عليك؟
هرمان :
اترك لي حرية التصرف!
الكونسييرجيري - ممر
لاكروا - دانتون - مرسييه وغيرهم من المساجين يقطعون الممر جيئة وذهابا
لاكروا (لأحد المساجين) :
ماذا؟ كل هؤلاء التعساء، وفي مثل هذا البؤس؟
السجين :
ألم تقل لك العربات المسرعة إلى المقصلة إن باريس قد أصبحت مجزرة؟
مرسييه :
ألست معي يا لاكروا؟ إن المساواة تهز منجلها فوق كل الرءوس، وحمم الثورة تسيل، والمقصلة تنشر مبادئ الجمهورية! الجمهور يصفق، والرومان يفركون أيديهم، ولكنهم لا يدرون أن كل كلمة من هذه الكلمات هي حشرجة ضحية. ابحثوا وراء كلماتكم حيث تجسدت. انظروا حولكم. لقد نطقتم بهذا كله. إنه محاكاة لكلماتكم بالإيماءات وتعبيرات الوجوه. هؤلاء التعساء وجلادوهم والمقصلة التي ستقطع رءوسهم هي خطبكم التي دبت فيها الحياة. لقد بنيتم نظمكم كما بنى بايزيد
8
أهرامه من رءوس الناس.
دانتون :
صدقت. إن كل الأعمال في هذه الأيام تسجل على لحم البشر. هذه هي لعنة العصر، وسوف يستهلك جسدي أيضا. لقد انقضت سنة على إنشاء محكمة الثورة. إنني أرجو من الله والناس أن يغفروا لي ذلك. أردت ألا تتكرر حوادث سبتمبر وما جرى فيها من جرائم القتل البشعة. رجوت أن أنقذ الأبرياء، ولكن هذا القتل البطيء بكل إجراءاته الشكلية أكثر بشاعة، وهو مثله لا يمكن تلافيه. سادتي، لقد كنت أرجو أن أخرجكم جميعا من هذا المكان.
مرسييه :
آه! وسنخرج منه حتما.
دانتون :
أنا الآن معكم. السماء وحدها تعلم كيف سينتهي هذا كله.
محكمة الثورة
هرمان (لدانتون) :
ما اسمك، أيها المواطن؟
دانتون :
الثورة تعرف اسمي. عما قريب سيكون سكني في بيت العدم واسمي في بانثيون
9
التاريخ.
هرمان :
دانتون! المجلس يوجه إليك تهمة التآمر مع ميرابو وديمورييه وأورليانز والجيرونديين والأجانب وأتباع لويس السابع عشر.
10
دانتون :
إن صوتي الذي كثيرا ما سمعتموه يدوي دفاعا عن قضية الشعب سيرد هذا الافتراء بغير عناء. ليظهر هؤلاء التعساء الذين يتهمونني، وسوف ألطخهم بالعار. ليحضر أعضاء اللجان إلى هنا، فلن أرد على الأسئلة إلا أمامهم. إنني في حاجة إليهم كمتهمين وشهود، فعليهم أن يظهروا.
ومع ذلك، فماذا يهمني منكم ومن حكمكم؟ لقد سبق أن قلت لكم إن العدم سيكون عما قريب ملجئي. لقد أصبحت الحياة عبئا علي، فلتنزعوها عني إن شئتم؛ لأني في شوق أن أنفضها عن نفسي.
هرمان :
دانتون، إن الجسارة من طبيعة المجرم، والهدوء من طبع البريء.
دانتون :
إن الجسارة الفردية تستحق اللوم بغير شك، أما تلك الجسارة الوطنية، التي طالما أبديتها وطالما كافحت بها في سبيل الحرية، فهي أرفع الفضائل وأعظمها شأنا. إنها جسارتي أنا، وهي التي ألجأ الآن إليها لصالح الجمهورية ولمواجهة أولئك التعساء الذين يتهمونني. هل يمكن أن أضبط نفسي، بينما أراهم يفترون علي هذا الافتراء الحقير؟ لا ينبغي أن ينتظر أحد من ثائر مثلي دفاعا باردا. إن الرجال من أمثالي لا يمكن تقديرهم بثمن. إن روح الحرية تطوف فوق جبينهم. (علامات تصفيق وحماس بين جمهور المستمعين.)
إنهم يتهمونني بأنني تآمرت مع ميرابو وديمورييه وأورليانز، وأنني ركعت عند أقدام المستبدين التعساء. إنهم يطالبونني بأن أرد على العدالة الصارمة المحتومة. أنت يا سان جوست الحقير ستكون مسئولا عن هذا التجديف أمام الأجيال المقبلة!
هرمان :
إنني أطالبك بالرد على الأسئلة الموجهة إليك في هدوء. تذكر «مارا» الذي وقف أمام قضاته في خشوع.
دانتون :
لقد وضعتم أيديكم على حياتي كلها، فمن حقها أن تشد عزيمتها وتقف في وجهكم، وسأعرف كيف أدفن هذه الأيدي تحت ثقل الأعمال التي أديتها. لست فخورا بهذا، فالقدر هو الذي يسحبنا من أيدينا، ولكن أصحاب الطبائع الجبارة هم أدواته. لقد أعلنت الحرب على الملكية ونازلتها في الميدان. هزمتها في العاشر من أغسطس، وقتلتها في الواحد والعشرين من يناير، وألقيت في وجه الملوك برأس ملك كأنه قفاز المبارزة. (تتكرر علامات الحماس والتأييد بين المستمعين. دانتون يمسك بوثائق الاتهام.)
كلما ألقيت نظرة على هذه الوثائق المخزية شعرت بكياني كله يتزلزل. أين إذن هؤلاء الذين ألحوا على دانتون بالظهور في ذلك اليوم التاريخي؛ اليوم العاشر من أغسطس؟ أين إذن تلك الصفوة التي استمد منها قوته؟ فليظهر هؤلاء الذين يتهمونني! إنني أطلب هذا وأنا في كامل قواي العقلية. سوف أكشف الأوغاد السفلة وأقذف بهم في هاوية العدم، التي لن يخرجوا منها رءوسهم بعد اليوم.
هرمان (يدق الجرس) :
ألا تسمع الجرس؟
دانتون :
إن صوت إنسان يدافع عن شرفه وحياته لا بد أن يعلو على صوت جرسك. لقد أطعمت شباب الثورة بأجسام الأرستقراطيين الممزقة. إن صوتي هو الذي صنع الأسلحة للشعب من ذهب الأرستقراطيين والأغنياء، وصوتي هو العاصفة التي دفنت أتباع الطغيان تحت عباب البنادق. (تصفيق حاد.)
هرمان :
دانتون، لقد أجهدت صوتك. إنك في غاية التأثر والانفعال. ستختم دفاعك في المرة القادمة. إنك في حاجة إلى الراحة. رفعت الجلسة.
دانتون :
عرفتم الآن من هو دانتون. لن تمر ساعات قليلة حتى ينام في أحضان المجد.
سجن اللوكسمبورج
ديللون - لافلوت - حارس
ديللون :
ولد! لا تسلط نور أنفك في وجهي هكذا.
11
ها! ها! ها!
لافلوت :
أغلق فمك. إن هلالك يرسل الضوء حوله.
12
ها! ها! ها!
الحارس :
ها! ها! ها! هل تعتقد يا سيد أنك ستستطيع أن تقرأ على ضوئك؟ (يشير إلى ورقة يحملها في يده.)
ديللون :
هات!
الحارس :
سيدي، إن هلالي قد تسبب في حدوث الجزر عندي.
13
لافلوت :
يبدو من سراويلك كأن الفيضان قد وقع.
14
الحارس :
لا، إنها تجذب الماء فحسب.
15 (لديللون)
لقد توارت يا سيدي أمام شمسكم يجب أن تعطوني شيئا؛ حتى تشتعل فيها النار من جديد، إذا كنتم تريدون أن تقرءوا على ضوئها.
ديللون :
هاك يا ولد! وامسك نفسك! (يعطيه نقودا فينصرف، ديللون يقرأ)
أفزع دانتون المحكمة وترنح المحلفون وتذمر المستمعون. كان الزحام غير عادي. تدافع الشعب على قصر العدالة ووقف في صفوف بلغت إلى الجسور. حفنة من المال وذراع واحدة، هم! هم! (يذهب ويجيء ويصب في كأسه بين حين وحين من زجاجة خمر.)
لو استطعت أن أضع قدمي على أرض الحارة! لن أتركهم يذبحونني بهذه الطريقة. نعم! أن أضع قدمي في الحارة فقط!
لافلوت :
وفي العربات المسرعة إلى المقصلة، فكلاهما واحد.
ديللون :
أهذا هو رأيك؟ بل إن بينهما بضع خطوات تكفي لكي تقاس بجثث الرجال العشرة.
16
لقد آن الأوان أخيرا لكي يرفع الشرفاء رءوسهم.
لافلوت (لنفسه) :
وهذا أفضل؛ لكي يسهل قطعها. استمر يا صديقي العجوز. بضعة كئوس أخرى ويعتدل مزاجي!
ديللون :
هؤلاء الأوغاد، الحمقى، سيقطعون في النهاية رءوسهم بأنفسهم. (يذرع المكان ذهابا وإيابا.)
لافلوت (يحدث نفسه على انفراد) :
يستطيع الإنسان أن يحب الحياة حبا مخلصا من جديد، كأنه طفله عندما وهبه الحياة. لا يتكرر كثيرا أن يفجر الإنسان مع المصادفة ويصبح أبا لنفسه. الأب والولد في نفس الوقت، يا له من أوديب مريح!
ديللون :
إن الشعب لا يعيش على الجثث، فلتلقى زوجتا دانتون وكاميل النقود على الناس؛ فذلك أفضل من إلقاء الرءوس عليهم .
لافلوت (لنفسه) :
لن أنتزع عيني بعد ذلك من محجريهما؛ فربما احتجت إليهما لكي أبكي على الجنرال.
ديللون :
هل وضعوا أيديهم حقا على دانتون؟ ومن يأمن بعد هذا على نفسه؟ إن الخوف سيوحد بينهم.
لافلوت (على انفراد) :
لقد ضاع وانتهى. وما الضرر في أن أدوس على جثة لكي أخرج من القبر؟
ديللون :
المهم أن أضع على أرض الحارة! سأجد العدد الكافي من الناس، جنودا قدامى وجيرونديين، ونبلاء سابقين. سنقتحم السجون. لا بد من التفاهم مع المساجين.
لافلوت (لنفسه على انفراد) :
المسألة تفوح منها طبعا رائحة النذالة. وما الضرر في هذا؟ إن لدي الرغبة في تجربة ذلك أيضا. لقد ظللت حتى الآن ضيق الأفق. سيؤنبني ضميري وهذا نوع من التغيير. ليس مما يكدر النفس كثيرا أن يشم الإنسان رائحة نتانته بنفسه. لقد سئمت النظر إلى المقصلة، ومللت كل هذا الانتظار! جربتها بخيالي عشرين مرة. لم يعد فيها شيء يثير الانتباه. لقد أصبحت شيئا حقيرا.
ديللون :
يجب أن نرسل ورقة لزوجة دانتون.
لافلوت (لنفسه على انفراد) :
ثم إنني لا أخاف من الموت، بل من الألم. ربما سببت لي ألما، ومن الذي يستحق هذا؟ يقولون إنها لا تستغرق إلا لحظة واحدة، ولكن للألم مقياسا زمنيا أدق. إنه يستطيع أن يقسم جزءا على ستين من الثانية.
لا! إن الألم هو الخطيئة الوحيدة، والعذاب هو الرذيلة الوحيدة. سأظل محتفظا بفضيلتي.
ديللون :
اسمع يا لافلوت! أين ذهب الجوع؟ معي نقود. يجب أن ننجح. لا بد أن نصب الحديد. إن خطتي جاهزة.
لافلوت :
حالا! حالا! إنني أعرف السجان، وسأتكلم معه. يمكنك أن تعتمد علي، يا جنرال. ستخرج من هذا الجحر. (لنفسه وهو ينصرف)
لندخل في غيره. سأدخل أنا الجحر الأوسع؛ أي العالم، وسيدخل هو الجحر الأضيق؛ أي القبر.
لجنة الإصلاح
سان جوست - بارير - كوللو ديربوا - بيللو-فارين
بارير :
ماذا يقول فوكييه في كتابه؟
سان جوست :
مر الاستجواب الثاني. المساجين يطالبون بظهور عدد كبير من أعضاء الجمعية ولجنة الإصلاح. إنهم يهيبون بالشعب الامتناع عن الإدلاء بأقوالهم. يبدو أن المشاعر في هياج لا يوصف. ولقد هزأ دانتون بجوبيتر،
17
وراح يهز خصلات شعره.
كوللو :
سيسهل هذا على شمشون أن يمسكه منه.
بارير :
يجب أن نمتنع عن الظهور؛ فربما وجدت صيادات السمك وجامعو الخرق أن شخصياتنا أضعف مما كانوا يظنون.
بيللو :
إن الشعب يحب بغريزته أن يستذل ويحتقر حتى ولو كان ذلك بالنظرات وحدها. مثل هذه الوجوه المتعجرفة تعجبه، ومثل هذه الجباه أسوأ من شعارات النبلاء؛ فأخبث أنواع الأرستقراطية التي تحتقر الإنسان تلتصق بها. إن كل من تسيئه نظرة فاحصة من أعلى إلى أسفل يجب عليه أن يساعد في تحطيمها.
بارير :
إنه أشبه بسيجفريد ذي القرون، وقد حصنته دماء المقتولين في سبتمبر
18
من الجراح. ماذا يقول روبسبيير؟
سان جوست :
إنه يتظاهر بأن لديه شيئا يقوله. يجب أن يعلن المحلفون أنهم قد اطلعوا على المعلومات الكافية، ويجب أن يختموا المناقشات.
بارير :
مستحيل. لا يمكن أن يتم هذا.
سان جوست :
يجب أن نتخلص منهم بأي ثمن، ولو اضطررنا أن نخنقهم بأيدينا. تجرءوا! هذه هي الكلمة التي تعلمناها من دانتون ولا يصح أن تضيع عبثا. إن الثورة لن تتعثر على جثثهم، ولكن إذا بقي دانتون حيا فسوف يشدها من ثيابها،
19
وفي هيئته ما يوحي بأنه يستطيع أن يغتصب الحرية إذا شاء. (ينادي على سان جوست. يدخل أحد السجانين.)
السجان :
هناك مساجين في سان بيلاجي
20
في النزع الأخير، وهم يطلبون طبيبا.
بيللو :
لا ضرورة لهذا؛ فهم يخففون من عبء الجلاد.
السجان :
بينهم نساء حوامل.
بيللو :
من مصلحتهن؛ فلن يحتاج أطفالهن إلى توابيت.
بارير :
إن السل الذي يصيب أحد الأرستقراطيين يوفر على محكمة الثورة جلسة. كل دواء يقدم إليهم هو ضربة موجهة إلى الثورة.
كوللو (يتناول ورقة ) :
التماس، باسم امرأة!
بارير :
لا بد أنها واحدة من هؤلاء الذين يحبون أن يخيروا بين خشبة المقصلة وفراش أحد اليعاقبة. إنهن يمتن مثل لوكريتسيا
21
بعد ضياع شرفهن، ولكنهن يتأخرن قليلا عن تلك السيدة الرومانية؛ فيمتن بعد الولادة أو يمتن بالسرطان أو الشيخوخة. ربما لا يكود طرد تاركوينيوس من الجمهورية الفاضلة لإحدى العذارى أمرا سخيفا إلى هذا الحد.
كوللو :
إنها عجوز جدا. المدام تطلب الموت وتحسن التعبير عن نفسها، فتقول إن السجن يخنق أنفاسها مثل غطاء التابوت. لقد قضت فيه أربعة أسابيع. الجواب سهل (يكتب ثم يقرأ ما كتبه) : «أيتها المواطنة، لم يمض عليك من الوقت ما يبرر طلبك للموت.» (ينصرف السجان.)
بارير :
أحسنت القول! ولكن لا يصح يا كوللو أن تبدأ المقصلة في الضحك، وإلا زال خوفهم منها. يجب ألا ترفع التكليف إلى هذا الحد. (سان جوست يعود.)
سان جوست :
تلقيت الآن تقرير اتهام. إنهم يتآمرون في السجن، وقد استطاع شاب اسمه لافلوت أن يكشف كل شيء. كان مع ديللون في نفس الحجرة، وقد شرب ديللون وبدأ يثرثر.
بارير :
سيقطع رقبته بزجاجته. لقد حدث هذا أكثر من مرة.
سان جوست :
دبرت الخطة بحيث توزع زوجتا دانتون وكاميل النقود على الشعب، ويهرب ديللون من السجن، ويحررون المساجين، وينسفون الجمعية الوطنية.
بارير :
هذه حواديت عجائز.
سان جوست :
ولكننا سنعرف كيف نحكي لهم هذه الحواديت ليناموا. إن البلاغ في يدي. أضف إلى ذلك وقاحة المتهمين، وتذمر الشعب، وذهول المحلفين. سأكتب تقريرا.
بارير :
نعم يا سان جوست، هيا انظم عباراتك الرصينة التي تشبه كل شولة فيها شربة سيف، وكل نقطة رأسا مفصولا عن جسده!
سان جوست :
يجب أن تصدر الجمعية قرارها، وتواصل المحكمة نظر القضية، كما يجب أن يكون من حقها استبعاد كل متهم يهين المحكمة أو يزعجها من الاشتراك في المناقشة.
بارير :
أنت ثوري بفطرتك. إن ما تقوله يبدو عليه الاعتدال، ومع ذلك فسوف يحدث أثره. إنك لا تستطيع أن تصمت. يجب أن يصرخ دانتون.
سان جوست :
إنني أعتمد على تأييدكم. في الجمعية قوم مصابون بمرض دانتون، وهم خائفون من العلاج المفتوح. لقد واتتهم الشجاعة من جديد، وسوف يصرخون احتجاجا على انتهاك حرمة الشكليات.
بارير (يقاطعه) :
سوف أقول لهم لقد اتهم القنصل الروماني الذي اكتشف مؤامرة كاتيلينا وأعدم المجرمين على الفور بانتهاك حرمة الشكليات، فمن هم أولئك الذين وجهوا إليه هذه التهمة؟
كوللو (يتأثر) :
اذهب يا سان جوست! إن حمم الثورة تسيل، وسوف تخنق الحرية أولئك الضعفاء الذين حاولوا أن يندسوا في حضنها الجبار لينجبوا منها. سيظهر لهم جلال الشعب كما ظهر جوبيتر لسيميلي
22
بين الرعد والبرق، ويحولهم إلى رماد. اذهب يا سان جوست، سوف نساعدك في إلقاء الصاعقة على رءوس الجبناء. (يخرج سان جوست.)
بارير :
هل سمعت كلمة العلاج؟ سيجعلون من المقصلة دواء ناجعا لوباء اللذة. إنهم لا يكافحون المعتدلين، بل يكافحون الرذيلة.
بيللو :
طريقنا واحد حتى الآن.
بارير :
إن روبسبيير يريد أن يجعل من الثورة قاعة محاضرات عن الأخلاق، ومن المقصلة منبرا يعظ من فوقه.
بيللو :
أو كرسي اعتراف.
كوللو :
سيكون عليه ألا يقف فوقه، بل يرقد عليه.
بارير :
سيتم هذا بسهولة. إذا صح أن الأشرار المزعومين يشنقهم الشرفاء المزعومون فلا بد أن يسير العالم على رأسه.
كوللو (لبارير) :
متى ترجع إلى كليشي؟
بارير :
حين ينقطع الطبيب عن زيارتي.
كوللو :
أليس كذلك؟ هناك علقت نجمة من الشعر يجف نخاعك تحت أشعتها المحرقة.
23
بيللو :
عما قريب ستشده أصابع ديمالي الساحرة من عموده الفقري، وتعلقه على الظهر كأنه خصلة من الشعر.
24
بارير (يهز كتفيه) :
صه! لا يجب أن يعلم صاحب الفضيلة
25
عن ذلك شيئا!
بيللو :
إنه ماسوني عنين. (يخرج بيللو وكوللو.)
بارير (وحده) :
هؤلاء الوحوش! لم يمض عليك في السجن ما يبرر طلبك للموت! كلمات كان ينبغي أن تجفف اللسان الذي نطق بها. وأنا؟ عندما اقتحم رجال سبتمبر السجون، أمسك سجين بسكين، واندس بين صفوف القتلة، وطعن بها قسيسا في صدره فأنقذوه! من يستطيع أن يعترض على هذا؟ وما الفرق بين أن أندس بين صفوف القتلة، أو أجلس في لجنة الإصلاح، أو أمسك بسكين المقصلة أو بمطواة؟ إنها نفس الحالة، ولكن الظروف هي التي تتعقد بعض الشيء، وتظل الأوضاع الأساسية واحدة لا تتغير. وما دام قد اغتال واحدا، ألم يكن من حقه أيضا أن يغتال اثنين وثلاثة وأكثر، وأين الحد الذي يتوقف عنده؟ وتأتي حبات القمح! هل تصنع حبتان كومة، أم ثلاثة أم أربعة؟ كم حبة إذن؟ تعال يا ضميري، تعالي يا دجاجتي، تعالي، بي! بي! بي! هذا هو علفك!
ومع ذلك، فهل كنت سجينا؟ لقد كنت مشبوها، وكلاهما في النهاية سيان، كان موتي مؤكدا! (يخرج.)
الكونسييرجيري
26
لاكروا - دانتون - فيليبو - كاميل
لاكروا :
أجدت الصراخ يا دانتون. لو أنك ناضلت من قبل من أجل حياتك لتغيرت أحوالنا الآن، ألست معي في هذا؟ إذن لما اقترب الموت منا بوقاحته، ولما فاحت رائحته النتنة من رقابنا، ولا راح يلح علينا ويزداد على الدوام إلحاحا؟
كاميل :
ليته اغتصب الواحد منا بالقوة، وانتزع فريسته من الأعضاء الدافئة بالصراع والكفاح! أما أن يلجأ إلى كل هذه الشكليات كما يحدث في زفاف امرأة عجوز، فتوقع العقود ويستدعى الشاهد، ويقال آمين، ويرفع اللحاف، وتتسلل العروس العجوز بأعضائها الباردة إلى الفراش!
دانتون :
ليته كان صراعا بالأذرع والأسنان! أما الآن فأحس كأنني سقطت في طاحونة، وأن قوى الطبيعة الباردة تلوث أعضائي ببطء ونظام! ما أتعس أن يموت الإنسان هذه الميتة الآلية!
كاميل :
ثم يرقد هناك وحيدا، باردا، مشدودا، يتصاعد حوله بخار الفساد الرطب. ربما كان الموت ينتزع الحياة من الأنسجة بالتعذيب البطيء، وربما كان الإنسان يفسد شيئا فشيئا وهو يشعر بكل شيء!
