أول أبريل
ثمن زوجة
الذكرى
مفترق الطرق
التطوع للعذاب
القيء
الهذيان
فتوة العطوف
حلم ساعة
أول أبريل
Página desconocida
ثمن زوجة
الذكرى
مفترق الطرق
التطوع للعذاب
القيء
الهذيان
فتوة العطوف
حلم ساعة
فتوة العطوف
فتوة العطوف
Página desconocida
تأليف
نجيب محفوظ
أول أبريل
في منتصف الساعة السابعة صباحا وصل علي أفندي خليفة إلى المدرسة التي هو سكرتيرها، كعادته منذ خمسة عشر عاما، وباشر أعماله بالأسلوب الذي تعوده وألفه وصار قطعة من صميم حياته؛ إذ إن كل ساعة من حياته الحكومية كانت تسير على وتيرة واحدة لا تتبدل ولا تتغير، يدخل إلى «حجرة السكرتارية» فيحيي زملاءه - الكاتب والضابطين - تحية الصباح، ويجلس إلى مكتبه ثم يحضر عم خليل بالقهوة والماء المثلج، فيمضي في احتسائها وهو يتحدث إلى القاعدين أو يستمع إليهم، ثم يأخذ في فتح الدفاتر ويراجع ويكتب. ثم تخلو الحجرة حين يذهب الآخرون إلى فناء المدرسة لمراقبة التلاميذ وتنظيم صفوفهم، ثم يخف بعد ساعة من الزمن إلى لقاء الناظر لعرض الأوراق واستشارته في بعض الأمور وتلقي الأوامر والإرشادات. وإذا جاء اليوم الأول من الشهر ازدحمت حجرته بالمدرسين والموظفين وامتلأت يده بالأوراق المالية، فلا يزال يوزعها حتى لا يبقى إلا وريقات معدودة يودعها جيبه ساعة ريثما يوزعها بدوره أشتاتا على صاحب البيت والقصاب والبدال.
هكذا تدور عجلة حياته فتبدأ من نقطة وتعود إليها، ثم تبدأ وتعود بحيث لو شذت عن الخط المرسوم بمقدار ذرة - كأن يتأخر عم خليل بالقهوة دقيقة أو يدق الجرس فيبطئ الضابط لحظة في مغادرة الحجرة - قلق واضطرب واهتز رأسه يمنة ويسرة، مثله مثل النائم في ظل ساقية دائرة إذا وقف الثور لعلة انتفض مستيقظا منزعجا! إلا أن طارئا من الحدثين نزل بساحته أخيرا فبدل طمأنينته رعبا وسكينته قلقا وتفاؤله تشاؤما، وكان الكاتب يعلم بخبيئته من دون الآخرين؛ لأنه كان أحب الناس إليه وأقربهم مودة إلى قلبه، فلما رآه هذا الصباح دنا منه وفنجان قهوته في يده وسأله همسا: كيف حالك؟
فأجابه بصوت تمزقه نبرات اليأس: يسير من سيئ إلى أسوأ. - ألا يوجد بصيص أمل؟ - أبدا .. أبدا .. لا بيع ولا شراء .. الحركة راكدة، والديون متراكمة، والتجار يطالبون ويلحون ولا يعذرون، وبات شبح الإفلاس مني قاب قوسين أو أدنى .. فإذا وقع - ولا مرد له - خربت خرابا تاما، ودمرت حياتي وحياة أولادي تدميرا، وهويت إلى أعماق السجون.
فتنهد علي أفندي من قلب مكلوم، وقال بصوت خافت: لا أمل في النجاة.
فسكت الرجل محزونا، ثم ذكر أمرا فسأله: وعمتك؟ - أف .. أف .. لا رحمها الله في دنيا ولا آخرة .. إنها تود لو تفقد ذاكرتها كي لا أخطر لها على بال، ولقد انقطعت عن زيارتها مضطرا منذ حين؛ لأنها لا تراني حتى تصيح في وجهي: «ماذا جئت تصنع؟! أنا لم أمت بعد!» والمرأة تتبرع كل يوم بمئات الجنيهات للجمعيات الخيرية لا حبا في الخير، ولكن كي لا تخلف لي مالا بعد موتها المتوقع يوما بعد يوم.
فهز الرجل رأسه أسفا، وقال: ليتك يا علي لم ترم بنفسك في ميدان التجارة غير المأمون. - هذا هو الكلام الذي لا جدوى منه .. ومع هذا هل تنكر أن هذه التجارة هي التي يسرت علي أمري وجعلت عيشي رغدا، وأعانتني على تربية ستة من الأبناء؟ •••
قبل ثلاثين عاما كان علي أفندي تلميذا بالمدرسة الابتدائية يجتهد أن يفوز بشهادتها، وقد جرب حظه مرات في سنين متتابعة، فخاب مسعاه فيها جميعا، حتى نفد صبره وذوى أمله. ورأى أبوه أن يفتح له حانوت عطارة في الغورية، لبث فيه عامين يناضل في معترك الحياة، ولكن لم يكن حظه في حانوته بأسعد منه في مدرسته، فاضطر إلى إغلاق الدكان، ورجع خائبا إلى بيت أبيه. وهناك فكر في أمر مستقبله طويلا فوجد أن خير طريقة، أو أن الطريقة الوحيدة الباقية لديه، هي أن يعود إلى نبش كتبه التي نسج عليها العنكبوت، وأن يجرب حظه مرة أخرى كتلميذ مجتهد وإن تقدم به العمر. وفعل ونجح، ووظف كاتبا في وزارة المعارف، واطمأن إلى الحياة بعد أن أشرف على اليأس والقنوط، وغبط نفسه على عمله المضمون الرزق، وأحس في أعماق نفسه بفخار الرجولة ونشوة الاستقلال. ولما كان عرضة للنقل إلى أقاصي الوطن، آثر - عن حكمة - أن يتزوج. وقد جاب مختلف البلدان في مصر العليا والسفلى إلى أن انتهى به المطاف رجلا في ذروة الرجولة إلى مدرسته الحالية فتقلب في وظائفها جميعا حتى رقي إلى وظيفة السكرتير.
Página desconocida
وكان علي خليفة مثالا للرجل العادي الذي لا يخرج عن المألوف، وأنموذجا صادقا للأخلاق المصطلح عليها والعادات والتقاليد التي يجري بها العرف، لا يشذ إلى اليسار ولا يجنح إلى اليمين. وجد كل شيء جاهزا، فهش له وآمن به واتبعه، معتقدا مع المعتقدين، مستحسنا مع المستحسنين، ساخطا مع الساخطين، فإن عرفت جيله فقد عرفته بغير مخالطة، وأن خبرته فقد خبرت جيلا أو - وهو الأقرب إلى الحقيقة - خبرت الشطر الجامد من الجيل الذي يفتحه التاريخ إلى ما وراءه من الأحداث التي تخلق التاريخ. ولما تزوج استولت عليه الحياة الجديدة، واستبدت به، وتكشفت له حقيقته، فإذا به «رجل بيت» بكل معاني الكلمة، فالبيت مأواه ولذته، لا مقهى ولا ملهى ولا سينما ولا حانة ولا أصدقاء ولا هوية ولا أي شيء في الوجود بقادر على أن ينتزعه من أحضان بيته. وحين كان يعيش منفردا مع زوجة كانت حبيبة وأنيسة وجليسة، فلما انبثت ذريته - بنين وبنات - حابية ساعية لاعبة مشرفة على أنحاء البيت، كان له منها الحبيب والهوية والمأوى يسكن إليه.
وكانت الحياة تسير في بادئ الأمر هنيئة جميلة ممتعة، لا يكدر صفوها مكدر، ولا يظلل صفحتها البيضاء ظل من الحزن أو الفكر، ولكنها لم تلبث أن فرضت عليه ضريبتها التي لا تعفي منها أحدا من بني الإنسان، حتى صارت عنوانا عليها ورمزا لها، وباتت الشكوى منها إنكارا للحياة نفسها وجهلا فاضحا بأمرها، فمات أبوه ونما أطفاله صبيانا وغلمانا، وهجروا عشهم سعيا إلى المدارس الأولية والابتدائية ثم الثانوية، وتعددت حوائجهم، وتشعبت مطالبهم وتضاعفت نفقاتهم يوما بعد يوم، فانقلب يسر الحياة عسرا، وراحتها تعبا، وابتسامتها تجهما، وانسابت الهموم إلى كل جانب من قلبه، وطفق يردد لنفسه أن كل شيء يهون إلا أن يشقى أو يشكو هؤلاء الأبناء الأعزة.
وتذكر أن له عمة أرملة غنية تعيش بمفردها في بيت كبير تحت رعاية ممرضة، وكان يتجافاها وينفر منها من طول ما بث أبوه في نفسه، ففكر في أن يقصد إليها مضطرا.
وكانت عمته امرأة في السبعين، مات عنها زوجها - قبل أربعين عاما - وهما في زهرة العمر وميعة الشباب وخلف لها ثروة طائلة وطفلا وحيدا، وقد ترك موت الزوج في نفس المرأة آثارا عميقة مروعة تغلغلت في صميم حياتها، ولم تعف مع كر الأعوام ودوران السنين. وأقبلت على العزاء الوحيد الذي بقي لها في دنياها تمنحه كل ما في قلبها الحنون من عطف وحدب وتضحية، حتى شب طفلا جميلا، ونما شابا رقيقا نحيلا، وبدأت تفكر في أمر زواجه، كي تراه رب أسرة وتسعد بمشاهدة ذريته، إلا أن الأقدار فاجأتها بما لم يقع لها في حسبان، فتردى الابن كما تردى أبوه العزيز من قبل مصدورا ميئوسا منه، وقضى بين السعال من جانبه والتنهد والبكاء من جانبها.
انتهى كل شيء، وأقفرت الدنيا من الأمل والعزاء، وماتت حية، ودفنت مع ولدها الحبيب كل ما ميزها الله به عن الأحجار الجامدة، وصدق عليها كل ما وصفها به أخوها من قبل وما يصفها به ابنه الآن؛ فهي المرأة العجوز القاسية المجنونة التي تكره الخلق وعلى رأسهم أقاربها، وتسيء الظن بكل من يتقرب إليها، وتخال أي زائر طامعا في أموالها، وتقضي حياة الكبر طريحة الفراش مريضة القلب تسهر عليها ممرضة في بيتها المهجور كأنها مومياء في أحد معابد الكرنك الحزينة.
هذه هي عمته التي قصد إليها بعد أن اشتدت وطأة الحاجة عليه، وقد استقبلته استقبالا باردا جافا، فلم يأنس في نفسه الشجاعة أن يفاتحها فيما جاء من أجله، وبرح بيتها أشد بؤسا مما طرقه.
