En tiempos de ocio
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Géneros
فأما صورة بفنوس في قصة تاييس فبالغة حد الكمال في وضوحها. وهل قصة تاييس إلا صورة بفنوس، وهي صورة المؤمن العبوس الإيمان. وهي لذلك النقيض من صورة أناتول فرانس اللاأدري المتشكك الباسم في لاأدريته وتشككه، الساخر من اللاأدرية والإيمان جميعا، الضاحك للحياة ومما في الحياة ضحكة تشوبها مرارة الهزء بكل شيء، والإشفاق على كل شيء. ولعل أناتول فرانس قد انتقم في تصوير بفنوس للشك من الإيمان كما انتقم في تصوير نسياس للإيمان من الشك، وإن كان انتقامه من الإيمان قاسيا، وانتقامه من الشك لطيفا رفيقا.
فقد اعتزل بفنوس الحياة وانقطع لله فأزمعت الحياة انتقامها من احتقاره إياها، فسلطت عليه الزهرة آلهة الجمال والحب وألبستها صورة تاييس ومكنت لها من نفسه، وأقامت عليه الآلهة حربا بدأتها بالخدعة، فظلت به حتى قادته إلى المسرح ثم وقفته في حضرة تاييس، وهي فيما فعلت من ذلك إنما كانت تسخر من إيمانه أن جعلته يتوهم أنه صاحب السلطان على مشيئته، فكان باسم الإيمان يحب تاييس، وباسم الإيمان يعبد جمالها، فلما طالت الحرب وشعر الراهب بالزهرة تغالب الإيمان وتكاد تغلبه، تولاه الفزع وجعل يحارب نزغ الشيطان في نفسه. لكن سلطان الحب رفيق شديد، فلم يستطع بفنوس مغالبته، بل انتهى إلى الفكر حين عرف أن تاييس مشرفة على الموت.
في هذه الحرب بين الحياة والزهد في الحياة تجلت نفس بفنوس مملوءة حقدا على العالم وأنانية وكبرا؛ فهو يزعم لنفسه سلطانا على الكائنات جميعا، ويتهم كل خارج على عقيدته بالنقص والرذيلة، ولما كان التسامح مظهر الحياة فقد كان هذا الجاحد المتعنت عدوا للحياة. وماذا يستطيع الرجل إن هو نصب نفسه للحياة عدوا؟ ولو أن بفنوس صانع الحياة واتخذ الزهد لذة من لذائذها وجعل من انقطاعه لله فرضا يؤديه للحياة لما عصفت به وبإيمانه، لكنك تلقاه في طريقه إلى الإسكندرية وفي حضرة تاييس وفي مأدبة الفلاسفة وفي تعذيبه نفسه فوق العماد، وداخل القبر، قاسي النظرة يود أن يحترق كل ما لا يعجبه، وتستمع له فإذا حديثه سوط عذاب مسلط على أجمل ما في الحياة وأبهاه. ولست أذكر لك كيف صوره أناتول فرانس في حالاته، ولكنك إذ تقرأ «تاييس» لا تستطيع أن تحول بين نفسك وبين الإشفاق على رجل تتلاعب به صروف الحياة، وتجعل من عظمته ومن إيمانه ألم نفسه وسخرية سواه.
ولو أنه اتخذ الزهد لذة من لذائذ الحياة لما عصفت به. وهذا هو في طريقه إلى الإسكندرية قد لقي «تمكاس» المتشكك، فألفاه وقد أدى به ازدراؤه الحياة إلى التخلي عما فيها جميعا. مع هذا كان «تمكاس» راضيا؛ لأنه كان قد نزع من نفسه كل أثر للطمع في هذه الدنيا وفيما بعدها، واتخذ طقوس حياة بوذا وإن لم يؤمن بدينه. فالزهد لم يكن إذن سبب عذاب بفنوس، وإنما كان حرصه على النعيم سبب عذابه. وقل أن يحرص إنسان على نعيم الآخرة كلها ويزهد في متاع الدنيا ونعيمها جميعا.
هذا ما يريده أناتول فرانس حين فصل عذاب بفنوس وسخر منه، ولو أن بفنوس كان على إيمانه متسامحا وعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، ولآخرته كأنه يموت غدا، وأوغل في الدين برفق، لما تقطعت به الأسباب، ولما انتقل من النقيض إلى نقيضه فكفر بعد إيمان وطلب لذة الحياة بعد الزهد فيها. •••
صورة بفنوس هي النقيض من صورة أناتول فرانس. وأناتول فرانس لم يدع واحدا من كتبه إلا رسم فيه صورة من نفسه؛ فهو «برجريه» في أربعة أجزاء (تاريخ العصر)، وهو «بروتو» في (الآلهة ظمأى)، وهو «بيير» في أربعة كتب كتبها عن طفولته وبدء صباه، وهو «جيروم كوانيار» فيما عزاء من قصص وذكريات ومذكرات إلى «جاك تورنبروش»، وهو «نسياس» في قصة «تاييس». وأي مؤلف ينسى نفسه حين يكتب؟ وأي مؤلف يكتب عن شيء غير نفسه؟ وأي قارئ يرى فيما يطالع غير نفسه؟ والذين يقرأون أناتول فرانس سعداء؛ لأنهم يجدون في صورة المؤلف ما يجذبهم إليها ويجعلهم يحبونها إن كان صاحبها قد اتسعت نفسه فوسع العالم وما فيه حبا، ووسع العالم وما فيه سخرا وإشفاقا.
