En busca de la corona
في سبيل التاج
Géneros
الإهداء
مقدمة
مقدمة المؤلف
الجاسوس
قسطنطين
التاج
المؤامرة
الأمل
السر
الجريمة
Página desconocida
الضمير
الأزهار
حديث
الدسيسة
التمثال
النهاية
الإهداء
مقدمة
مقدمة المؤلف
الجاسوس
Página desconocida
قسطنطين
التاج
المؤامرة
الأمل
السر
الجريمة
الضمير
الأزهار
حديث
الدسيسة
Página desconocida
التمثال
النهاية
في سبيل التاج
في سبيل التاج
تأليف
مصطفى لطفي المنفلوطي
الإهداء
إلى البطل المصري العظيم سعد زغلول باشا
تشرح هذه الرواية سيرة بطل من أبطال الوطنية العالية قد جمع الله له من صفات الشجاعة والثبات والعزيمة والغيرة والإخلاص والتضحية ما جمع لك منها، فائذن لي أن أهدي روايته إليك، وأن أقدم البطل البلقاني إلى البطل المصري لتأنس روح كل منكما بروح صاحبه وإن باعد بينكما الزمن، واختلفت بكما الدار، فإن تفضلت بقبول هديتي - وما أحسبك ضانا بذلك علي - فلتكن جائزتي عندك عليها أن تشهد لي بينك وبين نفسك أنني قد وضعت لبنة صغيرة في ذلك البناء الضخم الذي شدته لأمتك، ووطنك، وحسبي ذلك وكفى.
مصطفى لطفي المنفلوطي
Página desconocida
أول يونيو سنة 1920
مقدمة
انصرفت عقول الكتاب والمفكرين في هذه الأيام وفي جميع البلاد إلى الاشتغال بالمسائل السياسية والمشاكل الاجتماعية التي أوجدتها الحرب الأخيرة، وانصرفت الأقلام وراء العقول تحاول إنارة السبيل لقادة الشعوب علهم يستطيعون إقالة هذا العالم من عثرته.
ولقد كان من جراء ذلك أن أهمل الأدب إهمالا نزل به إلى مرتبة دون التي كان يشغلها في نفوس القراء والمؤلفين، فانحط التأليف الأدبي انحطاطا قد يستمر ما استمرت حالة العالم على ما هي عليه.
ولم يكن تأثير هذه الأزمة الأدبية في مصر بأقل منه في غيرها؛ إذ انصرف معظم الأدباء عن فنهم - وعلى الأخص في السنة الأخيرة - إلى الاشتغال بقضيتنا السياسية الكبرى، فانقطع ظهور الكتب الأدبية أو كاد، وأوشكت مسارح التمثيل أن تغلق أبوابها لقلة ما يقدم إليها من الروايات، ورأت صحف الأدب ألا بقاء لها إلا إذا ولت وجهها شطر السياسة، فوقفت جل أعمدتها على شرح وتأويل ما يحمله إلينا البرق من الأخبار، وبذلك وقفت نهضتنا الأدبية منتظرة أن تمر العاصفة وتصفو السماء فتستأنف سيرها ويعود إليها عزها ونشاطها، بيد أن العناية الساهرة على الفنون قد أبت أن تذبل شجرة الأدب في مصر ولما تينع أزهارها، فلم تدع السياسة تستأثر بأقلام جميع الكتاب، بل أبقت للأدب أئمته وأنصاره، فلم يؤيسهم شغف الجمهور بسياسة العالم وانصرافه عن كل ما عداها، وظلوا رافعين لواء فنهم في وسط الزوابع والأعاصير عالمين أن الأدب أفيد غذاء لروح الأمة وعقلها، وأكبر مهذب لإحساسها وشعورها.
في طليعة هذا النفر من أئمة الفن وخدامه لا أتردد في ذكر اسم السيد «مصطفى لطفي المنفلوطي» الذي لم يبخل على قرائه العديدين بأويقات فراغه، فوقفها على الكتابة والتأليف، ولم تحل أعمال وظيفته الحكومية بينه وبين أن يخرج للناس بضعة مؤلفات قيمة، آخرها هذه الرواية الشيقة الممتعة «في سبيل التاج» التي نقدم اليوم طبعتها الرابعة إلى جمهور القارئين. •••
فرانسوا كوبيه مؤلف «في سبيل التاج» شاعر عرك صروف الزمان، وجس بأصبعه مصائب الإنسان، فلم تزد قلبه مناظر البؤس والفاقة إلا لينا وحنانا، حتى إن القارئ لا يرى في شعره إلا عبرة حارة أرسلتها عيناه إشفاقا وحنوا على الذين تخطتهم السعادة وغضبت عليهم الحياة، حتى لقبه عارفوه بحق «معزي المنكودين والبائسين، وشاعر الضعفاء والمحزونين.»
ولد كوبيه سنة 1842، ولم تمكنه بنيته السقيمة من تتميم دراسته، فانقطع عن تلقي الدروس في معاهد العلم، وانصرف إلى قراءة الكتب والاطلاع على أوضاع الأقدمين، وكان يشعر بميل شديد غريزي إلى الشعر، فنظم منه بضع قصائد لم تصادف إعجابا من الذين أسمعهم إياها، فرأى أن النار أحق بها من المطبعة، فأحرقها، وطلق الشعر وهجر الأدب، وسعى حتى حصل على وظيفة في الحكومة استولى عليها ظنا أنه لم يخلق لصناعة القلم، وأن رغبته في الشعر ما هي إلا نزعة مفتون تصبو نفسه إلى ما لا قبل له به ولا طاقة له عليه.
بيد أن الفطرة ما لبثت حتى غلبت اليأس في نفس الشاب، فعاد إلى القصائد ينظم منها اليوم ما يمزقه في الغد، حتى وفق لكتابة «صندوق البقايا المقدسة»
Le Reli
Página desconocida
، ونشره بين الناس، فصادف رواجا وإقبالا شجعاه على الاستمرار والمثابرة، وزاد تشجيعا أن صارت بعض منظوماته تتلى على المسارح وفي الحفلات. وما زالت شهرته تنمو حتى اهتمت بشأنه إحدى الممثلات الشهيرات (مدام أجار)، ورأت فيه قابلية للتأليف التمثيلي، فنصحت إليه بكتابة شيء للمسرح، فعمل بنصيحتها وكتب «عابر السبيل»
Le Passant ، وهي رواية ذات فصل واحد، ما كادت تظهر حتى تخاطفتها المسارح ومثلتها «سارا برنار»، فطار صيت المؤلف الشاب وذاعت شهرته، وأقبل عليه مديرو المسارح يلتمسون منه المزيد.
ومن سنة 1868 نشر كتبا شعرية متتابعة أهمها «المودات»
Intimitês
و«اعتصاب الحدادين»، و«المتواضعون»، وبعض قصص نثرية، منها: «المجرم»
Toueune ، و«شبوبيه»
Jeunesse ، وكثير من الروايات التمثيلية، نخص بالذكر منها: «عواد كريمون»
Le Luthier de Grêmone ، و«مدام ده مانتنون»، و«سيفير ونوريلي»، و«في سبيل التاج».
وفي عام 1884 انتخب عضوا بمجمع علماء فرنسا، ثم انكب على السياسة وسار فيها شوطا بعيدا كاد ينسيه الشعر والأدب، وتوفي سنة 1908 وهو رئيس فخري لجمعية الوطن الفرنساوية.
هذا ملخص حياة ذلك النابغة الذي امتاز على أقرانه بأنه لم يقلد أحدا من الأوائل ولا من المعاصرين - والتقليد لا يكاد ينجو منه شاعر من الشعراء - وبأن معظم المواضيع التي طرقها كانت إلى عهده جديدة لم يتقدم إليها قبله أحد من المؤلفين، ولقد قال عنه أناتول فرانس ما معناه:
Página desconocida
إن نفثات قلم هذا الشاعر قد أثرت في جميع القلوب وتمكنت منها؛ لأن أساسها الطبيعة، وأحسن ما يبرع في الكتابة عنه ويصل فيه إلى أعلى طبقات البلاغة ما كان له مساس بالمشاعر والأخلاق الاعتيادية والحقائق الواقعة. وهذا النوع من الكتابة لا يتيسر إلا لأصحاب الأذواق السليمة والذكاء المتوقد الخارق، وهو يحتاج إلى مهارة فائقة وبراعة زائدة، فإن أقل خطأ فيه لا يلبث أن يبدو للعيان مجسما، وإن في استطاعة كل إنسان مهما كانت منزلته من العلم أن يفهم هذا الشاعر ويتأثر بأغراضه ومراميه، ولكن لا يستطيع أن يسبر كنهه ويتذوق طعم أدبه إلا من رزق حظا وافرا من العلم والذوق السليم، وبالجملة فقراء هذا الشاعر كثيرون جدا، ومن جميع الطبقات، ولكن قراءه الحقيقيين قليلون.
أما رواية «في سبيل التاج» التي نحن بصددها فمأساة شعرية تمثيلية وضعها المؤلف في سنة 1895، وأراد أن يجاري بها عميدي الشعر التمثيلي في القرن السابع عشر: كورني وراسين، وهي رواية أخلاقية بطلها فتى تعارضت في نفسه عاطفتان قويتان: حب الأسرة، وحب الوطن، فضحى بالأولى فداء للثانية، ثم ضحى بحياته فداء لشرف الأسرة. ولقد تجلت في هذه المأساة عبقرية الشاعر ومواهبه الكبيرة، فالأسلوب سهل ممتنع، والأفكار متسلسلة متماسكة، والوقائع جلية واضحة، وأخلاق أشخاص الرواية تفسرها أقوالهم وحركاتهم، فلا غموض فيها ولا إبهام.
ولقد ذهب النقاد في تقدير هذه المأساة مذاهب شتى، حتى قال بعضهم: إنها خير ما أخرج للناس من عهد راسين إلى يوم ظهورها.
قال الأستاذ «إيميل فاجيه» العضو بالمجمع العلمي الفرنساوي عن هذه الرواية في الجزء الثالث من كتابه «آراء في التمثيل» ما معناه:
إذا نظرنا إلى ما في الفصول الثلاثة الأولى من القوة والمتانة والوضوح مع البيان والبلاغة وحسن التصوير، أمكننا أن نحكم بأن هذه الرواية ستمثل إلى ما شاء الله بدون أن يملها الجمهور أو يشعر بسأم من سماعها، وأن «فرانسوا كوبيه» بكتابته للفصل الثالث منها على الأخص قد ضمن لذكراه الخلد في ذاكرة الأجيال المقبلة، وهو الفصل المعنون في التعريب بعنوان «الجريمة».
وقال الأستاذ «جول لومتر» العضو بالمجمع العلمي الفرنساوي في الجزء التاسع من كتابه «خواطر في التمثيل» - بعد أن أطنب في وصف شاعرية كوبيه وفي تقدير مواهبه: إن رواية «في سبيل التاج» لهي من صنع فتى قدير وشاعر عظيم، ورجل ذي ضمير حي وقلب كبير، وإذا كان فيها بعض النقص فهذا النقص لم يخل منه كورني ولا فيكتور هوجر ولا غيرهما من كبار الفنيين.
وقال في موضع آخر من نفس الكتاب: إن المشاهد لتمثيل رواية «في سبيل التاج» ليشعر منذ الهنيهة الأولى براحة واطمئنان، ثم لا يلبث حتى يتأكد أنه سيشاهد عملا متقنا وفنا نظيفا، ولقد يكون أحسن ما في هذه القطعة تنسيق الأفكار، وتحليل العواطف، وترتيب الحوادث، وتصوير النفوس والأشخاص.
هذا رأي كبيرين من زعماء الحركة الأدبية في فرنسا، نورده هنا ليعلم القراء منزلة هذه الرواية من نفوس الأدباء في الغرب ومبلغ تقديرهم لمؤلفها.
ولقد تناول السيد مصطفى لطفي المنفلوطي هذه المأساة، ونقل موضوعها إلى اللغة العربية في قالب روائي جميل بعد أن أضاف إليها أشياء وحذف منها أخرى، وأخرجها لقرائه قصة يستهوي أسلوبها القلوب، وتسترعي وقائعها الألباب، بقلم عذب، وعبارة رقيقة، وديباجة بديعة لا نطيل الكلام في وصفها؛ لأن قراء العربية جميعا يعرفونها لهذا الكاتب العظيم، ويعترفون له بها، ولم يفته أن ينقل إلى العربية قطعا كاملة من الرواية يستطيع القارئ أن يتبين منها قوة المؤلف، ومع أن الرواية ملخصة تلخيصا، فقد استطاع الكاتب بمهارة فائقة أن يصور الروح الأصيلة للمؤلف تصويرا مؤثرا، وأن يملك من نفوس قراء العربية ما ملكه فرانسوا كوبيه من نفوس قراء الفرنسية.
ولا يفوتنا هنا أن نقول: إن الكاتب قد اشتغل بتلخيص هذه الرواية في إبان الحركة الوطنية الأخيرة، ولقد أوحت إليه الحوادث السياسية التي لا تزال ماثلة في الأذهان صفحات تفيض وطنية وغيرة، حتى لكأنه قد أفضى إلى أمته في هذا الكتاب بكثير مما لا يستطيع كتابته في الصحف السياسية، والحق أقول: إننا كثيرا ما كنا نعتب عليه في سكوته عن الاشتراك بقلمه مع العاملين في هذه الحركة حتى قرأنا هذه الرواية، فإذا روحه الوطنية الشريفة تسيل فوق صفحاتها سيلا، وإذا الرواية رواية الحركة الحاضرة بجميع ظروفها ومتعلقاتها.
Página desconocida
وبالجملة فرواية «في سبيل التاج» كتاب الوطنية الخالدة في ثوب قصة خيالية تملك لب القارئ بجمالها، وتتولى تهذيب نفسه بآدابها وفضائلها، وما أحوجنا أن تجري الأقلام الأدبية في هذا العصر بمثل ما جرى به قلم السيد المنفلوطي في هذه المأساة المؤثرة؛ ليتلقى النشء الحديث دروس وطنيته من طريق العواطف والوجدان، وقلما تصل الوطنية إلى أعماق القلوب وتتغلغل في شغافها إلا من هذا الطريق.
حسن الشريف
أول يونيو سنة 1920
مقدمة المؤلف
لا يزال التاريخ يحفظ في صفحاته حتى اليوم تلك الوقائع الحربية الهائلة التي وقعت في القرن الرابع عشر بين الدولة العثمانية والشعوب البلقانية أيام أغارت الأولى على الثانية تريد افتتاحها والاستيلاء عليها، فدافعت الثانية عن نفسها دفاعا مجيدا استمر زمنا طويلا حتى غلبت على أمرها فسقطت في يد القوة القاهرة، ودخل الترك أرض البلقان وحولوا كنائسها إلى مساجد، وفرضوا على أهلها الإتاوات الثقيلة، وعزلوا ملكها الذي كان يحاربهم ويناوئهم، وملكوا عليها ملكا من أهلها اسمه «ميلوش»، فلبثت في حكم الأتراك عهدا طويلا عانت فيه من ضروب الذل والهوان ما يعانيه كل شعب مغلوب على أمره، حتى قيض الله لها رجلا من رجال الدين المخلصين اسمه الأسقف «أتين» عز عليه ضياع بلاده وسقوطها في يد أعدائها، وأن تتحول فيها الكنائس إلى مساجد، وتجأر في أرجائها أصوات المؤذنين بدلا من أصوات النواقيس، وألا يجد المسيحيون في عقر ديارهم مكانا يؤدون فيه فروض صلواتهم غير الصحارى والفلوات، فأخذ يتنقل في أرجاء البلاد، ويمشي بين شعوبها وقبائلها يدعو باسم الدين مرة والوطنية أخرى، ويستنهض همم الرجال للدفاع عن وطنهم وتحرير بلادهم من يد ذلك القاهر المغتصب، حتى جمع كلمة الأمة كلها من حوله على اختلاف عناصرها ومذاهبها، وكذلك تتفق كلمة الأمة أمام الخطر الداهم والقضاء الشامل.