وقلب مسألته على جميع الوجوه فلاح له أن يشتغل بالتجارة وهو حل لا بأس به، ولكنه شديد الخطورة بالنسبة لموظف حكومي. ولكنه لم ييأس واستعان بالكتمان والخفاء وبخبرته التجارية التي اكتسبها في أول عهده بالحياة العملية، فاتجر في العطارة ونجحت تجارته، وأقبلت عليه الحياة رغدة، ولكن حال النجاح لم تدم، فساءت الأمور وركدت السوق النافقة، فجزع واشتد جزعه، ولعبت يداه في الدفاتر بغير الحق، ولم ينفعه تلاعبه شيئا، وسارت الأمور من سيئ إلى أسوأ، واضطر - تحت تأثير الخسران - إلى زيارة عمته مرات وفاتحها - على رغم تردده - في طلب المعونة، ولكنها كانت أشد عليه من حظه ومن الأقدار جميعا، فرفضت أن تمد له يدا أو أن تعيره أذنا صاغية. وفي ذلك الوقت بلغت الأمور شدة الفيضان الذي لا يكون وراءه إلا الانفجار والهلاك؛ فالعمة في أشد حالات الشذوذ وسوء الطبع والمرض، وعلي أفندي على شفا جرف هار من الخراب والدمار، والتجار متذمرون جزعون، يطالبون ويلحفون ويطبعون على آذانهم فلا يسمعون، وقد عينوا له أول أبريل كآخر منزع في قوس صبرهم، فإن لم يسدد دينه ويسو حالته أشهر إفلاسه، وليكن ما يكون بعد ذلك من رفته من وظيفته أو إيداعه السجن .. كل هذا ينتظره في أول أبريل! وما بينه وبين أول أبريل إلا أيام معدودات .. وقد نفدت حيلته وسدت في وجهه المنافذ! .. ثم ماذا يكون من أمر هذه الأسرة التي هي ثمرة حياته ومحيا آماله؟! هذه الأسرة التي تعيش سعيدة مطمئنة غافلة عما يهددها من الشقاء والبأساء، اللهم إلا ربتها الصابرة القانتة التي تشارك الزوج أحزانه، وتبادله همومه، وتكتم في قلبها الكبير ما لو أطلقته لأحرق الدنيا بأسرها من شدة ما به من هول، ولأحرق أول ما يحرق هؤلاء الأبناء السعداء الذين يمرحون سادرين كالأفراخ اللاعبة الغافلة عن القط الرابض لها من قريب .. وذكر في شدة حزنه أبناءه، فهرعوا إلى مخيلته في صورة تفيض حياة وجمالا. وكان حسين ومحمد في المدرسة الثانوية فتيين ناميين يحملان طلعة والدهما ورقة أمهما، وهمام وحافظ وياسين في المدرسة الابتدائية وهم حياة البيت يحيا ويمتلئ هرجا ومرجا ما داموا فيه، ويسكن سكون المقابر إذا غابوا عنه، وزينب أو زوزو في المدرسة الأولية هوية الأسرة ولعبتها، صبوحة الوجه، سوداء العينين، مرسلة الشعر، كانت بنتا بين ستة ذكور كالياسمينة وسط باقة من الورد الندي، حبيبة إلى كل قلب، عزيزة على كل نفس، حتى لكأن هذه الأسرة لم يتزاوج فيها الوالدان ويولد الأبناء إلا ليهيئوا المقام لزوزو؛ حيث كانت حسن الختام ونقطة الانسجام.
فماذا يكون من أمر هذه الأسرة من بعده، بعد أن يرفت من وظيفته ويزج به في السجن؟ أواه! دون ذلك ويمكن المستحيل وتقع المعجزات والخوارق!
ولم يجد مناصا من أن يذهب مرة أخرى إلى عمته علها تلين بعد طول التصلب والصلف والقسوة، فسار في طريقه إليها - وكانت تقيم على مدى منه قريب في شارع محمد علي - مهموما متضايقا يعمل ألف حساب لتلك الزيارة الاضطرارية الثقيلة.
يا لله من هذه المرأة! ما لها لا تموت؟ إن حياتها فرض ثقيل عليها وعليه، وإنها كالبنيان المتهدم ينعق فيه ناعق الخراب والمرض. ورغم هذا فذيول الحياة لا تزال متشبثة بها. إن سعادة نفوس عزيزة رهن بموتها فلم يبقي الله عليها؟ والمضحك المؤلم أنها قد تموت فجأة بداء قلبها بعد اليوم الأول من أبريل بساعات معدودات أو بعد القضاء عليه وعلى أسرته القضاء المبرم. وقد ينفذ هذا القضاء العجيب كما ينفذ أمثاله كل يوم وكل حين مما تحتار في تعليله العقول، وقديما وقف موسى الكليم حياله جزعا لا يستطيع معه صبرا! وطرق الباب ودخل حيث قابلته الممرضة بابتسامة صفراء ذات معنى، فسألها: كيف حالها؟
Página desconocida
فأجابته ببرود: بخير.
ووصل إلى مسمعه صوت رفيع مبحوح دلت بشاعته على أنه يخرج من فم خرب يسأل: من الذي تكلمين يا عائشة؟
فارتجف جسمه، وسرت فيه قشعريرة مثل مس الكهرباء، وتردد، وجمد، ثم كز على أسنانه ودخل إلى الحجرة وهو يقول: أنا علي .. كيف حالك يا عمتي؟
فدمدمت، وقالت بتأفف وتبرم: علي!
فحنى رأسه ووقف صامتا، وعادت هي إلى سؤاله قائلة: هل جئت حقا لتطمئن على صحتي؟ - نعم. - وهل يهمك أمر صحتي؟ - طبعا. - إذن لم تخلط السؤال عنها بسؤال شيء آخر؟
فضرب كفا بكف، وقال بصوت حزين: لا تظني بي الظنون. فقد عشت دهرا لا أسألك شيئا ثم ... - ولم تكن تريني وجهك بتاتا .. ولم تكن صحتي أمرا يهمك السؤال عنه. - بالله أعيريني أذنا صاغية .. لقد شرحت لك أحوالي .. أنا مهدد بالخراب بين لحظة وأخرى. اصرفيني عن ذهنك، واذكري أبنائي البؤساء وما ينتظرهم من شقاء. - لم أر أبناءك طول حياتي.
فآلمته لهجتها التهكمية، وحمي رأسه بنار الغضب، ولكنه لم يكن في حال يأذن له بإعلان ما يبطن، فنظر إليها نظرة النمر الواقع في الشرك، وقال وهو يجهد أن يجعل صوته هادئا: إذا منعت عني يدك دمرت لا محالة.
وهنا هبت قاعدة في فراشها وصاحت في وجهه: في داهية! - عمتي ... - لست عمة لأحد. - لا تكوني هكذا. - هكذا أنا .. اغرب عني. ولا ترني وجهك مرة أخرى.
وحاول أن يقول شيئا، ولكن لم يسعفه الكلام، فجمد لحظة؛ حيث هو ملتهب العينين، محمى الرأس، مرتعش الأطراف، ثم غاب عن ناظريها .. ولقي في الخارج الممرضة واقفة تنصت، فقابلته بنفس الابتسامة، وقالت: ككل مرة؟!
فهز رأسه غاضبا، وقال: إنها شر ما في الوجود .. إنني أعجب كيف يؤاتيك الصبر على معاشرتها؟ - إني أقوم بواجبي .. وهي على كل حال لا تعاملني نفس المعاملة.
Página desconocida
وتوقف لحظة، لا يدري ما ينبغي أن يفعل، فلاحت منه التفاتة إلى مائدة صغيرة رصت عليها زجاجات الدواء، فتنهد، وقال بغير وعي: لو يتأخر عنها الدواء دقيقة!
ولم تكن المرة الأولى التي تسمعه فيها الممرضة يقول هذا القول؛ فارتاعت لتكراره، ورددت قوله مرتعبة: لو يتأخر عنها الدواء دقيقة!
فنظر إليها بسرعة مرتجفا، والتقت عيناهما لحظة؛ فلمع بينهما ما يشبه البرق، ثم خرج مهرولا وهو ينتفض من هول ما خطر على باله، وهبط السلم مسرعا كأنما يفر فرارا. •••
وجاء اليوم الأول من أبريل، والأيام تسير في دائرتها المفرغة غير عابئة بما تحمل للناس من مسرات وأهوال، لا اختلاف في هذا بين يوم التطير أو يوم التفاؤل، ولم يكن هذا اليوم جديدا في العام ولا جديدا في حياة علي أفندي، ولكن خيل إليه هذا الصباح أنه يستقبله لأول مرة في حياته، بل عجب؛ كيف أمكن أن يوجد كبقية الأيام؟ وكيف أمكن أن يأخذ مكانه الطبيعي بين أيام السنة؟ وهو يحمل له نذير الخراب ولأسرته الشقاء والفناء!
أواه! إن موعده مع التجار أصيل هذا اليوم، ولدى هذا الأصيل يتقرر مصيره. وإنه ليعلم علم اليقين أي طريق هو موليها بعد حين قليل .. بعد ساعات سريعة الجريان.
ومع هذا فها هو ذا يجلس إلى مكتبه يرتشف القهوة، ويقلب الأوراق، ويشترك في الحديث مع هذا وذاك، وكل من حوله منصرف إلى عمله، والتلاميذ في الفناء يضجون ويلعبون، والحجرة هي هي، والمدرسة هي هي، والدنيا هي هي، كأن شيئا لن يحدث وكأن دمارا مروعا لا يوشك أن ينزل بحياة أسرة كبيرة؛ فيذروها ذر الرياح!
والمضحك بعد هذا أن يقال: إن الإنسان حيوان عاقل، وهل يستطيع إنسان أن يرد بنور عقله قضاء يعجز الحيوان عن رده لانعدام عقله؟ ها هو ذا لا يستطيع أن يصرف عن نفسه دمارا يعلم به قبل وقوعه، وكم غير هذا الدمار - مما يجهل - قريب لا يستطيع حياله تصريفا. حقا إن الحياة مأساة مؤلمة مضحكة، ما الذي ينبغي أن يفعل؟ .. إنه يطرح على نفسه هذا السؤال للمرة المائة والألف، ولا يملك إلا تكراره وترديده كالمخبول .. وقد سمع فجأة صوتا يقول: حان الميعاد.
فارتجف جسمه وانخلع قلبه في صدره .. الميعاد .. إنه لا يفكر إلا في ميعاد واحد، ولكن الصوت استطرد مرة أخرى ضاحكا: الساعة تدور في الحادية عشرة، فهيا إلى الوزارة لإحضار المرتبات.
