الإهداء
مقدمة
مقدمة المؤلف
الجاسوس
قسطنطين
التاج
المؤامرة
الأمل
السر
الجريمة
الضمير
الأزهار
حديث
الدسيسة
التمثال
النهاية
الإهداء
مقدمة
مقدمة المؤلف
الجاسوس
قسطنطين
التاج
المؤامرة
الأمل
السر
الجريمة
الضمير
الأزهار
حديث
الدسيسة
التمثال
النهاية
في سبيل التاج
في سبيل التاج
تأليف
مصطفى لطفي المنفلوطي
الإهداء
إلى البطل المصري العظيم سعد زغلول باشا
تشرح هذه الرواية سيرة بطل من أبطال الوطنية العالية قد جمع الله له من صفات الشجاعة والثبات والعزيمة والغيرة والإخلاص والتضحية ما جمع لك منها، فائذن لي أن أهدي روايته إليك، وأن أقدم البطل البلقاني إلى البطل المصري لتأنس روح كل منكما بروح صاحبه وإن باعد بينكما الزمن، واختلفت بكما الدار، فإن تفضلت بقبول هديتي - وما أحسبك ضانا بذلك علي - فلتكن جائزتي عندك عليها أن تشهد لي بينك وبين نفسك أنني قد وضعت لبنة صغيرة في ذلك البناء الضخم الذي شدته لأمتك، ووطنك، وحسبي ذلك وكفى.
مصطفى لطفي المنفلوطي
أول يونيو سنة 1920
مقدمة
انصرفت عقول الكتاب والمفكرين في هذه الأيام وفي جميع البلاد إلى الاشتغال بالمسائل السياسية والمشاكل الاجتماعية التي أوجدتها الحرب الأخيرة، وانصرفت الأقلام وراء العقول تحاول إنارة السبيل لقادة الشعوب علهم يستطيعون إقالة هذا العالم من عثرته.
ولقد كان من جراء ذلك أن أهمل الأدب إهمالا نزل به إلى مرتبة دون التي كان يشغلها في نفوس القراء والمؤلفين، فانحط التأليف الأدبي انحطاطا قد يستمر ما استمرت حالة العالم على ما هي عليه.
ولم يكن تأثير هذه الأزمة الأدبية في مصر بأقل منه في غيرها؛ إذ انصرف معظم الأدباء عن فنهم - وعلى الأخص في السنة الأخيرة - إلى الاشتغال بقضيتنا السياسية الكبرى، فانقطع ظهور الكتب الأدبية أو كاد، وأوشكت مسارح التمثيل أن تغلق أبوابها لقلة ما يقدم إليها من الروايات، ورأت صحف الأدب ألا بقاء لها إلا إذا ولت وجهها شطر السياسة، فوقفت جل أعمدتها على شرح وتأويل ما يحمله إلينا البرق من الأخبار، وبذلك وقفت نهضتنا الأدبية منتظرة أن تمر العاصفة وتصفو السماء فتستأنف سيرها ويعود إليها عزها ونشاطها، بيد أن العناية الساهرة على الفنون قد أبت أن تذبل شجرة الأدب في مصر ولما تينع أزهارها، فلم تدع السياسة تستأثر بأقلام جميع الكتاب، بل أبقت للأدب أئمته وأنصاره، فلم يؤيسهم شغف الجمهور بسياسة العالم وانصرافه عن كل ما عداها، وظلوا رافعين لواء فنهم في وسط الزوابع والأعاصير عالمين أن الأدب أفيد غذاء لروح الأمة وعقلها، وأكبر مهذب لإحساسها وشعورها.
في طليعة هذا النفر من أئمة الفن وخدامه لا أتردد في ذكر اسم السيد «مصطفى لطفي المنفلوطي» الذي لم يبخل على قرائه العديدين بأويقات فراغه، فوقفها على الكتابة والتأليف، ولم تحل أعمال وظيفته الحكومية بينه وبين أن يخرج للناس بضعة مؤلفات قيمة، آخرها هذه الرواية الشيقة الممتعة «في سبيل التاج» التي نقدم اليوم طبعتها الرابعة إلى جمهور القارئين. •••
فرانسوا كوبيه مؤلف «في سبيل التاج» شاعر عرك صروف الزمان، وجس بأصبعه مصائب الإنسان، فلم تزد قلبه مناظر البؤس والفاقة إلا لينا وحنانا، حتى إن القارئ لا يرى في شعره إلا عبرة حارة أرسلتها عيناه إشفاقا وحنوا على الذين تخطتهم السعادة وغضبت عليهم الحياة، حتى لقبه عارفوه بحق «معزي المنكودين والبائسين، وشاعر الضعفاء والمحزونين.»
ولد كوبيه سنة 1842، ولم تمكنه بنيته السقيمة من تتميم دراسته، فانقطع عن تلقي الدروس في معاهد العلم، وانصرف إلى قراءة الكتب والاطلاع على أوضاع الأقدمين، وكان يشعر بميل شديد غريزي إلى الشعر، فنظم منه بضع قصائد لم تصادف إعجابا من الذين أسمعهم إياها، فرأى أن النار أحق بها من المطبعة، فأحرقها، وطلق الشعر وهجر الأدب، وسعى حتى حصل على وظيفة في الحكومة استولى عليها ظنا أنه لم يخلق لصناعة القلم، وأن رغبته في الشعر ما هي إلا نزعة مفتون تصبو نفسه إلى ما لا قبل له به ولا طاقة له عليه.
بيد أن الفطرة ما لبثت حتى غلبت اليأس في نفس الشاب، فعاد إلى القصائد ينظم منها اليوم ما يمزقه في الغد، حتى وفق لكتابة «صندوق البقايا المقدسة»
Le Reli
، ونشره بين الناس، فصادف رواجا وإقبالا شجعاه على الاستمرار والمثابرة، وزاد تشجيعا أن صارت بعض منظوماته تتلى على المسارح وفي الحفلات. وما زالت شهرته تنمو حتى اهتمت بشأنه إحدى الممثلات الشهيرات (مدام أجار)، ورأت فيه قابلية للتأليف التمثيلي، فنصحت إليه بكتابة شيء للمسرح، فعمل بنصيحتها وكتب «عابر السبيل»
Le Passant ، وهي رواية ذات فصل واحد، ما كادت تظهر حتى تخاطفتها المسارح ومثلتها «سارا برنار»، فطار صيت المؤلف الشاب وذاعت شهرته، وأقبل عليه مديرو المسارح يلتمسون منه المزيد.
ومن سنة 1868 نشر كتبا شعرية متتابعة أهمها «المودات»
Intimitês
و«اعتصاب الحدادين»، و«المتواضعون»، وبعض قصص نثرية، منها: «المجرم»
Toueune ، و«شبوبيه»
Jeunesse ، وكثير من الروايات التمثيلية، نخص بالذكر منها: «عواد كريمون»
Le Luthier de Grêmone ، و«مدام ده مانتنون»، و«سيفير ونوريلي»، و«في سبيل التاج».
وفي عام 1884 انتخب عضوا بمجمع علماء فرنسا، ثم انكب على السياسة وسار فيها شوطا بعيدا كاد ينسيه الشعر والأدب، وتوفي سنة 1908 وهو رئيس فخري لجمعية الوطن الفرنساوية.
هذا ملخص حياة ذلك النابغة الذي امتاز على أقرانه بأنه لم يقلد أحدا من الأوائل ولا من المعاصرين - والتقليد لا يكاد ينجو منه شاعر من الشعراء - وبأن معظم المواضيع التي طرقها كانت إلى عهده جديدة لم يتقدم إليها قبله أحد من المؤلفين، ولقد قال عنه أناتول فرانس ما معناه:
إن نفثات قلم هذا الشاعر قد أثرت في جميع القلوب وتمكنت منها؛ لأن أساسها الطبيعة، وأحسن ما يبرع في الكتابة عنه ويصل فيه إلى أعلى طبقات البلاغة ما كان له مساس بالمشاعر والأخلاق الاعتيادية والحقائق الواقعة. وهذا النوع من الكتابة لا يتيسر إلا لأصحاب الأذواق السليمة والذكاء المتوقد الخارق، وهو يحتاج إلى مهارة فائقة وبراعة زائدة، فإن أقل خطأ فيه لا يلبث أن يبدو للعيان مجسما، وإن في استطاعة كل إنسان مهما كانت منزلته من العلم أن يفهم هذا الشاعر ويتأثر بأغراضه ومراميه، ولكن لا يستطيع أن يسبر كنهه ويتذوق طعم أدبه إلا من رزق حظا وافرا من العلم والذوق السليم، وبالجملة فقراء هذا الشاعر كثيرون جدا، ومن جميع الطبقات، ولكن قراءه الحقيقيين قليلون.
أما رواية «في سبيل التاج» التي نحن بصددها فمأساة شعرية تمثيلية وضعها المؤلف في سنة 1895، وأراد أن يجاري بها عميدي الشعر التمثيلي في القرن السابع عشر: كورني وراسين، وهي رواية أخلاقية بطلها فتى تعارضت في نفسه عاطفتان قويتان: حب الأسرة، وحب الوطن، فضحى بالأولى فداء للثانية، ثم ضحى بحياته فداء لشرف الأسرة. ولقد تجلت في هذه المأساة عبقرية الشاعر ومواهبه الكبيرة، فالأسلوب سهل ممتنع، والأفكار متسلسلة متماسكة، والوقائع جلية واضحة، وأخلاق أشخاص الرواية تفسرها أقوالهم وحركاتهم، فلا غموض فيها ولا إبهام.
ولقد ذهب النقاد في تقدير هذه المأساة مذاهب شتى، حتى قال بعضهم: إنها خير ما أخرج للناس من عهد راسين إلى يوم ظهورها.
قال الأستاذ «إيميل فاجيه» العضو بالمجمع العلمي الفرنساوي عن هذه الرواية في الجزء الثالث من كتابه «آراء في التمثيل» ما معناه:
إذا نظرنا إلى ما في الفصول الثلاثة الأولى من القوة والمتانة والوضوح مع البيان والبلاغة وحسن التصوير، أمكننا أن نحكم بأن هذه الرواية ستمثل إلى ما شاء الله بدون أن يملها الجمهور أو يشعر بسأم من سماعها، وأن «فرانسوا كوبيه» بكتابته للفصل الثالث منها على الأخص قد ضمن لذكراه الخلد في ذاكرة الأجيال المقبلة، وهو الفصل المعنون في التعريب بعنوان «الجريمة».
وقال الأستاذ «جول لومتر» العضو بالمجمع العلمي الفرنساوي في الجزء التاسع من كتابه «خواطر في التمثيل» - بعد أن أطنب في وصف شاعرية كوبيه وفي تقدير مواهبه: إن رواية «في سبيل التاج» لهي من صنع فتى قدير وشاعر عظيم، ورجل ذي ضمير حي وقلب كبير، وإذا كان فيها بعض النقص فهذا النقص لم يخل منه كورني ولا فيكتور هوجر ولا غيرهما من كبار الفنيين.
وقال في موضع آخر من نفس الكتاب: إن المشاهد لتمثيل رواية «في سبيل التاج» ليشعر منذ الهنيهة الأولى براحة واطمئنان، ثم لا يلبث حتى يتأكد أنه سيشاهد عملا متقنا وفنا نظيفا، ولقد يكون أحسن ما في هذه القطعة تنسيق الأفكار، وتحليل العواطف، وترتيب الحوادث، وتصوير النفوس والأشخاص.
هذا رأي كبيرين من زعماء الحركة الأدبية في فرنسا، نورده هنا ليعلم القراء منزلة هذه الرواية من نفوس الأدباء في الغرب ومبلغ تقديرهم لمؤلفها.
ولقد تناول السيد مصطفى لطفي المنفلوطي هذه المأساة، ونقل موضوعها إلى اللغة العربية في قالب روائي جميل بعد أن أضاف إليها أشياء وحذف منها أخرى، وأخرجها لقرائه قصة يستهوي أسلوبها القلوب، وتسترعي وقائعها الألباب، بقلم عذب، وعبارة رقيقة، وديباجة بديعة لا نطيل الكلام في وصفها؛ لأن قراء العربية جميعا يعرفونها لهذا الكاتب العظيم، ويعترفون له بها، ولم يفته أن ينقل إلى العربية قطعا كاملة من الرواية يستطيع القارئ أن يتبين منها قوة المؤلف، ومع أن الرواية ملخصة تلخيصا، فقد استطاع الكاتب بمهارة فائقة أن يصور الروح الأصيلة للمؤلف تصويرا مؤثرا، وأن يملك من نفوس قراء العربية ما ملكه فرانسوا كوبيه من نفوس قراء الفرنسية.
ولا يفوتنا هنا أن نقول: إن الكاتب قد اشتغل بتلخيص هذه الرواية في إبان الحركة الوطنية الأخيرة، ولقد أوحت إليه الحوادث السياسية التي لا تزال ماثلة في الأذهان صفحات تفيض وطنية وغيرة، حتى لكأنه قد أفضى إلى أمته في هذا الكتاب بكثير مما لا يستطيع كتابته في الصحف السياسية، والحق أقول: إننا كثيرا ما كنا نعتب عليه في سكوته عن الاشتراك بقلمه مع العاملين في هذه الحركة حتى قرأنا هذه الرواية، فإذا روحه الوطنية الشريفة تسيل فوق صفحاتها سيلا، وإذا الرواية رواية الحركة الحاضرة بجميع ظروفها ومتعلقاتها.
وبالجملة فرواية «في سبيل التاج» كتاب الوطنية الخالدة في ثوب قصة خيالية تملك لب القارئ بجمالها، وتتولى تهذيب نفسه بآدابها وفضائلها، وما أحوجنا أن تجري الأقلام الأدبية في هذا العصر بمثل ما جرى به قلم السيد المنفلوطي في هذه المأساة المؤثرة؛ ليتلقى النشء الحديث دروس وطنيته من طريق العواطف والوجدان، وقلما تصل الوطنية إلى أعماق القلوب وتتغلغل في شغافها إلا من هذا الطريق.
حسن الشريف
أول يونيو سنة 1920
مقدمة المؤلف
لا يزال التاريخ يحفظ في صفحاته حتى اليوم تلك الوقائع الحربية الهائلة التي وقعت في القرن الرابع عشر بين الدولة العثمانية والشعوب البلقانية أيام أغارت الأولى على الثانية تريد افتتاحها والاستيلاء عليها، فدافعت الثانية عن نفسها دفاعا مجيدا استمر زمنا طويلا حتى غلبت على أمرها فسقطت في يد القوة القاهرة، ودخل الترك أرض البلقان وحولوا كنائسها إلى مساجد، وفرضوا على أهلها الإتاوات الثقيلة، وعزلوا ملكها الذي كان يحاربهم ويناوئهم، وملكوا عليها ملكا من أهلها اسمه «ميلوش»، فلبثت في حكم الأتراك عهدا طويلا عانت فيه من ضروب الذل والهوان ما يعانيه كل شعب مغلوب على أمره، حتى قيض الله لها رجلا من رجال الدين المخلصين اسمه الأسقف «أتين» عز عليه ضياع بلاده وسقوطها في يد أعدائها، وأن تتحول فيها الكنائس إلى مساجد، وتجأر في أرجائها أصوات المؤذنين بدلا من أصوات النواقيس، وألا يجد المسيحيون في عقر ديارهم مكانا يؤدون فيه فروض صلواتهم غير الصحارى والفلوات، فأخذ يتنقل في أرجاء البلاد، ويمشي بين شعوبها وقبائلها يدعو باسم الدين مرة والوطنية أخرى، ويستنهض همم الرجال للدفاع عن وطنهم وتحرير بلادهم من يد ذلك القاهر المغتصب، حتى جمع كلمة الأمة كلها من حوله على اختلاف عناصرها ومذاهبها، وكذلك تتفق كلمة الأمة أمام الخطر الداهم والقضاء الشامل.
ثم أشار على ملكه أن يخلع طاعة الترك، ويطرد رعاياهم من بلاده، ويمتنع عن دفع الجزية والإتاوة، وينادي بحرية البلقان واستقلاله، فجبن الملك عن ذلك في أول الأمر، ثم أسلس له وأذعن لرأيه، ففعل ما أشار به عليه، فأحقد ذلك الترك وآسفهم، واستثار حقدهم وضغينتهم، فوجهوا إلى البلاد البلقانية جيشا عظيما وافر العدة والعدد بقيادة أحد أبطالهم العظام أرطغرل باشا، فثار البلقانيون جميعا رجالا ونساء للدفاع عن أنفسهم والذود عن وطنهم، واختاروا لقيادة جيشهم القائد البلغاري العظيم الأمير ميشيل برانكومير، فظل يحارب الأتراك عدة أعوام يدال له عليهم فيها ويدال لهم عليه، ولكنهم لا يستطيعون اجتياز حدود بلاده واقتحام جبالها، حتى عي القائد التركي بأمره، ورأى ألا حيلة له فيه إلا من طريق الدسيسة والكيد، وكذلك فعل.
الجاسوس
اجتمع جنود الفرقة البلقانية ذات ليلة في معسكرهم يشربون ويطربون ويرقصون على نغم قيثار الموسيقار البوهيمي المسكين «بانكو»، الذي كان يفد إلى معسكرهم كل ليلة يغنيهم قطعا حماسية مؤثرة يذكرهم فيها بمجد وطنهم وتاريخه العظيم، فيرقصون على غنائه ويطربون ويحسنون إليه بما فضل من زادهم وشرابهم، ثم جلسوا بعد فراغهم يتحدثون في شأن ذلك الحادث العظيم الذي حدث في بلادهم منذ أيام، وهو موت الملك ميلوش، وعزم الجمعية الوطنية على الاجتماع للنظر فيمن يخلفه على العرش من بعده، فانقسموا في رأيهم قسمين: فريق يرى اختيار الأسقف أتين، وفريق يرى اختيار القائد برانكومير، فقال الجندي الروماني «أورش» - وهو من أشياع الأسقف وأنصاره: «نعم، إن النصر قد تم لنا على يد قائدنا العظيم ميشيل برانكومير، ولكن من الذي مهد له النصر وأعد له عدته قبل أن يعقد له اللواء على الجيش؟ أليس الأسقف أتين؟
من الذي ينكر أن ذلك الرجل التقي الصالح هو الذي طاف البلاد من أقصاها إلى أقصاها عشرة أعوام كاملة يستنهض الهمم، ويستثير حفائظ النفوس، ويستحيي ميت العزائم، ويهيج عاطفة الثأر والانتقام في نفوس الرجال والنساء والفتيان والفتيات، ويلقي على تلاميذ المدارس في مدارسهم أناشيد الحرية والوطنية، فيستظهرونها مع دروسهم، ويتغنون بها في مسارحهم وملاعبهم، ومغداهم ومراحهم؟
من الذي ينكر أنه هو الذي علم الشعب البلقاني دروس الوطنية الشريفة العالية، وغرس في قلوبهم أن الحياة الذليلة خير منها الموت الزؤام، وأن الحرية حياة الأمم وروحها، والرق موتها وفناؤها، وأن الأمة التي ترضى بضياع حريتها واستقلالها، وتقبل أن تضع يدها في يد غاصبها إنما هي أحط الأمم وأدناها وأحقها بالزوال والفناء؟
ولم يزل يفيض على نفوسهم من نفسه تلك الروح الوطنية العالية، ويملي عليهم أمثال هذه الآيات الذهبية الشريفة، حتى صفت ضمائرهم من أدران الذل والمهانة، وأدركوا من معنى الحياة ما لم يكن يدركه آباؤهم من قبل، فأصبحوا كما تراهم اليوم حماة الوطن وذادته، يبذلون في سبيله من ذات أيديهم وذات نفوسهم ما لا يبذل مثله إلا الأمم الراقية الشريفة في سبيل الذود عن مجدها، والدفاع عن حريتها واستقلالها، ويتقدمون إلى الموت زرافات ووحدانا، فرحين متهللين كأنهم ذاهبون إلى مراقص «فيدين» وملاعبها؛ لأنهم يعلمون أن قطرات الدماء التي يبذلونها في سبيل حريتهم واستقلالهم إنما هي المداد الأحمر الذي تسجل لهم به في صفحات تاريخهم آيات المجد والفخار، وأن الأشلاء التي ينثرونها في تربة وطنهم ثم يسقونها من دمائهم إنما هي البذور الطيبة التي تنبت لبلادهم المستقبل الحر الشريف.
من منا يجهل أنه هو الذي استطاع وحده من بين أبناء البلقان جميعا أن يقف أمام ملكه وقفة الأسد الهصور، ويصيح في وجهه قائلا له: «حتى متى أيها الملك الضعيف المهين تبيع وطنك وأبناءه لأعدائك وأعدائه بيع السلع المعروضة في حوانيت التجار بأبخس الأثمان وأدناها؟ وإلام تضع هذه السلاسل والأغلال في أعناق أبناء أمتك لتقودهم بها إلى حيث يمرغون جباههم الشريفة تحت مواطئ أقدام ذلك العدو المغتصب صاغرين ضارعين، ثم تزعم بعد ذلك أنك ملك عظيم جالس على عرش شريف؟ ولو حققت أمرك لعلمت أنك نخاس على عرش شريف، ولو حققت أمرك لعلمت أنك نخاس دنيء يبيع الرقيق في سوق النخاسة، بل أدنى من نخاس؛ لأن النخاس لا يتجر في أبناء أمته، ولا في أفراد أسرته!» فاهتز الملك لكلمته هذه اهتزاز القصبة الجوفاء بين مهاب الرياح، وطأطأ لها رأسه إجلالا وإعظاما، ولم يلبث أن عزم عزمته الشريفة التي ترونها اليوم، والتي أنقذت الوطن من العار، ورفعته إلى ذروة المجد والفخار.»
