En tiempos de ocio
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Géneros
كذلك قال نسياس. ولا يحسب القارئ أني أحسنت النقل، فكل نقل لعبارة أناتول فرانس إلى غير لغته يجني عليها، وما أحسب أحدا ممن حملوا أنفسهم عناء ترجمته إلى غير لغته إلا نظر إلى ما صنع فذكر قول نسياس: لو أن الفضيلة حصرت في المجهود وحده لكانت الضفدعة، التي تنتفخ لتعظم حتى تصير كالعجل، مؤدية أكبر عمل من أعمال الرواقيين. •••
تاييس وبفنوس ونسياس هم أكثر أشخاص قصة تاييس حياة وحركة، وقد أحاطهم فرانس بعدد جم من الرهبان أمثال بفنوس، والرواقيين أمثال نسياس، وبجميلتين تأكل الغيرة صدرهما حقدا على تاييس لتفوقها عليهما في الجمال. ولئن لم يكن لهذا العدد الجم غير دور ثانوي في القصة، فقد رسم فرانس صورة كل واحد منهم بما طبع عليه من دقة؛ فالجميلتان فلينا ودروزيه تنفسان على تاييس جمالها وتنافسانها في استهواء الشبان، كما تنفس كل امرأة على كل امرأة وتنافسها. والرجال ينظرون إلى النسوة الثلاث بما ينظر به كل رجل إلى كل امرأة من عطف، ويملقونهن بالكلام الرقيق العذب الذي يسحر به الرجل المرأة كما يسحر الطاووس أنثاه بريشه والبلبل أنثاه بصوته. فأما الفلاسفة زنوتوميس وهرمدور ودريون والمسيحي ماركوس وأصدقاؤهم في الوليمة، فليسوا أشخاصا ذوي حياة تتجلى في صلات أفراد الرواية بعضهم ببعض، وإنما هم أمثال للمذاهب الفلسفية والدينية التي كانت إسكندرية ذلك العصر الذهبي مهدا لها. على أنك لا تعدم مع ذلك أن تجد في حديث كل واحد منهم ما يرسم أمامك منه صورة تميزه عمن سواه من أهل مذهبه، وتجعله إنسانا يخضع رأيه وإيمانه لميوله وشهواته، شأننا جميعا في الحياة.
أما الرهبان والقديسون متدينة الصحراء فبينهم من الشبه في ازدراء الحياة ما بين النساء في محبتها والحرص عليها. •••
تلك قصة تاييس، وأولاء هم أشخاصها، وهي عند كثيرين أفضل كتب فرانس. ولعلك إذا دخلت حديقة أو عند جوهري تتردد كثيرا أي أزهار الحديقة البديعة النظام أبهى وأي أحجار الجوهري الدقيقة الصنع أكرم! وذلك رأينا في كتب أناتول فرانس. وهو عندنا على ما قال جول لمتر: «أسمى خلاصة للروح اللاتينية وأبهاها.»
أناتول فرانس (4)
الآلهة ظمأى
أناتول فرانس - ذلك الشيخ الذي ذهب أول هذه الحرب رغم مجاوزته السبعين من العمر، يريد أن ينتظم جنديا للدفاع عن وطنه فرنسا - هو رأس طائفة المتشككة من كتاب هذا العصر في فرنسا وفي العالم أجمع؛ فهو لا يؤمن بمذهب ويعتقد كل المذاهب، وهو يرى الحياة سخرية سخيفة لا معنى لها، ويجدها ذات لذة وجمال، وهو يحب الفقراء ويحتقر الضعفاء، ويعجب بالقديم ويولع بالجديد، وهو يهزأ من كل شيء، ويسخر من كل عمل، ويضحك مما يجله الناس، ويبسم أمام ما يقدسون. وهو مع ذلك لا يخفي ميله للأبيقورية على أنها أعقل من سواها من المذاهب الأخرى العاقلة جميعا؛ لذلك كانت كتبه ورواياته ليست تلك الغابة القطوب التي تأخذ لبك وتدلك بقطوبها على عظمة شجر السنديان أو البلوط وقوته على كل ما سواه؛ ولكنها الحديقة الغناء تنتقل فيها من زهرة إلى فاكهة إلى فرش سندسية إلى خرير النبع الجميل المنحدر من قمة التل تتوجه الأشجار الكبيرة تغرد فوقها الطيور المختلفة اللون والصوت. وهذه الحديقة ليست متروكة للطبيعة ينمو بعض أجزائها على حساب البعض الآخر، بل هي مشمولة بعناية الإنسان ورعايته؛ فكل ما فيها من زهر وفاكهة وغرس ونبع وتل وشجر وطير مختلف جمالا وصحة ونضارة، وكله يأخذ بنظرك ويستدعي التفاتك ويبعث إلى نفسك أبدا سرورا رقيقا، حلوا يجعلك دائم الابتسام؛ لأنه سرور النفس والعقل وليس سرور الحس المضطرب بتيارات يستدعي الضحكة العالية ليعقبها بدمعة مرة.
