En la Filosofía de la Crítica
في فلسفة النقد
Géneros
لا عجب إن لم يكن للفنان موضع في مجتمع كهذا، ولقد طرده أفلاطون طردا، وهاجمه أعنف الهجوم؛ فالفنان بفنه يخاطب من الإنسان حواسه كالبصر والسمع، ولا يخاطب عقله، والحواس هي من الإنسان جانبه الأدنى، والعقل هو جانبه الأعلى؛ فأين الرسام - مثلا - الذي يخاطب برسومه عين الرائي، من عالم الرياضة الذي يخاطب بمعادلاته عقل المفكر؟ والفنان فوق هذا - أو بسبب هذا - مضطر أن يقف عند ظواهر الأشياء، فلا تهمه حقيقة الشيء في ذاته بقدر ما يهمه المظهر البادي على سطحها. أئذا رسم رسام فردا من الناس رسم جوهره العقلي، أم تراه يرسم جسدا؟ والفنان فوق ذلك كله خلية هدامة للبناء الاجتماعي، وذلك بالنسبة إلينا الآن هو بيت القصيد.
الفنان - عند أفلاطون وعند كل من يريد للمجتمع تجانسا في أفراده - خلية هدامة للبناء الاجتماعي؛ لأنه كائن حر بطبعه، يؤلف المسرحية مثلا فلا يضيره أن يلبس وشاح الملك أو مرقعة المهرج. إنه على استعداد أن يكون ذا شرف شريف مع هذا البطل، وصاحب خسة خسيسة مع هذا النذل. واختصارا فإن الفواصل بين الحق والباطل تنمحي أمام بصره - فيما يقول أفلاطون أيضا - وإذن فلا مناص من طرده من حظيرة المجتمع إذا أريد للمجتمع بقاء سلم، وحسبنا من المعارف علم وأخلاق؛ فبالعلم نعرف الحق في ذاته، وبالأخلاق نسلك سلوك الفضيلة. وإلى هذا الحد البعيد أخضع أفلاطون الفن للسياسة، ولم يخضع السياسة للفن؛ فالأولوية عنده لسلامة البناء السياسي، واللعنة لكل ما نراه يتعارض مع سلامة ذلك البناء.
فالفن في رأي هذا الفيلسوف عميق الأثر في حياة الناس، ولو لم يكن كذلك لما حفل به، ولأغضى عنه، وأثره العميق إنما هو في تكوينه لعادات شعورية خاصة، فإذا جاءت تلك العادات متفقة مع ما يريده صاحب السلطان كان خيرا، وإلا فالويل لصاحب السلطان إذا اعتاد الناس عن طريق الفن استجابات شعورية لا ترضيه. والنزاع في هذه الحالة محتوم بين الحاكم والمحكوم. ولعل هذا هو بعينه ما يجعل الحكومات الحديثة - حينما يهمها أن يتجانس الناس - حريصة على أن تكون مقاليد الفن في يدها، وقد تجزل العطاء للفنان تهيئ له من طيبات العيش ما يشتهي؛ حتى ينصاع الفن للسياسة في مجراها، فيخلق في الناس استجابات شعورية تصون البناء الاجتماعي ولا تهدمه.
كل ذلك جميل ما دام الأمر مقصورا على بلد واحد وأمة واحدة، فلنفرض - جدلا - أن لا غضاضة على الفرد داخل بلده وفي حدود أمته أن يتجانس مع بقية الأفراد، وأن واجب الفنان هو أن يؤكد هذا التجانس، فيصوغ بفنه مثلا عليا هي التي من شأنها أن تبقي على النظام الاجتماعي والسياسي القائم، ولكن ما هي الحال والعالم بلدان وأمم؟ إحدى اثنتين؛ فإما أن تظل البلدان والأمم على تناحر وخلاف، وعندئذ فليضرب كل فنان في بلده على الوتر الذي تريده أمته، أو أن نسعى إلى إزالة عوامل الشحناء ليكون بين الناس في مختلف أصقاع الأرض إخاء، وعندئذ لا بد للفنان من رسالة أخرى، فماذا عساها أن تكون؟
تكون تلك الرسالة حين يجاوز الفنان حدوده الإقليمية ليخاطب الحقيقة الإنسانية في صميمها. والحقيقة الإنسانية واحدة مهما اختلفت ألوان الجلود، وطرز الثياب، وألوان الطعام، وأنماط الروابط والصلات؛ فبخيل الجاحظ كبخيل موليير، صورة إنسانية لا تقيدها قيود اللغة التي رسمت بها، ولا الأوضاع الاجتماعية التي نشأت في ظلها. وقيس هو روميو، وروميو هو قيس، كما أن ليلى وجوليت أختان في المصير. فاقرأ قيسا إن شئت أو اقرأ روميو، فالحالة الوجدانية في كلتا الحالتين واحدة.