وهنا ضج القوم جميعا ضجة السرور والاستحسان وصاحوا: أحسنت يا أورش، أحسنت إحسانا عظيما، إلا نفرا قليلا من أشياع القائد وصنائعه، فإنهم امتعضوا لهذه الكلمة وغصوا بها، وقام أحدهم - واسمه لازار، وكان الحارس الخاص لقصر القائد وأمينه، وموضع ثقته وثقة زوجته الأميرة بازيليد - وطلب الإذن في الكلام، فأذنوا له، فقال: «إني لا أريد أن أعترض على صديقي أورش في كلمته التي قالها في فضل أسقفنا العظيم وأثره الجليل في خدمة الدين والوطن، ولكن الذي أراه وأستصوبه أن لرجال الدين شئونا خاصة بهم لا يجمل بكرامتهم أن يتعدوها إلى غيرها من أعمال الحياة، وإني أضن بأسقفنا العظيم أن تشغله مشاغل الملك وملاهيه عن شئون الدين التي تصبو لها نفسه طول حياته. والرأي الذي أراه أن يعهد الملك إلى القائد ميشيل برانكومير ليقود الأمة جميعها بتلك السياسة الحكيمة الرشيدة التي قاد بها الجيش، ورفعه إلى مناط السماك الأعلى.» فاعترضه جندي كان جالسا على مقربة منه وقال له: «ولم لا تضن بالقائد ميشيل أن تشغله مشاغل الملك وملاهيه عما هو بسبيله من قيادة الجيش وتدبير شئونه؟» فأجاب: «إن قيادة الجيش وزعامة الملك أمران متشابهان؛ لأنهما يتعلقان بشئون الحياة وأعمالها، أما الشئون الدينية فلا علاقة لها بالشئون الدنيوية بحال من الأحوال؛ فدعوا الكاهن مستريحا في معبده، مستغرقا في صلواته وعباداته، واختاروا لملككم رجل الأمة وبطلها وحامي ذمارها وحماها الأمير برانكومير.» فعلت أصوات الصاخبين والصائحين، والمستحسنين والمستهجنين، وذهب كل في صيحته المذهب الذي يراه ويتشيع له.
وإنهم لكذلك إذا بصوت صارخ في وسط هذه الضوضاء يقول: «استمعوا مني أيها القوم كلمة واحدة هي فصل الخطاب في قضيتكم هذه، ولا أطلب إليكم أن تستمعوا مني سواها.» فالتفت الجميع فإذا الضابط «ألبير» - وهو جندي شيخ عرف القائد برانكومير صغيرا وخدمه كبيرا، وعاش معه في منزله في عهد زوجته الأولى كأنه أحد أفراد أسرته، ولم يفارقه إلا منذ عامين اثنين؛ أي بعد وفاة زوجته بأيام قلائل - فأنصتوا إليه فإذا هو يقول: «أنتم تعلمون جميعا صلتي بالقائد برانكومير ومكانتي عنده، وإني أعرف من شئونه الخاصة والعامة ما لا يعرفه أحد غيري، ولقد عرفت فيما عرفت من خلائقه وسجاياه بعد تجربة عشرين عاما قضيتها في خدمته، أنه أبعد الناس جميعا عن مطامع الحياة ومظاهرها، وأرغبهم عن سفاسف الأمور ودناياها، وأنه جندي صميم معتز بجنديته وشظفها وخشونة العيش فيها، لا يؤثر عليها أي مظهر من مظاهر الحياة مهما علا شأنه وغلت قيمته؛ فمن ظن منكم أنه يرضيه ويجامله بترشيحه لمنصب الملك بين أشراف البلقان وسادته؛ فهو غير القائد برانكومير.» فهدأت الأصوات وسكنت الضوضاء عند سماع هذه الكلمة الهادئة الرزينة التي ينطق بها جندي شريف صادق ، وكادت تكون فصل الخطاب في القضية، لولا أن «أورش» - وهو ذلك الجندي المتشيع للأسقف والداعي له - قد نهض من مكانه مرة أخرى، ونظر إلى الجندي «ألبير» مبتسما ابتسامة الهزء والسخرية، وقال له: «نعم يا سيدي، إنك صادق فيما تقول، ولم تزد حرفا على ما تعرف ولم تنقص، ولكن ائذن لي أن أقول لك: إنك إنما تحدث في كلامك عن الماضي القديم الذي حضرته وشاهدته، أما الحاضر فلا تعرف منه شيئا، فإن أذنت لي حدثتك عنه وقلت لك: إن الأمير برانكومير اليوم غيره بالأمس، وإن تلك النفس العالية المترفعة التي كنت تعرف بالأمس مكانها من بين جنبيه قد استحالت اليوم إلى نفس تواقة متطلعة، تصبو إلى المعالي وتفتتن بالعروش، وإنه هو الذي يدعو بنفسه إلى نفسه، ويرسل الدعاة في كل مكان لتأييده ومساعدته على نيل الملك.» فاستطير ألبير غضبا وقال: «أتريد أن تقول: إن أخلاق قائدنا قد تغيرت، وإنه قد أصبح رجلا صغير النفس متبذلا؟» قال: «لا، ما إلى هذا ذهبت، ولكني أريد أن أقول: إنه قد أصبح منقادا في شئون حياته لرأي غيره لا لرأي نفسه، وربما لو ترك وشأنه لكانت له في حياته خطة غير هذه الخطة التي ينتهجها اليوم.»
فانتفض القوم واضطربوا ونظر بعضهم في وجوه بعض، ومشت الهمسات بين الأفواه والآذان، وسمع الخطيب اسم قسطنطين يتردد مرارا في أفواه الهامسين، فصاح في القوم: «أنتم مخطئون جميعا فيما تذهبون إليه، فإن ابن قائدنا وزهرة شبيبتنا وضابط فرقتنا أعلى همة مما تظنون.» فصرخ لازار: «قل من هو الشخص الذي تريد؟» فجلس أورش ولم يقل شيئا، إلا أنه همس في أذن جندي كان بجانبه: «الزوجة الجديدة!» فسرت هذه الكلمة بين الجموع سريان الكهرباء في أسلاكها حتى بلغت مسمع الموسيقار بانكو، فبرقت لها عيناه بريق الفرح والسرور؛ لأنه لم يكن موسيقارا بوهيميا كما زعم، ولم يكن اسمه بانكو كما يسمونه، بل هو الضابط المشهور إبراهيم بك، أحد أركان حرب القائد التركي العظيم أرطغرل باشا، وقد وجد في هذه الكلمة التي سمعها ما كان يريد أن يكون، وعثر بالثلمة التي ينحدر منها إلى أغراضه ومآربه.
وما أوى القوم إلى مضاجعهم، وأخذ النوم بمعاقد أجفانهم حتى دب ذلك الجاسوس المتنكر على يديه حتى بلغ مضجع الجندي لازار، حارس قصر القائد وموضع ثقته وأكبر أشياع زوجته وأنصارها، فاضطجع بجانبه، وظل يهمس في أذنه ساعة طويلة كان يتردد فيها اسم الأميرة بازيليد زوجة القائد الجديدة، حتى تم لهما الاتفاق على ما يريدان، ثم أسلما عيونهما إلى الكرى فناما.
قسطنطين
توفيت زوجة الأمير برانكومير منذ عامين، وكانت امرأة من النساء الصالحات القانتات ذوات النفوس العالية والهمم الكبرى، فورث ابنها قسطنطين عنها هذه الأخلاق الكريمة، كما ورث عن أبيه صفات الشجاعة والعزيمة والصبر واحتمال المكاره في سبيل خدمة الوطن والأمة، فكان خير ابن لخير أب وأم، وكان يد أبيه اليمنى ودرعه الواقية الأمينة في جميع وقائعه ومشاهده، حتى ذاع صيته في جميع أنحاء المملكة، وأحبه الشعب والجند حبا كاد يرفعه إلى ما فوق منزلة أبيه، لولا حرمة الأبوة وجلال الشيخوخة ومكان التاريخ، فلما ماتت أمه تزوج أبوه من بعدها فتاة يونانية اسمها بازيليد، يقال: إنها من سلالة قياصرة بيزنطية «القسطنطينية».
وهي فتاة جميلة ساحرة تستهوي القلوب وتختلب الألباب، ذات نظرات غريبة لامعة يقضي المتفرس فيها حين يراها أنها نظرات مريبة ألفت الاختلاب والافتتان من عهد بعيد، فنزلت من قلب القائد الشيخ منزلة لم ينزلها منه أحد من قبلها ولا من بعدها، حتى زوجته الصالحة وولده النجيب، فأصبح مستهاما بها، مستسلما إليها، لا يصدع إلا بأمرها، ولا يصدر إلا عن رأيها، ولا يرى حلو العيش وجماله إلا بجانبها، ولا يستروح رائحة السعادة والهناء إلا إذا هبت عليه من ناحيتها.
وكانت امرأة طموحا متطلعة لا يعنيها من شئون حياتها إلا مظاهر السؤدد والعظمة، ولا يغلب على مشاعرها وعواطفها إلا ذكرى تاريخ آبائها وأجدادها، ومصارع قومها في «بيزنطية» بيد الأتراك الفاتحين، وكانت لا تزال تتحدث في مجالسها العامة والخاصة بنبوءة قديمة تنبأ لها بها بعض المتنبئين، ومجملها أن كاهنا عرافا دخل منزل أبيها وهي طفلة لعوب لا تزال تحوم حول مهدها، فنظر إليها طويلا ثم قال لأمها: إن ابنتك هذه ستكون ملكة عظيمة الشأن في مستقبل أيامها. وربما كان اهتمامها بهذه النبوءة واحتفالها بها وتصديقها إياها هو السبب في قبولها الزواج من شيخ هرم مدبر قلما يعنى بمثله مثلها، على أمل أن تحقق لها الأيام على يديه آمالها وأمانيها.
فظلت تغرس في نفسه هذه الأمنية الجميلة المحبوبة مدة من الزمان، وتسقيها بماء حسنها وجمالها، حتى ملأت بها فضاء قلبه، وشغلته بها عن كل شاغل سواها.
ولم يزل هذا شأنها معه حتى مات الملك ميلوش، وجاءت الساعة التي تنتظرها، فهتفت به: ها قد حانت الفرصة التي كنا نرقبها، وها قد بدأت تتحقق نبوءة ذلك العراف الخبير التي تنبأ لي بها، وما هو بالكاذب ولا المتخرص. ثم زجت به في طريق مزاحمة الأسقف أتين على الملك، فانقاد لها ومشى في الطريق التي رسمتها له، وأخذ يدعو الناس لنفسه، ويستكثر من سواد أشياعه وأنصاره، ويداخل أعضاء الجمعية الوطنية ويداهنهم ويتوسل إليهم أن يساعدوه على نيل أمنيته التي يرجوها، مدلا بمكانته من خدمة الأمة والوطن، وأياديه في الذود عنهما، وبما بذل من صحته وشبابه في مقاتلة الأعداء ومدافعتهم تلك السنين الطوال حتى اشتعل رأسه شيبا، ولمست قدماه رأس المنحدر المؤدي إلى القبر.
هذا ما كان يشغل القائد وزوجته في ذلك التاريخ، أما ابنه قسطنطين فكان بمعزل عن هذا كله، فإن وفاة أمه التي كان يحبها حبا شديدا تركت في نفسه أثرا من الحزن لا يبلى، وملأت فضاء حياته هما ونكدا، وكان يجد بعض العزاء عن ذلك الهم الذي نزل به في حنان أبيه عليه وعنايته به، حتى تزوج من تلك المرأة اليونانية وأسلم إليها نفسه وقلبه، ففقد بفقد عطف أبيه عليه وحنان أمه كل أمل له في الحياة، وأصبح يشعر في نفسه بذلة اليتم التي يشعر بها أولئك المساكين المنقطعون الذين لا يجدون بين أيديهم قلوبا راحمة، ولا أفئدة عاطفة!
فكان يخاطر بنفسه في المعارك التي يحضرها مخاطرة اليائس المستقتل، راجيا أن يريحه الموت من هموم نفسه وآلامها، فزج بنفسه ذات يوم في معركة كبرى استبسل فيها استبسالا عظيما، واستقتل معه جنده يطلبون الموت حيث يطلبه، فلم يبلغ أمنيته التي يتمناها، ولكنه انتصر في تلك المعركة انتصارا باهرا، وأنقذ من يد الترك شعب «تراجان» - وكان الملجأ العظيم لهم، والمركز الأكبر لحركاتهم وأعمالهم.
وإنه ليتأثر الجيش المنهزم ويشتد في أعقابه إذ لمح على البعد فارسا تركيا قابضا بيده على شعر فتاة مسكينة؛ يريد اقتسارها وإكراهها على الركوب معه، وهي تمتنع وتتأبى وتحاول الإفلات من يده، فيضربها بسوطه ضربا مؤلما وجيعا، فأزعجه هذا المنظر وآلمه، فركض جواده حتى أدرك ذلك الفارس فضربه على هامته بسيفه ضربة قضت عليه، فركعت الفتاة بين يديه ضارعة تسأله أن ينقذها من شقائها ويقودها معه إلى حيث يشاء، فرثى لحالها وأحزنه منظرها دون أن يعلم من أمرها شيئا، فأردفها خلفه وركض بها حتى بلغ موضع الخيام، فتركها بين الأسرى، وعاد من تلك الموقعة ظافرا منصورا يهنئه الشعب ويهتف له في كل مكان يمر به، حتى وصل إلى القلعة الكبرى، فدخل على أبيه وألقى بين يديه الأعلام التي غنمها في المعركة، فأمر برانكومير بقتل الأسرى، وكان ذلك شأنه فيهم كلما قدموا إليه، حتى جاء دور الفتاة، فجثت بين يديه ومدت إليه يدها مستغيثة تطلب العفو وتقول له: إنها فتاة نورية مسكينة لا شأن لها في الحرب ولا علاقة لها بأهله، وإن أمها باعتها منذ عامين من جندي تركي أساء عشرتها وعذبها عذابا أليما، حتى قيض الله لها هذا الفتى الكريم فاستنقذها من يده. وأشارت إلى قسطنطين.
فركع قسطنطين بجانبها وسأل أباه العفو عنها وقال له: إنني قد أنقذت حياتها بالأمس، فأنقذ أنت حياتها اليوم واجعلها حصتي الوحيدة من الغنيمة، وأعدك أني لا أطلب غنيمة سواها. فأحفظ ذلك قلب الأميرة بازيليد زوج أبيه، وكانت حاضرة تسمع حديثه، فنظرت إليه نظرة الازدراء والاحتقار - وكان هذا شأنها معه كلما التقت به - وأنشأت تنعي عليه اهتمامه بشأن فتاة نورية راقصة طريدة غابات وفلوات، وربيبة حانات ومعسكرات، وقالت له: لقد كان جديرا بك وأنت ذلك الجندي الشريف سليل ذلك القائد العظيم، والأمير الجليل، أن تلقي بمثلها إلى حارس من حراس بابك، أو جندي من جنودك يتلهى بها كما يتلهى الكلب بالعظمة المطروحة تحت أرجله، بدلا من أن تصل حياتك الشريفة الطاهرة بحياتها الدنيئة الساقطة!
فثارت ثورة الغضب في نفسه، وأضغنه عليها هذا الرياء الكاذب، والشرف المتكلف، وكان يعلم من شئون نفسها وخبايا قلبها ما لا تظن أنه يعرف شيئا منه، فنظر إليها نظرة شزراء ملتهبة، وقال لها وهو يعلم أن ما سيقوله سيغضبها ويؤلمها ويملأ صدرها غصة وحنقا: إن الله لم يخلق الضعفاء والمساكين ليكونوا ترابا لنا تدوسه أقدامنا، وتطؤه نعالنا كلما وجدنا إلى ذلك سبيلا، ولم يمنحنا القوة والعزة لنتخذ منهما أسواط عذاب نمزق بها أجسامهم، ونستنزف بها دماءهم، وكل ذنوبهم عندنا أنهم أذلاء مستضعفون لا يملكون من القوة والعزة مثل ما نملك، ولا يذودون عن أنفسهم بمثل ما نذود، وأحسب أنهم لو كانوا أقوياء أو أعزاء مثلنا، أو أعز وأقوى منا؛ لخفناهم واتقينا جانبهم، ونظرنا إليهم بعين غير العين التي ننظر بها إليهم اليوم؛ لأن القوي الذي يتنمر على الضعفاء لا بد أن يكون جبانا ذليلا أمام الأقوياء.
إننا الآن في حرب مع عدو قاهر جبار ننقم منه جوره وظلمه واستضعافه إيانا، واستطالته علينا بقوته وكثرته، فجدير بنا ألا نفعل ما ننقمه منه ونأخذه به، عسى أن يرحمنا الله وينظر إلينا بعين عدله وإحسانه، وينتصف لضعفنا من قوته، وقلتنا من كثرته!
إنا لا نحمل هذه السيوف على عواتقنا لنقتل بها النساء والأطفال والضعفاء والعزل الذين لا سلاح لهم ولا قوة في أيديهم، بل لنقارع بها الأبطال والأكفاء في ميادين الحروب ومواقف النزال.
إني لا أعرف شرفا غير شرف النفس، ولا نسبا غير نسب الفضيلة، وإن هذه البائسة المسكينة التي تحتقرونها وتزدرونها لم تصنع ذنبها بيدها، ولا سعت إليه بقدمها، بل هكذا قدر لها أن تنبت في هذا المنبت القذر الوبيء، فوبئت وقذرت، وليس في استطاعتها أن تعود إلى العدم مرة أخرى لتخلق نفسها خلقا جديدا في جو غير هذا الجو، وتربة غير هذه التربة، فما هو ذنبها؟ وما هي جريمتها؟ وأي حيلة لها في هذا المصير الذي ساقها القدر إليه؟
إنما الإثم على الذين يقترفون الذنوب وهم يعلمون مكانها من الرذيلة، ومكان أنفسهم من اقترافها، ويحولون زمام حياتهم بأيديهم من طريق الخير إلى طريق الشر، إيثارا لها وافتتانا بها، أولئك هم الآثمون المذنبون الذين يجدر بنا أن نقسو عليهم ونشتد في مؤاخذتهم. أما الضعفاء والمساكين الذين لا حول لهم في شأن أنفسهم ولا حيلة، فهم برحمتنا وعطفنا أحق منهم بعتبنا ولومنا، فإن وجدنا السبيل إلى معاونتهم ومساعدتهم واستنقاذهم من وهدة الشقاء التي هووا فيها فذاك، أو لا؛ فلندعهم وشأنهم تذهب بهم المقادير حيث شاءت من مذاهبها، ولا نزدهم بكبريائنا واستطالتنا بؤسا على بؤسهم، وشقاء على شقائهم.
إننا ما أصبنا بما أصبنا به من هذه النكبة الشعواء والداهية الدهياء التي نزلت بنا منذ عشرة أعوام ما تفارقنا ولا تهدأ عنا إلا من ناحية كبريائنا وخيلائنا واعتدادنا بأنفسنا في جميع شئوننا وأعمالنا، واحتقار غنينا لفقيرنا، وقوينا لضعيفنا، وسيدنا لمسودنا، فسلط الله علينا ذلك العدو القاهر الذي لا يعتمد في جميع شئونه ومواقعه إلا على قوته وأيده؛ لأننا لم نعتمد في يوم من أيام حياتنا في جميع صلاتنا وعلائقنا إلا على قوتنا وأيدنا، والجزاء من جنس العمل
وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
فاصفر وجه بازيليد واربدت شفتاها، وكأنما خيل إليها أنه يلمزها ويريبها ويشير في حديثه إلى ماضيها القديم وحوادث صباها السالفة، فصمتت ولم تقل شيئا، إلا أنها انتحت ناحية وأخذت تبكي وتنتحب - والدموع هي السلاح الوحيد الذي تعتمد عليه المرأة في جميع شئونها وعلائقها - فعظم الأمر على برانكومير، وأكبر أن يخاطب ولده زوجته المحبوبة هذا الخطاب الجافي الغليظ، فأنحى عليه باللائمة الشديدة وقال له: إنك لم تسئ إلى نفسك في تنزلك إلى حماية هذه النورية الساقطة واهتمامك بشأنها، بقدر ما أسأت إلى أبيك في مجابهة زوجته ومغايظتها، وسوء الرد عليها بهذه اللهجة الشديدة القاسية. ولولا هذه الرايات الحمر التي ألقيتها اليوم تحت قدمي بأهلتها البيضاء لما اغتفرت لك هذه الجريمة التي اجترمتها، فاذهب لشأنك ولا تعد إلى مثلها.
وكذلك تم لقسطنطين ما كان يريده من إنقاذ تلك الفتاة المسكينة من يد الموت بعدما أنقذها من يد الشقاء، فذهب بها إلى الجناح الذي يسكنه من القلعة، وجلس إليها يحادثها في شأنها وشأن ماضيها، ويسائلها عن دينها ومذهبها ووطنها وقومها، فلم ير بين يديه إلا فتاة ساذجة جاهلة لا تعرف لها وطنا ولا بيئة، ولا تدين بدين من الأديان ولا مذهب من المذاهب، ولا تفهم من شئون حياتها إلا أنها فرد مبهم من أفراد هذا المجتمع المائج المضطرب، تمتد بامتداده وتنحسر بانحساره، لا تعرف الآمال ولا تفكر في المستقبل، ولا تحفل بالماضي، ولا يتسع عقلها لأكثر من الساعة التي تعيش فيها، ولا تتألم إلا كما يتألم الأطفال، ولا تفرح إلا كما يفرح المجانين، قد صفت نفسها من كل شائبة من شوائب النفوس البشرية، فلا تحقد ولا تغضب، ولا تكره ولا تحسد، ولا تطمع ولا تتطلع، ولا تشغل ذهنها بترتيب الصور والأفكار واستنتاج النتائج من المقدمات، فأصبح ينظر إليها نظر الأب الرحيم إلى طفله اللاعب بين يديه، وأصبحت تجلس تحت قدميه جلسة الكلب المخلص تحت قدمي سيده، لا تحدثه حتى يحدثها، ولا ترفع نظرها إليه حتى يناديها.
