احتل الإنجليز أرض مصر، فرحل عنها جمال الدين الأفغاني، ونفي الشيخ محمد عبده، ثم ما لبث القطبان أن التقيا معا في باريس، ليصدرا جريدة العروة الوثقى، ناطقة بالدعوة إلى مقاومة الموجة الاستعمارية العارمة، التي أخذت تطغى على أقطار الشرق بعامة، وإلى تحرير مصر من الاحتلال البريطاني بصفة خاصة، وإن القارئ ليطالع على صفحات الأعداد الثمانية عشر التي صدرت من العروة الوثقى - وقد صدر عددها الأول قبل أن ينقضي على الاحتلال البريطاني عامان - صيحات قوية تنبه من غفا، وتوقظ من استنام: «إننا لو نادينا الغافلين أن انتبهوا، والنائمين أن استيقظوا، واللاهين بحظوظهم أو أمانيهم وأوهامهم أن التفتوا، ولو أنذرنا أهل مصر بأن الإنجليز لو ثبتت أقدامهم في ديارهم، لحاسبوا الناس على هواجس أنفسهم، وخطرات قلوبهم، بل على استعداد عقولهم لما عساه يخطر ببالهم، لقال الناس إننا نبالغ في الإنذار ونغرق في التحذير» (العدد الخامس من العروة الوثقى).
وحسب القارئ أن يقرأ المقالة الأولى من العدد الأول - وكان عنوانها «مصر» - ليرى بأي بلاغة عربية مبينة، وصفت حالة البلاد عندما أخذت أصابع الاستعمار تعبث بأمورها: «وا أسفا على حالة الأهالي بعد هذا، حكم من لا دافع لحكمه بطرد آلاف من الوطنيين الموظفين من دوائر الحكومة، وما منهم أحد إلا ويتبعه عائلة وأولاد، ولا قوت لهم إلا من مرتب عائلهم ... إن صدى أنينهم يتلى في صفحات الجرائد الوطنية العربية والإفرنجية، وسيتبع السابقين منهم اللاحقون، حتى لا يجد وطني منهم في البلاد من المهن، إلا ما لا يليق بالإنجليزي تعاطيه من سفاسف الأمور، كما هو في البلاد الهندية، وزاد الويل بمحق الحرية الشخصية، والأخذ بالشبه - وإن ضعفت - واتباع بواطل التهم - وإن بعدت أو استحالت - حتى أخذ الفزع من القلوب مأخذه، وبلغ منها مبلغه، فلا ترى مارا بطريق إلا وهو يلتفت وراءه لينظر هل تعلق بأثوابه شرطي يقوده إلى السجن، أو يقتضي منه فداء، وكل معروف الاسم من المصريين ينتظر في كل خطوة عثرة، وفي كل نهضة سقطة ... أي شقاء ينتظره الحي في حياته أشنع من هذا؟!»
بمثل هذه النذر المفزعة الصريحة، أخذ الأفغاني ومحمد عبده يتعاونان على إطلاق الصيحة الأولى من خارج البلاد، لتجاوبها في داخل البلاد أصداء تبلغ رسالتها وتزيد من قوتها، فها هو ذا عبد الله النديم (1845-1896م) الذي أطلقت عليه صفات تدل على الدور العظيم الذي أداه في اليقظة الوطنية، إذ أطلق عليه «خطيب الشرق» - وقد كان أول خطيب مصري يخطب قومه في شئون السياسة - كما أطلق عليه «محامي الوطن»، لقد استخدم النديم في أداء رسالته كل فنون الأدب من زجل وشعر إلى مسرحية وقصة، ثم إلى المقالة والخطابة، وفي نسبة هذه الفنون عنده بعضها إلى بعض يقول أحمد تيمور: «... أما شعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا»، على أن ما يهمنا هنا من آثار النديم أدبه المكتوب، ومقالاته الصحفية اللاذعة، خصوصا ما ورد منها في مجلة الأستاذ، التي صدرت في عهد الاحتلال الإنجليزي، والتي لم يلبث الإنجليز أن طالبوا بإغلاقها، لشدة ما جاء فيها من هجمات النديم على خصوم الوطنية والعروبة والإسلام، فكان مما قاله عن الدولة الغاصبة أنها وضعت معظم الإدارات في أيدي الأجانب، حتى لا تمكن المصريين من إصلاح بلادهم، فاختلت البلاد، «فإن كان مرادها إفساد البلاد فقد أفلحت، أما إذا كانت تريد صلاحها، وتسليمها لأبنائها، فكيف يحدث ذلك، وهي لا تستعمل أبناءها في الحكم، وتبعدهم عن الإدارات؟» وفي مقال له بعنوان «هذه يدي، في يد من أضعها؟» يقول إنه إذا لم يضع يده في أيدي مواطنيه المخلصين «فقطعها خير من وضعها في يد أجنبي يستميلك إليه بوعود كاذبة، وحيل واهية، يظهر لك سعيه في صالحك، وحبه لتقدمك ... ويصور لك الأباطيل في صورة حقائق؛ حتى يخدعك بها، ويحول أفكارك الشرقية إلى أفكار غربية تأخذها، وتقول بها، فتكون يده القوية وعونه الأكبر على ضياع حقوقك، وإذلال إخوانك واحتلال بلادك.»