ثم أشار على ملكه أن يخلع طاعة الترك، ويطرد رعاياهم من بلاده، ويمتنع عن دفع الجزية والإتاوة، وينادي بحرية البلقان واستقلاله، فجبن الملك عن ذلك في أول الأمر، ثم أسلس له وأذعن لرأيه، ففعل ما أشار به عليه، فأحقد ذلك الترك وآسفهم، واستثار حقدهم وضغينتهم، فوجهوا إلى البلاد البلقانية جيشا عظيما وافر العدة والعدد بقيادة أحد أبطالهم العظام أرطغرل باشا، فثار البلقانيون جميعا رجالا ونساء للدفاع عن أنفسهم والذود عن وطنهم، واختاروا لقيادة جيشهم القائد البلغاري العظيم الأمير ميشيل برانكومير، فظل يحارب الأتراك عدة أعوام يدال له عليهم فيها ويدال لهم عليه، ولكنهم لا يستطيعون اجتياز حدود بلاده واقتحام جبالها، حتى عي القائد التركي بأمره، ورأى ألا حيلة له فيه إلا من طريق الدسيسة والكيد، وكذلك فعل.
الجاسوس
اجتمع جنود الفرقة البلقانية ذات ليلة في معسكرهم يشربون ويطربون ويرقصون على نغم قيثار الموسيقار البوهيمي المسكين «بانكو»، الذي كان يفد إلى معسكرهم كل ليلة يغنيهم قطعا حماسية مؤثرة يذكرهم فيها بمجد وطنهم وتاريخه العظيم، فيرقصون على غنائه ويطربون ويحسنون إليه بما فضل من زادهم وشرابهم، ثم جلسوا بعد فراغهم يتحدثون في شأن ذلك الحادث العظيم الذي حدث في بلادهم منذ أيام، وهو موت الملك ميلوش، وعزم الجمعية الوطنية على الاجتماع للنظر فيمن يخلفه على العرش من بعده، فانقسموا في رأيهم قسمين: فريق يرى اختيار الأسقف أتين، وفريق يرى اختيار القائد برانكومير، فقال الجندي الروماني «أورش» - وهو من أشياع الأسقف وأنصاره: «نعم، إن النصر قد تم لنا على يد قائدنا العظيم ميشيل برانكومير، ولكن من الذي مهد له النصر وأعد له عدته قبل أن يعقد له اللواء على الجيش؟ أليس الأسقف أتين؟
من الذي ينكر أن ذلك الرجل التقي الصالح هو الذي طاف البلاد من أقصاها إلى أقصاها عشرة أعوام كاملة يستنهض الهمم، ويستثير حفائظ النفوس، ويستحيي ميت العزائم، ويهيج عاطفة الثأر والانتقام في نفوس الرجال والنساء والفتيان والفتيات، ويلقي على تلاميذ المدارس في مدارسهم أناشيد الحرية والوطنية، فيستظهرونها مع دروسهم، ويتغنون بها في مسارحهم وملاعبهم، ومغداهم ومراحهم؟
من الذي ينكر أنه هو الذي علم الشعب البلقاني دروس الوطنية الشريفة العالية، وغرس في قلوبهم أن الحياة الذليلة خير منها الموت الزؤام، وأن الحرية حياة الأمم وروحها، والرق موتها وفناؤها، وأن الأمة التي ترضى بضياع حريتها واستقلالها، وتقبل أن تضع يدها في يد غاصبها إنما هي أحط الأمم وأدناها وأحقها بالزوال والفناء؟
Página desconocida
ولم يزل يفيض على نفوسهم من نفسه تلك الروح الوطنية العالية، ويملي عليهم أمثال هذه الآيات الذهبية الشريفة، حتى صفت ضمائرهم من أدران الذل والمهانة، وأدركوا من معنى الحياة ما لم يكن يدركه آباؤهم من قبل، فأصبحوا كما تراهم اليوم حماة الوطن وذادته، يبذلون في سبيله من ذات أيديهم وذات نفوسهم ما لا يبذل مثله إلا الأمم الراقية الشريفة في سبيل الذود عن مجدها، والدفاع عن حريتها واستقلالها، ويتقدمون إلى الموت زرافات ووحدانا، فرحين متهللين كأنهم ذاهبون إلى مراقص «فيدين» وملاعبها؛ لأنهم يعلمون أن قطرات الدماء التي يبذلونها في سبيل حريتهم واستقلالهم إنما هي المداد الأحمر الذي تسجل لهم به في صفحات تاريخهم آيات المجد والفخار، وأن الأشلاء التي ينثرونها في تربة وطنهم ثم يسقونها من دمائهم إنما هي البذور الطيبة التي تنبت لبلادهم المستقبل الحر الشريف.
من منا يجهل أنه هو الذي استطاع وحده من بين أبناء البلقان جميعا أن يقف أمام ملكه وقفة الأسد الهصور، ويصيح في وجهه قائلا له: «حتى متى أيها الملك الضعيف المهين تبيع وطنك وأبناءه لأعدائك وأعدائه بيع السلع المعروضة في حوانيت التجار بأبخس الأثمان وأدناها؟ وإلام تضع هذه السلاسل والأغلال في أعناق أبناء أمتك لتقودهم بها إلى حيث يمرغون جباههم الشريفة تحت مواطئ أقدام ذلك العدو المغتصب صاغرين ضارعين، ثم تزعم بعد ذلك أنك ملك عظيم جالس على عرش شريف؟ ولو حققت أمرك لعلمت أنك نخاس على عرش شريف، ولو حققت أمرك لعلمت أنك نخاس دنيء يبيع الرقيق في سوق النخاسة، بل أدنى من نخاس؛ لأن النخاس لا يتجر في أبناء أمته، ولا في أفراد أسرته!» فاهتز الملك لكلمته هذه اهتزاز القصبة الجوفاء بين مهاب الرياح، وطأطأ لها رأسه إجلالا وإعظاما، ولم يلبث أن عزم عزمته الشريفة التي ترونها اليوم، والتي أنقذت الوطن من العار، ورفعته إلى ذروة المجد والفخار.»
وهنا ضج القوم جميعا ضجة السرور والاستحسان وصاحوا: أحسنت يا أورش، أحسنت إحسانا عظيما، إلا نفرا قليلا من أشياع القائد وصنائعه، فإنهم امتعضوا لهذه الكلمة وغصوا بها، وقام أحدهم - واسمه لازار، وكان الحارس الخاص لقصر القائد وأمينه، وموضع ثقته وثقة زوجته الأميرة بازيليد - وطلب الإذن في الكلام، فأذنوا له، فقال: «إني لا أريد أن أعترض على صديقي أورش في كلمته التي قالها في فضل أسقفنا العظيم وأثره الجليل في خدمة الدين والوطن، ولكن الذي أراه وأستصوبه أن لرجال الدين شئونا خاصة بهم لا يجمل بكرامتهم أن يتعدوها إلى غيرها من أعمال الحياة، وإني أضن بأسقفنا العظيم أن تشغله مشاغل الملك وملاهيه عن شئون الدين التي تصبو لها نفسه طول حياته. والرأي الذي أراه أن يعهد الملك إلى القائد ميشيل برانكومير ليقود الأمة جميعها بتلك السياسة الحكيمة الرشيدة التي قاد بها الجيش، ورفعه إلى مناط السماك الأعلى.» فاعترضه جندي كان جالسا على مقربة منه وقال له: «ولم لا تضن بالقائد ميشيل أن تشغله مشاغل الملك وملاهيه عما هو بسبيله من قيادة الجيش وتدبير شئونه؟» فأجاب: «إن قيادة الجيش وزعامة الملك أمران متشابهان؛ لأنهما يتعلقان بشئون الحياة وأعمالها، أما الشئون الدينية فلا علاقة لها بالشئون الدنيوية بحال من الأحوال؛ فدعوا الكاهن مستريحا في معبده، مستغرقا في صلواته وعباداته، واختاروا لملككم رجل الأمة وبطلها وحامي ذمارها وحماها الأمير برانكومير.» فعلت أصوات الصاخبين والصائحين، والمستحسنين والمستهجنين، وذهب كل في صيحته المذهب الذي يراه ويتشيع له.
وإنهم لكذلك إذا بصوت صارخ في وسط هذه الضوضاء يقول: «استمعوا مني أيها القوم كلمة واحدة هي فصل الخطاب في قضيتكم هذه، ولا أطلب إليكم أن تستمعوا مني سواها.» فالتفت الجميع فإذا الضابط «ألبير» - وهو جندي شيخ عرف القائد برانكومير صغيرا وخدمه كبيرا، وعاش معه في منزله في عهد زوجته الأولى كأنه أحد أفراد أسرته، ولم يفارقه إلا منذ عامين اثنين؛ أي بعد وفاة زوجته بأيام قلائل - فأنصتوا إليه فإذا هو يقول: «أنتم تعلمون جميعا صلتي بالقائد برانكومير ومكانتي عنده، وإني أعرف من شئونه الخاصة والعامة ما لا يعرفه أحد غيري، ولقد عرفت فيما عرفت من خلائقه وسجاياه بعد تجربة عشرين عاما قضيتها في خدمته، أنه أبعد الناس جميعا عن مطامع الحياة ومظاهرها، وأرغبهم عن سفاسف الأمور ودناياها، وأنه جندي صميم معتز بجنديته وشظفها وخشونة العيش فيها، لا يؤثر عليها أي مظهر من مظاهر الحياة مهما علا شأنه وغلت قيمته؛ فمن ظن منكم أنه يرضيه ويجامله بترشيحه لمنصب الملك بين أشراف البلقان وسادته؛ فهو غير القائد برانكومير.» فهدأت الأصوات وسكنت الضوضاء عند سماع هذه الكلمة الهادئة الرزينة التي ينطق بها جندي شريف صادق ، وكادت تكون فصل الخطاب في القضية، لولا أن «أورش» - وهو ذلك الجندي المتشيع للأسقف والداعي له - قد نهض من مكانه مرة أخرى، ونظر إلى الجندي «ألبير» مبتسما ابتسامة الهزء والسخرية، وقال له: «نعم يا سيدي، إنك صادق فيما تقول، ولم تزد حرفا على ما تعرف ولم تنقص، ولكن ائذن لي أن أقول لك: إنك إنما تحدث في كلامك عن الماضي القديم الذي حضرته وشاهدته، أما الحاضر فلا تعرف منه شيئا، فإن أذنت لي حدثتك عنه وقلت لك: إن الأمير برانكومير اليوم غيره بالأمس، وإن تلك النفس العالية المترفعة التي كنت تعرف بالأمس مكانها من بين جنبيه قد استحالت اليوم إلى نفس تواقة متطلعة، تصبو إلى المعالي وتفتتن بالعروش، وإنه هو الذي يدعو بنفسه إلى نفسه، ويرسل الدعاة في كل مكان لتأييده ومساعدته على نيل الملك.» فاستطير ألبير غضبا وقال: «أتريد أن تقول: إن أخلاق قائدنا قد تغيرت، وإنه قد أصبح رجلا صغير النفس متبذلا؟» قال: «لا، ما إلى هذا ذهبت، ولكني أريد أن أقول: إنه قد أصبح منقادا في شئون حياته لرأي غيره لا لرأي نفسه، وربما لو ترك وشأنه لكانت له في حياته خطة غير هذه الخطة التي ينتهجها اليوم.»
فانتفض القوم واضطربوا ونظر بعضهم في وجوه بعض، ومشت الهمسات بين الأفواه والآذان، وسمع الخطيب اسم قسطنطين يتردد مرارا في أفواه الهامسين، فصاح في القوم: «أنتم مخطئون جميعا فيما تذهبون إليه، فإن ابن قائدنا وزهرة شبيبتنا وضابط فرقتنا أعلى همة مما تظنون.» فصرخ لازار: «قل من هو الشخص الذي تريد؟» فجلس أورش ولم يقل شيئا، إلا أنه همس في أذن جندي كان بجانبه: «الزوجة الجديدة!» فسرت هذه الكلمة بين الجموع سريان الكهرباء في أسلاكها حتى بلغت مسمع الموسيقار بانكو، فبرقت لها عيناه بريق الفرح والسرور؛ لأنه لم يكن موسيقارا بوهيميا كما زعم، ولم يكن اسمه بانكو كما يسمونه، بل هو الضابط المشهور إبراهيم بك، أحد أركان حرب القائد التركي العظيم أرطغرل باشا، وقد وجد في هذه الكلمة التي سمعها ما كان يريد أن يكون، وعثر بالثلمة التي ينحدر منها إلى أغراضه ومآربه.
وما أوى القوم إلى مضاجعهم، وأخذ النوم بمعاقد أجفانهم حتى دب ذلك الجاسوس المتنكر على يديه حتى بلغ مضجع الجندي لازار، حارس قصر القائد وموضع ثقته وأكبر أشياع زوجته وأنصارها، فاضطجع بجانبه، وظل يهمس في أذنه ساعة طويلة كان يتردد فيها اسم الأميرة بازيليد زوجة القائد الجديدة، حتى تم لهما الاتفاق على ما يريدان، ثم أسلما عيونهما إلى الكرى فناما.
قسطنطين
توفيت زوجة الأمير برانكومير منذ عامين، وكانت امرأة من النساء الصالحات القانتات ذوات النفوس العالية والهمم الكبرى، فورث ابنها قسطنطين عنها هذه الأخلاق الكريمة، كما ورث عن أبيه صفات الشجاعة والعزيمة والصبر واحتمال المكاره في سبيل خدمة الوطن والأمة، فكان خير ابن لخير أب وأم، وكان يد أبيه اليمنى ودرعه الواقية الأمينة في جميع وقائعه ومشاهده، حتى ذاع صيته في جميع أنحاء المملكة، وأحبه الشعب والجند حبا كاد يرفعه إلى ما فوق منزلة أبيه، لولا حرمة الأبوة وجلال الشيخوخة ومكان التاريخ، فلما ماتت أمه تزوج أبوه من بعدها فتاة يونانية اسمها بازيليد، يقال: إنها من سلالة قياصرة بيزنطية «القسطنطينية».
وهي فتاة جميلة ساحرة تستهوي القلوب وتختلب الألباب، ذات نظرات غريبة لامعة يقضي المتفرس فيها حين يراها أنها نظرات مريبة ألفت الاختلاب والافتتان من عهد بعيد، فنزلت من قلب القائد الشيخ منزلة لم ينزلها منه أحد من قبلها ولا من بعدها، حتى زوجته الصالحة وولده النجيب، فأصبح مستهاما بها، مستسلما إليها، لا يصدع إلا بأمرها، ولا يصدر إلا عن رأيها، ولا يرى حلو العيش وجماله إلا بجانبها، ولا يستروح رائحة السعادة والهناء إلا إذا هبت عليه من ناحيتها.
وكانت امرأة طموحا متطلعة لا يعنيها من شئون حياتها إلا مظاهر السؤدد والعظمة، ولا يغلب على مشاعرها وعواطفها إلا ذكرى تاريخ آبائها وأجدادها، ومصارع قومها في «بيزنطية» بيد الأتراك الفاتحين، وكانت لا تزال تتحدث في مجالسها العامة والخاصة بنبوءة قديمة تنبأ لها بها بعض المتنبئين، ومجملها أن كاهنا عرافا دخل منزل أبيها وهي طفلة لعوب لا تزال تحوم حول مهدها، فنظر إليها طويلا ثم قال لأمها: إن ابنتك هذه ستكون ملكة عظيمة الشأن في مستقبل أيامها. وربما كان اهتمامها بهذه النبوءة واحتفالها بها وتصديقها إياها هو السبب في قبولها الزواج من شيخ هرم مدبر قلما يعنى بمثله مثلها، على أمل أن تحقق لها الأيام على يديه آمالها وأمانيها.