فيليبو :
اهدءوا يا أصدقائي! نحن كزهرة الخريف التي لا تحمل البذور إلا بعد أن ينقضي الشتاء، نحن لا نختلف عن الزهور التي تنقل من مكان إلى مكان إلا في أننا ننتن قليلا.
27
أيحزنكم هذا إلى هذا الحد؟
دانتون :
مستقبل مطمئن! من كومة روث إلى كومة قمامة! أليست هذه هي نظرية الطبقات الإلهية من الدرجة الأولى إلى الثانية، ومن الثانية إلى الثالثة وهكذا؟ لقد سئمت الجلوس على مقاعد التلاميذ، وتورم فخذي كالقرد من كثرة ما جلست عليهما.
فيليبو :
ماذا تريد إذن؟
دانتون :
الراحة.
فيليبو :
إنها عند الله.
دانتون :
بل في العدم. حاول أن تستغرق في شيء أكثر راحة وهدوءا من العدم، وإذا كانت الراحة القصوى هي الله، ألا يكون العدم هو الله؟ ولكنني ملحد. هذه الجملة الملعونة، يستحيل على الشيء أن يصبح عدما! وأنا شيء، وتلك هي الكارثة! لقد اتسعت الخليقة إلى حد أنه لم يبق فيها فراغ، بل امتلأ كل شيء وازدحم. قتل العدم نفسه والخليقة جرح ونحن قطرات الدم التي تسيل منه. العالم هو القبر الذي نفسد فيه. كل هذا يبدو ككلام المجانين، ولكن فيه شيئا من الحقيقة.
كاميل :
العالم كاليهودي الأبدي والعدم هو الموت، ولكنه مستحيل. آه لو امتنع الموت، لو امتنع الموت، كما تقول الأغنية.
دانتون :
نحن جميعا قد دفنا أحياء، ووضعنا كما يوضع الملوك في توابيت مثلثة ومربعة، تحت قبة السماء، في بيوتنا، في ستراتنا وقمصاننا. ونظل خمسين عاما بطولها نخدش غطاء التابوت. أجل! من استطاع أن يؤمن بالفناء فربما أراح نفسه! لا أمل في الموت، فليس إلا فسادا أبسط. أما الحياة فهي فساد أكثر تعقيدا وتنظيما. هذا هو الفارق الوحيد بينهما! غير أنني قد تعودت على هذا النوع من الفساد، ويعلم الشيطان وحده ماذا سأفعل مع نوع آخر! آه يا جولي! ماذا يحدث لي لو ذهبت وحدي! لو تركتني وحيدا! ولو تحللت تحللا كاملا لأصبحت حفنة من التراب المعذب، ولما وجدت كل ذرة من ذراتي الراحة إلا لديها. لا يمكنني أن أموت، لا، لا يمكنني أن أموت. عليهم أن ينتزعوا كل قطرة حياة من أعضائي انتزاعا!
حجرة
فوكييه - آمار - فولان
فوكييه :
ما عدت أدري كيف أرد عليهم. إنهم يطالبون بتأليف لجنة.
آمار :
لقد جمعنا الأوغاد، هاك ما تطلبه. (يناول فوكييه ورقة.)
فولان :
سيرضيهم هذا.
فوكييه :
حقا، لقد كنا في حاجة إليه.
آمار :
اجتهد الآن أن تزيح المسألة عنا وعنهم.
محكمة الثورة
دانتون :
الجمهورية في خطر، ويقول إنه ليست لديه تعليمات! نحن نتجه بندائنا إلى الشعب. إن صوتي ما زال قادرا على إلقاء خطب الوداع أمام جثث الرجال العشرة. إنني أكرر ما سبق أن قلته: نحن نطالب بلجنة، سنكشف عن أسرار هامة. إنني سأعتصم بقلعة العقل، وسأخرج منها وفي يدي مدفع الحقيقة، وسأسحق أعدائي. (علامات تأييد.) (يدخل فوكييه وآمار وفولان.)
فوكييه :
باسم الجمهورية أطالبكم بالهدوء واحترام القانون ! لقد قررت الجمعية ما يلي: نظرا لما ظهر في السجون من علامات العصيان، ونظرا لما ثبت من أن زوجتي دانتون وكاميل ستقومان بتوزيع النقود على أفراد الشعب، وأن الجنرال ديللون يدبر الهروب من السجن وقيادة المتمردين لتحرير المتهمين، ونظرا لأن هؤلاء قد حاولوا إثارة الشعب وإهانة المحكمة؛ فقد فوضت المحكمة بالاستمرار في نظر القضية واستبعاد كل متهم لا يحترم القوانين الاحترام الواجب.
دانتون :
إنني أسأل الحاضرين: هل أهنا المحكمة أو الشعب أو الجمعية الوطنية؟
أصوات كثيرة :
لا! لا!
كاميل :
السفلة! يريدون أن يقتلوا زوجتي لوسيل!
دانتون :
سيعلم الناس الحقيقة يوما ما. إنني أرى كارثة فظيعة تزحف على فرنسا. هذه هي الدكتاتورية. لقد مزقت قناعها، وهي الآن تشمخ بجبهتها وتخطو فوق جثثنا (مشيرا إلى آمار وفولان)
انظروا إلى القتلة الجبناء! انظروا غربان لجنة الإصلاح! أنا أتهم روبسبيير وسان جوست وجلاديهم بالخيانة العظمى. إنهم يريدون أن يغرقوا الجمهورية في بحر من الدماء. إن الآثار التي تتركها العربات المسرعة إلى المقصلة هي الطريق العريضة التي سينفذ منها الأجانب إلى قلب الوطن.
إلى متى تظل آثار أقدام الحرية قبورا. إنكم تريدون الخبز، وهم يلقون إليكم بالرءوس! إنكم تموتون من العطش وهم يطلبون منكم أن تلعقوا الدماء التي تسيل على درجات المقصلة! (حركة عنيفة بين جمهور الحاضرين، صيحات تأييد.)
أصوات كثيرة :
عاش دانتون! يسقط الرجال العشرة! (الحراس يخرجون المساجين بالقوة.)
أمام قصر العدالة
مجموعة من أفراد الشعب
بعض الأصوات :
يسقط العشرة! يحيا دانتون!
المواطن الأول :
حقا! الرءوس بدل الخبز، والدم بدل النبيذ!
بعض النساء :
المقصلة طاحونة سيئة، وشمشون خباز رديء. نريد الخبز! الخبز!
المواطن الثاني :
خبزكم التهمه دانتون. رأسه ستعيد الخبز إليكم جميعا. لقد كان معه الحق.
المواطن الأول :
كان دانتون معنا في العاشر من أغسطس، وكان معنا في سبتمبر. أين كان هؤلاء الذين يتهمونه اليوم؟
المواطن الثاني :
ولافاييت كان معكم في فرساي، وكان مع ذلك خائفا.
المواطن الأول :
من الذي يقول إن دانتون خائن؟
المواطن الثاني :
روبسبيير.
المواطن الأول :
وروبسبيير خائن أيضا!
المواطن الثاني :
من الذي يقول هذا؟
المواطن الأول :
دانتون.
المواطن الثاني :
دانتون يرتدي الثياب الجميلة، يسكن في بيت جميل، دانتون متزوج من امرأة جميلة، دانتون يستحم في نبيذ البرجوندر، ويأكل لحم الغزلان في أطباق فضية، وإذا سكر نام مع زوجاتكم وبناتكم. كان دانتون فقيرا مثلكم. لقد اشترى له الفيتو
28
كل هذا؛ لكي ينقذ تاجه. وأهداه أمير أورليانز كل هذا؛ لكي يسرق له التاج، وأعطاه الأجنبي كل هذا؛ لكي يخونكم جميعا. ماذا يملك روبسبيير؟ روبسبيير العفيف. إنكم جميعا تعرفونه.
الجميع :
يحيا روبسبيير! يسقط دانتون! يسقط الخائن!
الفصل الرابع
حجرة
جولي - غلام
جولي :
انتهى كل شيء. لقد ارتعشوا أمامه. سيقتلونه خوفا منه. اذهب! أعرف أنني رأيته لآخر مرة. قل له إنني لا أستطيع أن أراه وهو في هذه الحال. (تعطيه خصلة شعر)
خذ. أعطه هذه الخصلة، وقل له إنه لن يذهب وحده إلى هناك، هو يفهم ما أريد، ثم عد بسرعة لأقرأ نظراته في عينيك.
شارع
دوما - مواطن
المواطن :
كيف يمكن الحكم بالإعدام على كل هذا العدد من الأبرياء بعد استجواب كهذا؟
دوما :
هذا في الواقع شيء غير عادي، ولكن رجال الثورة لديهم إحساس لا يوجد عند غيرهم من الناس، وهذا الإحساس لا يخدعهم أبدا.
المواطن :
إنه إحساس النمر. أنت متزوج؟
دوما :
سأصبح عما قريب زوجا سابقا.
المواطن :
إذن فالخبر صحيح؟
دوما :
ستقضي محكمة الثورة بطلاقنا، وستفرق المقصلة بيننا على المائدة والفراش.
المواطن :
أنت متوحش.
دوما :
يا أبله! هل أنت معجب ببروتوس؟
المواطن :
من كل قلبي.
دوما :
هل يتحتم أن يكون المرء قنصلا رومانيا وأن يغطي رأسه بالتوجا
1
لكي يقدم حبيبه ضحية إلى الوطن؟ سوف أمسح عيني بكم بذلتي الرسمية الحمراء. هذا هو كل الفرق.
المواطن :
شيء مفزع!
دوما :
اذهب. إنك لا تفهمني! (ينصرفان.)
في الكونسييرجيري (لاكروا وهيرو راقدين على سرير، دانتون وكاميل على سرير آخر.)
لاكروا :
طالت شعورنا وأظفارنا إلى حد مخجل.
هيرو :
احترس قليلا. إنك تعطس في وجهي وتملؤه رملا!
لاكروا :
وأنت أيضا يا عزيزي، لا تدس على قدمي، فأصابعي متورمة!
هيرو :
وأنت تعاني كذلك من الحشرات.
لاكروا :
آه لو استطعت أن أتخلص من الديدان!
هيرو :
والآن، أتمنى لك نوما هادئا! إن المكان ضيق، وعلينا أن ننظر كيف يتسع لنا. لا تخدشني بأظافرك وأنا نائم! هكذا! لا تشد الكفن هكذا؛ فالدنيا برد!
دانتون :
أجل يا كاميل، غدا نصبح أحذية بالية، يقذفون بها في حجر الأرض
2
المتسولة.
كاميل :
أو جلد الثيران الذي تصنع منه الملائكة الشباشب التي تتخبط بها فوق الأرض، كما يقول أفلاطون. آه يا حبيبتي لوسيل! هذا هو مصيرنا!
دانتون :
اهدأ يا ولدي!
كاميل :
وهل أقدر؟ أتعتقد يا دانتون أنني أقدر على هذا؟ لا يمكنهم أن يضعوا أيديهم عليها! إن نور الجمال الذي يتدفق من جسدها العذب لن ينطفئ، والأرض لن تجرؤ أن تطمرها تحت التراب، بل سوف تجعل من نفسها قبوا يحيط بها، وبخار القبر سيلمع كالندى على رموشها، والبلور سيتألق كالأزهار حول أعضائها، والينابيع الصافية ستهمس في أذنيها وهي نائمة.
دانتون :
نم يا ولدي! نم!
كاميل :
اسمع يا دانتون، من التعاسة أن يفرض علينا الموت، ثم إنه لا يفيد في شيء. لا زالت لدي الرغبة في أن أسرق النظرات الأخيرة من عيني الحياة الجميلتين. أريد أن تظل عيناي مفتوحتين.
دانتون :
ستضطر أن تفتحهما على كل حال؛ فإن شمشون لا يغمض عيني أحد. النوم أرحم. نم يا ولدي! نم!
كاميل :
لوسيل! قبلاتك تداعب شفتي كالخيال. كل قبلة تصبح حلما تضمه عيناي بشدة.
دانتون :
ألا تريد الساعة أن تهدأ؟ إن كل دقة تضيق الجدران علي شيئا فشيئا حتى تصبح خانقة كالتابوت. عندما كنت طفلا قرأت حكاية كهذه، ووقف شعري كالجبل. نعم! عندما كنت طفلا! أكان شيئا يستحق العناء أن أتغذى وأكبر وأتدفأ. كل هذا الجهد من أجل حفار القبور! يخيل لي الآن كأنني أشم رائحتي. يا جسدي العزيز! أريد أن أسد أنفي وأتصورك امرأة رقصت كثيرا، فتصبب منها العرق وصعدت رائحتها الكريهة، وأريد أن أداعبك وأهمس لك بأشياء عجيبة. كم تعودنا أن نقضي الوقت معا ونتسلى أكثر مما نفعل الآن. غدا ستكون كمانا مكسورا، ماتت الألحان عليه. غدا ستصبح زجاجة فارغة نفد ما فيها من نبيذ، غير أنني لم اسكر منه، وسأذهب إلى فراشي وأنا يقظ الحواس. ما أسعد الذين لا يزال في قدرتهم أن ينتشوا بالخمر! غدا ستكون سروالا باليا، يلقى بك في دولاب الملابس، وتفترسك العثة، وتنتن رائحتك كما تشاء!
آه! كل هذا لا نفع منه! أجل! من التعاسة أن يفرض الموت على الإنسان. الموت يهزأ بالميلاد، وعندما نموت نعود عرايا عاجزين كالولدان الصغار. صحيح أنهم يلفوننا في الكفن، ولكن ما الفائدة؟ ربما نتأوه في اللحد كما تأوهنا في المهد.
كاميل :
لقد نام (وهو ينحني عليه) . الحلم يداعب أجفانه. لا، لا أريد أن أمسح حبات الندى الذهبية عن عينيه. (ينهض واقفا ويتجه إلى النافذة)
لن أذهب وحدي. أشكرك يا جولي! ومع ذلك فقد كنت أفضل أن أموت ميتة أخرى بلا جهد أو عناء، كما يسقط النجم أو يخمد نغم أو يقتل إنسان نفسه من القبل، يدفن شعاع نفسه في المياه الصافية النجوم منثورة في الليل كأنها دموع متألقة، لا بد أن تكون العين التي تترقرق منها حزينة حزنا لا يوصف.
كاميل :
آه! (يقف في فراشه ويتلمس السقف.)
دانتون :
ماذا بك يا كاميل؟
كاميل :
آه! آه!
دانتون (يهزه بشدة) :
أتريد أن تسقط السقف علينا؟
كاميل :
آه! أنت! أنت! أمسكني! تكلم!
دانتون :
كل أعضائك تهتز. العرق يتصبب على جبينك.
كاميل :
هذا أنت، وهذا أنا، هذه يدي! نعم نعم! الآن تذكرت. آه يا دانتون! لقد كان شيئا مفزعا.
دانتون :
وما هو إذن؟
كاميل :
كنت أرقد بين الحلم واليقظة، اختفى السقف، وتدلى القمر، واقترب مني حتى أمسكت يدي به. هبط سقف السماء بكل أضوائه، اصطدمت به، تحسست النجوم، تخبطت كالغريق تحت السقف الثلجي. كان شيئا مفزعا يا دانتون!
دانتون :
إن المصباح يلقي ضوءه الدائري على السقف. ربما كان هذا هو الذي رأيته.
كاميل :
ليكن ما يكون! إن أهون شيء يمكن أن يفقدنا القليل من العقل الذي بقي لنا. لقد شدني الجنون من شعري . (يقف)
لا أريد أن أنام، لا أريد أن أجن. (يمد يده إلى كتاب.)
دانتون :
ما هذا؟
كاميل :
خواطر الليل.
دانتون :
أتريد أن تموت قبل الموت؟ أما أنا فسأقرأ في العذراء الطاهرة،
3
لا أريد أن أغادر الحياة كما لو كنت أتسلل من كرسي الصلاة، بل كما لو كنت أتسلل من فراش راهبة رحيمة. إن الحياة عاهرة، ترتكب الفحشاء مع العالم كله.
ميدان أمام الكونسييرجيري
سجان - سائقان ومعهما العربات - نساء
السجان :
من الذي دعاك أن تسوق العربة إلى هنا؟
السائق 1 :
أن لا أدعى سوقيا.
4
هذا اسم غريب.
السجان :
يا غبي! من الذي عينك لهذا؟
السائق 1 :
أنا لم آخذ أي تعيين، اللهم إلا عشرة «سو»
5
عن كل رأس.
السائق 2 :
يريد الوغد أن يقطع عيشي.
السائق 1 :
وهل تسمي هذا عيشا؟ (مشيرا إلى نوافذ المساجين)
إنه أكل الدود.
السائق 2 :
أطفالي أيضا ديدان، وهم يريدون نصيبهم. آه! إن صنعتنا ساءت مع أننا من أحسن السائقين.
السائق 1 :
وكيف هذا؟
السائق 2 :
من هو أحسن سائق؟
السائق 1 :
هو الذي يقطع أبعد مسافة، ويسير بأقصى سرعة.
السائق 2 :
والآن يا حمار، هل هناك من يقطع مسافة أبعد ممن يبعد بركابه عن العالم؟ وهل هناك من يسير أسرع ممن يقطع المسافة في ربع ساعة؟ إنها ربع ساعة بالضبط من هنا إلى ميدان الثورة.
السجان :
أسرعوا يا أوغاد! اقتربوا من البوابة. أفسحن المكان يا بنات!
السائق 1 :
لا تغيرن أماكنكن. لا يجب أن يلف الإنسان ويدور حول البنت، بل يجب أن يقتحمها.
السائق 2 :
أجل، هذا رأيي أنا أيضا، يمكنك أن تنفذ بالعربة والخيول، وستجد السكة معبدة، ولكن إذا أردت أن تنفد بجلدك، فيجب أن تفرض الحجر الصحي. (يتقدمان بعرباتهما.)
السائق الثاني (للنساء) :
فيم تبحلقن هكذا؟
امرأة :
ننتظر زبائن قديمة.
السائق الثاني :
هل تحسبن عربتي ماخورا؟ إنها عربة نظيفة، نقلت الملك وكل سادة باريس الكبار إلى المائدة.
لوسيل (تظهر على المسرح وتجلس على حجر تحت نافذة المساجين) :
كاميل! كاميل! (يظهر كاميل في النافذة)
اسمع يا كاميل! أنت تضحكني بهذا الرداء الطويل الضخم والقناع الحديدي على وجهك. ألا تستطيع أن تنحني؟ أين ذراعاك؟ أريد أن أصيدك، يا عصفوري العزيز. (تغني) :
نجمان في السماء
أبهى من القمر؛
فواحد يضيء
نافذة الحبيب،
وواحد ينير
أمام بابه.
تعال، تعال يا صديقي! اطلع على السلالم بهدوء؛ فهم جميعا نائمون. القمر يساعدني من مدة طويلة على الانتظار، ولكن لا يمكنك أن تدخل من الباب؛ فهذه الملابس فظيعة. هذا مزاح سخيف، لا بد أن تضع له حدا! ولكنك لا تتحرك. لماذا لا تتكلم؟ إنك تخيفني.
اسمع. الناس يقولون: لا بد أن تموت، ويكشرون وجوههم. تموت! يجب أن أضحك على هذه الوجوه. الموت! ما معنى هذه الكلمة؟ قل لي ما معناها يا كاميل؟ الموت! أريد أن أفكر. ها هو! ها هو! أريد أن أجري وراءه. تعال يا صديقي الحبيب، ساعدني على صيده! تعال! تعال! (تجري.)
كاميل (ينادي) :
لوسيل! لوسيل!
الكونسييرجيري
كاميل - فيليبو - لاكروا - هيرو (دانتون يطل من نافذة تكشف الحجرة المجاورة.)
دانتون :
أنت الآن هادئ يا فابر.
صوت (من الداخل) :
في النزع الأخير.
دانتون :
هل تعلم أيضا، ماذا ستفعل الآن؟
الصوت :
ماذا؟
دانتون :
ما فعلته الديدان
6
طول حياتك.
كاميل (لنفسه) :
كان الجنون يطل من عينيهما. كثيرون جنوا من قبل. هذا حلم العالم. هل نملك تغييره؟ إنا نغسل أيدينا، وهذا هو الأفضل أيضا.
دانتون :
سأترك كل شيء في اضطراب فظيع. لا أحد يفهم شيئا عن الحكم. ربما ينفعهم أن أترك عاهراتي لروبسبيير، وسيقاني لكوتون.
لاكروا :
كان ينبغي علينا أن نجعل من الحرية عاهرة!
دانتون :
وما جدوى هذا أيضا؟ إن الحرية والعاهرة هما أعم الأشياء تحت الشمس، وسوف تفجر الآن وتزني في فراش محامي أرا،
7
ولكني أعتقد أنها ستلعب معه دور كليتامنيسترا.
8
سأعطيه مهلة لن تزيد عن ستة أشهر، وسأشده معي.
كاميل (لنفسه) :
فلتوفقها السماء إلى فكرة ثابتة مريحة. إن الأفكار الثابتة العامة التي يسمونها العقل السليم مملة إلى حد فظيع. أسعد إنسان هو ذلك الذي تصور أنه الأب والابن والروح القدس.
لاكروا :
سيهتف الحمير عندما نمر بهم قائلين: تحيا الجمهورية!
دانتون :
وأي شيء في هذا؟ ليقذف طوفان الثورة جثثنا حيث يشاء، فسوف يستطيع الناس دائما أن ينقبوا عن عظامنا ويقطعوا بها رقاب جميع الملوك.
هرو :
نعم، إن وجد شمشون يعرف كيف يستخدم فكوكنا.
دانتون :
إنهم أشقاء قابيل.
لاكروا :
لا شيء يثبت أن روبسبيير كنيرون
9
مثل أنه لم يتلطف أبدا مع كاميل، كما فعل قبل القبض عليه بيومين. أليس كذلك يا كاميل؟
كاميل :
وماذا يهمني من هذا؟ (لنفسه)
يا له من طفل ساحر ولدته للجنون! لماذا يتحتم علي الآن أن أذهب؟ ألم يكن من الممكن أن نضحك معه ونهدهده ونقبله معا؟!
دانتون :
عندما يأتي اليوم الذي يفتح فيه التاريخ قبوره، فسوف يختنق الاستبداد دائما من رائحة جثثنا.
هيرو :
لقد صعدت روائحنا النتنة بما فيه الكفاية في أثناء حياتنا. إنها عبارات للأجيال المقبلة، أليس كذلك يا دانتون؟ وهي في الواقع لا تعنينا في شيء.
