En la Filosofía de la Crítica
في فلسفة النقد
Géneros
وإذا انحرفت معايير «الحق» إلى هذا الحد الذي يخلط بين الحق والمنفعة، فلا عجب أن يتنبأ المتنبئون بالانحلال والتدهور للحضارة بأسرها، وهذا هو ما حدث لكثيرين ممن كتبوا فلسفة التاريخ في عصرنا، وعلى رأسهم «شبنجلر» في كتابه المعروف «تدهور الغرب»، وليس المهم في حالة كهذه أن يصدق الكاتب أو أن يضل عن الصواب، بل المهم هو كيف يقع كتابه من أنفس القراء، فإذا لقي رواجا وقبولا جاز لنا الحكم بأن إنسان العصر قلق على قيمه الحضارية، مشفق عليها من الزوال، وماذا يكون موقف من يتوقع أن ينهدم على رأسه البناء؟ إحدى اثنتين: فإما أن يهم بالإنقاذ، وإما أن يأخذه اليأس فينهار. فإن كانت الأولى تحمس لنظرية مذهبية حتى ليدفعه الحماس إلى التطرف يمينا أو يسارا، وإن كانت الثانية آثر لنفسه حياة مستهترة يشبع بها كل عواطفه وكل حاجاته الراهنة العابرة. وإنك لتجد كل هؤلاء معا في مجتمع العصر، وترى صورهم جميعا منعكسة على صفحات الأدب، فهذا يتطرف في إيمانه بالديمقراطية الغربية، وذاك يتطرف في إيمانه بالشيوعية الروسية، وثالث يضرب بهذه وتلك عرض الحائط لأنهما بغير جدوى، والمهم عنده هو أن يعبر عن حياته الفردية في «وجودية» تحقق طبيعته هو قبل أن يفرغ الأجل. ولا بد لنا أن نشير ها هنا إلى رد الفعل عندنا نحن أبناء الشرق العربي لهذا كله كما يظهر في أوساطنا الفكرية والأدبية، فنقول إنك قد تجد من الوجهة النظرية أنصارا لهؤلاء وأولئك، وأتباعا لمن يرفض أولئك وهؤلاء وينادي بوجودية فردية، لكننا «جميعا» نحس الفرحة في أعماقنا أن قد آذنت حضارة الغرب بتدهور وانحلال، ولا يسعنا إلا أن نعبر عن هذه الفرحة في أدبنا، إما بالاتهام المباشر لمن يصطنع في حياته وفكره صورة الغرب، أو بالدفاع عن روحانية الشرق ومثله العليا، وأحسب أن أدباءنا لم يشغلهم موضوع بمثل ما شغلهم تصوير القيم العربية الإسلامية كما قد تجسدت في نبي الإسلام، وفي خلفائه الراشدين، وفي أبطال الحياة العربية الإسلامية بصفة عامة.
وكان من أهم العمد في ثقافة الغرب الأدبية، الشاعر الإسباني «أونامونو» الذي أصدر «جانب المأساة من الحياة» سنة 1912م، لكنه لم يصبح ذا أثر ملحوظ إلا في العشرينيات، بعد أن ترجم إلى اللغات الأوروبية الأخرى، فها هنا ترى تعبير الشاعر قد بلغ أقصاه؛ تعبيره عن الصراع العنيف في نفس الإنسان المعاصر بين إيمانه وعقله. إن الشاعر يضع القيمة العليا في الفرد الحي ذي «اللحم والعظم»، لا في هذه التجريدات التي تحول الأفراد إلى أرقام إحصائية فتفقدهم وجودهم الحقيقي، والإنسان الفرد ذو اللحم والعظم متعطش للخلود، فليقل بعد ذلك أصحاب المذاهب ما يقولون، فإذا اصطرع في الإنسان عقله وإيمانه، كان في ذلك جانب المأساة من حياته، ولكن على هذه المأساة نفسها يستطيع أن يقيم بناءه من جديد؛ فمن اليأس يستخرج الرحمة بالآخرين، ومن الرحمة يستخلص الحب؛ حب الإنسانية جمعاء، وهي التي تشاركه آلام الفناء كما تشاركه الرغبة في الخلود، وحب الله الذي إليه وحده يكون الدعاء أن يرد للإنسان سكينة نفسه، فيكون العقل نصيرا للإيمان في الخروج من مأساة الحياة.