نسياس أبيقوري مترف يتمتع من الحياة بكل لذائذها من غير تهافت على هذه اللذائذ أو حرص عليها، وقد استمتع «بتاييس»، فلما جاء صديقه القديم بفنوس لهدايتها وطلب إليه رداء يستر به مسوحه نصح إليه نسياس أن يحذر انتقام الزهرة، ولم يفكر في أن يصده عن غايته، فلما وثق بفنوس من تاييس صحبها إلى مائدة كان نسياس بين من دعوا إليها. وقضت تاييس الليل تسمع إلى حديث الفلاسفة، فلما آن الليل أن يولي كان القوم قد أمال الشراب أعناقهم ، فخرج بفنوس وتاييس إلى دارها فحرقا متاعها وانطلقا يبغيان الصحراء، فأحاط بهما أطفال رجموهما بالأحجار، ولم ينجهما منهم إلا أن جاء نسياس فنثر الدراهم بين الصاخبين فشغلهم ونجا بصاحبيه. ثم كان بين الثلاثة حديث يمثل نفس نسياس، ويمثل نفس فرانس، ويمثل الشك واللاأدرية في أجمل صورها؛ فقد ذكر نسياس في أسف مطمئن مغادرة تاييس الإسكندرية، فأجابته أنها ملته وأمثاله المترفين وملت ما تعرف، وأنها تريد البحث عما لا تعرف، وترجو أن تجد المسرة في الألم كما قال لها بفنوس؛ لأن بفنوس قد ملك الحقيقة.
قال نسياس باسما: أما أنا أيتها النفس الصديقة فأملك الحقائق، ولئن لم يك لديه منها إلا واحدة فهي عندي جميعا؛ فأنا أكثر منه ثروة وإن لم أكن، والحق يقال أكثر منه لذلك كبرا ولا أعظم سعادة.
ولما رأى الراهب يسدد إليه نظرات كأنها اللهب قال: لا تحسب يا عزيزي بفنوس أني أراك سخيفا كل السخف أو بعيدا كل البعد عن موجب العقل، ولو أني قارنت حياتي بمثالك لأرتج علي القول أيهما أفضل لذاتها. فهأنذا ذاهب الآن أغتسل في الحمام الذي أعدته كروبيل ومرتال، ثم آكل بعد ذلك صدر دراج من دراريج فاز، ثم أقرأ للمرة المائة بعض أساطير «آبيوليه» أو بعض رسائل «بورفير»، أما أنت فستذهب إلى صومعتك فتنيخ كما ينيخ الجمل الوادع، وتلوك من التسابيح ما طال بك عهد مضغه ولوكه؛ وإذا أمسيت تبلغت بالفجل من غير زيت. أترى يا صديقي أننا فيما نقوم به من هذه الأعمال المختلف ظاهرها ألا يذعن كلانا لعاطفة واحدة هي وحدها المحرك لأعمال بني الإنسان طرا؟ فكلانا يسعى وراء لذته يبغي غاية مشتركة هي السعادة، هي هذه السعادة المستحيلة. فليس من حسن الذوق يا صديقي أن أنسب إليك الخطأ إذا أنا نسبت إلى نفسي الصواب. «وأنت يا تاييس فاذهبي وتمتعي، وإن استطعت فكوني في الزهد والتقشف أكثر سعادة مما كنت في الغنى والمسرة، وإنك على كل حال لتحسدين. فإذا كنت أنا وبفنوس قد أطعنا طبعنا ولم نسع إلا وراء لون واحد من ألوان الرضا، فإنك أيتها العزيزة تكونين قد طعمت في الحياة لذائذ متضادة قلما كان لإنسان من الحظ أن يعرفها. والحق أني أود أن أكون مدى ساعة قديسا كعزيزنا بفنوس، لكن ذلك ما ليس لي إليه سبيل. فالوداع إذن يا تاييس، اذهبي حيث تقودك القوى الخفية في طبيعتك وفي حظك، اذهبي تصحبك خير أماني نسياس. ولئن تكن هذه الأماني خلاء فهل أستطيع أن أمنحك خيرا من عقيم الحسرات وفارغ الأماني ثمنا لما اشتملني بين ذراعيك من لذيذ الأحلام التي لا يزال خيالها إلي باقيا؟! الوداع يا من أحسنت إلي! الوداع يا رحمة لا تعرف أنها رحمة! يا فضيلة تحوطها الأسرار! يا لذة الناس طرا! الوداع يا أبدع صورة ألقت بها الطبيعة على وجه هذا العالم لغاية غير معروفة؟»
فلما أتم حديثه كان الراهب قد نفد صبره، فانسابت من فمه لعنات نظمها أناتول فرانس خير نظام، فكان جواب نسياس أن نظر إليه نظرة رفق وعطف وقال: الوداع يا أخي، ولعلك مستطيع أن تحتفظ حتى الفناء الآخر بكنوز إيمانك ومقتك وحبك! وداعا يا تاييس! عبثا تنسينني ما دمت حفيظا على ذكراك.
Página desconocida