كاميل :
إنه يضع تكشيرة على وجهه، كأنه يريد أن يتحجر ليكتشفه الأثريون في العصور المقبلة! أهو شيء يستحق العناء أن يتكلف الإنسان الكلام ويصبغ وجهه باللون الأحمر ويتكلم بنبرة مهذبة؟ علينا أن ننزع الأقنعة يوما عن وجوهنا، ولن نرى عندئذ - كما لو كنا في حجرة كل جدرانها مرايا - إلا رءوس الخراف
10
العتيقة العاطلة من الأسنان التي لا تتغير في أي مكان لا أكثر من ذلك ولا أقل. إن الفروق بيننا ليست كبيرة بقدر ما تتصور؛ فنحن جميعا أوغاد وملائكة، أغبياء وعباقرة، وكل هذا في وقت واحد. وهذه الأشياء الأربعة تجد مكانا يكفيها في الجسد الواحد، فهي ليست بالاتساع بقدر ما نتخيل. إن الجميع ينامون ويهضمون وينجبون الأطفال، وكل ما عدا ذلك فهو متنوعات على لحن واحد. ما حاجتنا إذن أن نقف على أطراف أصابعنا ونضع سحنة ملفقة على وجوهنا، ونتظاهر بأننا نستحيي من بعضنا البعض؟ لقد أكلنا جميعا على نفس المائدة حتى مرضنا وأصبنا بالمغص، فما الذي يدعوكم أن تضعوا الفوط أمام وجوهكم؟ اصرخوا وصيحوا كما ينبغي لكم! لا تضعوا سحنة الفضيلة والظرف والبطولة والعبقرية على وجوهكم، فنحن نعرف بعضنا حق المعرفة ، وفروا هذا الجهد على أنفسكم!
هيرو :
أجل يا كاميل، نريد أن نجلس بجانب بعضنا البعض ونصرخ، وليس هناك أغبى من أن يطبق الإنسان شفتيه بينما يضنيه الألم. لقد صرخ الإغريق وصرخت الآلهة، أما الرومان والرواقيون فقد تظاهروا بالبطولة.
دانتون :
كان هؤلاء وأولئك أبيقوريين على حد سواء. لقد وجدوا راحتهم في الشعور بالاعتداد بالنفس. لا بأس من أن يرتدي الإنسان ثوبه الفضفاض،
11
ويتلفت حوله ليرى إن كان يلقي خلفه ظلا طويلا. ما جدوى أن نتزين؟ وما الفرق بين أن نضع على عورتنا أوراق الغار أو أكاليل الورد أو ورق العنب أو نكشف الشيء القبيح ونترك الكلاب تلعقه؟
فيليبو :
يا أصدقائي! ليس من الضروري أن يرتفع الإنسان فوق الأرض لكيلا يرى شيئا من أضوائها المضطربة المرتعشة، ويملأ عينه من بعض الخطوط الإلهية الرائعة. هناك آذان ينسكب فيها الصراخ والعويل الذي يصم آذاننا كأنه لحن منسجم.
دانتون :
ولكننا نحن الموسيقيين المساكين، وأجسامنا هي الآلات، ألم توجد الأنغام البشعة التي يخبطونها عليها إلا لكي تصعد شيئا فشيئا إلى الآذان السماوية؛ لكي تخمد شيئا فشيئا ثم تموت هناك؟
هيرو :
هل نحن كالخنازير الصغيرة التي يجلدونها حتى الموت؛ لكي يكون لحمها ألذ طعما على موائد الملوك والأمراء؟
دانتون :
أم نحن كالأطفال الذين يشويهم هذا الجبار الرهيب
12
بين ذراعيه، ويدغدغهم بأشعة الضوء؛ لكي يسر الآلهة بضحكاتهم؟
كاميل :
وهل الأثير بعيونه الذهبية طبق مملوء بالشبوط الذهبي موضوع على مائدة الآلهة المباركين، فيضحك الآلهة المباركون إلى الأبد، وتموت الأسماك إلى الأبد، ويفرح الآلهة فرحا أبديا بهذا الصراع الدموي المتنوع الألوان؟
دانتون :
العالم هو العماء، والعدم هو الإله الذي يناسب الكون. (يدخل السجان.)
السجان :
سادتي، العربات واقفة أمام الباب، يمكنكم أن تمضوا الآن.
فيليبو :
تصبحون على خير يا أصدقاء! فلنسحب اللحاف الكبير علينا ونحن مطمئنون، اللحاف الذي تتوقف تحته كل القلوب وتغمض كل العيون. (يعانقون بعضهم.)
هيرو (يتأبط ذراع كاميل) :
افرح يا كاميل؛ فستكون ليلتنا جميلة. السحب معلقة على صفحة المساء كأنها الأوليمب الذي انطفأ بريقه، فتراءت فيه خيالات الآلهة شاحبة محزونة. (يخرجون.)
حجرة
جولي :
كان الشعب يجري في الأزقة. هدأ الآن كل شيء، لا أريد منه أن ينتظرني لحظة واحدة (تخرج زجاجة)
تعال يا أحب الكهنة، يا من يقول «آمين» فنذهب إلى الفراش. (تتجه إلى النافذة)
ما أجمل الوداع! لم يبق إلا أن أغلق الباب ورائي. (تشرب من الزجاجة.)
ليتني أقف هكذا إلى الأبد! الشمس غابت. كان نورها يسقط على وجه الأرض فيجعل ملامحه حادة، ولكن وجهها الآن هادئ وجاد كوجه إنسان يحتضر. ما أجمل ضوء المساء وهو يعبث بجبهتها وخديها! إن لونها يشحب شيئا فشيئا فتغوص كالجثة في بحر الأثير. ألن تمتد إليها ذراع فتشدها من خصلات شعرها الذهبي، وتخرجها من الماء وتواريها للتراب؟
أنا أمشي في خطوات هادئة. لن أقبلها حتى لا يوقظها من نعاسها نفس ولا تنهيدة. نامي! نامي! (تموت.)
ميدان الثورة (تصل العربات إلى ميدان الثورة وتقف أمام المقصلة. رجال ونساء يغنون ويرقصون على أغنية الثورة. المساجين ينشدون النشيد الوطني «المرسيلييز».)
امرأة (تحمل أطفالا على ذراعها وصدرها) :
أفسحوا مكانا! أفسحوا مكانا! الأطفال يصرخون من الجوع.
13
لا بد أن يتفرجوا حتى يسكتوا! أفسحوا مكانا!
امرأة :
ها! دانتون! تستطيع الآن أن تفجر مع الديدان.
امرأة :
وأنت يا هيرو! سأصنع من شعرك الجميل باروكة.
هيرو :
أنا لا أملك الأشجار التي تكفي لجبل فينوس الأجرد.
14
كاميل :
أيتها العجائز الملاعين! سوف تصرخن عن قريب: «أيتها الجبال، اسقطن فوقنا!»
امرأة :
ليسقط الجبل
15
فوقكم! أنتم الذين سقطتم تحته.
دانتون (لكاميل) :
اهدأ يا ولدي! لقد بح صوتك من الصياح.
كاميل (يعطي للسائق بعض النقود) :
خذ يا خارون
16
العجوز أجرة عربتك. طبق لا بأس به! سادتي! أحب أن أكون أول من يبدأ الوجبة! هذه مأدبة كلاسيكية. إننا نرقد في أماكننا ونسكب بعض الدماء تكريما للآلهة. الوداع يا دانتون! (يصعد إلى المقصلة. المساجين يتبعونه واحدا بعد الآخر. دانتون آخرهم.)
لاكروا (للشعب) :
لقد قتلتمونا يوم فقدتم عقلكم، وسوف تقتلونهم يوم تستردونه.
أصوات :
سمعنا هذا من قبل. يا للملل!
لاكروا :
ستكسر رقاب الطغاة فوق قبورنا.
هيرو (لدانتون ) :
إنه يحسب جثته مزبلة الثورة.
فيليبو (وهو على المقصلة) :
إنني أسامحكم، وأرجو ألا تكون ساعة موتكم أمر من ساعتي.
هيرو :
كنت أتوقع هذا! إنه لا يستطيع أن ينسى أن يمد يده في صدره؛ ليرى الناس أن ملابسه الداخلية نظيفة.
فابر :
وداعا يا دانتون! إنني أموت مرتين.
دانتون :
وداعا يا صديقي! المقصلة خير طبيب.
هيرو (يريد أن يعانق دانتون) :
آه يا دانتون! لقد أصبحت عاجزا عن إخراج نكتة واحدة! لقد آن الأوان. (يدفعه أحد الجلادين بعنف.)
دانتون (للجلاد) :
أتريد أن تكون أقسى من الموت؟ أتستطيع أن تمنع رءوسنا من تقبيل بعضها في قاع السلة؟!
شارع
لوسيل :
كأن الأمر جد. أريد أن أفكر. بدأت أفهم شيئا كهذا. الموت! الموت! كل شيء من حقه أن يعيش، كل شيء؛ البعوضة، والعصفور. ولماذا لا يعيش هو أيضا؟ كان يجب أن يتوقف تيار الحياة، لو انسكبت قطرة دم واحدة. كان يجب أن تجرح الأرض من طعنة واحدة. كل شيء يتحرك؛ الساعات تدور، النواقيس تدق، الناس يمشون، الماء يجري. وكل شيء يسير حتى يصل إلى هناك، إلى هناك. لا، لا يجب أن يحدث ذلك. لا، سأجلس على الأرض وأصرخ حتى يتوقف كل شيء من الرعب. يتوقف كل شيء. لا يتحرك شيء. (تجلس على الأرض وتغطي عينيها وتصرخ صرخة مفجعة. تنهض واقفة بعد فترة صمت.)
لا فائدة! كل شيء كما هو؛ البيوت، الأزقة، الريح تهب، السحب تمر. علينا أن نتحمل هذا العذاب. (بعض النسوة يظهرن قادمات من الزقاق.)
المرأة الأولى :
هيرو! يا له من رجل فتان!
المرأة الثانية :
عندما رأيته في عيد الدستور واقفا تحت قوس النصر، قلت لنفسي سيكون منظره تحت المقصلة عجيبا. كانت مجرد فكرة خطرت على بالي.
المرأة الثالثة :
نعم، يجب أن نرى الناس في كل الظروف، رائع أن يصبح الموت شيئا علنيا. (تخرجن.)
لوسيل :
يا حبيبي كاميل، أين أجدك الآن؟
ميدان الثورة (جلادان مشغولان بالعمل في تنظيف المقصلة.)
الجلاد الأول (يقف فوق المقصلة ويغني) :
وحين أعود لبيتي
يبدو القمر جميلا.
الجلاد الثاني :
هيه! هل أوشكت أن تنتهي؟
الجلاد الأول :
حالا، حالا. (يغني) :
ويضيء القمر لجدي،
فيراني من نافذته،
ويقول بصوت عال:
ولدي، هل عدت أخيرا
للبيت من الماخور؟
هكذا! ناولني سترتي! (ينصرفان وهما يغنيان.)
وحين أعود لبيتي
يبدو القمر جميلا.
لوسيل (تظهر على المسرح وتجلس على درجات المقصلة) :
ها أنا ذا أجلس على حجرك، يا ملاك الموت الرحيم. (تغني) :
الموت جلاد،
وسيفه ظامي.
أنت أيها المهد الجميل، يا من هدهدت حبيبي كاميل لينام، وخنقته تحت أنفاس زهورك. أنت يا ناقوس الموت، يا من غنيت له بلسانك العذب حتى دخل القبر. (تغني):
ويحصد الآلاف
بالمنجل الدامي. (تظهر دورية من الحراس.)
مواطن :
هه! من هناك؟!
لوسيل (تفكر قليلا وكأنها تصمم على قرار ثم تهتف فجأة) :
عاش الملك!
مواطن :
باسم الجمهورية! (يحيط بها الحراس ويقتادونها.)
ليونس ولينا
تقديم
ألفييري: والمجد؟
جوتزي: والجوع؟
1
الشخصيات
الملك بيتر:
من مملكة بوبو.
الأمير ليونس:
ابنه وخطيب لينا.
لينا:
من مملكة بيبي.
فاليريو.
المربية.
رئيس التشريفات.
رئيس الوزراء.
واعظ البلاط.
أعضاء مجلس الوزراء.
المدرس.
روزيتا.
خدم - وزراء - فلاحون ... إلخ.
الفصل الأول
يا ليتني كنت أحمق
فلست أطمع إلا
في سترة حمراء ... (كما تهواه لشكسبير)
المشهد الأول
بستان - ليونس مستريحا على إحدى الأرائك - المعلم
ليونس :
سيدي، ماذا تريد مني؟ أتريد أن تعدني لمهام وظيفتي؟ إن يدي مزدحمتان بالعمل، ولا أدري كيف أتصرف. انظر، إن علي أولا أن أبصق على هذا الحجر ثلاثمائة وخمسا وستين مرة متتالية. ألم تجرب ذلك بعد؟ حاول وسوف ترى أنه يضمن لك تسلية فريدة. ثم هل ترى هذه الحفنة من الرمال؟ (يتناول حفنة من الرمل ويلقي بها في الهواء ثم يتلقاها بظهر يده.)
ها أنا ذا ألقي بها في الهواء. أتحب أن نتراهن؟ كم حبة من الرمل على ظهر يدي الآن؟ عدد زوجي أم فردي؟ ماذا؟ ألا تريد أن تدخل في الرهان؟ هل أنت وثني؟ هل تؤمن بالله؟ إنني في العادة أتراهن مع نفسي وأستطيع أن أفعل ذلك طوال أيام عديدة. إذا استطعت أن تقنع إنسانا يلمس في نفسه الرغبة في أن يدخل معي أحيانا في رهان، فستؤدي إلي خدمة مشكورة. ثم إن علي أن أتفكر كيف يكون حالي لو أمكنني أن أرى نفسي واقفا على رأسي. آه! لو استطاع الإنسان أن يرى نفسه وهو واقف على رأسه! هذا هو أحد المثل العليا التي أسعى إليها. لو تم هذا لساعدني كثيرا. ثم - ثم أحلام من هذا النوع لا نهاية لها - أترى أنني لا أجد ما أعمله؟ أليس لدي الآن عمل أقوم به؟ نعم، إنه لشيء محزن ...
المعلم :
محزن جدا، يا صاحب السمو.
ليونس :
السحب تزحف منذ ثلاثة أسابيع من الغرب إلى الشرق. هذا شيء يجعلني في منتهى الاكتئاب.
المعلم :
اكتئاب له ما يبرره يا صاحب السمو.
ليونس :
أف! لماذا توافقني دائما؟ لماذا لا تعارض كلامي؟ لديك أعمال ملحة، أليس كذلك؟ يؤسفني أنني عطلتك كل هذا الوقت. (يبتعد المعلم بعد أن ينحني انحناءة شديدة)
سيدي، أهنئك على القوس الجميل
1
الذي تصنعه ركبتاك عندما تنحني.
ليونس (وحده، يتمدد على الأريكة) :
النحل يرقد في كسل على الزهور، وضوء الشمس يرقد في خمول على الأرض، وفراغ مفزع ينتشر حولي، الفراغ هو أصل كل الرذائل، ما أكثر ما يفعله الناس بدافع الملل! إنهم يدرسون لإحساسهم بالملل، ويصلون لشعورهم بالملل، والملل هو الذي يجعلهم يحبون ويتزوجون ويتكاثرون، وفي النهاية يموتون من الملل، وهم يفعلون ذلك كله - وهذا هو مبعث الضحك في الأمر كله - بنفس الوجوه الجادة الصارمة، دون أن يعرفوا سببا لذلك، والله وحده يعلم لماذا. كل هؤلاء الأبطال، هؤلاء العباقرة، والأغبياء، والقديسون، والمذنبون، والآباء ليسوا في الحقيقة إلا متبطلين فارغين. ولكن لماذا كتب علي أن أعرف ذلك؟ لماذا لا أصبح مهما مثلهم وألبس الدمية المسكينة سترة السهرة السوداء وأعطيها مظلة واقية من المطر تضعها في يدها، حتى تصير متأنقة نافعة وطيبة الخلق؟ هذا الرجل الذي انصرف الآن عني، كم أحسده، وكم وددت لو استطعت أن أعبر عن حسدي بعلقة أعطيها له! آه لو كان في استطاعة الإنسان أن يتحول شخصا آخر، ولو لدقيقة واحدة ! (يظهر فاليريو وهو سكران قليلا)
هذه المشية التي يمشيها! ليتني أعرف شيئا تحت الشمس يدفعني أنا أيضا على المشي!
فاليريو (يقف في مواجهة الأمير، ويضع أصبعه على أنفه ويبحلق في وجهه) :
نعم!
ليونس (في مثل لهجته) :
صحيح!
فاليريو :
هل قصدتني؟
ليونس :
بالضبط ...
فاليريو :
تريد إذن أن نتحدث عن شيء آخر (يرقد على العشب)
سوف أستلقي في هذه الأثناء على العشب، وأترك أنفي تزدهر بين رءوس الأعشاب، وأستمد منها إحساسات رومانتيكية حين أجد النحل والفراشات تهتز فوقها كما تهتز فوق زهرة.
ليونس :
ولكن لا تتنشق يا عزيزي بكل هذه القوة، وإلا تضور النحل والفراش جوعا لكثرة الروائح التي تشدها من الزهور.
فاليريو :
آه يا سيدي! ما أعجب هذا الإحساس الذي أحمله للطبيعة! لقد بلغ العشب من الجمال درجة يتمنى معها الإنسان أن يكون ثورا لكي يستطيع أن يفترسه، ثم يتمنى أن يعود فيتحول إنسانا لكي يأكل الثور الذي افترس مثل هذا العشب!
ليونس :
أيها الشقي! يبدو أنك تعذب نفسك أيضا بالمثل العليا.
فاليريو :
إنها مصيبة فادحة! فلا يستطيع الإنسان أن يقفز من فوق برج كنيسة بغير أن تكسر رقبته. ولا يستطيع أن يأكل أربعة أرطال من الكرز بغير أن يصيبه المغص. انظر يا سيدي، إن في استطاعتي أن أجلس في زاوية وأغني من المساء حتى مطلع الصبح «هاي، هناك ذبابة على الحائط! ذبابة على الحائط! ذبابة على الحائط»، وهكذا إلى آخر لحظة في حياتي.
ليونس :
كف عن أغنيتك السخيفة، إن الإنسان يكاد يجن عند سماعها.
فاليريو :
إذن لأصبح الإنسان شيئا. مجنون! مجنون! من ذا الذي يحب أن يأخذ مني عقلي ويعطيني جنونه؟ ها! أنا الإسكندر الأكبر! الشمس تسطع في شعري كأنها تاج من الذهب، وما أجمل ما تلمع بذلتي العسكرية! أيتها الجرادة! أنت القائد الأعلى! دعي القوات تتقدم! أيها العنكبوت! أنت وزير المالية! أنا في حاجة إلى مال! وأنت أيتها الفراشة! يا وصيفتي العزيزة! كيف حال زوجتي العزيزة الفاصوليا؟ وأنت أيها الذباب الإسباني! يا طبيبي الخاص ذراح!
2
أنا في حاجة إلى ولي للعهد! ومع هذه الخيالات اللذيذة يحصل الإنسان على شربة ممتعة، ولحم طيب، وخبز لذيذ، وفراش ناعم، ويحلق شعره مجانا - أعني في مستشفى المجانين - بينما أنا بعقلي السليم لا أصلح إلا لتسميد شجرة كرز، لكي؟ ... لكي؟ ...
ليونس :
لكي تجعل حبات الكرز تتساقط من ثقوب سروالك حمراء من الخجل! ولكن أيها العزيز، ماذا عن صنعتك، مهنتك، حرفتك، مركزك، فنك؟
فاليريو (في كبرياء) :
سيدي، إن شغلي الأكبر هو الصعلكة! وبراعتي التي لا نظير لها هي ألا أعمل شيئا، وعندي الصبر الهائل على الكسل ... ما من عمل أهان كفي بالشقوق، ولا شربت الأرض قطرة عرق من جبهتي، فما زلت عذريا من ناحية العمل، ولولا أن الأمر يكلفني من الجهد فوق طاقتي، لبذلت جهدي في شرح هذه المآثر كلها لك.
3
ليونس (في حماس مضحك) :
تعال إلى صدري! ألست واحدا من الإلهيين الذين يجوبون طريق الحياة خلال العرق والتراب بغير عناء وبجبهة صافية، ويدخلون إلى الأوليمب بأقدام لامعة وأجساد زاهية كأنهم آلهة مباركون؟ تعال! تعال!
فاليريو (يغني وهو ينصرف) :
هاي! هناك ذبابة على الحائط! ذبابة على الحائط! ذبابة على الحائط! (ينصرفان وكلاهما ممسك بذراع الآخر.)
المشهد الثاني
غرفة (الملك بيتر يساعده خادمان على ارتداء ملابسه.)
بيتر (والخادمان يلبسانه ثيابه) :
من الواجب على الإنسان أن يفكر، وواجبي أن أفكر لرعيتي، لأنهم لا يفكرون، لا يفكرون. الجوهر هو الموجود في ذاته، وهذا هو أنا.
4 (يتجول في الغرفة شبه عار)
مفهوم؟ في ذاته هو في ذاته، أتفهمون؟ الآن تأتي صفاتي، وأحوالي، وانفعالاتي، وأغراضي: أين قميصي؟ أين سروالي؟ قف! الإرادة الحرة مفتوحة تماما. أين الأخلاق؟ أين الأساور؟ المقولات في ارتباك مخجل، لقد أحكم زراران أكثر من اللازم، العلبة في الجيب الصحيح، مذهبي كله انهار. ها! ما معنى هذا الزرار الموضوع في المنديل؟ أنت يا غلام! ما معنى هذا الزرار، ما الذي أردت أن أذكر به نفسي؟
الخادم الأول :
عندما شاءت إرادة جلالتكم أن تضعوا هذا الزرار في منديلكم، كنتم تريدون ...
الملك :
ماذا كنت أريد؟
الخادم الأول :
أن تتذكروا شيئا .
بيتر :
جواب محير! والآن، ماذا تقصد؟
الخادم الثاني :
أردتم جلالتكم أن تتذكروا شيئا، عندما شاءت إرادة جلالتكم أن تضعوا الزرار في منديلكم.
بيتر (يذرع الغرفة جيئة وذهابا) :
ماذا! ماذا؟ إنهم يحيرونني. إنني في أشد الارتباك ... لست أدري ماذا أفعل. (يظهر أحد الخدم.)
الخادم :
يا صاحب الجلالة، لقد اجتمع مجلس الوزراء.
بيتر (فرحا) :
نعم، هو ذاك، هو ذاك! لقد أردت أن أتذكر شعبي. تعالوا يا سادتي! اجعلوا خطواتكم متناسقة. أليس الجو شديد الحرارة؟ أخرجوا مناديلكم وامسحوا بها وجوهكم! إنني أصاب دائما بالارتباك حين أتحدث في اجتماع عام. (ينصرف الخدم. الملك، الوزراء.)