Página desconocida
فظلت تغرس في نفسه هذه الأمنية الجميلة المحبوبة مدة من الزمان، وتسقيها بماء حسنها وجمالها، حتى ملأت بها فضاء قلبه، وشغلته بها عن كل شاغل سواها.
ولم يزل هذا شأنها معه حتى مات الملك ميلوش، وجاءت الساعة التي تنتظرها، فهتفت به: ها قد حانت الفرصة التي كنا نرقبها، وها قد بدأت تتحقق نبوءة ذلك العراف الخبير التي تنبأ لي بها، وما هو بالكاذب ولا المتخرص. ثم زجت به في طريق مزاحمة الأسقف أتين على الملك، فانقاد لها ومشى في الطريق التي رسمتها له، وأخذ يدعو الناس لنفسه، ويستكثر من سواد أشياعه وأنصاره، ويداخل أعضاء الجمعية الوطنية ويداهنهم ويتوسل إليهم أن يساعدوه على نيل أمنيته التي يرجوها، مدلا بمكانته من خدمة الأمة والوطن، وأياديه في الذود عنهما، وبما بذل من صحته وشبابه في مقاتلة الأعداء ومدافعتهم تلك السنين الطوال حتى اشتعل رأسه شيبا، ولمست قدماه رأس المنحدر المؤدي إلى القبر.
هذا ما كان يشغل القائد وزوجته في ذلك التاريخ، أما ابنه قسطنطين فكان بمعزل عن هذا كله، فإن وفاة أمه التي كان يحبها حبا شديدا تركت في نفسه أثرا من الحزن لا يبلى، وملأت فضاء حياته هما ونكدا، وكان يجد بعض العزاء عن ذلك الهم الذي نزل به في حنان أبيه عليه وعنايته به، حتى تزوج من تلك المرأة اليونانية وأسلم إليها نفسه وقلبه، ففقد بفقد عطف أبيه عليه وحنان أمه كل أمل له في الحياة، وأصبح يشعر في نفسه بذلة اليتم التي يشعر بها أولئك المساكين المنقطعون الذين لا يجدون بين أيديهم قلوبا راحمة، ولا أفئدة عاطفة!
فكان يخاطر بنفسه في المعارك التي يحضرها مخاطرة اليائس المستقتل، راجيا أن يريحه الموت من هموم نفسه وآلامها، فزج بنفسه ذات يوم في معركة كبرى استبسل فيها استبسالا عظيما، واستقتل معه جنده يطلبون الموت حيث يطلبه، فلم يبلغ أمنيته التي يتمناها، ولكنه انتصر في تلك المعركة انتصارا باهرا، وأنقذ من يد الترك شعب «تراجان» - وكان الملجأ العظيم لهم، والمركز الأكبر لحركاتهم وأعمالهم.
وإنه ليتأثر الجيش المنهزم ويشتد في أعقابه إذ لمح على البعد فارسا تركيا قابضا بيده على شعر فتاة مسكينة؛ يريد اقتسارها وإكراهها على الركوب معه، وهي تمتنع وتتأبى وتحاول الإفلات من يده، فيضربها بسوطه ضربا مؤلما وجيعا، فأزعجه هذا المنظر وآلمه، فركض جواده حتى أدرك ذلك الفارس فضربه على هامته بسيفه ضربة قضت عليه، فركعت الفتاة بين يديه ضارعة تسأله أن ينقذها من شقائها ويقودها معه إلى حيث يشاء، فرثى لحالها وأحزنه منظرها دون أن يعلم من أمرها شيئا، فأردفها خلفه وركض بها حتى بلغ موضع الخيام، فتركها بين الأسرى، وعاد من تلك الموقعة ظافرا منصورا يهنئه الشعب ويهتف له في كل مكان يمر به، حتى وصل إلى القلعة الكبرى، فدخل على أبيه وألقى بين يديه الأعلام التي غنمها في المعركة، فأمر برانكومير بقتل الأسرى، وكان ذلك شأنه فيهم كلما قدموا إليه، حتى جاء دور الفتاة، فجثت بين يديه ومدت إليه يدها مستغيثة تطلب العفو وتقول له: إنها فتاة نورية مسكينة لا شأن لها في الحرب ولا علاقة لها بأهله، وإن أمها باعتها منذ عامين من جندي تركي أساء عشرتها وعذبها عذابا أليما، حتى قيض الله لها هذا الفتى الكريم فاستنقذها من يده. وأشارت إلى قسطنطين.
فركع قسطنطين بجانبها وسأل أباه العفو عنها وقال له: إنني قد أنقذت حياتها بالأمس، فأنقذ أنت حياتها اليوم واجعلها حصتي الوحيدة من الغنيمة، وأعدك أني لا أطلب غنيمة سواها. فأحفظ ذلك قلب الأميرة بازيليد زوج أبيه، وكانت حاضرة تسمع حديثه، فنظرت إليه نظرة الازدراء والاحتقار - وكان هذا شأنها معه كلما التقت به - وأنشأت تنعي عليه اهتمامه بشأن فتاة نورية راقصة طريدة غابات وفلوات، وربيبة حانات ومعسكرات، وقالت له: لقد كان جديرا بك وأنت ذلك الجندي الشريف سليل ذلك القائد العظيم، والأمير الجليل، أن تلقي بمثلها إلى حارس من حراس بابك، أو جندي من جنودك يتلهى بها كما يتلهى الكلب بالعظمة المطروحة تحت أرجله، بدلا من أن تصل حياتك الشريفة الطاهرة بحياتها الدنيئة الساقطة!
فثارت ثورة الغضب في نفسه، وأضغنه عليها هذا الرياء الكاذب، والشرف المتكلف، وكان يعلم من شئون نفسها وخبايا قلبها ما لا تظن أنه يعرف شيئا منه، فنظر إليها نظرة شزراء ملتهبة، وقال لها وهو يعلم أن ما سيقوله سيغضبها ويؤلمها ويملأ صدرها غصة وحنقا: إن الله لم يخلق الضعفاء والمساكين ليكونوا ترابا لنا تدوسه أقدامنا، وتطؤه نعالنا كلما وجدنا إلى ذلك سبيلا، ولم يمنحنا القوة والعزة لنتخذ منهما أسواط عذاب نمزق بها أجسامهم، ونستنزف بها دماءهم، وكل ذنوبهم عندنا أنهم أذلاء مستضعفون لا يملكون من القوة والعزة مثل ما نملك، ولا يذودون عن أنفسهم بمثل ما نذود، وأحسب أنهم لو كانوا أقوياء أو أعزاء مثلنا، أو أعز وأقوى منا؛ لخفناهم واتقينا جانبهم، ونظرنا إليهم بعين غير العين التي ننظر بها إليهم اليوم؛ لأن القوي الذي يتنمر على الضعفاء لا بد أن يكون جبانا ذليلا أمام الأقوياء.
إننا الآن في حرب مع عدو قاهر جبار ننقم منه جوره وظلمه واستضعافه إيانا، واستطالته علينا بقوته وكثرته، فجدير بنا ألا نفعل ما ننقمه منه ونأخذه به، عسى أن يرحمنا الله وينظر إلينا بعين عدله وإحسانه، وينتصف لضعفنا من قوته، وقلتنا من كثرته!
إنا لا نحمل هذه السيوف على عواتقنا لنقتل بها النساء والأطفال والضعفاء والعزل الذين لا سلاح لهم ولا قوة في أيديهم، بل لنقارع بها الأبطال والأكفاء في ميادين الحروب ومواقف النزال.
إني لا أعرف شرفا غير شرف النفس، ولا نسبا غير نسب الفضيلة، وإن هذه البائسة المسكينة التي تحتقرونها وتزدرونها لم تصنع ذنبها بيدها، ولا سعت إليه بقدمها، بل هكذا قدر لها أن تنبت في هذا المنبت القذر الوبيء، فوبئت وقذرت، وليس في استطاعتها أن تعود إلى العدم مرة أخرى لتخلق نفسها خلقا جديدا في جو غير هذا الجو، وتربة غير هذه التربة، فما هو ذنبها؟ وما هي جريمتها؟ وأي حيلة لها في هذا المصير الذي ساقها القدر إليه؟
Página desconocida
إنما الإثم على الذين يقترفون الذنوب وهم يعلمون مكانها من الرذيلة، ومكان أنفسهم من اقترافها، ويحولون زمام حياتهم بأيديهم من طريق الخير إلى طريق الشر، إيثارا لها وافتتانا بها، أولئك هم الآثمون المذنبون الذين يجدر بنا أن نقسو عليهم ونشتد في مؤاخذتهم. أما الضعفاء والمساكين الذين لا حول لهم في شأن أنفسهم ولا حيلة، فهم برحمتنا وعطفنا أحق منهم بعتبنا ولومنا، فإن وجدنا السبيل إلى معاونتهم ومساعدتهم واستنقاذهم من وهدة الشقاء التي هووا فيها فذاك، أو لا؛ فلندعهم وشأنهم تذهب بهم المقادير حيث شاءت من مذاهبها، ولا نزدهم بكبريائنا واستطالتنا بؤسا على بؤسهم، وشقاء على شقائهم.
إننا ما أصبنا بما أصبنا به من هذه النكبة الشعواء والداهية الدهياء التي نزلت بنا منذ عشرة أعوام ما تفارقنا ولا تهدأ عنا إلا من ناحية كبريائنا وخيلائنا واعتدادنا بأنفسنا في جميع شئوننا وأعمالنا، واحتقار غنينا لفقيرنا، وقوينا لضعيفنا، وسيدنا لمسودنا، فسلط الله علينا ذلك العدو القاهر الذي لا يعتمد في جميع شئونه ومواقعه إلا على قوته وأيده؛ لأننا لم نعتمد في يوم من أيام حياتنا في جميع صلاتنا وعلائقنا إلا على قوتنا وأيدنا، والجزاء من جنس العمل
وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
فاصفر وجه بازيليد واربدت شفتاها، وكأنما خيل إليها أنه يلمزها ويريبها ويشير في حديثه إلى ماضيها القديم وحوادث صباها السالفة، فصمتت ولم تقل شيئا، إلا أنها انتحت ناحية وأخذت تبكي وتنتحب - والدموع هي السلاح الوحيد الذي تعتمد عليه المرأة في جميع شئونها وعلائقها - فعظم الأمر على برانكومير، وأكبر أن يخاطب ولده زوجته المحبوبة هذا الخطاب الجافي الغليظ، فأنحى عليه باللائمة الشديدة وقال له: إنك لم تسئ إلى نفسك في تنزلك إلى حماية هذه النورية الساقطة واهتمامك بشأنها، بقدر ما أسأت إلى أبيك في مجابهة زوجته ومغايظتها، وسوء الرد عليها بهذه اللهجة الشديدة القاسية. ولولا هذه الرايات الحمر التي ألقيتها اليوم تحت قدمي بأهلتها البيضاء لما اغتفرت لك هذه الجريمة التي اجترمتها، فاذهب لشأنك ولا تعد إلى مثلها.
وكذلك تم لقسطنطين ما كان يريده من إنقاذ تلك الفتاة المسكينة من يد الموت بعدما أنقذها من يد الشقاء، فذهب بها إلى الجناح الذي يسكنه من القلعة، وجلس إليها يحادثها في شأنها وشأن ماضيها، ويسائلها عن دينها ومذهبها ووطنها وقومها، فلم ير بين يديه إلا فتاة ساذجة جاهلة لا تعرف لها وطنا ولا بيئة، ولا تدين بدين من الأديان ولا مذهب من المذاهب، ولا تفهم من شئون حياتها إلا أنها فرد مبهم من أفراد هذا المجتمع المائج المضطرب، تمتد بامتداده وتنحسر بانحساره، لا تعرف الآمال ولا تفكر في المستقبل، ولا تحفل بالماضي، ولا يتسع عقلها لأكثر من الساعة التي تعيش فيها، ولا تتألم إلا كما يتألم الأطفال، ولا تفرح إلا كما يفرح المجانين، قد صفت نفسها من كل شائبة من شوائب النفوس البشرية، فلا تحقد ولا تغضب، ولا تكره ولا تحسد، ولا تطمع ولا تتطلع، ولا تشغل ذهنها بترتيب الصور والأفكار واستنتاج النتائج من المقدمات، فأصبح ينظر إليها نظر الأب الرحيم إلى طفله اللاعب بين يديه، وأصبحت تجلس تحت قدميه جلسة الكلب المخلص تحت قدمي سيده، لا تحدثه حتى يحدثها، ولا ترفع نظرها إليه حتى يناديها.
وكان يقول في نفسه كلما نظر إليها وإلى سذاجتها وطهارتها، وبلاهة عقلها وغفلته: أهكذا قضي على الإنسان في هذه الحياة ألا تخلص نفسه من شوائب الرذيلة والشر حتى يسلب عقله وإدراكه قبل ذلك، وألا يمنح مقدارا من الصدق والشرف حتى يحرم في مقابله مقدارا من الفطنة والذكاء، فليت شعري هل عجزت الطبيعة عن أن تجمع للمرء بين هاتين المزيتين: مزية العقل الذي يعيش به، والخلق الذي يتحلى بحليته، أو أن لله في ذلك حكمة لا نعلمها ولا ندرك كنهها؟
وكأنما كان يشعر في نفسه باقتداره على أن يجمع لتلك الفتاة المسكينة بين هاتين الفضيلتين، وأن يصوغ من نفسها ذلك المثال الغريب الذي عجزت يد الطبيعة عن صياغته، فبدأ يهتم بشأنها اهتماما عظيما، ويتبسط معها في الحديث تبسط النظير مع نظيره، ذاهبا معها في كل واد من أوديته، معنيا كل العناية بتثقيفها وتعليمها وإنارة ما أظلم من بصيرتها، ولكن بأسلوب غير الأسلوب الذي كان يعلمه به معلمه في المدرسة، فأرشدها إلى وجود الله، لا من طريق البراهين الجدلية والقضايا الكلامية، بل من طريق الآثار والمصنوعات الناطقة بجمالها ولطف تكوينها عن قدرة صانعها وإبداع خالقها، وأرشدها إلى الفضيلة من طريق الفضيلة نفسها لا من طريق الترغيب في الثواب والتخويف من العقاب؛ ليكون أدبها أدب نفس لا أدب درس، ولتمتزج الفضيلة بنفسها امتزاجا لا تزعزعه عواطف اليأس ولا عوامل الرجاء، فكانت تعجب لحديثه ومراميه عجبا شديدا، وتجد فيه من اللذة والغبطة ما لا تذكر أنها شعرت بمثله في حياتها في حديث أي متحدث يتحدث إليها، وتعجب أكثر من كل شيء لتنزل مثل هذا الأمير الجليل والسيد الشريف إلى مجالستها ومثافنتها، والنزول على حكمها فيما يغضبها ويرضيها، فقالت له مرة وهي تحاوره: إنك تحدثني يا مولاي كأنك لا تعرف من أنا، قال: إني أعرفك كما تعرفين نفسك، وأعرف أنك أختي في الإنسانية، وهي الأم الرءوم التي لا يستطيع أحد من بنيها أن يمت إليها بأكثر مما يمت به إخوته، وما للأخت ملجأ تلجأ إليه في شدتها غير عطف أخيها وحنانه عليها، قالت: ولكنك تعلم أني فتاة مذنبة ساقطة، قال: كل الناس مذنبون آثمون، وإنما تختلف صور الذنوب وأشكالها وأساليب اقترافها، قالت: لم أر في حياتي مذ نشأت حتى اليوم عفيفا قط ابتسم في وجهي! قال: ذلك لأن الناس مراءون مخادعون يزعمون لأنفسهم من الفضائل والمزايا ما تنكره نفوسهم عليهم، فهم يحتقرون المذنب ويزدرونه؛ لا لأنهم أطهار أبرياء كما يزعمون، بل ليوهموا الناس أنهم غير مذنبين، ولو أنهم تكاشفوا وتصارحوا، وصدق كل منهم صاحبه الحديث عن نفسه لتتاركوا وتهادنوا، ولما آخذ أحد منهم أحدا بذنب ولا جريرة!