حقا إن اليوم يوم المرتبات، ينتظره آلاف غيره بفارغ الصبر؛ فكيف ينسى هذا؟ وخرج متثاقلا مهموما يولي وجهه شطر الوزارة، وعلى حين فجأة، وبغير تمهيد واع اصطدم فكره الشارد المتوزع في محيط الشقاء بفكرة وامضة، فتنبهت حواسه، وشع من عينيه بريق خاطف، وأحاط به الرعب الذي مسه حين التقت عيناه بعيني الممرضة في بيت عمته بالأمس القريب. لاحت له هذه الفكرة في لحظة سريعة جنونية، رآها كمن يفتح عينين ناعستين في الظلام فتلمحان على غير توقع شبح شيطان ناري، يهدد ثانية ثم يختفي تاركا خلفه الصرع والجنون. وقد جن بغير شك، واستولت عليه الفكرة بقوة مارد مستبد. أي رعب، أي شر، أي مصيبة، أي اتجاه، أي فكرة نيرة، أي خلاص، أي دمار، أي هول، إنها تحمل جميع هذه المتناقضات إلى نفسه المضطربة المريضة، وإن من اليأس ما يعجز عن قلقلة ذرة من الرمال، ومنه ما يزحزح الجبال، وقد جرى منطقه المحموم في طريق ذي عوج: إذا سرق كان جزاؤه المحتوم الرفت والسجن، ولكن إذا لم يسرق لم ينج لا من الرفت ولا من السجن .. إلا أن النتيجة مع السرقة تختلف، فهو بها يستطيع أن يكسب التجار وينقذ تجارته فيضمن لأسرته - وأسرته هي قطب تفكيره - حياة رغدة سعيدة، بل إنه ينوي ما هو شر من هذا وأعظم رعبا، إنه ينوي أن يراود الممرضة - بسلطان المال - على ...! حقا إن هذا فظيع مخيف .. ولكن تأخير الدواء لحظة كفيل بالقضاء على تلك المرأة الشريرة، التي تقع من حياته موقع الزائدة الدودية الملتهبة .. حقا إنها جريمة نكراء ولكنها مضمونة العاقبة وعادلة من الوجهة الإنسانية .. ونفاذها يضمن لأسرته أرغد العيش وأطيبه. وهب أن الممرضة أبت عليه تحقيق غرضه فلن يضيره إباؤها شيئا، وتبقى بعد هذا تجارته، وهذا شيء مؤكد. نعم، إن السجن لا مفر منه، ولكنها سنوات سوف يقضيها - مع الاطمئنان على أسرته - صابرا ويخرج بعدها كي يتمتع بعيشة هانئة ثرية في مكان سحيق .. كل هذا واضح بين ولا بد من تنفيذه بدقائقه، وليكن بعده ما يكون.
واستلم المال واستقل «تاكسي» وقال للسائق بصوت حاول ما استطاع أن يجعله هادئا: إلى شارع محمد علي. نعم إلى البيت لا إلى المدرسة؛ حيث يجد متسعا للتفكير والتدبير. كم هو مرتعب خائف، إن أسنانه تصطك، وأطرافه تنتفض، وأجفان عينيه تتصلب، وريقه يجف، وأنفاسه تبطئ وتثقل كأن يدا جبارة تخنقه.
Página desconocida
ووصلت السيارة إلى شارع محمد علي. ود لو لم تصل إليه أبدا. وكان قد دبر الأمر كله في عقله، ولكنه شعر في تلك اللحظة بأنه في حاجة إلى معاودة التفكير مرة أخرى من مبدئه، كأنه لم يطرقه بعد. وهنا اعترضت الطريق عربة كبيرة عرقلت حركة المرور؛ فاضطر السائق إلى إيقاف السيارة، فنظر إلى الأمام ليستطلع ما هنالك فرأى العربة وإلى جانبها شرطي يهدد سائقها، رباه! لقد أرعبه مشهد الشرطي، وأثلج دمه في عروقه، وهم أن يأمر السائق بالرجوع .. وعلى حين فجأة سمع صوتا يناديه قائلا: بابا!
فالتفت مذعورا فرأى زوزو واقفة على سلم السيارة، ووجهها الجميل قريب منه، وكانت تمسك بحقيبتها في يد وتعالج بالأخرى الباب لتدخل إلى أمها. فلما كان لها ما أرادت جرت إليه فرحة مسرورة، فمنعها بيده وسألها بسرعة ولهجة جافة: لم أنت هنا؟ - أنا آتية من البيت؛ حيث كنت أتناول غدائي وذاهبة إلى المدرسة. - حسن .. حسن .. هيا إلى المدرسة بسرعة لئلا تتأخري. - انتظر، عندي لك خبر سار .. هل تشتري لي شيكولاتة نسلة إذا قلته لك؟ - ليس الآن .. هيا .. هيا. - عمتي!
فجمد لسانه في فمه، ونظر إليها نظرة غريبة؛ ففرحت البنت لأنها لفتت انتباهه إليها وقالت: ماتت. - ماتت عمتك!
فرت هذه العبارة من فمه في صراخ مدو .. فازداد فرح الفتاة، وقالت: نعم .. هذا ما قالته لي حميدة «الخادمة» لما سألتها عن تغيب ماما على غير عادتها.
وصرف زوزو بعد أن وعدها خيرا، وأمر السائق وهو يلهث بالذهاب إلى المدرسة، نعم، إلى المدرسة ليسلم بدوره الأمانة إلى مستحقيها. لقد أتاه الفرج دفعة واحدة. لقد أنقذ بعد أن تدلى جسمه في الهاوية، أنقذ من الإفلاس والخراب والسرقة والجريمة والسجن. رباه! إنه لم يقدر هذا، ولم يحلم به أبدا وما كان في مكنة مخلوق مهما رسخ إيمانه أن يقدر هذه النهاية أو يحلم بها .. فالحمد لله .. الحمد لله!
وانصرف من المدرسة سريعا قاصدا بيت «المرحومة»، ووجده كما تعود أن يراه هادئا ساكنا لا صوت ولا نحيب .. فطرق الباب ثم دخل، وقابلته الممرضة، وكانت محافظة - برغم كل شيء - على هدوئها، وقد سألته منكرة: أجئت مرة أخرى؟
فنظر إليها دهشا، وقال: ما أغرب سؤالك! .. ألست على كل حال ابن أخيها؟!
واجتاز بها مسرعا إلى حجرة المتوفاة .. فرآها مستلقية على ظهرها ورأسها مائل نحوه، مفتحة العينين، بل رآها - وهو الأدهى - تنتصب قاعدة، وتشير إليه بيدها الضعيفة مهددة، وتصيح في وجهه: كيف تجرؤ؟ كيف تتجاسر؟ ألم أطردك طردا؟ اخرج .. اغرب عن وجهي.
والظاهر أن المرأة تأثرت من الغضب الذي تملكها فجأة، فسقطت على المخدة من الإعياء والجهد وصدرها يرتفع وينخفض. ووقف أمامها مبهوتا جامدا كالتمثال، ذاهلا لا يستطيع كلاما ولا حركة؛ كأنه ينظر إلى شبح مرعب لا إلى امرأة عجوز منهوكة القوى. وما أحس إلا يد الممرضة تسحبه إلى الخارج، فاستسلم لها طائعا، وغادر البيت دون أن ينبس ببنت شفة.
وقطع الطريق إلى بيته والذهول مستول عليه، وكان البيت يخيم عليه السكون - كعادته - إذ الأولاد في المدرسة. فظنت زوجه لأول وهلة أنه آيب من مكان عمله كعادته اليومية، ولكنها ما لبثت أن طالعت ما يكسو وجهه من آيات التجهم والذهول، فتملكها الروع والذعر، وظنت أن ما تشفق من حدوثه، وترجو الله آناء الليل وأطراف النهار دفعه قد وقع، وفزعت إلى سؤاله وهي أكره ما تكون للسؤال: ما بالك؟
Página desconocida
فسألها بدوره بامتعاض: أين زوزو؟ - لعلها في الطريق إلى البيت .. فصاح بغضب: هذه الطفلة الشريرة؟ - زوزو شريرة؟
قابلتني في الطريق منذ ساعتين، وكذبت علي الشيطانة قائلة إن عمتي ماتت.
فضربت المرأة صدرها بيدها، وقالت بدهشة: كيف تجرؤ؟ من أين لها هذا الكذب؟ هذا أمر عجيب .. بل إنه أعجب شيء أسمعه في حياتي .. لعل البنت وهي تسمعنا دائما - نتمنى على الله موت عمتك - أرادت ...
ولم تتم حديثها إذ دق الباب ودخلت زوزو. وما إن رأت والدها حتى رمت حقيبتها وجرت نحوه ضاحكة، وقفزت إلى حجره وأحاطت بيدها عنقه، ثم قالت وهي لا تسكت عن الضحك: هل اشتريت لي الشيكولاتة كما وعدت؟
فنزع يدها الصغيرة عن رقبته بشيء من العنف، وحدجها بنظرة قاسية، ثم سألها بخشونة وهو يدفعها عن حجره: كيف تكذبين علي؟
قالت وهي لا تكف عن الضحك، وإن بدأت تدرك صعوبة الاستيلاء على الشيكولاتة: في أي يوم نحن : إني أسألك كيف تكذبين علي؟ - اليوم أول أبريل .. وقد علمت أنه يجب على الناس أن يكذبوا فيه .. وهكذا قالت لي بثينة، وقد سألت «أبلة» فأمنت على ما قالت بثينة، ولكنها نبهت علي أن أختار كذبة سارة كي لا أوذي أحدا .. وقد اخترت لك أحسن كذبة!
فقطب وجهه، وقال لها بشدة: لعنة الله عليك وعلى أول أبريل .. هل يصدق الناس طول العام كي يلهوا بالكذب في أول أبريل؟!
وهنا فقط أدركت زوزو أنها أخطأت، وأن والدها غاضب عليها حقا، وأنها فقدت كل الأمل في الشيكولاتة، فكفت عن الضحك، وعلا محياها الارتباك، واحمرت وجنتاها من الخجل، ونظرت إلى أمها تستغيث بها. أما أبوها فقد قام متثاقلا، ودلف إلى حجرته حزينا كئيبا ينوء بالهم والفكر. ولحقت به زوجه وانتبذت ركنا من الحجرة في صمت ووجوم. وقفت ترمقه بعينين كئيبتين وقلبها يحدثها بدنو شر مستطير، ولكنها لم تجرؤ على تمزيق هذا الصمت الغليظ. انتهى الأمر وخابت المحاولة الأخيرة وآذن الخراب بالوقوع.
هل ينتحر ويضع حدا لهذه الحياة القلقة المنغصة؟ فقد اضطرب عقله بهذه الفكرة الهائلة لحظة، ولكنه تغلب عليها وفندها قائلا لنفسه: «إذا انتحرت فمن للأولاد؟» .. ولم يجد أمامه سوى الاستسلام والنزول عند حكم المقادير.
وظل الصمت مخيما يزهق النفوس، والمرأة واقفة حيث هي، وهو قاعد على الكنبة مسندا رأسه إلى كفيه، وقد ظهر رأس زوزو من الباب لحظة ولاحت عيناها تدوران بين والديها، ثم ارتدت مسرعة، فارة مضطربة.