بيتر :
يا أحبائي وأعزائي، أردت بهذا الاجتماع أن أخبركم وأنهي إلى علمكم، أن أخبركم وأنهي إلى علمكم، ذلك أنه إما أن يتزوج ابني، وإما ألا يتزوج (يضع أصبعه على أنفه) . إما أو، أنتم تفهمونني بطبيعة الحال؟ وليس هناك أمر ثالث. الواجب على الإنسان أن يفكر (يقف لحظة متفكرا)
عندما أتحدث بصوت مرتفع لا أدري عندئذ إن كنت أنا الذي أتحدث أو شخص آخر سواي، إن ذلك يفزعني ... (بعد فترة من التفكير الطويل)
أنا هو أنا، ما رأيك في هذا، يا سيادة الرئيس؟
الرئيس (في بطء وتثاقل) :
يا صاحب الجلالة، ربما كان الأمر كذلك، ولكن ربما لم يكن أيضا كذلك.
الوزراء (جميعا في صوت واحد) :
نعم، ربما كان الأمر كذلك، ولكن ربما لم يكن أيضا كذلك.
بيتر (في تأثر) :
آه يا حكمائي! فيم إذن كنت أتحدث؟ عن أي شيء كنت أريد أن أتكلم؟ يا سيادة الرئيس، لم كانت ذاكرتك ضعيفة كل هذا الضعف في مثل هذا الحفل العام؟ رفعت الجلسة. (يبتعد في مظاهرة فخمة ووراءه الوزراء.)
المشهد الثالث (قاعة رائعة الزينة - شموع تحترق.) (ليونس مع بعض الخدم.)
ليونس :
هل أسدلت جميع الستائر؟ أوقدوا الشموع! ليذهب النهار إلى غير رجعة! أريد الليل. الليل الإلهي، المعطر، العميق.
5
ضعوا المصابيح تحت الكئوس البلورية في زهور الدفلي، حتى تحلم مثل عيون العذارى تحت رموش الأوراق. قربوا الزهور، حتى تفيض الخمر كقطرات الندى من الكئوس. موسيقى ! أين الكمنجات! أين روزيتا؟ اذهبوا، اخرجوا جميعا! (ينصرف الخدم. ليونس يتمدد على سرير، تدخل روزيتا في رداء رشيق، تسمع موسيقى من بعيد.)
روزيتا (تقترب مداعبة) :
ليونس!
ليونس :
روزيتا!
روزيتا :
أوه!
ليونس :
آه يا روزيتا. أمامي عمل فظيع ...
روزيتا :
وما هو؟
ليونس :
ألا أعمل شيئا ...
روزيتا :
سوى أن تحب؟
ليونس :
ويا له من عمل!
روزيتا (وقد أحست بالإهانة) :
ليونس!
ليونس :
أو يا له من انشغال!
روزيتا :
أو من فراغ.
ليونس :
معك الحق كما تعودت دائما، أنت فتاة ذكية وأنا أقدر فيك حدة الذكاء.
روزيتا :
وهكذا تحبني لإحساسك بالملل؟
ليونس :
لا، بل إنني أحس بالملل لأنني أحبك. ولكنني أحب الملل الذي أشعر به تماما كما أحبك. أنتما عندي شيء واحد، ما أحلى ألا يعمل الإنسان شيئا!
6
إنني أحلم بالنظر في عينيك كما لو كانا نبعين عميقين حافلين بالأسرار والمعجزات، تقبيل شفتيك يجلب لي النعاس مثل ما يفعل خرير الأمواج. (يعانقها)
تعال، أيها السأم المحبوب، شفتاك تثاؤب شهي، وخطاك إيقاع رتيب.
7
روزيتا :
هل تحبني يا ليونس؟
ليونس :
ولم لا؟
روزيتا :
تحبني دائما؟
ليونس :
دائما؟ هذه كلمة طويلة! إن أحببتك خمسة آلاف سنة وسبعة شهور، فهل يكفيك هذا؟ إنها تقل بكثير عن دائما، ولكنها على كل حال مدة كافية، وفي استطاعتنا أن ندخر الوقت الذي يكفي لنتبادل الحب معا.
روزيتا :
وربما سلبنا الوقت الحب.
ليونس :
أو ربما سلبنا الحب الوقت، ارقصي يا روزيتا، ارقصي، حتى يمضي الزمن على وقع قدميك الرقيقتين!
روزيتا :
تود قدماي لو خرجتا عن الزمن (ترقص وتغني) :
أواه يا رجلي
رجلي المضنيين
لا بد من رقصة
في ذلك الحذاء
الأحمر اللون.
ولو ملكتما
لغصتما في الأرض،
وغبتما هناك
في جوفها العميق
في جوفها العميق.
وآه يا عيني!
عيني الحلوتين،
لا بد أن تلتمعا
في وهج الشموع.
ولو ملكتما
أغفيتما طويلا
في عتمة الظلام
من شدة الآلام
من شدة الآلام.
وآه يا خدي!
خدي الدافئين،
لا بد أن تحترقا
في لهب العناق
في حين تنشدان
لو ازدهرتما
كمثل زهرتين
في ألق الربيع
في ألق الربيع.
ليونس (حالما) :
آه! إن حبا يموت خير من حب يولد. أنا روماني، أجلس إلى مائدة الطعام الشهي بينما تلعب الأسماك الذهبية بألوانها وهي تموت، كنوع من التحلية للوجبة اللذيذة ... انظري إلى اللون الأحمر وهو يموت في خدودها، والأعين التي ينطفئ لهيبها في سكون، واهتزازات أعضائها وهي ترتفع وتهبط في هدوء. الوداع، الوداع، يا حبيبتي أريد أن أحب جثتك. (روزيتا تعود فتقترب منه)
هل تبكين يا روزيتا؟ إن القدرة على البكاء طبع أبيقوري لطيف. اجلسي في الشمس، حتى تتحول القطرات الغالية إلى حبات من البلور، لا بد أن تصبح قطعا بديعة من الماس. تستطيعين أن تصنعي منها عقدا.
روزيتا :
تقول قطعا من الماس، وهي تجرح عيني كالسكاكين. آه يا ليونس! (تريد أن تضمه إلى صدرها.)
ليونس :
احذري! رأسي! لقد دفنت حبنا فيه. انظري في نوافذ عيني! ألا ترين أن المخلوق المسكين قد مات وشبع موتا؟ ألا ترين الزهرتين البيضاوين على وجنتيه، والزهرتين الحمراوين على صدره؟ لا تدفعيني، حتى لا ينكسر له ذراع، وإلا كانت خسارة. إن علي أن أحمل رأسي فوق كتفي كما تحمل الندابة تابوت طفل صغير.
روزيتا (مازحة) :
مجنون!
ليونس :
روزيتا! (روزيتا تقطب وجهها مداعبة)
الحمد لله! (يغمض عينيه.)
روزيتا (مفزوعة) :
ليونس! انظر إلي!
ليونس :
مستحيل!
روزيتا :
نظرة واحدة!
ليونس :
ولا نظرة! فما هي إلا شعرة واحدة ويولد حبي العزيز من جديد. إنني سعيد لأنني دفنته في التراب. أنا الآن أحتفظ بطعمه.
روزيتا (تبتعد حزينة بطيئة الخطى، وتغني وهي تنصرف) :
ما أنا إلا طفلة يتيمة
تخاف من وحدتها الأليمة
أواه! يا لوعتي الرحيمة
ليتك يا صديقتي الحميمة
ترافقين رحلتي العقيمة
ورقدتي وأكلتي المسمومة
8
ليونس (وحده) :
ما أعجب أمر الحب! يرقد الإنسان في فراشه عاما بأكمله بين اليقظة والمنام، ثم إذا به يستيقظ ذات صباح جميل، فيشرب كوب ماء، ويرتدي ثيابه، ويمر بيده على جبهته، ويتفكر، ويتفكر. يا إلهي! كم عدد النساء اللائي يحتاج إليهن الإنسان لكي يغني على سلم الحب صعودا وهبوطا! لا تكاد توجد امرأة تؤدي نغمة واحدة. لماذا يتجمع البخار فوق أرضنا كأنه مخروط زجاجي يكسر شعاع الحب الأبيض المتوهج في قوس قزح؟ (يشرب)
أين الخمر التي سأسكر بها اليوم؟ في أية زجاجة يختبئ؟ هل فقدت القدرة حتى على السكر؟ ها أنا ذا كما لو كنت أجلس أمام خرطوم ينفث الهواء. والهواء تلسعني برودته، حتى أكاد أتجمد، وكان علي أن أرتدي سراويل «نانكنج»
9
لأتزحلق على الجليد. سادتي. سادتي، هل تعرفون كاليجولا ونيرون؟ أنا أعرفهما. تعال يا ليونس. أسمعني حديثك إلى نفسك، فأنا أريد أن أنصت إليك.
حياتي تتثاءب في وجهي كأنها ورقة كبيرة بيضاء، كتب علي أن أملأ صفحتها، غير أنني لا أقدر على كتابة حرف واحد. رأسي قاعة رقص خالية، زهرات ذابلة على الأرض وأشرطة مثنية ملقاة، كمنجات مهشمة في ركن بعيد، ومن تخلف من الراقصين نزعوا الأقنعة عن وجوههم وراحوا يتطلعون إلى بعضهم البعض بعيون منهكة من التعب. أنا أتعثر حولي كل يوم أربعة وعشرين مرة كأنني قفاز يوضع في اليد ... آه! أنا أعرف نفسي، أنا أعلم فيم سأفكر وأحلم في الربع ساعة القادمة، في ثمانية أيام، في سنة كاملة. إلهي! أي ذنب جنيت حتى تجعلني أكرر درسي كالتلميذ الخائب كل هذا الوقت؟ برافو يا ليونس! برافو! (يصفق بيديه)
إنني أشعر بمنتهى الفرح حين أنادي نفسي بهذا النداء. ها! ليونس! ليونس!
فاليريو (الذي يظهر من تحت مائدة) :
يبدو أن سموك في طريقك إلى أن تكون مغفلا حقيقيا.
ليونس :
نعم. نفس الشيء يتضح لي أنا أيضا.
فاليريو :
انتظر قليلا. نريد أن نتحدث في ذلك على النور! لا زالت أمامي قطعة لحم مشوي أخذتها من المطبخ، وقليل من الخمر سرقته من مائدتك، سألتهمها حالا .
ليونس :
يا للمفترس! الوغد يسبب لي إحساسات خيالية لذيذة، إني أتمنى الآن لو أعود فأبدأ من أبسط الأشياء، فآكل الجبن، وأشرب الجعة، وأدخن الطباق، هيا أسرع، ولا تقبع هكذا بخرطومك، ولا تصر هكذا بأنيابك!
فاليريو :
يا سيدي العزيز أدونيس،
10
هل تخاف على فخذيك؟ لا تخش شيئا فلست صانع مكانس ولا أنا معلم في مدرسة، لست في حاجة إلى أعواد لبلاب لأفتل منها سياطا.
ليونس :
لست مدينا بشيء لأحد.
فاليريو :
تمنيت لو كان هذا هو حال سيدي.
ليونس :
هل تقصد العلقة التي تستحقها؟ أتهتم كل هذا الاهتمام بأمر تربيتك؟
فاليريو :
يا إلهي! أسهل على الإنسان أن يولد من أن يربى. من المحزن أن يرى المرء في أية ظروف يضعه غيره ممن تختلف ظروفهم عنه! كم من أسبوع عشته منذ أن حملت بي أمي!
11
وكم من خير لقيته حتى أشكر اليوم الذي تلقتني فيه القابلة!
ليونس :
أما فيما يتعلق بحملك، فليس هناك ما يحملك على أن تحمل على أمك لأنها حملت بك. عبر عن نفسك تعبيرا أفضل. وإلا أصابك أسوأ انطباع من طبعي.
فاليريو :
عندما أبحرت سفينة أمي حول جبال الرجاء الصالح ...
ليونس :
وتكسرت سفينة أبيك عند رأس القرن ...
فاليريو :
صدقت، فقد كان من حراس الليل. ومع ذلك فلم يكن من عادته أن يضع القرون على الشفاه كما يضعها آباء النبلاء على الجبين.
ليونس :
أيها الوغد! أنت تملك موهبة الوقاحة السماوية ... إنني أشعر بحاجة تدفعني إلى استغلالها عن قرب. كما أشعر بشوق عظيم لأن أضربك علقة.
فاليريو :
هذا جواب مفحم وبرهان قاطع.
ليونس (يهجم عليه) :
وأنت نفسك جواب مهزوم ... ذلك أنك ستأخذ علقة عليه.
فاليريو (يفر منه، ليونس يتعثر ويسقط) :
وأنت برهان ما زال ينتظر الإثبات؛ ذلك لأنه يسقط على ركبتيه، اللتين تحتاجان في الحقيقة إلى الإثبات. إنهما عبارة عن عضلات ساق على أقصى درجة من عدم الاحتمال، وأفخاذ تعد مشكلة عويصة. (يدخل الوزراء، ليونس يظل جالسا على الأرض، فاليريو.)
رئيس الوزراء :
هل تغفرون لي يا صاحب السمو؟
ليونس :
كما أغفر لنفسي ! كما أغفر لنفسي! إنني أغفر لها حسن النية الذي يجعلني أنصت إليك ... سادتي، ألا تحبون أن تجلسوا؟ يا لهذه الملامح التي تكسو وجوههم حين يسمعون كلمة «الجلوس». اجلسوا على الأرض ولا تتحرجوا! إنها المكان الأخير الذي ستشغلونه في يوم من الأيام، ولكنه مكان لا يكلف أحدا أي شيء، اللهم إلا حفار القبور!
رئيس الوزراء (الذي يمضي في تحريك أصبعه نفس الحركة السريعة) :
هل تتعطفون سموكم، بخصوص ...
ليونس :
يا إلهي، أخف يديك في جيوب سروالك، أو اجلس عليهما. لقد خرج عن طوره تماما ... تماسك يا رجل!
فاليريو :
لا يصح أن يقاطع الإنسان طفلا يتبول، وإلا حصلت له حبسة ...
ليونس :
يا رجل! أمسك نفسك! فكر في أسرتك، في مهام الدولة! لو وقفت خطبتك في حلقك فربما تتعرض للإصابة بالشلل!
رئيس الوزراء (يسحب ورقة من جيبه) :
هل تسمحون يا صاحب السمو ...
ليونس :
ماذا؟ وتستطيع أيضا أن تقرأ؟ ماذا إذن ...
رئيس الوزراء :
إن صاحب الجلالة يحيط علم سموكم بأن غدا هو موعد وصول عروس سموكم صاحبة السمو والرفعة الأميرة لينا من مملكة بيبي ...
ليونس :
إذا كانت عروسي تنتظرني فسوف أنفذ إرادتها وأجعلها تنتظرني. لقد رأيتها ليلة أمس في المنام. كانت لها عينان واسعتان بحيث يصلح حذاء الرقص الذي تلبسه روزيتا ليكون حاجبا لهما. أما على خديها فلم أر أخاديد غائرة بل حفرا تتسع لضحكاتها. إنني أؤمن بالأحلام. هل تحلم أنت أيضا في بعض الأحيان يا سيادة الرئيس؟ هل يحدث لك أن ترى رؤيا أو إلهاما؟
فاليريو :
بالطبع. كلما سمع أنه في اليوم التالي سيشوى لحم أو يذبح ديك
12
أو أن سموكم الملكي سيصاب بمغص.
ليونس :
على فكرة. ألم يبق شيء على طرف لسانك؟ هات كل ما عندك.
رئيس الوزراء :
لقد شاءت الإرادة العليا لصاحب الجلالة الملكية أن يضع في يوم الزواج كل مظاهر إرادته السامية بين يدي سموكم.
ليونس :
بلغ مسامع صاحب الإرادة السامية أنني سأفعل كل شيء باستثناء ما سوف أبقيه على حاله، وهو ما لن يكون على كل حال أكثر مما لو كان كثيرا ... سادتي، اعذروني فلن أستطيع مصاحبتكم، وأنا في هذه اللحظة متحمس للجلوس، ولكن رحمتي بلغت من الاتساع حدا أعجز معه عن قياس مداها برجلي (يفرج ما بين رجليه)
سيادة رئيس الوزراء، تناول المقياس لكي تذكرني به فيما بعد. فاليريو، اصحب السادة إلى الباب!
فاليريو :
جرس الباب؟ هل أعلق على سيادة رئيس الوزراء جرسا؟ هل أسوق السادة كما لو كانوا يسيرون على أربع؟
ليونس :
أيها الوغد، ما أنت إلا تلاعب سيئ بالألفاظ. ليس لك أب ولا أم؛ فقد رقدت الحروف الخمسة مع بعضها فأنجبتك.
فاليريو :
وأنت أيها الأمير، كتاب بلا حروف، وليس فيه إلا الشرط. تعالوا أيها السادة! إن كلمات مثل «تعال» و«ادخل» و«اخرج» و«اصعد» و«انزل» أمرها محزن. فإذا أردت أن يكون لك دخل، فلا بد لك أن تسرق، وإذا أردت أن تصعد فليس أمامك إلا أن تشنق نفسك! أما المنزل فلا يعثر عليه الإنسان إلا إذا استقر في قبره، وأما المخرج فهو مضمون في كل لحظة كلما لجأت إلى النكتة، ولم يكن لديك شيء تقوله كما أفعل الآن على سبيل المثال، وكما فعلتم أنتم أيضا قبل أن تقولوا كلمة واحدة. لقد دخلتم في اتفاق وأنتم مطالبون الآن بالبحث عن طريقة للخروج. (ينصرف الوزراء وفاليريو.)
ليونس :
ما أحقر أن أجعل من نفسي فارسا على حساب هؤلاء المساكين! ولكن ماذا أفعل إذا كانت الحقارة لا تخلو من المتعة؟ أتزوج؟ معنى هذا أن أفرغ بئرا في جوفي. آه يا شاندي، يا شاندي العجوز!
13
من ذا الذي أهداني ساعتك؟ (يعود فاليريو)
آه يا فاليريو، هل سمعت؟
فاليريو :
يظهر أنك ستصبح ملكا. هذا شيء مضحك. في استطاعة المرء عندئذ أن يخرج للنزهة طول النهار، ويتلف قبعات الناس من كثرة ما يرفعونها لتحيته، في استطاعته أن يفصل من الناس المحترمين عساكر محترمين، حتى يصبح كل شيء طبيعيا تماما، ويستطيع كذلك أن يحول السترات السوداء وأربطة العنق البيضاء إلى خدم مطيعين للدولة. وعندما يموت، تسير كل الرءوس الصلعاء حزينة في جنازته، وتتفتت حبال أجراس الكنائس كالخيوط الدقيقة من كثرة الشد والجذب ... أليس هذا كله أمرا مسليا؟
ليونس :
فاليريو، فاليريو! لا بد أن نعمل شيئا! انصحني!
فاليريو :
آخ! العلم! العلم! نريد أن نصبح علماء! قبلي أو بعدي؟
ليونس :
القبلي يجب أن نتعلمه من أبي، ولكن كل شيء يبدأ بالبعدي، كما في الحكايات القديمة : كان يا ما كان ...
فاليريو :
إذن فلنكن أبطالا! (يمشي هنا وهناك مشية عسكرية وهو يدق ويطبل.)
تروم! تروم!
ليونس :
ولكن البطولة تتحلل، تسكر بأردأ الخمور، وتصاب بالحمى التي تنتاب نزلاء مستشفيات الميدان، ولا يمكنها أن تبقى بدون الضباط والأنفار. ارجع لعقلك وانس أحلام الإسكندر ونابليون!
14
فاليريو :
فهل نصبح إذن عباقرة؟!
ليونس :
إن بلبل الشعر يتغنى طوال النهار فوق رءوسنا. ولكن أرق ما فيه يذهب للشيطان، قبل أن نتمكن من انتزاع ريشه وغمسه في الحبر أو في الألوان.
فاليريو :
إذن فلنصبح أعضاء نافعين في المجتمع البشري؟!
ليونس :
أحب إلي من هذا أن أتخلى عن صفتي كإنسان.
فاليريو :
لم يبق أمامنا إلا أن نذهب للشيطان!
ليونس :
آخ! ليس الشيطان سوى الوجه المضاد الذي نفهم منه أن هناك موجودا آخر يقابله في السماء (قافزا)
آه! فاليريو، فاليريو، وجدتها! ألا تشعر بالأنسام تهب من الجنوب؟ ألا تحس كيف يتموج الأثير الأزرق العميق الملتهب صعودا وهبوطا، وكيف يسطع النور من الأرض الذهبية المشمسة، والبحر المالح المقدس، والأعمدة والأجساد المرمرية؟ إن «بان»
15
العظيم نائم، والأبطال الشجعان يحلمون في الظل وعلى خرير الأمواج العميقة بالساحر القديم فيرجيل، وبأنغام الطبول ورقصة التارنتللا،
16
والليالي العميقة المجنونة الزاخرة بالأقنعة والمشاعل وألحان القيثار. فاليريو، لنكن شحاذين في نابولي، لنذهب إلى إيطاليا!
المشهد الرابع
حديقة
الأميرة لينا في زينة العروس - المربية
لينا :
نعم، الآن! ها هو كل شيء قديم. عشت عمري كله لا أفكر في شيء مر دون أن أحس بشيء. وفجأة وقف اليوم أمامي منتصب القامة. ها هو ذا الإكليل في شعري، والأجراس، الأجراس! (تميل بجسدها إلى الوراء وتغمض عينيها)
انظري، إني أتمنى الآن لو أن العشب ينمو فوقي، والنحل يطن حولي، انظري إلي. أنا الآن في ثياب العرس، والأوراق الخضراء مشبوكة في شعري. أليست هناك أغنية قديمة تقول:
أريد أن أنام
في ساحة الكنيسة
كأنني الوليد
في مهده السعيد.
المربية :
يا طفلتي المسكينة، كم تبدين شاحبة الوجه تحت بريق هذه الجواهر اللامعة!
لينا :
يا إلهي! في إمكاني أن أحب، ولم لا؟ الإنسان يسير وحيدا في حياته، يتحسس اليد التي تمسك يده، إلى أن تأتي المغسلة فتفرق بينهما وتشبك يدي كل منهما على صدره. ولكن لم يحاولون أن يدقوا مسمارا في يدين لم يبحثا عن بعضهما؟ وماذا جنت يدي المسكينة؟ (تخلع خاتما من أصبعها)
هذا الخاتم يلسعني كالحية.
المربية :
ولكن يقال عنه إنه «دون كارلوس»
17
حقيقي!
لينا :
ولكن رجلا ...
المربية :
ماذا؟
لينا :
لا يحبه القلب. (تنهض واقفة)
أف! إني أخجل من نفسي. غدا يتبخر العطر وينطفئ البريق. هل أنا إذا كالنبع المسكين الوحيد الذي كتب عليه أن يعكس كل وجه يميل على سطحه الساكن؟ إن الزهور تفتح براعمها أو تغلقها كما تريد لشمس الصباح أو لريح المساء. أتكون ابنة الملك أقل من زهرة؟
المربية (باكية) :
يا ملاكي المحبوب، أنت في الحقيقة كبش الفداء!
