Fatwas of Sheikh Muhammad Al-Amin Al-Shanqiti
من فتاوى العلامة محمد الأمين الشنقيطي
Géneros
يدل بإيضاح على أن محل العقل القلب.
أما اليهود -لعنهم الله- فقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ...﴾ الآية [البقرة، الآية (٨٨)] (^١)، فقال تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ...﴾ الآية [النساء، الآية (١٥٥)]، فقولهم: قلوبنا غُلْف (بسكون اللام) (^٢) يعنون أن عليها غلافًا، أي: غشاء يمنعها من فهم ما تقول، فقررهم الله على أن قلوبهم هي محل الفهم والإدراك؛ لأنها محل العقل، ولكن كذبهم في إدعائهم أن عليها غلافًا مانعًا من الفهم، فقال على سبيل الإضراب الإبطالي (^٣): ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ...﴾ الآية [النساء، الآية (١٥٥)].
وأما على قراءة ابن عباس: قلوبنا غُلُف (بضمتين) (^٤)، يعنون أن قلوبهم كأنها غلاف محشو بالعلوم والمعارف، فلا حاجة لنا إلى ما تدعونا إليه (^٥)، وذلك يدل على علمهم بأن محل العلم والفهم القلوب لا الأدمغة.
وأما المشركون فقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ...﴾ الآية (^٦) [فصلت، الآية (٥)]، فكانوا عالمين بأن محل العقل القلب، ولذا قالوا: ﴿قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، ولم يقولوا: أدمغتنا في أكنة مما تدعونا إليه، والله لم يكذبهم في ذلك، ولكنه وبخهم على كفرهم بقوله: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ...﴾ الآية [فصلت، الآية (٩)].
وهذه الآيات التي أُطْلِقَ فيها القلب مرادًا به العقل؛ لأن القلب هو محله، أوضح الله (ذلك) (^٧) المراد منها بقوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ...﴾ الآية [الحج، الآية (٤٦)]، فصرح أنهم يعقلون بالقلوب، وهو يدل على أن محل العقل القلب دلالة لا مطعن فيها كما ترى.
وقال تعالى: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ...﴾ الآية [الشورى، الآية (٢٤)]، ولم يقل: يختم على دماغك.
وقال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ...﴾ الآية [الأنعام، الآية (٤٦)]، ولم يقل: وختم على أدمغتكم.
وقال تعالى في النحل: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [النحل، الآية (١٠٨)]، وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ...﴾ الآية [الحجرات، الآية (٣)]، ولم يقل: امتحن أدمغتهم.
وقال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ...﴾ الآية [الحجرات، الآية (٧)].
والآيات بمثل هذا كثيرة، ولنكتف منها بما ذكرنا؛ خشية الإطالة المملة.
وأما الأحاديث المطابقة للآيات التي ذكرنا الدالة على أن محل العقل القلب، فهي كثيرة جدًّا، كالحديث الصحيح الذي (ذكرتم) (^٨)، والذي فيه: "أَلا وهي القلب ... "، ولم يقل (فيه) (^٩): ألا وهي الدماغ.
وكقوله ﷺ: "يا مُقَلِّبَ القلوب، ثَبِّتْ قلبي على دينك" (^١٠)، ولم يقل: يا مقلب الأدمغة ثبت دماغي على دينك.
وكقوله ﷺ: "قلب المؤمن بين أُصْبِعَين من أَصابع الرَّحمن ... " (^١١) الحديث، وهو مِن أحاديث الصفات، ولم يقل: دماغ المؤمن ... إلخ.
والأحاديث بمثل هذا كثيرة جِدًّا، فلا نطيل بها الكلام (^١٢).
وقد تبين مما ذكرنا أن خالق العقل وواهبه للإنسان بَيَّنَ في آيات قرآنية كثيرة أن محل العقل القلب، وخالقه أعلم بمكانه من كفرة الفلاسفة، وكذلك رسوله ﷺ كما رأيت.
أما عامة الفلاسفة إلا القليل النادر
_________
(^١) ولعل الشيخ -طيب الله ثراه- يريد آية النساء (١٥٥)، ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ...﴾ الآية، بدليل ما أورده بتتمة الآية.
(^٢) وهي قراءة متواترة، قرأ بها كل القراء العشرة من طريق الشاطبية والدرة والطيبة.
(^٣) الإضراب الإبطالي: هو نفي الحكم عما قبل (بل)، وإعطاؤه لما بعدها. راجع الأصول في النحو لابن السراج (٢/ ٥٧، ٢١١)، شرح التسهيل لابن مالك (٣/ ٣٦٨)، شرح عمدة الحافظ لجمال الدين محمد بن مالك (ص ٦٣٠).
(^٤) وقرأ بها أيضًا الأعرج وابن هرمز وابن محيصن واللؤلؤي عن أبي عمرو، راجع تفسير البحر المحيط (١/ ٤٣٦)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاجي (١/ ١٦٩).
(^٥) راجع في توجيهها المصدرين السابقين، و"القراءات الشاذة" للشيخ عبد الفتاح القاضي ﵀ (ص ٢٧، ٢٨).
(^٦) زاد في (أ): ﴿... وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ...﴾.
(^٧) ساقطة من (أ).
(^٨) في (أ): (ذكر).
(^٩) ساقطة من (أ).
(^١٠) أخرجه مسلم في صحيحه (٢٦٥٤) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ بنحوه، وجاء بهذا اللفظ من حديث جمع من الصحابة، منهم أنس بن مالك: أخرجه أحمد في مسنده (١٢١٠٧) وغيره بإسناد صحيح، وجاء عن غيره أيضًا راجع السنة لابن أبي عاصم، ومعه ظلال الجنة للعلامة الألباني ﵀ (١/ ٩٨ - ١٠٤)، والشريعة للآجري (ص ١٣٧، ٣١٦، ٣١٧).
(^١١) لم أجده بهذا اللفظ -مع اشتهاره عند جماعة من المصنفين-، إلا عند الحكيم الترمذي في كتابه الأمثال (ص ١٣٩) معلقا من حديث عبادة بن الصامت-﵁ مرفوعا، وهو بمعنى الحديث الذي قبله.
(^١٢) وقد وردت آثار عن بعض الصحابة تؤكد أن العقل في القلب، منها: ما ورد عن عليّ بن أبي طالب-﵁ أن عياض بن خليفة سمعه يوم صفين يقول: "إن العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال، والنَّفّسَ في الرئة". وهذا الخبر أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وبوب له البخاري بـ باب العقل في القلب، والأثر حسنه الشيخ الألباني-﵀ في صحيح الأدب المفرد (٢٠٦).
1 / 4