أمت حبها واجعل قديم وصالها
وعشرتها مثل التي لا تعاشر
وهبها كشيء لم يكن أو كنازح
به الدار أو من غيبته المقابر
إن للصورة والشعر قصة قديمة كانت حياة قلب ناشئ اصطرع من جرأتها فيه الأمل والألم، وتيقظت بسببها عواطف شتى وغرائز نائمة، وإن عفت آثار تلك الحياة من قلبه الآن كأنما فاضت من غير منبعه واصطخبت في غير ميدانه. وإنه لمن المؤلم المضحك أن يكون الحائط الحجري أحفظ للود وأرعى للذكريات الجميلة من قلب الإنسان العاقل .. وإن تلك الصورة وهذه الأبيات الشعرية لتذكره بأجمل ما وهبت حياته المنطوية، بل أجمل ما تهب الحياة لبنيها، تذكره بوهم الحب الطاهر، الحب الذي يفيض من قلب طاهر لم تعركه التجارب، ويخبئ أغراضه المرسومة منذ الأزل خلف وجه ملاك سام، ويخفي أنات الأرض وراء لحن سماوي ساحر، ويغشي على الطين ستارا كثيفا من السحاب الأبيض الجميل.
نعم، لا يكاد يذكر التفاصيل، ولا يحضره الترتيب الزماني، ولكن تندلع في قلبه ألسنة من اللهب بين الحين والحين؛ فيكشف نورها المتقطع عن صور عزيزة فاتنة من الماضي. •••
كان المرحوم والده طاهي الوجيه سليم بك عامر - من سراة القاهرة وأعيانها المبرزين - وكان يوسف يتردد عليه أحيانا كثيرة، ولا يزال يذكر القصر العامر بحديقته الغناء وجدرانه الشاهقة وأبوابه العالية ونوافذه ذات الستائر المختلفة الألوان، كما يذكر البناء الصغير المنعزل في ركن من الحديقة ذات المدخنة الطويلة؛ حيث كان يباشر أبوه عمله. وكان إذا زار أباه يجلس في ركن المطبخ يشاهد عملية الطهي الغريبة، وفن تحويل الخضروات والطماطم والطيور إلى أصناف شهية بهيجة اللون لذيذة الطعم، ويلتهم ما يعطيه من اللحم والحلوى، ويسمع في دهشة الخدم وهم ينادون أباه بقولهم: «يا عم زينهم.» وما كان يظن أن شخصا كوالده العظيم الذي يمتلئ قلبه رهبة منه، والذي تقف له أمه وإخوته كلما جاء أو ذهب يمكن أن ينادى بمثل هذا النداء الذي يخاطب به باعة الفول السوداني «وغزل البنات» .. ولكنه ما لبث أن اعتادته مسامعه وألفته نفسه، وطفق يدرك شيئا فشيئا مكانة والده من القصر العظيم، وتبين البون الشاسع الذي يفصل بين واحد مثله وبين أهل ذاك القصر الذين لا يدري على أي وجه من الحياة يعيشون خلف تلك الجدران الهائلة.
وهو لا يكاد يذكر تاريخ أول لقاء على وجه التحديد، ولكنه يرجح أنه وقع لأول عهده بزيارة قصر سليم بك، وهو في الثانية عشرة من عمره. وكان مطمئنا إلى مكانه المختار من المطبخ وفي يده قطعة «البقلاوة»، وعلى حين فجأة دخلت إلى المكان طفلة في مثل عمره لم ير مثلها من قبل، كانت مستديرة الوجه، مليحة القسمات، خمرية اللون، رشيقة القامة، ينتثر شعرها الأسود الحالك خصلات على كتفيها ويلتقي وسط الرأس في «فيونكة» حمراء، ثم تنزل منه شعرات رفيعة مستقيمة على الجبين كرذاذ النافورة، وترتدي فستانا أبيض شفافا ذا منطقة حمراء يكشف عن ركبتيها الصغيرتين، فأثاره منظرها، وجمدت عيناه عليها في إعجاب ورهبة بعد أن أخفت يده بحركة غريزية قطعة «البقلاوة»، وانتبه أبوه إليها فانحنى باحترام وهو يقول مبتسما: أهلا وسهلا بسوسن هانم.
ولاحظ الرجل أنها تنظر إلى ابنه نظرة غريبة، فقال يقدمه إليها: هذا خادمك يوسف .. ابني.
فدارت عيناها الجميلتان بينه وبين أبيه في صمت وسكون، ثم ولت مسرعة في خفة أخاذة، وأسرع يوسف وراءها زحفا على يديه وقدميه كالضفدع، فلما بلغ باب المطبخ أرسل بناظريه خلفها يشاهدها وهي تجري في الحديقة حتى أخفتها عن عينيه طرقاتها الملتوية. إنه يذكر هذا المنظر على توغله في الماضي كأنما لمس حواسه بالأمس القريب، ولا ينسى كيف أنه أيقظ نفسه وقلبه وخياله وبدل موتها حياة حارة وركودها ثورة هائجة. فما إن رجع إلى البيت ورقد - ربما حيث يرقد الآن - استحضر صورتها وخلا إليها واستغرق في حسنها وبهائها .. أي حسن وأي بهاء! .. رباه! .. هل تحوي الدنيا مثل هذه الفتنة وهذه النظافة؟ .. لقد عاشر من جنسها كثيرات، منهن أمه وأربع أخوات - تفرقن الآن في بيوت أزواجهن - شتان ما بينها وبينهن، إنهن من طين وهي نور، وما كان يظن أن لها لحما ودما كلحمهن ودمهن، أو أن يكون بداخلها معدة وأمعاء كبقية الإنس، فنزهها عن هذا وعن غيره، ونزلت من نفسه منزلة الملائكة في نفوس العابدين.
Página desconocida