لينا :
أجل، والكاهن يرفع السكين في يده ... ربي! ربي! هل صحيح أننا نخلص أنفسنا بآلامنا؟ هل صحيح أن العالم مسيح مصلوب، وأن الشمس هي تاج الشوك حول رأسه، والنجوم هي المسامير والسهام في قدميه وجنبيه؟
المربية :
يا طفلتي! يا طفلتي! لا يمكنني أن أراك على هذه الحال. لا يمكنك أن تستمري على هذا، أنت تقتلين نفسك. - ربما - من يدري؟ إن شيئا كهذا يدور في رأسي. فلننتظر ... تعالي. (تصحب الأميرة خارجة.)
الفصل الثاني
كيف رن الصوت
في أعماق أعماقي،
وابتلع مرة واحدة
كل ذكرياتي. «أداليبرفون كاميسو»
1
1781-1838
المشهد الأول (حقل فسيح، نزل في الجانب الخلفي.) (يظهر ليونس ومعه فاليريو الذي يحمل حملا على ظهره.)
فاليريو (لاهث الأنفاس) :
شرفا يا أمير، العالم بناء هائل واسع الأرجاء.
ليونس :
لا تبالغ! لا تبالغ! إنني لا أجسر أن أمد ذراعي، وكأنني حبيس غرفة ضيقة صنعت جدرانها من المرايا، خوفا من أن أصطدم بها فتتفتت التماثيل الجميلة وتتكسر على الأرض وأقف أمام الجدار العاري وجها لوجه.
فاليريو :
لقد ضعت.
ليونس :
لن يحس بالضياع إلا من يجدك.
فاليريو :
عما قريب سأضع نفسي في ظل ظلي.
ليونس :
سوف تذوب ذوبانا تاما في الشمس، هل ترى هذه السحابة الجميلة في السماء؟ إنها على الأقل في ربع حجمك. وتطل في ارتياح تام على المواد الغليظة التي جبلت منها.
فاليريو :
لن تستطيع السحابة أن تمس رأسك بأذى، لو أمكن التحكم فيها بحيث تسقط فوقه قطرة فقطرة. خاطر بديع! ها نحن أولاء قد جبنا عددا من الإمارات يزيد على عدد أصابع اليدين، ونصفه من الدوقيات وبعض الممالك، وكل هذا في أقصى سرعة وفي نصف يوم، ولماذا؟ لأنه فرض عليك أن تصبح ملكا وأن تتزوج أميرة حسناء! وما زلت تعيش في هذه الحال؟ إنني لا أفهم زهدك وصدودك. ولا أفهم لماذا لم تشرب زرنيخا. ولا لماذا لم تقف على سلم برج الكنيسة وتصوب رصاصة إلى رأسك فلا تخطئها.
ليونس :
ولكن المثل العليا يا فاليريو! إنني أحمل في روحي المثل الأعلى لامرأة ولا بد لي أن أبحث عنها. إنها جميلة جمالا لا نهاية له، كما أنها غبية غباء لا حد له! إن جمالها كسير ومؤثر كأنها مولود جديد، ذلك هو التضاد الممتع، هذه العيون السماوية الغبية، وهذا الفم الإلهي الساذج، وهذا المنظر الجانبي «الإغريقي» ذو الأنف التي تشبه أنوف الأغنام، وهذا الموت الروحاني في هذا الجسد الخالي من الروح ...
فاليريو :
يا للشيطان! ها نحن مرة أخرى على الحدود! هذه بلد تشبه البصلة، لا ترى العين فيها إلا القشور أو علب الكبريت التي وضع بعضها في بعض، العلب الكبيرة ليس فيها إلا علب، والصغيرة لا تحتوي على شيء. (يقذف بحمله على الأرض)
هل قدر لهذا الحمل أن يصبح شاهد قبري؟ انظر أيها الأمير - وأنا الآن أتفلسف! - هذه الصورة التي رسمتها للحياة الإنسانية، إنني أجر هذا الحمل بقدمين داميتين خلال الصقيع وتحت لهيب الشمس؛ لأنني أريد في المساء أن ألبس قميصا نظيفا وعندما يأتي المساء أخيرا، تكون جبهتي قد ملأتها التجاعيد، ووجنتي غارت، وعيني أظلمت، ولا يتبقى لدي من الوقت إلا ما يكفي لكي ألبس قميصي أو كفني. ولو كنت حاذقا لرفعت حملي من مكانه وبعته في أول حانة تصادفني، ولشربت بثمنه ونمت في الظل ، حتى يحل المساء، ولوفرت على نفسي العرق الذي تصبب مني، والأورام
2
التي أوجعت قدمي. والآن، أيها الأمير، يأتي دور العمل والتطبيق، نريد الآن بدافع الحياء الخالص أن نكسو الإنسان من الداخل أيضا ونلبسه سترة وسروالا. (يتجهان ناحية النزل)
آه، يا جرابي العزيز، ما هذه الرائحة الشهية التي تفوح من النبيذ واللحم المشوي؟! آه! يا سروالي العزيز، ما أحلى أن تمد الآن جذورك في الأرض وتخضر وتزدهر! وأن تتدلى عناقيد العنب الطويلة الثقيلة في فمي، ويتخمر عصير العنب تحت العصارة (ينصرفان) . (الأميرة لينا ومربيتها.)
المربية :
لا بد أنه يوم ساحر الفتنة؛ فالشمس لا تريد أن تغيب، وقد مر زمن لا آخر له منذ أن هربنا معا.
لينا :
لا تبالغي يا حبيبتي، فلم يكد يذبل الورد الذي قطفته ساعة الوداع، عندما خرجنا من الحديقة.
المربية :
وأين سنستريح؟ إننا لم نعثر على أي شيء حتى الآن، لا أرى ديرا، ولا نساكا، ولا رعاة أغنام.
لينا :
لقد سرحنا بأحلامنا ونحن نقرأ خلف أسوار الحديقة، بين أشجار المر
3
والدلفي.
المربية :
أف، العالم فظيع! ولم نعثر حتى الآن على أي أثر لابن ملك تائه.
لينا :
العالم رائع الجمال، ومتسع غاية الاتساع! بودي لو ظللت أسير ليل نهار. ما من شيء يتحرك. ظل وردة حمراء يمرح فوق الأعشاب، والجبال البعيدة ترقد فوق الأرض كأنها سحب نائمة.
المربية :
سيدي يسوع، ماذا عساي أقول؟ ومع ذلك فهي في غاية الرقة والأنوثة، لقد زهدت في كل شيء، وهربت كما هربت القديسة أوتيليا،
4
ولكن لا بد أن نبحث عن مأوى؛ فقد أوشك المساء أن يحل علينا!
لينا :
نعم. إن النباتات تضم أوراقها لتنام، وأشعة الشمس تسترخي فوق أطراف الأعشاب كالفراشات المتعبة .
المشهد الثاني (النزل فوق مرتفع من الأرض يطل على نهر. منظر شاسع، حديقة أمام النزل، فاليريو وليونس.)
فاليريو :
والآن يا أميري، ما رأيك في الشراب اللذيذ الذي ينضح من سروالك؟ ألا تبتلع حذاءك في غاية السهولة؟
ليونس :
هل ترى الأشجار القديمة، والسياج والزهور؟ لكل شيء منها حكاية، حكاية جميلة، غنية بالأسرار. هل ترى الوجوه العجوزة الودودة في ظل تكعيبة العنب أمام الباب؟ وكيف يجلسون هناك وأيديهم متشابكة وفي قلوبهم خوف من أنهم قد شاخوا والعالم ما زال شابا؟ آه يا فاليريو، وأنا في هذا الشباب والعالم بهذه الشيخوخة! في بعض الأحيان يتملكني الذعر فأتمنى لو أجلس في ركن بعيد لأرثي نفسي وأذرف دموعا ساخنة.
فاليريو (يناوله كأسا) :
خذ هذه الكأس، كأس الغواص، وغص في بحر الخمر، حتى تطفو اللآلئ فوقك. انظر كيف ترف الجنيات حول كئوس زهرات النبيذ، وفي أقدامها أحذية ذهبية، وكيف تضرب الصناجات.
5
ليونس (قافزا) :
تعال يا فاليريو، يجب أن نعمل شيئا، نعمل شيئا! نريد أن نفكر في مسائل عميقة، نريد أن نبحث كيف يحدث للكرسي أن يقف على ثلاث أرجل بدلا من اثنتين. تعال، نريد أن نشرح نملا، ونحصي ذرات الرماد! سوف أجعل من ذلك هواية الأمراء، وسوف أبتهج كالأطفال الذين يلعبون بالشخاشيخ ولن أهدأ إلا إذا جمعت الريش وضربته على السقف. ما زالت عندي جرعة حماس لم أستهلكها بعد، ولكنني بعد أن أسوي الطعام سأحتاج إلى زمن لا نهاية له حتى أعثر على ملعقة آكله بها، وعلى هذه الملعقة يتوقف كل شيء.
فاليريو :
أرجوبيبا موس!
6
إذا فلنشرب! هذه الزجاجة ليست حبيبة ولا فكرة، إنها لا تعرف آلام الوضع، ولا تصبح مملة، ولا تخون، بل تظل هي نفسها لا تتغير من أول قطرة إلى آخر قطرة. ما عليك إلا أن تفض غطاءها، وستفور في وجهك كل الأحلام الناعسة فيها.
ليونس :
يا إلهي! أعدك أن أجعل نصف حياتي صلاة لك لو أنني وهبت عودا واحدا من القش أركب عليه كما أركب على ظهر جواد رائع، حتى أرقد أنا نفسي فوق القش. يا لهذا المساء الفظيع! كل شيء ساكن على الأرض، وفي السماء تركض السحب وتغير أشكالها، وضوء الشمس يظهر ثم يغيب. انظر إلى هذه الأشكال الغريبة التي تطارد بعضها في السماء! انظر الظلال الطويلة البيضاء ذات الأقدام النحيلة المفزعة وهي ترف رفيف الوطاويط! وكل شيء هناك يلهث ويضطرب ، وهنا لا تتحرك ورقة ولا عود. الأرض تكومت على نفسها كطفل، وعلى مهدها تخطو الأشباح.
فاليريو :
لا أدري ماذا تريد، فأنا أحس بالبهجة تغمرني. إن الشمس تبدو كأنها درع معلق على باب فندق، والسحب المتوهجة التي تغطيها كأنها اللافتة المكتوبة فوقه: «فندق الشمس الذهبية». والأرض والماء الذي يسيل عليها كأنهما مائدة اندلقت الخمر فوقها ونحن نرقد عليها كأوراق اللعب، التي يلعب بها الله مع الشيطان ليذودا السأم عنهما. أنت الملك، وأنا الولد، ولا ينقص إلا البنت، البنت الجميلة ذات القلب الناعم على الصدر، والسنابل الرائعة، يتدلى أنفها الطويل على نحو يثير العواطف (تظهر المربية والأميرة)
و... يا إلهي! ها هي ذي بنفسها! ولكنها ليست سنبلة بل تنشيقة دخان، وأنفها ليس أنفا، بل خرطوم. (للمربية)
لماذا تسيرين، يا سيدتي المبجلة بهذه السرعة لها حتى يكاد الإنسان يرى عضلات ساقك لغاية شرائط جوربك المحترم؟!
المربية (تظل واقفة وقد ظهرت عليها أمارات الغضب الشديد) :
ولماذا يا سيدي المحترم تفتح فاك على آخره فلا يرى الإنسان أمامه إلا فوهة واسعة؟
فاليريو :
لكيلا يصدم الأفق أنف سيدتي المبجلة فينزف دما، فمثل هذا الأنف يشبه برج لبنان المائل في اتجاه دمشق.
لينا (للمربية) :
حبيبتي، هل ما زال الطريق أمامنا طويلا؟
ليونس (حالما) :
آه كل الطرق طويلة. دقات ساعة الموتى في صدورنا بطيئة، وكل قطرة دم تقيس الزمن، وحياتنا حمى تزحف في أعضائنا ... الأقدام المتعبة تجد كل طريق طويلا ...
لينا (التي تصغي إليه متفكرة) :
والأعين المتعبة تجد كل شعاع قاسيا، والشفاه المتعبة كل نسمة ثقيلة (مبتسمة)
والآذان المتعبة كل كلمة مملة (تدخل مع المربية إلى النزل) .
ليونس :
آه يا فاليريو العزيز! ألم يكن في استطاعتي أيضا أن أقول: ألم يكن لهذا كله ولغابة من أدغال الريش والأزهار المكومة فوق حذائي ...(؟)
7
أعتقد أنني قلت ما قلته أنا في منتهى الحزن. الحمد لله، إنني أوشكت أن أضع
8
حزني! الهواء لم يعد ناصعا وباردا، والسماء تنحني متوهجة فوقي، وقطرات ثقيلة تتساقط علي ... آه من هذا الصوت، ألم يزل الطريق طويلا ؟ أصوات كثيرة تتحدث فوق الأرض، ويخيل للإنسان أنها تتحدث عن أشياء أخرى، ولكنني فهمت صوتها. إنه يرف فوقي رفيف الروح فوق الماء، قبل أن يكون النور ... يا للتخمر في أعماق ذاتي، يا للوجود الذي يولد في نفسي، وما أعذب هذا الصوت الذي ينساب في المكان؟ ألم يزل الطريق طويلا؟ (يخرج) ...
فاليريو :
لا، إن الطريق إلى مستشفى المجانين ليس طويلا، من السهل العثور عليه، أنا أعرف كل الدروب المؤدية إليه، وكل الطرق المجاورة له والشوارع المحيطة به. إنني أراه الآن أمامي يسير على الطريق العريض الموصل إليه، في يوم من أيام الشتاء الباردة، حاملا قبعته تحت إبطه، وأراه أمامي واقفا في الظلال الطويلة تحت الأشجار العارية يروح عن نفسه بمنديله. إنه مجنون! (يتبعه.)
المشهد الثالث
حجرة
لينا - المربية
المربية :
لا تشغلي نفسك بهذا الرجل!
لينا :
كان يبدو عجوزا بين خصلات شعره الشقراء، الربيع على الخدين، والشتاء في القلب! هذا شيء محزن. إن الجسد المتعب يجد الفراش الذي ينام فيه في كل مكان، أما الروح المتعب فأين يجد المكان الذي يستريح فيه؟ فكرة فظيعة تخطر على بالي؛ يخيل إلي أن هناك نوعا من الناس يحسون بالشقاء، بالتعاسة التي لا شفاء منها، لمجرد إحساسهم بأنهم موجودون. (تنهض واقفة.)
المربية :
إلى أين يا ابنتي؟
لينا :
أريد أن أنزل إلى الحديقة ...
المربية :
ولكن ...
لينا :
ولكن ماذا يا أمي؟ تعرفين أنه كان ينبغي أن يضعوني داخل قفص من الزجاج المكسور ... إنني أحتاج إلى الندى ونسيم الليل كما يحتاج الورد إليهما. هل تسمعين أنغام المساء المنسجمة؟ هل تسمعين الجنادب تغني للنهار وبنفسجات الليل يهدهدنه بعطرهن لينام؟! لا أستطيع أن أبقى في الحجرة. أحس أن الجدران ستنطبق علي .
المشهد الرابع (الحديقة، ليل وضوء القمر.) (ترى لينا جالسة على العشب.)
فاليريو (من بعيد) :
الطبيعة جميلة، وكانت تكون أجمل لو لم يوجد بعوض ولو كانت الأسرة أنظف مما هي عليه ولم تدق ساعات الموت على الجدران.
9
في الداخل يغط الناس في النوم، وفي الخارج تنقنق الضفادع، في الداخل تصفر الصراصير ، وفي الخارج تطن صراصير الحقل. أيها العشب النضير، هذا قرار خطير!
10 (يرقد على العشب.)
ليونس (يظهر) :
أيها الليل الشافي البلسم، كمثل أول ليلة هبطت على الفردوس! (يلاحظ الأميرة ويقترب منها في هدوء.)
لينا (تكلم نفسها) :
بعوضة العشب وشوشت في الحلم - الليل ينام نوما عميقا، خده يزداد شحوبا، ونفسه تزداد سكونا. القمر يشبه طفلا ناعسا، تساقطت خصلات شعره ذهبية فوق وجهه الحبيب - آه! إن نومه موت. ما أجمل الملاك الميت الذي يرقد على مخدته المظلمة والنجوم تشتعل من حوله كالشموع! الطفل المسكين! إنه حزين، ميت ووحيد.
ليونس :
انهضي في ثوبك الأبيض وتجولي في الليل خلف جثته وغني له أغنية الموت!
لينا :
من الذي يتكلم؟
ليونس :
حلم.
لينا :
الأحلام سعيدة.
ليونس :
إذن فاحلمي أنك سعيدة واجعليني حلمك السعيد.
لينا :
الموت أسعد الأحلام ...
ليونس :
إذن فاجعليني ملاك موتك! دعي شفتي تهبطان على عينيك كأنهما رفيف جناحيه. (يقبلها)
أيتها الجثة الجميلة، أنت ترقدين فاتنة على كفن الليل الأسود، فتجعلين الطبيعة تكره الحياة وتعشق الموت.
لينا :
لا، اتركني. (تقفز واقفة وتبتعد بسرعة.)
ليونس :
هذا كثير! هذا كثير! وجودي كله تجمع في هذه اللحظة الوحيدة. الآن مت! مستحيل أن تطمع في أكثر من هذا. ما أبدع الخليقة التي تطالعني خارجة من ظلمة العماء، منتعشة الأنفاس، رائعة الحسن والبهاء! الأرض وعاء من الذهب المعتم، كم يزيد النور فيها ويفور على حوافيها، ويلمع سنا النجوم المتلألئة فوقها. هذه القطرة من السعادة تحيلني إلى وعاء شهي. اسقط هنا أيها الكأس المقدس! (يريد أن يلقي بنفسه في النهر.)
فاليريو (يقفز ويمسك به) :
قف يا صاحب السمو والصفاء!
11
ليونس :
دعني!
فاليريو :
بمجرد أن تعود إلى اتزانك وتعدني بأن تدع الماء!
ليونس :
أيها الغبي!
فاليريو :
ألم تتخلص بعد يا صاحب السمو من رومانتيكيتك فتحاول أن تقذف بالكأس التي شربت منها على صحة حبيبتك؟
ليونس :
يبدو أن الحق معك!
فاليريو :
عز نفسك! إن لم تنم اليوم تحت العشب فحاول على الأقل أن تنام فوقه. إن السعي إلى الفراش شبيه بمحاولة الإقدام على الانتحار . الإنسان يرقد فوق القش كالموتى وتلسعه البراغيث كالأحياء ...
ليونس :
على رأيك (يرقد على العشب)
لقد أفسدت علي أجمل انتحار! لن أجد في حياتي لحظة أنسب من هذه اللحظة، ولا جوا أبدع من هذا الجو. الآن تعكر مزاجي. أفسدت كل شيء بسترتك الصفراء وسراويلك السماوية الزرقاء، فلتمنحني السماء نوما صحيا عميقا!
فاليريو :
آمين! أما أنا فقد أنقذت حياة بشرية من الموت، وسوف يساعدني ضميري المرتاح على أن أدفئ الليلة جسدي.
ليونس :
نوما هنيئا يا فاليريو!
الفصل الثالث
المشهد الأول
ليونس - فاليريو
فاليريو :
تتزوج؟ متى صممتم يا صاحب السمو على الدخول في التقويم الأبدي؟
ليونس :
هل تعلم أيضا يا فاليريو أن أقل الناس شأنا يبلغ من العظمة حدا يجعل الحياة أقصر بكثير من أن تتمكن من حبه؟ ومن ذلك ففي وسعي أن أغبط صنفا من الناس يتوهمون أنه ما من شيء جميل أو مقدس إلا وهم ملزمون بأن يزيدوه جمالا وقداسة. إن في مثل هذا الغرور المحبوب نوعا من المتعة، فلماذا أحرمهم منه؟
فاليريو :
شعور إنساني جدا ووحشي جدا!
1
ولكن هل تعرف هي أيضا من أنت؟
ليونس :
إنها لا تعرف إلا أنها تحبني ...
فاليريو :
وهل تعرفون سموكم من هي؟
ليونس :
أحمق غبي! اسأل القرنفلة إذن أو اسأل لؤلؤة الندى عن اسمها.
فاليريو :
معنى هذا أنها شيء له وجود على كل حال، إن لم يكن هذا التعبير خاليا من الذوق أو يوحي بطعم البطاقات الشخصية،
2
ولكن كيف يتم هذا؟ هه، يا أمير، هل أصبح وزيرا لو لجمته اليوم بلجام الزواج المبارك أمام أبيك مع تلك التي لا اسم لها ولا سبيل إلى وصفها؟ هل تعدني؟
ليونس :
أعدك!
فاليريو :
الشيطان المسكين فاليريو يحيي صاحب السعادة السيد الوزير فاليريو من وادي الفالير! ماذا يريد الغلام؟ إنني لا أعرفه. اغرب عن وجهي، أيها الوقح! (ينصرف مسرعا، يتبعه ليونس.)
المشهد الثاني (ساحة واسعة أمام قصر الملك بيتر.) (رئيس مجلس المدينة، المعلم، فلاحون في ثياب يوم الأحد، في أيديهم فروع من شجر التنوب.)
رئيس مجلس المدينة :
أيها المعلم العزيز، كيف حال رجالك؟
المعلم :
هم صابرون على الرغم من سوء الحال، متماسكون منذ عهد بعيد على هذه الحال، يصبون الخمر في جوفهم، ولولا ذلك لكان تماسكهم في هذا الحر الشديد من المحال ... تشجعوا أيها الناس، مدوا أيديكم بفروع من أشجار التنوب، حتى يظن من يراكم أنكم غابة من أشجار التنوب، وأن أنوفكم المحمرة حبات من الفراولة وقبعاتكم لحم مشوي وضوء القمر يختفي بين سراويلكم المصنوعة من جلد الغزال. واعلموا أن على من يقف منكم في المؤخرة أن يجري باستمرار ليضع نفسه أمام من يقف في المقدمة، حتى يبدو كأن عددكم قد تضاعف بكثير
3 ...
رئيس مجلس المدينة :
أيها المعلم، الظاهر أنك أوشكت أن تفيق من سكرتك.
المعلم :
بالطبع، فأنا من الفوقان لا أكاد أستطيع الوقوف على قدمي.
رئيس مجلس المدينة :
لاحظوا أيها الناس أنه قد نص في البرنامج على ما يلي: على جميع أفراد الرعية أن يرتدوا ثيابا نظيفة، ويقفوا على طول الطريق الزراعي بوجوه راضية وبطون شبعانة. لاحظوا هذا ولا تجلبوا علينا العار!
المعلم :
تمسكوا بالصبر والفضيلة! لا تهرشوا خلف آذانكم ولا تضعوا أصابعكم في أنوفكم عند مرور موكب صاحبي السمو العروسين، وأظهروا التأثر بالمناسبة السعيدة، وإلا استعملت معكم الوسائل المؤثرة! اعترفوا بما فعلته السلطات من أجلكم؛ لقد وضعوكم في صفوف مستقيمة حتى تهب الرياح عليكم من المطبخ وتشموا مرة واحدة في حياتكم رائحة اللحم المشوي. هل تذكرون الدرس الذي علمتكم إياه؟ هه؟ يا ...
