وأما القصة فقد كانت في أدبنا الحديث منذ أول القرن، وبلغت أشواطا لا بأس بها على أيدي هيكل في «زينب» و«هكذا خلقت» و«المازني» في «إبراهيم الكاتب» والعقاد في «سارة» ومحمود تيمور في «سلوى في مهب الريح» - وكلهم ممن غلبت فيه الثقافة الفكرية العقلية على أدبه، فجاءت قصصهم تحليلا لأفكار - وخصوصا فكرة الحب، وبعض العلاقات الاجتماعية الأخرى - ثم ظهرت بعدهم جماعة أخرى تكتب القصة كتابة تسودها التلقائية وعدم إطالة التفكير العقلي؛ وذلك لأن الطبع القصصي عندهم أعمق وآصل، ولكنهم برواية الأحداث والتزامهم الواقع كما يقع، أكثر اهتماما منهم بتحليل الأفكار والأشخاص؛ ولهذا كانت قصصهم أقرب إلى نفوس القراء الذين يريدون المتعة الأدبية وحدها ولا يصبرون على جهد يبذلونه في أدب أنشأه صاحبه بعد إعمال الفكر وعناية باللغة، ومن هذه المجموعة الثانية «يوسف السباعي» و«إحسان عبد القدوس» و«محمد عبد الحليم عبد الله» و«يوسف غراب» - فلما قامت ثورة يوليو 1952م، ولبثت ماضية في طريقها الثوري ظل هؤلاء الكتاب يكتبون، بعد أن مالوا بمضمونهم الأدبي نحو الفكر الاشتراكي الجديد، ونحو إبراز المفارقات التي كانت تفسد حياتنا قبل الثورة، لكنهم - مع تجديدهم في المضمون، ومسايرتهم للروح الثورية - ما زالوا يحافظون على الأسلوب الذي بدءوا الكتابة به منذ بدءوا.
ويقف وحده في ميدان القصة «نجيب محفوظ» الذي بدأ إنتاجه القصصي منذ أواخر الثلاثينيات، وظل يواصل الكتابة، التي استهدف بها دائما تصوير الطبقة الوسطى الطامحة إلى التشبه بالطبقة الممتازة، حتى قامت ثورة 1952م، وعندئذ طفر بفنه طفرة عالية، إذ وسع من منظوره الفني توسعة استطاع بها أن ينظر إلى تاريخنا القومي الحديث كله، وكأنه ينظر إلى مشهد واحد، وطفق يصوره تصويرا بارعا فيه حيوية وبناء أدبي محكم، ومن خير الأمثلة لفنه الجديد ثلاثية صور بها ثلاثة أجيال تتابعت في أسرة واحدة منذ ثورة 1919م، ليبرز في تطورها خلال الوالد والولد والحفيد، معالم تطورنا جميعا في عصرنا الثوري الحديث.
ونترك ميدان الأدب، لننظر فيما صاحبه من نقد أدبي، فنجد هنا المدارس تتتابع منذ العشرينيات حتى يومنا هذا، تتابعا يدل بذاته على معالم التغير في وجهات النظر فبعد أن تولى النقد أدباء ما قبل الثورة: طه حسين، والعقاد، والمازني وغيرهم، ينقدون وكأنما في خلفية رءوسهم عقيدة بأن الأدب إنما يكتب على أسس أدبية فنية صرف، نحاسب الأديب عليها دون أن نطالبه بأن يكون على رأي معين في موضوع بعينه، فليكن مذهبه السياسي ما يكون، ولتكن ميوله الاجتماعية ما شاء لها أن تكون، وليضع أية عقيدة أراد في أدبه، لكنه مطالب بتجويد فنه الأدبي، ثم هم بعد ذلك يختلفون في الأساس الذي يحكمون به على جودة هذا الفن الأدبي: أيكون هو نجاح القطعة الأدبية في التغلغل بنا إلى أعماق نفس كاتبها؟ أم يكون هو نجاحها في تصوير عصرها؟ أقول إنه بعد أن كان النقد عند أدباء ما قبل الثورة قائما على أسس كهذه، جاءت الثورة فتبعها تبدل في الموقف النقدي، إذ أخذت المذهبية الاجتماعية والسياسية (الأيديولوجية) شيئا فشيئا تحتل مكانتها كأساس للنقد، ينظر إليها قبل أن ينظر إلى أي شيء سواها، فإذا وجدت القطعة الأدبية هادفة نحو تحقيق آمال المجتمع في طوره الاشتراكي الجديد، نظرنا بعد ذلك في شكلها وأسلوبها وغير ذلك، وأما إذا وجدت غير هادفة على هذا النحو، كان من العبث وضياع الوقت والجهد أن نناقشها من جوانبها الفنية الأخرى، وكان من أبرز من أقاموا هذا النقد الأيديولوجي في الأعوام الأخيرة «محمد مندور» وما يزال يجري عليه نقاد آخرون مثل «محمود أمين العالم»، على أن المعارك النقدية ما زالت تظهر في محيطنا الأدبي حينا بعد حين، بين نقاد يؤكدون أهمية «الشكل» في القطعة الأدبية، بغض النظر عن موضوعها، وآخرين يؤكدون أولوية «الموضوع» وإلا فلو خلت الكتابة من موضوع يمس مشكلات الحياة الواقعة، كانت عبثا ولهوا، وهنالك نقاد يقفون في نقدهم عند التقويم الفني المشبع بقراءات عريضة وثقافات متنوعة، مثل لويس عوض.