وللإمام الغزالي اعترافات، وللقديس أوغسطين اعترافات، وكلا المتصوفين يصدقان القول كيف أوشكا على ضلال ثم أراد لهما الله الهداية واليقين، فاقرأ هذا أو اقرأ ذاك تجدك إزاء روح إنساني لا يغير من حقيقته أن ينطق بلسان عربي أو لسان غير عربي؛ فالإنسان هو الإنسان في سعادته وفي شقائه، في لهوه وفي جده، في جوعه وفي امتلائه، في رضاه وفي سخطه، وإنما تتغير القشور دون اللباب.
ونتناول الموضوع من زاوية أخرى لتتضح رسالة الفنان في عصرنا الذي تخاصمت فيه الشعوب، وذلك أن ننظر إلى طبيعة الفن في أعماقها، فنراها هي نفسها طبيعة اللعب؛ فالتلقائية في اللعب هي نفسها التلقائية في الفن، والتنفيس الذي يكون في اللعب هو نفسه التنفيس الذي يكون في الفن، والتنزه عن الغرض في اللعب هو نفسه التنزه عن الغرض في الفن. وأهم من هذا كله، التعبير عن الكيان الإنساني في مجموعه - لا هذا العضو وحده أو ذاك العضو وحده - هو في اللعب وفي الفن على حد سواء؛ فأنت لا تدري وأنت تلعب أبالحواس تلعب أم بالعقل؛ لأنك تلعب بكل ملكاتك في آن واحد. وكذلك في الفن إذ تشخص ببصرك إلى صورة أو تصغي بسمعك إلى نغم. وها هنا الغلطة التي أضلت أفلاطون عن الصواب حين ظن الفن منوطا بالجانب الحسي الظاهر دون اللباب العقلي الباطن، وراح يرتب على ذلك النتائج، وها هنا أيضا نضع أصابعنا على أهم نقطة نريد إبرازها لتتبين لنا رسالة الفنان.
ففي حياتنا العملية من تجارة وصناعة وزراعة، بل في حياتنا العلمية ذاتها، قد تنشق حياة الإنسان شطرين؛ فإما هو صاحب فكر أو صاحب عمل يد، وإنها لتفرقة رسخت في الأذهان طوال العصور، حتى لأوشكت أن تبدو للناس وكأنما هي البداهة التي لا تحتمل الجدل؛ ففريق هم أهل الفكر، وفريق هم أهل العمل، وكان للأولين - في الأعم الأغلب - السيطرة والسيادة على الآخرين. وفي مثل هذه القسمة ينشط من الإنسان جانب ويخمد جانب؛ فإن كان من الفريق الأول نشط فكره وخمد جسده، وإن كان من الفريق الثاني نشط جسده وخمد عقله؛ فمتى وأين وكيف تنزاح هذه الحواجز التي تشق الطبيعة الواحدة نصفين؟ تكون في ميدان اللعب، سواء كان اللاعبون أطفالا أو راشدين، فعندئذ يصبح الفرد فردا متكاملا، والإنسان إنسانا واحدا متحدا؛ لأن في ميدان اللعب تخرج جميع القوى إلى الفاعلية النشيطة؛ فالإدراك بالحواس، والإدراك بالعقل، والرغبات والانفعالات وشتى عناصر الطبيعة البشرية تعمل كلها في تناغم لا نشاز فيه. وما يصدق على اللعب يصدق كذلك على الفن؛ ففي مجال الفنون يجد الإنسان نفسه كائنا متكاملا بكل مقوماته، غير منشطر ولا منقسم؛ فلو استحال على الناس وهم في ميدان العمل اليومي أن يتفاهموا لاختلاف أوجه نشاطهم الفكري والبدني - وكيف تريد أن يتفاهم مثلا عالم رياضي وهو في معادلاته المجردة مع نجار أو حداد أو فلاح يده على القادوم أو على المطرقة أو على المحراث؟ - أقول إنه إذا استحال التفاهم عندئذ، فما أيسر التفاهم بينهم جميعا وهم في دولة الفن؛ فالحكاية تروى أو القصيدة تنشد أو الموسيقى تعزف كفيلة أن تجمع الأبصار والأسماع جميعا على ملتقى واحد.