ومن العسير أن يقال أي كتبه المفضل، فمن بين كتبه الأربعة والثلاثين أو الستة والثلاثين يقع كل قارئ على عدد منها غير قليل يستدعي كل إعجابه. على أن ما لا شك فيه أن كتابه عن الثورة الفرنساوية الذي وضعناه عنوانا لهذا المقال هو من خير كتبه، وأدقها تصويرا لعصر كثر عنه الكاتبون. وناهيك بالثورة الفرنساوية؛ فما نحسب مؤرخا ولا سياسيا ولا شاعرا ولا روائيا ولا خطيبا ولا صحفيا، إلا تناولها في ما كتب عنه، واستشهد به ووصفه واستظهره. وكثير من أولئك قام بما قام به بطرافة وقوة لا ينكرها عليه أحد، لكن أناتول فرانس من بين هؤلاء جميعا كان أدق مصور فني يمكن تذوقه؛ فهو لم يكن فوتوغرافيا جمع رجال الثورة، وفي يد كل منهم مجموعة خطبه وكتبه ليأخذ منهم صورة كصورة الموظفين الذين يجتمعون تذكارا لسفر أحد رؤسائهم؛ بل كان ذلك المصور النابغ الذي يلقي نظرة عامة على ما أمامه ثم يتجه لركن يأخذ بنظره، فيستظهر المحيطات الدقيقة والجليلة التي حول ذلك الركن والأضواء المتسلطة عليه والغمام المتراكم فوقه. وأنت فلا تلبث أن ترى الصورة التي أبدعتها ريشة المصور حتى يظهر أمامك مجموع الثورة ناطقا قويا ظاهرا ببوارزه وخوافيه وبفظائعه وفضائله وبما فيه من جمال وقبح. ترى في هذه الصورة التي رسمها فرانس ما كان قواما للثورة من فظيع المجازر؛ وترى فيها تحت الفظائع والفضائل النفس الإنسانية كما هي، مدفوعة بطبائعها في الطريق الذي لا تعرف لسيرها في سبيله سببا. في هذه الصورة تظهر العواطف والشهوات والعلاقات الجنسية طبيعية بسيطة لا تعرف هياج روسو ولا أوهام شاتو بريان، كما تظهر فيها نفسية الشعوب في حالة الثورة نفسية عادية تافهة ميالة للركود لولا النفوس القوية المتطلعة للكمال، والتي تؤثر بسحرها على نفس المجموع المطبوع على عبادة القوة والبطولة. ويظهر فيها كذلك ما لقوة الإيمان من أثر في الوصول إلى ما يريده المؤمن مهما تقم في وجهه المصاعب والعقبات، ما دام لا يرى إلا الغاية التي يحددها له إيمانه، وما دام لا يحول نظره إلى غاية سواها. ••• «أفارست جاملن» بطل الرواية نقاش شاب يعيش مع أمه العجوز في حي القنطرة الجديدة من أحياء باريس الثائرة، ويهتم للسياسة اهتماما صرفه عن المثابرة على النقش وعن كسب ما يعيش منه هو وأمه عيشا معقولا. وكان له أخت هجرت البلاد مع شاب من الأشراف الذين هاجروا أول الثورة. ويسكن في أعلى غرف الدار التي يقطن حكيم اسمه (برتو)، كان شريفا وكان ذا مال ونعمة، فلما استولت الثورة على أموال الأشراف وامتيازاتهم ترك برتو ماله ولقبه غير آسف، وقنع من الحياة بوكره الذي كان يتسلق إليه تسلق الحيوان إلى عش الطائر، وعكف على قراءة (لوكريس)، وعلى