وإن الحديث عن النقد الأدبي، ليجرنا إلى الحديث عن «الفكر» بصفة عامة، فها هنا كذلك نجد الأمزجة كلها متجاورة - وإن لم تكن متآلفة - فثمة من الدارسين - من أساتذة الجامعة بصفة خاصة - من يعكف على دراسة القديم أو الجديد، كل بحسب ميدان تخصصه، ليخرج للناس بحوثه في كتب أو في مقالات أكاديمية، أو على الأقل مطبوعة بطابع الجد الرصين، ومن أمثلة هؤلاء في مجال الدراسة الأدبية «شوقي ضيف» الذي ينصرف بجهوده نحو التأريخ للأدب العربي من أقدم قديمه إلى أحدث حديثه، و«سهير القلماوي » التي استطاعت بسعة أفقها وطلاوة حديثها أن توصل أعلى المستويات الثقافية إلى جمهور القراء في أسلوب رفيع وبطريقة جذابة، ومن هؤلاء أيضا مدرسة أدبية تجعل شعارها «الأدب للحياة» - سواء جاءت ثمارهم مطابقة تمام المطابقة لشعارهم هذا أو لم تجئ - وكان على رأس هذه المدرسة «أمين الخولي» و«عائشة عبد الرحمن» التي تعرف عند القراء باسم «بنت الشاطئ» وهي في مرحلتها الأخيرة أميل إلى إحياء القيم العليا من جوف التراث؛ ابتغاء وصلها الجديد بالقديم.
وفي ميدان الفكر النظري، دراسات مختلفة المنزع تصدر تباعا في شتى الفروع، لكن ما يلفت النظر منها هو الدراسات الخاصة بالمفهومات الاشتراكية، التي قد تضيق حتى تتناول مفهوما واحدا بالشرح والتحليل، وقد تتسع حتى تشمل النظرية الاشتراكية كلها في صورتها العربية، ولو أردنا أن نلتمس موضعا واحدا يلخص لنا صفوة فكرنا الاشتراكي الجديد، لما وجدنا خيرا من «الميثاق» الذي صدر سنة 1962م عن مؤتمر وطني كبير، ليكون بمثابة خطة للعمل القومي السياسي إلى حين.
على أن صورة الحياة الثقافية في مصر المعاصرة لا تكمل إلا بذكر جهود متفرقة كثيرة، تكون الروافد التي تمد التيار الرئيسي الكبير، كل بحسب منبعه ومورده: فهنالك من ينقل إلينا ثقافة الغرب - إما بالترجمة وإما بالأصالة الشخصية - نقلا يتسم بالتأييد المتحمس لها، وعلى رأس هؤلاء الدكتور حسين فوزي، وأشهر كتبه «سندباد عصري» الذي يجمع في دراسته بين العلم والأدب، وهنالك من يفكر في مشكلات ثقافية يختارها لنفسه، تفكيرا مستقلا أصيلا، لا يبالي أجاء مصطبغا بتأييد العربي القديم أو الغربي الجديد، مثل «الدكتور محمد كامل حسين» - ومن خير ما كتب قصة «قرية ظالمة» الذي يجمع هو الآخر بين الدراسة العلمية والأدبية، هنالك المؤرخ الذي أخذ نفسه بالتأريخ لبلادنا في عصورها الحديثة تاريخا مفصلا، تسري فيه الروح الوطنية التي تبرز صورة قومه مبرأة من الشوائب التي أدخلها عليها مؤرخون آخرون لم يكتبوا بروح الإنصاف، مثل «عبد الرحمن الرافعي»، وهنالك عشرات الباحثين توفروا على نشر النصوص القديمة وتحقيقها، ومئات المترجمين الذين ينقلون عن أوروبا وأمريكا ما ينتجانه حتى ليتابعوا الحركة الفكرية هناك خطوة خطوة - وهنالك عدد ليس بقليل ممن جعلوا همهم جمع الأدب الشعبي والفن الشعبي في مختلف صوره، وصب هذه الصور في سياق متسق من شأنه أن يوضح جانبا هاما من الروح المصرية العربية الأصيلة التي لا غنى عن توضيحها إذا أردنا - كما نحن مريدون منذ أول القرن - أن نبحث عن حقيقة أنفسنا، ويتزعم هذه الحركة «عبد الحميد يونس» الذي أنشئ له كرسي جامعي ليتولى تدعيم الدراسة الفولكلورية على أسس أكاديمية قوية، ولقد أخذت هذه الآثار الشعبية في الأدب والفن، تسري في كثير من الخلق الأدبي في القصة والمسرحية والشعر.