فماذا عندنا نحن - أبناء الشرق العربي - من هذا الصراع بين العقل والإيمان الذي يميز إنسان الغرب اليوم؟ إننا كثيرا ما نذكر هذا الصراع، لكنني أعتقد أنه ذكر من السطح، وليس هو بالذي يمسنا في الأعماق؛ لأننا في الحقيقة لا نحسه إحساسا حيا. لماذا؟ لأننا - فيما أعتقد أيضا - لم نبلغ بعد من التأثر بالمنهج العقلي العلمي حدا تكون له الخطورة على وجداننا الديني؛ ومن ثم فلا إشكال، وإذا كان ثمة صراع حي في أنفسنا، فليس هو بالصراع القائم بين العقل والإيمان، بل هو صراع بين إيمان وإيمان، فهل «نؤمن» بقيم الحضارة الغربية، أو «نؤمن» بقيم الحضارة الشرقية؟ ذلك هو الصراع الحي الكائن في نفوسنا، والذي - بغير شك - قد وجد سبيله إلى إنتاجنا الأدبي.
لكن مشكلة الصراع بين العقل والإيمان في الغرب مشكلة حقيقية وحادة، تراها منعكسة في تيارات الفكر والأدب، فلعل أقرب الاتجاهات الفلسفية إلى جانب العلم وجانب العقل من الحضارة الراهنة، هو اتجاه الوضعية المنطقية - كما أطلق عليه عند أول ظهوره في «فينا» في العشرينيات من هذا القرن - وهو نفسه اتجاه التجريبية العلمية، كما يطلق عليه عادة الآن، وهو اتجاه ينزع نحو تحليل المعنى تحليلا يجعل معيار الحق هو شهادة الحواس، ويكمل هذا الاتجاه الفلسفي نفسه - ولا أقول يتطابق معه - اتجاه تحليلي آخر ظهر في إنجلترا، وفي جامعة كيمبردج بصفة خاصة، على أيدي «جورج مور» و«برتراند رسل»، ونقطة الالتقاء بين مدرسة فينا ومدرسة كيمبردج هي تحطيم البناءات الفلسفية التي شغف بإقامتها الفلاسفة السابقون، فلم يعد الأمر عندهم أمر إقامة صرح عظيم كفلسفة «أفلاطون» مثلا أو فلسفة «هيجل» يحاول أن يشمل الكون كله بنظرة واحدة، فذلك عند أصحاب التحليل طموح لا يسوغه العقل الصرف وإن أشبع جانب الوجدان. هذه الاتجاهات الفلسفية المعاصرة دعوة صريحة إلى الارتكاز على العقل وحده، ولكن هيهات أن تجد دعوة كهذه صدى قويا في نفوس «عامة» المثقفين، لا سيما وأسلوبها في عرض مادتها هو أسلوب المتخصص يخاطب به المتخصصين، فلا نصيب للقارئ العادي فيه، وإذا كانت هذه الدعوة العقلية الصارمة لم تجد في الغرب آذانا مصغية إلا عند صفوة المتخصصين، فهي عندنا لا أمل لها حتى عند هؤلاء الصفوة، فكاتب هذه الأسطر من أشياعها ودعاتها، لكنه يكاد يكون في الميدان وحيدا، يتكلم لغير سامع، ويكتب لغير قارئ؛ لأن الدعوة إلى العقل الصرف لا تجد في أنفسنا صدى، وذلك للسبب الذي أسلفته، وهو أن الصراع بين العقل والإيمان ليس إشكالا لنا، وإنما الإشكال هو المفاضلة بين إيمان وإيمان.