ومثل هذا يقال كلما أرغمت أوضاع الحياة الناس أن يختلفوا فيما يمس الجانب العملي من الحياة، فيجيء الفن مؤلفا لما اختلف، وموحدا لما تشتت، إذا ما أطلق الفن على طبيعته يؤدي رسالته الحقة، التي تخاطب طبيعة الإنسان في صميمها كما يخاطبها اللعب. فإذا رأينا السياسة قد مزقت الناس قوميات متعارضة، ثم إذا رأينا العلم قد انصرف في طبقاته العليا إلى ما يخدم السياسة في أغراضها بما يزودها به من أدوات الفتك والدمار والتهديد والتخويف، فأين يكون الأمل إلا في ميدان الفن، فيؤاخي في رحابه الإنسان والإنسان؟ وذلك لا يتحقق - بالطبع - إلا إذا أفلت الفنان من قبضة الدولة الواحدة، فلا يجعل أدبه تبشيرا بما تريده تلك الدولة، إنما يوجه أدبه إلى «الإنسان»، وعندئذ يكون الفن «اجتماعيا»، لا بالمعنى الذي يخدم به هذه الجماعة دون تلك، بل بالمعنى الذي يخدم به المجتمع الإنساني باعتباره أسرة واحدة. ولقد يطن هذا القول في الأسماع طنين الشطحات النظرية التي تفض أنصارها عن الواقع الملموس، كأنما نقول شيئا غريبا لم نألفه في كل فن رفيع منذ صار الإنسان فنانا! فمن ذا يخاطب شيكسبير بمسرحياته؟ ومن ذا يخاطب سيرفانتيز بقصة دون كيشوت؟ بل من ذا تخاطب حكايات ألف ليلة وليلة؟ لمن بنيت المساجد والمعابد والكاتدرائيات عندما افتن بناتها بكل ما وسعهم من فنون البناء؟ كل هؤلاء قد كتبوا وقد أنشدوا وقد شيدوا وفي أذهانهم الطبيعة الفنية على أسمى صورها، فجاءت آثارهم ل «الإنسان» من أي بلد جاء، وبأي مذهب دان، وبأي لسان تكلم.
ولقد أرادت طبيعة الفن أن تمعن في رسالتها - التي هي مخاطبة الإنسان من حيث هو إنسان على الإطلاق - فجعلت من خصائص الفن أن يكون قابلا لاختلاف التأويل دون أن يفقد ذرة من قيمته. لا، بل إنه كلما تباينت ضروب التأويل باختلاف الثقافات ازداد الفن قيمة وارتفع مقاما؛ فكل أثر فني هو حمال أوجه، ولمن شاء أن يفهمه كيفما شاء، ونقطة الملتقى هي النشوة الفنية الخالصة، التي تشبه نشوة اللاعب بلعبته على اختلاف اللعبة وطرائق أدائها، على أن هذا الاختلاف في التأويل نفسه دليل على أن وراءه «حقيقة» إنسانية يحاول المئولون أن يصلوا إليها.
Página desconocida