وكذلك أصبحت ميلتزا العزاء الوحيد لقسطنطين عن همومه وآلامه، فقد وجد بين جنبيها تلك النفس الطاهرة البريئة التي طالما نشدها قبل اليوم فأضلها، وتطلبها فأعياه طلابها، ووجد في صدرها ذلك القلب المحب المخلص الذي بكاه وندبه ندبا شديدا يوم ماتت أمه، ويوم تولى عنه حنان أبيه، وكان يتحدث معها في كل شيء من شئون الحياة دقيقها وجليلها، ويفضي إليها بكل خبيئة من خبايا نفسه، إلا ذلك الهم العظيم الذي كان يعالجه في أطواء نفسه وأعماقها، ويكابد منه ما يقلق مضجعه ويصل ليله بنهاره؛ وهو استحالة حال أبيه، وانتفاض قلبه عليه، وانقياده ذلك الانقياد الأعمى إلى تلك الفتاة اليونانية الدخيلة التي لا يعنيها من شأنه سوى أن تتخذ من عاتقه سلما تصعد عليه إلى سماء المجد، ثم لا تبالي بعد ذلك أن تدفعه بقدمها بعد بلوغ غايتها، فيسقط في الهوة التي قدر له أن يهوي فيها، إلا أن ميلتزا الذكية بفطرتها، المتفانية في حبها وإخلاصها، لم يكن يفوتها أن ترى بعين فطنتها وذكائها في تلك الزاوية المظلمة من زوايا قلبه ذلك الهم الخفي المكتن، وكان يساعدها على فهمه واستكناهه تلك الأحاديث التي كانت تسمعها تدور من حين إلى حين بين القائد وزوجته، عندما كانا يمران بها أو يقفان على مقربة منها وهي جالسة تحت بعض الجدران، أو في ظلال بعض الأشجار لا يحفلان بها ولا يلقيان لها بالا.
فقد سمعته مرة يقول لها: إنني أحبك يا بازيليد حب المرء نفسه التي بين جنبيه، ولقد عشت حياتي كلها قانعا من العيش بتلك اللذة الوحشية الدموية، لذة القتل والأسر وسفك الدماء وتقطيع الأوصال، حتى رأيتك تتطلعين إلى تاج الملك، وتشتهين أن تضعيه فوق رأسك، فأحببته من أجلك، وأصبحت لا أقترح على الدهر أمرا سوى أن أرى تلك الجبهة اللامعة المضيئة يتلألأ فوقها ذلك التاج المرصع البديع، فلا تيأسي منه ولا تقنطي، واعلمي أنني سآتيك به وإن كان كوكبا نائيا في آفاق السماء ، أو درة راسبة في أعماق البحار.
وسمعتها مرة تقول له: ما أجمل وجهك يا برانكومير! وما أبدع ضياءه ولألاءه! وما أنصع هذه الشعور البيضاء التي تدور به دورة الهالة بالقمر! وما أجمل تاج الملك يوم يوضع على رأسك فتتحد الأضواء الثلاثة جميعها، ويموج بعضها في بعض فتتراءى في أجمل شكل وأبدع منظر! إنك ستكون ملكا يا مولاي، وستكون أعظم ملوك العالم شأنا، وأرفعهم مقاما، وستجتمع فوق عرشك الرفيع الأمجاد الثلاثة: مجد النسب، ومجد الحروب، ومجد الملك. وقد ألقى الكاهن في نفسي كلمته التي تنبأ لي بها، وما هو بالكاذب ولا المجنون، فكن على ثقة من صدقه وحكمته، واعلم أنه ليس بينك وبين التاج إلا خطوة واحدة، فاخطها بهمة وعزيمة تبلغ الغاية التي تريد.
Página desconocida
وسمعتها مرة تقول له: إنني لا أخاف على أملنا أحدا من الناس سوى ولدك قسطنطين، فقد علمت أمس من بعض أصدقائه أنه ينكر عليك كل الإنكار هذا المسعى الذي تسعاه اليوم، كما سمعت أنه يثبط الناس عنك ويزحزحهم من حولك، ويلقي في قلوبهم اليأس من نجاحك. ولقد حدثني عنه بعض الناس أن ذاكرا ذكر له مرة ولاية العهد مهنئا إياه بها، فغضب واحتد وتغيظ عليه تغيظا شديدا وقال له: «إنني جندي ولدت في ساحة القتال وسأموت فيها.» وإن كلمة كهذه الكلمة المؤثرة يقولها أمير مطاع في الجيش والشعب كولدك لا بد أن تترك أثرا سيئا في نفوس الناس جميعا، وتفت في عضد أنصارك وأعوانك، وربما كانت سببا في القضاء على آمالك وأمانيك، ولا أعلم لخطته هذه سببا سوى ذلك البغض الشديد الذي لا يزال يضمره لي في أعماق قلبه مذ دخلت بيتكم حتى اليوم، وما أذنبت إليه ذنبا ولا أسلفت عنده جريرة، فهو يؤثر أن يحرم نفسه وبيته ذلك الشرف العظيم الخالد على أن يراني جالسة على العرش بجانبك أستظل بظل نعمتك، وأشاركك في التمتع بمجدك وسلطانك، فقاطعها الأمير وقال لها: لا تصدقي يا بازيليد شيئا مما يقولون، فقسطنطين أبر بي وأعظم حبا وإخلاصا من أن يعترض سبيل رغبة يعلم أني أرغبها وأصبو إليها، ولا أعلم أنه يبغضك أو يضمر لك في نفسه شيئا من الشر الذي تذكرين، بل هو يحترمك ويجلك إجلاله إياي، ويحب لك من الخير ما يحب لي ولنفسه، ولا يؤثر على مرضاتنا شيئا.
وكذلك ظلت ميلتزا تسمع أمثال هذه الأحاديث فتعلم منها ما يدور بنفسي هذين الشخصين الطامعين، وتعلم أن هذا الذي يدور بنفسيهما إنما هو علة ذلك الهم الذي يعالجه قسطنطين في أعماق قلبه ويكابده، ولكن لم يخطر ببالها مرة أن تنقل إليه شيئا مما سمعته؛ إعظاما له وإجلالا، وضنا بنفسها وبأدبها أن تفاتحه في أمر لم يشأ هو أن يفاتحها فيه.
التاج
جاء اليوم المعين لاجتماع الجمعية الوطنية للنظر في انتخاب الملك الجديد، فنظرت في المسألة نظرا خالصا مجردا عن الميل والهوى، فرأت أن العدو لا يزال على الأبواب، وأنه لا يزال قوي الشكيمة صعب المراس، وأن الوطن يحتاج إلى الأمير برانكومير قائدا أكثر مما يحتاج إليه ملكا، وأن الأسقف «أتين» أعظم رجال المملكة عقلا، وأسماهم إدراكا، وأقواهم سلطانا على نفوس الجيش والشعب، فقررت تقليده ملك البلقان، وأعلنت قرارها في جميع أنحاء المملكة، فقابله الشعب بالرضا والتسليم، ولم يختلف عليه إلا العدد القليل من أشياع القائد وأنصاره.
ثم أقيمت حفلة التتويج بعد أيام، فحضرها جميع وجوه المملكة وعيونها، ورجال السياسة والجيش، ما عدا القائد برانكومير، فلم يأخذه الملك بهذه الهنة، بل أعتبه وأعطاه من نفسه الرضا، ولم يقنع في أمره بذلك حتى أعلن عزمه على السفر إلى الحدود لزيارته في قلعته، وما لبث أن سافر في جمع من حاشيته وجنده، وكانت رسله قد تقدمته لإنباء القائد بمقدمه، فامتعض لذلك وتمرمر، وكانت تحدثه نفسه أن يسافر إلى بعض الجهات حتى لا يستقبله عند قدومه، لولا أن أشارت عليه بازيليد بغير هذا الرأي، فأذعن لها راغما، ونزل بانتظاره أمام باب القلعة حتى حضر، فحياه الملك حين رآه تحية الإجلال والإعظام، وعانقه عناقا طويلا، وقال له: أما الملك الجالس على عرش البلقان وصاحب الأمر والنهي فيه فهو أنت يا برانكومير، أما أنا فإني خادمك الأمين المخلص، القائم بتنفيذ أوامرك، وتجييش الجيوش لك، وإمدادك بما تحتاج إليه من العدة والمئونة.
واعلم أن الأمة لم تضن عليك بالعرش والتاج، ولا رأت أن أحدا أجدر بهما منك، ولكنها ضنت بك أنت - وأنت حصنها المنيع، ودرعها الواقية، وبطلها الذي لا يغني غناءه في موقعة أحد - أن يشغلك شاغل الملك عن شأنك الذي أنت فيه، والذي نصبت له نفسك طول حياتك، فآثرت بقاءك في هذه القلعة تحميها وتحمي المملكة بحمايتها، فإن لم تكن الملك الجالس على عرش «فيدين»؛ فأنت الملك المتبوئ عرش الأفئدة والقلوب، واعلم أنني ما قدمت إليك مقدمي هذا لأعتذر عندك من ذنب أذنبته إليك، أو لأتوجع لك من كارثة نزلت بك؛ لأني أعلم أنك أجل وأرفع من أن تعتبر عبء الملك وهمه نعمة تأسف على فقدها، بل جئت لأباركك وأمسحك وأدعو لك الله أن يمدك بروح من عنده حتى يتم لنا على يدك النصر الذي نرجوه لأنفسنا، فيأمن البلقان أبد الدهر أن تخفق على ربوعه بعد اليوم راية غير راية المسيح، أو يرن في أجوائه صوت غير صوت الله.
ثم تقدم نحوه ووضع يده على رأسه يباركه ويصلي له، وبرانكومير يتميز غيظا وحنقا، ولكنه يتجلد ويستمسك، حتى فرغ الأسقف من شأنه، فلم ير بدا من أن يستقبل حفاوته بمثلها، فمد إليه يده وهنأه بالملك، واعتذر إليه من تقصيره في حضور حفلة التتويج، فقبل عذره، وقضى بقية يومه عنده هانئا مغتبطا لا يرى إلا أنه قد أرضاه، ومحا أثر ذلك العتب من نفسه.
ثم عاد بموكبه راضيا مسرورا، فشيعه القائد إلى ضاحية المدينة، ولبث واقفا مكانه ساعة ينظر إلى ذلك الموكب الفخم العظيم، ويسمع موسيقاه الشجية الجميلة حتى غاب عن بصره، فانقلب إلى قصره ثائرا مهتاجا يصيح ويجأر ويهذي هذيان المحمومين، حتى بلغ غرفته الخاصة، فوقف بجانب نافذة عالية مشرفة على الجماهير الغادية والرائحة في طرقها ومذاهبها، وأنشأ يحدث نفسه ويقول: تبا لك أيها الشعب الخائن الغادر ، لقد جازيتني شر الجزاء على عملي، وكفرت بنعمتي التي أسديتها إليك، ويدي التي اتخذتها عندك، أيام كنت أسهر لتنام، وأشقى لتسعد، وأقضي ليالي الطوال سجينا في قلعتي لا أبرحها ولا أنتقل منها لأدبر لك أمر الحماية التي تحميك، وتصون أرضك وديارك، وأنت لاه لاعب هانئ مغتبط، يمرح عامتك في منازههم ومسارحهم ليلهم ونهارهم، ويقيم خاصتك حفلات الرقص والغناء في قصورهم وأنديتهم، فكان جزائي عندك أن ضننت علي بالعرش الذي أنا عماده وملاكه، وحامل قوائمه وعمده، وآثرت به كاهنا مأفونا لا شأن له في حياته سوى أن يمسح رءوس الأطفال، ويهمهم حول أسرة الموتى، فبئس ما جررت على نفسك من الويل في فعلتك التي فعلت، وبئست الساعة التي رأيت فيها هذا الرأي الفائل الخطل، لقد فللت بيدك سيفك الذي كان يحميك ويصونك، وأطفأت جذوة الحماسة في صدر قائدك الذي كان يذود عنك وعن عرضك، ويحمي أرضك وديارك، فابتغ لك بعد اليوم قائدا يتولى حمايتك وصيانتك، أو فاطلب إلى أسقفك التقي الصالح الذي توجته بيدك، واخترته بنفسك لنفسك، أن يستنزل لك بدعواته النصر من آفاق السماء!
وإنه ليردد في موقفه أمثال هذه الكلمات، وينفث سموم الحقد والشر على العالم بأجمعه، إذ دخلت عليه الأميرة باسمة متطلقة تختال في حللها وحلاها، فأخذت بيده وقالت له: ارفق بنفسك يا برانكومير، واعلم أن نبوءة الكاهن لا تكذب ولا تخيب، وأبشرك أنك ستكون بعد شهر واحد ملكا على البلقان، ولا تسألني كيف يكون ذلك! فدهش لأمرها وحاول أن يسألها عن معنى كلمتها ومأتاها، فلم تمكنه من ذلك؛ لأنها تهافتت عليه واعتنقته ووضعت على فمه قبلة شهية أطفأت بها جذوة حدته وغضبه، ثم أفلتت من يده وعادت أدراجها.
المؤامرة
Página desconocida
اضطجعت بازيليد في سريرها، وجلست خادمتها صوفيا تحت قدميها تروح لها بمروحتها وتحدثها حديث تلك الآمال الحسان التي لا تزال تتراءى لها في يقظتها، وتحلم بها في منامها، وإنهما لكذلك إذ قرع الباب قرعا خفيفا، فعرفت صوفيا من القارع وفتحت له، فإذا «بانكو» الجاسوس التركي متنكرا في زي الموسيقار المسكين، فدخل وحيا الأميرة تحية الإجلال والإعظام، ثم أخذ مقعده الذي كان يقتعده من الغرفة في كل ليلة، وأنشأ يضرب على قيثارته قطعة رومانية جميلة من تلك القطع التي كان أعدها منذ عهد طويل؛ ليخلب بها لب تلك المرأة ويستهويها، حتى أتمها، فطربت لها طربا شديدا، ثم دعت خادمتها فأرسلتها في بعض الشئون، فلما خلا بها المكان ألقى الموسيقي قيثارته جانبا، وخلع عنه رداء التنكر، ثم مشى إلى سريرها فجلس بجانبها وقال لها: ماذا تم في المسألة يا بازيليد، فقد طال مقامي في هذا البلد وأخشى أن يرتاب بي أحد، وليس في استطاعتي أن أبقى هنا أكثر من ثلاثة أيام ثم أنصرف لشأني.