Página desconocida
ولبثا على حالهما لا يشعران بفوات الوقت حتى تيقظا فجأة على طرق الباب، ووصلت إلى مسمعيهما أصوات الأولاد وهم يدخلون واحدا واحدا، يتقدمهم ضجيجهم وجلبتهم، وقد دبت الحياة في البيت وتحول في ثانية إلى سوق، وعلا صياح من هنا وصراخ من هناك، وسمعت أصوات تنادي، وأخرى تسب وتلعن، وثالثة تنشد بعض الأناشيد المدرسية، ورابعة تسأل عن ماما وبابا. ثم طرق الباب مرة أخرى بعنف، ودخل شخص ما، وساد صمت عجيب. ترى من القادم؟ لقد دق قلب الرجل بعنف واعتدل في جلسته، وعيناه تتساءلان، ونظر إلى الباب كأنه يتوقع سقوط صاعقة .. ورأى حسينا يدخل مسرعا، وسمعه يقول باضطراب: بابا .. يقولون إن عمتي توفيت!
فقام الرجل كالمجنون وحدج ابنه بنظرة هائلة، فقال الابن: حضرت الممرضة الآن حاملة هذا الخبر .. وها هي ذي واقفة تسأل عنك .. تفضلي إلى هنا يا سيدتي. •••
في ساعة متأخرة من ليل ذاك اليوم - يوم أول أبريل - جلس علي أفندي إلى جانب زوجه وكانت لا تزال في ثوب الحداد، وقد آوى الأبناء إلى الفراش وخيم السكون على البيت.
كانت المرأة صامتة، ولكن كان وجهها راضيا مطمئنا، وبالها مستريحا، وقد ولى عنها الذعر الذي لازمها أياما خالتها دهرا طويلا.
وكان علي أفندي يشعر شعور إنسان خطا قدما بغير وعي، وإذا به يرى صاعقة تنقض على المكان الذي كان يشغل .. قد كان السجن والرفت والدمار منه قاب قوسين أو أدنى، وها هو ذا يطمئن إلى مجلسه بين أسرته آمنا بمنجاة من كل دمار، يستقبل من الغد حياة رغدة مترفة، فكم بالحياة من معجزات!
وعلى رغم كل هذا لم يكن سعيدا تمام السعادة، ولم يصف ذهنه كل الصفاء واستمر في تأملات عميقة. لقد عاش طول عمره حياة راكدة راتبة، أما الساعات القلائل - القلائل! - الأخيرة فقد ابتلي فيها بما لم يبتل به في عمره الطويل المديد؛ إذ أثارت نفسه وعقله وجعلت من بحيرة نفسه الآسنة محيطا مضطربا عاصفا.
لقد خلصه الله من العذاب، ولكن هل يستحق الخلاص وهو الآثم الشرير الذي هم أن يقارف السرقة والقتل؟ ثم عمته المرحومة؟ إنه يدرك حالتها الآن بغير العقل الذي كان يصورها له ويعطف عليها بعد أن أمسى عطفه وقسوته لديها سيئين، فقد عاشت بائسة حزينة تجتر الهموم والآلام، وكانت حياتها فرضا ثقيلا عليها وعلى الآخرين. نعم! كانت قاسية شديدة فوق كل احتمال، ومع هذا فكيف كان يمكن أن تكون غير ما كانت؟ ومن يخلو من جانب بل من جوانب كريهة؟ أليس هو في أعماقه قاتلا سارقا مدلسا؟ وما هو إلا صورة تتكاثر وتتعدد فتكون عالم الناس .. ومع هذا فلا يجوز أن ينسى أن هذا الشر غالبا ما ينكشف عن ضعف وجهل وبؤس، كما انكشف شذوذ عمته عن ترمل وثكل، وكما ينكشف تخبطه وسوء نواياه عن محبة فائقة لأبنائه الأبرياء، وقد أذن الله فعالج الشر والبؤس برحمته، والرحمة أسمى حلم في الوجود، ولكنه لا يستطيع أن ينسى أيضا أنها سبقت هنا بكذبة ابنته وبموت عمته، فكيف يكون الموت والكذب من ممهدات الرحمة؟
حقا إنه مهما ادعى التأمل فسيبقى أمامه ما يعجز عقله ويربكه. وإذا كان أمر الدنيا على هذا النحو فلن يمنع الدمع الذي تبعثه مآسيها إلى العين الابتسام من اعتلاء الشفتين، ولقد ضاق صدره وأرقه السهاد فهتف من أعماقه: من لي بزوزو الآن؟ .. فإن ابتسامتها العذبة ونظرتها الطاهرة ويدها الصغيرة لحقيقة بأن تصرف عني أفكار هذا الليل وتسكب في قلبي الطمأنينة والسلام.
ثمن زوجة
جلس ينظر إلى صورته في المرآة الكبيرة، ويتابع بعينيه يد الحلاق وهي تقص شعره بخفة ومهارة، وكانت تبدو عليه آي الهدوء والغبطة كما ينبغي لشاب مثله في أسبوعه الثالث من شهر العسل.
Página desconocida
ولا عجب فشهر العسل في حياة الأزواج كالشباب الناضر في الآجال المعمرة، وقد حبته الطبيعة ألذ المتع ودفعته مهرا لحياة الزوجية التي يستأديها الذكور من جميع الأنواع. وكان حضرة الفاضل حمدي أفندي المهندس واحدا من ذكور أسمى الأنواع كلها، وقد تزوج من ابنة أحد زملائه وأساتذته المهندسين، وهي فتاة جميلة مهذبة سمع عنها ورأى فيها ما علقه بها ورغبه فيها، وهو الآن يستمتع بلذة اللذاذات التي تجزي بها الطبيعة الصادعين بأمرها الداخلين في طاعتها.
ولاحظ المهندس في جلسته الهادئة المغتبطة أن «الأوسطى» لم يكن كعادته ذلك اليوم. رآه واجما والعهد به ضحوكا، ووجده صامتا والعادة أن يكون ثرثارا لا يسكن له لسان، فعجب لشأنه، ولكنه لم تؤاته الشجاعة على سؤاله عن حاله، ولاذ بالفرصة الجميلة التي كفته مشقة ثرثرته وشقشقة لسانه، وتغاضى عن شذوذه حتى انتهى من عمله فقام واقفا، ولم ير حرجا في إبداء ملاحظاته فسأله قائلا، وهو يعقد رباط رقبته: «ما لك صامتا واجما كأنك لا تجد ما تقوله؟»
وبدا على الرجل الارتياح لمفاتحة المهندس له بذلك السؤال، وكان يرغب في الكلام حقا، وتلح عليه الرغبة إلحاحا شديدا، ولكنه لا يدري كيف يلج الموضوع، ورأى زبونه يكاد ينتهي من ارتداء ملابسه؛ فأشفق من ضياع الفرصة، وقال: «الحق يا سيدي أن لدي كلمة أريد أن أقولها، ولكن ...»
وتوقف عن الحديث، فازداد عجب الشاب، وسأله باهتمام: «ولكن ماذا؟» - «إن بعض الظن إثم، وكثيرا ما يخطئ الإنسان في تقديره. والحق أني أدمت التفكير طويلا وقلبت المسألة على جميع وجوهها، فرأيت أن الواجب يقضي علي بمصارحتك بظنوني مهما كانت الاحتمالات والعواقب.»
وكان الشاب قد انتهى من عقد رباط رقبته وارتداء جاكتته وطربوشه، فدنا من الحلاق وحدجه بنظرة اهتمام وانشغال، وقال: «إن كنت ترى حقا أن الواجب يقضي عليك بمصارحتي، فما معنى التردد والتلعثم؟»
فتنهد الرجل، وقال: «حسن يا سيدي .. اعلم أني لاحظت أمورا ...» - «...؟» - «منذ أسبوعين أرى شابا يتردد على العمارة التي تسكن فيها كل صباح بعد الساعة الثامنة مباشرة.»
فزوى الرجل ما بين حاجبيه، وقال باستهانة: «نعم؟!» - «لقد لفت نظري بهيئته ومواظبته، فشغلت فراغ الصباح بمراقبته، ولاحظت أنه يحضر من شارع عاصم حوالي الساعة السابعة، ويأخذ مكانه في مقهى النجمة، حتى إذا غادرت البيت وذهبت إلى الوزارة يدفع ثمن قهوته، ويترك المقهى إلى العمارة رأسا.»
وكان المهندس - على شبابه - رزينا ثابتا بمنجى أمين من الرعونة والطيش، فعض على شفته السفلى كعادته كلما ارتبك أو أخذ، وكأنما أراد أن يغالب القلق الزاحف عليه فسأله بلهجة الغاضب: «ما الذي تعني؟»
فاصفر وجه الحلاق، وندم على خوض هذا الحديث الأليم، ولكنه لم ير بدا من الاستمرار، فقال: «إني أرجو أن أكون مخطئا يا سيدي، بل إني لا أتمنى على الله أكثر من أن يكشف عن وجه الخطأ في جميع ظنوني، ولقد ترددت طويلا قبل أن أبثك هذا الحديث، ولكني رأيت أن المصارحة مع ما تنذر به أفضل عندي من التستر على العيب مع السلامة .. وقد كان مما أيقظ الشك في نفسي أني رأيته مرات يلاحظك خلسة وأنت سائر في طريقك، ويرمقك بنظرات لم يرتح إليها قلبي، حتى إذا غيبك منحنى الطريق قام بسرعة وانسل إلى داخل العمارة.» - «ألم تره خارجا منها؟» - «رأيته مرات، وقد لبث في الداخل ساعتين أو يزيد.» - «ما شكله؟» - «هو شاب في مقتبل العمر، حسن الهندام، مخنث الهيئة، لولا تسكعه في الصباح لقلت إنه طالب.»
ورأى الحلاق المهندس واجما صامتا تصرح سرائره بما يقهر نفسه من الاضطراب والقلق، فقال بتألم: «لا تأخذ بظني يا سيدي، واسلك سبيل الحكماء؛ فتحقق الأمر بنفسك، والحق أني غير آسف على قول ما قلت، ولكني ألعن الظروف.»
Página desconocida
فسأله المهندس وكأنه لم يسمع قوله: «هل حضر هذا الصباح كعادته؟» - «نعم يا سيدي.» - «ألا ينقطع عن الحضور أحيانا؟» - «يوم الجمعة.»
فعض الشاب مرة أخرى على شفته، ولم يزد على أن قال وهو يغادر الصالون: «إني أشكر لك مروءتك، وأرجو أن تفتح عينيك حتى أعود إليك صباح الغد.»
وكان البيت قريبا على قيد خطوات، ولكنه لم يشخص إليه - مع أن الوقت كان ظهرا - وأحس في نفسه برغبة طاغية في المشي، فهام على وجهه بغير هدف معين.