وكان يقول في نفسه كلما نظر إليها وإلى سذاجتها وطهارتها، وبلاهة عقلها وغفلته: أهكذا قضي على الإنسان في هذه الحياة ألا تخلص نفسه من شوائب الرذيلة والشر حتى يسلب عقله وإدراكه قبل ذلك، وألا يمنح مقدارا من الصدق والشرف حتى يحرم في مقابله مقدارا من الفطنة والذكاء، فليت شعري هل عجزت الطبيعة عن أن تجمع للمرء بين هاتين المزيتين: مزية العقل الذي يعيش به، والخلق الذي يتحلى بحليته، أو أن لله في ذلك حكمة لا نعلمها ولا ندرك كنهها؟
وكأنما كان يشعر في نفسه باقتداره على أن يجمع لتلك الفتاة المسكينة بين هاتين الفضيلتين، وأن يصوغ من نفسها ذلك المثال الغريب الذي عجزت يد الطبيعة عن صياغته، فبدأ يهتم بشأنها اهتماما عظيما، ويتبسط معها في الحديث تبسط النظير مع نظيره، ذاهبا معها في كل واد من أوديته، معنيا كل العناية بتثقيفها وتعليمها وإنارة ما أظلم من بصيرتها، ولكن بأسلوب غير الأسلوب الذي كان يعلمه به معلمه في المدرسة، فأرشدها إلى وجود الله، لا من طريق البراهين الجدلية والقضايا الكلامية، بل من طريق الآثار والمصنوعات الناطقة بجمالها ولطف تكوينها عن قدرة صانعها وإبداع خالقها، وأرشدها إلى الفضيلة من طريق الفضيلة نفسها لا من طريق الترغيب في الثواب والتخويف من العقاب؛ ليكون أدبها أدب نفس لا أدب درس، ولتمتزج الفضيلة بنفسها امتزاجا لا تزعزعه عواطف اليأس ولا عوامل الرجاء، فكانت تعجب لحديثه ومراميه عجبا شديدا، وتجد فيه من اللذة والغبطة ما لا تذكر أنها شعرت بمثله في حياتها في حديث أي متحدث يتحدث إليها، وتعجب أكثر من كل شيء لتنزل مثل هذا الأمير الجليل والسيد الشريف إلى مجالستها ومثافنتها، والنزول على حكمها فيما يغضبها ويرضيها، فقالت له مرة وهي تحاوره: إنك تحدثني يا مولاي كأنك لا تعرف من أنا، قال: إني أعرفك كما تعرفين نفسك، وأعرف أنك أختي في الإنسانية، وهي الأم الرءوم التي لا يستطيع أحد من بنيها أن يمت إليها بأكثر مما يمت به إخوته، وما للأخت ملجأ تلجأ إليه في شدتها غير عطف أخيها وحنانه عليها، قالت: ولكنك تعلم أني فتاة مذنبة ساقطة، قال: كل الناس مذنبون آثمون، وإنما تختلف صور الذنوب وأشكالها وأساليب اقترافها، قالت: لم أر في حياتي مذ نشأت حتى اليوم عفيفا قط ابتسم في وجهي! قال: ذلك لأن الناس مراءون مخادعون يزعمون لأنفسهم من الفضائل والمزايا ما تنكره نفوسهم عليهم، فهم يحتقرون المذنب ويزدرونه؛ لا لأنهم أطهار أبرياء كما يزعمون، بل ليوهموا الناس أنهم غير مذنبين، ولو أنهم تكاشفوا وتصارحوا، وصدق كل منهم صاحبه الحديث عن نفسه لتتاركوا وتهادنوا، ولما آخذ أحد منهم أحدا بذنب ولا جريرة!
وكذلك أصبحت ميلتزا العزاء الوحيد لقسطنطين عن همومه وآلامه، فقد وجد بين جنبيها تلك النفس الطاهرة البريئة التي طالما نشدها قبل اليوم فأضلها، وتطلبها فأعياه طلابها، ووجد في صدرها ذلك القلب المحب المخلص الذي بكاه وندبه ندبا شديدا يوم ماتت أمه، ويوم تولى عنه حنان أبيه، وكان يتحدث معها في كل شيء من شئون الحياة دقيقها وجليلها، ويفضي إليها بكل خبيئة من خبايا نفسه، إلا ذلك الهم العظيم الذي كان يعالجه في أطواء نفسه وأعماقها، ويكابد منه ما يقلق مضجعه ويصل ليله بنهاره؛ وهو استحالة حال أبيه، وانتفاض قلبه عليه، وانقياده ذلك الانقياد الأعمى إلى تلك الفتاة اليونانية الدخيلة التي لا يعنيها من شأنه سوى أن تتخذ من عاتقه سلما تصعد عليه إلى سماء المجد، ثم لا تبالي بعد ذلك أن تدفعه بقدمها بعد بلوغ غايتها، فيسقط في الهوة التي قدر له أن يهوي فيها، إلا أن ميلتزا الذكية بفطرتها، المتفانية في حبها وإخلاصها، لم يكن يفوتها أن ترى بعين فطنتها وذكائها في تلك الزاوية المظلمة من زوايا قلبه ذلك الهم الخفي المكتن، وكان يساعدها على فهمه واستكناهه تلك الأحاديث التي كانت تسمعها تدور من حين إلى حين بين القائد وزوجته، عندما كانا يمران بها أو يقفان على مقربة منها وهي جالسة تحت بعض الجدران، أو في ظلال بعض الأشجار لا يحفلان بها ولا يلقيان لها بالا.
فقد سمعته مرة يقول لها: إنني أحبك يا بازيليد حب المرء نفسه التي بين جنبيه، ولقد عشت حياتي كلها قانعا من العيش بتلك اللذة الوحشية الدموية، لذة القتل والأسر وسفك الدماء وتقطيع الأوصال، حتى رأيتك تتطلعين إلى تاج الملك، وتشتهين أن تضعيه فوق رأسك، فأحببته من أجلك، وأصبحت لا أقترح على الدهر أمرا سوى أن أرى تلك الجبهة اللامعة المضيئة يتلألأ فوقها ذلك التاج المرصع البديع، فلا تيأسي منه ولا تقنطي، واعلمي أنني سآتيك به وإن كان كوكبا نائيا في آفاق السماء ، أو درة راسبة في أعماق البحار.
وسمعتها مرة تقول له: ما أجمل وجهك يا برانكومير! وما أبدع ضياءه ولألاءه! وما أنصع هذه الشعور البيضاء التي تدور به دورة الهالة بالقمر! وما أجمل تاج الملك يوم يوضع على رأسك فتتحد الأضواء الثلاثة جميعها، ويموج بعضها في بعض فتتراءى في أجمل شكل وأبدع منظر! إنك ستكون ملكا يا مولاي، وستكون أعظم ملوك العالم شأنا، وأرفعهم مقاما، وستجتمع فوق عرشك الرفيع الأمجاد الثلاثة: مجد النسب، ومجد الحروب، ومجد الملك. وقد ألقى الكاهن في نفسي كلمته التي تنبأ لي بها، وما هو بالكاذب ولا المجنون، فكن على ثقة من صدقه وحكمته، واعلم أنه ليس بينك وبين التاج إلا خطوة واحدة، فاخطها بهمة وعزيمة تبلغ الغاية التي تريد.
وسمعتها مرة تقول له: إنني لا أخاف على أملنا أحدا من الناس سوى ولدك قسطنطين، فقد علمت أمس من بعض أصدقائه أنه ينكر عليك كل الإنكار هذا المسعى الذي تسعاه اليوم، كما سمعت أنه يثبط الناس عنك ويزحزحهم من حولك، ويلقي في قلوبهم اليأس من نجاحك. ولقد حدثني عنه بعض الناس أن ذاكرا ذكر له مرة ولاية العهد مهنئا إياه بها، فغضب واحتد وتغيظ عليه تغيظا شديدا وقال له: «إنني جندي ولدت في ساحة القتال وسأموت فيها.» وإن كلمة كهذه الكلمة المؤثرة يقولها أمير مطاع في الجيش والشعب كولدك لا بد أن تترك أثرا سيئا في نفوس الناس جميعا، وتفت في عضد أنصارك وأعوانك، وربما كانت سببا في القضاء على آمالك وأمانيك، ولا أعلم لخطته هذه سببا سوى ذلك البغض الشديد الذي لا يزال يضمره لي في أعماق قلبه مذ دخلت بيتكم حتى اليوم، وما أذنبت إليه ذنبا ولا أسلفت عنده جريرة، فهو يؤثر أن يحرم نفسه وبيته ذلك الشرف العظيم الخالد على أن يراني جالسة على العرش بجانبك أستظل بظل نعمتك، وأشاركك في التمتع بمجدك وسلطانك، فقاطعها الأمير وقال لها: لا تصدقي يا بازيليد شيئا مما يقولون، فقسطنطين أبر بي وأعظم حبا وإخلاصا من أن يعترض سبيل رغبة يعلم أني أرغبها وأصبو إليها، ولا أعلم أنه يبغضك أو يضمر لك في نفسه شيئا من الشر الذي تذكرين، بل هو يحترمك ويجلك إجلاله إياي، ويحب لك من الخير ما يحب لي ولنفسه، ولا يؤثر على مرضاتنا شيئا.
وكذلك ظلت ميلتزا تسمع أمثال هذه الأحاديث فتعلم منها ما يدور بنفسي هذين الشخصين الطامعين، وتعلم أن هذا الذي يدور بنفسيهما إنما هو علة ذلك الهم الذي يعالجه قسطنطين في أعماق قلبه ويكابده، ولكن لم يخطر ببالها مرة أن تنقل إليه شيئا مما سمعته؛ إعظاما له وإجلالا، وضنا بنفسها وبأدبها أن تفاتحه في أمر لم يشأ هو أن يفاتحها فيه.
التاج
جاء اليوم المعين لاجتماع الجمعية الوطنية للنظر في انتخاب الملك الجديد، فنظرت في المسألة نظرا خالصا مجردا عن الميل والهوى، فرأت أن العدو لا يزال على الأبواب، وأنه لا يزال قوي الشكيمة صعب المراس، وأن الوطن يحتاج إلى الأمير برانكومير قائدا أكثر مما يحتاج إليه ملكا، وأن الأسقف «أتين» أعظم رجال المملكة عقلا، وأسماهم إدراكا، وأقواهم سلطانا على نفوس الجيش والشعب، فقررت تقليده ملك البلقان، وأعلنت قرارها في جميع أنحاء المملكة، فقابله الشعب بالرضا والتسليم، ولم يختلف عليه إلا العدد القليل من أشياع القائد وأنصاره.
ثم أقيمت حفلة التتويج بعد أيام، فحضرها جميع وجوه المملكة وعيونها، ورجال السياسة والجيش، ما عدا القائد برانكومير، فلم يأخذه الملك بهذه الهنة، بل أعتبه وأعطاه من نفسه الرضا، ولم يقنع في أمره بذلك حتى أعلن عزمه على السفر إلى الحدود لزيارته في قلعته، وما لبث أن سافر في جمع من حاشيته وجنده، وكانت رسله قد تقدمته لإنباء القائد بمقدمه، فامتعض لذلك وتمرمر، وكانت تحدثه نفسه أن يسافر إلى بعض الجهات حتى لا يستقبله عند قدومه، لولا أن أشارت عليه بازيليد بغير هذا الرأي، فأذعن لها راغما، ونزل بانتظاره أمام باب القلعة حتى حضر، فحياه الملك حين رآه تحية الإجلال والإعظام، وعانقه عناقا طويلا، وقال له: أما الملك الجالس على عرش البلقان وصاحب الأمر والنهي فيه فهو أنت يا برانكومير، أما أنا فإني خادمك الأمين المخلص، القائم بتنفيذ أوامرك، وتجييش الجيوش لك، وإمدادك بما تحتاج إليه من العدة والمئونة.
واعلم أن الأمة لم تضن عليك بالعرش والتاج، ولا رأت أن أحدا أجدر بهما منك، ولكنها ضنت بك أنت - وأنت حصنها المنيع، ودرعها الواقية، وبطلها الذي لا يغني غناءه في موقعة أحد - أن يشغلك شاغل الملك عن شأنك الذي أنت فيه، والذي نصبت له نفسك طول حياتك، فآثرت بقاءك في هذه القلعة تحميها وتحمي المملكة بحمايتها، فإن لم تكن الملك الجالس على عرش «فيدين»؛ فأنت الملك المتبوئ عرش الأفئدة والقلوب، واعلم أنني ما قدمت إليك مقدمي هذا لأعتذر عندك من ذنب أذنبته إليك، أو لأتوجع لك من كارثة نزلت بك؛ لأني أعلم أنك أجل وأرفع من أن تعتبر عبء الملك وهمه نعمة تأسف على فقدها، بل جئت لأباركك وأمسحك وأدعو لك الله أن يمدك بروح من عنده حتى يتم لنا على يدك النصر الذي نرجوه لأنفسنا، فيأمن البلقان أبد الدهر أن تخفق على ربوعه بعد اليوم راية غير راية المسيح، أو يرن في أجوائه صوت غير صوت الله.
ثم تقدم نحوه ووضع يده على رأسه يباركه ويصلي له، وبرانكومير يتميز غيظا وحنقا، ولكنه يتجلد ويستمسك، حتى فرغ الأسقف من شأنه، فلم ير بدا من أن يستقبل حفاوته بمثلها، فمد إليه يده وهنأه بالملك، واعتذر إليه من تقصيره في حضور حفلة التتويج، فقبل عذره، وقضى بقية يومه عنده هانئا مغتبطا لا يرى إلا أنه قد أرضاه، ومحا أثر ذلك العتب من نفسه.
ثم عاد بموكبه راضيا مسرورا، فشيعه القائد إلى ضاحية المدينة، ولبث واقفا مكانه ساعة ينظر إلى ذلك الموكب الفخم العظيم، ويسمع موسيقاه الشجية الجميلة حتى غاب عن بصره، فانقلب إلى قصره ثائرا مهتاجا يصيح ويجأر ويهذي هذيان المحمومين، حتى بلغ غرفته الخاصة، فوقف بجانب نافذة عالية مشرفة على الجماهير الغادية والرائحة في طرقها ومذاهبها، وأنشأ يحدث نفسه ويقول: تبا لك أيها الشعب الخائن الغادر ، لقد جازيتني شر الجزاء على عملي، وكفرت بنعمتي التي أسديتها إليك، ويدي التي اتخذتها عندك، أيام كنت أسهر لتنام، وأشقى لتسعد، وأقضي ليالي الطوال سجينا في قلعتي لا أبرحها ولا أنتقل منها لأدبر لك أمر الحماية التي تحميك، وتصون أرضك وديارك، وأنت لاه لاعب هانئ مغتبط، يمرح عامتك في منازههم ومسارحهم ليلهم ونهارهم، ويقيم خاصتك حفلات الرقص والغناء في قصورهم وأنديتهم، فكان جزائي عندك أن ضننت علي بالعرش الذي أنا عماده وملاكه، وحامل قوائمه وعمده، وآثرت به كاهنا مأفونا لا شأن له في حياته سوى أن يمسح رءوس الأطفال، ويهمهم حول أسرة الموتى، فبئس ما جررت على نفسك من الويل في فعلتك التي فعلت، وبئست الساعة التي رأيت فيها هذا الرأي الفائل الخطل، لقد فللت بيدك سيفك الذي كان يحميك ويصونك، وأطفأت جذوة الحماسة في صدر قائدك الذي كان يذود عنك وعن عرضك، ويحمي أرضك وديارك، فابتغ لك بعد اليوم قائدا يتولى حمايتك وصيانتك، أو فاطلب إلى أسقفك التقي الصالح الذي توجته بيدك، واخترته بنفسك لنفسك، أن يستنزل لك بدعواته النصر من آفاق السماء!
وإنه ليردد في موقفه أمثال هذه الكلمات، وينفث سموم الحقد والشر على العالم بأجمعه، إذ دخلت عليه الأميرة باسمة متطلقة تختال في حللها وحلاها، فأخذت بيده وقالت له: ارفق بنفسك يا برانكومير، واعلم أن نبوءة الكاهن لا تكذب ولا تخيب، وأبشرك أنك ستكون بعد شهر واحد ملكا على البلقان، ولا تسألني كيف يكون ذلك! فدهش لأمرها وحاول أن يسألها عن معنى كلمتها ومأتاها، فلم تمكنه من ذلك؛ لأنها تهافتت عليه واعتنقته ووضعت على فمه قبلة شهية أطفأت بها جذوة حدته وغضبه، ثم أفلتت من يده وعادت أدراجها.
المؤامرة
اضطجعت بازيليد في سريرها، وجلست خادمتها صوفيا تحت قدميها تروح لها بمروحتها وتحدثها حديث تلك الآمال الحسان التي لا تزال تتراءى لها في يقظتها، وتحلم بها في منامها، وإنهما لكذلك إذ قرع الباب قرعا خفيفا، فعرفت صوفيا من القارع وفتحت له، فإذا «بانكو» الجاسوس التركي متنكرا في زي الموسيقار المسكين، فدخل وحيا الأميرة تحية الإجلال والإعظام، ثم أخذ مقعده الذي كان يقتعده من الغرفة في كل ليلة، وأنشأ يضرب على قيثارته قطعة رومانية جميلة من تلك القطع التي كان أعدها منذ عهد طويل؛ ليخلب بها لب تلك المرأة ويستهويها، حتى أتمها، فطربت لها طربا شديدا، ثم دعت خادمتها فأرسلتها في بعض الشئون، فلما خلا بها المكان ألقى الموسيقي قيثارته جانبا، وخلع عنه رداء التنكر، ثم مشى إلى سريرها فجلس بجانبها وقال لها: ماذا تم في المسألة يا بازيليد، فقد طال مقامي في هذا البلد وأخشى أن يرتاب بي أحد، وليس في استطاعتي أن أبقى هنا أكثر من ثلاثة أيام ثم أنصرف لشأني.
فاعتدلت في جلستها وقالت له: لقد فاتحت الأمير ليلة أمس في المسألة، وعرضت عليه مقترحك الذي اقترحته، فأصغى إلى حديثي في مبدأ الأمر، ثم لم يلبث أن اكفهر وجهه واكتأب، وأبى أن يقبل مني كلمة واحدة في هذا الشأن، وظل يقاطعني ويعارضني معارضة شديدة، فلم أشأ أن ألح عليه مخافة أن يرتاب بي وبمقصدي، وسأستأنف معه الحديث الليلة بعد رجوعه من المعسكر، وأرجو أن ينتهي بإذعانه وتسليمه، ولا يفتك يا سيدي أن من أصعب الأمور على رجل شريف عظيم مثل برانكومير أن يتحول في ساعة واحدة عن أخلاقه وطبيعته، وأن ينقلب فجأة من رجل وطني مخلص يبذل دمه وحياته في سبيل الدفاع عن وطنه والذود عنه، إلى خائن سافل يبيع ذلك الوطن العزيز عليه من أعدائه بعرض تافه من أعراض الحياة، فلا بد من مهادنته ومؤاتاته، وأخذه بالروية والتؤدة.
قال: ليس في الأمر خيانة ولا دناءة، ولا بيع وطن ولا أمة، فإنا لا نريد أن ندخل بلادكم مستعبدين أو مسترقين، بل أصدقاء مخلصين، وما خطر ببالنا قط حينما فكرنا في افتتاح بلادكم والنزول بها أن نصادركم في حريتكم الدينية والاجتماعية، أو نسلب أموالكم وننتهك أعراضكم، أو نغلق أبواب كنائسكم ومعابدكم، أو نخرس أصوات نواقيسكم وأجراسكم، ولكن لنكون أعوانكم على ترقية شئونكم الاجتماعية والاقتصادية، والسير بكم في طريق المدنية الأدبية والسياسية، حتى تبلغوا الذروة العليا منهما، ولنحميكم فوق ذلك من أعدائكم المجريين الذين يطمعون في امتلاك بلادكم واغتيالها، وندفع عنكم شرورهم ومطامعهم، فنحن أصدقاؤكم المخلصون الأوفياء من حيث تظنون أننا أعداؤكم وخصومكم.
فابتسمت بازيليد ابتسامة الهزء والسخرية، ونظرت إليه نظرة عتب وتأنيب، وقالت له: إن برانكومير يا صديقي ليس موجودا معنا لنخدعه بأمثال هذه الأساليب الكاذبة، أما أنا فإني لا أنخدع بها ولا أغتر؛ لأني أعلم - كما تعلم أنت وكما يعلم الساسة الكاذبون جميعا - أن الفاتحين من عهد آدم إلى اليوم وإلى أن تبدل الأرض غير الأرض والسماوات لا يفتحون البلاد للبلاد، بل لأنفسهم، ولا يمتلكونها لرفع شأنها وإصلاح حالها، والأخذ بيدها في طريق الرقي والكمال كما تقول، بل لامتصاص دمها وأكل لحمها وعرق عظمها، وقتل جميع موارد الحياة فيها، والأمة إن لم تتول إصلاح شأنها بنفسها لا تصلحها أمة أخرى مهما حسنت نيتها ونبل مقصدها، والصلاح إن لم ينبت في تربة الأمة نفسها، ويزهر في جوها، ويأتلف مع مزاج أفرادها وطبيعتهم لا ينفعها ولا يجدي عليها، ويكون مثله مثل الزهرة التي تنقل من مغرسها إلى مغرس آخر، فهي تزهر فيه أياما قلائل ثم لا تلبث أن تذبل وتذوي.
فإن وجد بين أولئك الطامعين من يذهب في سياسته الاستعمارية مذهب الإصلاح والتشييد، فكما يسمن صاحب الشاة شاته ليذبحها ويأكلها، وكما يتعهد صاحب المزرعة مزرعته بالري والتسميد ليستكثر غلتها وثمراتها.
أما الحرية الدينية التي تريدون أن تمنوا بها علينا، فما أهونها عليكم ما دامت لا تعطل لكم غرضا، ولا تقف لكم في سبيل مطمع، وقديما كان الفاتحون يخدعون الشعوب الجاهلة بإرضائها في شئون دينها، ليسلبوا شئون دنياها، ويوجهون نظرها إلى الشئون المادية الحيوية، فكان مثلهم في ذلك مثل اللص الذي يدس لمن يريد سرقته مادة مخدرة في طعامه لا تكلفه إلا ثمنا يسيرا ليستولي على الجم الكثير من دنانيره ودراهمه، على أن القوة الدينية في الأمة أثر من آثار القوة السياسية، فإذا ضعف أمر الأمة في سياستها ضعف أمرها مع الأيام في دينها، ولا بقاء لدين من الأديان يعيش تحت سلطان دين آخر، ويستظل برايته، إلا كما يبقى الثلج تحت أشعة الشمس وحرارتها، ومن ظن غير ذلك فعلى عقله العفاء!
أما حمايتكم إيانا من أعدائنا فليس لنا على وجه الأرض عدو سواكم، فاحمونا من أنفسكم قبل أن تحمونا من غيركم، وهب أن المجريين أعداؤنا كما تقولون، فهل يطمعون في شيء أكثر مما تطمعون فيه أنتم؟ وهل يحاولون منا غير هذا للفتح الذي تحاولونه اليوم؟ وهل من الرأي أن يهب الإنسان متاعه رجلا مخافة أن يغلبه عليه رجل آخر؟ أو أن يذبح نفسه بيده فرارا من ذابح يريد أن يذبحه؟
إنكم ما جئتم هنا لتحمونا من أعدائنا، بل لتحتموا بنا من أعدائكم؛ لأنكم إنما أردتم بامتلاك هذه البلاد واستعمارها أن تتخذوا من حصونها وقلاعها وجبالها وأسوارها ودماء أبنائها وأرواحهم وقاية لكم تتقون بها زحف المجريين عليكم وعدوانهم على أرضكم.