صنع لعب للأطفال يجد منها ما يقيته. وكان لبرتو صديقة قديمة من الأشراف تدعى مدام رشمور، عرفت كيف تنتقل من العصر القديم إلى الثورة مع الاحتفاظ بمالها ونعمتها، ومع الاستمرار على دعوة الكبراء والمعروفين إلى حفلاتها الراقصة. فعرض لها ذات يوم خاطر أن تسعى لتعيين جاملن محلفا في المحكمة الثورية. ومع ما أظهره لها برتو من التخوف من هذه المحكمة التي تدفع إلى (الجليوتين) المرأة البغي وماري أنتوانيت، والتي تؤلب الفرق المتنازعة ضدها بما تصبه عليهم جميعا من جامات غضبها، فقد نجحت رشمور وتعين جاملن محلفا. ومن ذلك اليوم ازدادت حبيبته (ألودى) تعلقا به وشغفا. ولما استفسرها عن ماضيها أخبرته أن شابا من الأشراف استغواها، فملكت هذه الفكرة على المحلف الجديد نفسه ، وجعل يرقب في كل شريف يعرض للمحاكمة مغري محبوبته، فلما اتجهت شبهاته لأحد الأشراف الذين قدموا للمحاكمة والذين كانت الأدلة عليهم تافهة لم يأل جهدا في إقناع زملائه بأنه رجل مجرم خطر على البلاد قدير على قلب الحكومة، وكأنما كان يقول في نفسه: إن أولئك الذين لا يعبأون بالعرض ولا بالشرف بالنسبة لفتاة تستسلم إليهم جديرون أن يكونوا كذلك مع أمة يجدون إلى استلام زمامها الوسيلة. ومع عدم اقتناع أكثر الباقين، فقد انتهى الحال بأحد المحلفين إلى أن قال لجاملن: يجب أن يتبادل الزملاء الخدمات في ما بينهم حتى هنا يا صديقي. وانضم لصف جاملن وحكم على الشريف بالإعدام وأعدم.
وجاملن شاب طاهر القلب طيب النفس قوي الإيمان بمبادئ الثورة، حقيق أن يكون من أتباع مارا وروبسبيير اللذين كانا آلهة العصر وموضع إعجابه وعبادته؛ لذلك لم يخطر بباله أن يبرئ أحدا إلا مرة أول تعيينه، أما بعد ذلك فقد كان يرى في القواد الذين انهزموا، وفي الفتيان الذين يصيحون «يحيا الملك» في الميادين العامة، وفي الأشراف الذين يتهمون بالارتباط مع الأعداء أخصاما للثورة، قديرين جميعا إذا لم يكبح جماحهم بالقتل أن يقبلوها ويعيدوا نظام العهد القديم. وكان يعتقد أن شرف المساواة الذي نشرته مبادئ الثورة ليس مقصورا على الحقوق التي يتمتع بها الأفراد، بل هو ممتد إلى العقوبات التي تنزل بهم أيضا. على أن شرف المساواة في العقوبة هو الذي كان في يده دون شرف الإمتاع بحقوق الحياة الذي لم يكن في يد أحد؛ لذلك حقق هو وزملاؤه المحلفون والقضاة أعضاء المحكمة الثورية الشرف الأول، ولم يستطع أحد أن يحقق الشرف الثاني.
ولما عرض أمر رفيق أخته على المحكمة لم يكن أكثر إشفاقا في هذا الظرف منه في أي ظرف آخر، بل رفض أن يرد نفسه قائلا: إن سلام الجمهورية أعلى من أن تؤثر فيه علاقة أو عاطفة. وكذلك أعدم «دشاساني» مع من أعدم.
Página desconocida