كان حمدي شابا في الثلاثين من عمره، يلفت الأنظار؛ لضآلة حجمه ورقة أعضائه وشحوب لونه، ولكن كانت تلتمع في عينيه نظرة تدل على حدة الذكاء، وكان ذقنه يلتوي التواءة يعرف بها ذوو الإرادات الحديدية، وكان أخص ما يعرف به الهدوء والرزانة والبرود، فلا يذكر أحد من معارفه أنه رآه مرة منفعلا أو متهيجا لحزن أو لفرح، ولكن لم يكن طبعه هذا ضعفا أو جبنا، فإنه يغضب إذا انبغى له الغضب، ولكن على طريقته في الغضب، فلا هياج ولا سب ولا شجار، وإنما عقاب صارم أو انتقام مهول، هكذا يتقدم في حياته ك «وابور الزلط» بطيئا رصينا، ولكنه لا يقاوم ولا يبقي ولا يذر.
وقد قال لنفسه وهو يسير على غير هدى: يلمح الرجل إلى خيانة زوجية، خيانة زوجية في شهر العسل! لا شك أنها أول خيانة من نوعها، هي كالإجهاض سواء بسواء، الذي يهلك الجنين قبل أن يكتمل .. كيف يستطيع أن يصدق هذا؟ .. بل كيف يمكن وقوعه؟ كيف استطاع ذلك الشاب أن يشق طريقا إلى بيت عرسه؟ هل كان يعرف زوجه من قبل أن يعرفها هو؟ مهما كان الواقع فهو أمر بعيد عن التصديق .. وذكر حياته الزوجية القصيرة؛ فذكر بها سعادة وصفاء ومتعا لا تحصى ولا توصف، فلم يشك في أنه سيكشف في غده خطأ مضحكا، لن ينفك يضحك كلما ذكره ما امتد به العمر.
ومع هذا ...
ومع هذا فهو لا يستطيع أن يخدع نفسه عن العاطفة الذميمة التي تقاتل في قلبه .. عاطفة الشك المعذبة. وها هي ذي تتشبث ببعض الذكريات التي مر بها مر الكرام، فتعرضها من جديد على مخيلته في إطار أسود مخيف لا يملك إلا أن يتأملها متحيرا متفكرا. فهو يذكر كيف كانت زوجه تلقاه - على أيام خطبتهما - بجمود ووجوم كأنها تلقى جدا لا خطيبا، وكيف أنها لم تحاول قط أن تفاتحه بحديث أو تشترك في أحاديثه بحماس، وكيف أنها كانت تقنع بالإجابات الضرورية؛ فتلفظها في اختصار ساسة الإنجليز!
لقد حمل ذلك كله على محمل حسن، وقال فخورا إنه حياء جميل. ويجوز أن يكون قوله حقا، ولكن يجوز أيضا أن يكون وهما، وأن يكون الباعث شيئا غير الحياء، من يعلم؟ ربما كان نفورا وكراهية وكان ينبغي له أن يدقق ويتحقق!
ويذكر أيضا أن الحال لم تتغير بعد الزواج، فلا تزال محافظة على رزانتها وتحفظها أو برودها - ولم يجر ذكر هذه الكلمة على لسانه من قبل - وكم تمنى لو كانت عروسه لعوبا طروبا، أما الآن فمن يدريه أنها ليست كذلك، وأنها لا تصطنع البرود إلا في حضرته؟ وا أسفاه! أي شقاء وأي تعاسة! ولم يكن حمدي خبيرا بالنساء ولا ذا حظوة لديهن، فاضطر - في عزوبته - إلى الاستقامة والزهد، وقضى تلك الأيام محزونا مفعم الثقة بنفسه، وقد ظن أن الزواج دواؤه ونجاته، فاستغاث به واطمأن إليه، وحمد الله على نعمته، ولكن ها هو ذا يوشك أن يخيب في زواجه؛ فيفقد الأمل الوحيد في السعادة والحياة المطمئنة، وها هي ذي الزوجة تكاد تنكشف عن امرأة ككل النساء اللاتي لم يفز منهن بحظوة .. فأي شقاء وأي تعاسة!
على أنه لم يستسلم للتشاؤم كل الاستسلام ولم ينغمس في اليأس كل الانغماس، وتعلق بالأمل الباقي له، وهو أن يكون الأمر غير ما قدر والظن غير ما أساء .. وتمنى لو يستطيع أن يبدد هذه السحابة القاتمة الغاشية على قلبه وأن يسترد بعض ما كان له من الصفاء والغبطة.
Página desconocida
على هذا النحو كانت تؤاتيه القدرة على تحليل أحزانه وأفراحه، ولكنه كان إذا انتهى إلى عزم عرف كيف ينفذه بحذافيره ولا يرده عن غرضه راد.
وكان قد قطع شوطا كبيرا، وبدأ يشعر بالتعب، فعاد أدراجه إلى مسكنه محمى الرأس ملتهب العواطف، ودخل إلى شقته وهو يتكلف الابتسام والهدوء؛ فرأى عروسه جالسة إلى المائدة، والغداء جاهزا، والأطباق مصفوفة، وسمعها تقول له عاتبة: «تأخرت عن موعدك.»
فنظر إلى وجهها نظرة سريعة؛ لأنه خشي أن تقرأ في عينيه ما يدعوها إلى التساؤل، وجلس إلى جانبها، بل وقبلها أيضا كما ينتظر من شاب مثله في شهر العسل، ثم قال معتذرا: «مررت في طريقي بالحلاق، وكان الصالون مزدحما.» •••
وفي صباح الغد خرج في موعده المعتاد، وسار في طريقه المعهود، ولدى مروره بمقهى النجمة قاوم رغبة شديدة نازعته إلى تصفح وجوه الجالسين بها وخيل إليه أن عينين براقتين ترقبانه بحذر وسخرية؛ فغلا الدم في رأسه، وخضب وجهه الشاحب باحمرار الخجل والعار، ولم يذهب إلى وزارته، ولكن دار دورة في الشوارع القريبة، وكان يخرج ساعته من آن وينظر إليها جزعا مضطربا، فلما دارت في منتصف الثامنة عاد أدراجه حذرا متيقظا حتى انتهى إلى صالون الحلاق وانسل داخلا، وكان خاليا إلا من صاحبه الذي حياه تحية الصباح، وابتدره قائلا: «جاء كعادته، وغاب داخل العمارة منذ ربع ساعة.»
وجمد الشاب في مكانه هنيهة؛ لأنه أحس بأنه مقبل على دقيقة فاصلة في حياته ستقرر حتما مصير سعادته وكرامته، فخان الهدوء أعصابه على رغم صلابتها وقوتها ، وشعر باضمحلال مخيف، وسمع الحلاق يقول له: «أتريد أن أصحبك؟» فآلمته عبارة الرجل، وقال بحدة: «كلا.» وغادر المكان بسرعة، وقد محا الغضب دبيب الاضطراب الزاحف على نفسه، ودخل إلى العمارة، وصعد السلم بخطوات ثقيلة. وجعل يرمق باب الشقة الذي يدنو منه بعينين جامدتين، وقد شل عقله عن التفكير ما يتجاذبه من الأفكار والخواطر التي تطفو على سطحه بسرعة، وتغيب بأسرع مما ظهرت غير تاركة من أثر سوى الذهول في النفس والحرارة في الدماغ، ووجد نفسه واقفا بإزاء الباب .. وكان يلهث كمن جرى شوطا كبيرا، وقلبه يخفق بعنف، ويدفع الدم إلى رأسه، فيدوي في أذنيه. وكأنه خشي على إرادته من التردد، فدس يده في جيبه وأخرج المفتاح، وأولجه في الباب، وأداره بخفة وحذر، ودفعه على مهل، وأدخل رأسه ليلقي نظرة على الردهة، ثم دخل وهو يكتم أنفاسه، ورد الباب بلا إغلاق كيلا يحدث صوتا.
وكانت الردهة خالية وجميع الحجرات مغلقة .. ترى أين الخادمة الصغيرة؟ وانصرف نظره إلى حجرة النوم، وخلع حذاءه ودنا منها على أطراف أصابعه حتى صار بإزاء بابها المغلق، وانحنى قليلا ووضع أذنه على ثقب الباب، وأرهف سمعه، فخيل إليه أنه يسمع غمغمة خافتة وأصواتا أخرى، ذهب الشك بعذابه وآماله، وسفرت أمامه الحقيقة الأليمة المخزية، وقد انطفأ نور بصره ثواني من شدة الغضب، ولم يعد يحتمل الجمود فتراجع خطوتين، وثنى ساقه وشد عليها بقوة جنونية، ثم أطلقها بعنف في الباب، فارتج ارتجاجا شديدا، وانفتح بحالة تشنجية. وخطا خطوتين، فاجتاز عتبة الحجرة، ودوت في الحجرة صرخة جنونية، وقفز من الفراش جسمان عاريان، الزوجة وذاك الشاب.
وكانت المرأة في حالة جنونية من الرعب؛ فجسدها يرتجف، ووجهها يصفر، وعيناها تتسعان، وقد سحبت اللحاف على جسمها بحركة عكسية، ولبثت تنظر إلى زوجها كأنما تنظر إلى شيطان رهيب .. أما الشاب فهم بالجري إلى ثيابه الموضوعة على «الشيزلنج»، ولكن قدميه تسمرتا في الأرض فجمد في مكانه، وجعل ينظر إلى الزوج نظرة ذعر ويأس مميتين، ومد يده بتوسل، وقال بصوت مرتجف كأصوات الأطفال المنتحبين: «في عرضك .»
من العجيب حقا أن الزوج لم يغشه الجنون، ولم يندفع إلى الانتقام كما يحدث عادة، بل هبط عليه جمود غريب، وتلبسه هدوء غامض شبيه بنكهة الخمر التي ترد المنتشي الهائج إلى ثقل النوم، فلبث واقفا مكانه، وجعل يقلب عينيه بين العاشقين في هدوء قاس كأنه يشاهد منظرا بعيدا عن مشاركة وجدانه ومشاعره.
ورأى يد زوجه وهي تسحب اللحاف على جسمها؛ فسألها ببرود قائلا: «أتخجلين من الظهور أمامي عارية؟»
وتحول إلى الشاب، فصاح به هذا بصوته المرتعش المحموم: «الرحمة .. دعني أرتدي ثيابي، وافعل بي ما تشاء.»
Página desconocida
فقال له ساخرا: «هل يروقك أن تموت في ثيابك؟»
فصاح الشاب مولولا: «الرحمة .. أنا في عرضك.»
فقال بلهجة رقيقة: «ارتد ثيابك أيها الشاب، ولا تخش أذى.»
فلم يطمئن العاشق إلى قوله، وتوسل إليه بصوته الباكي المرتعب: «ارحمني!»
فقال له يطمئنه ويشجعه: «ارتد ثيابك أيها الشاب ولا تخش أذى .. تقدم، إني أعني ما أقول.»