هذه هي الحقيقة التي لا ريب فيها، فإن كنت تريد بما قلته أن تعلمني ما ألقنه لذلك الرجل الذي اتفقنا على خداعه وختله، فإنني أحفظ كثيرا من أمثال هذه الرقى والتعاويذ، فلا حاجة بي إلى سماعها منك، فلنعمل في المسألة معا متكاشفين متصارحين، ولتعلم أن الذي أسعى لإعطائك إياه وتسليمك زمامه إنما هو الوطن بأجمعه، أرضه وسماؤه، وبره وبحره، وخيراته وثمراته، وحرية أهله وسعادتهم، وأن الثمن الذي أتقاضاكه في سبيل ذلك ثمن بخس ضئيل لا يزيد عن كرسي من الخشب مموه بالذهب، يسميه الجهلاء عرشا، وهو في البلد المغلوب على أمره المسلوب حريته واستقلاله سجن ضيق، لولا خدع الحياة وأكاذيبها لما استطاع الجالس عليه أن يهدأ فيه ساعة واحدة، فأنا أبيعك هذا الوطن الثمين، وآخذ منك ذلك الكرسي الحقير، وأنا عالمة قيمة ما أعطي، وقيمة ما آخذ، فلا تحسب أنك تخدعني أو تداهنني في هذه الصفقة، وأقسم لك بشرفي وشرف «بيزنطية» لو كان هذا الوطن وطني وكانت تربته مدفن آبائي وأجدادي لما بعتك ذرة واحدة من ترابه بجميع عروش الأرض وتيجانها.
فاصفر الجاسوس واربد وجهه وقال: إننا ما اجتمعنا هنا لتفسير معنى الفتوح والاستعمار، بل لأعرض على زوجك هذا العهد السلطاني بتقليده ملك البلقان وإلباسه تاجه إن هو تمكن من إخلاء التخوم من حراسها، وسهل لجيشنا سبيل اجتيازها، فإن قبل فذاك، أو لا عدت بعد ثلاثة أيام إلى مركز الجيش ورفعت الأمر إلى سلطاني وقائدي، وعادت الحرب إلى شأنها الأول أو أشد، ولا يعلم إلا الله متى تنتهي، وماذا تكون عاقبتها.
فتناولت منه العهد وقالت له: سنلتقي بعد ليلتين أو ثلاث، وسأخبرك بما تم عليه الاتفاق.
فقام إلى مكانه الأول وأخذ يضرب على قيثارته بعض الأناشيد الدينية، وما هي إلا لحظة حتى عادت الوصيفة، وكان الليل قد انتصف، فاستأذن للانصراف وانصرف.
الأمل
الحب شقاء كله، وأشقى المحبين جميعا أولئك الذين يحبون بلا أمل ولا رجاء!
إنهم يذرفون دموعهم وهم عالمون أنهم يسكبونها في أرض قاحلة جدباء لا تنبت لهم راحة ولا سعادة، ويسهرون لياليهم وهم يعتقدون أن ظلماتها لا تنحسر عن فجر منير، أو صبح سعيد، ويطرقون برءوسهم في خلواتهم لا ليفكروا متى تنتهي أيام شقائهم أو تبتدئ أيام سعادتهم، فحياتهم كلها شقاء لا فرق بين أمسها وغدها وحاضرها ومستقبلها؛ بل ليفكروا متى يرحلون عن هذه الدار ليستريحوا من آلامها وهمومها، فإن كان لا بد لنا من أن نذرف قطرة من دموعنا على شقي في هذه الأرض، فلنذرفها على والد ثكل ولده في ريعان شبابه، أحب ما كان إليه، وألصق ما كان بقلبه، من حيث لا أمل له في رجعته ولا رجاء في لقائه، أو عاشق علم في ساعة ما كان يتوقعها أن حبيبته قد تزوجت من غيره، وأنها ستسافر اليوم أو غدا إلى وطن ناء لا رجعة لها منه أبد الدهر، فوقف أمامها يودعها وداعا لا يقول لها فيه: إلى الغد أو إلى الملتقى، ولا يأخذ عليها فيه عهدا أو ميثاقا، بل يصمت صمتا تذوب فيه كبده القريحة ذنوبا، حتى إذا غابت عن بصره، وانقطع آخر آثارها، رجع أدراجه وهو يعلم أن لا نصيب له في العيش بعد اليوم، وأن هذا آخر عهده بالحياة، أو فتاة بائسة مسكينة كتب لها شقاؤها أن يعلق قلبها بعظيم من عظماء الحياة المدلين بأنفسهم ومكانتهم، فلا تستطيع الصعود إليه في سمائه، وليس من شأن مثله أن يهبط إليها في أرضها، فهي تبكيه ولا يشعر ببكائها، وتهتف باسمه ليلها ونهارها ولا يسمع نداءها، ولا يزال هذا شأنها حتى يوافيها أجلها فيريحها.
كذلك كان شأن ميلتزا، فإنها أحبت سيدها حب العابد إلهه المعبود، وافتتنت به افتتانا كانت تحسبه في مبدأ أمرها عاطفة ولاء وإخلاص، فإذا هو لوعة الحب وحرقة الغرام، ولكن أنى لها وهي الفتاة النورية الساقطة المسكينة أن يمتد بها مطمعها إلى ذلك الكوكب النائي في سمائه، أو أن تمت إليه بسبب من تلك الأسباب التي يمت بها الناس بعضهم إلى بعض، فكانت وهي أقرب الناس إليه أبعد الناس عنه، وأنآهم من مكانه، لا تستطيع أن تتجاوز في موقفها معه منزلة الخادم من المخدوم، والسيد من المسود، والصنيعة من صاحب النعمة.
وكان يقلقها أشد القلق ويكاد يذيبها حياء وخجلا خوفها أن يطلع منها على سريرة نفسها، أو أن يعثر يوما من الأيام بتلك اللوعة المتأججة في صدرها، فيتهمها في عقلها، ويسخر بينه وبين نفسه بتصوراتها وآمالها، فكانت تفر من نظراته كلما وقعت عليها حتى لا يرى في عينيها أثر الدمع ولا حمرة السهر، وتهرب من الخلوة به جهدها حتى لا يرتاب في اصفرار وجهها، واضطراب أوصالها، وذهول عقلها، ولجلجة لسانها؛ أي أنها كانت محرومة كل شيء حتى تلك اللذة الضئيلة التي يتمتع بها أقل المحبين حظا، وأخيبهم في الحب سهما؛ وهي الإفضاء بمكنون صدرها إلى ذلك الذي تحبه وتعبده. وكان كل ما يعرف قسطنطين من شأنها أنها فتاة مخلصة وفية تحبه حب العبد الشكور لسيده المنعم، وكان يجد في بلاهتها وسذاجتها، وطهارة قلبها ونقائه، وصدق لسانها، وإخلاص قلبها ملهاة يتلهى بها عن همومه وأحزانه، ومتكأ يتكئ عليه في ساعات إعيائه ونصبه، لا يزيد على ذلك شيئا، فكانت إذا جن الليل وأخذت الجنوب مضاجعها جلست في فراشها تساهر الكوكب وتطالعه، وتزفر زفرات حرى موجعة وهي لا تعلم ماذا تشكو ولم تبكي؛ لأنها لا تعرف لها غرضا ولا غاية، ولو استطاعت أن تفهم من شئون نفسها ما يفهم الناس من شئون نفوسهم لعرفت أنها إنما تبكي على أن ليس لها في الحياة - كما للناس - أمل ولا رجاء.
هذا هو الحب الطاهر البريء الذي لا تشوبه الأغراض والغايات، ولا تحيط به الريب والشكوك، والذي طالما نشده الناس في كل مكان فأضلوه، وذابت قلوبهم حسرة عليه فلم يجدوه، وأي سعادة في الدنيا أعظم من سعادة نفس تجد بين يديها نفسا طاهرة مخلصة تحبها، وتمتزج بها امتزاج الماء بالخمر والأريج بالزهر؟ ولقد ظفر قسطنطين من تلك الفتاة بهذه النفس المخلصة التي تحزن لحزنه، وتفرح لفرحه، وتغضب لغضبه، وترضى لرضاه، ولا تعرف لها وجودا منفصلا عن وجوده، ولا حياة مستقلة عن حياته، فكانت منه بمنزلة المرآة من الوجه: تقطب إذا قطب، وتبتسم إذا ابتسم، وتطير فرحا وسرورا بانتصاراته، وتذوب كمدا وحزنا لآلامه وأحزانه، وتحب أباه حبه إياه، وتنفر من زوج أبيه نفوره منها، وهو وإن لم يكن يفاتحها في شأن من شئونه الخاصة، ولا يفضي إليها بسر من أسرار بيته وعلائق بعض أفراده ببعض، فإنها كانت تشعر أن تلك المرأة اليونانية الدخيلة خطر عظيم على الوالد والولد، بل على الأمة بأسرها، وكان شعورها هذا يقودها إلى مراقبتها وملاحقتها في كل مكان، وترصد حركاتها وسكناتها علها تهجم منها على ذلك السر الهائل الذي تتوهمه توهما ولا تعرفه، فتكشفه وتمزق عنه الستار، حتى واتاها القدر يوما من الأيام فعثرت به.
السر
رجع قسطنطين من بعض غزواته فدخل على ميلتزا فرآها مطرقة واجمة، فلم يلق لها بالا وخلع رداءه ثم جلس على كرسيه جلسة الراحة والسكون، وإنه لكذلك إذ طرق مسمعه صوت تلك القيثارة البديعة التي كان يسمعها من حين إلى حين تصدح في قصر أبيه، فطرب لها طربا شديدا، وافتر ثغره بعد عبوسه، ثم نظر إلى ميلتزا وهي جالسة تحت قدميه، فرآها مصفرة مغبرة الوجه ذاهلة كأن نكبة من النكبات العظام قد نزلت بها، فعجب لأمرها وقال لها: ألا تطربين معي يا ميلتزا لهذه النغمات الشجية البديعة؟! فرفعت رأسها إليه وكأن دمعة لامعة تترقرق في عينيها، وقالت له: لا يا مولاي! فدهش لقولها وقال: ولم؟ قالت: لأني لا أحبها! قال: ولم لا تحبينها؟ قالت: لأني لا أحب صاحبها، قال: وهل تعرفينه؟ أليس هو ذلك الرجل البائس المسكين الذي يختلف إلى الأميرة من حين إلى حين ليسمعها أناشيد قومها وأغانيهم فتعود عليه ببعض نوالها؟
قالت: إنه ليس بسائل يا سيدي ولا مسكين، بل هو الضابط العظيم إبراهيم بك، أحد قواد الجيش التركي، فانتفض قسطنطين مذعورا واستوى في مكانه جالسا وقال: ماذا تقولين؟ قالت: إني كنت مخدوعة به قبل اليوم، حتى رأيته ليلة أمس واقفا تحت شجرة وارفة من أشجار الحديقة يصلي صلاة المسلمين مطرقا خاشعا مستقبلا قبلتهم، فارتبت في أمره، ثم دنوت منه وأنعمت النظر في وجهه من خلال بعض الأغصان من حيث لا يشعر بمكاني، فعرفته وذكرت أنه ذلك البطل العظيم الذي كنت أراه في معسكر الجيش التركي لا يزال مرافقا للقائد الكبير، يسير في ركابه حيث سار، ويتنقل معه في غدواته وروحاته، وإن غابت عني معرفته فلن تغيب عني معرفة تلك الشجة الهلالية الواضحة في جبينه، وذلك الخال الأسود المرتسم تحت عينه اليسرى، بل أعرفه من تلك النغمات الشجية التي يغنيها الآن.
وهنا توقفت عن الكلام واضطربت وكأن كلمة حائرة تختلج بين شفتيها، فعجب قسطنطين لأمرها وسألها ما بالها، فأطرقت هنيهة ثم رفعت رأسها فإذا دمعة تنحدر على خدها، واستمرت في حديثها تقول: نعم، إنني أعرفه من تلك النغمات التي كان يدعوني إلى الرقص عليها في خيمته في المعسكر وهو جالس بين صحبه وخلانه من قواد الجيش ورؤسائه يغنيهم ويطربهم، فأرقص أمامهم رقص الطائر المذبوح وفؤادي يتمزق لوعة وأسى، لا أهن ولا أفتر، ولا أستعفي ولا أعتذر؛ مخافة أن يرى سيدي الجندي ذلك مني فيعاقبني، فقد كان يحاسبني على الضعف والعجز، والحياء والخجل، والتلوم والاحتشام، محاسبة القاضي المجرمين على الذنوب والآثام؛ فاعذرني يا سيدي إن بكيت لحظة بين يديك، فإنني وإن كنت ولدت في مهد الشقاء، ونشأت في حجر البؤس والآلام، فقد كانت تلك الأيام التي قضيتها في ذلك المعسكر أو في بؤرة السقوط والعار أشقى أيامي وأعظمها شدة وبؤسا، لا أذكرها إلا بكيت لذكراها، وأسبلت ردائي على وجهي حياء منها وخجلا.
على أنني أحمد الله إليك، فقد بسطت إلي يد رحمتك وإحسانك، واستنقذتني من مخالب ذلك الشقاء أيأس ما كنت من الخلاص منه، أحسن الله إليك، وهون عليك همومك وآلامك.
وكانت تتكلم وقسطنطين لاه عنها بقصة ذلك الجاسوس، لا يكاد يشعر بشيء مما حوله، ثم التفت إليها وقال لها: إذن هو جاسوس متنكر! قالت: ذلك ما أعتقده يا مولاي ولا أرتاب فيه. فظل يدور في الغرفة دورة الهائم المختبل لا يهدأ ولا يتريث، وظل على ذلك ساعة ثم انقض بغتة على ردائه فاختطفه وخرج من الغرفة مسرعا، فأدركته ميلتزا وتعلقت بأطراف ثوبه وقالت له: أين تريد يا مولاي؟ قال: أريد أن أقبض على ذلك الجاسوس المجرم وأرفع أمره إلى الأمير ليرى رأيه فيه، قالت: إن القيثارة قد انقطع صوتها، ولا بد أن يكون قد ذهب لسبيله؛ فدعه وشأنه، قال: لا بد لي من أن أكشف أمره على كل حال حتى لا يعود إلى هذا المكان مرة أخرى، قالت: أضرع إليك يا سيدي أن تملك نفسك وأن تهدأ لحظة واحدة حتى أتمم لك بقية حديثي.
فجمد في مكانه وقال لها: ماذا عندك بعد ذلك؟ قالت: إن كنت تريد أن ترفع أمر الرجل إلى أبيك ليعرف حقيقته، فاعلم أنه يعرفه حق المعرفة، بل هو أعلم به مني ومنك! فثار ثائره وصرخ في وجهها قائلا: ماذا تقولين أيتها الفتاة؟ وجرد سيفه من غمده وأهوى به عليها ليقتلها، فاستخذت له ومدت إليه عنقها وقالت: اضرب يا مولاي، فدمي حلال لك، وإن شئت فاستمع مني كلمة واحدة قبل أن تفعل، فإن شرفك وشرف بيتك رهن بما أقول! فجمد السيف في يده وظل شاخصا إليها ينتظر كلمتها، فقالت: نعم، قد تم الاتفاق بين أبيك وزوجته وذلك الجاسوس التركي على أن يخلي أبوك تخوم المملكة من حراسها هذه الليلة؛ لتتمكن الجيوش التركية من اجتيازها، فإن فعل أصبح في الغد سيد البلقان ومليكها، قال: ومن أين لك علم ذلك؟ قالت: قد سمعت الحديث الذي دار بينهم في هذا الشأن، ورأيت ورقة منشورة بين أيديهم يقرءونها ويتداولونها، وما أحسبها إلا وثيقة العهد الذي تعاهدوا عليه، فإن كنت لا تزال في ريب من ذلك فدونك الغرفة المجاورة لغرفة الأميرة فادخلها برفق وهدوء، وضع أذنك على خصاص الباب المغلق بينهما، كما صنعت أنا منذ ساعة، تسمع ما يتحدثون به، ولك حكمك بعد ذلك.
فشعر قسطنطين أن الأرض الفضاء تدور به، وأن الشمس قد لبست قناعها الأسود فما يرى شعاعا من أشعتها، وأن فرائصه ترتعد وتصطك فما تكاد تحمله، فتراجع إلى جدار قائم وراءه فأسند ظهره إليه حتى هدأ قليلا، ثم مشى يتحامل على نفسه حتى دخل الغرفة التي وصفتها ميلتزا، ومشى إلى الباب الموصد بين الغرفتين ووقف بجانبه يتسمع فلم يسمع شيئا، حتى ظن الغرفة خالية، ثم سمع صوت أبيه فانتبه وتجمع للإصغاء، فإذا هو يقول لزوجته بصوت خافت متهدج: هل سافر الرجل؟ قالت: نعم يا سيدي، وما أحسب إلا أنه تجاوز أطراف التخوم الساعة، فإن جواده أفره الجياد وأسرعها. وصمت ولم يقل شيئا، فدنت منه وقالت له بنغمة حلوة ساحرة: ما هذا الاصفرار الذي يكسو وجهك يا ميشيل؟ وما هذه الكآبة السوداء التي تتدجى في عينيك؟ فهل أنت نادم على ما كان؟ قال: لا، ولكنني أخشى الفشل.
قالت: لا أعرف للفشل بابا يمكنه أن يدخل عليك منه، فأنت قائد الجيش وصاحب الأمر والنهي فيه، فإن كان كل ما يعنيك من الأمر ألا تظهر يدك في هذا العمل فقم الساعة والبس ثياب أحد الحراس، واذهب إلى مكان الحارس الأول القائم على حراسة الرابية الأولى وارقبه حتى تأتي ساعة انصرافه واستبداله، فأظهر له كأنك الحارس الذي يخلفه في مكانه، واهتف له بكلمة السر التي بثثتها الليلة بين جنودك - وحراس المداولة كثيرون لا يكاد يعرف بعضهم بعضا - فإذا انصرف لشأنه أخذت مكانه من حيث لا يعلم من أمرك شيئا، حتى إذا رأيت الجيش التركي مقبلا في منتصف الليل، وعلمت أنه قد أشرف على التخوم وملك رأس الطريق إلى «فيدين»؛ عدت أدراجك إلى القصر متنكرا كما ذهبت، لم يشعر بك أحد في ذهابك أو إيابك، وكأننا قد فوجئنا بهذه النازلة مفاجأة لا نملك معها للأمر دفعا ولا ردا.
فطارت نفس قسطنطين شعاعا عند سماع هذه الكلمات، وكاد يصرخ صرخة عظمى يرتج بها القصر وأرجاؤه، لولا أنه طمع في أن يسمع من أبيه كلمة شرف وإباء تهدم صرح تلك الخيانة الذي تبنيه يد زوجته، فأرهف أذنيه ليسمع جوابه، فسمعه يقول بنغمة الفارح المغتبط، بعد كلام كثير لم يفهمه: نعم، هذا هو الرأي السديد، ولقد أمنت الآن كل شيء، فائتيني بلباس الحارس، فقد عزمت ولا مرد لعزمي. فتهافتت على عنقه وقبلته قبلة طويلة رن صوتها في أرجاء الغرفة، ثم ذهبت لشأنها.
فما سمع قسطنطين هذه الكلمة حتى أظلمت عيناه، واكفهر وجهه، وتداركت ضربات قلبه، وحاول أن يصيح فخانه صوته، فسقط مغشيا عليه، ولكن بين ذراعي ميلتزا؛ لأنها كانت واقفة وراءه ترصده من حيث لا يشعر بمكانها، حتى إذا هوى تلقته بين ذراعيها وقادته إلى غرفتها.
الجريمة
جثم الليل في مجثمه ونشر أجنحته السوداء على الكون بأجمعه، فهجع تحت ظلالها الأحياء جميعا من بشر وحيوان، ولم يبق ساهرا وسط هذا السكون المخيم إلا عينا القائد برانكومير في شعب «تراجان» يديرهما ها هنا وها هنا، فينظر بهما تارة أمامه وأخرى وراءه؛ ليرى هل يرصده أحد أو يتأثر حركاته وأعماله، ويقلبهما أحيانا في صفحة السماء فيرى عيون النجوم محدقة فيه، فيخيل إليه أنها عيون الله ناظرة إليه نظرات الوعيد والتهديد، وكأن صائحا يصيح به من جوانب الملأ الأعلى: اصنع ما تشاء أيها الرجل الخائن، واكتم عملك عن عيون الناس جميعا، فإني ناظر إليك ومسجل عليك هذه الجناية العظمى التي تجنيها على وطنك وقومك!
فيتضاءل ويتصاغر ويمر بخاطره قول أمه له في عهد طفولته فيما كانت تمليه عليه من آداب الحكماء وأقوالهم: «إن كواكب السماء ونجومها تشهد بين يدي الله على جميع جرائم البشر التي ليس لها شهود!» ثم لا يلبث أن يسري عن نفسه ويذهب به خياله إلى الملك وعرشه، وتاجه وصولجانه، وعزه ومجده، ثم يلقي نظرة عامة على الجبال المحيطة به، والسهول المنبسطة من حوله، والأنهار المائجة بأشعة النجوم ولألائها، فيقول: غدا تصبح هذه الجزيرة كلها جزيرتي، وأهلها خدمي وحشمي، يأتمرون بأمري، ويذعنون لقوتي وسلطاني، وغدا يتلألأ التاج على جبين بازيليد، فتصبح أسعد نساء العالم جمعاء، وأصبح بسعادتها أسعد رجاله، ثم يخيل إليه كأنه يرى بازيليد ماثلة بين يديه تنظر إليه نظراتها الساحرة الفاتنة، فيمد ذراعيه لاستقبالها ويناجيها قائلا: إنني لا أزال على العهد الذي عاهدتك عليه مذ فارقتك حتى الساعة، لم أندم ولم أتردد، ولا مر بخاطري أن أحفل بشيء في العالم سوى أن أنيلك البغية التي تبتغينها.
إن القبلة التي وضعتها على شفتي منذ ساعة قد أثلجت صدري، وسكنت جميع مخاوفي ووساوسي، فأنا أقدم على الجريمة إقدام الهادئ المطمئن، لا أشعر بثقلها، ولا أفكر في نتائجها، بل لا أشعر أنها جريمة يخفق لها قلبي خفقة الأسف والندم.
لقد أقسمت لك على الوفاء بالعهد، ولا بد لي من أن أبر بقسمي، ولو كنت أقسمت لك على حرمان نفسي منك - وأنت الحياة التي لا حياة لي بدونها - لاستحييتك أن أحنث في قسمي، أو أن أخيس بعهدي.