فاعتدلت في جلستها وقالت له: لقد فاتحت الأمير ليلة أمس في المسألة، وعرضت عليه مقترحك الذي اقترحته، فأصغى إلى حديثي في مبدأ الأمر، ثم لم يلبث أن اكفهر وجهه واكتأب، وأبى أن يقبل مني كلمة واحدة في هذا الشأن، وظل يقاطعني ويعارضني معارضة شديدة، فلم أشأ أن ألح عليه مخافة أن يرتاب بي وبمقصدي، وسأستأنف معه الحديث الليلة بعد رجوعه من المعسكر، وأرجو أن ينتهي بإذعانه وتسليمه، ولا يفتك يا سيدي أن من أصعب الأمور على رجل شريف عظيم مثل برانكومير أن يتحول في ساعة واحدة عن أخلاقه وطبيعته، وأن ينقلب فجأة من رجل وطني مخلص يبذل دمه وحياته في سبيل الدفاع عن وطنه والذود عنه، إلى خائن سافل يبيع ذلك الوطن العزيز عليه من أعدائه بعرض تافه من أعراض الحياة، فلا بد من مهادنته ومؤاتاته، وأخذه بالروية والتؤدة.
قال: ليس في الأمر خيانة ولا دناءة، ولا بيع وطن ولا أمة، فإنا لا نريد أن ندخل بلادكم مستعبدين أو مسترقين، بل أصدقاء مخلصين، وما خطر ببالنا قط حينما فكرنا في افتتاح بلادكم والنزول بها أن نصادركم في حريتكم الدينية والاجتماعية، أو نسلب أموالكم وننتهك أعراضكم، أو نغلق أبواب كنائسكم ومعابدكم، أو نخرس أصوات نواقيسكم وأجراسكم، ولكن لنكون أعوانكم على ترقية شئونكم الاجتماعية والاقتصادية، والسير بكم في طريق المدنية الأدبية والسياسية، حتى تبلغوا الذروة العليا منهما، ولنحميكم فوق ذلك من أعدائكم المجريين الذين يطمعون في امتلاك بلادكم واغتيالها، وندفع عنكم شرورهم ومطامعهم، فنحن أصدقاؤكم المخلصون الأوفياء من حيث تظنون أننا أعداؤكم وخصومكم.
فابتسمت بازيليد ابتسامة الهزء والسخرية، ونظرت إليه نظرة عتب وتأنيب، وقالت له: إن برانكومير يا صديقي ليس موجودا معنا لنخدعه بأمثال هذه الأساليب الكاذبة، أما أنا فإني لا أنخدع بها ولا أغتر؛ لأني أعلم - كما تعلم أنت وكما يعلم الساسة الكاذبون جميعا - أن الفاتحين من عهد آدم إلى اليوم وإلى أن تبدل الأرض غير الأرض والسماوات لا يفتحون البلاد للبلاد، بل لأنفسهم، ولا يمتلكونها لرفع شأنها وإصلاح حالها، والأخذ بيدها في طريق الرقي والكمال كما تقول، بل لامتصاص دمها وأكل لحمها وعرق عظمها، وقتل جميع موارد الحياة فيها، والأمة إن لم تتول إصلاح شأنها بنفسها لا تصلحها أمة أخرى مهما حسنت نيتها ونبل مقصدها، والصلاح إن لم ينبت في تربة الأمة نفسها، ويزهر في جوها، ويأتلف مع مزاج أفرادها وطبيعتهم لا ينفعها ولا يجدي عليها، ويكون مثله مثل الزهرة التي تنقل من مغرسها إلى مغرس آخر، فهي تزهر فيه أياما قلائل ثم لا تلبث أن تذبل وتذوي.
فإن وجد بين أولئك الطامعين من يذهب في سياسته الاستعمارية مذهب الإصلاح والتشييد، فكما يسمن صاحب الشاة شاته ليذبحها ويأكلها، وكما يتعهد صاحب المزرعة مزرعته بالري والتسميد ليستكثر غلتها وثمراتها.
أما الحرية الدينية التي تريدون أن تمنوا بها علينا، فما أهونها عليكم ما دامت لا تعطل لكم غرضا، ولا تقف لكم في سبيل مطمع، وقديما كان الفاتحون يخدعون الشعوب الجاهلة بإرضائها في شئون دينها، ليسلبوا شئون دنياها، ويوجهون نظرها إلى الشئون المادية الحيوية، فكان مثلهم في ذلك مثل اللص الذي يدس لمن يريد سرقته مادة مخدرة في طعامه لا تكلفه إلا ثمنا يسيرا ليستولي على الجم الكثير من دنانيره ودراهمه، على أن القوة الدينية في الأمة أثر من آثار القوة السياسية، فإذا ضعف أمر الأمة في سياستها ضعف أمرها مع الأيام في دينها، ولا بقاء لدين من الأديان يعيش تحت سلطان دين آخر، ويستظل برايته، إلا كما يبقى الثلج تحت أشعة الشمس وحرارتها، ومن ظن غير ذلك فعلى عقله العفاء!
أما حمايتكم إيانا من أعدائنا فليس لنا على وجه الأرض عدو سواكم، فاحمونا من أنفسكم قبل أن تحمونا من غيركم، وهب أن المجريين أعداؤنا كما تقولون، فهل يطمعون في شيء أكثر مما تطمعون فيه أنتم؟ وهل يحاولون منا غير هذا للفتح الذي تحاولونه اليوم؟ وهل من الرأي أن يهب الإنسان متاعه رجلا مخافة أن يغلبه عليه رجل آخر؟ أو أن يذبح نفسه بيده فرارا من ذابح يريد أن يذبحه؟
إنكم ما جئتم هنا لتحمونا من أعدائنا، بل لتحتموا بنا من أعدائكم؛ لأنكم إنما أردتم بامتلاك هذه البلاد واستعمارها أن تتخذوا من حصونها وقلاعها وجبالها وأسوارها ودماء أبنائها وأرواحهم وقاية لكم تتقون بها زحف المجريين عليكم وعدوانهم على أرضكم.
هذه هي الحقيقة التي لا ريب فيها، فإن كنت تريد بما قلته أن تعلمني ما ألقنه لذلك الرجل الذي اتفقنا على خداعه وختله، فإنني أحفظ كثيرا من أمثال هذه الرقى والتعاويذ، فلا حاجة بي إلى سماعها منك، فلنعمل في المسألة معا متكاشفين متصارحين، ولتعلم أن الذي أسعى لإعطائك إياه وتسليمك زمامه إنما هو الوطن بأجمعه، أرضه وسماؤه، وبره وبحره، وخيراته وثمراته، وحرية أهله وسعادتهم، وأن الثمن الذي أتقاضاكه في سبيل ذلك ثمن بخس ضئيل لا يزيد عن كرسي من الخشب مموه بالذهب، يسميه الجهلاء عرشا، وهو في البلد المغلوب على أمره المسلوب حريته واستقلاله سجن ضيق، لولا خدع الحياة وأكاذيبها لما استطاع الجالس عليه أن يهدأ فيه ساعة واحدة، فأنا أبيعك هذا الوطن الثمين، وآخذ منك ذلك الكرسي الحقير، وأنا عالمة قيمة ما أعطي، وقيمة ما آخذ، فلا تحسب أنك تخدعني أو تداهنني في هذه الصفقة، وأقسم لك بشرفي وشرف «بيزنطية» لو كان هذا الوطن وطني وكانت تربته مدفن آبائي وأجدادي لما بعتك ذرة واحدة من ترابه بجميع عروش الأرض وتيجانها.
فاصفر الجاسوس واربد وجهه وقال: إننا ما اجتمعنا هنا لتفسير معنى الفتوح والاستعمار، بل لأعرض على زوجك هذا العهد السلطاني بتقليده ملك البلقان وإلباسه تاجه إن هو تمكن من إخلاء التخوم من حراسها، وسهل لجيشنا سبيل اجتيازها، فإن قبل فذاك، أو لا عدت بعد ثلاثة أيام إلى مركز الجيش ورفعت الأمر إلى سلطاني وقائدي، وعادت الحرب إلى شأنها الأول أو أشد، ولا يعلم إلا الله متى تنتهي، وماذا تكون عاقبتها.
Página desconocida
فتناولت منه العهد وقالت له: سنلتقي بعد ليلتين أو ثلاث، وسأخبرك بما تم عليه الاتفاق.
فقام إلى مكانه الأول وأخذ يضرب على قيثارته بعض الأناشيد الدينية، وما هي إلا لحظة حتى عادت الوصيفة، وكان الليل قد انتصف، فاستأذن للانصراف وانصرف.
الأمل
الحب شقاء كله، وأشقى المحبين جميعا أولئك الذين يحبون بلا أمل ولا رجاء!
إنهم يذرفون دموعهم وهم عالمون أنهم يسكبونها في أرض قاحلة جدباء لا تنبت لهم راحة ولا سعادة، ويسهرون لياليهم وهم يعتقدون أن ظلماتها لا تنحسر عن فجر منير، أو صبح سعيد، ويطرقون برءوسهم في خلواتهم لا ليفكروا متى تنتهي أيام شقائهم أو تبتدئ أيام سعادتهم، فحياتهم كلها شقاء لا فرق بين أمسها وغدها وحاضرها ومستقبلها؛ بل ليفكروا متى يرحلون عن هذه الدار ليستريحوا من آلامها وهمومها، فإن كان لا بد لنا من أن نذرف قطرة من دموعنا على شقي في هذه الأرض، فلنذرفها على والد ثكل ولده في ريعان شبابه، أحب ما كان إليه، وألصق ما كان بقلبه، من حيث لا أمل له في رجعته ولا رجاء في لقائه، أو عاشق علم في ساعة ما كان يتوقعها أن حبيبته قد تزوجت من غيره، وأنها ستسافر اليوم أو غدا إلى وطن ناء لا رجعة لها منه أبد الدهر، فوقف أمامها يودعها وداعا لا يقول لها فيه: إلى الغد أو إلى الملتقى، ولا يأخذ عليها فيه عهدا أو ميثاقا، بل يصمت صمتا تذوب فيه كبده القريحة ذنوبا، حتى إذا غابت عن بصره، وانقطع آخر آثارها، رجع أدراجه وهو يعلم أن لا نصيب له في العيش بعد اليوم، وأن هذا آخر عهده بالحياة، أو فتاة بائسة مسكينة كتب لها شقاؤها أن يعلق قلبها بعظيم من عظماء الحياة المدلين بأنفسهم ومكانتهم، فلا تستطيع الصعود إليه في سمائه، وليس من شأن مثله أن يهبط إليها في أرضها، فهي تبكيه ولا يشعر ببكائها، وتهتف باسمه ليلها ونهارها ولا يسمع نداءها، ولا يزال هذا شأنها حتى يوافيها أجلها فيريحها.
كذلك كان شأن ميلتزا، فإنها أحبت سيدها حب العابد إلهه المعبود، وافتتنت به افتتانا كانت تحسبه في مبدأ أمرها عاطفة ولاء وإخلاص، فإذا هو لوعة الحب وحرقة الغرام، ولكن أنى لها وهي الفتاة النورية الساقطة المسكينة أن يمتد بها مطمعها إلى ذلك الكوكب النائي في سمائه، أو أن تمت إليه بسبب من تلك الأسباب التي يمت بها الناس بعضهم إلى بعض، فكانت وهي أقرب الناس إليه أبعد الناس عنه، وأنآهم من مكانه، لا تستطيع أن تتجاوز في موقفها معه منزلة الخادم من المخدوم، والسيد من المسود، والصنيعة من صاحب النعمة.
وكان يقلقها أشد القلق ويكاد يذيبها حياء وخجلا خوفها أن يطلع منها على سريرة نفسها، أو أن يعثر يوما من الأيام بتلك اللوعة المتأججة في صدرها، فيتهمها في عقلها، ويسخر بينه وبين نفسه بتصوراتها وآمالها، فكانت تفر من نظراته كلما وقعت عليها حتى لا يرى في عينيها أثر الدمع ولا حمرة السهر، وتهرب من الخلوة به جهدها حتى لا يرتاب في اصفرار وجهها، واضطراب أوصالها، وذهول عقلها، ولجلجة لسانها؛ أي أنها كانت محرومة كل شيء حتى تلك اللذة الضئيلة التي يتمتع بها أقل المحبين حظا، وأخيبهم في الحب سهما؛ وهي الإفضاء بمكنون صدرها إلى ذلك الذي تحبه وتعبده. وكان كل ما يعرف قسطنطين من شأنها أنها فتاة مخلصة وفية تحبه حب العبد الشكور لسيده المنعم، وكان يجد في بلاهتها وسذاجتها، وطهارة قلبها ونقائه، وصدق لسانها، وإخلاص قلبها ملهاة يتلهى بها عن همومه وأحزانه، ومتكأ يتكئ عليه في ساعات إعيائه ونصبه، لا يزيد على ذلك شيئا، فكانت إذا جن الليل وأخذت الجنوب مضاجعها جلست في فراشها تساهر الكوكب وتطالعه، وتزفر زفرات حرى موجعة وهي لا تعلم ماذا تشكو ولم تبكي؛ لأنها لا تعرف لها غرضا ولا غاية، ولو استطاعت أن تفهم من شئون نفسها ما يفهم الناس من شئون نفوسهم لعرفت أنها إنما تبكي على أن ليس لها في الحياة - كما للناس - أمل ولا رجاء.
هذا هو الحب الطاهر البريء الذي لا تشوبه الأغراض والغايات، ولا تحيط به الريب والشكوك، والذي طالما نشده الناس في كل مكان فأضلوه، وذابت قلوبهم حسرة عليه فلم يجدوه، وأي سعادة في الدنيا أعظم من سعادة نفس تجد بين يديها نفسا طاهرة مخلصة تحبها، وتمتزج بها امتزاج الماء بالخمر والأريج بالزهر؟ ولقد ظفر قسطنطين من تلك الفتاة بهذه النفس المخلصة التي تحزن لحزنه، وتفرح لفرحه، وتغضب لغضبه، وترضى لرضاه، ولا تعرف لها وجودا منفصلا عن وجوده، ولا حياة مستقلة عن حياته، فكانت منه بمنزلة المرآة من الوجه: تقطب إذا قطب، وتبتسم إذا ابتسم، وتطير فرحا وسرورا بانتصاراته، وتذوب كمدا وحزنا لآلامه وأحزانه، وتحب أباه حبه إياه، وتنفر من زوج أبيه نفوره منها، وهو وإن لم يكن يفاتحها في شأن من شئونه الخاصة، ولا يفضي إليها بسر من أسرار بيته وعلائق بعض أفراده ببعض، فإنها كانت تشعر أن تلك المرأة اليونانية الدخيلة خطر عظيم على الوالد والولد، بل على الأمة بأسرها، وكان شعورها هذا يقودها إلى مراقبتها وملاحقتها في كل مكان، وترصد حركاتها وسكناتها علها تهجم منها على ذلك السر الهائل الذي تتوهمه توهما ولا تعرفه، فتكشفه وتمزق عنه الستار، حتى واتاها القدر يوما من الأيام فعثرت به.