لكن كان من حظ أحد أئمة الاتجاه العلمي العقلي في الفلسفة - وهو «برتراند رسل» - أنه لم يقتصر على المجال الفلسفي الصرف ، بل استخدم كل قواه التحليلية والعقلية، كما استخدم ما عرف به من شجاعة أدبية في الدفاع عن قيم يهتم لها المعاصرون جميعا، هي قيم الحرية ومحاربة الطغيان في شتى صوره؛ فهو داعية إلى الإخاء الإنساني بمعناه الحقيقي العميق، وهو حريص على مدنية الإنسان أن تنهار بحمق الساسة الذين يلهون بأسلحة الدمار؛ لهذا تراه مقروءا في العالم كله بكتبه غير الفلسفية، مثل: «الطريق إلى الحرية»، و«القوة»، و«مستقبل الحضارة الصناعية»، و«تحقيق السعادة» - وقد ترجم معظمها إلى العربية - لكنه حتى في هذه الكتب لا يرخي قبضته أبدا عن الحجة العقلية الصارمة، ولا يجرفه تيار «اللاعقل» السائد عند غيره من المؤلفين، ومؤدى هذا كله أننا ينبغي أن نكون على حذر ونحن نصف إنسان العصر بهذه الصفة أو بتلك، إلا أن يكون ذلك على سبيل الإجمال.
ولا نترك الحديث عن «فينا»، وما قد أنتجته للعالم المعاصر من اتجاه فلسفي علمي جديد، دون أن نذكر لهذه المدينة نفسها فضلها في أن أخرجت للعالم علماء في ميدان «علم النفس»، هزوا البناء الثقافي كله هزا عنيفا، هم «فرويد» و«آدلر» و«يونج» (وهذا الأخير سويسري)، فأظنك لا تكاد تسمع إنسانا حتى من أنصاف المثقفين أو أرباعهم - ودع عنك رجال الفكر والأدب - إلا وقد أصبح من عملته الفكرية الجارية على لسانه «اللاشعور»، و«عقدة النقص»، و«الانطواء» عند بعض الأشخاص، و«الانبساط» عند الآخرين، وهكذا وهكذا، وهي كلها ألفاظ قد تسربت إلينا من هؤلاء العلماء الذين أفاضوا الحديث في تحليل النفس الإنسانية إفاضة جعلت حديثهم ذاك مقروءا مسموعا مدروسا محفوظا في كل أدب، وفي كل نقد، وفي كل حلقات السمر، وسواء كانت تحليلاتهم تلك من العلمية بحيث تصدق على الإنسان في كل عصر وفي كل الظروف، أم كانت من الخصوصية بحيث تصور إنسان العصر الحديث وحده، فهي على كل حال قد قدمت لنا صورة عن إنسان العصر لا بد من تسجيلها في هذا السياق، وهي أنه إنسان لا عاقل، دوافعه إلى العمل تضرب بجذورها إلى طبقات دفينة من النفس ترجع إلى الطفولة، أو إلى ما قبل الطفولة الفردية إلى حيث ماضي الجنس البشري كله، لكنها على كل حال ضئيلة الصلة بمنطق العقل.
3
كان من أبرع الملاحظات التي وردت على لسان ناقد فرنسي، أنك - إذا ما تناولت بالدرس أديبا ما - فإنما تصل إلى مفتاح أدبه لو أنك وقعت على الكلمة التي ما تنفك تتردد في أدبه أكثر من سواها، فإذا جعلنا هذا المعيار أداتنا في النفاذ إلى صميم روح العصر كما يتبدى في أدبه، وجدنا أوسع الكلمات شيوعا في أدب الغرب من أول القرن إلى نشوب الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، هي كلمة «حديث» و«جديد»؛ مما يدل على أن القوامين على الحياة الأدبية والثقافية كانوا يتحرقون رغبة لتغيير القيم التي سادت إبان القرن الماضي، وإقامة قيم جديدة تصلح للعصر الجديد في حياته الجديدة، فلم يعد الفن كما عرف في الماضي ليرضي فنان هذا العصر، ولم تعد الأخلاق التي كانت حميدة في الماضي لترضي معيار الأخلاق في هذا العصر، ولم يعد المجتمع كله كما عرفت أوضاعه في الماضي ليرضي أبناء المجتمع الجديد، لا، بل إن لفظة «الجديد» أو «الحديث» سرعان ما فقدت قوتها عند الشباب الطامح بسرعة التغير، فابتكرت كلمة «المستقبلية» لتصف لونا من الفن ومن الأدب، لا يرضى بالموقف الراهن مهما يكن جديدا، ويتشوف المستقبل قبل وقوعه، وألف فريق من الشعراء - من بينهم «عزرا باوند» - عندئذ (قبيل قيام الحرب العالمية الأولى) مذهبا أسموه «الدوامة»، كناية عما يريدونه بقرائهم، وهو أن يضعوهم فيما يشبه الدوامة حتى تدوخ رءوسهم فينسلخوا عما هو محيط بهم، إلى ما هو جديد مبتكر.