أقسمت لك أن أخون وطني، وهأنذا أخونه كما أردت راضيا مستسلما لا أندبه ولا أرثي له، فرضاك هو الوطن كله، بل هو الدنيا بأجمعها، فليذهب الوطن كله، وليفن العالم بأسره، فأنت لي كل شيء فيهما.
وكان يحدث نفسه بهذا الحديث وهو جالس على رابية مرتفعة على شعب «تراجان» تحت القوس الروماني بجانب هضبة عالية من الحطب أعدت للإحراق إنذارا للجيش بالعدو عند زحفه، وكانت الهضبات المحيطة بتلك الرابية أو المبعثرة من حولها سوداء قاتمة تتراءى في ظلمة الليل ووحشته في صور وحوش مخيفة هائلة فاغرة أفواهها، أو مقعية على أذنابها، أو متوثبة للهجوم، فلا يقع نظره عليها حتى يطير قلبه شعاعا، فيسرع إلى الاغتماض فلا يفارقه خيالها إلا بعد حين.
وما كان الرجل جبانا ولا رعديدا، فهو بطل البلقان وحاميه وسيد من أنجبت به ميادين قتاله وساحات نزاله، ولكنها الجريمة تنتزع قلب المجرم من بين جنبيه، وتغشي على عينيه البصيرتين فيصبح بلا قلب وبلا نظر، يرى ما لا يراه الناس، ويخشى ما لا يخشونه، فهو لا يخاف الوحوش والهوام والجن والشياطين والصخور والأحجار، بل يخاف جرائمه وآثامه!
وإنه لكذلك إذ خيل إليه أن إحداها تتحرك من مكانها وتتحلحل تحلحل الليث المتوثب، فاستطير قلبه فرقا ورعبا، وحاول أن يتهم نظره ويستريب به فلم يستطع؛ لأنه ما لبث أن رأى في ذروة تلك الهضبة رأسا يتحرك وينظر إليه بعينين متقدتين، فصرخ صرخة الكلب الجبان الذي ينبح الشبح المقبل نحوه، لا جرأة وإقداما، بل جبنا وفرقا، وقال: من هناك؟ فانحدر الشبح إليه من أعلى الهضبة وقال له بصوت خشن أجش: لا ترتع يا أبت؛ فأنا ولدك قسطنطين. فوثب من مكانه وثبة الملسوع وقال له بصوت متهدج مختنق: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ ومن أنبأك أني في هذا المكان؟ قال له: وأنت ما الذي جاء بك إلى هنا، ومن أنبأك أني في هذا المكان؟ قال له: وأنت ما الذي جاء بك إلى هنا يا أبت؟ وماذا تريد أن تفعل؟ إنني أسألك عن مثل ما تسألني عنه!
فأسقط في يده وطار طائر عقله، وأحس بالخطر المقبل إلا أنه تجلد واستمسك وقال بلهجة الآمر المسيطر: وما سؤالك عن مثل هذا أيها الفتى الجريء؟ وما شأنك بي وبما أفعل؟ وكيف فارقت حصنك في هذه الساعة من الليل؟ ومن أذنك بذلك؟ قال: لم أستأذن في ذلك أحدا غير واجبي ، إنني أعلم كل شيء يا أبت، وأعلم أنك ما جئت إلى هذا المكان إلا لترتكب أفظع جريمة يرتكبها إنسان في العالم! فصاح برانكومير وهو يتميز غيظا وحنقا: كذبت أيها الغلام الوقح، واجترأت على ما لم يجترئ عليه أحد من قبلك! عد الآن إلى حصنك، ولا تبق بعد صدور أمري إليك لحظة واحدة، فإن جاولتني في ذلك فأنت أعلم بما يكون! إنك لا تفهم شيئا من أسراري وخويصات نفسي، وليس لك أن تسألني عنها؛ لأنك جندي والجندي لا يسأل قائده، بل يأتمر بأمره ولو كان الموت الزؤام! عد إلى مخفرك وتول حراسته بنفسك، ولا تأذن لجفنك بالغمض لحظة واحدة، وسأحدثك غدا في هذا الشأن حديثا طويلا تعلم منه كل شيء.
فتضعضع قسطنطين أمام هذه اللهجة الرزينة الهادئة، وجثا على ركبتيه بين يديه وقال له: عفوا يا أبت، فقد أخطأت في سوء ظني بك، فأنت أشرف من أن تضع نفسك حيث أرادوا أن يضعوك، وما أحسب كلمتك التي قلتها للأميرة منذ حين في تلك الخلوة الرهيبة إلا كلمة مزح ودعابة أردت بها مداراتها وملاينتها، أو الهزء والسخرية بها، حتى إذا فصلت عنك وخلا بك مكانك محوت بظهر يدك عن فمك تلك القبلة الأثيمة التي ختمت بها ذلك العهد الأثيم، ثم قلت لها في نفسك: إنني قد عاهدت الله، أيتها المرأة البلهاء، قبل أن أعاهدك على أن أكون أمينا لوطني، وفيا له، فلا أحفل بعهد غير هذا العهد، ولا بيمين غير تلك اليمين، ثم خفت أن تكون قد استرابت بك أو مرت بخاطرها خلجة شك في أمرك فأخذت للأمر حيطتها من طريق غير طريقك، فجئت بنفسك لتتولى حراسة التخوم وحمايتها، حتى إذا شعرت بسواد الجيش التركي مقبلا أشعلت النيران إنذارا لجيشك بالخطر الداهم، وخيبت آمال أعدائك فيما يكيدون لك ولقومك.
أليس كذلك يا أبت؟ نعم، إنه كذلك بلا شك ولا ريب، فأشعل النار الآن ودعها تسطع في هذا الفضاء الواسع، وتبدد بلألائها هذه الظلمات المتكاثفة؛ فإني أشعر بسواد مقبل من بعيد يتقدم شيئا فشيئا، وما أحسبه إلا فيالق العدو وجيوشه. انظر يا أبت واخترق بنظرك هذا الفضاء الشاسع، ألا ترى تحت خط الأفق أشباحا تتحرك وتتقدم؟ إنه ليخيل إلي أنها أعلام الجيوش التركية تخفق في أجوائها، وربما لا تمضي ساعة أو بعض ساعة حتى تكون قد وصلت إلى هنا!
أسرع بإشعال النار أو عد أنت إلى قصرك وخذ لنفسك راحتها فيه ودعني أتولى عنك إشعالها، فالخطر موشك أن يقع ما من ذلك بد!
ما لي أراك جامدا يا أبت؟ وما هذا الذهول الذي تولاك؟ أشعل النار أو تنح عن طريقي لأشعلها، أشعلها فالوقت أضيق من التأمل والتفكير!
فرفع برانكومير رأسه ونظر إلى ولده نظرة جامدة وقال له: إذن أنت تتهمني يا قسطنطين وترتاب بي، ما أشقاني وأسوأ حظي! ولدي وفلذة كبدي ووارث اسمي ولقبي يتهمني ويتجسس علي، ويقف وراء الأبواب ينظر من خصائصها ليسمع ما يدور بيني وبين زوجي في خلوتي! فيا للعار ويا للشقاء! أيها الولد العاق المسكين، اذهب لشأنك؛ فإني أريد أن أبقى هنا الليلة وحدي، ولا تجازف بمخالفة أمر قائد تعود أن يأمر فيطاع، وليس من شأن مثله أن يصبر لحظة واحدة على مخالفة أمره، إنني سأبقى هنا وحدي، وسأشعل النار بنفسي عندما أريد إشعالها، فلا حاجة بي إلى مشورتك ومعونتك، عد أدراجك إلى حصنك ولا تضف إلى جريمة التجسس على أبيك جريمة معاندته ومخالفة أمره، واعلم أنك الآن جندي أمام قائده لا ولد بين يدي أبيه.
فأن قسطنطين وتأوه آهة طويلة وقال: وا رحمتاه لي ولك يا أبت! إن الأمر صحيح لا ريب فيه، والجريمة توشك أن تقع.
ثم صمت صمتا طويلا لا تطرف له فيه عين، ولا تنبعث له جارحة، ثم انتفض فجأة وصاح بلهجة شديدة صارمة: أبي، إنني سأبقى هنا!
فدهش الأب لعناده وصلابته وقال له: ما أراني الآن إلا أمام عدو لدود لا ولد بار مطيع! قال: لا يا أبت، بل أمام ولد بار مطيع، ولولا ذلك ما جشمت نفسي مشقة المجيء إليك في هذه الساعة من الليل، ولا وقفت أمامك هذا الموقف الخطر المميت، إنني لم أفعل ذلك من أجل نفسي، بل من أجلك ومن أجل شرفك، إنني أحبك كما أحب وطني، وما على وجه الأرض شيء أحب إلي منكما، وكما أتمنى له أن يعيش حرا مستقلا أتمنى لك أن تعيش شريفا عظيما، فإذا ضاع وطني وكان ضياعه على يدك أنت فقدت في ساعة واحدة جميع ما أحب في هذه الحياة؛ فارحم ولدك المسكين الذي لا يزال يضمر لك في قلبه حتى الساعة ذلك الحب القديم الذي تعرفه، واستبق له تلك السعادة التي لم يبق له في الحياة سعادة غيرها، تنح قليلا عن طريقي وائذن لي أن أصل إلى هذه الرابية لأشعل نارها فيراها حراس الروابي جميعا فيشعلوا نيرانهم، فينهض الجيش للدفاع عن الوطن؛ فقد أزفت الساعة ولم يبق سبيل للأناة والتفكير.
ثم اندفع إلى مكان الرابية مسرعا فاعترضه أبوه ووقف في وجهه وقفة الصخرة العاتية في وجه الريح العاصف وقال له: لا آذن لك بالتقدم خطوة واحدة، ودون ما تريد الموت الزؤام! فطاش عقل قسطنطين وجن جنونه وقال له: احذر يا أبت؛ فإن في هذه السماء المشرقة علينا بنجومها وكواكبها إلها ينتقم من الظالمين، ويجازي الخائنين بخيانتهم شر الجزاء، وما أنت بناج من عقابه، ولا مفلت من جزائه! لقد حدثتني نفسي في تلك الساعة الهائلة التي سمعتك فيها تؤامر على وطنك وأمتك بأفظع ما تحدث به نفس صاحبها، وكنت على وشك أن أرفع أمرك إلى الملك أنت وزوجك، وأكشف له دخيلة أمركما، فلم أفعل؛ لأني ضننت بك على الموت الدنيء الذي يموته الخائنون المجرمون أمثالك، وأشفقت على ذلك الشرف العظيم الذي بلغ في علوه مناط السماك الأعلى أن يصبح مهانا مذالا تدوسه الأقدام، وتطؤه النعال، وكرهت أن يمر السابلة من رعاع الناس وغوغائهم على قبرك بعد موتك فيبصقوا عليه كأنما يبصقون على قبر الشيطان، وربما نبشوا عن جثتك تشفيا منك وانتقاما، فأخرجوها من قبرها وأسلموها إلى جوارح الطير وكواسر الوحش تمزق أشلاءها، وتبعثر عظامها .
أشفقت عليك من كل هذا، وأشفقت على نفسي أن يراني الناس في طريقي فيشيروا إلي بأصابعهم ويقولوا: هذا هو الولد السافل الدنيء الذي وشى بأبيه وأورده مورد التهلكة، فبئس الولد ولبئس الوالد! ولا يلد الخونة المجرمون غير الأدنياء الساقطين! فنهنهت نفسي وملكت عليها زمامها وقلبي يذوب حزنا ولوعة، وقلت: لعلني أستطيع أن أتدارك الأمر عن طريق غير تلك الطريق، وأن أتمكن في آن واحد من إنقاذ أبي وإنقاذ وطني من حيث لا أخسر واحدا منهما في سبيل الآخر، فجئت وقلبي ممتلئ أملا ورجاء.
أما الآن وقد يئست من كل شيء، فإني أكاد أشعر بالندم على ضياع تلك الفرصة التي ملكتها ساعة من الزمان فسرحتها ولم أنتفع بها، وكأن صوتا خفيا يهتف بي من أعماق قلبي: إنك قد أشفقت على نفسك مرة وعلى أبيك أخرى، ولم يخطر ببالك لحظة واحدة أن تشفق على وطنك وقومك.
فأسألك مرة أخرى يا سيدي، وربما كانت هي المرة الأخيرة، أن تتنحى عن طريقي، فإنني قد عزمت عزما لا مرد له أن أقتحم هذه الرابية لأضرم نارها رضيت أم أبيت، سقطت السماء على الأرض أم بقيت في مكانها!
فأطرق برانكومير لحظة ذهبت به فيها الهموم والأفكار كل مذهب، ثم رفع رأسه فإذا دمعة كبيرة تترقرق في عينيه، ونظر إلى ولده نظرة عتب وتأنيب وقال له: نعم يا بني، إنك قد أخطأت خطأ عظيما إذ أضعت الفرصة العظيمة التي لاحت لك، وقد كان جديرا بك أن تفترصها ولا تسرحها، وأن تلقي في عنق أبيك في تلك الساعة التي رابك فيها من أمره ما رابك غلا ثقيلا تقوده به إلى حضرة الملك متهما إياه بجريمة الخيانة الكبرى؛ ليأمر بقتله، فتمتع نظرك برؤيته مصلوبا على باب المدينة والجماهير من حوله يبصقون على وجهه، ويصفعون قذاله، ويرجمونه بالحجارة على مرأى من ضباطه وجنوده وأسرته وأصدقائه، وربما اشترك هؤلاء جميعا معهم في عملهم.
نعم، إنها فرصة ثمينة جدا قد أضعتها بترددك وتحيرك، وقد كان جديرا بك أن تقدم إقدام العازم المصمم كما كان يفعل أبوك لو كان في مكانك، فقد عودت نفسي أنني إذا عزمت على أمر لا أتردد فيه ولا أتريث، وقد عزمت الآن على ألا أشعل هذه النار، فلا أشعلها، ولا آذن لك بالتحرك من مكانك خطوة واحدة!
فوقف قسطنطين حائرا ملتاعا يترجح بين اللهف على وطنه الضائع والإشفاق على أبيه المسكين، لا يستطيع أن يخون وطنه الذي نبت في تربته، وعاش بين أرضه وسمائه، ولا أن يعق أباه الذي أبرزه إلى الوجود، ووهبه نعمة الحياة التي ينعم بها، فأسند رأسه إلى صخرة كانت بجانبه خائرا متضعضعا تتوارد في رأسه الخواطر والأفكار يصارع بعضها بعضا، ويشتد بعضها في أثر بعض، حتى بلغ منه الإعياء مبلغه، فنظر إلى أبيه نظرة منكسرة حائرة تفيض حزنا ويأسا وقال: أيرضيك يا ميشيل برانكومير، يا بطل البلقان وحاميها وأشرف من أنجبت به أصلاب رجالها وأرحام نسائها، أن يملك العدو علينا هذه البلاد العزيزة الكريمة فيقتل أبناءها، ويستحل حرماتها، وينكس صلبانها، ويهدم صوامعها ومعابدها، ويخرس فيها كل صوت غير صوت الأذان على ذرى المنائر؟
قال: نعم، يرضيني ذلك؛ لأنني أحسنت إليها فكفرت بنعمتي وجازتني شر الجزاء على صنيعي! قال: إن لم تفعل ذلك من أجلها، فافعله من أجل ربك، قال: أي رب تريد؟ إنني لا أفعل شيئا من أجله، فهو ممالئ مداج لا يحب إلا قساوسته وكهانه، ولا يرى رءوسا تصلح للتيجان غير رءوسهم الصغيرة الصلعاء، ولكنني سأنتزع بالرغم منه ذلك التاج من ذلك الرأس الذي توجه به وأضعه على رأسي، قال: ولكنك تعلم يا أبت أن التاج الذي يتناوله متناوله من يد عدوه ليس بتاج شريف، قال: ولكنه تاج على كل حال! قال: ألا تخاف أن يثقل يوما على رأسك فيهبط إلى عنقك ويستحيل إلى طوق حديدي ويقضي عليك؟ قال: إنك تهينني يا قسطنطين وتهددني، ولقد بلغت بوقاحتك الغاية التي لا غاية وراءها، فتجمل قليلا ولا تنس أنك إنما تخاطب أباك! قال: عفوا يا أبت وغفرا، فلقد بلغ بي اليأس مبلغه حتى أصبحت لا أفقه ما أقول!
ثم دنا منه وأمسك بيده وأنشأ يخاطبه بصوت ضعيف متهافت ويقول: عد إلى نفسك لحظة واحدة يا أبت، وراجع فهرس تاريخك الشريف، واذكر تلك الأيام المجيدة التي أبليت فيها في الدفاع عن وطنك وقومك بلاء سجله لك التاريخ في صفحاته البيضاء بأقلامه الذهبية، وتلك الوقائع الحربية الهائلة التي كنت تستقبل فيها الموت استقبال العروس ابتسامات عروسه الحسناء ليلة زفافها، وتضحك للهول فيها ضحك الزهر لقطرات الندى، والنبت لأشعة الشمس، ثم تعود منها منصورا مظفرا يستقبلك نساء القرى وفتياتها في كل طريق مررت به بدفوفهن وعيدانهن يغنينك ويرقصن بين يديك، ويرتشفن قطرات الدماء من كئوس جراحاتك، وينثرن الأزهار تحت قدميك، وينادينك باسم المخلص العظيم، وخليفة المسيح في الأرض.
اذكر تلك الأعلام الوطنية التي تخفق على أبواب المدينة وأسوارها، وترنحها طربا وسرورا عند رؤيتك، وتراميها على قدميك كلما مررت بها كأنها تحاول تقبيلهما ولثمهما، واخش إن مررت بها بعد اليوم أن تشيح بوجهها عنك احتقارا وازدراء، وتضم أطرافها إلى نفسها ترفعا وإباء حتى لا تلمس جسمك، ولا تخفق فوق رأسك.
لا تبع أمتك يا أبت بعرض تافه من أعراض الحياة، فالتاج الذي يتناوله صاحبه من يد عدوه ليس بتاج الملك، إنما هو قلنسوة الإعدام.
كيف يهنؤك ذلك الملك وأنت ترى أمتك المسكينة راسفة في قيود الذل والاستعباد تبكي وتستصرخ ولا منجد لها ولا معين، وتئن في يد عدوها القاهر أنين المحتضر المشرف ولا من يسمع أنينها، أو يصغي إلى شكاتها.
كيف يهنؤك ذلك العيش وأنت ترى أبناء وطنك أسارى أذلاء في قبضة أعدائهم يسوقونهم بين أيديهم سوق الجزار ماشيته إلى الذبح، فإن خفق قلبك خفقة الرحمة بهم أو العطف عليهم لا تستطيع أن تمد يدك لمعونتهم وإنقاذهم؛ لأنك قد بعتهم ونفضت يدك منهم فلا سبيل لك إليهم بعد ذلك.
اذكر يا أبت تلك الأيام التي لقي فيها هذا الشعب المسكين على يد هؤلاء القوم الظالمين ما لم يلق شعب في الأرض على يد فاتح أو مغتصب، أيام كنا غرباء في أوطاننا، أذلاء في ديارنا، نمشي فيها مشية الخائف المذعور، وننتفض انتفاضة الهارب المتنكر، لا نعلم أيسقط الشقاء علينا من علياء السماء، أم ينبعث إلينا من أعماق الأرض؟ وهل يخرج الخارج منا من منزله ليعود إليه، أو ليرد المورد الذي لا رجعة له منه أبد الدهر؟
اذكر أيام كانوا يملكون علينا كل شأن من شئون حياتنا حتى زروعنا وضروعنا، ومياه أنهارنا، وأشعة شموسنا، فأصبحنا ولا شأن لنا في وطننا إلا كما لعمال المزرعة ونواطيرها من الشأن فيها، ويحصون علينا كل حركة من حركاتنا، وكل سكنة من سكناتنا، حتى نبضات قلوبنا، وخواطر أفكارنا، وفلتات ألسنتنا، وأحاديث آمالنا، ويحاسبوننا على النظرة واللفتة، والأنة والزفرة، والقومة والقعدة، ثم يقضون فينا بما شاءوا من أقضيتهم، فلا ينحسر ظلام ليلة من الليالي إلا عن مصلوب تهفو به الرياح السافيات، أو طريح مرتهن في أعماق السجون!
اذكر أيام كانت كلمة الوطن جريمة يعاقب عليها قائلها بحرمانه من ذلك الذي يهتف باسمه، وكلمة الدين إثما عظيما يذهب بصاحبه إلى أحد القبرين: إما المنشور، وإما المحفور.
اذكر الدموع التي كانت تذرفها الأمهات على أطفالهن المذبوحين فوق حجورهن، والصيحات التي كانت تصيحها الزوجات والأخوات الواقفات بأبواب السجون على أزواجهن وإخوتهن، والزفرات التي كان يصعدها اليتامى الثاكلون على حافات القبور حنينا إلى آبائهم وأمهاتهم الهالكين!
اذكر ذلك كله ولا تنسه، لا بل أنت تذكره وتعرفه كما تعرف نفسك؛ لأنك أنت الذي قصصته علينا ومثلته لأعيننا وقلوبنا، وأريتنا من ويلاته ومصائبه ما لم نره، ولطالما كنت تبكي عند ذكراه بكاء الطفل الثاكل أمه، فنبكي لبكائك وننشج لنشيجك.
ألا تسمع هذه الأصوات المخيفة التي تحملها إلينا الرياح من ذلك الجانب الغربي؟ إنها أصوات الموتى من جنودك وأبطالك يضجون في قبورهم صائحين: وا ويلتاه، ها هي ذي السماء توشك أن تنقض على الأرض! وها هي ذي أقدام العدو تدنو من تخوم البلقان وبطاحه، وتوشك أن تطأ بنعالها قبورنا، وتزعجنا من مراقدنا، وها هو ذا قائدنا المحبوب برانكومير العظيم الذي سفكنا دماءنا وبذلنا أرواحنا في سبيل ظفره وانتصاره يساوم عدونا في وطننا، ويحاول أن يبيعه نساءنا وأولادنا الذين تركناهم أمانة في يده، ففي سبيل الله ما سفكنا، وفي ذمة القدر ما بذلنا!
ألا تسمع هذه الهمهمة الهابطة علينا من آفاق السماء؟ إنها أصوات الملائكة الأبرار يصيحون ويصخبون وهم وقوف بين يدي ربهم يقولون له: حتى متى يسع حلمك وأناتك هذا الخائن الغادر الذي يبيع أمة من أمم المسيح إلى أعدائها وأعداء دينها، ويسلم إليهم أرواحها وأغراضها، فاقض اللهم فيه قضاءك العادل، واضربه الضربة التي تجعله عبرة للخائنين، ومثلا في الغادرين.