الفلاحون :
يا ...
المعلم :
عيش!
الفلاحون :
عيش!
المعلم :
يعيش!
الفلاحون :
يعيش!
4
المعلم :
هكذا ترى يا سيادة الرئيس أن مستوى الذكاء في صعود. سنقوم الليلة أيضا بإعداد رقصة شفافة مستعينين بالثقوب التي تملأ ستراتنا وسراويلنا، وسنتلاكم وننطح بعضنا البعض بالأشرطة التي تزين قبعاتنا.
المشهد الثالث (قاعة كبيرة، رجال وسيدات في أحسن زينة، في صفوف مرتبة بعناية.) (يظهر رئيس التشريفات مع بعض الخدم في مقدمة المسرح.)
رئيس التشريفات :
إنها مصيبة! كل شيء ضاع. اللحم المشوي انكمش. التهاني بالزفاف لم تصل بعد. الياقات المدببة تقتل نفسها
5
كآذان الخنازير الحزينة ، الفلاحون نمت أظافرهم ولحاهم من جديد، العساكر طالت شعورهم. ومن اثنتي عشرة عذراء لا توجد واحدة لا تفضل الوضع الأفقي على الوضع العمودي.
الخادم الأول :
إنهم يبدون في ثيابهم البيضاء كالأرانب المتعبة، وشاعر البلاط يزوم حولهم كأنه خنزير بحري مهموم. السادة الضباط فقدوا اتزانهم وسيدات البلاط يقفن هناك كأنهن الغرابيل أو المناخل، يتبلور الملح في عقودهن.
6
الخادم الثاني :
لقد أرحن نفوسهن على الأقل، فلا يستطيع أحد أن يقول إنهن يحملن شيئا على أكتافهن، وإذا لم يكن صريحات القلوب فهن على الأقل مفتوحات حتى أعماق القلوب.
7
رئيس التشريفات :
نعم، إنهن أوراق جيدة من دولة الترك، ترى خلالها الدردنيل وبحر المرمر
8
اذهبوا، أيها الأوغاد! إلى النوافذ! ها هو صاحب الجلالة قد حضر! (يدخل الملك بيتر والوزراء.)
بيتر :
إذن فقد اختفت الأميرة أيضا. ألم يعثر أحد على أي أثر لولي عهدنا المحبوب؟ هل نفذت أوامري؟ هل الحدود مراقبة؟
رئيس التشريفات :
أجل يا صاحب الجلالة. إن التطلع من هذه القاعة يتيح لنا أن نراقبها مراقبة شديدة ... (للخادم الأول)
ماذا رأيت؟
الخادم الأول :
كلبا يبحث عن سيده، وقد دخل الآن حدود المملكة.
رئيس التشريفات (للخادم الثاني) :
وأنت؟
الخادم الثاني :
أرى شخصا يتنزه على الحدود الشمالية، ولكن ليس هو الأمير، وإلا لكنت تعرفت عليه.
رئيس التشريفات :
وأنت؟
الخادم الثالث :
معذرة، لا شيء.
رئيس التشريفات :
هذا قليل جدا. وأنت؟
الخادم الرابع :
لا شيء كذلك.
رئيس التشريفات :
هذا أيضا قليل جدا.
بيتر :
ولكن ألم أصدر أيها الوزراء قراري بأن تفرح جلالتي الملكية في هذا اليوم وأن يحتفل فيه بالزفاف؟ ألم يكن هذا هو قراري الأكيد؟
رئيس التشريفات :
أجل يا صاحب الجلالة، هذا هو ما أثبت في المحاضر الرسمية ، وأعلن على الرعية.
بيتر :
ألن تكون هذه إهانة لي، لو أنني لم أنفذ قراري؟
رئيس التشريفات :
لو كانت هناك طريقة أخرى تهينون بها جلالتكم، ففي استطاعتكم في هذه الحالة أن تهينوها.
بيتر :
ألم أعد وعدي الملكي؟ نعم، سوف أنفذ القرار الذي صممت عليه في الحال، سوف أدخل الفرح على نفسي . (يفرك يديه)
آه! أنا في منتهى الفرح!
رئيس الوزراء :
نحن جميعا نشارك جلالتكم في مشاعركم، بقدر ما تستطيع الرعية وما يليق بها.
بيتر :
أوه! لست أدري ماذا أفعل من الفرح! سوف آمر بصنع معاطف حمراء لوصفائي، سوف أرقي بعض الجنود إلى ضباط، سوف أسمح لرعيتي ... ولكن، ولكن، الزفاف؟ ألم ينص الجزء الأخير من القرار على الاحتفال بالزفاف؟
رئيس الوزراء :
نعم يا صاحب الجلالة.
بيتر :
وإذا لم يحضر الأمير ولم تحضر الأميرة كذلك؟
رئيس الوزراء :
نعم، إذا لم يحضر الأمير ولم تحضر الأميرة كذلك، إذن ... إذن ...
بيتر :
إذن، إذن؟
رئيس الوزراء :
إذن لا يستطيعان أن يتزوجا.
بيتر :
قف عندك! هل النتيجة منطقية؟ إذا ... إذا ... صحيح! ولكن وعدي، وعدي الملكي!
رئيس الوزراء :
عز نفسك يا صاحب الجلالة بجلالات أخرى! إن الوعد الملكي شيء ... شيء ... شيء ... لا يدل على أي شيء.
بيتر (للخدم) :
ألا تبصرون شيئا؟
الخدم :
لا شيء يا صاحب الجلالة، لا شيء.
بيتر :
وأنا الذي قررت أن أدخل السرور على نفسي! أردت أن أبدأ مع دقة الساعة الثانية عشرة، وأفرح اثنتي عشرة ساعة كاملة، سأكتئب الآن اكتئابا شديدا.
رئيس الوزراء :
ستصدر الأوامر إلى الرعية كلها بأن تشارك جلالتكم في شعوركم.
رئيس التشريفات :
ومن لا يحمل منهم منديلا سيمنع من البكاء؛ وذلك للمحافظة على الفضيلة.
الخادم الأول :
انتباه! إنني ألمح شيئا! إنه يشبه أن يكون الصدر، أو الأنف، أما الباقي فلم يعبر الحدود بعد، وها أنا ذا أرى رجلا، ثم شخصين من الجنسين.
رئيس التشريفات :
في أي اتجاه يسيرون؟
الخادم الأول :
إنهم يقتربون، يتجهون ناحية القصر، ها هم. (يظهر فاليريو وليونس والمربية والأميرة يحملون أقنعة على وجوههم.)
بيتر :
من أنتم؟
فاليريو :
ومن أين لي أن أعرف؟ (ينزع عن وجهه قناعا بعد قناع)
هل أنا هذا؟ أو هذا؟ أو هذا؟ حقا، لقد بدأت أخاف من أن أنزع القشور والأوراق عن نفسي قشرة قشرة وورقة ورقة.
بيتر (مرتبكا) :
ولكن، لا بد أن تكونوا شيئا على كل حال!
فاليريو :
ما دمت قد أصدرت أوامرك يا صاحب الجلالة! ولكن، أيها السادة، علقوا المرايا حولكم، وأخفوا أزراركم اللامعة قليلا، ولا تنظروا إلي هكذا حتى لا تنعكس صورتي في عيونكم، وإلا فلن أعرف في الحقيقة من أنا.
بيتر :
هذا الرجل يربكني ويحيرني ويتعسني! أنا في، في غاية الاضطراب!
فاليريو :
الحقيقة أنني أردت أن أعلن على الجمع الراقي المحترم حضور الآلتين المشهورتين في العالم كله، وأنني ربما كنت ثالثهما وأعجبهما، لو أنني استطعت في الحقيقة أن أعرف من أنا، الأمر الذي لا يصح لأحد أن يتعجب منه؛ إذ إنني لا أعرف شيئا مما أقول، بل لا أعرف حتى أنني لا أعرف، بحيث إن من المحتمل غاية الاحتمال أن هناك من يجري على لساني هذا الكلام، وأن الذي يخطب فيكم الآن ليس سوى مجموعة من الأسطوانات والأنابيب التي تصفر فيها الرياح. (في لهجة خطابية)
سيداتي وسادتي! انظروا هنا تروا شخصين من الجنسين، ذكرا وأنثى، سيدا وسيدة! لا شيء سوى الفن والميكانيكا، لا شيء إلا أوراق من الكرتون وعقارب ساعة! لكل واحد منهما ريشة رقيقة، رقيقة من العقيق تحت أظفر الأصبع الصغير في القدم اليمنى، يكفي أن تضغط عليه بلطف لكي تدور الآلة خمسين عاما كاملة. لقد صنع هذا الشخصان بدقة متناهية، بحيث لن يستطيع المرء أن يميز بينهما وبين البشر الحقيقيين، إذا لم يعرف أنهما مجرد ورق مقوى، بل إن في الإمكان أن ندخلهما أعضاء في المجتمع البشري. إنهما في غاية النبل، فهما يتكلمان بلغة فصيحة، وأخلاقهما عالية جدا، فهما يستيقظان على دقات الساعة ويتناولان طعام الغداء على دقات الساعة، ويذهبان إلى الفراش على دقات الساعة، وهضمهما كذلك يسير بانتظام تام، مما يثبت أن ضمائرهما حية.
9
وإحساسهما بالذوق واللياقة إحساس رفيع، فالمدام ليس لديها أية فكرة عن البنطلونات، والسيد يستحيل عليه تماما أن يصعد السلالم خلف إحدى السيدات، أو ينزل على السلالم فيتقدمها خطوة واحدة. وهما مثقفان إلى أقصى حد، فالسيدة تغني أحدث الأوبرات، والسيد يلبس مانشتات
10
سيداتي سادتي!
انتبهوا! لقد دخلا الآن في مرحلة هامة؛ إن ميكانيكا الحب قد بدأت بالفعل؛ فالسيد قد حمل شال السيدة عدة مرات، والسيدة قد قلبت عينيها عدة مرات وتطلعت إلى السماء ... وكلاهما قد همس أكثر من مرة بالإيمان والحب والأمل! إن علامات الانسجام تبدو عليهما، ولا ينقص إلا الكلمة الصغيرة: آمين.
بيتر (واضعا أصبعه على أنفه) :
صور! رموز! اسمع يا رئيس الوزراء، حين نأمر غيابيا بشنق إنسان هارب من وجه العدالة، ألا يكون هذا مساويا لشنقه في الحقيقة والواقع؟
رئيس الوزراء :
معذرة يا صاحب الجلالة، بل إن ذلك يكون أفضل بكثير؛ ذلك أنه لن يشعر بأي ألم، وإن كان سيشنق مع ذلك.
بيتر :
الآن فهمت، سنحتفل بالزفاف غيابيا (مشيرا إلى لينا وليونس)
هذه هي الأميرة، وهذا هو الأمير. سأنفذ الآن القرار الذي صممت عليه، سأدخل السرور على نفسي. دعوا الأجراس تدق! تبادلوا التهاني! وأنت يا واعظ البلاط! أسرع! (يتقدم واعظ البلاد، ويتنحنح، ويتطلع إلى السماء عدة مرات.)
فاليريو :
ابتدئ! دعك من حركات وجهك اللعينة وابتدئ! هيا!
واعظ البلاط (في شدة الارتباك) :
لو أننا ... أو ... ولكن ...
فاليريو :
لما ... الآن ...
واعظ البلاط :
ذلك أن ...
فاليريو :
في البدء قبل أن يخلق الله العالم ...
واعظ البلاط :
حدث أن ...
فاليريو :
أحس الله بالسأم ...
بيتر :
اختصر يا عزيزي.
واعظ البلاط (متمالكا نفسه) :
إذا سمحت يا صاحب السمو الأمير ليونس من مملكة بوبو، وسمحت يا صاحبة السمو الأميرة لينا من مملكة بيبي، وسمحتما معا يا صاحبي السمو كل من جانبه بأن يقبل كل منكما الآخر زوجا، فقولا بصوت مرتفع مسموع: نعم.
لينا وليونس معا :
نعم!
واعظ البلاط :
ما دام الأمر كذلك فأنا أقول: آمين.
فاليريو :
أحسنت، هذا هو ما قل ودل، بهذا يكون الرجل والمرأة قد تم خلقهما وجميع حيوانات الفردوس تحيط بهما. (ليونس ينزع القناع عن وجهه.)
الجميع :
الأمير!
بيتر :
الأمير! ابني! لقد ضعت، خدعت! (يهرول نحو الأميرة)
ومن هذا؟ سأعلن أن كل ما حدث لاغ!
المربية (تنزع القناع عن وجه الأميرة، وتصيح منتصرة) :
الأميرة!
ليونس :
لينا؟
لينا :
ليونس؟
ليونس :
لينا، أعتقد أننا هربنا إلى الجنة.
لينا :
لقد خدعت !
ليونس :
خدعت!
لينا :
يا للمصادفة!
ليونس :
يا للعناية الإلهية!
فاليريو :
لا بد أن أضحك! لا بد أن أضحك! فقد تصادف لقاؤكما يا صاحبي السمو بمحض المصادفة. أتعشم لأجل خاطر المصادفة أن يهنأ خاطركما.
المربية :
من كان يصدق أن عيني العجوزتين ستريان هذا! ابن ملك تائه! الآن أستطيع أن أموت وأنا مرتاحة البال.
بيتر :
يا أبنائي، أنا متأثر، لا أدري ماذا أفعل من شدة التأثر. أنا أسعد إنسان! ها أنا ذا يا ولدي أعلن على الملأ أنني أضع الحكم بين يديك، وأنني سأنصرف الآن إلى التفكير دون أن يزعجني شيء. أما هؤلاء الحكماء (يشير إلى الوزراء)
فاتركهم لي يا ولدي، لكي يساعدوني في الجهود التي سأبذلها. تعالوا أيها السادة. يجب أن نفكر، يجب أن نفكر بغير أن يزعجنا شيء. (ينصرف مع الوزراء)
أربكني هذا البني الآدم لا بد أن أحاول الآن أن أستعيد نفسي.
ليونس (للحاضرين) :
سادتي! باسم زوجتي وباسمي أعلن عن أسفي لأننا أرهقناكم اليوم بخدمتنا. إن وضعكم مؤسف إلى حد أننا لن نضع صبركم موضع الاختبار أكثر من هذا. اذهبوا الآن إلى بيوتكم، ولكن لا تنسوا أن تأخذوا خطبكم ومواعظكم، وقصائدكم؛ لأننا سنبدأ اللعبة مرة أخرى من أولها غدا. إلى اللقاء! (ينصرف الجميع، باستثناء ليونس ولينا وفاليريو.)
ليونس :
هل ترين يا لينا كيف امتلأت جيوبنا بالدمى واللعب؟ ماذا نفعل الآن بها؟ هل نضع لها شوارب ونعلق في أيديها سيوفا؟ أم نكسوها سترات سوداء ونعلمها احتراف السياسة، والدبلوماسية، ونجلس أمام الميكروسكوب لنراقبها؟ أم تشتاقين لصندوق غناء، تجري عليها الفيران الجمالية
11
البيضاء كالحليب؟ هل نبني مسرحا؟ (لينا تميل عليه وتهز رأسها) . ولكني أعرف ما تريدينه خيرا منك؛ سنأمر بتحطيم جميع الساعات ونحرم حيازة النتائج السنوية، ولا نقيس الساعات والأقمار إلا بتوقيت الوردة، والزهرة، والثمرة ... ثم نحيط البلد بالمرايا المشتعلة، حتى لا يأتي الشتاء بعد اليوم ونحيا في الصيف في جو إيشيا وكابري،
12
ونمضي السنة كلها بين أزهار البنفسج، وثمار البرتقال وأكاليل الغار.
فاليريو :
وأما أنا فسوف أصبح وزيرا، وسأصدر مرسوما يقضي بأن كل من تتشقق كفاه من العمل يوضع تحت الوصاية، وكل من يمرض نتيجة الإرهاق في العمل يضع نفسه من الناحية الجنائية موضع العقاب، وكل من يفتخر بأنه يأكل عيشه من عرق جبينه يعلن على الملأ أنه مجنون وأنه خطر على المجتمع البشري، ثم نرقد في الظل وندعو الله أن يرزقنا ماكارونه، وليمونا أصفر، وتينا، كما نتوسل إليه أن يهبنا حناجر موسيقية، وأجساما كلاسيكية، وديانة مريحة!
13
فويسك
الأشخاص
فويسك، ماري.
ضابط، طبيب، ضابط الطبول.
صف ضابط، أندريس، مرجريت.
صاحب حانة: مناد في السوق.
الصبي الأول (عامل يدوي) الصبي الثاني.
كيته، كارل العبيط، الجدة، ثلاثة أطفال.
الأول والثاني، مفتش البوليس.
جنود، طلاب، فتية وفتيات، أطفال، جمهور.
فويسك
عند الضابط (الضابط على كرسي، فويسك يحلق له شعره.)
الضابط :
على مهلك يا فويسك! واحدة واحدة! يكاد يغمى علي، ماذا أصنع بالدقائق العشر التي تتبقى لي إن فرغت من الحلاقة قبل الميعاد؟ فويسك. فكر معي؛ ما زال أمامي ثلاثون عاما أعيشها، ثلاثون عاما حلوة، أي ثلاثمائة وستون شهرا! ويوما! وساعة! ودقيقة! ماذا عساه أن يفعل بهذا الزمن الهائل. يقسمها يا فويسك؟
1
فويسك :
تمام يا حضرة الضابط.
الضابط :
الرعب يتملكني كلما فكرت في الأبدية، شغلة يا فويسك، شغلة! أبدي، هذا أبدي، هذا أبدي، شيء واضح كما ترى، لكن الواقع أنه ليس أبديا وإنما هي لحظة، نعم لحظة واحدة. فويسك، إنني أرتعد خوفا كلما فكرت أن الدنيا تدور حول نفسها كل يوم، يا له من زمن ضائع! إلى أين ينتهي بنا هذا؟ فويسك إني لا أرى طاحونة إلا استبد بي الحزن.
فويسك :
تمام يا حضرة الضابط.
الضابط :
فويسك أنت دائما مستعجل! دائما ملهوف! الرجل الطيب لا يفعل هذا. الرجل الطيب، ذو الضمير الطيب. تكلم يا فويسك، قل شيئا! ما حال الجو اليوم؟
فويسك :
سيئ يا حضرة الضابط، سيئ، ريح!
الضابط :
إنني أحس به فعلا، شيء كالعاصفة يدور في الخارج، مثل هذه الرياح تذكرني بالفيران. (في خبث)
أعتقد أن شيئا كهذا يأتينا من الجنوب الشمالي؟
فويسك :
تمام يا حضرة الضابط.
الضابط :
ها! ها! ها الجنوب الشمالي! ها! ها! ها! آه إنني غبي! غبي إلى حد شنيع (يتأثر)
فويسك إنه إنسان طيب، ولكن (باستعلاء)
فويسك!
إنه بلا أخلاق! أخلاق! ذلك ما يكونه الإنسان عندما يكون على خلق هل يفهم؟ إنها كلمة طيبة، لديه طفل من غير بركة الكنيسة، كما يقول واعظ القشلاق المبجل، بغير بركة الكنيسة، لست أنا الذي أقول هذا.
فويسك :
سيدي الضابط، إن الله لا يحاسب الدودة المسكينة إن كانت بركة، آمين، قد هبطت عليها قبل أن تخرج إلى الوجود. الرب قال اتركوا الصغار يأتون إلي.
الضابط :
ماذا يقول؟ ما هذا الجواب العجيب؟ إنه يربكني بجوابه، كلما قلت هو فإنما أعني أنت.
فويسك :
نحن المساكين، انظر يا سيدي الضابط. المال ... المال. من لا مال معه، فماذا تنفعه الأخلاق في هذه الدنيا؟ نحن أيضا من لحم ودم ... أمثالنا أشقياء في الدنيا وفي الآخرة. لو أن أبواب السماء فتحت لنا لكان علينا أن نساعد في قصف الرعود.
الضابط :
فويسك، إنه عديم الفضيلة! إنه إنسان غير فاضل! لحم ودم! عندما أقف في نافذتي، وقد تساقط المطر، أتابع ببصري الجوارب البيضاء وهي تخطر عابرة الأزقة، الويل! فويسك، عندئذ يراودني الحب! أنا أيضا من لحم ودم، ولكن الفضيلة، يا فويسك! الفضيلة! كيف إذن كنت أصرف وقتي! إنني أقول لنفسي دائما: أنت رجل طيب (متأثرا)
رجل طيب، رجل طيب.
فويسك :
نعم يا سيدي الضابط، الفضيلة لم أذق طعمها بعد. انظر، إن عامة الناس من أمثالنا لا يعرفون ما هي الفضيلة. الطبيعة هي التي تتحكم فيهم. لو كنت سيدا وأضع على رأسي قبعة وفي يدي ساعة وسلسلة وأستطيع التحدث بلباقة لاشتهيت أن أكون فاضلا. لا بد أن الفضيلة شيء جميل، يا سيدي الضابط، ولكنني فتى مسكين.
الضابط :
طيب يا فويسك، أنت رجل طيب، رجل طيب، ولكنك تفكر أكثر من اللازم. وهذا يقضي عليك، وأنت دائما ملهوف ومستعجل، الحديث معك ضعضعني. اذهب الآن، ولا تجر كعادتك، على مهلك، انزل الشارع على مهلك!
فضاء، المدينة تبدو من بعيد (فويسك وأندريس يقطفان أعوادا في حرش.) (أندريس يصفر.)
فويسك :
أجل يا أندريس، المكان ملعون، هل ترى الخط المضيء المنشور هناك فوق العشب، حيث تنمو الإسفنج؟ هناك يتدحرج الرأس ليلا، مرة التقطه واحد من مكانه، يقول إنه قنفد، ثلاثة أيام وثلاث ليال، رقد فيها على ألواح الخشب. (همسا)
أندريس، إنهم الماسونيون! الماسونيون! لقد عرفت السر!
أندريس (يغني) :
بدا على البعد أرنبان
2
كانا على العشب يجلسان
ومن ندى العشب يأكلان.
فويسك :
سكوت! هل تسمع يا أندريس؟ هل تسمع؟ شيء يتحرك هناك!
أندريس (يغني) :
حتى التهما العشب الأخضر
ما تركا منه شيئا يذكر.
3
فويسك :
إنه يتبعني، يتحرك تحت قدمي. (يدق الأرض بقدميه)
أجوف، هل تسمع؟! كل شيء أجوف تحتنا! الماسونيون!
أندريس :
أنا خائف ...
فويسك :
هذا السكون الغريب، يود الإنسان أن يحبس أنفاسه! أندريس!