وأحسب أني لا أقول للقارئ جديدا عن أدبنا العربي الحديث، إذا قلت إننا كذلك لو حللناه لوجدنا أكثر الكليات شيوعا فيه هي الدالة على جدة وعلى حداثة، مضافا إليها كلمة «الحرية»، فلا شك أن الإشادة بما هو جديد ومن شأنه أن يحررنا من القيود التي رسفنا فيها زمنا طويلا، موضوع لا يكاد يخلو منه أثر أدبي واحد من آثارنا التي أنتجناها منذ عام 1882م إلى يومنا هذا، على اختلاف الأدباء بعد ذلك في نوع «التحرر» الذي ينشدونه؛ فهنالك التحرر السياسي، والتحرر الفني، والتحرر في شئون الحياة العملية، وتحرر المرأة، والتحرر من التقاليد المعوقة ... وهلم جرا. وقد قام كل أديب بنصيبه في الدعوة إلى هذه الحرية التي تخلصنا من الأوضاع التي أردنا تغييرها وتبديلها بأخرى جديدة، وإذن فصورة الإنسان الحديث في أدبنا وفي أدبهم على السواء تشتمل على رغبة جامحة في التغيير السريع، وهي رغبة تتناسب مع فلسفة التطور التي أشرنا إليها فيما سبق؛ تلك الفلسفة التي حطمت السكونية، وأحلت محلها دينامية نشيطة فعالة لا تكاد تستقر على حال واحدة لحظتين متواليتين، كأنما أرادت أن تحقق صورة «هرقليطس» عن الحقيقة بأنها كنهر الماء الدافق، لا تستطيع أن تضع قدمك فيه مرتين متتاليتين؛ لأن ماءه في المرة الثانية غير مائه في المرة الأولى. ولقد ودع الإنسان الحديث بهذا التغير السريع حياته المستكنة الهادئة، حتى لتسمعه يصرخ اليوم من هذا الانزلاق السريع الذي لا يدعه في راحة مطمئنة كالتي ألفها أسلافه، لكن صراخه يذهب أدراج الرياح هباء؛ لأن دفعة التغيير عارمة هيهات أن تقفها صرخة صارخ.
أقول ذلك لأن الأدب الحاضر - عندنا وعندهم - إنما يصور هذا التغير السريع على صورتين تختلفان باختلاف مزاج الأديب؛ فهنالك الأديب الساخط على هذه الحياة الجارفة التي لا جمال فيها ولا سكينة نفس، وهنالك الأديب الراضي عن الأمر الواقع، حتى لقد أراد لنفسه أن يكون أحد العوامل التي تدفعه في جريانه السريع؛ ومن ثم انقسم الأدباء طائفتين؛ طائفة الجماليين الذين يريدون الفن لذاته بغض النظر عن هذه الدوامة المحيطة بهم، وطائفة أخرى تنغمس في محيطها لتصوره كما هو قائم أو لتزيد من دفعته. الطائفة الأولى المنسحبة قد يجيء انسحابها كانسحاب الرهبان في صوامعهم، أو قد يجيء انسحابها كانسحاب المتشردين الساخطين على أوضاع المجتمع الخارجين على القانون. وفي ظني أنه لا يجوز في النقد الأدبي أن نطبق معيار هؤلاء على أولئك؛ إذ كيف تنقد راهبا آثر التأمل الهادئ بأنه لم يضرب بمجاديفه في عباب المجتمع الصاخب، أو كيف تنقد أديبا شارك المجتمع في نشاطه بأنه لم يسخط ولم ينسحب؟ الحق أن لكل من هؤلاء معيارا، ولا ينبغي أن تقاس أهمية الفنان بكثرة قرائه أو بشيوع اسمه بين الناس؛ فقد تجد الأديب الممتاز في فنه ولكنه محدود الشهرة، أو قد تجد واسع الشهرة الذي لا امتياز في فنه.
Página desconocida