إلي أيتها الذكريات القديمة، والانتصارات العظيمة، والأيام الغر المحجلة المكتوبة بمداد الذهب في صفحات التاريخ، مدي إلي يد مساعدتك، وأعينيني على ذلك الرجل البائس المسكين، وتمثلي أمام عينيه لتذكريه بنفسه وتاريخك، عله يحمر خجلا عند رؤيتك، ويقشعر بدنه رهبة من خيال الجريمة التي يريد ارتكابها.
إلي أيتها الفضائل الإنسانية والكمالات العالية، من شرف وعزة، وترفع وإباء، وأمانة وإخلاص، تعالين إلي جميعا واجثين معي بين يديه، واضرعن إليه أن ينصفكن، ويعدك في أمركن، ولا يقضي للرذيلة عليكن، وقلن له: إنك إن خذلتنا ونفضت يدك منا؛ فلن نجد لنا من بعدك ناصرا ولا معينا.
يا أطفال البلقان وصغارها الناشئين من فتية وفتيات، أقبلوا إليه جميعا، واجتمعوا من حوله، وتعلقوا بأهداب ثوبه، واسكبوا ما تستطيعون أن تسكبوا من دموعكم وشئونكم تحت قدميه، وقولوا له: رحمة بنا أيها الأب الرحيم، والسيد الكريم، وحنانا علينا، لا تكلنا إلى أعدائنا وأعداء وطننا، ولا تجعل مستقبلنا ومستقبل بلادنا في أيديهم يسوموننا الخسف، ويذيقوننا ألوان العذاب، فإن أبيت إلا أن تفعل، فجرد سيفك من غمده واقطع به أعناقنا؛ فذلك خير لنا من هذا العيش المؤلم المرير.
وكان يتكلم ودموعه تنهمر على خديه دائبة ما تهدأ ولا ترفأ، وأبوه يضطرب بين يديه اضطراب الدوحة الماثلة في مهاب الرياح الأربع، ويزفر زفرات محرقة ملتهبة، وقد قامت في نفسه تلك المعركة الهائلة التي تقوم في كل نفس شريفة بين الواجب والشهوة، يتمثل له الأول في وجه قسطنطين العبوس المكتئب، فيرتعد ويضطرب، وتتراءى له الثانية في وجه بازيليد الضاحك المشرق، فيخور ويتضعضع، لا يستطيع أن يعرض عن نداء وطنه؛ لأنه نداء يصل إلى أعماق قلبه، ويبلغ صميمه، ولا أن يفلت من سلطان شهوته؛ لأنه سلطان قاهر جبار لا يفلت منه قوي ولا ضعيف، فوضع إحدى يديه على عينيه، ومد الأخرى أمامه كأنما يطارد أشباحا مخيفة هائلة تتقدم نحوه، وظل يصيح بأعلى صوته: اصمت يا قسطنطين! اصمت يا ولدي! لا أستطيع أن أحتمل أكثر مما احتملت، آه من القدر وأحكامه، والدهر وتصرفاته، وويلي من الشقاء المكتوب، والبلاء الحتم، من لي بيد قوية تنقذني من هذا الشقاء المحيط بي، فقد أصبحت وما على وجه الأرض أحد أجدر بالرحمة والشفقة مني، العنوني جميعا يا أولادي وأبناء وطني، وانتقموا مني بأفظع أنواع الانتقام؛ فإنني خائن لئيم لا أستحق رحمتكم ولا مغفرتكم، ثم صمت صمتا عميقا لا ينبس فيه ولا يتحرك، وظل على ذلك هنيهة ثم نظر أمامه نظرة الدهشة والذهول، فخيل إليه أنه يرى شبحا يتقدم نحوه، فمد يده إليه وأخذ يناجيه ويقول: بازيليد، ألا تستطيعين أن تحليني من ذلك القسم الذي أقسمته لك، فقد ضعف كاهلي عن احتماله واحتمال أثقاله، لا أريد ملكا ولا تاجا ولا صولجانا، بل لا أريد أن أبقى على ظهر الأرض يوما واحدا؛ الموت! من لي به في هذه الساعة فأنجو من همومي وآلامي؟
فتهلل وجه قسطنطين غبطة وسرورا، ووقع في نفسه أن الرجل قد تلوم واستخذى، وبدأ يستفظع ذنبه ويستهوله، فترامى على عنقه واحتضنه إليه وظل يقول بنغمة الفارح المغتبط: أحمدك اللهم قد أنقذت لي أبي! فحنا أبوه عليه وظلا متعانقين ساعة لا يسمع فيها إلا تردد أنفاسهما، ونشيج بكائهما، ثم افترقا بغتة واشرأبا بأعناقهما حينما سمعا في لحظة واحدة حسيس جيش العدو وهو مقبل من ناحية الشمال، وكان ما سمعاه في هذه المرة حقيقة لا وهما، فارتجلا في وقت واحد حركتين مختلفتين؛ إذ وثب قسطنطين إلى الرابية وثبة عظمى ليضرم نارها، ووثب أبوه وثبة أعظم منها فاعترض سبيله وصرخ في وجهه: قف مكانك، لا تتقدم خطوة واحدة! فأصاب قسطنطين مثل الجنون وقال له: تنح عن طريقي، أيها المجرم الأثيم؛ فقد فرغ صبري، قال: إنك لا تستطيع أن تمر إلا على جثتي. فارتعد قسطنطين وبرقت عيناه وذهبت به الأفكار مذاهبها، وقال له: أي كلمة هائلة نطقت بها أيها الرجل الشقي؟! وأي قضاء قضيت به على نفسك؟! تنح عن طريقي؛ فإن نفسي تحدثني بأفظع ما تحدث به نفس صاحبها في هذا العالم، قال: إنك لا تستطيع أن تقتل أباك، قال: أستطيع أن أفعل كل شيء في سبيل وطني، إنني وقفت سيفي طول حياتي على خدمتك وحمايتك والذود عنك أيام كنت لوطنك وقومك، أما الآن فإني أغمد ذلك السيف نفسه في صدرك طيب النفس مثلوج الفؤاد؛ لأني أعتقد أني لا أغمده في صدر أبي، بل في صدر خائن وطني، قال: لا تنس أن لي يدا أقوى من يدك، وسيفا أمضى من سيفك، قال: إني لا أجهل ذلك، ولكنك تقاتل في سبيل الدناءة والخيانة، وأقاتل في سبيل الواجب والشرف، والله مطلع علينا من علياء سمائه، وهو الحكم العدل بيننا. فجرد برانكومير سيفه وهجم على ولده هجمة قوية، فجرد الآخر سيفه وتلقى ضرباته بأشد وأنكى منها، وما هي إلا جولة أو جولتان حتى حكم القاضي العادل حكمه؛ فسقط الظالم ونجا المظلوم!
فنظر قسطنطين إلى جثة أبيه الساقطة تحت قدميه نظرة جامدة صامتة لا يعلم ما وراءها، ثم أغمد سيفه وصاح بأعلى صوته: رحمتك اللهم؛ فإني لا أستطيع أن أفعل غير ما فعلت. ثم هجم على الرابية فأشعل نارها، فضاءت بها أرض البلقان وسماؤها.
وفي اليوم الثاني نشر الملك ميلوش على الأمة هذا البلاغ:
حاول العدو ليلة أمس تبييت جيوشنا وأخذها على غرة، وكاد يظفر بذلك لولا أن انتبهت الفرقة الأولى من الجيش ونهضت للدفاع بقيادة ضابطها العظيم قسطنطين برانكومير، فأبلت في المعركة بلاء عظيما، ووقفت العدو في مكانه ساعة كاملة، حتى نهضت بقية الفرق لمساعدتها، فدارت معركة هائلة بين الجيشين انتهت بانتصارنا وانهزام العدو إلى مواقعه الأولى، ولكن المصاب العظيم الذي عم الجيش وشمل الأمة بأسرها هو موت قائدنا العظيم «ميشيل برانكومير»؛ فقد وجد في أثناء المعركة قتيلا بضربة سيف في خاصرته بين صخور «تراجان» تحت القوس الروماني، وسيحتفل بتشييع جنازته غدا احتفالا عسكريا جليلا يليق بمقام شهيد الوطن وبطله العظيم!
أما الذي خلفه في قيادة الجيش، فهو ولده الضابط الشجاع منقذ الأمة والوطن «قسطنطين برانكومير».
الضمير
مضى الليل إلا قليلا وقسطنطين ساهر في فراشه لا يغمض له جفن، ولا يطمئن له جنب؛ لأن مصرع أبيه في شعب «تراجان» لا يزال ماثلا أمام عينيه ما يفارقه لحظة واحدة، وكان كأنه يرى الجثة بين يديه تتلوى وتتمرمر وتنظر إليه نظرات حادة ملتهبة، وكأن جرحها الدامي بين أضلاعها لا يزال يتدفق منه الدم، فثار من مكانه هائجا مذعورا، وحاول أن يطرد هذا الخيال عن نظره فلم يستطع، فمد يده إلى ذلك الجرح الموهوم الماثل أمامه يريد أن يعترض سبيل الدم المتدفق منه فغلبه على أمره، وازداد في تدفقه وانبثاقه حتى ملأ أرض الغرفة جميعها، وصبغ بلونه الأحمر القاني جميع ما فيها من فرش وأثاث وآنية وثياب، فاشتد فزعه وارتياعه، ولم يستطع أن يحتمل أكثر مما احتمل، فوقع مغشيا عليه.
وظل على ذلك ساعة حتى انفثأت حرارة دمه، فاستفاق من غشيته وجلس إلى نفسه يناجيها ويقول: إنني على ثقة من نفسي، لم أفعل إلا ما يجب على كل رجل شريف أن يفعله، فما هذا الخوف الذي يساورني؟ وما هذه الصور المخيفة التي تتراءى لي في يقظتي وأحلامي؟ كان يجب علي أن أضرب؛ لأنه ما من ذلك بد ففعلت، فلم أرتاب في عملي! ولم أرتعد ارتعاد المجرمين الآثمين؟ إن الرجل لا يخاف إلا ذنبه، وأنا لم أذنب إلى أحد؛ لأن الرجل الذي قتلته كان يريد أن يقتل أمة بأسرها فأنقذتها بقتله، بل أنقذت عشرين أمة من أمم المسيح في أوروبا؛ ألا يجوز للإنسان أن يقتل الأفعى دفعا لأذاها، والوحش كسرا لشرته، واللص اتقاء لضرره؟! إنني لم أفعل غير ذلك، فما لي أرى وجه السماء أحمر قانئا ليله ونهاره، وما لي أجد مذاق الدم في كل كأس أشربها من ماء أو خمر، وما لي لا أستطيع النظر إلى يدي خوفا ورعبا! إنني لم أقتل أبي، ولكني أحييته؛ لأنه إن كان يحيا اليوم في قلوب الناس حياة العظمة والمجد، وكان تمثاله إلها معبودا يطيف به الشعب، ويقبل أركانه، ويتبرك بلمسه واستلامه، وكان اسمه طغراء الأسماء الشريفة المسجلة في التاريخ، فإنما ذلك بفضل الضربة التي ضربته إياها، ولولا ذلك لعاش بقية أيام حياته عيش الأدنياء الساقطين، أو مات موت الخونة المجرمين.
وهنا انتفض واصفر وارفض جبينه عرقا، وقال بصوت ضعيف مختنق: نعم، إن ذلك كله صحيح لا ريب فيه، ولكنني قتلت أبي!
ثم لم يلبث أن عادت إليه مخاوفه ووساوسه، فرأى الجثة والمصرع، والطعنة النجلاء، والدم المتدفق، وسمع تلك الأصوات التي تهتف به في كل مكان: «يا قاتل أبيه! يا أكبر المجرمين! يا عار البشرية وشنارها!» فجن جنونه، وثار ثائره، وعادت له سيرته الأولى.
ولم يزل هكذا ليله كله، يهدأ حينا ويثور أحيانا، حتى نشر الفجر رايته البيضاء في آفاق السماء، فاستروح رائحة الأنس، وشعر ببرد الراحة، فأوى إلى مضجعه.
كذلك كان شأن قسطنطين دائما، وكذلك كانت أكثر لياليه مذ حدث ذلك الحادث العظيم.
الأزهار
دخلت ميلتزا غرفة قسطنطين صباح ليلة من تلك الليالي الطويلة الليلاء وبيدها باقة من الزهر تريد أن تقدمها إليه، فرأته مضطجعا على كرسيه، مستغرقا في نومه وآثار الدمع ظاهرة بين أهداب عينيه وفي صفحتي خده، فرثت لحاله وجلست تحت قدميه ترقب يقظته رقبى المجوسي طلعة الشمس من مشرقها، فحمل النسيم إلى رأسه نفحات تلك الأزهار فانتعش وتحرك في مكانه وفتح عينيه فرآها، فابتسم وتهلل وقال: ميلتزا! قالت: نعم يا سيدي، نعمت صباحا ونعمت جميع أيامك بكورها وأصائلها. ثم مدت يدها إليه بالباقة وقالت له: قد اقتطفت لك صباح اليوم هذه الأزهار الجميلة التي تحبها أكثر من سواها، لتستروحها فتروح عن نفسك برياها همومها وأحزانها.
فتناول الباقة منها واستنشقها وتنفس تنفسة طويلة، ثم نظر إليها نظرة حلوة عذبة وقال لها: أتعلمين، يا ميلتزا، أنني أستنشق في هذه الأزهار التي تهدينها إلي أنفاسك الأريجة العطرة، وإن الذي ينعشني ويحييني ويرفه عني همومي وآلامي في هذه الباقة إنما هو أريجك لا أريج الأزهار. فارتعدت ميلتزا لأول كلمة حب سمعتها من فمه، وظل قلبها يخفق خفقانا شديدا، وملك الدهش عليها عقلها ولسانها فلم تستطع أن تنطق بحرف واحد، وظلت شاخصة إليه ببصرها، فاستمر في حديثه يقول: لقد كنت أطلب الموت قبل دخولك وأتمناه تمنيا شديدا، حتى رأيتك ورأيت هذا الجمال المتلألئ في عينيك، وشممت أنفاسك العطرة المنبعثة من أوراق أزهارك، فأحببت الحياة من أجلك، وأصبحت أتمنى أن أعيش لأراك وأقضي بقية أيام حياتي بجانبك، فشكرا لك يا صديقتي؛ فأنت النجمة الوحيدة الباقية في سماء حياتي بعدما غربت جميع نجومها وكواكبها، والشعاع المضيء الذي ينبعث إلى أعماق سجني المظلم الحالك فيبدد ظلمته، وينير جوانبها، ويملأ قلبي أملا ورجاء، والواحة المخصبة الخضراء التي ألجأ إليها كلما قطعت مرحلة في صحراء هذه الحياة المحرقة، فأنام تحت نخيلها، وأبترد ببرد مياهها.
قالت: ليتني أستطيع أن أكون عند ظنك بي يا سيدي، بل ليتني أستطيع أن أقاسمك هذه الهموم والأحزان التي تعالجها، أو أحتملها عنك جميعها حتى لا أراك بين يدي إلا باسما متطلقا في جميع آنائك وساعاتك. إنني أمتك الوضيعة المسكينة يا سيدي، وليس لفتاة مثلي أن تسألك عن سبب همومك وأحزانك، ولكنني أستطيع أن أضرع إليك أن تسريها عن نفسك، وتهونها عليك، فأنت رجل فاضل شريف، وقد قلت لي قبل اليوم: إن الرجل الفاضل الشريف يعيش من شرفه وفضيلته في سعادة لا يهنأ بمثلها الملوك في قصورهم! قال: ومن أين لك أنني رجل فاضل شريف؟ قالت: لو لم تكن كذلك لما أحببتك! فابتسم قليلا وقال: إذن أنت تحبينني يا ميلتزا! قالت: نعم يا سيدي، أكثر من كل شيء في العالم، ولولا كرامة أمك عليك وجلال ذكراها في قلبك لقلت لك: إنها ما كانت تحبك في حياتها أكثر مما أحبك اليوم!
فأطرق قسطنطين لتلك الذكرى المؤلمة، ومرت بجبينه سحابة سوداء قاتمة، فرفع رأسه وقال لها: حسبك يا ميلتزا، لا تذكريني بأمي، فما أحسبها الآن إلا ناقمة علي في قبرها، تلعنني وتستعدي ربها علي وتسأل الله صباحها ومساءها أن يعاقبني وينتصف لها مني! وا خجلتاه من نفسي يوم ألقاها في تلك الدار، ويجمع الموقف العظيم بيني وبينها! فارتاعت ميلتزا عند سماع هذه الكلمة وذهبت بها الظنون كل مذهب، وظلت تنظر إليه نظرا غريبا حائرا، وقد بدأت تفهم ذلك السر الهائل الذي أعياها أمره زمنا طويلا، وتدرك السبب في حزن قسطنطين هذا الحزن الشديد الذي يقيمه ويقعده ويساور نفسه ويقلقها منذ قتل أبوه حتى اليوم، وكأنه قد ألم بما دار في نفسها وتردد في خاطرها فظل ناظرا إليها بلهف وشوق ينتظر أول كلمة تنطق بها بعد هذا الصمت الطويل انتظار المتهم أول كلمة ينطق بها قاضيه بعد سماع دفاعه، حتى رآها تبتسم وتتهلل وتقول له: هون عليك الأمر يا سيدي، ولا ترتب في نفسك ولا في ضميرك؛ فما أنت بمجرم ولا قاتل، ولكنك رجل شريف، ولولا أنك كذلك لما أحببتك.
فمد يده إليها فتناول يدها وقال لها: أتعدينني يا ميلتزا أن تكتمي في صدرك كل شيء؟ قالت: نعم، أعدك وعدا لا أخيس به، قال: وشيء آخر يا ميلتزا، قالت: وما هو يا سيدي؟ فأدناها منه وضمها ضمة خفيفة إلى نفسه وقال لها: أتقسمين لي على الحب حتى الموت؟ قالت: نعم يا سيدي، أقسم لك، قال: بم تقسمين؟ قالت: بكل ما تسكن به نفسك، قال: ضعي يدك على هذا الخنجر واقسمي به، قالت: أفعل على شرط واحد، قال: وما هو؟ قالت: أن تهديني إياه بعد ذلك، قال: وماذا تصنعين به؟ قالت: أقتل به نفسي يوم يحل بك مكروه! فناولها إياه وهو يقول في نفسه: ربما حل بي عما قريب ذلك المكروه الذي تتوقعين! فوضعت يدها على الخنجر وأقسمت به أن تحافظ على حبه والإخلاص له حتى الموت، فتهلل قسطنطين فرحا وسرورا، ونزعه من خاصرته وعلقه في منطقتها، ثم ضمها إلى صدره ضمة شديدة، وقبلها في ثغرها قبلة كانت عزاءها الوحيد عن كل ما مر بها في حياتها.
حديث
جرح الجندي «أورش» في إحدى المعارك فلزم بيته وتولت ابنته «أنا» معالجته، وكان يزوره بعض أصدقائه من الجنود في الفينة بعد الفينة، فزاره في أحد الأيام الجندي «لازار»، وكان لا يزال حارسا لقصر القائد برانكومير، والخادم الأمين لأرملته بازيليد وثقتها المؤتمن على جميع أسرارها ودخائلها، فقال له «أورش» حين رآه: هل من جديد اليوم يا لازار؟ قال: نعم، قد فشل جيشنا في الواقعة الأخيرة كما فشل في الواقعة الماضية والوقائع التي تقدمتها، ولا أعلم متى تنتهي هذه الانكسارات، فقد تمت عدتها حتى الأمس عشرا، ولا أعلم ما يأتي به الغد. أما القتلى والجرحى فهم كثيرون لا يحصى لهم عدد، وما بيتك بالبيت الوحيد الذي تترقرق فيه الدماء والدموع، ففي كل بيت من بيوت المدينة شاكون ومتألمون.
فقال أورش: لا ريب أن قسطنطين غير أبيه، ولقد فقدنا بفقد ذلك الرجل العظيم قائدا كان خير القواد وأبرعهم، وأوسعهم علما وتجربة، وأعلمهم بموارد الأمور ومصادرها، لم يفلت النصر من يده في جميع معاركه أكثر من مرة أو اثنتين، حتى مات في الوقعة الأخيرة وسيفه مصلت في يده ميتة البطل الشريف، فمات بموته الظفر والانتصار، وأدار الزمات وجهه عنا، ولا يعلم إلا الله متى يقبل بعد إدباره.
فقالت له ابنته «أنا» وكانت جالسة تحت قدميه تضمد له جراحه: لقد قلت لي يا أبت قبل اليوم: إن قسطنطين قائد عظيم لا يشق له غبار، فما هذا الرأي الذي تراه فيه الآن؟ قال: نعم، كان قائدا عظيما في حياة أبيه وتحت لوائه، وأما اليوم وقد استقل بالرأي وحده، وانقطع عنه ذلك الوحي الذي كان يرشده ويهديه، فقد انتقض عليه أمره، وأصبح خائرا مضطربا لا يدري ماذا يفعل ولا كيف يصرف وقائعه ومواقفه، فقالت: إن جيشنا لم ينكسر قط في واقعة من تلك الوقائع التي تذكرونها كما تتوهمون؛ لأنه لم يتخل عن مركزه، ولم يسلم شعبا واحدا من تلك الشعاب التي يحرسها. أما القتلى والجرحى وكثرتهم فهم في جيوش أعدائنا أكثر منهم في جيوشنا أضعافا مضاعفة، وحسبنا ذلك فوزا وانتصارا.
فقال لازار: لقد كانت خطة القائد ميشيل خطة دفاع محض لا يحول عنها ولا يتزحزح، والجبال بين يديه تحميه وتحفظ مواقفه، أما قسطنطين فقد أخذ نفسه بالهجوم على العدو في حصونه ومواقعه، وترك الجبال التي تحميه من ورائه، فكثر القتلى والجرحى في جيشنا، وهي خطة مخاطرة ومغامرة لا يركبها إلا القائد اليائس أو المجنون، ولا أعلم أي الرجلين هو.
