فقالت بلهجتها الهادئة المطمئنة وصوتها المتزن النبرات الذى لا أذكر أنه ارتفع عن هذه الطبقة مرة واحدة فى عشرين عاما قضتها معنا مذ كانت طفلة: «إن الأمر يستدعى وجودك».
وفرحة عاقلة ذكية وحريصة دقيقة العبارة، قد رباها أبى مع أختى وعنى بتعليمها أيضا، وجعل لها حصة فى الوقف الذى وقفه قبل وفاته. وكانت هذه مفاجأة سارة لنا، فقد أحببنا فرحة حب الأخت. وكانت هى - وما زالت - ربة البيت. ولسنا نعاملها معاملة الخدم وإنما نعدها واحدة منا لها علينا مثل الذى لنا عليها. وحسبك منها، أنها ما أخذت فى حياتها معنا أجرا على خدمة، وأنها بعد وفاة أبينا لم تحاسبنا قط على ريع حصتها وإن كنا نودعه البنك باسمها.. فإذا أرادت ثوبا أو خاتما أو غير ذلك طلبته منا، كما يمكن أن تطلبه أختى منى أو من زوجها. فإذا كانت تقول الآن أن الأمر يستدعى وجودى، فقد صار القيام لابد منه.
ودخلت على أختى وورائى فرحة، فألفيتها مستلقية على السرير فى منامة قرمزية مزركشة ومعتمدة بكوعها على وسادة وثيرة مربعة محشوة بريش النعام وخدها على راحتها ويسراها على فخذها وبين أصبعيها سيجارة.. وكان منظرها فاتنا فإنها جميلة ممشوقة، وكانت هذه الرقدة تبرز خطوط جسمها الرشيق وبراعة الانحناءات فيه.
وكان زوجها قاعدا فوق السجادة، فنظرت منها إليه وقلت: «لا عجب أن تدللها.. لست بإنسان إذا لم تفعل».
فابتسمت مسرورة وأدنتنى منها وقبلتنى، وقالت: «اجلس هنا.. إلى جانبى على السرير.. وأنت يا فرحة.. قصى عليهم الحكاية» فأراحت فرحة أناملها على شباك السرير وأشارت بيدها الأخرى إلى منضدة صغيرة قريبة وقالت: «قبل أن أترك الغرفة وضعت بيدى عقدها - وأشارت إلى أختى - على هذه المنضدة، وفى الصباح دخلت عليها فلم أجده. وسألتها عنه فقالت إنه فى مكانه، فذهبت إلى البك - تعنى زوجها فإن فرحة مؤدبة - وسألته فجعل يضحك ويتحسس عنقه ويقول إنه ليس هنا.. هذه هى الحكاية».
فقلت متمما لها كلامها: «فجئتم بشرلوك هولمز ليحل اللغز ويضع يده على اللص.. أشكر لكم هذه الثقة العظيمة».
فقالت أختى، وهى تضحك: «العفو.. الواقع أن كل ما أذكره هو أنى قمت بالليل، وغبت عن الغرفة دقائق، ومررت فى عودتى بغرفة هذا الزوج الصالح.. ولكن شخيره كان عاليا فهربت».
فنهض ابن عمى محتجا وقال وهو يتمشى: «شخيرى.. هل تريدين أن تقولى إنك أفردت لى غرفة من أجل شخيرى.. شخيرى.. ليتك ترين نفسك فى المرآه وأنت نائمة. إذن لرأيت كيف ترمين اللحاف وتضربين برجلك هنا وبيدك هناك، كالأطفال بلا أدنى فرق. لقد تزوجت طفلة حين تزوجتك.. تقول شخيرى.. مثل هذا الطعن القبيح على سيدها وتاج رأسها، هل يليق يا فرحة»؟
فابتسمت فرحة ولم تقل شيئا. وماذا عساها تقول، وشخيره يزعج الجيران حتى لقد جلا السكان عن هذا الحى، وخربت بيوت أصحاب العمائر فيه. ... وانتهت ضجة الضحك أخيرا - ولكل شىء آخر - فقلت: «ماذا كان شرلوك هولمز خليقا أن يصنع فى مثل هذه الحالة»؟
فصاح بى ابن عمى: «دع الفلسفة من فضلك.. الأمر واضح.. البيت موصد من كل ناحية والمنافذ كلها مسدودة، فالذى أخذ العقد لم يجئ من الخارج وإنما هو ولا شك واحد ممن فى البيت».
Página desconocida