أندريس :
ماذا؟
فويسك :
تكلم! (يحملق جامدا فيما حوله)
أندريس! هذا النور! فوق المدينة هالة من اللهب! نار تتصاعد في الأفق وصخب أبواق تنحدر إلى الأرض، شيء يقتلعني، شيء يجذبني إلى أعلى، كأنها الأشباح! لنبتعد! لا تتلفت وراءك! (يجذبه إلى الدغل.)
أندريس (بعد برهة) :
فويسك، هل ما زلت تسمع؟
فويسك :
سكون، كل شيء ساكن، كأن العالم مات.
أندريس :
هل سمعت؟ إنهم يقرعون الطبول. لا بد أن نذهب!
المدينة (أمام النافذة ماريا تحمل طفلها بين ذراعيها - مرجريت.) (يمر طابور عسكري في مقدمته ضابط الطبول.)
ماريا (تهدهد الطفل بين ذراعيها) :
هه، سارا را را! هل تسمع! ها هم قادمون.
مرجريت :
يا له من رجل، كأنه شجرة!
ماريا :
واقف على رجليه وقفة السبع! (ضابط الطبول يحيي.)
مرجريت :
وهذه النظرات الودودة يا ست الجارة! لم تعودينا على رؤيتها.
ماريا (تغني) :
كتائب العسكر ،
أولئك الفتيان.
مرجريت :
ما زالت عيناك تلمعان.
ماريا :
ولو! اذهبي بعينيك إلى اليهودي ودعيه يمسحهما، فقد تلمعان أيضا وتبيعينهما مقابل زرارين.
مرجريت :
ماذا؟ أنت يا عانس! أنا شريفة، أما أنت فكل واحد يعرف من أنت! كل واحد يكشفك ولو لبست سبعة سراويل من الجلد فوق بعض.
ماريا :
يا فاجرة! (تغلق النافذة)
تعال يا صغيري نبتعد عن عيون الناس. ما أنت إلا ابن حرام مسكين، تفرح أمك بوجهك المنحوس. ها! ها! (تغني) :
يا فتاتي ...
ضاقت الدنيا فماذا تصنعين؟
ويل أم مالها الدهر قرين
لي وليد ليس يدري من أبوه
أمه يعرفها أما أبوه؟
لو قضيت الليل أشدو وأغني
ما حنا قلب عليه أو عليا
لا ولا امتدت يد تعطيه شيا (طرق على الباب.)
ماريا :
من؟ فرانز؟ ادخل!
فويسك :
لا أستطيع، لا بد أن أذهب للقشلاق.
ماريا :
هل قطعت الأعواد للضابط؟
فويسك :
نعم يا ماريا.
ماريا :
مالك يا فرانز؟ الارتباك يبدو عليك.
فويسك (مأخوذا كأنه يهمس بشيء) :
ماريا، لقد عاد إلى الظهور من جديد. شيء رهيب لا اسم له. فجأة تصاعد دخان من المراعي، كالدخان الذي يتصاعد من فرن؟
ماريا :
يا رجل!
فويسك :
ظل يتبعني إلى مشارف المدينة. شيء لا ندركه ... لا نستطيع تصوره. شيء يسلبنا العقل. ترى ماذا يكون؟ إلى أين يسوقني؟
ماريا :
فرانز!
فويسك :
لا بد أن أذهب للسجن اليوم مساء في القداس! لقد ادخرت شيئا. (ينصرف.)
ماريا :
الرجل مسته الأرواح. لم ينظر إلى طفله! ما زال غارقا في أفكاره! لماذا سكت يا صغيري؟ هل أنت خائف؟ الظلام يزحف، يكاد الإنسان يحسب نفسه أعمى، وكان الصباح يرسل نوره هنا. لا أستطيع أن أحتمل هذا الظلام، إنني أرتعد! (تنصرف.) (أكشاك - أضواء - جمهور.) (عجوز يغني وطفل يرقص على أنغام صندوق مما يحمله المغنون الجوالون في الشوارع.)
هذه الدنيا زوال وفتون
كل ما كان وما سوف يكون
كتب الموت علينا أجمعين
ذاك ما نعلمه علم اليقين
فويسك :
هاي! عجوز مسكين! طفل مسكين، طفل صغير! هموم وأعياد!
ماريا :
عجبا. إن كان الحمقى قد فقدوا عقولهم، فكلنا أحمق، عالم مضحك! عالم جميل! (يتجهان نحو الصائح في السوق.)
الصائح في السوق (على أحد الأكشاك ومعه زوجته وقرد في ثياب مزوقة) :
سيداتي، سيداتي! انظروا إلى الخليقة كما أبدعها الله. لا شيء، لا شيء بالمرة، تأملوا الآن الفن، يسير منتصب القامة، عليه سترة وسروال، وفي يده سيف! القرد عسكري، ليس هذا هو كل شيء ... أدنى رجال النوع الإنساني! هوه! انحنى للسادة، هكذا، أنت بارون قبلة للزبائن (يطبل)
الصعلوك موسيقار موهوب!
سيداتي! سيداتي! أمامكم الحصان الفلكي وعصفور الكناري الصغير، كل ملوك أوربا تحبهما.
يكشفان كل الأسرار: العمر، عدد الأطفال، نوع المرض، العرض بدأ! بداية البداية في الحال!
فويسك :
لك مزاج؟
ماريا :
كما تحب. لا بد أنها حاجة حلوة. هذا الطرطور على رأس الرجل! والمرأة تلبس سراويل! (يدخلان الكشك.)
ضابط الطبول :
قف! ها ها! هل تراها؟ يا لها من حرمة!
الصف ضابط :
يا إبليس! كأنها خلقت لتهجين فصائل الفرسان!
ضابط الطبول :
وتوليف ضباط الطبول!
الصف ضابط :
انظر كيف تحمل رأسها بين كتفيها! يخيل للإنسان أن الشعر الأسود لا بد أن يشدها إلى الوراء كأنه حمل ثقيل، والعيون.
ضابط الطبول :
كما لو كان الإنسان يطل في ينبوع أو ينظر في مدخنة. هيا بنا، وراءها! (الكشك المنور من الداخل.)
ماريا :
هذا النور كله!
فويسك :
نعم، يا ماريا. قطط سوداء عيونها من نار، آه، يا لها من ليلة!
صاحب الكشك (يستعرض حصانا أمام الجمهور) :
أظهر مواهبك! بين مفهوميتك الحيوانية! أخجل المجتمع البشري! سادتي! هذا الحيوان الذي ترونه أمامكم، بذيله وحوافره الأربعة، عضو في كافة الجمعيات العلمية.
بروفسور في جامعتنا، على يديه يتعلم الطلبة ركوب الخيل والمبارزة. ذلك هو العقل البسيط. فكر الآن بالعقل المزدوج! ماذا تفعل عندما تفكر بالعقل المزدوج؟ هل بين أعضاء الجمعية العلمية التي نراها حمار؟ (البغل يهز رأسه)
هل رأيتم الآن العقل المزدوج؟ هذه فزيونوميا حيوانية.
4
أجل ليس هذا بهيميا غبيا، إنه شخص، إنسان، إنسان حيواني، ومع ذلك فهو بهيم، حيوان متوحش (البغل يعرض نفسه في خيلاء)
هكذا أخجل الجميع . انظروا، إن البهيم طبيعة بحتة، طبيعة غير مثالية تعلموا منه! اسألوا الطبيب، وإلا أصابكم ضرر بليغ. كان يقال: أيها الإنسان، كن على طبيعتك! لقد خلقت من طين، ورمل، ووسخ. هل تطمع أن تكون أكثر من طين ورمل ووسخ؟ انظروا ما بلغه من العقل. إن في إمكانه أن يحسب بدون أن يعد على أصابعه. لماذا؟ لأنه لا يستطيع أن يعبر عن نفسه، أن يشرح خواطره، إنه إنسان ممسوخ. قل للسادة كم الساعة الآن؟ من من السادة والسيدات لديه ساعة؟ ساعة؟
الصف ضابط :
ساعة؟ (يخرج في زهو ساعة من جيبه)
هاك هي يا سيدي!
ماريا :
لا بد أن أرى هذا (تشق طريقها إلى الصفوف الأمامية، الصف ضابط يساعدها.)
ضابط الطبول :
أما حرمة!
غرفة ماريا
ماريا (جالسة طفلها على حجرها ومرآة صغيرة في يدها) :
والرجل الآخر أمره فاضطر أن يذهب! (تنظر في المرآة)
كم تلمع الأحجار! من أي نوع يا ترى؟ ما الذي قاله؟ نم يا صغيري! أقفل عينيك. أقفلهما جيدا (الطفل يخفي عينيه بيديه)
هل تغلقهما جيدا؟ ابق هكذا، حذار أن تبكي، وإلا جاء وخطفك. (تغني) :
يا فتاة ...
أغلقي الشباك حتى لا يراك
أسمر العينين من أرض الغجر
فارس لو أبصره مقلتاك
لحظة أو قبلته شفتاك
ربما يطويك في لمح البصر
في ذراعيه إلى أرض الغجر!
5 (تعيد التطلع في المرآة)
لا شك أنه من ذهب! هل يا ترى سيليق علي في الرقص؟ آه من بختنا نحن المساكين كتب للواحدة منا ركن صغير في هذا العالم، ومرآة صغيرة في اليد. مع أن لي شفة حمراء كنساء الذوات بمراياهن الكبيرة من شعرهن إلى القدم، ورجالهن المرفهين الذين يقبلون أيديهن. ما أنا إلا امرأة مسكينة! (الطفل يصحو من نومه)
نم، نم يا صغيري! أقفل عينيك! عفريت الليل. ها هو يمشي على الحائط وينظر بعينين من زجاج، نم، وإلا بحلق فيك وخطف عينيك! (فويسك يدخل ويقف وراءها بحيث لا تراه، ماريا تتحسس الحلق بيدها.)
فويسك :
ما هذا؟
ماريا :
لا شيء.
فويسك :
والذي يلمع تحت أصابعك؟
ماريا :
حلق عثرت عليه.
فويسك :
شيء كهذا لم أره في حياتي، اثنين مرة واحدة!
ماريا :
ألست مثل كل الناس؟
فويسك :
لا بأس يا ماريا. الطفل ينام! اجذبيه من تحت ذراعيه فالكرسي يضغط عليه. قطرات تلمع فوق جبهته، تعب كل ما تحت الشمس، حتى في نومه يتصبب الإنسان عرقا. نحن المساكين! خذي يا ماريا، المرتب وشيء من الضابط.
ماريا :
ربنا يجازيك بالخير يا فرانز.
فويسك :
لا بد أن أذهب الليلة يا ماري! الوداع!
ماريا (وحدها، بعد برهة) :
ما أنا في الحقيقة إلا إنسان سيئ. إني أكاد أقتل نفسي. آه من هذا العالم! ليذهب الجميع إلى الشيطان رجالا ونساء!
عند الطبيب
فويسك - الدكتور
الدكتور :
ماذا أسمع يا فويسك؟ هل هذه كلمة رجل؟
فويسك :
ماذا حصل يا سيدي الدكتور؟
الدكتور :
رأيت بعيني، بعيني يا فويسك وأنت تبول في الشارع، وأنت تبول على الحائط كما يفعل الكلب، وكل يوم ثلاثة قروش والزاد! فويسك، هذا شيء بطال، العالم يسوء كل يوم، يسوء للغاية!
فويسك :
ولكن يا سيدي الدكتور، عندما تتحكم الطبيعة في الإنسان.
الدكتور :
الطبيعة! الطبيعة! ألم أثبت بما لا يقبل الشك أن العضلة القابضة موسكولوس كونستركتور فيسكاي
6
خاضعة لإرادة الإنسان؟ الطبيعة! فويسك! إن الإنسان كائن حر. في الإنسان تسمو الفردية إلى الحرية. وأنت لا تستطيع أن تتحكم في البول؟ (يهز رأسه. يعقد يديه خلف ظهره ويمشي في الحجرة ذهابا وإيابا.)
هل أكلت البسلة يا فويسك؟ لا شيء غير البسلة، كروسيوفراي،
7
لاحظ هذا! ستكون ثورة في العلم. سأفجره في الهواء. بول عشرة في المائة أمونيوم، هيروكسيدول، حامض هيدروكلوريك. فويسك، هل تحس أنك مزنوق؟ ادخل وجرب.
فويسك :
لا أستطيع يا دكتور.
الدكتور (منفعلا) :
أما على الحانة فنعم! عندي الدليل المكتوب، والعقد في يدي! رأيت كل شيء، بعيني هاتين، كنت أخرج أنفي من النافذة لتسقط عليها أشعة الشمس وأراقب العطس (يتجه نحوه)
لا يا فويسك، لست غاضبا. إن الغضب غير صحي، غير علمي. إنني هادئ، كل الهدوء، كالمعتاد، وأقول لك هذا بمنتهى البرود. يا حفيظ، ومن يغضب نفسه من أجل إنسان، من أجل إنسان! حتى لو كان بروتيوس
8
ويموت أمامه! ولكن يا فويسك لم يكن يصح أن تبول على الحائط.
فويسك :
انظر يا سيدي الدكتور، في بعض الأحيان يكون للواحد منا أخلاق، يكون له طبع، أما مع الطبيعة فالأمر يختلف. انظر، مع الطبيعة (يطقطق أصابعه)
ماذا أقول يا ترى، على سبيل المثال ...
الدكتور :
فويسك. رجعت للفلسفة.
فويسك (في ود) :
سيدي الدكتور، هل سمعت مرة عن الطبيعة المزدوجة؟
عندما تظهر الشمس في عز الظهر، ويبدو العالم كأنه يحترق، أسمع صوتا مخيفا ينادي علي.
الدكتور :
فويسك، عندك خلل، أبيرراتسيو!
9
فويسك (يضع أصبعه على أنفه) :
الإسفنج، يا سيدي الدكتور، هناك، هناك تختبئ. هل لاحظت مرة أشكال الإسفنج التي تثبت على الأرض؟ أين من يفهم هذا؟
الدكتور :
فويسك! عندك أجمل حالة اختلال عقلي جزئي أبيرراتسيو منتاليس بارتياليس،
10
النوع الثاني، واضح تمام الوضوح. فويسك. ستأخذ علاوة. النوع الثاني. فكرة ثابتة مع حالة طبيعية بوجه عام. هل تؤدي أعمالك كالمعتاد؟ هل تحلق للضابط؟
فويسك :
نعم.
الدكتور :
وتأكل البسلة؟
فويسك :
بانتظام يا سيدي الدكتور، ومصاريف المعاش تأخذها زوجتي.
الدكتور :
وتخدم في القشلاق؟
فويسك :
نعم.
الدكتور :
حالة مدهشة يا نفر فويسك، ستأخذ علاوة. اثبت، هات النبض، تمام ...
حجرة ماريا
ماريا - ضابط الطبول
ضابط الطبول :
ماريا!
ماريا (وهي تنظر إليه بصوت معبر) :
تمشي قدامي! الصدر صدر ثور والذقن ذقن سبع. وما له نظير ... أنا أفتخر بك أمام كل النسوان!
الضابط :
عندما أعلق الريشة الكبيرة يوم الأحد وألبس القفاز الأبيض، رعدك باسما! الأمير يقول دائما رجل ولا كل الرجال!
ماريا (بتهكم) :
أوه! (تقترب منه)
رجل!
الضابط :
وأنت المرأة! يا شياطين! تعالي نرمي بذرة ضابط الطبول! هوه؟ (يعانقها.)
ماريا (في ضيق) :
اتركني!
الضابط :
يا وحش!
ماريا (بحرارة) :
لا تلمسني!
الضابط :
هل ينط الشيطان من عينيك؟
ماريا :
على رأيك! كله واحد!
شارع (الضابط، الدكتور يهبط الشارع مسرعا يقف، ينحني، ثم يتلفت حوله.)
الضابط :
يا دكتور، لا تجر هكذا! لا تطوح بعصاك هكذا في الهواء! أنت تجري وراء الموت ... الرجل الطيب صاحب الضمير الطيب لا يمشي بهذه السرعة. الرجل الطيب (يمسك بسترة الدكتور)
سيدي الدكتور، اسمح لي أن أنقذ حياة بني آدم!
الدكتور :
مستعجل، يا حضرة الضابط، مستعجل!
الضابط :
سيدي الدكتور، أنا دائما مغموم، عندي ميل للغم، كلما رأيت سترتي معلقة على الحائط بكيت غصبا عني.
الدكتور :
ه...م! أبخرة، سمنة ، رقبة وارمة، تكوين أبو بلكتي.
11
نعم يا سيدي الضابط، ربما تصاب بالنقطة أبوبلكسياسيربيري في جنب واحد، وفي الجنب الثاني تصاب بالشلل، أو على أحسن الفروض تصاب بالشلل العقلي وتعيش لتأكل فقط.
هذه تقريبا هي حالتك المنتظرة في الأربعة أسابيع المقبلة! على فكرة أستطيع أن أؤكد لك أن حالتك من أمتع الحالات، وإذا شاء الله وشل لسانك شللا جزئيا، فستكون هذه فرصة لعمل تجارب خالدة.
الضابط :
يا سيدي الدكتور، لا تدخل الرعب في قلبي! ياما ناس ماتت من الرعب، من الرعب وحده. أنا أرى الناس في أيديهم ليمون ولكنهم سيقولون كان رجلا طيبا، رجلا طيبا، شيطان! مسمار نعش!
الدكتور (ينزع قبعته من على رأسه) :
ما هذا، يا حضرة الضابط، هذه رأسه خاوية يا حضرة السيد النفر المحترم!
الضابط (مقطبا) :
يا حضرة الدكتور؟ هذا عبط، هذه سذاجة، يا عزيزي السيد مسمار النعش! هأ هأ هأ! لكن لا بأس! أنا رجل طيب ولكني أستطيع أيضا، إذا أردت يا دكتور، هأ هأ هأ إذا أردت (يظهر فويسك ويريد أن يمر مسرعا)
هيه! فويسك، ماذا يجعلك تمرق من جنبنا بهذه السرعة؟ انتظر يا فويسك! إنه يمشي في الدنيا كموس الحلاقة. كل من يقابله يجرحه وكأن وراءه فرقة مخصيين تحتاج الحلاقة، أو كأنهم سيشنقونه لو ترك شعرهم من غير حلاقة. لكن الذقون الطويلة، ماذا كنت أريد أن أقول؟ فويسك، الذقون الطويلة.
الدكتور :
ذقن طويلة تحت الفك. بلينيوس
12
تكلم عنها ومن رأيه أن نعلم العساكر كيف يقلعون عن هذه العادة.
الضابط (يستمر في حديثه) :
ها؟ على الذقون الطويلة! قل لي يا فويسك! ألم تجد شعرة ذقن في طبقك، هه، أنت طبعا فاهم؟ شعرة ذقن رجالي؟ صاحبها نفر ضابط طبول. هيه، ولكن زوجتك شريفة، بخلاف الناس كلهم.
فويسك :
نعم، ماذا تريد أن تقول يا حضرة الضابط؟
الضابط :
ولم هذه التكشيرة؟ ربما لم تجدها في الشربة، ولكن لو استعجلت ورحت على الناصية ربما تجد شعرة عالقة بشفتين ... شفتين ... يا فويسك! أنا أيضا شعرت بالحب، يا فويسك ولد! أنت أصبحت في لون الطباشير!
فويسك :
سيدي الضابط. أنا شيطان مسكين، لا أملك من الدنيا أي شيء. سيدي الضابط، إن كنت تمزح ...
الضابط :
أمزح؟ أنا أمزح معك يا ولد؟
الدكتور :
النبض، يا فويسك، النبض! بسيط، قوي، منتفض، غير منتظم.
فويسك :
يا سيدي الضابط. الأرض مثل جهنم الحمراء، وأنا جسمي ثلج، ثلج، جهنم برد، هل تراهن؟ مستحيل، يا عالم! يا ناس! مستحيل!
الضابط :
ولد! يعني أخبطك رصاصتين في نافوخك؟! تسلط عينيك تطعنني كالسكاكين، وأنا قصدي طيب معك، لأنك رجل طيب، يا فويسك رجل طيب.
الدكتور :
عضلات الوجه متحجرة، متوترة، تنتقض. الحالة متهيجة، ومتوترة.
فويسك :
أنا ماشي، كل شيء جائز، الإنسان، كل شيء جائز، الجو جميل اليوم يا سيدي الضابط، انظر، مثل هذه السماء الجميلة، الثابتة، الداكنة، يكاد الإنسان يجد متعة في أن يدق فيها لوح خشب ويشنق نفسه منه، لولا الفكرة التي تفصل بين نعم ونعم وبين لا ولا. سيدي الضابط، نعم ولا؟ هل اللامذنبة في حق النعم أم النعم في حق اللا؟ أريد أن أفكر في هذا. (ينصرف بخطوات واسعة بطيئة في أول الأمر، ثم تزدد سرعة بالتدريج.)
الدكتور (يندفع وراءه) :
ظاهرة! فويسك! لك علاوة!
الضابط :
سأدوخ من منظر هذا البني آدم. ما أسرعه! اللئيم المكار. رجله الطويلة تهرول كما لو كان ظل رجل عنكبوت، والرجل الصغيرة ترتعش. الطويلة هي البرق والقصيرة الرعد. ها ها! مسخرة! مسخرة!
حجرة ماريا
ماريا - فويسك
فويسك (ينظر إليها في جمود ويهز رأسه) :
هم! لا أرى شيئا، لا أرى شيئا آه. لا بد للإنسان أن يراه، أن يتمكن من القبض عليه بكلتا يديه!
ماريا (خائفة) :
ما لك يا فرانز؟ أنت تهذي يا فرانز.
فويسك :
خطيئة، بهذا السمك وبهذا العرض، رائحتها العفنة تفوح منها، بحيث يستطيع الإنسان أن يبخر الملائكة على رائحتها إلى السماء! فمك أحمر يا ماريا. أليس عليه أثر رمال؟ ماذا يا ماريا؟ أنت حلوة كالخطيئة، هل تستطيع الفاحشة أن تكون بهذا الجمال؟
ماريا :
فرانز، أنت تتكلم كالمحموم!
فويسك :
يا إبليس! هل كان يقف هناك؟ هكذا ؟ هكذا؟
ماريا :
لما كان النهار طويلا والعالم قديما، ففي إمكان الكثيرين أن يقفوا في مكان واحد، واحدا بعد الآخر.
فويسك :
لقد رأيته.
ماريا :
في استطاعة الإنسان أن يرى الكثير ما دامت له عينان وليس أعمى والشمس طالعة.
فويسك :
يا عالم! (يتقدم نحوها.)
ماريا :
لا تلمسني يا فرانز! طعنة السكين في جسدي أحب إلي من لمسة يديك. إن أبي لم يجسر في حياته على ضربي وعندي من العمر عشر سنوات، عندما كنت أنظر إليه.