السر
رجع قسطنطين من بعض غزواته فدخل على ميلتزا فرآها مطرقة واجمة، فلم يلق لها بالا وخلع رداءه ثم جلس على كرسيه جلسة الراحة والسكون، وإنه لكذلك إذ طرق مسمعه صوت تلك القيثارة البديعة التي كان يسمعها من حين إلى حين تصدح في قصر أبيه، فطرب لها طربا شديدا، وافتر ثغره بعد عبوسه، ثم نظر إلى ميلتزا وهي جالسة تحت قدميه، فرآها مصفرة مغبرة الوجه ذاهلة كأن نكبة من النكبات العظام قد نزلت بها، فعجب لأمرها وقال لها: ألا تطربين معي يا ميلتزا لهذه النغمات الشجية البديعة؟! فرفعت رأسها إليه وكأن دمعة لامعة تترقرق في عينيها، وقالت له: لا يا مولاي! فدهش لقولها وقال: ولم؟ قالت: لأني لا أحبها! قال: ولم لا تحبينها؟ قالت: لأني لا أحب صاحبها، قال: وهل تعرفينه؟ أليس هو ذلك الرجل البائس المسكين الذي يختلف إلى الأميرة من حين إلى حين ليسمعها أناشيد قومها وأغانيهم فتعود عليه ببعض نوالها؟
Página desconocida
قالت: إنه ليس بسائل يا سيدي ولا مسكين، بل هو الضابط العظيم إبراهيم بك، أحد قواد الجيش التركي، فانتفض قسطنطين مذعورا واستوى في مكانه جالسا وقال: ماذا تقولين؟ قالت: إني كنت مخدوعة به قبل اليوم، حتى رأيته ليلة أمس واقفا تحت شجرة وارفة من أشجار الحديقة يصلي صلاة المسلمين مطرقا خاشعا مستقبلا قبلتهم، فارتبت في أمره، ثم دنوت منه وأنعمت النظر في وجهه من خلال بعض الأغصان من حيث لا يشعر بمكاني، فعرفته وذكرت أنه ذلك البطل العظيم الذي كنت أراه في معسكر الجيش التركي لا يزال مرافقا للقائد الكبير، يسير في ركابه حيث سار، ويتنقل معه في غدواته وروحاته، وإن غابت عني معرفته فلن تغيب عني معرفة تلك الشجة الهلالية الواضحة في جبينه، وذلك الخال الأسود المرتسم تحت عينه اليسرى، بل أعرفه من تلك النغمات الشجية التي يغنيها الآن.
وهنا توقفت عن الكلام واضطربت وكأن كلمة حائرة تختلج بين شفتيها، فعجب قسطنطين لأمرها وسألها ما بالها، فأطرقت هنيهة ثم رفعت رأسها فإذا دمعة تنحدر على خدها، واستمرت في حديثها تقول: نعم، إنني أعرفه من تلك النغمات التي كان يدعوني إلى الرقص عليها في خيمته في المعسكر وهو جالس بين صحبه وخلانه من قواد الجيش ورؤسائه يغنيهم ويطربهم، فأرقص أمامهم رقص الطائر المذبوح وفؤادي يتمزق لوعة وأسى، لا أهن ولا أفتر، ولا أستعفي ولا أعتذر؛ مخافة أن يرى سيدي الجندي ذلك مني فيعاقبني، فقد كان يحاسبني على الضعف والعجز، والحياء والخجل، والتلوم والاحتشام، محاسبة القاضي المجرمين على الذنوب والآثام؛ فاعذرني يا سيدي إن بكيت لحظة بين يديك، فإنني وإن كنت ولدت في مهد الشقاء، ونشأت في حجر البؤس والآلام، فقد كانت تلك الأيام التي قضيتها في ذلك المعسكر أو في بؤرة السقوط والعار أشقى أيامي وأعظمها شدة وبؤسا، لا أذكرها إلا بكيت لذكراها، وأسبلت ردائي على وجهي حياء منها وخجلا.
على أنني أحمد الله إليك، فقد بسطت إلي يد رحمتك وإحسانك، واستنقذتني من مخالب ذلك الشقاء أيأس ما كنت من الخلاص منه، أحسن الله إليك، وهون عليك همومك وآلامك.
وكانت تتكلم وقسطنطين لاه عنها بقصة ذلك الجاسوس، لا يكاد يشعر بشيء مما حوله، ثم التفت إليها وقال لها: إذن هو جاسوس متنكر! قالت: ذلك ما أعتقده يا مولاي ولا أرتاب فيه. فظل يدور في الغرفة دورة الهائم المختبل لا يهدأ ولا يتريث، وظل على ذلك ساعة ثم انقض بغتة على ردائه فاختطفه وخرج من الغرفة مسرعا، فأدركته ميلتزا وتعلقت بأطراف ثوبه وقالت له: أين تريد يا مولاي؟ قال: أريد أن أقبض على ذلك الجاسوس المجرم وأرفع أمره إلى الأمير ليرى رأيه فيه، قالت: إن القيثارة قد انقطع صوتها، ولا بد أن يكون قد ذهب لسبيله؛ فدعه وشأنه، قال: لا بد لي من أن أكشف أمره على كل حال حتى لا يعود إلى هذا المكان مرة أخرى، قالت: أضرع إليك يا سيدي أن تملك نفسك وأن تهدأ لحظة واحدة حتى أتمم لك بقية حديثي.
فجمد في مكانه وقال لها: ماذا عندك بعد ذلك؟ قالت: إن كنت تريد أن ترفع أمر الرجل إلى أبيك ليعرف حقيقته، فاعلم أنه يعرفه حق المعرفة، بل هو أعلم به مني ومنك! فثار ثائره وصرخ في وجهها قائلا: ماذا تقولين أيتها الفتاة؟ وجرد سيفه من غمده وأهوى به عليها ليقتلها، فاستخذت له ومدت إليه عنقها وقالت: اضرب يا مولاي، فدمي حلال لك، وإن شئت فاستمع مني كلمة واحدة قبل أن تفعل، فإن شرفك وشرف بيتك رهن بما أقول! فجمد السيف في يده وظل شاخصا إليها ينتظر كلمتها، فقالت: نعم، قد تم الاتفاق بين أبيك وزوجته وذلك الجاسوس التركي على أن يخلي أبوك تخوم المملكة من حراسها هذه الليلة؛ لتتمكن الجيوش التركية من اجتيازها، فإن فعل أصبح في الغد سيد البلقان ومليكها، قال: ومن أين لك علم ذلك؟ قالت: قد سمعت الحديث الذي دار بينهم في هذا الشأن، ورأيت ورقة منشورة بين أيديهم يقرءونها ويتداولونها، وما أحسبها إلا وثيقة العهد الذي تعاهدوا عليه، فإن كنت لا تزال في ريب من ذلك فدونك الغرفة المجاورة لغرفة الأميرة فادخلها برفق وهدوء، وضع أذنك على خصاص الباب المغلق بينهما، كما صنعت أنا منذ ساعة، تسمع ما يتحدثون به، ولك حكمك بعد ذلك.
فشعر قسطنطين أن الأرض الفضاء تدور به، وأن الشمس قد لبست قناعها الأسود فما يرى شعاعا من أشعتها، وأن فرائصه ترتعد وتصطك فما تكاد تحمله، فتراجع إلى جدار قائم وراءه فأسند ظهره إليه حتى هدأ قليلا، ثم مشى يتحامل على نفسه حتى دخل الغرفة التي وصفتها ميلتزا، ومشى إلى الباب الموصد بين الغرفتين ووقف بجانبه يتسمع فلم يسمع شيئا، حتى ظن الغرفة خالية، ثم سمع صوت أبيه فانتبه وتجمع للإصغاء، فإذا هو يقول لزوجته بصوت خافت متهدج: هل سافر الرجل؟ قالت: نعم يا سيدي، وما أحسب إلا أنه تجاوز أطراف التخوم الساعة، فإن جواده أفره الجياد وأسرعها. وصمت ولم يقل شيئا، فدنت منه وقالت له بنغمة حلوة ساحرة: ما هذا الاصفرار الذي يكسو وجهك يا ميشيل؟ وما هذه الكآبة السوداء التي تتدجى في عينيك؟ فهل أنت نادم على ما كان؟ قال: لا، ولكنني أخشى الفشل.
قالت: لا أعرف للفشل بابا يمكنه أن يدخل عليك منه، فأنت قائد الجيش وصاحب الأمر والنهي فيه، فإن كان كل ما يعنيك من الأمر ألا تظهر يدك في هذا العمل فقم الساعة والبس ثياب أحد الحراس، واذهب إلى مكان الحارس الأول القائم على حراسة الرابية الأولى وارقبه حتى تأتي ساعة انصرافه واستبداله، فأظهر له كأنك الحارس الذي يخلفه في مكانه، واهتف له بكلمة السر التي بثثتها الليلة بين جنودك - وحراس المداولة كثيرون لا يكاد يعرف بعضهم بعضا - فإذا انصرف لشأنه أخذت مكانه من حيث لا يعلم من أمرك شيئا، حتى إذا رأيت الجيش التركي مقبلا في منتصف الليل، وعلمت أنه قد أشرف على التخوم وملك رأس الطريق إلى «فيدين»؛ عدت أدراجك إلى القصر متنكرا كما ذهبت، لم يشعر بك أحد في ذهابك أو إيابك، وكأننا قد فوجئنا بهذه النازلة مفاجأة لا نملك معها للأمر دفعا ولا ردا.
فطارت نفس قسطنطين شعاعا عند سماع هذه الكلمات، وكاد يصرخ صرخة عظمى يرتج بها القصر وأرجاؤه، لولا أنه طمع في أن يسمع من أبيه كلمة شرف وإباء تهدم صرح تلك الخيانة الذي تبنيه يد زوجته، فأرهف أذنيه ليسمع جوابه، فسمعه يقول بنغمة الفارح المغتبط، بعد كلام كثير لم يفهمه: نعم، هذا هو الرأي السديد، ولقد أمنت الآن كل شيء، فائتيني بلباس الحارس، فقد عزمت ولا مرد لعزمي. فتهافتت على عنقه وقبلته قبلة طويلة رن صوتها في أرجاء الغرفة، ثم ذهبت لشأنها.
فما سمع قسطنطين هذه الكلمة حتى أظلمت عيناه، واكفهر وجهه، وتداركت ضربات قلبه، وحاول أن يصيح فخانه صوته، فسقط مغشيا عليه، ولكن بين ذراعي ميلتزا؛ لأنها كانت واقفة وراءه ترصده من حيث لا يشعر بمكانها، حتى إذا هوى تلقته بين ذراعيها وقادته إلى غرفتها.
الجريمة
Página desconocida
جثم الليل في مجثمه ونشر أجنحته السوداء على الكون بأجمعه، فهجع تحت ظلالها الأحياء جميعا من بشر وحيوان، ولم يبق ساهرا وسط هذا السكون المخيم إلا عينا القائد برانكومير في شعب «تراجان» يديرهما ها هنا وها هنا، فينظر بهما تارة أمامه وأخرى وراءه؛ ليرى هل يرصده أحد أو يتأثر حركاته وأعماله، ويقلبهما أحيانا في صفحة السماء فيرى عيون النجوم محدقة فيه، فيخيل إليه أنها عيون الله ناظرة إليه نظرات الوعيد والتهديد، وكأن صائحا يصيح به من جوانب الملأ الأعلى: اصنع ما تشاء أيها الرجل الخائن، واكتم عملك عن عيون الناس جميعا، فإني ناظر إليك ومسجل عليك هذه الجناية العظمى التي تجنيها على وطنك وقومك!
فيتضاءل ويتصاغر ويمر بخاطره قول أمه له في عهد طفولته فيما كانت تمليه عليه من آداب الحكماء وأقوالهم: «إن كواكب السماء ونجومها تشهد بين يدي الله على جميع جرائم البشر التي ليس لها شهود!» ثم لا يلبث أن يسري عن نفسه ويذهب به خياله إلى الملك وعرشه، وتاجه وصولجانه، وعزه ومجده، ثم يلقي نظرة عامة على الجبال المحيطة به، والسهول المنبسطة من حوله، والأنهار المائجة بأشعة النجوم ولألائها، فيقول: غدا تصبح هذه الجزيرة كلها جزيرتي، وأهلها خدمي وحشمي، يأتمرون بأمري، ويذعنون لقوتي وسلطاني، وغدا يتلألأ التاج على جبين بازيليد، فتصبح أسعد نساء العالم جمعاء، وأصبح بسعادتها أسعد رجاله، ثم يخيل إليه كأنه يرى بازيليد ماثلة بين يديه تنظر إليه نظراتها الساحرة الفاتنة، فيمد ذراعيه لاستقبالها ويناجيها قائلا: إنني لا أزال على العهد الذي عاهدتك عليه مذ فارقتك حتى الساعة، لم أندم ولم أتردد، ولا مر بخاطري أن أحفل بشيء في العالم سوى أن أنيلك البغية التي تبتغينها.
إن القبلة التي وضعتها على شفتي منذ ساعة قد أثلجت صدري، وسكنت جميع مخاوفي ووساوسي، فأنا أقدم على الجريمة إقدام الهادئ المطمئن، لا أشعر بثقلها، ولا أفكر في نتائجها، بل لا أشعر أنها جريمة يخفق لها قلبي خفقة الأسف والندم.
لقد أقسمت لك على الوفاء بالعهد، ولا بد لي من أن أبر بقسمي، ولو كنت أقسمت لك على حرمان نفسي منك - وأنت الحياة التي لا حياة لي بدونها - لاستحييتك أن أحنث في قسمي، أو أن أخيس بعهدي.
أقسمت لك أن أخون وطني، وهأنذا أخونه كما أردت راضيا مستسلما لا أندبه ولا أرثي له، فرضاك هو الوطن كله، بل هو الدنيا بأجمعها، فليذهب الوطن كله، وليفن العالم بأسره، فأنت لي كل شيء فيهما.
وكان يحدث نفسه بهذا الحديث وهو جالس على رابية مرتفعة على شعب «تراجان» تحت القوس الروماني بجانب هضبة عالية من الحطب أعدت للإحراق إنذارا للجيش بالعدو عند زحفه، وكانت الهضبات المحيطة بتلك الرابية أو المبعثرة من حولها سوداء قاتمة تتراءى في ظلمة الليل ووحشته في صور وحوش مخيفة هائلة فاغرة أفواهها، أو مقعية على أذنابها، أو متوثبة للهجوم، فلا يقع نظره عليها حتى يطير قلبه شعاعا، فيسرع إلى الاغتماض فلا يفارقه خيالها إلا بعد حين.
وما كان الرجل جبانا ولا رعديدا، فهو بطل البلقان وحاميه وسيد من أنجبت به ميادين قتاله وساحات نزاله، ولكنها الجريمة تنتزع قلب المجرم من بين جنبيه، وتغشي على عينيه البصيرتين فيصبح بلا قلب وبلا نظر، يرى ما لا يراه الناس، ويخشى ما لا يخشونه، فهو لا يخاف الوحوش والهوام والجن والشياطين والصخور والأحجار، بل يخاف جرائمه وآثامه!
وإنه لكذلك إذ خيل إليه أن إحداها تتحرك من مكانها وتتحلحل تحلحل الليث المتوثب، فاستطير قلبه فرقا ورعبا، وحاول أن يتهم نظره ويستريب به فلم يستطع؛ لأنه ما لبث أن رأى في ذروة تلك الهضبة رأسا يتحرك وينظر إليه بعينين متقدتين، فصرخ صرخة الكلب الجبان الذي ينبح الشبح المقبل نحوه، لا جرأة وإقداما، بل جبنا وفرقا، وقال: من هناك؟ فانحدر الشبح إليه من أعلى الهضبة وقال له بصوت خشن أجش: لا ترتع يا أبت؛ فأنا ولدك قسطنطين. فوثب من مكانه وثبة الملسوع وقال له بصوت متهدج مختنق: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ ومن أنبأك أني في هذا المكان؟ قال له: وأنت ما الذي جاء بك إلى هنا، ومن أنبأك أني في هذا المكان؟ قال له: وأنت ما الذي جاء بك إلى هنا يا أبت؟ وماذا تريد أن تفعل؟ إنني أسألك عن مثل ما تسألني عنه!
