En la Filosofía de la Crítica
في فلسفة النقد
Géneros
هذا مثال واحد سريع، أردت به التوضيح لأنتهي بالقارئ إلى توكيد الفكرة التي بدأت بها، وهي أنه لا يكون الأديب أديبا إلا إذا تفرد بطريقة التعبير، ثم لا تكون العبارة ذات أسلوب معبر إلا إذ جاءت صورة لصاحبها سالت على الصفحات مدادا في جمل وكلمات.
ريادة الأدب
فكاهة تروى عن زوجة لا تدري هل يؤكل الأدب أو يشرب، شاء لها حظها الأنكد أن تتزوج من أديب قصاص، فكان صاحبنا يوصد من دونه غرفة مكتبه ساعات من كل يوم، وأياما من كل أسبوع، قد يأكل طعامه في حينه، وقد يفوته أوان الطعام فلا يحس أن شيئا من مهام الحياة قد فات أوانه، وكلما سألت الزوجة الحيرانة زوجها: ماذا يصنع؟ أجابها بأنه يكتب قصة . وضاقت الزوجة بزوجها ذات يوم، فانفجرت في وجهه صارخة: فيم هذا العناء كله يا أخي، وأنت تستطيع بعشرة قروش أن تشتري ما شئت من قصص؟
هي نكتة تروى عن هذه الزوجة الساذجة مع زوجها الأديب، لكن في هذه السذاجة البريئة لمحة من الحق! فلماذا يكتب الأديب قصة، أو ينظم الشاعر قصيدة، إذا كانت بضاعته مما يملأ السوق بثمن زهيد؟ إنه إذا لم يكن للأديب رسالة جديدة، فيا ضيعة ساعاته التي أنفقها في سجنه الأدبي محتجبا عن أسرته!
أتقول بأن للأديب رسالة ينقلها إلى الناس بأدبه؟ نعم هو ذاك، لكن الأمر يريد شرحا وتحديدا، فمن قلب الأوضاع أن نطالب الأديب بمشاركة المجتمع الذي يعيش فيه مشاركة تدعوه إلى متابعته وتصويره؛ إذ إنه لو فعل لما كان لوجوده من داع يوجبه، فالمجتمع قائم على حاله سواء وجد فيه الأديب أم لم يوجد، ولا عجب - إن كانت هذه هي مهمة الأديب - أن يسأل السائلون: ما جدوى هؤلاء الأدباء في حياتنا وهم لا يصنعون شيئا ولا ينتجون شيئا؟ لكن لا. إن الأديب الحق يهدي ولا يهتدي، ويقود ولا ينقاد، وينير الطريق لغيره ولا يستنير.
وليست هذه ألفاظا نرصها رصا على غير هدى، بل هي معان نعنيها بأدق ما تؤديه من دلالة؛ فلئن كان غمار الناس يحيون حياتهم وفق معايير معلومة رسمت لهم بها نماذج سلوكهم وطرائق عيشهم، فالأديب منهم هو وحده الذي تقلقه هذه المعايير؛ لأن الله خلقه من طبيعة شذت عن مألوف الطبائع، فالتمس راحة نفسه في نماذج أخرى، ثم حاول أن يحياها كما حاول أن ينفس عن طبيعته بالتعبير عنها، لا يعبأ بالناس من حوله، فإذا هو بقلقه هذا مما هو سائد، وباطمئنانه لقيمه التي اختارها، يدخل القلق ثم الاطمئنان في نفوس الآخرين.
نعم، إنه قلب للأوضاع أن نظن - مثلا - أن شعراء العرب كانوا يتغنون بما يتغنون به من قيم، كالنجدة والكرم والتضحية والشجاعة، لأن العرب كانوا على هذه الصفات، فجاء شعراؤهم يصفون ما يجدونه، وينفعلون لما هو قائم مستقر في النفوس . أما الصواب فهو أن القوم قد عاشوا تلك القيم واتصفوا بتلك الصفات، بعد أن لمحها الشعراء أولا ورأوها لأنفسهم، ثم شاعت بعدئذ في عامة الناس، وإلا فما إلهام الملهم وما عبقرية العبقري، إذا كان قصاراه في مدى الرؤية أن يتلفت على قيد شبر منه، ليبصر الناس من حوله كيف يسلكون وبماذا يحلمون، لكي يصف لهم سلوكهم ويسجل أحلامهم؟
إنني لا أقول بدعا إذا قلت إن الأديب الحق يسبق الناس في رؤاه ولا يلحقهم؛ فقد حباه الله موهبة يدرك بها من الحق ما ليست تدركه عامة الناس، كأنما فتح أمام بصره ثغرة يطل خلالها على الوجود الحق في صميمه، بينما وضع غشاوة على أبصار الآخرين فطمسها إلا عن مسالك الحياة الجارية، فيسعون إلى القوت والمأوى وإلى الشهرة والقوة والجاه؛ فليس من شأن عامة الناس أن تترك سبل معاشها لتشك وتفكر، أو لتطير وتحلق، ولو شكت الشمس أو شك القمر، لما اطرد لهما سير في فلك، وكذلك الناس في مسالك عيشهم، لكن ما هكذا يكون الأديب الحق، الذي لم يخلق إلا ليخرج عن فلك الحياة المألوفة المعهودة لنقص فيها، فيسير في فلك من صنعه، وما هي إلا أن ينخرط في مساره هذا سائر الناس، وهل أراد أبو تمام غير هذا المعنى حين قال:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
بناة العلا من أين تؤتى المكارم
Página desconocida