ولكنه لم يتحرك من مكانه، واشتدت الرجفة بجسمه حتى خاله سيصعق صعقا، فسار بنفسه إلى الشيزلنج وأتى له بثيابه وقدمها إليه قائلا بسخرية: «أتحب أن أساعدك على ارتدائها؟» فأسرع في دفعة يحشر جسمه حشرا في ثيابه، فانتهى في ثوان، كان شكله زريا مضحكا؛ فشعر رأسه المدهون بالفازلين يبرز مبعثرا من حافة الطربوش، وأزرار البنطلون مفككة والقميص يتدلى من بينها، والحذاء لم يعقد رباطه. ولكنه كان في غيبوبة ذاهلة، فنظر إلى الزوج نظرة تسليم ويأس، وقال له: أنا تحت أمرك.
وهز الرجل كتفيه استهانة، وقال: وماذا أصنع بك؟ لا فائدة لي فيك .. استأذن الهانم .. فإذا أذنت لك انصرف مصحوبا بالسلامة.
فألقى إليه الشاب بنظرة كأنها تقول: لم التعذيب؟ .. اقتلني إن شئت، ولكن بسرعة. وقد فهم معناها، فهز كتفيه مرة أخرى بهزء، وقال: ألا تريد أن تذهب؟ ألم تسمع بعد؟ ألا تزال لك رغبة فيها؟
فاشتد الارتباك بالشاب، ورأى الزوج يوسع له الطريق فتحرك بخطوات بطيئة، وهو لا يصدق ما يسمع وما يرى. ولما صار بإزائه أحس بيده توضع على كتفه فانتفض رعبا وتوقع شرا، ولكن الرجل بادره قائلا: لا تخف .. ستذهب كما تشاء ولكن أين؟
قال هذا، وبسط إليه كفه، فنظر إليه العاشق مرتبكا متسائلا .. فقال: الثمن.
Página desconocida
فظل الشاب ينظر إليه صامتا، فقال الزوج بلهجة جدية: ما لك؟! ألم تحظ بوصال هذه المرأة؟ فلم لا تدفع الثمن؟ هل تظن أن الوصال هنا بلا ثمن؟ - سيدي ... - يا لك من عاشق بخيل! ألا تريد أن تجود بشيء؟ بكم تثمن هذه المرأة؟ هه؟ إنها تستاهل ريالا فما رأيك؟
ولما يئس من الشاب؛ فتش جيوبه بنفسه حتى عثر على حافظة نقوده، واستخرج منها ريالا، ثم ردها إليه، وهو يقول: «تفضل الآن؛ فاذهب إلى حيث تشاء.»
وانفلت الشاب خارجا لا يصدق أنه فاز بالنجاة، والتفت الزوج إلى زوجه، فقال لها: «ارتدي ثيابك يا سيدتي واطردي عنك الرعب؛ فلا خوف عليك، ولا أنت تحزنين.» •••
كيف استطاع أن يسيطر على عواطفه؟ كيف أمكن أن تطيعه أعصابه تلك الطاعة العمياء؟ هذا سر من أسرار الطبيعة يعجز عن إيضاحه البيان، وعلى كل حال فقد انقضى ذلك اليوم كما ينقضي الكابوس الأليم. ولم يشر إليه - بعد انقضائه بتلميح أو تصريح - ولا ذكره بخير أو شر، ولا أجرى بسببه تحقيقا ولا أثار عنه سؤالا، وطالعها بوجه هادئ طبيعي كأنه شخص آخر غير الزوج المطعون، ولم ينقطع عن عمله أو يغير من عاداته ولا كف عن أحاديثه أو فتر عن مداعباته. وكان يذهب ويعود ويعمل ويستريح ويأكل ويشرب وينام ويقوم وكأنه زوج سعيد يعاشر زوجه الحبيبة، أو رب بيت مطمئن يسهر على بيته وأسرته دون أن ينغص حياته منغص أو يكدر صفوها مكدر.
وكانت المرأة في أول عهدها بالفضيحة كالمجنونة من شدة ما يعذب نفسها من الخوف والرعب والعذاب، وقد توسلت إليه ضارعة وهي تبكي أن يطلقها ويستر عليها، ولكنه قال وكأنما فقد ذاكرته: «أطلقك! لمه؟ أمجنونة أنت يا عزيزتي؟» وأسقط في يدها، ولبثت حائرة مذعورة معذبة تخشاه وتتوجس منه خيفة، ويغلق عليها أمره، فلا هو يطلقها، ولا هو ينتقم منها، والأعجب من هذا جميعه سلوكه نحو عاشقها في ذلك اليوم الأسود.
ومضت الأيام طويلة ثقيلة؛ فلم تتحقق مخاوفها، ولم تصدق هواجسها، وأخذت تخف عليها وطأة الخوف وتتناسى همومها فيما تقوم به من الواجبات البيتية، ووجدت نفسها - وهي لا تدري - تتفانى في خدمته والسهر على بيته وتوفير الراحة له بحماسة الخاطئ الذي يعالج جرح ضميره بالتفكير والتعذيب، على أنها لم تطمئن إلى دعته كل الاطمئنان، وكانت تسأل نفسها حيرى: ترى هل نسي وغفر؟ أم هو يتناسى ويتعزى، أو ما الذي تنطوي عليه حياته المبهمة وابتسامته الغامضة من النيات؟
ولبثا على حالهما والأيام تحث السير، وكل منهما متظاهر بالألفة والاطمئنان ويجتر أفكاره فيما بينه وبين نفسه، حتى كان يوم دعا فيه الزوج جميع أهله وأهل زوجه إلى مأدبة غداء، وبذل لإعدادها فوق ما تحتمل قدرته حبا وكرامة. وأم بيته ذلك اليوم جميع أفراد الأسرتين نساء ورجالا، فتيات وفتيانا وعلى رأسهم حماه وحماته، فضاق البيت بالمدعوين وضج جوه بأحاديثهم وضحكاتهم، وازداد سعادة بما شملهم من ود عائلي جميل .. وتشعب الحديث شعبا مختلفة، فطرق موضوعات السمنة والنحافة والزواج والعزوبة وبنات الأمس وبنات اليوم، ومن السياسة حينا والدرجات والعلاوات والأطفال أحيانا كثيرة .. وشارك المهندس في الأحاديث بشهية عظيمة، وكان بادي المسرة والبهجة عظيم الإقبال على مجاملة ضيوفه والترحيب بهم.
وقد توقف عن الكلام بغتة؛ كأنما تذكر أمرا مهما، ثم دس يده في جيبه فأخرج ريالا، جعل يقلبه في يده ثم أعطاه حماه وهو يقول: انظر إلى هذا الريال يا عماه .. أتراه مزيفا؟
فأخذه الرجل، وجعل يقلبه بين يديه، وقد اتجهت إليه الأنظار من كل صوب، ثم قال: كلا يا بني، إنه صحيح لا شك فيه .. هل رفضه أحد؟
واختلس الزوج نظرة إلى زوجه فرأى وجهها مصفرا يحاكي وجوه الموتى، فابتسم ابتسامة وقال: لم يرفضه أحد يا سيدي، ولكني أردت أن أطمئن عليه؛ لأنه محور قصة عجيبة قد يروقكم جميعا سماعها.
Página desconocida
فازداد اهتمام الحاضرين، ودل تطلعهم إليه على شوقهم إلى سماع قصته، فطلب إلى حميه أن يعطي الريال زوجه، ثم قال: إن شوشو تعرف قصة هذا الريال خيرا مني، وسأتنازل لها عن حق روايتها .. هيا يا شوشو قصي عليهم القصة العجيبة، وهي حقيقة تفتح شهيتهم للطعام.
وانصرفت الوجوه إلى الزوجة، وقد تضاعف اهتمام الجميع، وتوقعوا جميعا قصة شائقة. أما شوشو فكانت في حالة يرثى لها من الذعر والارتباك، وقد جمعت قوتها المشتتة، وقامت واقفة، وشقت طريقا بين الجالسين إلى باب الحجرة، فاحتجوا على قيامها، وحاول بعضهم منعها، ولكنها قاومت الأيدي، وهي تقول بصوت خافت مضطرب: «انتظروا دقيقة .. سأعود في الحال.»
وولت خارجة وعينا زوجها تتبعانها بنظرة قاسية. •••
يستطيع القارئ أن يستنبط الخاتمة المروعة؛ فإنه لا شك يقرأ كثيرا في الصحف عن اللاتي يرمين بأنفسهن من النوافذ العالية؛ فيسقطن مهشمات مشوهات، ولعله إذ يقرأ هذه الأخبار المقتضبة يتساءل عن أسبابها الخفية، ويذهب به الحدس كل مذهب. فهذا سر واحدة من أولئك المنتحرات، وإنه ليؤسفني أن تنتهي القصة إلى هذه النهاية المحزنة، ولكن ما حيلتي وقد بدأت بتلك البداية الأسيفة؟
والحق لا تقع علي تبعة بدايتها ولا نهايتها؛ فهكذا يرويها بطلها المحزون الذي غدا لا يفارق الحانة ليل نهار. وكم تمنيت لو كان كاتبها كما كان راويها؛ لأني - وا أسفاه! - لا أستطيع مهما أحاول أن أبلغ بعض ما يبلغ من صدق الرواية وقوة التعبير.
الذكرى
إذا لاحت في الأفق القريب بشائر عيد الفطر خفت وطأة رمضان على النفوس، وهون الفرح الموعود من جفاف شهر الصوم، واهتزت صرامة التقشف في الصدور تحت موجة طرب آن انطلاقها. هناك تجد ربات البيوت أنفسهن في مكانة الساحر، يتطلع إليهن الصغار بأعينهم الحالمة هاتفة بهن أن يبدعن آيات الكعك اللذيذ، وأن يخلقن من العجين كهيئة العرائس والحيوان والطير.
أما جماعة الموظفين الذين تقضي عليهم أشغالهم بالتغرب في أقاصي القطر، فلا يشغلهم في تلك الأيام مثل إعداد الحقائب والتأهب للسفر إلى بلدانهم؛ حيث يسعدون بالعيد بين أهليهم، وحيث تتحقق للأطفال ولهم أحلامهم.
وكان من هؤلاء الأستاذ يوسف زينهم المدرس بمدرسة أسيوط الثانوية وأسرته المكونة من زوجة وابنتيه الصغيرتين ، فما أتى يوم الوقفة حتى كان الأستاذ وأسرته في القاهرة، بل في القاهرة المعزية؛ حيث يقع بيت المرحوم والده في الدراسة قريبا من مسجد الحسين. وكان البيت من البيوت القديمة، باهت الجدران رث الهيئة، يصعد إليه الصاعد على سلم ضيق متهدم الدرجات بغير درابزين، حلزوني الشكل كسلم المآذن. ويتكون البيت من طابق واحد ذي ثلاث حجرات صغيرة الحجم. ولكنها كانت سفرة سعيدة، ودواعي لذتها متوفرة من التنقل واستقبال العيد ورؤية الأهل والأحباب.