فأسقط في يده وطار طائر عقله، وأحس بالخطر المقبل إلا أنه تجلد واستمسك وقال بلهجة الآمر المسيطر: وما سؤالك عن مثل هذا أيها الفتى الجريء؟ وما شأنك بي وبما أفعل؟ وكيف فارقت حصنك في هذه الساعة من الليل؟ ومن أذنك بذلك؟ قال: لم أستأذن في ذلك أحدا غير واجبي ، إنني أعلم كل شيء يا أبت، وأعلم أنك ما جئت إلى هذا المكان إلا لترتكب أفظع جريمة يرتكبها إنسان في العالم! فصاح برانكومير وهو يتميز غيظا وحنقا: كذبت أيها الغلام الوقح، واجترأت على ما لم يجترئ عليه أحد من قبلك! عد الآن إلى حصنك، ولا تبق بعد صدور أمري إليك لحظة واحدة، فإن جاولتني في ذلك فأنت أعلم بما يكون! إنك لا تفهم شيئا من أسراري وخويصات نفسي، وليس لك أن تسألني عنها؛ لأنك جندي والجندي لا يسأل قائده، بل يأتمر بأمره ولو كان الموت الزؤام! عد إلى مخفرك وتول حراسته بنفسك، ولا تأذن لجفنك بالغمض لحظة واحدة، وسأحدثك غدا في هذا الشأن حديثا طويلا تعلم منه كل شيء.
فتضعضع قسطنطين أمام هذه اللهجة الرزينة الهادئة، وجثا على ركبتيه بين يديه وقال له: عفوا يا أبت، فقد أخطأت في سوء ظني بك، فأنت أشرف من أن تضع نفسك حيث أرادوا أن يضعوك، وما أحسب كلمتك التي قلتها للأميرة منذ حين في تلك الخلوة الرهيبة إلا كلمة مزح ودعابة أردت بها مداراتها وملاينتها، أو الهزء والسخرية بها، حتى إذا فصلت عنك وخلا بك مكانك محوت بظهر يدك عن فمك تلك القبلة الأثيمة التي ختمت بها ذلك العهد الأثيم، ثم قلت لها في نفسك: إنني قد عاهدت الله، أيتها المرأة البلهاء، قبل أن أعاهدك على أن أكون أمينا لوطني، وفيا له، فلا أحفل بعهد غير هذا العهد، ولا بيمين غير تلك اليمين، ثم خفت أن تكون قد استرابت بك أو مرت بخاطرها خلجة شك في أمرك فأخذت للأمر حيطتها من طريق غير طريقك، فجئت بنفسك لتتولى حراسة التخوم وحمايتها، حتى إذا شعرت بسواد الجيش التركي مقبلا أشعلت النيران إنذارا لجيشك بالخطر الداهم، وخيبت آمال أعدائك فيما يكيدون لك ولقومك.
Página desconocida
أليس كذلك يا أبت؟ نعم، إنه كذلك بلا شك ولا ريب، فأشعل النار الآن ودعها تسطع في هذا الفضاء الواسع، وتبدد بلألائها هذه الظلمات المتكاثفة؛ فإني أشعر بسواد مقبل من بعيد يتقدم شيئا فشيئا، وما أحسبه إلا فيالق العدو وجيوشه. انظر يا أبت واخترق بنظرك هذا الفضاء الشاسع، ألا ترى تحت خط الأفق أشباحا تتحرك وتتقدم؟ إنه ليخيل إلي أنها أعلام الجيوش التركية تخفق في أجوائها، وربما لا تمضي ساعة أو بعض ساعة حتى تكون قد وصلت إلى هنا!
أسرع بإشعال النار أو عد أنت إلى قصرك وخذ لنفسك راحتها فيه ودعني أتولى عنك إشعالها، فالخطر موشك أن يقع ما من ذلك بد!
ما لي أراك جامدا يا أبت؟ وما هذا الذهول الذي تولاك؟ أشعل النار أو تنح عن طريقي لأشعلها، أشعلها فالوقت أضيق من التأمل والتفكير!
فرفع برانكومير رأسه ونظر إلى ولده نظرة جامدة وقال له: إذن أنت تتهمني يا قسطنطين وترتاب بي، ما أشقاني وأسوأ حظي! ولدي وفلذة كبدي ووارث اسمي ولقبي يتهمني ويتجسس علي، ويقف وراء الأبواب ينظر من خصائصها ليسمع ما يدور بيني وبين زوجي في خلوتي! فيا للعار ويا للشقاء! أيها الولد العاق المسكين، اذهب لشأنك؛ فإني أريد أن أبقى هنا الليلة وحدي، ولا تجازف بمخالفة أمر قائد تعود أن يأمر فيطاع، وليس من شأن مثله أن يصبر لحظة واحدة على مخالفة أمره، إنني سأبقى هنا وحدي، وسأشعل النار بنفسي عندما أريد إشعالها، فلا حاجة بي إلى مشورتك ومعونتك، عد أدراجك إلى حصنك ولا تضف إلى جريمة التجسس على أبيك جريمة معاندته ومخالفة أمره، واعلم أنك الآن جندي أمام قائده لا ولد بين يدي أبيه.
فأن قسطنطين وتأوه آهة طويلة وقال: وا رحمتاه لي ولك يا أبت! إن الأمر صحيح لا ريب فيه، والجريمة توشك أن تقع.
ثم صمت صمتا طويلا لا تطرف له فيه عين، ولا تنبعث له جارحة، ثم انتفض فجأة وصاح بلهجة شديدة صارمة: أبي، إنني سأبقى هنا!
فدهش الأب لعناده وصلابته وقال له: ما أراني الآن إلا أمام عدو لدود لا ولد بار مطيع! قال: لا يا أبت، بل أمام ولد بار مطيع، ولولا ذلك ما جشمت نفسي مشقة المجيء إليك في هذه الساعة من الليل، ولا وقفت أمامك هذا الموقف الخطر المميت، إنني لم أفعل ذلك من أجل نفسي، بل من أجلك ومن أجل شرفك، إنني أحبك كما أحب وطني، وما على وجه الأرض شيء أحب إلي منكما، وكما أتمنى له أن يعيش حرا مستقلا أتمنى لك أن تعيش شريفا عظيما، فإذا ضاع وطني وكان ضياعه على يدك أنت فقدت في ساعة واحدة جميع ما أحب في هذه الحياة؛ فارحم ولدك المسكين الذي لا يزال يضمر لك في قلبه حتى الساعة ذلك الحب القديم الذي تعرفه، واستبق له تلك السعادة التي لم يبق له في الحياة سعادة غيرها، تنح قليلا عن طريقي وائذن لي أن أصل إلى هذه الرابية لأشعل نارها فيراها حراس الروابي جميعا فيشعلوا نيرانهم، فينهض الجيش للدفاع عن الوطن؛ فقد أزفت الساعة ولم يبق سبيل للأناة والتفكير.
ثم اندفع إلى مكان الرابية مسرعا فاعترضه أبوه ووقف في وجهه وقفة الصخرة العاتية في وجه الريح العاصف وقال له: لا آذن لك بالتقدم خطوة واحدة، ودون ما تريد الموت الزؤام! فطاش عقل قسطنطين وجن جنونه وقال له: احذر يا أبت؛ فإن في هذه السماء المشرقة علينا بنجومها وكواكبها إلها ينتقم من الظالمين، ويجازي الخائنين بخيانتهم شر الجزاء، وما أنت بناج من عقابه، ولا مفلت من جزائه! لقد حدثتني نفسي في تلك الساعة الهائلة التي سمعتك فيها تؤامر على وطنك وأمتك بأفظع ما تحدث به نفس صاحبها، وكنت على وشك أن أرفع أمرك إلى الملك أنت وزوجك، وأكشف له دخيلة أمركما، فلم أفعل؛ لأني ضننت بك على الموت الدنيء الذي يموته الخائنون المجرمون أمثالك، وأشفقت على ذلك الشرف العظيم الذي بلغ في علوه مناط السماك الأعلى أن يصبح مهانا مذالا تدوسه الأقدام، وتطؤه النعال، وكرهت أن يمر السابلة من رعاع الناس وغوغائهم على قبرك بعد موتك فيبصقوا عليه كأنما يبصقون على قبر الشيطان، وربما نبشوا عن جثتك تشفيا منك وانتقاما، فأخرجوها من قبرها وأسلموها إلى جوارح الطير وكواسر الوحش تمزق أشلاءها، وتبعثر عظامها .
أشفقت عليك من كل هذا، وأشفقت على نفسي أن يراني الناس في طريقي فيشيروا إلي بأصابعهم ويقولوا: هذا هو الولد السافل الدنيء الذي وشى بأبيه وأورده مورد التهلكة، فبئس الولد ولبئس الوالد! ولا يلد الخونة المجرمون غير الأدنياء الساقطين! فنهنهت نفسي وملكت عليها زمامها وقلبي يذوب حزنا ولوعة، وقلت: لعلني أستطيع أن أتدارك الأمر عن طريق غير تلك الطريق، وأن أتمكن في آن واحد من إنقاذ أبي وإنقاذ وطني من حيث لا أخسر واحدا منهما في سبيل الآخر، فجئت وقلبي ممتلئ أملا ورجاء.
أما الآن وقد يئست من كل شيء، فإني أكاد أشعر بالندم على ضياع تلك الفرصة التي ملكتها ساعة من الزمان فسرحتها ولم أنتفع بها، وكأن صوتا خفيا يهتف بي من أعماق قلبي: إنك قد أشفقت على نفسك مرة وعلى أبيك أخرى، ولم يخطر ببالك لحظة واحدة أن تشفق على وطنك وقومك.
Página desconocida
فأسألك مرة أخرى يا سيدي، وربما كانت هي المرة الأخيرة، أن تتنحى عن طريقي، فإنني قد عزمت عزما لا مرد له أن أقتحم هذه الرابية لأضرم نارها رضيت أم أبيت، سقطت السماء على الأرض أم بقيت في مكانها!
فأطرق برانكومير لحظة ذهبت به فيها الهموم والأفكار كل مذهب، ثم رفع رأسه فإذا دمعة كبيرة تترقرق في عينيه، ونظر إلى ولده نظرة عتب وتأنيب وقال له: نعم يا بني، إنك قد أخطأت خطأ عظيما إذ أضعت الفرصة العظيمة التي لاحت لك، وقد كان جديرا بك أن تفترصها ولا تسرحها، وأن تلقي في عنق أبيك في تلك الساعة التي رابك فيها من أمره ما رابك غلا ثقيلا تقوده به إلى حضرة الملك متهما إياه بجريمة الخيانة الكبرى؛ ليأمر بقتله، فتمتع نظرك برؤيته مصلوبا على باب المدينة والجماهير من حوله يبصقون على وجهه، ويصفعون قذاله، ويرجمونه بالحجارة على مرأى من ضباطه وجنوده وأسرته وأصدقائه، وربما اشترك هؤلاء جميعا معهم في عملهم.
نعم، إنها فرصة ثمينة جدا قد أضعتها بترددك وتحيرك، وقد كان جديرا بك أن تقدم إقدام العازم المصمم كما كان يفعل أبوك لو كان في مكانك، فقد عودت نفسي أنني إذا عزمت على أمر لا أتردد فيه ولا أتريث، وقد عزمت الآن على ألا أشعل هذه النار، فلا أشعلها، ولا آذن لك بالتحرك من مكانك خطوة واحدة!
فوقف قسطنطين حائرا ملتاعا يترجح بين اللهف على وطنه الضائع والإشفاق على أبيه المسكين، لا يستطيع أن يخون وطنه الذي نبت في تربته، وعاش بين أرضه وسمائه، ولا أن يعق أباه الذي أبرزه إلى الوجود، ووهبه نعمة الحياة التي ينعم بها، فأسند رأسه إلى صخرة كانت بجانبه خائرا متضعضعا تتوارد في رأسه الخواطر والأفكار يصارع بعضها بعضا، ويشتد بعضها في أثر بعض، حتى بلغ منه الإعياء مبلغه، فنظر إلى أبيه نظرة منكسرة حائرة تفيض حزنا ويأسا وقال: أيرضيك يا ميشيل برانكومير، يا بطل البلقان وحاميها وأشرف من أنجبت به أصلاب رجالها وأرحام نسائها، أن يملك العدو علينا هذه البلاد العزيزة الكريمة فيقتل أبناءها، ويستحل حرماتها، وينكس صلبانها، ويهدم صوامعها ومعابدها، ويخرس فيها كل صوت غير صوت الأذان على ذرى المنائر؟
قال: نعم، يرضيني ذلك؛ لأنني أحسنت إليها فكفرت بنعمتي وجازتني شر الجزاء على صنيعي! قال: إن لم تفعل ذلك من أجلها، فافعله من أجل ربك، قال: أي رب تريد؟ إنني لا أفعل شيئا من أجله، فهو ممالئ مداج لا يحب إلا قساوسته وكهانه، ولا يرى رءوسا تصلح للتيجان غير رءوسهم الصغيرة الصلعاء، ولكنني سأنتزع بالرغم منه ذلك التاج من ذلك الرأس الذي توجه به وأضعه على رأسي، قال: ولكنك تعلم يا أبت أن التاج الذي يتناوله متناوله من يد عدوه ليس بتاج شريف، قال: ولكنه تاج على كل حال! قال: ألا تخاف أن يثقل يوما على رأسك فيهبط إلى عنقك ويستحيل إلى طوق حديدي ويقضي عليك؟ قال: إنك تهينني يا قسطنطين وتهددني، ولقد بلغت بوقاحتك الغاية التي لا غاية وراءها، فتجمل قليلا ولا تنس أنك إنما تخاطب أباك! قال: عفوا يا أبت وغفرا، فلقد بلغ بي اليأس مبلغه حتى أصبحت لا أفقه ما أقول!
ثم دنا منه وأمسك بيده وأنشأ يخاطبه بصوت ضعيف متهافت ويقول: عد إلى نفسك لحظة واحدة يا أبت، وراجع فهرس تاريخك الشريف، واذكر تلك الأيام المجيدة التي أبليت فيها في الدفاع عن وطنك وقومك بلاء سجله لك التاريخ في صفحاته البيضاء بأقلامه الذهبية، وتلك الوقائع الحربية الهائلة التي كنت تستقبل فيها الموت استقبال العروس ابتسامات عروسه الحسناء ليلة زفافها، وتضحك للهول فيها ضحك الزهر لقطرات الندى، والنبت لأشعة الشمس، ثم تعود منها منصورا مظفرا يستقبلك نساء القرى وفتياتها في كل طريق مررت به بدفوفهن وعيدانهن يغنينك ويرقصن بين يديك، ويرتشفن قطرات الدماء من كئوس جراحاتك، وينثرن الأزهار تحت قدميك، وينادينك باسم المخلص العظيم، وخليفة المسيح في الأرض.
اذكر تلك الأعلام الوطنية التي تخفق على أبواب المدينة وأسوارها، وترنحها طربا وسرورا عند رؤيتك، وتراميها على قدميك كلما مررت بها كأنها تحاول تقبيلهما ولثمهما، واخش إن مررت بها بعد اليوم أن تشيح بوجهها عنك احتقارا وازدراء، وتضم أطرافها إلى نفسها ترفعا وإباء حتى لا تلمس جسمك، ولا تخفق فوق رأسك.
لا تبع أمتك يا أبت بعرض تافه من أعراض الحياة، فالتاج الذي يتناوله صاحبه من يد عدوه ليس بتاج الملك، إنما هو قلنسوة الإعدام.
كيف يهنؤك ذلك الملك وأنت ترى أمتك المسكينة راسفة في قيود الذل والاستعباد تبكي وتستصرخ ولا منجد لها ولا معين، وتئن في يد عدوها القاهر أنين المحتضر المشرف ولا من يسمع أنينها، أو يصغي إلى شكاتها.