وكان من اللمحات النافذة عند النديم إشاراته المتكررة إلى ضرورة التعليم وضرورة قيام الصناعة؛ لأنه ما اغتصب غاصب أرضا إلا بسبب جهالة أبنائها أو بسبب انصرافهم عن الصناعة؛ لأن الانصراف عن الصناعة هو انصراف عن العلم، «إن التهور والثورة مع الجهل والفراغ من المعدات، لا يفيدان إلا الخذلان» ولا نجاح لثورة على استعمار إلا إذا كان أساسها التعليم والصناعة: «وما نجحت ثورة تجردت جماهيرها من المعارف وبعدت عن المصانع والتفنن في الآلات، واندفعت خلف الأهواء» (مجلة الأستاذ في 30 / 8 / 1892م).
ولا نترك الحديث عن أواخر القرن الماضي، قبل أن نذكر أثرا شامخا من آثار المقاومة الوطنية لكل مستعمر أو دخيل، لكنه - هذه المرة - أثر إيجابي بناء، وضع البذور الأولى للنهضة العربية الشاملة، التي ستزداد مع السنين، حتى تصبح في سنواتنا الراهنة حركة ثورية لتحقيق الوحدة العربية، وإنما عنيت بذلك الأثر، نهضة الشعر على يدي محمود سامي البارودي (1839-1904م) إذ الأمر فيها لا يقتصر على أمر الشعر وحده، بل يجاوز ذلك ليكون إقامة لأهم دعائم القومية العربية السليمة، ألا وهي دعامة اللغة القوية الرصينة، فبعد أن ضعفت العربية مع الضعف السياسي والاجتماعي خلال قرون امتدت ما امتد الحكم العثماني، أراد البارودي الشاعر أن تعود لنا القوة السياسية والاجتماعية بادئة من بدايتها الصحيحة، ألا وهي اللغة، وأسعفته الموهبة، فربط بين قديم شامخ وجديد متطلع إلى الشموخ، ونسج نسجا لا يتخاصم فيه الحاضر والماضي، ولا يتعارض فيه التجديد مع التقليد، بل هو نسج: لحمته الحاضر، والماضي سداه، فجاء شعر البارودي في أدبنا الحديث - خصوصا وقد أخفقت الثورة العرابية التي كان الشاعر أحد رجالها، واحتل المستعمر البريطاني بلادنا - جاء هذا الشعر القوي في أدبنا الحديث بمثابة الخطوة الأولى في طريق طويل ما نزال نواصل السير فيه، على هداية مبدأ عام، هو أن تجيء النهضة العربية على أساس يجمع بين الطابع القومي المتميز، وظروف العصر الذي نعيش فيه.