قال أورش: أحسبه يائسا قانطا، فإني أشعر كما يشعر كثير من الناس أن سحنته قد تغيرت منذ موت أبيه تغيرا عظيما، وأصبح حزينا منقبضا لا تفارق الكآبة عينيه وجبينه، ولم أر في حياتي ثاكلا حزن على فقيده حزن هذا المسكين على أبيه، قال لازار: ولقد حدثني بعض خدم القصر وحراسه أنه يستيقظ من نومه في بعض لياليه صارخا متفزعا يستغيث ويستنجد كأنما هو يندم على جريمة ارتكبها، أو يخاف شبحا هائلا مقبلا عليه.
فقالت «أنا»: إنكم تظلمون قائدنا ظلما عظيما، فقسطنطين أفضل القواد وأشرفهم، وما هو بجان ولا مجنون. فنظر إليها لازار شزرا وقال: بل هو جان أو على وشك ارتكاب جريمة هائلة، فقد رابني منه مذ ولي قيادة الجيش عفوه عن الأسرى الذين يقدمون إليه، وإنزاله إياهم منزلة الإكرام والإعزاز، واهتمامه بشأنهم كأنهم ضيوف وافدون، لا أعداء محاربون، كما رابني منه أكثر من ذلك اعتزاله الناس وانقطاعه عنهم جميعا، حتى عن زوج أبيه التي تحبه حب الأم ولدها وفلذة كبدها، فإنه مذ هجر قصرها وعاش في بيته الجديد الذي يسكنه اليوم لم يزرها مرة واحدة، ولا دعاها إلى زيارته حتى الساعة.
فقالت «أنا»: أكل أفعال قسطنطين قد أصبحت مريبة عندكم لا تحمل على محمل حسن؟ حتى إكرامه للأسرى المساكين وإشفاقه على ذلهم وضعفهم؟ قال: ليس هذا رأيي وحدي، بل رأي أكثر الجنود، فقد أصبحوا يعتقدون أن قائدهم يقودهم إلى الموت الزؤام عمدا لسر خفي يضمره في نفسه، وما أحسبهم قادرين على احتمال هذه الحالة زمنا طويلا، فاحتدمت «أنا» غيظا وقالت: إن قسطنطين أشرف مما تظنون، وهل ترون محالا أو غريبا أن يحزن المرء على أبيه بعد فقده؟ ثم التفتت إلى أبيها وقالت له بسذاجة ورقة: أقسم لك يا أبت لو أن مكروها أصابك من هذا الجرح الذي في فخذك - لا أذن الله بذلك ولا قدره - لحزنت عليك حزنا يصغر بجانبه حزن قسطنطين على أبيه! فابتسم أبوها وضمها إلى صدره وقال لها: إننا لا نذهب في أمره يا بنية حيث ظننت، ولا نتهمه بخيانة ولا ممالأة، ولكننا نخاف عليه أن يكون قد نفذ اليأس إلى قلبه فضعضعه، وأن تكون نفسه قد حدثته بمسالمة أعدائه ومؤاتاتهم، فأعد لذلك العدة التي رآها، واليأس هو الخديعة الكبرى التي يدسها الشيطان دائما في نفوس الأمم الضعيفة التي يريد قتلها والقضاء عليها.
وهنا دخل بعض الجنود لعيادة أورش، وتلاهم آخرون من بعدهم، واشتركوا جميعا في الحديث، وأنشأ لازار ينفث سموم سعايته ووشايته في صدورهم، حتى أجمعوا رأيهم على أن قسطنطين يخون أمته ويمالئ أعداءها عليها، وأن الرأي الصواب أن يرفعوا أمره إلى الملك ليأمر بعزله عن القيادة ويعهد بها إلى غيره، ثم انصرفوا.
الدسيسة
بينما كان قسطنطين جالسا صبيحة يوم في غرفته إذ دخل عليه حارس بابه يستأذنه لبازيليد أرملة أبيه، فانقبض صدره واشمأزت نفسه؛ لأنه لم يكن رآها ولا أذن لها بمقابلته مذ مات أبوه حتى اليوم، فأذن لها بعد لأي، فدخلت عليه وحيته وجلست بجانبه، وأنشأت تعاتبه في انقباضه عنها ووحشته منها، وسوء رأيه فيها، وتقسم له بحرمة ذلك الدفين الكريم الذي كان يحبه ويحبها أنها لا تضمر له في نفسها موجدة ولا حقدا، ولا تحمل له بين جنبيها غير الحب الخالص والود المتين، ثم قالت له: إنني برغم آلامي وأحزاني التي أعالجها مذ نزلت بي تلك النازلة العظمى حتى اليوم، لم أر بدا من أن آتي إليك في هذه الساعة الشديدة عليك، راجية أن أعينك عليها وأهون عليك أمرها، وربما وجدت السبيل إلى خلاصك منها، فالتفت إليها دهشا، وقال: أي ساعة تريدين؟ وما هي الشدة التي أنا فيها؟
قالت: كأنك لا تعلم أن الخطر الذي يحيط بك عظيم جدا لا قبل لك باحتماله، وأن جنودك قد أصبحوا ينقمون عليك نقمة عظمى، ويبغضونك بغضا لا حد له، ولا تحدثهم نفوسهم بشيء سوى تلمس الطريق إلى الوصول إليك ليقتلوك. فاصفر وجهه وقال: وماذا ينقمون مني؟ قالت: ينقمون منك مخاطرتك بهم في تلك المعارك الهائلة التي تكاد تفنيهم وتقضي عليه، وفشلك في جميع الوقائع التي قمت بها مذ وليت قيادة الجيش حتى اليوم، وقد امتد بهم الحقد عليك إلى سوء الظن بك، فأصبحوا يعتقدون أنك خائن ممالئ للعدو، وأنك ما سلكت هذه الخطة المعوجة في حروبك إلا لتمكن الأعداء من اجتياز الحدود، واقتحام البلاد. فانتفض انتفاضة شديدة، واربد وجهه، ونزت في رأسه سورة الغضب وقال: من ذا الذي يتهمني بالخيانة؟ قالت: جنودك ورجالك.
قال: إنهم كاذبون فيما يقولون - ما في ذلك ريب - إن كنت صادقة فيما تقولين، قالت: ما كذبت عليك قبل اليوم ولا غششتك في النصيحة، ولقد زادهم حقدا عليك وموجدة أن العدو قد اجتاز الجبال ليلة أمس، وربما لا يمر يومان أو ثلاثة حتى يكون قد وصل إلى أبواب العاصمة، وسيصل بريدك الساعة فينقل إليك هذا الخبر المحزن الأليم. فصرخ صرخة عظيمة دوت بها أرجاء الغرفة، ووثب من مكانة ثائرا وهو يقول: آه يا وطني العزيز! وابتدر الباب يريد الخروج منه، فأمسكت بيده واجتذبته إليها وقالت له: مهلا، أين تريد؟ قال: أدعو جنودي وأجمع من تفرق منهم في الثكنات والقلاع وأذهب بهم إلى الحدود للدفاع عن القلعة الكبرى؛ فالوطن في خطر عظيم، قالت: لا تفعل؛ فقد خرج الأمر من يدك، واعلم أن جميع جنودك المقيمين في ثكنات المدينة وأرباضها قد أصبحوا متمردين عليك لا يطيعونك ولا يأتمرون بأمرك! فلم يحفل بكلامها وأسرع إلى النافذة وأشرف منها على الساحة العامة وظل يصيح: أيها الجنود، النفير النفير، الأهبة الأهبة. فما سمع الجند صوته ورأوا وجهه حتى هاجوا واضطربوا، وأخذوا يصيحون داخل القصر وخارجه: ليسقط الخائن! ليسقط المجرم! فظل يشير إليهم بيده يحاول إسكاتهم واسترعاء أسماعهم وهم مستمرون في ضجيجهم وصياحهم لا يهدءون ولا يفترون، فعاد إلى مكانه يائسا متضعضعا ليس وراء ما به من الهم غاية.
فدنت بازيليد منه وقالت له: قد علمت الآن أنني لم أكذبك القول ولم أخدعك، وأنني لم أقدم إليك مقدمي هذا في هذه الساعة العصيبة إلا لتخليصك وإنقاذك، وإنقاذ الوطن وأبنائه. فرفع نظره إليها مدهوشا وقال: أنت؟ قالت: نعم أنا، في الوقت الذي لا أجد فيه بجانبك من يأخذ بيدك، أو يعينك على أمرك؛ فأصغ لما أقول: إن الملك سيزور قصرك الساعة ليستنجد بك على دفع هذا الخطر الداهم، وإن شئت فقل: ليستعين بك على الاحتفاظ بتاجه الذي يضن به ضنه، ولا يحفل بشيء سواه، وقد علم الجند ساعة حضوره، فهم ينتظرونه في هذه الساحة، حتى إذا طلع عليهم في موكبه هرعوا إليه ضاجين صارخين يتقدمهم جرحاهم وزمناهم، ورموك بين يديه بتلك التهمة العظيمة التي يرددونها الآن، ويصيحون بها في كل مكان، فإما أن يصدقهم، فقد هلكت هلاكا لا نجاة لك من بعده، أو يرتاب بهم فلا يرى له بدا من أن يسلك سبيل الحكمة في مداراتهم ومدافعتهم، فيأمر بعزلك عن القيادة والعهد بها إلى غيرك إرضاء لهم، وتسكينا لثائرهم، فإن فعل فقد انتشرت لك في الأمة قالة سوء لا تستطيع أن تمحو عارها عنك أبد الدهر.
فظل يرتعد ويضطرب ويردد بينه وبين نفسه: رب ماذا أصنع؛ فالخطب أعظم مما أحتمل؟! فاقتربت منه ووضعت يدها على كتفه وحنت عليه حنو الأم على رضيعها، وقالت له بتلك النغمة العذبة الجميلة التي قتلت بها أباه من قبل: نعم يا بني، إن الخطب أعظم مما تحتمل، ولم يبق بين يديك إلا أن تسلك تلك الطريق التي شرع أبوك في سلوكها قبل موته ثم عجز عن الاستمرار فيها إلى نهايتها، فخسرها وخسر حياته على أثرها. فنظر إليها دهشا وقال: ماذا تريدين؟ فصمتت لحظة ثم استنجدت قوتها وشجاعتها وقالت له: أتدري يا قسطنطين لم ذهب أبوك إلى شعب «تراجان» وجلس تحت القوس الروماني في الليلة التي مات فيها؟ فرجعت إلى ذهنه تلك الذكرى المؤلمة وقد بدأ يفهم ما ترمي إليه في حديثها، فراعه الأمر وهاله، إلا أنه تماسك وتجلد، وظل ناظرا إليها نظرات جامدة ساكنة أشبه بنظرات الموتى في النزع الأخير.
فاستمرت في حديثها تقول: إنه ذهب إلى ذلك المكان ليستقبل الجيش التركي عند قدومه، ويأذن له باجتياز الحدود والوصول إلى فيدين، ولو فعل لنجى الوطن من خطر عظيم، ولأطفأ نار هذه الحرب التي تلتهم البلاد التهاما يكاد يقضي عليها، ولكان اليوم ملكا جالسا على عرش البلقان لا تمثالا أجوف منتصبا في الميدان، ولكنه عجز في الساعة الأخيرة عن الاحتفاظ بقوته وعزيمته، فما رأى سواد الجيش التركي مقبلا نحوه حتى نسي عهوده ومواثيقه، وابتدر الرابية الأولى فأشعل نارها وأيقظ الجيش من رقدته واستثاره للأهبة والدفاع، وما كفاه ذلك حتى جرد سيفه للقتال، وخاض المعركة بنفسه، وظل يقاتل حتى هلك!
فعجب قسطنطين لتلك الجرأة الغريبة التي لا يشتمل على مثلها صدر امرأة في العالم ولا رجل، ثم قال لها بهدوء وسكون لا يعلم إلا الله ما يكمن وراءهما: وبعد، فماذا تريدين؟ فأطمعها فيه سكونه وهدوءه، وخيل إليها أنه قد استخذى للأمر واستسلم، فقالت: إن العهد السلطاني لأبيك بملك البلقان لا يزال باقيا بيدي حتى الساعة، وهو مذيل بتوقيع السلطان ومختوم بختم آل «برانكومير»، فلسنا في حاجة إلى تغيير حرف منه أو كتابة عهد جديد، وقد قابلت رسول القائد التركي ليلة أمس واتفقت معه على كل شيء، فكن أعقل من أبيك وأبعد منه نظرا، واعلم أن الترك لا بد مقتحمو هذه البلاد وآخذوها، أبطئوا أم أسرعوا، فقد اجتازوا عقبة الجبال اليوم، وسيجتازون بقية العقبات غدا أو بعد غد، ما من ذلك بد، فخير لك أن تهادنهم وتسالمهم وتتخذ عندهم يدا تنفعك لديهم غدا، وأن تفتح لهم بيدك ما استغلق عليهم من أبواب البلاد بدلا من أن يغلبوك عليها؛ لتحتفظ لنفسك بذلك العرش الذي هو عرشك وعرش أبيك من قبلك لولا طمع ذلك المختلس وفضوله!
إن الجنود يضجون ويصخبون، ويوشك الملك أن يحضر فيرفعوا إليه أمرك، ويهتفوا بين يديه بسقوطك وخيانتك، فيأمر بالقبض عليك وسجنك، فاغضب لنفسك وافعل ما أشرت به عليك لتستطيع أن تأمر بالقبض عليه وسجنه بعد بضع ساعات، ويدين لك البلقان من البسفور إلى الأدرياتيك.
أما أنا، فإني لا أطلب جزاء عندك على نصحي لك وإخلاصي إليك سوى أن تمنحني لديك منزلة الأم الحنون، وتأذن لي أن أجلس على أدنى درجة من درجات عرشك، أخدمك وأمدك برأيي ومشورتي، وأستظل بظلال مجدك وشرفك حتى الموت. ثم أخرجت من حقيبتها العهد السلطاني وأرته إياه، فأخذ يقرؤه وهو في يدها حتى أتمه، فقالت له: قم الساعة وسافر إلى الحدود، وقد جيشك بنفسك وتقهقر به كأنك تفعل ذلك مضطرا، وأنقذ نفسك ووطنك من هذا الخطر العظيم.
ها هي ذي طبول الملك تقترب منا شيئا فشيئا، واعلم أن قلم القدرة معلق الآن بين أصبعي الله ليكتب به في صفحات الغيب أحد الحكمين: إما لك بالصعود إلى العرش، أو عليك بالهبوط إلى أعماق السجون؛ فأحسن الاختيار لنفسك ولا تكن عدوها الأحمق المأفون.
فرفع رأسه ونظر إليها نظرة نارية ملتهبة لو رسمتها ريشة المصور الماهر لأحرقت القرطاس الذي رسمت فيه! ثم قال لها بهدوء وسكون: قد قلت لي يا سيدتي منذ هنيهة: إن أبي قد ذهب إلى شعب «تراجان» ووقف تحت القوس الروماني ليستقبل الجيش التركي عند قدومه، ويأذن له بالمرور، فخانه عزمه ونسي ميثاقه فلم يفعل، وأنا أقول لك: إنك مخطئة في سوء ظنك به، فإنه لم يزل متمسكا برأيه في تلك الليلة محافظا على عهده، حتى حالت الحوائل بينه وبين الوفاء.
قالت: وما الذي طرأ عليه؟ قال: طرأ عليه الموت، فحال بينه وبين ما يريد! قالت: وهل تعلم كيف مات؟ قال : نعم، أنا أعلم الناس بذلك؛ لأنه لم يكن حاضرا معه في تلك الساعة وفي ذلك الموقف سواي، فارتعدت ونظرت إليه مدهوشة وقالت له: ألم يمت قتيلا بيد أعدائه؟ قال: لا، بل بيد أصدق أصدقائه! بل بيد أقرب الأقرباء إليه وأمسهم به رحما! فطاش عقلها وجن جنونها وصاحت: ماذا تريد أن تقول؟ قال: أريد أن أقول: إنني أنا الذي قتلته بيدي جزاء له على خيانته لوطنه! قالت: أنت يا ولده وفلذة كبده؟ قال: نعم، وأنت التي وضعت في يميني ذلك السيف الذي قتلته به؛ لأنك أفسدت نفسه وقتلت شعوره، وأغريته بخيانة وطنه، وسلبته جوهرة الشرف الثمينة التي كانت تضيء ما بين جنبيه، وكانت أكرم الجواهر وأغلاها، فلم أر بدا من أن أقتله لأستنقذ الوطن من يده، فتألمي ما شئت أيتها المرأة الشريرة وتعذبي، وتجرعي كئوس الحسرة والندم على ما أفلت من يدك من أمانيك وآمالك، وحسبي انتقاما منك على جريمتك التي أجرمتها إلي وإلى أبي وإلى الطبيعة، أن تعلمي أنني أنا الذي خيبت آمالك، وهدمت بيدي ذلك الصرح العظيم الذي أنفقت في تشييده أيام حياتك!
نعم أنا الذي قتلته بيدي، واقترفت أعظم جريمة يقترفها إنسان في العالم، ولولاك لما أقدمت على ذلك ولا خطر ببالي أن إنسانا في الوجود يقدم عليه، ولو كان في استطاعتي أن أكشف أمرك، وأهتك الستر عن جريمتك لفعلت، ولكنني لا أستطيع أن أفعل، إشفاقا على سمعة ذلك الرجل المسكين الذي قضى عليه سوء حظه أن يكون شريكا لك في حياتك وفي جرائمك، فعيشي معذبة مثلي، فريسة لآلامك وأحزانك، واستنفدي ماء شئونك حزنا على العرش الذي فاتك، والزوج الذي رحل عنك، واسهري لياليك الطوال خائفة مرتعبة من شبح الجريمة التي اجترمتها، وخيال الدماء التي سفكتها، وليطر قلبك خوفا وهلعا كلما ذكرت أنك وضعت في يد الولد سيفا ليقتل به الوالد، فمات الوالد قتيلا، وعاش الولد معذبا؛ ولتطل حياتك على ظهر الأرض لتطول آلامك وأحزانك، حتى إذا نزل بك الموت نزل بهيكل يابس من العظم، قد أحرقته اللوعات ، وأضوته الحسرات، وافترسته الهموم والأحزان.
وهنا سمعت ضجة عظيمة في الساحة، وهاتفون يهتفون: الملك! الملك! فاكتأب قسطنطين وتقبض وجهه، وتهللت بازيليد وتطلقت، وطوت وثيقة العهد برفق ووضعتها في جيبها، ثم قالت له: نعم، إنني سأعيش يا قسطنطين حزينة باكية كما قلت، ما من ذلك بد، ولكنني لا آذن لك أن تعيش يوما واحدا بعد اليوم على ظهر الأرض حتى لا ترى بعينيك مصائبي وآلامي، وتشمت بهمومي وأحزاني، فقد دسست لك الدسيسة في الجيش حتى ثار عليك، ووضع في عنقك ذلك الغل الثقيل، غل الخيانة الذي لا خلاص لك منه، وسترى الآن بقية ثأري وانتقامي!
وهنا دخل الملك والجنود من حوله يتقدمهم لازار وهو يصيح وهم يصيحون من خلفه: إنه خائن يا مولاي، إنه قد مالأ الأعداء علينا، إنه أفنى رجالنا، ورمل نساءنا، ويتم أطفالنا، فأعدنا عليه وانتقم لنا منه وللوطن! والملك يقول: دعوني وشأني، لا أصدق شيئا مما تقولون، ثم التفت إلى قسطنطين وقال له: أيها البطل العظيم، إن الوطن في خطر، وقد جئت أستنجد بك على دفع هذه النازلة التي نزلت بنا، وسأكون في المعركة المقبلة جنديا من جنودك، أقاتل بجانبك، وأبارك خطواتك، ولا تبتئس بما يقول هؤلاء القوم، فإنهم لا يعلمون من أمرك شيئا. إنا لا نعرف اليوم تحت سماء البلقان بطلا غيرك، وما كنا نعرف قبل اليوم بطلا غير أبيك، ولا نضمر لكما في قلوبنا غير الإجلال والإعظام، لمكانكما من خدمة الوطن وحمايته والذود عنه. أما الحظ الذي فارقك في تلك الوقائع الماضية، فأبشرك أن عهد فراقه لا يطول، وأنه سيعود إليك بعد أيام قلائل بالوجه الطلق الجميل، وستمحو بانتصاراتك المقبلة جميع آثار تلك الهزائم السالفة. ثم التفت إلى الجنود وقال لهم: يا أبطال البلقان وحماته، لا تخذلوا قائدكم، ولا تخفروا ذمته، فهو سيدكم اليوم، وابن سيدكم بالأمس، واعلموا أنني لا أصغي إلى تهمة لا أعرف لها برهانا ولا دليلا.
فصمت القوم صمتا عميقا، وساد بينهم السكوت هنيهة، وقد بدأت مراجل غيظهم وموجدتهم تفتر وتتقاصر، وهنا انفرج الجميع وإذا ببازيليد تتقدم رويدا رويدا - كما ينساب من مكمنه الأرقم - نحو موقف الملك حتى مثلت بين يديه، وقالت له بصوت عال سمعه جميع الجنود: أنا التي أتهمه يا مولاي، وأنا التي أقدم لك على تهمته الدليل والبرهان! فدهش الملك عند رؤيتها، وقال: الأميرة؟ قالت: نعم يا مولاي، أرملة القائد ميشيل برانكومير. إنني أتهم هذا الرجل بخيانة قومه وممالأة أعدائهم عليهم، وأقول لك: إنه كتب بينه وبينهم عهدا على أن يفتح لهم أبواب البلاد في الساعة التي يريدونها، فيمنحوه في مقابل ذلك عرش البلقان وتاجه، وقد دعاني الساعة ليشركني معه في هذه الجريمة التي يريد اقترافها، ويسألني أن أساعده عليها، فلم أر بدا من أن أرفع أمره إليك. أما البرهان الذي تريده فها هو ذا.
ومدت يدها إليه بتلك الوثيقة، فتناولها الملك ذاهلا وأخذ يقرؤها وهو يرتعد ويرتجف ويقول في نفسه: ماذا أرى؟ إخلاء الحدود! اجتياز الجبال! العرش! التاج! ختم برانكومير! يا للهول ويا للفظاعة! ثم نظر إلى قسطنطين فإذا هو تمثال جامد لا يتحرك ولا يطرف، فتقدم نحوه خطوة وقال: ما هي كلمتك يا قسطنطين؟ فصمت ولم يقل شيئا، فالتفتت إليه بازيليد وقالت له: أتستطيع أن تنكر شيئا مما أقول؟ فأوثقته وثاقا لا يستطيع معه قبضا ولا بسطا، إلا أنه رفع رأسه ونظر إليها نظرة غريبة مبهمة لم يعلم غيرها ماذا يريد بها، ثم عاد إلى صمته وإطراقه، فهاج الجند وأخذوا يصيحون: القتل القتل، الانتقام الانتقام.