كيف يهنؤك ذلك العيش وأنت ترى أبناء وطنك أسارى أذلاء في قبضة أعدائهم يسوقونهم بين أيديهم سوق الجزار ماشيته إلى الذبح، فإن خفق قلبك خفقة الرحمة بهم أو العطف عليهم لا تستطيع أن تمد يدك لمعونتهم وإنقاذهم؛ لأنك قد بعتهم ونفضت يدك منهم فلا سبيل لك إليهم بعد ذلك.
Página desconocida
اذكر يا أبت تلك الأيام التي لقي فيها هذا الشعب المسكين على يد هؤلاء القوم الظالمين ما لم يلق شعب في الأرض على يد فاتح أو مغتصب، أيام كنا غرباء في أوطاننا، أذلاء في ديارنا، نمشي فيها مشية الخائف المذعور، وننتفض انتفاضة الهارب المتنكر، لا نعلم أيسقط الشقاء علينا من علياء السماء، أم ينبعث إلينا من أعماق الأرض؟ وهل يخرج الخارج منا من منزله ليعود إليه، أو ليرد المورد الذي لا رجعة له منه أبد الدهر؟
اذكر أيام كانوا يملكون علينا كل شأن من شئون حياتنا حتى زروعنا وضروعنا، ومياه أنهارنا، وأشعة شموسنا، فأصبحنا ولا شأن لنا في وطننا إلا كما لعمال المزرعة ونواطيرها من الشأن فيها، ويحصون علينا كل حركة من حركاتنا، وكل سكنة من سكناتنا، حتى نبضات قلوبنا، وخواطر أفكارنا، وفلتات ألسنتنا، وأحاديث آمالنا، ويحاسبوننا على النظرة واللفتة، والأنة والزفرة، والقومة والقعدة، ثم يقضون فينا بما شاءوا من أقضيتهم، فلا ينحسر ظلام ليلة من الليالي إلا عن مصلوب تهفو به الرياح السافيات، أو طريح مرتهن في أعماق السجون!
اذكر أيام كانت كلمة الوطن جريمة يعاقب عليها قائلها بحرمانه من ذلك الذي يهتف باسمه، وكلمة الدين إثما عظيما يذهب بصاحبه إلى أحد القبرين: إما المنشور، وإما المحفور.
اذكر الدموع التي كانت تذرفها الأمهات على أطفالهن المذبوحين فوق حجورهن، والصيحات التي كانت تصيحها الزوجات والأخوات الواقفات بأبواب السجون على أزواجهن وإخوتهن، والزفرات التي كان يصعدها اليتامى الثاكلون على حافات القبور حنينا إلى آبائهم وأمهاتهم الهالكين!
اذكر ذلك كله ولا تنسه، لا بل أنت تذكره وتعرفه كما تعرف نفسك؛ لأنك أنت الذي قصصته علينا ومثلته لأعيننا وقلوبنا، وأريتنا من ويلاته ومصائبه ما لم نره، ولطالما كنت تبكي عند ذكراه بكاء الطفل الثاكل أمه، فنبكي لبكائك وننشج لنشيجك.
ألا تسمع هذه الأصوات المخيفة التي تحملها إلينا الرياح من ذلك الجانب الغربي؟ إنها أصوات الموتى من جنودك وأبطالك يضجون في قبورهم صائحين: وا ويلتاه، ها هي ذي السماء توشك أن تنقض على الأرض! وها هي ذي أقدام العدو تدنو من تخوم البلقان وبطاحه، وتوشك أن تطأ بنعالها قبورنا، وتزعجنا من مراقدنا، وها هو ذا قائدنا المحبوب برانكومير العظيم الذي سفكنا دماءنا وبذلنا أرواحنا في سبيل ظفره وانتصاره يساوم عدونا في وطننا، ويحاول أن يبيعه نساءنا وأولادنا الذين تركناهم أمانة في يده، ففي سبيل الله ما سفكنا، وفي ذمة القدر ما بذلنا!
ألا تسمع هذه الهمهمة الهابطة علينا من آفاق السماء؟ إنها أصوات الملائكة الأبرار يصيحون ويصخبون وهم وقوف بين يدي ربهم يقولون له: حتى متى يسع حلمك وأناتك هذا الخائن الغادر الذي يبيع أمة من أمم المسيح إلى أعدائها وأعداء دينها، ويسلم إليهم أرواحها وأغراضها، فاقض اللهم فيه قضاءك العادل، واضربه الضربة التي تجعله عبرة للخائنين، ومثلا في الغادرين.
إلي أيتها الذكريات القديمة، والانتصارات العظيمة، والأيام الغر المحجلة المكتوبة بمداد الذهب في صفحات التاريخ، مدي إلي يد مساعدتك، وأعينيني على ذلك الرجل البائس المسكين، وتمثلي أمام عينيه لتذكريه بنفسه وتاريخك، عله يحمر خجلا عند رؤيتك، ويقشعر بدنه رهبة من خيال الجريمة التي يريد ارتكابها.
إلي أيتها الفضائل الإنسانية والكمالات العالية، من شرف وعزة، وترفع وإباء، وأمانة وإخلاص، تعالين إلي جميعا واجثين معي بين يديه، واضرعن إليه أن ينصفكن، ويعدك في أمركن، ولا يقضي للرذيلة عليكن، وقلن له: إنك إن خذلتنا ونفضت يدك منا؛ فلن نجد لنا من بعدك ناصرا ولا معينا.
يا أطفال البلقان وصغارها الناشئين من فتية وفتيات، أقبلوا إليه جميعا، واجتمعوا من حوله، وتعلقوا بأهداب ثوبه، واسكبوا ما تستطيعون أن تسكبوا من دموعكم وشئونكم تحت قدميه، وقولوا له: رحمة بنا أيها الأب الرحيم، والسيد الكريم، وحنانا علينا، لا تكلنا إلى أعدائنا وأعداء وطننا، ولا تجعل مستقبلنا ومستقبل بلادنا في أيديهم يسوموننا الخسف، ويذيقوننا ألوان العذاب، فإن أبيت إلا أن تفعل، فجرد سيفك من غمده واقطع به أعناقنا؛ فذلك خير لنا من هذا العيش المؤلم المرير.
Página desconocida
وكان يتكلم ودموعه تنهمر على خديه دائبة ما تهدأ ولا ترفأ، وأبوه يضطرب بين يديه اضطراب الدوحة الماثلة في مهاب الرياح الأربع، ويزفر زفرات محرقة ملتهبة، وقد قامت في نفسه تلك المعركة الهائلة التي تقوم في كل نفس شريفة بين الواجب والشهوة، يتمثل له الأول في وجه قسطنطين العبوس المكتئب، فيرتعد ويضطرب، وتتراءى له الثانية في وجه بازيليد الضاحك المشرق، فيخور ويتضعضع، لا يستطيع أن يعرض عن نداء وطنه؛ لأنه نداء يصل إلى أعماق قلبه، ويبلغ صميمه، ولا أن يفلت من سلطان شهوته؛ لأنه سلطان قاهر جبار لا يفلت منه قوي ولا ضعيف، فوضع إحدى يديه على عينيه، ومد الأخرى أمامه كأنما يطارد أشباحا مخيفة هائلة تتقدم نحوه، وظل يصيح بأعلى صوته: اصمت يا قسطنطين! اصمت يا ولدي! لا أستطيع أن أحتمل أكثر مما احتملت، آه من القدر وأحكامه، والدهر وتصرفاته، وويلي من الشقاء المكتوب، والبلاء الحتم، من لي بيد قوية تنقذني من هذا الشقاء المحيط بي، فقد أصبحت وما على وجه الأرض أحد أجدر بالرحمة والشفقة مني، العنوني جميعا يا أولادي وأبناء وطني، وانتقموا مني بأفظع أنواع الانتقام؛ فإنني خائن لئيم لا أستحق رحمتكم ولا مغفرتكم، ثم صمت صمتا عميقا لا ينبس فيه ولا يتحرك، وظل على ذلك هنيهة ثم نظر أمامه نظرة الدهشة والذهول، فخيل إليه أنه يرى شبحا يتقدم نحوه، فمد يده إليه وأخذ يناجيه ويقول: بازيليد، ألا تستطيعين أن تحليني من ذلك القسم الذي أقسمته لك، فقد ضعف كاهلي عن احتماله واحتمال أثقاله، لا أريد ملكا ولا تاجا ولا صولجانا، بل لا أريد أن أبقى على ظهر الأرض يوما واحدا؛ الموت! من لي به في هذه الساعة فأنجو من همومي وآلامي؟
فتهلل وجه قسطنطين غبطة وسرورا، ووقع في نفسه أن الرجل قد تلوم واستخذى، وبدأ يستفظع ذنبه ويستهوله، فترامى على عنقه واحتضنه إليه وظل يقول بنغمة الفارح المغتبط: أحمدك اللهم قد أنقذت لي أبي! فحنا أبوه عليه وظلا متعانقين ساعة لا يسمع فيها إلا تردد أنفاسهما، ونشيج بكائهما، ثم افترقا بغتة واشرأبا بأعناقهما حينما سمعا في لحظة واحدة حسيس جيش العدو وهو مقبل من ناحية الشمال، وكان ما سمعاه في هذه المرة حقيقة لا وهما، فارتجلا في وقت واحد حركتين مختلفتين؛ إذ وثب قسطنطين إلى الرابية وثبة عظمى ليضرم نارها، ووثب أبوه وثبة أعظم منها فاعترض سبيله وصرخ في وجهه: قف مكانك، لا تتقدم خطوة واحدة! فأصاب قسطنطين مثل الجنون وقال له: تنح عن طريقي، أيها المجرم الأثيم؛ فقد فرغ صبري، قال: إنك لا تستطيع أن تمر إلا على جثتي. فارتعد قسطنطين وبرقت عيناه وذهبت به الأفكار مذاهبها، وقال له: أي كلمة هائلة نطقت بها أيها الرجل الشقي؟! وأي قضاء قضيت به على نفسك؟! تنح عن طريقي؛ فإن نفسي تحدثني بأفظع ما تحدث به نفس صاحبها في هذا العالم، قال: إنك لا تستطيع أن تقتل أباك، قال: أستطيع أن أفعل كل شيء في سبيل وطني، إنني وقفت سيفي طول حياتي على خدمتك وحمايتك والذود عنك أيام كنت لوطنك وقومك، أما الآن فإني أغمد ذلك السيف نفسه في صدرك طيب النفس مثلوج الفؤاد؛ لأني أعتقد أني لا أغمده في صدر أبي، بل في صدر خائن وطني، قال: لا تنس أن لي يدا أقوى من يدك، وسيفا أمضى من سيفك، قال: إني لا أجهل ذلك، ولكنك تقاتل في سبيل الدناءة والخيانة، وأقاتل في سبيل الواجب والشرف، والله مطلع علينا من علياء سمائه، وهو الحكم العدل بيننا. فجرد برانكومير سيفه وهجم على ولده هجمة قوية، فجرد الآخر سيفه وتلقى ضرباته بأشد وأنكى منها، وما هي إلا جولة أو جولتان حتى حكم القاضي العادل حكمه؛ فسقط الظالم ونجا المظلوم!
فنظر قسطنطين إلى جثة أبيه الساقطة تحت قدميه نظرة جامدة صامتة لا يعلم ما وراءها، ثم أغمد سيفه وصاح بأعلى صوته: رحمتك اللهم؛ فإني لا أستطيع أن أفعل غير ما فعلت. ثم هجم على الرابية فأشعل نارها، فضاءت بها أرض البلقان وسماؤها.
وفي اليوم الثاني نشر الملك ميلوش على الأمة هذا البلاغ:
حاول العدو ليلة أمس تبييت جيوشنا وأخذها على غرة، وكاد يظفر بذلك لولا أن انتبهت الفرقة الأولى من الجيش ونهضت للدفاع بقيادة ضابطها العظيم قسطنطين برانكومير، فأبلت في المعركة بلاء عظيما، ووقفت العدو في مكانه ساعة كاملة، حتى نهضت بقية الفرق لمساعدتها، فدارت معركة هائلة بين الجيشين انتهت بانتصارنا وانهزام العدو إلى مواقعه الأولى، ولكن المصاب العظيم الذي عم الجيش وشمل الأمة بأسرها هو موت قائدنا العظيم «ميشيل برانكومير»؛ فقد وجد في أثناء المعركة قتيلا بضربة سيف في خاصرته بين صخور «تراجان» تحت القوس الروماني، وسيحتفل بتشييع جنازته غدا احتفالا عسكريا جليلا يليق بمقام شهيد الوطن وبطله العظيم!
أما الذي خلفه في قيادة الجيش، فهو ولده الضابط الشجاع منقذ الأمة والوطن «قسطنطين برانكومير».
الضمير
مضى الليل إلا قليلا وقسطنطين ساهر في فراشه لا يغمض له جفن، ولا يطمئن له جنب؛ لأن مصرع أبيه في شعب «تراجان» لا يزال ماثلا أمام عينيه ما يفارقه لحظة واحدة، وكان كأنه يرى الجثة بين يديه تتلوى وتتمرمر وتنظر إليه نظرات حادة ملتهبة، وكأن جرحها الدامي بين أضلاعها لا يزال يتدفق منه الدم، فثار من مكانه هائجا مذعورا، وحاول أن يطرد هذا الخيال عن نظره فلم يستطع، فمد يده إلى ذلك الجرح الموهوم الماثل أمامه يريد أن يعترض سبيل الدم المتدفق منه فغلبه على أمره، وازداد في تدفقه وانبثاقه حتى ملأ أرض الغرفة جميعها، وصبغ بلونه الأحمر القاني جميع ما فيها من فرش وأثاث وآنية وثياب، فاشتد فزعه وارتياعه، ولم يستطع أن يحتمل أكثر مما احتمل، فوقع مغشيا عليه.
وظل على ذلك ساعة حتى انفثأت حرارة دمه، فاستفاق من غشيته وجلس إلى نفسه يناجيها ويقول: إنني على ثقة من نفسي، لم أفعل إلا ما يجب على كل رجل شريف أن يفعله، فما هذا الخوف الذي يساورني؟ وما هذه الصور المخيفة التي تتراءى لي في يقظتي وأحلامي؟ كان يجب علي أن أضرب؛ لأنه ما من ذلك بد ففعلت، فلم أرتاب في عملي! ولم أرتعد ارتعاد المجرمين الآثمين؟ إن الرجل لا يخاف إلا ذنبه، وأنا لم أذنب إلى أحد؛ لأن الرجل الذي قتلته كان يريد أن يقتل أمة بأسرها فأنقذتها بقتله، بل أنقذت عشرين أمة من أمم المسيح في أوروبا؛ ألا يجوز للإنسان أن يقتل الأفعى دفعا لأذاها، والوحش كسرا لشرته، واللص اتقاء لضرره؟! إنني لم أفعل غير ذلك، فما لي أرى وجه السماء أحمر قانئا ليله ونهاره، وما لي أجد مذاق الدم في كل كأس أشربها من ماء أو خمر، وما لي لا أستطيع النظر إلى يدي خوفا ورعبا! إنني لم أقتل أبي، ولكني أحييته؛ لأنه إن كان يحيا اليوم في قلوب الناس حياة العظمة والمجد، وكان تمثاله إلها معبودا يطيف به الشعب، ويقبل أركانه، ويتبرك بلمسه واستلامه، وكان اسمه طغراء الأسماء الشريفة المسجلة في التاريخ، فإنما ذلك بفضل الضربة التي ضربته إياها، ولولا ذلك لعاش بقية أيام حياته عيش الأدنياء الساقطين، أو مات موت الخونة المجرمين.
وهنا انتفض واصفر وارفض جبينه عرقا، وقال بصوت ضعيف مختنق: نعم، إن ذلك كله صحيح لا ريب فيه، ولكنني قتلت أبي!
Página desconocida