ووصلت السيارة إلى شارع محمد علي. ود لو لم تصل إليه أبدا. وكان قد دبر الأمر كله في عقله، ولكنه شعر في تلك اللحظة بأنه في حاجة إلى معاودة التفكير مرة أخرى من مبدئه، كأنه لم يطرقه بعد. وهنا اعترضت الطريق عربة كبيرة عرقلت حركة المرور؛ فاضطر السائق إلى إيقاف السيارة، فنظر إلى الأمام ليستطلع ما هنالك فرأى العربة وإلى جانبها شرطي يهدد سائقها، رباه! لقد أرعبه مشهد الشرطي، وأثلج دمه في عروقه، وهم أن يأمر السائق بالرجوع .. وعلى حين فجأة سمع صوتا يناديه قائلا: بابا!
فالتفت مذعورا فرأى زوزو واقفة على سلم السيارة، ووجهها الجميل قريب منه، وكانت تمسك بحقيبتها في يد وتعالج بالأخرى الباب لتدخل إلى أمها. فلما كان لها ما أرادت جرت إليه فرحة مسرورة، فمنعها بيده وسألها بسرعة ولهجة جافة: لم أنت هنا؟ - أنا آتية من البيت؛ حيث كنت أتناول غدائي وذاهبة إلى المدرسة. - حسن .. حسن .. هيا إلى المدرسة بسرعة لئلا تتأخري. - انتظر، عندي لك خبر سار .. هل تشتري لي شيكولاتة نسلة إذا قلته لك؟ - ليس الآن .. هيا .. هيا. - عمتي!
فجمد لسانه في فمه، ونظر إليها نظرة غريبة؛ ففرحت البنت لأنها لفتت انتباهه إليها وقالت: ماتت. - ماتت عمتك!
فرت هذه العبارة من فمه في صراخ مدو .. فازداد فرح الفتاة، وقالت: نعم .. هذا ما قالته لي حميدة «الخادمة» لما سألتها عن تغيب ماما على غير عادتها.
وصرف زوزو بعد أن وعدها خيرا، وأمر السائق وهو يلهث بالذهاب إلى المدرسة، نعم، إلى المدرسة ليسلم بدوره الأمانة إلى مستحقيها. لقد أتاه الفرج دفعة واحدة. لقد أنقذ بعد أن تدلى جسمه في الهاوية، أنقذ من الإفلاس والخراب والسرقة والجريمة والسجن. رباه! إنه لم يقدر هذا، ولم يحلم به أبدا وما كان في مكنة مخلوق مهما رسخ إيمانه أن يقدر هذه النهاية أو يحلم بها .. فالحمد لله .. الحمد لله!
وانصرف من المدرسة سريعا قاصدا بيت «المرحومة»، ووجده كما تعود أن يراه هادئا ساكنا لا صوت ولا نحيب .. فطرق الباب ثم دخل، وقابلته الممرضة، وكانت محافظة - برغم كل شيء - على هدوئها، وقد سألته منكرة: أجئت مرة أخرى؟
فنظر إليها دهشا، وقال: ما أغرب سؤالك! .. ألست على كل حال ابن أخيها؟!
واجتاز بها مسرعا إلى حجرة المتوفاة .. فرآها مستلقية على ظهرها ورأسها مائل نحوه، مفتحة العينين، بل رآها - وهو الأدهى - تنتصب قاعدة، وتشير إليه بيدها الضعيفة مهددة، وتصيح في وجهه: كيف تجرؤ؟ كيف تتجاسر؟ ألم أطردك طردا؟ اخرج .. اغرب عن وجهي.
والظاهر أن المرأة تأثرت من الغضب الذي تملكها فجأة، فسقطت على المخدة من الإعياء والجهد وصدرها يرتفع وينخفض. ووقف أمامها مبهوتا جامدا كالتمثال، ذاهلا لا يستطيع كلاما ولا حركة؛ كأنه ينظر إلى شبح مرعب لا إلى امرأة عجوز منهوكة القوى. وما أحس إلا يد الممرضة تسحبه إلى الخارج، فاستسلم لها طائعا، وغادر البيت دون أن ينبس ببنت شفة.
وقطع الطريق إلى بيته والذهول مستول عليه، وكان البيت يخيم عليه السكون - كعادته - إذ الأولاد في المدرسة. فظنت زوجه لأول وهلة أنه آيب من مكان عمله كعادته اليومية، ولكنها ما لبثت أن طالعت ما يكسو وجهه من آيات التجهم والذهول، فتملكها الروع والذعر، وظنت أن ما تشفق من حدوثه، وترجو الله آناء الليل وأطراف النهار دفعه قد وقع، وفزعت إلى سؤاله وهي أكره ما تكون للسؤال: ما بالك؟
Página desconocida