وظل الملك يشير إليهم بيده يدعوهم إلى السكون والهدوء حتى هدءوا، فتقدم نحو قسطنطين خطوة ثانية ووضع يده على كتفه وسأله مرة أخرى: ماذا تقول يا قسطنطين؟ دافع عن نفسك، فإن سكوتك حجة عليك، لا تصمت ولا تطرق، وقل كلمة واحدة؛ فإني أصدقك في كل ما تقول، فاستمر في صمته وإطراقه وهو يقول في نفسه: كيف أدافع عن نفسي، وأي سبيل أسلكه إلى ذلك، والسبل جميعها وعرة شائكة، لا تقوى قدمي على اجتيازها، إنني لا أستطيع أن أبرئ نفسي إلا إذا اتهمت أبي ، وقد قتلته مرة فلا أقتله مرة أخرى! ثم ابتسم ابتسامة الممتعض وقال في نفسه: قد كنت أطلب الموت بكل سبيل حتى جاءني يسعى إلي بقدميه، فلم أخشاه وأرتاع منه؟ فليكن ما أراد الله أن يكون، ثم رفع رأسه إلى الملك وقال له: ليس عندي ما أقوله لك يا سيدي؛ فاصنع بي ما تشاء.
فصاح الجمهور: ليسقط الخائن! ليقتل المجرم! وهجموا عليه ليفتكوا به، فاعترض الملك طريقهم وقال لهم: دعوه وشأنه، فإن أمره موكول إلى مجلس القضاء، أما نحن فليس بين أيدينا إلا أن نفكر الآن في الطريق إلى الدفاع عن وطننا وحمايته، ودفع هذه النازلة الملمة بنا؛ فسيروا بنا أيها الجنود الأبطال إلى ساحة الحرب وأنا قائدكم.
ثم التفت إلى الحراس وأمرهم بالقبض على قسطنطين والذهاب به إلى السجن حتى يفصل القضاء في أمره.
فهتف به قسطنطين وقال: لي كلمة واحدة أحب أن أقولها لك يا مولاي. فذعرت بازيليد، وارتعد لازار، واشرأب القوم بأعناقهم، والتفت إليه الملك وقال: ماذا تريد أن تقول؟ قال: أنت تعلم يا مولاي أنني جندي قديم، ولدت في ساحة الحرب، وقضيت حياتي في ميادينها، ولا أمنية لي في الحياة غير أن أموت فيها، وأنت الآن قائد الجيش وصاحب الأمر والنهي فيه، فأذن لي أن أسير في ركابك جنديا صغيرا، لا قائدا ولا أميرا، لأقاتل معكم حيث تقاتلون، ولك علي عهد الله وميثاقه ألا أعود من تلك المعركة إلا منتصرا أو محمولا على الأعواد إلى حيث آوي إلى منزلي الأخير الذي لا رجعة لي منه، علني أكفر بذلك عن زلتي التي زللتها، وأنتقم من نفسي بنفسي. فعجب الملك لأمره وظل يردد نظره في وجهه هنيهة وكأن نفسه كانت تحدثه ببراءته وطهارته، إلا أنه لم يلبث إلا قليلا حتى زوى وجهه عنه وقال له: لا أستطيع أن آذن لك بشيء؛ فالموت في ساحة الحرب منزلة لا ينالها إلا الأمناء المخلصون!
فتنفس الجمع الصعداء وخرج الملك يحيط به جنوده وحراسه، وهو يردد بينه وبين نفسه: وا رحمتاه لك أيها الفتى المسكين!
فتقدم الحراس إلى قسطنطين فقيدوه، وجاءت بازيليد فوقفت بجانبه، وقالت له بصوت خافت لا يسمعه سواه: نعم، إنني سأقضي ما بقي من أيام حياتي حزينة باكية متألمة كما قلت، ولكني قد انتقمت لنفسي، وحسبي ذلك وكفى. فلم يرفع نظره إليها احتقارا وازدراء، بل رفع رأسه إلى السماء وقال: قد كنت أسألك الموت يا رب في كل حين، وأضرع إليك فيه ليلي ونهاري، فبعثت به إلي، ولكن في أفظع صورة وأهولها؛ فامدد إلي يد معونتك ورحمتك لأستطيع أن أشرب الكأس حتى ثمالتها، وخذ بيدي في شدتي؛ فقد تخلى الناس جميعا عني، وأصبحت أحتمل ما أحتمل من الآلام وحدي، وليس بجانبي من يخفف عني لوعتي، أو يمسح بيده دمعة من دموعي.
فخرجت ميلتزا من وراء ستار كانت مختبئة في طياته وتقدمت نحوه وجثت تحت قدميه الموثقتين وقالت له: لست وحدك يا مولاي، فهأنذا! فتهلل وجهه بعد عبوسه وقال: أحمدك اللهم حمدا كثيرا. ثم خرج مع الجنود يرسف في قيوده حتى وصلوا به إلى السجن فأودعوه، وأوصدوا الباب من دونه، فربضت ميلتزا على عتبة الباب ربوض الكلب الأمين على قبر سيده الدفين، وأنشأت تندبه وتبكيه بكاء تهتز له جوانب الأرض وتتداعى له أركان السماء!
التمثال
انتصر الملك في الواقعة التي حضرها وقاد فيها الجيوش بنفسه انتصارا عظيما كان الفضل الأكبر فيه لتلك الروح الدينية التي كان يبثها في نفوس جنده أثناء المعركة، فقد كان يمشي بين الصفوف بطيلسانه الأسود، والصليب في يده، يهتف باسم المسيح والمسيحية وينادي: دافعوا يا أبناء يسوع عن دينكم وكنيستكم، واعلموا أنكم إن غلبتم اليوم على أمركم فلن تقوم للصليب قائمة أبد الدهر، وهم يستبسلون ويستقتلون ويصبرون للموت صبر الكرام، حتى برقت لهم بارقة النصر، فأطبقوا على جيوش العدو من كل جانب، فتقهقرت أمامهم إلى ما وراء الحدود، وتخلت عن جميع المعابر والجبال التي اجتازتها بالأمس، فاحتفل الشعب بهذا النصر احتفالا عظيما دام عدة أيام، ولم يكن للناس حديث فيه سوى حديث قسطنطين وجريمته التي اجترمها، والجزاء الذي سيلقاه في سبيلها، وكلهم يتمنى بجدع أنفه أن يشاهد مصرعه، ويرى دماءه تتدفق من بين لحييه.
ولم يزل هذا شأنهم حتى دنا اليوم الذي يجتمع فيه مجلس القضاء للنظر في تلك القضية، فذهب الملك ليلة المحاكمة إلى السجين في سجنه، وخلا به ساعة يسأله عن جريمته وشركائه فيها وأعوانه عليها، وحاوله في ذلك محاولة كثيرة فلم ينطق بشيء، ولا دافع عن نفسه بحرف واحد، حتى عي الملك بأمره، فأمر بإخراجه من السجن إلى الساحة العامة المقام فيها تمثال أبيه، وأمر أن يشد بأغلال إلى قاعدة التمثال نكاية به وتمثيلا، ثم قال له: انظر أيها الخائن ماذا بنى أبوك لنفسه من المجد، وماذا صنعت يدك بذلك البناء الذي ابتناه! وتركه وانصرف.
فلما انفرد بنفسه أطرق ساعة يفكر في شأنه وفي مصيره الذي صار إليه، ثم رفع رأسه إلى التمثال، وكان الليل قد هدأ وسكن ونامت كل عين فيه حتى عيون العسس والحراس، فأنشأ يناجيه ويقول: هنيئا لك أيها الرجل مجدك وعظمتك وتمثالك الشامخ الرفيع الذاهب بعلوه في آفاق السماء!
هنيئا لك الصيت البعيد، والشهرة الذائعة، والشرف الخالد المسجل لك في صفحات التاريخ، وأن الناس لا يمرون بتمثالك حتى يجثوا تحت قاعدته جثيهم تحت قدمي الإله المعبود!
أترى بعد ذلك أنك مظلوم أو مغبون، أو أن الضربة التي أصابتك من يدي قد حرمتك شيئا في هذه الحياة تندبه وتأسف عليه؟
لقد كنت في الساعة الأخيرة من أيام حياتك، ولم يكن بينك وبين الانحدار إلى قبرك إلا بضع خطوات قصار، فكل ما كان مني لك أنني أنقذتك من تلك الميتة الدنيئة السافلة التي كنت تريدها لنفسك، وقدمت إليك بدلا منها ميتة شريفة مقدسة ترمقها العيون، وتتقطع من دونها الأعناق، وألبستك تاجا أشرف من ذلك التاج الذي كنت تطلبه وتسعى إليه، وأجلستك على عرش أرفع من جميع عروش الأرض، وهو عرش التاريخ!
لا تستبق في نفسك شيئا من الضغن علي، ولا تضمر لي في قلبك وأنت في عالم الحقيقة المجردة، الذي لا يخالطه كذب ولا رياء، غير ما يجب على المريض المبل أن يضمره لطبيبه الذي شفاه من دائه، وأنقذه من شقائه، فإن كان لا بد لك أن ترى أنني قد أجرمت إليك ووترتك؛ فهأنذا أكفر عن جريمتي بأعظم ما كفر به مجرم عن جريمته!
انظر يا أبت ماذا صنعت فعلتك التي فعلت بولدك، ها هو ذا الغل يحيط بعنقه حتى كاد يخنقه، وها هي ذي القيود تعض قدميه وتدميهما، وها هو ذا السيف مجرد فوق هامته لا تطلع الشمس من مشرقها حتى يسقط عليها فيفصلها عن جثتها، وها هم أولاء الناس جميعا رجالا ونساء، كبارا وصغارا، يلعنونه بألسنتهم وقلوبهم في كل مكان، ويضمرون له من الحقد والبغضاء ما لو امتد إلى جسمه لأحرقه وأحاله رمادا باردا.
أنت المجرم وأنا المعاقب، أنت الخائن وأنا المأخوذ بخيانتك، أنت المتمتع بنعمة الشرف العظيم الذي لا تستحقه، وأنا المتسربل بسربال الإهانة الدائمة التي لا أستحقها! لقد أخطأ القدر في أمرنا مرتين: فرفعك من حيث تستحق الوضع، ووضعني من حيث أستحق الرفع، ولو أنه أنصف في حكمه بيننا لأخذ كل منا مكان صاحبه، فأصبح التمثال لي، وأصبح السجن لك!
هنيئا لك مجدك وشرفك، ووصيتك وسمعتك، وما أهنئك تهنئة الهازئ الساخر، بل تهنئة الفارح المغتبط؛ لأنك أبي، ورئيس أسرتي، وسيد قومي، وحبيب إلي جدا أن يعيش أبي عظيما في حياته وبعد مماته!
إن آلامي يا أبت عظيمة جدا لا تستطيع أن تحتملها نفس بشرية في العالم، ولكن يهونها علي أنني أموت من أجلك، وفي سبيل مجدك وشرفك، وأنني لم أخرج من الدنيا حتى رأيت تمثالك العظيم مشرفا من علياء سمائه على جبال البلقان وهضابها، كما تشرف الشمس من أبراجها على ما تحتها.
ما أنا بنادم على ما كان، ولا خائف مما يكون، فليأت الموت إلي في الساعة التي يريدها، فقد قمت بواجبي لك ولبلادي، وحسبي ذلك وكفى.
كان لا بد لي أن أقتلك ففعلت، ولكنني قتلتك فيجب أن أقتل بك.
كلانا أجرم، وكلانا لقي جزاء إجرامه.
أجرمت إلى الوطن فانتقمت له منك، وأجرمت إلى الطبيعة، فمن العدل أن تنتقم لنفسها مني، فما ظلم أحد منا صاحبه ولا اعتدى عليه.
ارفع رأسك أيها الرجل تيها وعجبا، وزاحم بمنكبيك أجرام السماء وكواكبها، فقد غسل ابنك بدمه جرمك وعارك، فإن لم تكن شريفا بنفسك، فحسبك شرفا أنك والد الولد الشريف!
ولم يزل في مناجاته هذه حتى مضت هدأة من الليل، فالتف بردائه ووضع رأسه على قاعدة التمثال وأسلم نفسه إلى نوم طويل.
النهاية
ازدحم الناس يوم المحاكمة في الساحة الكبرى ازدحاما عظيما ينتظرون عودة الملك من مجلس القضاء ليعلن حكمه أمام المتهم، والمتهم هادئ ساكن تحت قاعدة التمثال لا ينتظر شيئا؛ لأنه يعلم أن الموت جزاؤه الحتم، وقد وطن نفسه عليه فلم يعد يحفل به.
وإنهم لكذلك إذ أقبل الملك تحيط به حاشيته، فاشرأبت إليه الأعناق لسماع كلمته، ولم يزل سائرا بين الصفوف حتى وقف أمام المتهم، فنظر إليه نظرة طويلة ثم صاح بأعلى صوته: يا قسطنطين برانكومير، إن الجريمة التي اقترفتها عظيمة جدا لا يفي بها قتلك وسفك دمك؛ لذلك رأى مجلس القضاء أن يحكم عليك بالحياة بدلا من الموت. فقاطعه الجماهير: الموت! الموت! لا بد من قتله! لا يمكن أن يعيش! فأشار إليهم بالهدوء والسكون حتى يسمعوا بقية كلامه، فهدءوا، فاستمر يقول: وأن تظل طول أيام حياتك مقرونا بأغلالك هذه إلى قاعدة تمثال أبيك ليتردد وجهه في وجهك ليلك ونهارك، فتموت في مكانك حياء منه وخجلا، وأن يؤذن لكل مار بك من علية الناس وغوغائهم أن يبصق على وجهك، ويصفعك على قذالك، وينال منك ما يشاء إلا أن يسلبك حياتك.
فصاح الجماهير: يعيش الملك! يحيا العدل! يسقط الخائن! وظلوا يرددون هذه الكلمات وأمثالها وقتا طويلا.
هنا ذرفت عينا ذلك الرجل العظيم الذي لم يبك في يوم من أيام حياته لضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رشقة سهم، وعلا صوت نحيبه ونشيجه كما يفعل النساء الضعيفات في مواقف حزنهن وثكلهن، وما كان مثله من يبكي أو يذرف دمعة واحدة من دموعه لو أن الذي كتب له في صحيفة الغيب من الشقاء كان الوقوف بين السيف والنطع، أو السقوط بين آلات العذاب تنال من جسمه وأطرافه ما تشاء، ولكنه الشرف، شديد جدا على صاحبه أن تنزل به نازلة مذلة، أو يتصل به ظفر جارح من أظفار الهوان، فإذا شعر بشيء من ذلك هاله الأمر وراعه، وخارت عزيمته، ووهنت قوته؛ فبكى بكاء الضعفاء، وأعول إعوال النساء. ولقد رضي قسطنطين من حظه من الحياة بالموت فرارا من العار الذي لحقه، وهربا من نظرات الناظرين إليه وموجدة الواجدين عليه، أما وقد علم أنه سيعيش والعار معا رفيقين متلازمين لا يفترقان ولا ينفصلان، فلم يبق له بد من الجزع، ولم يبق بين يديه سبيل غير البكاء، فبكى ما شاء الله أن يفعل، وأخذ يردد بينه وبين نفسه: يا للبؤس! ويا للشقاء! لقد استحال علي كل شيء حتى الموت!
ثم رفع طرفه إلى السماء وقال بصوت خافت متقطع: رحمتك اللهم وإحسانك، فقد أصبحت عاجزا ضعيفا لا أملك من شئون نفسي شيئا، فامدد إلي يد عنايتك ولطفك لأستطيع أن أتمم واجبي إلى النهاية.
وهنا وقف لازار فوق هضبة مرتفعة - وكان لا يزال رأس الفتنة وشعلتها - وأخذ يصرخ بصوت عال قائلا: إن رأى مولانا الملك أن يأذن لنا بتنفيذ أمره الساعة؛ فقد أوشكت صدورنا أن تنفجر! فصاح الجمهور من ورائه صيحته، ودعوا بمثل دعوته، فاصفر وجه الملك وارتجفت أطرافه ارتجافا خفيفا، ثم قال بصوت خافت متهافت: لكم ما تشاءون! وتحول من مكانه يريد الانصراف.
وهنا برزت ميلتزا من بين الجماهير، واندفعت نحو قسطنطين تسبق المندفعين إليه وهي تقول: فليبق لك أيها المسكين على الأقل قلب واحد يرحمك ويعطف عليك! وضمته إلى صدرها كأنما تريد أن تقيه بنفسها، فسمع الملك صوتها، فالتفت فرآها، ولم يكن يعرف من شأنها شيئا، فعجب لأمرها وأشار إلى الجماهير بالسكوت حتى يعلم ما خطبها، ثم مشى نحوها وقال لها: أتعلمين أيتها الفتاة من هذا الذي تحمين؟ وما جريمته التي اقترفها؟ فرفعت رأسها إليه وألقت عليه نظرة الليث في عرينه وقالت له: لا أعلم من أمره شيئا سوى أنني أحبه، ولا آذن لأحد أن يناله بمكروه وفي بقية رمق من الحياة! قال: إنه ارتكب جريمة الخيانة الكبرى للأمة والوطن، وقد حكم عليه مجلس القضاء بالتعذيب، ولا بد من إنفاذ حكمه، قالت: إن الحب فوق العدل، وفوق القانون، وفوق كل شيء في العالم؛ فمزقوني إربا إربا لتستطيعوا أن تصلوا إليه!
فلمعت في ثغر قسطنطين ابتسامة في وسط هذه الدجنة الحالكة من الهموم والأحزان، وضمها إلى نفسه وقال لها: شكرا لك يا ميلتزا، فقد أحييت نفسي الميتة، وسريت عني همومي وآلامي، ذودي عني يا صديقتي، وصوني وجهي من العار الذي يريدون أن يلصقوه به، فلم يبق لي في العالم من يرحمني أو يعطف علي سواك!
وأخذ الجماهير يصيحون: اقتلوهما معا، مزقوا جسميهما بالسيوف، وانثروا أشلاءهما في الفضاء.
ثم تدافعوا نحوهما تدافع الصخور الهائلة من أعالي الجبال، فصاحت ميلتزا: أيتها الوحوش الضارية، والخلائق الساقطة، مهما كثر عددكم، وعظمت قوتكم، فإنكم لن تستطيعوا أن تصلوا إليه أو تلحقوا به إهانة من الإهانات التي تضمرونها في نفوسكم، فإن أبيتم إلا أن تفعلوا؛ فاعلموا أنني - أنا الفتاة الضعيفة المسكينة - قادرة على أن أخلصه من أيديكم! فلم يحفلوا بكلامها، ولم يفهموا غرضها، واستمروا في اندفاعهم وتدفقهم.
وهنا حدث ذلك الحادث الهائل الذي شخصت له الأبصار، وذهلت له العقول، وجمدت لمنظره الدماء في العروق، فقد علمت ميلتزا أن القضاء واقع لا مفر منه، وأن القوم لا بد بالغون من قسطنطين ما يريدون، وأن لا طاقة لها بحمايته والذود عنه، وهالها هولا عظيما وكبر في نفسها أن ذلك الوجه الشريف المتلألئ بنور الفضيلة والكرم والطهارة والبراءة يصبح هدفا دنيئا لهؤلاء الغوغاء الثائرين، يلطمه من يلطم ويبصق عليه من يبصق، فلما أصبحوا على مقربة منها ولم يبق بينهم وبينها إلا بضع وثبات، حنت عليه وهمست في أذنه قائلة: في استطاعتك يا سيدي أن تنجي نفسك بكلمة واحدة تعترف فيها بكل شيء! فرفع طرفه إلى السماء ثم ألقاه على تمثال أبيه، ثم نظر إليها نظرة دامعة حزينة وقال: «لا أستطيع!»
فجردت من منطقتها خنجرها الذي كانت قد استهدته إياه فيما مضى، ورفعته في الهواء ثم طعنته به في صدره طعنة نجلاء وهي تقول: مت شريفا أيها الرجل العظيم كما عشت شريفا، وسأتبعك إلى سمائك التي تصعد إليها. فسقط مضرجا بدمائه وهو يقول بصوت ضعيف متقطع: شكرا لك يا ميلتزا.
وكان القوم قد بلغوا موقفهما: فرفعت الخنجر مرة أخرى وطعنت به نفسها، فترنحت قليلا ثم سقطت على مقربة منه، وكان لا يزال يعالج السكرة الأخيرة، ففتح عينيه فرآها، فأخذ يسحب نفسه سحبا حتى بلغ مصرعها، فألقى يده عليها وظل يجذبها نحوه كأنما يحاول أن يضمها إلى نفسه، فلم يستطع، فسقط رأسه على صدرها، فشعرت به، فضاءت ما بين شفتيها ابتسامة ضئيلة لم تلبث أن انطفأت وتغلغلت في ظلمات الموت، وظلا على هذه الحالة حتى فاضت نفساهما.
فأثر هذا المنظر الرهيب في نفوس الجماهير، وسكنوا في مواقفهم سكونا عميقا لا تتخلله نأمة ولا حركة، وظلوا على ذلك ساعة حتى نطق الملك بصوت خشن أجش تخالطة رنة الحزن والأسف قائلا: أيها المسيحيون، صلوا جميعا لهذين البائسين الشقيين، واسألوا الله لهما الرحمة والغفران.
ثم رفع قلنسوته وجثا على ركبتيه، فرفع القوم قبعاتهم وجثوا حول الجثتين وأخذوا يتلون صلواتهم بنغمة حزينة مؤثرة، كأنما هم يبكون عزيزا عليهم، أو شهيدا من شهدائهم! وما فعلوا غير ذلك لو كانوا يعلمون. •••
ظلت هذه الحقيقة مجهولة لا يعلمها أحد من الناس خمسة وثلاثين عاما، حتى حضر «بازيليد» الموت، فظلت تهذي بها في مرضها، وترددها في يقظتها وأحلامها، وتتألم لذكراها ألما شديدا على مسمع من كاهنها وعوادها، حتى فاضت روحها، فعلم الناس - ولكن بعد عهد طويل، وبعد أن تبدلت شئون البلقان غير شئونه - أن «قسطنطين برانكومير» أشرف الناس وأفضلهم، وأعظمهم وطنية وإخلاصا؛ لأنه ضحى أباه في سبيل إنقاذ وطنه، ثم ضحى نفسه في سبيل إنقاذ شرف أبيه، فبلغ في وطنيته وشرف نفسه الغاية التي لا غاية وراءها.
Página desconocida