إنه لو جاز لنا أن نلخص تيارات الفكر والأدب المعاصرة في مصر، في عبارة واحدة، قلنا إنها جميعا محاولات نحو خلق شخصية عربية جديدة، تحمل طابعا مميزا، تجتمع فيه قيم الماضي العريق، وقيم الحاضر المتطور، طابعا يتسم بالإرادة الحرة، وبالنظرة العلمية، ينقل عن تراث الآباء قيمه العليا، وعن الحضارة القائمة علومها وصناعتها وتياراتها الفكرية والفنية، ثم يتمثل ذلك التراث وهذه الحضارة، تمثلا ينتهي إلى أصالة وابتكار.
حركة المقاومة في الأدب العربي الحديث
لم يكد المستعمر البريطاني يمس الأرض العربية في مصر (1882م) حتى انعكس حضوره على الأدب في صور شتى من المقاومة، يمكن تقسيمها من حيث الصفة الغالبة عليها مراحل ثلاثا، كان للمقاومة في كل مرحلة منها خاصة مميزة، أما المرحلة الأولى فقد امتدت من لحظة الاحتلال إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، جاءت المقاومة خلالها تنبيها مباشرا للناس أن يستيقظوا للخطر الداهم، الذي أحاق بالوطن وبالعقيدة، وأما المرحلة الثانية فقد امتدت خلال فترة ما بين الحربين، وفيها أضيفت إلى الأدب السياسي المباشر، الذي اشتعل بالدعوة إلى الحرية والاستقلال عقب الثورة الوطنية عام 1919م، أقول إنه قد أضيفت إلى هذا الأدب السياسي المباشر خلال المرحلة الثانية بحوث في الحرية من حيث هي كذلك، كائنة ما كانت جوانبها وميادينها، وسرعان ما ألحقت بهذه البحوث النظرية، سير لأبطال الحرية تجسد للناس معانيها في رجال عاشوها، وقد اختير هؤلاء الأبطال من الغرب تارة ومن التاريخ العربي تارة، ثم جاءت المرحلة الثالثة لتمتد من الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا، منقسمة شطرين: في أولهما كان الاستعمار عسكريا سافرا، وفي ثانيهما أخذ يتسلل في خفاء إلى حياتنا الفكرية بغير جند ولا سلاح، على أن المقاومة - كما انعكست في الأدب - خلال هذه الفترة الثالثة بشطريها، قد اتسمت بطابع واحد متصل، هو طابع إيجابي بالقياس إلى الطابع السلبي الذي ميز المرحلتين الأوليين، إذ اتخذت المقاومة هذه المرة طريق البناء لثقافة جديدة، تحمل خصائصنا القومية الأصيلة، وتفتح أبوابها - في الوقت نفسه الحياة، ولا حياة إلا بك يا - لعوامل التطور الحضاري الحديث، وذلك رغبة منا في تقرير ذواتنا، وتحصين وجودنا الشخصي المتميز الفريد.
ولم يكن الأدب العربي في مصر، خلال هذه المراحل الثلاث جميعا، ليقصر مقاومته على أرض مصر وحدها، منزوعة من الوطن العربي الكبير، أو معزولة عن حركات التحرر التي أخذ مداها يتسع في أرجاء مختلفة من آسيا وإفريقيا، بل كانت الأمة العربية بأسرها هي مجال الكتابة عند الكاتبين، كما كانت البلاد الإسلامية، وكل بلاد أخرى تطالب بحريتها من مستعمر غاصب، موضوعا لا يغيب عن سياق الحديث، كلما مس الحديث قضايا التحرر الوطني.
Página desconocida