وتمضي السنون - ويستدير القرن التاسع عشر، ليبدأ العشرون، فتزداد المقاومة شدة وظهورا فيما تجري به أقلام المفكرين والأدباء، وحسبنا أن نجد في السنوات الأخيرة من القرن الماضي وفي العشرة الأعوام الأولى من هذا القرن قاسم أمين، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، ولطفي السيد، وعبد العزيز جاويش، ومن الشعراء شوقي وحافظ، كانت حالة الضعف السياسي قد انتهت بالبلاد إلى قبضة المستعمر، وخدعت طائفة من مفكري الغرب عن حقيقة الأمر، فنقلوا بأوهامهم ذلك الضعف من السياسة إلى العروبة من حيث هي جنس، وإلى الإسلام من حيث هو دين، فكان لا بد للفكر والأدب عندنا أن يتصديا لذلك؛ لأن التهمة إذا صدقت انفسح الأمل أمام المستعمر الفرنسي في تونس والجزائر ولبنان وسوريا ، وأمام المستعمر الإنجليزي في مصر والعراق، وأما إذا ردت التهمة وظهر بطلانها، فقد انفسح الأمل أمام الأمة العربية أن تزيل عنها الكابوس الطارئ، لتسترد مجدها، وتمضي قدما في طريقها، ومن هذا القبيل ما حدث بين دعوى هانوتو فيما يتصل بخصائص الجنس الآري والجنس السامي، ورد الشيخ محمد عبده عليه لتفنيد دعواه، وكذلك ما حدث بين دعوى رينان عن موقف الإسلام من العلم، وزعمه بأن الإسلام مضاد للعلم، ورد الأفغاني عليه لتفنيد دعواه، وها هي ذي دعوى ثالثة لمتهجم آخر، يتصدى للرد عليها قاسم أمين.
ذلك أن داركور قد أصدر كتابا سنة 1893م عن المصريين، يصفهم فيه بالتأخر، ويأخذ عليهم حجبهم للنساء عن موارد العلم وميادين الحياة، ثم لا يكتفي بذلك، بل يربط هذا كله بالعقيدة الإسلامية، فرد عليه قاسم أمين سنة 1894م في كتاب عنوانه «المصريون» مدافعا عن وطنه وأهله، معترفا بما قد شاب ذلك الوطن وأهله من عيوب محال أن ترد إلى الإسلام، وإنما هي أثر مباشر للحكم الفاسد الذي نكبت به البلاد أمدا طويلا من الدهر، وقد كتب قاسم أمين كتابه هذا بالفرنسية، ليتاح لمن قرأ داركور، من الفرنسيين أن يطالعوا الرد عليه، اقرأ هذه العبارة - مثلا - من رده على الدوق داركور، لترى كيف رد التهمة عن أهله ردا يوقع خصمه فيما هو أشنع منها: «يظهر أن مسيو داركور ينعي علينا عدم وجود الفوارق الاجتماعية عندنا، ويعيبنا لأنه ليس من طوائفنا طائفة الأشراف بالمولد أو بغير المولد، وكل السكان الذين يقيمون في بلد إسلامي هم متساوون أمام القانون بلا تفرقة بين أجناسهم ودياناتهم.»
على أن هذه المعركة القلمية بين الدعوى ونقيضها، قد حركت الكاتب العربي إلى النهوض بعبء الإصلاح في ميدانه، حتى لا نغمض العين على نقص واضح، فكتب كتابه العظيم «تحرير المرأة» (1899م) وأعقبه بآخر «المرأة الجديدة» (1900م) ليرد به على ما قد وجه إلى كتابه الأول من نقد.
وإن ذكرنا لكتاب تحرير المرأة، ليستدعي ذكر جريدة المؤيد التي أنشأها الشيخ علي يوسف (1863-1913م)، والتي ظهر فيها الكتاب فصولا امتدت على شهرين وهي نفسها الجريدة التي نشر فيها عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902م) كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الذي هو من أبرز الكتب التي عرفها الأدب العربي في العصر الحديث عن الحرية، يقول فيه الكاتب عن الحاكم المستبد إنه «يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم»، «والمستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو البشر، والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا»، «إن الاستبداد يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده»، «الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشوارع»، «أقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق - ولبئس السيئتان - ويعين الأشرار على إجراء غي نفوسهم آمنين، حتى عن الانتقاد والفضيحة؛ لأن أكثر أعمالهم تبقى مستورة يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعة الشهادة.»
لم تكن هذه الدعوى الاجتماعية التي وجهها قاسم أمين لتحرير المرأة العربية بعيدة الصلة بالدعوات السياسية التي أخذت منذ أوائل هذا القرن تشغل أصحاب الأقلام، فصاحب «تحرير المرأة» هو نفسه الذي كتب عن جنازة مصطفى كامل يقول: «11 فبراير سنة 1908م يوم الاحتفال بجنازة مصطفى كامل، هي المرة الثانية التي رأيت فيها قلب مصر يخفق، المرة الأولى كانت يوم تنفيذ حكم دنشواي: رأيت عند كل شخص تقابلت معه قلبا مجروحا، وزورا مخنوقا، ودهشة عصبية بادية في الأيدي وفي الأصوات، كان الحزن على جميع الوجوه ...»
Página desconocida