فويسك :
يا امرأة! لا! لا بد أن فيك شيئا! كل إنسان هاوية سحيقة. يصيبنا الدوار حين نتطلع إليها. ليكن! إنها تسير كما لو كانت هي البراءة نفسها. ولكن لك، أيتها البراءة، علامة تدل عليك ... هل أعرفها؟ هل أعرفها؟ من الذي يعرفها؟! (ينصرف.)
غرفة الحراسة
فويسك - أندريس
أندريس (يغني) :
ست البيت الجارة
عندها خدامة شاطرة
قاعدة في الجنينة
ليلها ويا نهارها
قاعدة في الجنينة
13
فويسك :
أندريس.
أندريس :
هه؟
فويسك :
الجو جميل.
أندريس :
جو يوم الأحد، الموسيقى على باب البلد، من مدة خرجت النسوان، الناس طالع منها البخار، شيء عظيم!
فويسك :
رقص يا أندريس، إنهم يرقصون!
أندريس :
في الوحل وفي النجوم.
فويسك :
رقص! رقص.
أندريس :
على كيفهم (يغني) :
قاعدة في الجنينة
لغاية لما الساعة
تدق تناشر دقة
تتفرج عالعساكر
14
فويسك :
أندريس، أعصابي في دوامة.
أندريس :
مغفل.
فويسك :
لا بد أن أخرج، الدنيا تلف أمام عيني. رقص، رقص، هل ستصبح يداها دافئتين؟ أندريس! لعنة الله عليها!
أندريس :
ماذا تريد؟
فويسك :
لا بد أن أذهب، لا بد أن أراها.
أندريس :
يا مهووس! كل هذا من أجل هذا المخلوق؟
فويسك :
لا بد أن أخرج ... الحر يخنقني هنا.
ملهى (النوافذ مفتوحة، أرائك أمام الملهى، صبية من عمال الحرف اليدوية.)
الصبي الأول (يغني) :
شايل قميص على جتتي
بس القميص مش من نصيبي
نفسي أدوق طعم النبيت
وأشرب كاسين من إيد حبيبي
15
الصبي الثاني :
أخي، هل تحب أن أشق لك خرما في الطبيعة، لأجل خاطر صداقتنا؟ إلى الأمام! أريد أن أخرم خرما في الطبيعة! أنا أيضا شهم كما نعرف! أريد أن أفعص كل البراغيث على جسدك!
الصبي الأول :
روحي، روحي تفوح برائحة الخمر، حتى المال يفسد! يا وردة لا تنسني، ما أجمل هذا العالم! أريد أن أملأ برميلا لآخره بالكآبة والنواح حتى يطفح، تمنيت لو كان أنفانا زجاجتين، واستطعنا أن يصب كل واحد منا في رقبة الآخر.
آخرون (يغنون غناء الجوقة) :
صياد من أرض الفالس
راح يصطاد جوه الغابة
والغابة كانت خضرة
هاللو؟ هاللو؟ ياما أحلى الصيد
ما أحلاه، عالمرعى الخضرا
16
ما أحلاه ما أحلاه! فرحتي وهناية! (فويسك يقف أمام النافذة، ماريا وضابط الطبول يمران عليه وهما يرقصان متعانقين، دون أن يلحظاه.)
ماريا (وهي تعبر راقصة) :
ضمني بشدة، بشدة.
فويسك (يختنق) :
بشدة، بشدة! (ينهض في هياج ثم يسقط على الأريكة)
بشدة، بشدة! (يشبك يديه)
لفوا! دوروا! لماذا لا ينفخ الله في الشمس فيطفئها حتى يتمرغ الجميع في الفاحشة، رجالا ونساء، آدميين وبهائم ... افعلوها في وضح النهار، الدغوا الناس في أيديهم كما تفعل البعوض! النسوان! النسوان ساخنة، ساخنة! بشدة، بشدة! (في هياج)
الجدع، منظره وهو يطوقها، يضم جسدها! إنها الآن ملكه، كما كانت ملكي في البداية. (ينهار فاقد الوعي.)
الصبي الأول (يلقي عظة من فوق المائدة) :
ومع ذلك، فعندما يقف عابر متجول ويستند إلى نهر الزمان أو يستنجد بالحكمة الإلهية ويخاطب نفسه قائلا: لم كان الإنسان؟ لم وجد الإنسان؟ الحق أقول لكم: من أي شيء كان يحيا الفلاح والنقاش والطبيب لو لم يخلق الله الإنسان؟ من أي شيء كان يحيا الترزي، لو لم يفطر الله الإنسان على الخجل والحياء، ومن أي شيء كان يحيا الجندي لو لم يزوده بالحاجة إلى قتل نفسه؟ من أجل هذا لا ترتابوا. أجل، أجل، إنه لشيء جميل ورائع، ولكن كل ما على الأرض شر، حتى المال يفسد ويزول. وفي الختام، يا مستمعي الأعزاء، دعونا نتبول على الطبيب، لكي يموت يهودي. (يستيقظ فويسك على أصوات الهتاف ويسرع بالانصراف.)
حقل في الخلاء
فويسك :
بشدة! بشدة! هش، هاش، تلك أصوات الكمنجات والصفافير. بشدة! بشدة ! سكوت! موسيقى! ما الذي يتكلم تحت الأرض؟ (يتمدد على الأرض)
ها! ماذا، ماذا تقولين؟ ارفعوا أصواتكم! ارفعوا أصواتكم! اقتل! اقتل! المعزة! اقتل! اقتل! المعزة! هل ينبغي علي؟ هل يجب علي؟ هل أسمع الصوت هناك أيضا؟ أتقولها الريح كذلك؟ هل أسمعها تقول بشدة، بشدة، اقتل، اقتل!
حجرة القشلاق (ليل، فويسك، وأندريس في سرير واحد.)
فويسك (هامسا) :
أندريس! (أندريس يكلم نفسه وهو نائم.)
فويسك (يهز أندريس) :
ما، أندريس! أندريس!
أندريس :
هه؟ ماذا؟
فويسك :
لا أستطيع أن أنام! كلما أغمضت عيني، رأيت كل شيء يلف أمامي وسمعت أصوات الكمان، بشدة، ثم أسمع صوتا يتكلم من الحائط. ألا تسمع شيئا؟
أندريس :
نعم، دعهم يرقصون. أنا تعبان، ليحفظنا الله، آمين.
فويسك :
الصوت لا يزال يقول: اقتل! اقتل! ويندس بين عيني كالسكين.
أندريس :
ثم يا مغفل. (يعود للنوم.)
فويسك :
بشدة! بشدة!
فناء في بيت الطبيب (طلبة مع فويسك في الفناء، الطبيب يطل عليهم من نافذة في أعلى السطح.)
الدكتور :
سادتي، أنا أقف على السطح مثل داود، عندما رأى باتسيبا.
17
ولكني لا أرى غير كيلوتات فرنسية منشورة في بنسيون البنات تجففها الشمس في الحديقة. سادتي، لقد وصلنا إلى المسألة الهامة عن علاقة الذات بالموضوع. لو أننا أخذنا شيئا من بين الأشياء التي يتجلى فيها التأكيد الذاتي العضوي للألوهية على مثل هذا المستوى الرفيع، وبحثنا عن العلاقات التي تربطها بالمكان، والأرض، والأفلاك، سادتي، لو قذفت بهذه القطة من النافذة، فكيف يكون سلوك هذا الكائن بالنسبة لمركز الجاذبية، سنتروم جرافيتاسيونس، تبعا لغريزتها الخاصة بها؟ هه، فويسك (يزعق)
فويسك!
فويسك (يلتقط القطة) :
سيدي الدكتور، القطة تعض!
الدكتور :
ولد، أنت تمسك الحيوان بحنان كما لو كان ستك الكبيرة. (ينزل إلى الفناء .)
فويسك :
سيدي الدكتور، عندي رعشة.
الدكتور (بفرح عظيم) :
آي، آي! عظيم، يا فويسك! عظيم! (يمسح يديه في بعضهما ويتناول القطة)
ماذا أرى، سادتي، النوع الجديد من قمل الأرانب، نوع جميل ... (يخرج زجاجة من جيبه، تفلت القطة منه)
سادتي، ليست لدى القطة أي غريزة علمية. نستطيع أن نرى شيئا آخر. انظروا ، هذا البني آدم، من ربع سنة وهو لا يأكل إلا البسلة، لاحظوا تأثيرها عليه، تحسسوا بأنفسكم النبض المضطرب! النبض والعينين!
فويسك :
سيدي الدكتور، الدنيا تسود في عيني. (يجلس.)
الدكتور :
تشجع يا فويسك، كلها يومان ثم ينتهي كل شيء ... تحسسوا يا سادة، تحسسوا! (يتحسسون سوالفه ونبضه وصدره)
بالمناسبة يا فويسك، حرك أذنيك أمام حضرات السادة! كان في نيتي أن أفرجكم عليها، فعنده عضلتان تتحركان. هيا!
18
إلى العمل!
فويسك :
آخ يا سيدي الدكتور.
الدكتور :
يا حيوان، هل علي أن أحرك أذنيك بنفسي، هل تريد أن تتشبه بالقطة، هكذا يا حضرات السادة! هذه مرحلة انتقال للحمار، وهي في الغالب نتيجة التربية الأنثوية ولغة الأم. كم شعرة جذبتها أمك من رأسك للذكرى وبدافع الحنان؟ لقد خف شعرك كثيرا في الأيام الأخيرة. حضرات السادة، كل هذا بتأثير البسلة!
ساحة في القشلاق
فويسك :
ألم تسمع شيئا؟
أندريس :
إنه هناك مع أحد زملائه.
فويسك :
هل قال شيئا؟
أندريس :
وكيف عرفت؟ ماذا أقول؟ طيب. لقد ضحك، ثم قال: امرأة لذيذة لها أفخاذ دافئة وكل شيء فيها دافئ!
فويسك (ببرود شديد) :
هل قال هذا؟ ماذا رأيت الليلة في المنام؟ ألم أحلم بسكين؟ يا لها من أحلام حمقاء!
أندريس :
إلى أين يا صاحبي؟
فويسك :
احضر خمرة لحضرة الضابط، ولكن يا أندريس، كانت مع ذلك فتاة لا نظير لها.
أندريس :
من؟
فويسك :
لا شيء. إلى اللقاء؟ (ينصرف.)
ضابط الطبول - فويسك - ناس
ضابط الطبول :
أنا رجل (يضرب بيديه على صدره)
أنا قلتها كلمة، رجل! هل فتح أحد فمه؟ هل يحب أن يتعرض لي؟ من لا يشرب شرب الآلهة، فليبتعد عن سكتي وإلا حشرت أنفه في خرمه! أريد (لفويسك)
أنت يا جدع، اشرب ! نفسي العالم كله يصبح خمرة، خمرة! الرجل لا بد أن يشرب! (فويسك يصفر)
ولد، هل أشد لسانك من رقبتك وألفه حول جثتك؟ (يتصارعان، فويسك يخسر)
هل أكتم على نفسك حتى تصيح مثل نساء العجوز؟ أعملها؟ (فويسك يلقي بجسده في إعياء على إحدى الأرائك وهو يرتعد)
كان لازم الولد يشرب طينة ويصفر! (يغني) :
الخمرة هي حياتي
الخمرة تدي القوة!
19
واحدة :
سمنته فيه!
أخرى :
دمه ينزف!
فويسك :
واحد بعد الثاني.
دكان
فويسك - اليهودي
فويسك :
المسدس غالي جدا.
اليهودي :
ستشتري أو لا؟ ما هي الحكاية؟
فويسك :
وثمن السكين؟
اليهودي :
السكين مسنونة تماما. هل تحب حضرتك أن تقطع بها رقبة حضرتك؟ هه، ما رأيك أنا أعطيها لحضرتك بثمن مرتاح، مثلك مثل غيرك. من حقك أن تموت ميتة مرتاحة، لكن ليس من حقك أن تموت مجانا. ما رأيك؟ أنا سأخدمك لتموت ميتة اقتصادية.
فويسك :
تقطع أكثر من العيش؟
اليهودي :
قرشين.
فويسك :
خذ! (ينصرف.)
اليهودي :
خذ! كأن الفلوس تراب! مع أنها فلوس! أما كلب صحيح!
حجرة ماريا (العبيط راقدا يحكي حكاية على أطراف أصابعه.)
العبيط :
على رأسه تاج ذهبي، الملك العظيم ... في الصباح أحضر للست الملكة طفلها. سجق الدم يقول: تعال يا سجق الكبد ...
ماريا (تتصفح الكتاب المقدس) : «ولم يخرج الغش من فمه.» إلهي، إلهي! لا تنظر إلي (تقلب في صفحات الكتاب المقدس)
ولكن الفريسيين
20
أحضروا إليه امرأة زانية ووضعوها في الوسط. أما يسوع فقال: أنت أيضا لا ألعنك، اذهبي ولا ترتكبي الخطيئة بعد الآن. (تعض يديها)
إلهي! إلهي! لا أستطيع! إلهي، أعطني أن أقدر على الصلاة. الطفل (يقترب منها)
الطفل يطعنني في قلبي. (للعبيط)
كارل! إنه يتمطع في الشمس. (العبيط يتناول الطفل من يديها ويسكت)
فرانز لم يحضر، لا أمس، ولا اليوم. الحر يزداد هنا. (تغلق النافذة وتواصل القراءة)
وركعت عند قدميه وبكت، وشرعت تبلل قدميه بالدموع وبشعر رأسها تجففهما، وقبلت قدميه ودهنتهما بالمسك (تضرب صدرها بكفها)
كل شيء ميت! أيها المخلص! أيها المخلص! أريد أن أدهن قدميك بالمسك.
قشلاق
أندريس - فويسك يقلب في أشيائه
فويسك :
أندريس، الصديري يحتاج للتصليح. ربما تحتاج إليه يا أندريس.
أندريس (في جمود يوافق على كل ما يقول) :
نعم.
فويسك :
الصليب لأختي والخاتم الصغير.
أندريس :
نعم ...
فويسك :
معي كذلك صورة قديس، قلبان وذهب جميل. كان في إنجيل أمي، مكتوب عليه:
مولاي، يا أيها المخلص الشهيد.
واسمح لقلبي أن يكون مثل جسمك الجريح.
أمي لا تشعر الآن بأي شيء، إلا إذا لمعت الشمس على يديها، لا بأس.
أندريس :
نعم ...
فويسك (يبرز ورقة) :
فريدريش يوهان فرانز فويسك، عسكري نفر ببندقية في الكتيبة الثانية، السرية الثانية، الفصيلة الرابعة، مولود في عشرين يوليو، الموافق بشارة مريم، عمري اليوم ثلاثون، وسبعة أشهر، واثنا عشر يوما.
أندريس :
فرانز! أحسن لك تدخل المستشفى يا مسكين، لا بد أن تشرب كونياك مخلوطا بمسحوق البارود ليقتل الحمى.
فويسك :
نعم، يا أندريس، لما النجار يجر الفارة على خشب التابوت، لا يدري أحد من الذي سيسند رأسه عليه.
شارع (ماريا ومعها بنات صغيرات أمام باب الدار، بعد فترة يحضر فويسك.)
البنات :
الشمس تبدو كاللهب،
والقمح يزهو كالذهب،
في يوم تتويج المسيح
ذهبوا للمرعى
اثنين اثنين ...
الناي أماما،
في الخلف كمنجة.
ما أحلى السير
بحذاء أحمر!
الطفل الأول :
سخيفة!
الطفل الثاني :
أنت دائما طماع!
الطفل الأول :
غني لنا أنت!
ماريا :
لا أستطيع.
الطفل الأول :
لماذا؟
ماريا :
لأني لا أعرف.
الطفل الأول :
ولماذا لا تعرفين؟
الطفل الثالث :
ستي احكي لنا حكاية!
الجدة :
تعالوا يا براغيث. كان يا ما كان طفل مسكين غلبان، لا له أب ولا أم، كان كل شيء ميت، ولا كان فيه على وجه الأرض إنسان، كل شيء كان ميت، وراح الطفل يبحث ليل مع نهار. ما كان فيه أحد على الأرض، أحب يطلع للسماء، والقمر نظر إليه نظرة حنان، ولما وصل القمر وجده قطعة خشب فسدان، تركه وراح للشمس، ولما وصل للشمس لقاها عباد شمس دبلان، ولما راح للنجوم، لقاها ناموس صغير مذهب، كانت كمثل الخناق
21
المنور، ولما أحب يرجع للأرض، كانت الأرض مينا مهدمة مقلوبة، وكان وحيد، وحيد في الدنيا كلها. قعد على الأرض وبكى، وما زال قاعد لليوم، قاعد وحده يبكي.
فويسك :
ماريا!
ماريا (مفزوعة) :
هيه؟!
فويسك :
هيا نذهب. آن الأوان.
ماريا :
إلى أين؟
فويسك :
وهل أعرف؟
طرف الغابة، عند المستنقع
ماريا - فويسك
ماريا :
إذن فهناك تقع المدينة، الدنيا عتمة.
فويسك :
ابقي لحظة، تعالي، اجلسي!
ماريا :
ولكن لا بد أن أذهب.
فويسك :
لن تجرحي قدميك من المشي.
ماريا :
ما أغرب حالك!
فويسك :
ماريا. هل تعرفين كم مضى على زواجنا؟
ماريا :
في عيد الفصح سنتان.
فويسك :
وهل تعرفين أيضا، كم بقي لنا؟
ماريا :
لا بد أن أذهب؛ لأحضر العشاء.
فويسك :
هل تشعرين بالبرد، يا ماريا؟ ومع ذلك فأنت دافئة، ما أدفأ شفتك! دافئة، أنفاسك دافئة كأنفاس البغايا! ومع ذلك أتمنى من السماء أن أقبلها مرة واحدة. هل تشعرين بالبرد؟ حين يكون الإنسان باردا، لا يتأثر بالبرد ... لن تبردي من ندى الصباح.
ماريا :
ماذا تقول؟
فويسك :
لا شيء ... (صمت.)
ماريا :
ما أشد احمرار القمر وهو يبزغ!
فويسك :
مثل حديدة ملطخة بالدم.
ماريا :
ماذا تريد؟ فرانز، وجهك شاحب. (يرفع يده بالسكين)
فرانز، قف! بحق السماء، النجدة! النجدة! فويسك!
فويسك (يطعنها) :
خذي هذه، وهذه! ألا يمكنك أن تموتي! هكذا، هكذا، ها! ما زالت تنتفض، لم تموتي بعد؟ لم تموتي بعد؟ ما زالت فيك بقية (يوالي طعناته)
هل مت الآن؟ ماتت! ماتت! (تسقط السكين من يده وينصرف مسرعا.)
الملهى
فويسك :
ارقصوا جميعا، بشدة! بشدة! تصببوا عرقا، لتفح منكم الروائح العفنة! سوف يأخذكم جميعا، في يوم من الأيام! (يغني) :
يا حبيبتي يا بنتي،
ناوية على إيه؟
حبيتي العربجية
وعشقتي السواقين.
22 (يرقص)
كيته! اقعدي! أنا حران، حران! (يخلع سترته)
هذا حال الدنيا. واحدة يأخذها عزرائيل والثانية يتركها على رجليها. كيته! أنت دافئة، لماذا إذا؟ كيته، أنت أيضا ستصبحين باردة، كوني عاقلة، ألا تستطيعين أن تغني؟
كيته (تغني) :
الهدمة إن طالت
أنا مالبسهاشي،
وبلاد شقاين
أنا ما أروحهاشي،
والجزمة السودة
أنا ما أقبلهاشي،
دي حاجات ما تليقشي
بالخدامين!
فويسك :
لأ! من غير حذاء، الإنسان يقدر يروح جهنم حافي القدمين!
كيته (تغني) :
يا حبيبي ده عيب
ما يصحش منك،
لأ خلي فلوسك
ونام لوحدك!
23
فويسك :
نعم، صحيح، لا أريد أن أوسخ نفسي بالدم.
كيته :
لكن ما هذه البقع على يدك؟!
فويسك :
أنا؟ أنا؟
كيته :
أحمر! دم! (يتجمع الناس حولها.)
فويسك :
دم؟ دم؟
صاحب الملهى :
آخ! دم.
فويسك :
يظهر أنني قطعت أصبعي، هنا في اليد اليمنى.
صاحب الملهى :
ولكن كيف وصل الدم إلى كوعك؟
فويسك :
كنت أمسحه من عليها.
صاحب الملهى :
ماذا؟ تمسح كوعك الأيمن بيدك اليمنى؟ شاطر!
العبيط :
عند ذلك قال العملاق: أنا أشم، أنا أشم رائحة لحم بشر، أف! الرائحة فاحت!
فويسك :
يا جن يا أبالسة! اللعنة عليكم! ماذا تريدون؟ ماذا يهمكم! أفسحوا الطريق وإلا فإن أول واحد فيكم ... اللعنة عليكم! أتريدون أن تتهموني بالقتل؟ هل أنا قاتل؟ لماذا تبحلقون في؟ انظروا إلى أنفسكم؟ أفسحوا المكان! (يفر.)
عند المستنقع
فويسك وحده
فويسك :
السكين؟ أين السكين؟ تركتها هنا. سوف تفضحني! اقترب! اقترب! أي مكان هذا؟ ماذا أسمع؟ شيء يتحرك. في هذه الناحية. ماريا؟ ها ماريا؟ سكون. كل شيء ساكن! ما هذا الشحوب على وجهك؟ ماريا! ما هذا الرباط الأحمر حول رقبتك؟ من الذي أخذت منه العقد ثمنا لخطاياك؟ اسود وجهك منها، اسود وجهك! هل أنا السبب في هذا الشحوب؟ لماذا تناثر شعرك؟ ألم تضفري خصلاتك اليوم؟ السكين، السكين! هل عثرت عليها؟ ها هي! (ينحني إلى الماء)
هكذا، اسقطي في القاع! (يلقي بالسكين في الماء)
إنها تغوص كالحجر في الماء العكر. (يغوص في المستنقع ويقذف السكين بعيدا)
هكذا، الآن، ولكن في الصيف حين يغطسون بحثا عن القواقع؟ آه، سوف تصدأ. وأين من يستطيع التعرف عليها؟ لو كنت كسرتها! هل ما زال الدم علي؟ لا بد أن أغتسل، هذه بقعة، وهذه بقعة أخرى. (تأتي جماعة من الناس.)
الأول :
قف عندك!
الثاني :
هل تسمع؟ سكوت! هناك!
الأول :
آه هناك! ما هذا الصوت!
الثاني :
هو صوت الماء، إنه ينادي، من مدة طويلة لم يغرق أحد، فلنذهب! خير لنا ألا نسمعه.
الأول :
آه! عاد الصوت! كما لو كان صوت إنسان يموت.
الثاني :
فظيع! قاتم، معتم بلون الضباب وأزيز الخنافس مثل صوت الأجراس المحطمة. لنهرب بأنفسنا ...
الأول :
لا، إنه صوت واضح مرتفع! هناك، تعال معي! ... (ينصرفان.)
Página desconocida