En busca de la corona
في سبيل التاج
Géneros
وأخذ الجماهير يصيحون: اقتلوهما معا، مزقوا جسميهما بالسيوف، وانثروا أشلاءهما في الفضاء.
ثم تدافعوا نحوهما تدافع الصخور الهائلة من أعالي الجبال، فصاحت ميلتزا: أيتها الوحوش الضارية، والخلائق الساقطة، مهما كثر عددكم، وعظمت قوتكم، فإنكم لن تستطيعوا أن تصلوا إليه أو تلحقوا به إهانة من الإهانات التي تضمرونها في نفوسكم، فإن أبيتم إلا أن تفعلوا؛ فاعلموا أنني - أنا الفتاة الضعيفة المسكينة - قادرة على أن أخلصه من أيديكم! فلم يحفلوا بكلامها، ولم يفهموا غرضها، واستمروا في اندفاعهم وتدفقهم.
وهنا حدث ذلك الحادث الهائل الذي شخصت له الأبصار، وذهلت له العقول، وجمدت لمنظره الدماء في العروق، فقد علمت ميلتزا أن القضاء واقع لا مفر منه، وأن القوم لا بد بالغون من قسطنطين ما يريدون، وأن لا طاقة لها بحمايته والذود عنه، وهالها هولا عظيما وكبر في نفسها أن ذلك الوجه الشريف المتلألئ بنور الفضيلة والكرم والطهارة والبراءة يصبح هدفا دنيئا لهؤلاء الغوغاء الثائرين، يلطمه من يلطم ويبصق عليه من يبصق، فلما أصبحوا على مقربة منها ولم يبق بينهم وبينها إلا بضع وثبات، حنت عليه وهمست في أذنه قائلة: في استطاعتك يا سيدي أن تنجي نفسك بكلمة واحدة تعترف فيها بكل شيء! فرفع طرفه إلى السماء ثم ألقاه على تمثال أبيه، ثم نظر إليها نظرة دامعة حزينة وقال: «لا أستطيع!»
فجردت من منطقتها خنجرها الذي كانت قد استهدته إياه فيما مضى، ورفعته في الهواء ثم طعنته به في صدره طعنة نجلاء وهي تقول: مت شريفا أيها الرجل العظيم كما عشت شريفا، وسأتبعك إلى سمائك التي تصعد إليها. فسقط مضرجا بدمائه وهو يقول بصوت ضعيف متقطع: شكرا لك يا ميلتزا.
وكان القوم قد بلغوا موقفهما: فرفعت الخنجر مرة أخرى وطعنت به نفسها، فترنحت قليلا ثم سقطت على مقربة منه، وكان لا يزال يعالج السكرة الأخيرة، ففتح عينيه فرآها، فأخذ يسحب نفسه سحبا حتى بلغ مصرعها، فألقى يده عليها وظل يجذبها نحوه كأنما يحاول أن يضمها إلى نفسه، فلم يستطع، فسقط رأسه على صدرها، فشعرت به، فضاءت ما بين شفتيها ابتسامة ضئيلة لم تلبث أن انطفأت وتغلغلت في ظلمات الموت، وظلا على هذه الحالة حتى فاضت نفساهما.
فأثر هذا المنظر الرهيب في نفوس الجماهير، وسكنوا في مواقفهم سكونا عميقا لا تتخلله نأمة ولا حركة، وظلوا على ذلك ساعة حتى نطق الملك بصوت خشن أجش تخالطة رنة الحزن والأسف قائلا: أيها المسيحيون، صلوا جميعا لهذين البائسين الشقيين، واسألوا الله لهما الرحمة والغفران.
ثم رفع قلنسوته وجثا على ركبتيه، فرفع القوم قبعاتهم وجثوا حول الجثتين وأخذوا يتلون صلواتهم بنغمة حزينة مؤثرة، كأنما هم يبكون عزيزا عليهم، أو شهيدا من شهدائهم! وما فعلوا غير ذلك لو كانوا يعلمون. •••
ظلت هذه الحقيقة مجهولة لا يعلمها أحد من الناس خمسة وثلاثين عاما، حتى حضر «بازيليد» الموت، فظلت تهذي بها في مرضها، وترددها في يقظتها وأحلامها، وتتألم لذكراها ألما شديدا على مسمع من كاهنها وعوادها، حتى فاضت روحها، فعلم الناس - ولكن بعد عهد طويل، وبعد أن تبدلت شئون البلقان غير شئونه - أن «قسطنطين برانكومير» أشرف الناس وأفضلهم، وأعظمهم وطنية وإخلاصا؛ لأنه ضحى أباه في سبيل إنقاذ وطنه، ثم ضحى نفسه في سبيل إنقاذ شرف أبيه، فبلغ في وطنيته وشرف نفسه الغاية التي لا غاية وراءها.
Página desconocida