ومهما يكن من أمر البيت من التفاهة والضعة، فما كان يوسف يطأ بقدمه أول درجة من سلمه حتى يرفرف قلبه في صدره وتمتلئ عيناه بالأحلام وقلبه بالحنين، ويذكر لفوره ذلك الطفل الصغير ذا الجلباب والطاقية الذي كان يقفز على هذا السلم صاعدا هابطا كل يوم حافي القدمين.
Página desconocida
أي ذكرى وأي أيام!
وكان كل مكان فيه يحفظ لقلبه ذكرى تنعش النفس وتشرح الصدر، سواء أكان ما تحمل نوعا من مسرات الصبا أو لونا من متاعبه وهمومه. وكثير من آلام الصغر التي يضيق بها الأطفال يجدونها إذا كروا إليها في الكبر متعة ولذة وتفكهة، فكان لهذا يطوف بحجرات البيت حالما متذكرا كأنما يطوف بضريح ولي من أولياء الله، ثم يستقر مدة إقامته في أعزها عليه وأحبها إلى قلبه: في الحجرة التي عاش فيها من عمره اثنين وعشرين عاما بين عبث الطفولة وأحلام الصبا وآمال الشباب.
والذي يقيم فيها الآن أخوه سامي، وهو ابن عشر ويختم في هذا العام دراسته الابتدائية. ويخيل إليه - أي إلى يوسف - كما شاهده أنه يعيد تمثيل الحياة التي حييها مرة أخرى، وأن الحجرة تشهد للمرة الثانية نفس فصول الرواية، ولعلها بدأت تبسم وتسخر وتسأم .. وكان سامي يتخلى عن حجرته سعيدا مغتبطا لأخيه الأكبر الذي ينزل من نفسه منزلة الأب، ويتولى من بعده جميع أموره ويتعهده بالتربية والمحبة.
وقد لاحظ يوسف أن أخاه غير من نظام الحجرة، وأنه نقل المكتب القديم إلى غير موضعه الأصلي، وكان يحب أن تبقى الحجرة محتفظة بصورتها القديمة، فسأله عن هذا، وأجابه الغلام: إني جعلت المكتب بحيث إذا جلست للمذاكرة جاء نور النافذة من الجهة اليسرى كما أوصانا مدرس علم الصحة.
فابتسم يوسف، وقال: «ما أسعد حظكم يا تلاميذ اليوم؛ فإن لكم من مدرسيكم آباء رحماء يودون لكم الصحة والعافية ويشفقون عليكم من الأذى، أما على أيامنا فكان الحال غير الحال والمدرسون غير المدرسين. وإني لأذكر العنت الذي كان يصيبنا - في نفس مدرستك خليل أغا - وما كانوا يلزموننا من حفظ البلدان والثغور والجزر والحاصلات. وكم من مرة مددنا على الأرض وألهبت العصي القاسية ظهورنا وبطون أقدامنا .. تلك أيام خلت .. أما أيامكم ...!»
ثم استلقى الأستاذ على كنبة، واستسلم لتيار التذكر العذب التسلسل، تاركا زوجه وأمه تتحادثان ما شاء لهما الحديث، وسامي يجالس ميمي وفيفي الصغيرتين ويلاعبهما.
ولم تنس أمه أن تأتي بمدفأة وتضعها في ركن من الحجرة؛ لأن الشهر كان ديسمبر والجو شديد البرودة يزيد من شدة قساوته الصيام، وكأن السماء أشفقت من البرد فتلفعت بأردية من السحب، أضاء بعضها عن لون أبيض ناصع بهيج، وأظلم البعض عن كتل دكناء كالجبال عند الغروب؛ فانكمش جسده، وتحفزت روحه للوثوب وحلقت على رأسه الأحلام. وسرعان ما كرت نفسه راجعة عشرين عاما في خط الزمن غير المتنامي، وذكر عهد هذه الحجرة أيام كانت رفيقة صباه وشبابه وشريكة أحلامه وأهوائه، وشاهدة أفراحه وأحزانه، ومستسرة خباياه ومرجع نجواه. رباه! .. إنه ليدير عينيه في أنحائها طمعا أن ينفذ إلى تضاعيف جوها الخفي، ويقرأ ما خط من حياته، وما سجل من نوازع قلبه وعقله ووجدانه .. ولقد تأتي عليه أوقات يغمره تيار الحياة وتكتنفه متاعبها فينسى ذكريات الماضي في هموم الحاضر، ويخيل إليه أن ذاك الصبي الذي عاش وفرح وتأمل وأمل ويئس شخص غريب عنه لا تربطه به رابطة ألم أو أمل. وقد تأتي عليه ساعات أخر يتوب فيها إلى نفسه فينسى حاضره هارعا إلى الماضي البعيد، وتقدم إليه حافظته الثائرة أزاهر الذكريات واحدة فواحدة حتى يخال أنه لم يعبر الماضي إلا منذ ساعات قلائل، وأنه لم يحي إلا به وله .
وها هو ذا الآن تغشاه ساعة من تلك الساعات الحالمة فتحلق روحه في آفاق بعيدة كالذاهل في غيبوبة مغناطيسية، وتتدفق عليه الصور الحالمة في غير ترتيب زماني، فيذكر كيف كان يستيقظ - في نفس الحجرة - منذ الفجر، ويدلف إلى النافذة يشاهد بهاء الفجر المشتمل الكون بثوبه الأزرق، والنجوم من فيض الحياة بها تكاد أن تتكلم بأحاديث الأزل، ويرى البيوت كالأشباح القائمة، ومئذنة سيدنا الحسين في المكان الأوسط منها كالحارس الحفيظ، ويستمع إلى صياح الديكة المنتشية ببشائر النور وقطر الندى، حتى يشق الفضاء صوت المؤذن داعيا «الله أكبر»، فيهبط على القلوب هبوط الصحة والطمأنينة فيملأها نشوة وبهجة وحنينا، ثم يصلي الفجر، فإذا انتهى أشعل المصباح وقعد يذاكر ويحل تمرينات الحساب ومسائل الهندسة.
وإنه ليذكر لهذه المناسبة عهد التلمذة الغريب، الذي كان يرسف في أغلاله كالسجين، أو الأسير المعذب، يجهد عبثا أن يقوم بما يفرضه عليه البرنامج الثقيل المرهق، وتضطرب أعصابه خوفا ورعبا من المدرسين وعصيهم الذين كان يكفي تذكرهم لتجميد الدم في العروق أو قطع الأنفاس في الصدور. ولا عجب فقد كانت القسوة هي السياسة المرسومة لتربية التلاميذ، وكان يظن أنها الطريقة المثلى لخلق الرجال الفضلاء، فكان عهد التلمذة عهد رعب وإرهاب وعنت. وإنه إذا جاز له الآن أن يشبه المعلم بالفنان يحاول أن يبدع من مادته أجمل الآيات وأمتعها فلا يستطيع أن يشبه مدرسيه القدماء إلا بمحصلي الضرائب الأتراك .. ولكنه بالرغم من هذا لا يذكر ذاك العهد حتى يعلوه الابتسام ويغمره الفرح، كأن ما فيه من مسرة فهو له وما فيه من ألم فهو لغيره، يراه كما يرى المشاهد الرواية التمثيلية الحزينة فيتمتع بأثرها الجميل.
وفيما هو سابح في بحر أحلامه، انتبه فجأة على يد ابنته الصغرى ميمي وهي تهزه، فالتفت إليها متبرما، وصاح بها منتهرا: «إيه يا بنت؟»
Página desconocida
وهي تشير إلى حائط الحجرة.
فسألته بصوتها الرفيع المتقطع: «هل حقا أنت الذي رسمت هذه الصورة يا بابا؟»
وتتبع ناظره إصبعها إلى هدفها من الحائط في المكان الذي كان يشغله المكتب قبل أن ينقله سامي، فرأى صورة طفلة صغيرة في نصف الحجم الطبيعي سرعان ما تذكرها عقله وقلبه، وذكر بعض الظروف التي دفعته إلى رسمها منذ عشرات السنين .. وتعجب كيف شاءت المصادفة أن تنبه ابنته إليها ساعة تهيم روحه في سموات عهدها الحلو المنطوي، فكأنما سخرت الصورة للطفلة الصغيرة لتذكير أبيها الغافل.
قال سامي: لا شك أنك أنت يا أخي يوسف الذي رسمتها؛ فأنت صاحب الحجرة القديم، وأنت الذي تستطيع أن تجيد الرسم.
وقالت ميمي مرة أخرى: بابا .. اشتر لي عروسة مثلها.
ودلف يوسف إلى قريب من الصورة، وتأملها بعين لو رأت زوجه نظرتها المشوقة لسألت باهتمام عن الصورة وتاريخ رسمها، وأجرت في ذاك تحقيقا عسيرا، وكان ما يبقى منها ظل خفيف طمست منه بعض معالم الوجه، ولكن بقي منها محافظا على وضوحه مفرق الشعر الغزير المرسل في عبث فتان، وما يبين عن جمال الأنف الصغير الدقيق. فالشكر لله أنه كان يجيد الرسم منذ الصغر، وإلى جانب الصورة كانت مكتوبة هذه الأبيات:
أفق قد أفاق العاشقون وفارقوا ال
هوى واستمرت بالرجال المرائر
دع النفس واستبق الحياة فإنما
تباعد أو تدني الرباب المقادر
Página desconocida
أمت حبها واجعل قديم وصالها
وعشرتها مثل التي لا تعاشر
وهبها كشيء لم يكن أو كنازح
به الدار أو من غيبته المقابر
إن للصورة والشعر قصة قديمة كانت حياة قلب ناشئ اصطرع من جرأتها فيه الأمل والألم، وتيقظت بسببها عواطف شتى وغرائز نائمة، وإن عفت آثار تلك الحياة من قلبه الآن كأنما فاضت من غير منبعه واصطخبت في غير ميدانه. وإنه لمن المؤلم المضحك أن يكون الحائط الحجري أحفظ للود وأرعى للذكريات الجميلة من قلب الإنسان العاقل .. وإن تلك الصورة وهذه الأبيات الشعرية لتذكره بأجمل ما وهبت حياته المنطوية، بل أجمل ما تهب الحياة لبنيها، تذكره بوهم الحب الطاهر، الحب الذي يفيض من قلب طاهر لم تعركه التجارب، ويخبئ أغراضه المرسومة منذ الأزل خلف وجه ملاك سام، ويخفي أنات الأرض وراء لحن سماوي ساحر، ويغشي على الطين ستارا كثيفا من السحاب الأبيض الجميل.
نعم، لا يكاد يذكر التفاصيل، ولا يحضره الترتيب الزماني، ولكن تندلع في قلبه ألسنة من اللهب بين الحين والحين؛ فيكشف نورها المتقطع عن صور عزيزة فاتنة من الماضي. •••
كان المرحوم والده طاهي الوجيه سليم بك عامر - من سراة القاهرة وأعيانها المبرزين - وكان يوسف يتردد عليه أحيانا كثيرة، ولا يزال يذكر القصر العامر بحديقته الغناء وجدرانه الشاهقة وأبوابه العالية ونوافذه ذات الستائر المختلفة الألوان، كما يذكر البناء الصغير المنعزل في ركن من الحديقة ذات المدخنة الطويلة؛ حيث كان يباشر أبوه عمله. وكان إذا زار أباه يجلس في ركن المطبخ يشاهد عملية الطهي الغريبة، وفن تحويل الخضروات والطماطم والطيور إلى أصناف شهية بهيجة اللون لذيذة الطعم، ويلتهم ما يعطيه من اللحم والحلوى، ويسمع في دهشة الخدم وهم ينادون أباه بقولهم: «يا عم زينهم.» وما كان يظن أن شخصا كوالده العظيم الذي يمتلئ قلبه رهبة منه، والذي تقف له أمه وإخوته كلما جاء أو ذهب يمكن أن ينادى بمثل هذا النداء الذي يخاطب به باعة الفول السوداني «وغزل البنات» .. ولكنه ما لبث أن اعتادته مسامعه وألفته نفسه، وطفق يدرك شيئا فشيئا مكانة والده من القصر العظيم، وتبين البون الشاسع الذي يفصل بين واحد مثله وبين أهل ذاك القصر الذين لا يدري على أي وجه من الحياة يعيشون خلف تلك الجدران الهائلة.
وهو لا يكاد يذكر تاريخ أول لقاء على وجه التحديد، ولكنه يرجح أنه وقع لأول عهده بزيارة قصر سليم بك، وهو في الثانية عشرة من عمره. وكان مطمئنا إلى مكانه المختار من المطبخ وفي يده قطعة «البقلاوة»، وعلى حين فجأة دخلت إلى المكان طفلة في مثل عمره لم ير مثلها من قبل، كانت مستديرة الوجه، مليحة القسمات، خمرية اللون، رشيقة القامة، ينتثر شعرها الأسود الحالك خصلات على كتفيها ويلتقي وسط الرأس في «فيونكة» حمراء، ثم تنزل منه شعرات رفيعة مستقيمة على الجبين كرذاذ النافورة، وترتدي فستانا أبيض شفافا ذا منطقة حمراء يكشف عن ركبتيها الصغيرتين، فأثاره منظرها، وجمدت عيناه عليها في إعجاب ورهبة بعد أن أخفت يده بحركة غريزية قطعة «البقلاوة»، وانتبه أبوه إليها فانحنى باحترام وهو يقول مبتسما: أهلا وسهلا بسوسن هانم.
ولاحظ الرجل أنها تنظر إلى ابنه نظرة غريبة، فقال يقدمه إليها: هذا خادمك يوسف .. ابني.
فدارت عيناها الجميلتان بينه وبين أبيه في صمت وسكون، ثم ولت مسرعة في خفة أخاذة، وأسرع يوسف وراءها زحفا على يديه وقدميه كالضفدع، فلما بلغ باب المطبخ أرسل بناظريه خلفها يشاهدها وهي تجري في الحديقة حتى أخفتها عن عينيه طرقاتها الملتوية. إنه يذكر هذا المنظر على توغله في الماضي كأنما لمس حواسه بالأمس القريب، ولا ينسى كيف أنه أيقظ نفسه وقلبه وخياله وبدل موتها حياة حارة وركودها ثورة هائجة. فما إن رجع إلى البيت ورقد - ربما حيث يرقد الآن - استحضر صورتها وخلا إليها واستغرق في حسنها وبهائها .. أي حسن وأي بهاء! .. رباه! .. هل تحوي الدنيا مثل هذه الفتنة وهذه النظافة؟ .. لقد عاشر من جنسها كثيرات، منهن أمه وأربع أخوات - تفرقن الآن في بيوت أزواجهن - شتان ما بينها وبينهن، إنهن من طين وهي نور، وما كان يظن أن لها لحما ودما كلحمهن ودمهن، أو أن يكون بداخلها معدة وأمعاء كبقية الإنس، فنزهها عن هذا وعن غيره، ونزلت من نفسه منزلة الملائكة في نفوس العابدين.
Página desconocida
وكان يوسف رقيق العواطف متوثب الخيال دقيق الحس كجميع هواة الرسم والفنون، وكانت غريزته لا تزال راقدة في سباتها الذي فطرها الله عليها، فدبت فيها الحياة بعد أن نفخت فيها صورة سوسن من روحها العذب، وغاب عنه حينذاك أنه يمثل فصلا من رواية تكررت مشاهدها آلاف السنين، وأنه يقع في الأحبولة المنصوبة منذ الأزل لبني الإنسان، فظن أنه يكشف عالما روحيا جديدا يطير إليه على جناحي الحب. إنه ليذكر هذا الآن فيتعجب لهذا الحب الغريب، الحب الذي هو فلسفة الشباب الشاملة، والذي يتسامى إلى معارج التصوف والتجلي، وينحط إلى مهاوي القسوة والأنانية والقذارة، وتكمن خلف جميع أوجهه تلك الغريزة التي هي أمضى سلاح في يد الحياة .. واقتطفت ذاكرته صورة أخرى من الماضي الجميل لا يحسن معرفة موقعها من حوادث تلك الأيام، ولكنه يذكر جيدا أنه بعد اللقاء الأول غير مجلسه من المطبخ إلى مكان قريب من الباب، بحيث يستطيع أن يشاهد منه الحديقة طمعا أن يرى العروسة الصغيرة التي استبدت بأحلامه وأمانيه، وأنه كان يراها في صحبة أخوين لها في مثل عمرها يركبون الدراجة أو يلعبون «بالبلي»، أو يستبقون في ممرات الحديقة الرملية!
ففي جولة من جولاتهم عثروا به، فلفت منظره الغريب أنظارهم وتساءل عنه الصغيران، فأجابتهما سوسن بأنه «ابن عم زينهم» فدنوا منه، وأنعموا فيه النظر: في جلبابه الباهت، وطاقيته السوداء، وقبقابه الصغير، فجفل قلبه وهم أن يولي فرارا لولا أن صاحت به سوسن بصوتها العذب: لا تخف .. ولتبق حيث أنت؛ فلن يؤذيك أحد.
وسأله أحد الصبيين: وقد نسي اسميهما: هل أنت ابن عم زينهم؟
فأحنى يوسف رأسه أن: نعم. فسأله الثاني وعلى فمه ابتسامة: هل أنت تلميذ؟
فأحنى رأسه مرة أخرى أن نعم، مما أثار دهشة بين الثلاثة، فسأله الأول: وما مدرستك؟ - خليل أغا. - في سنة إيه؟ - في السنة الرابعة.
ثم سكت يوسف لحظة يغالب رغبة في الحديث حتى غلبته، فسأل الأخوين قائلا: وما مدرستكما؟ - الناصرية. - ولم لم تدخلا خليل أغا وهي قريبة من البيت؟
فبدت في عيني الشقيقين نظرة إنكار وقال أكبرهما: الناصرية مدرسة الأغنياء.
وقال الآخر وكان أشد صلفا: أما خليل أغا فهي مدرسة الفقراء.
وقالت سوسن: ماذا يهم بعد المدرسة إذا كانا يذهبان إليها في السيارة!
فردد يوسف عينيه بينهما، وقد غلب على أمره، واستخذى خجلا ومهانة، وكرهت نفسه الهزيمة؛ فقال بدون داع ولا مناسبة وبصوت يدل على التحدي: أنا أول فرقتي .. وأجيد الرسم إجادة فائقة .. إلي بورقة وقلم!
Página desconocida
فنظر إليه الأخ الأكبر بعين الهزء، وأخرج من جيب بنطلونه ورقة وقلما، وقال له: إليك ما تريد.
وزاد اهتمام سوسن؛ فاقتربت خطوة منه، وقالت: إن كنت شاطرا حقا فارسم كلبا.
فبسط الصبي الورقة أمامه بثقة واطمئنان، وجرت يده بالقلم في ثبات وخفة ومهارة، فصورت كلبا لا بأس به. ولما انتهى منه نظر إليهم نظرة فوز وظفر، ونظر إليه الأخوان باحتقار وغيظ، أما سوسن فقالت وعلى فمها ابتسامة رقيقة: الكلب موضوع سهل .. إن كنت شاطرا حقا فارسم إوزة.
ولكنه لم يقهر أيضا، وذاق لذة الفوز مرة أخرى، فقال الأخ الأصغر: الرسم مادة تافهة. - ولكني الأول في جميع العلوم. - وهذا أمر تافه.
فقال يوسف بحدة: إذن فما المهم؟
فوضع الصبي الآخر يديه في جيبي البنطلون، وقال وهو ينظر إليه من عل: المهم أن تكون ابن بك .. وأن يكون لك مثل هذا القصر.
هذا ما يذكره من تلك المنافرة الصبيانية، ويذكر فوق هذا أنه عاد إلى بيته ذاك اليوم ينتفض من الغضب والحقد ويمتلئ كراهية للصبيين. أما سوسن فلم يكره منها قولا أو فعلا؛ إذ كانت حبيبة عزيزة جميلة، وكان حبيبا عزيزا جميلا كلله الحب بتاجه.
وكان مستعدا في أعماقه أن يكره منذ صغره إن وجد منها كرها له أو احتقارا، ولا يحب الشر ويعظمه إن آنس منها له حبا وتعظيما؛ إذ كانت تتبوأ من نفسه مكانة المثل الأعلى في كل شيء، فالخير خير بالإضافة إلى أفعالها، والجميل جميل على قدر مشابهته لصورتها.
إنه يذكر تلك اللوثة الهيامية كالمستفيق الذي يتذكر فعاله حين السكر الشديد. ولم يتصل الحديث بينه وبين الأخوين بعد تلك المعركة الكلامية، ولم يرهما إلا قليلا، وكانا إذا مرا به مرا مقتحمين كأنهما لا يريانه، أما سوسن فكان يراها كثيرا .. ولم تكن متكبرة قاسية كأخويها فكانت إذا التقت عيناها بعينيه ابتسمت إليه أو بادلته كلمة تافهة كانت لديه ألذ من الصحة والعافية.
وكان مرة جالسا القرفصاء، وكانت تلعب في الحديقة على بعد قريب منه، قافزة على حبل تديره خادمتان من طرفيه، فلبث يراقبها بعينين مشتاقتين، وبعد قفزاتها على دقات قلبه الولهان. وحدث أن ذهبت إحدى الخادمتين لبعض الشئون، فنادته أن يحل محل الخادمة، ولبى مسرعا سعيدا مغتبطا ظافرا، وود من قلبه لو لم تنته تلك الساعة السعيدة أبدا، ولكن الصغيرة تعبت فتوقفت تستريح، وخشي يوسف أن تنتهي سعادته ويعود إلى مكانه، وكان شديد الرغبة في أن يحادثها، وأن يستمع إلى صوتها العذب الذي يفعل به فعل التعويذة بالمسحور فسألها: هل تذهبين إلى المدرسة؟
Página desconocida