مقدمة المترجم
مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة الطبعة الأولى
1 - لا بد لنا من التفلسف
2 - الفلسفة وجيرانها
3 - المثالية: العالم ملائم لنا
4 - المذهب الطبيعي: العالم غير مكترث
5 - أصل الحياة ومجراها
6 - الذهن: لغز أم أسطورة أم نظام آلي؟
7 - الحقيقة: مشكلة بيلاطس - ومشكلتنا
8 - نظرية المعرفة: ماذا يمكننا أن نعرف؟
9 - الميتافيزيقا: ما الواقع؟
10 - الميتافيزيقا: الثنائية والتعددية
11 - التجريبية المنطقية
12 - الأخلاق: ماذا ينبغي أن نفعل
13 - الأخلاق: ما الخير الأسمى؟
14 - الحتمية في مقابل اللاحتمية
15 - الأخلاق المعاصرة ومشكلاتها
16 - علم الجمال: ربيب الفلسفة
17 - الخلود: في أي شيء آمل؟
18 - النزعة الإنسانية والوجودية
قائمة المصطلحات
مقدمة المترجم
مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة الطبعة الأولى
1 - لا بد لنا من التفلسف
2 - الفلسفة وجيرانها
3 - المثالية: العالم ملائم لنا
4 - المذهب الطبيعي: العالم غير مكترث
5 - أصل الحياة ومجراها
6 - الذهن: لغز أم أسطورة أم نظام آلي؟
7 - الحقيقة: مشكلة بيلاطس - ومشكلتنا
8 - نظرية المعرفة: ماذا يمكننا أن نعرف؟
9 - الميتافيزيقا: ما الواقع؟
10 - الميتافيزيقا: الثنائية والتعددية
11 - التجريبية المنطقية
12 - الأخلاق: ماذا ينبغي أن نفعل
13 - الأخلاق: ما الخير الأسمى؟
14 - الحتمية في مقابل اللاحتمية
15 - الأخلاق المعاصرة ومشكلاتها
16 - علم الجمال: ربيب الفلسفة
17 - الخلود: في أي شيء آمل؟
18 - النزعة الإنسانية والوجودية
قائمة المصطلحات
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها
تأليف
هنتر ميد
ترجمة
فؤاد زكريا
مقدمة المترجم
لا شك أن الخبرة الطويلة التي اكتسبها مؤلف هذا الكتاب في تدريس الفلسفة تظهر واضحة في كل صفحات كتابه؛ إذ نجد لديه إدراكا واضحا لطريقة تفكير طالب الفلسفة، حين يقبل على دراسته لأول مرة، في تلك المشكلات النهائية القصوى التي تتميز بها الدراسة الفلسفية عن غيرها من الدراسات. ويعترف مؤلف الكتاب صراحة بأن الكتاب نص دراسي قصد منه أن يفيد الطالب المبتدئ في الدراسة الفلسفية؛ ومن هنا كان ذلك الطابع العام الذي اكتسبه طريقة معالجته لموضوعاته، ومحاولة مسايرة تفكير الطالب خطوة خطوة، وتصور الحجج والاعتراضات التي قد يثيرها ذهنه، والأسئلة والردود التي قد تطرأ على باله. ومما يزيد في قيمة الطابع التعليمي لهذا الكتاب، أن المؤلف لم يحاول أن يقطع برأي نهائي في أية مشكلة من المشكلات التي عالجها، بل ترك المجال مفتوحا أمام الطالب لكي يختار الموقف الذي يراه ملائما - والأهم من ذلك أنه كان يؤكد على الدوام إمكان وجود حلول مختلفة للمشكلة الواحدة، وهو تأكيد له أهمية كبرى في تكوين أذهان أولئك الذين يزمعون التخصص في الدراسات.
وعلى الرغم من أن مؤلف الكتاب ينتمي إلى ما يسمى بالمدرسة التحليلية الفلسفية، وهي المدرسة التي تسيطر على عدد كبير من الجامعات الإنجليزية والأمريكية في الوقت الحالي، فإنه يحرص على تحقيق التوازن بين النظرة التحليلية، بما فيها من تشريح دقيق للمشكلات وتفريغ دائم لها، وبين النظرة التركيبية، بما فيها من رؤية جامعة شاملة لكل مشكلة في صلتها بالتجربة الإنسانية عامة. ومن المؤكد أنه قد نجح إلى حد بعيد في تحقيق غايته هذه، بحيث يمكن القول إن الطبيعة التي عرض بها آراءه تجمع بين مزايا النظرتين التحليلية والتركيبية معا، وتتجنب كثيرا من عيوبهما.
ولعل أوضح ميزات هذا الكتاب هي محاولة الربط بين المشكلات الفلسفية وبين المواقف الفعلية التي يمكن أن يواجهها دارس الفلسفة في حياته الخاصة والعامة. وتلك دون شك ميزة لا يستهان بها من وجهة النظر التربوية؛ إذ إنها تشجع طالب الفلسفة على أن يخوض بلا وجل غمار مشكلات قد ينفر منها لو عرضت عليه بطريقة تجريدية جافة. ويظهر اتجاه المؤلف هذا بوضوح منذ الفصل الأول، الذي ضرب فيه الأمثلة لحالات متعددة الأنماط من الطلاب الذين يقبلون على الدراسة الفلسفية لأسباب مختلفة، ولكنهم يتفقون جميعا - رغم تباين أمزجتهم واستعداداتهم - على أن التفلسف أمر لا مفر منه، مهما تكن وجهة نظر المرء بالنسبة إلى العالم وإلى المجتمع الذي يعيش فيه. فإذا وجد القارئ العربي أن النماذج التي اختارها المؤلف محلية تنتمي إلى بيئته الخاصة وحدها، فليعلم رغم ذلك أن أمثال هذه الأنماط يمكن أن توجد - مع تحوير بسيط - في أية بيئة معاصرة في عالمنا الذي تتقارب طرق التفكير فيه، وخاصة بين الشباب، بسرعة مذهلة.
ولست أزعم - بوصفي مترجما للكتاب - أنني قد اتفقت مع مؤلفه في كل ما قال. ومع ذلك فقد آثرت ألا أقحم في نص الكتاب أي رأي قد أكون فيه مختلفا مع المؤلف، وإن كنت قد أشرت بإيجاز، في بعض الهوامش إلى عدد من النقاط التي اعتقدت أن رأي المؤلف يحتاج فيها إلى إيضاح، أو تعقيب، أو تعديل، دون الدخول في خلافات مفصلة.
وأخيرا، فإن لمؤلف هذا الكتاب، كما قلت من قبل، خبرة طويلة في التدريس الفلسفي أتاحت له أن يسلك - في كتابه هذا - أقصر الطرق وأيسرها إلى عقول الطلاب وربما إلى قلوبهم، بدليل انتشار استخدام هذا الكتاب بوصفه مدخلا إلى الفلسفة في كثير من الجامعات الأمريكية، وقام بالتدريس في عدة جامعات وكليات، بعضها في الشرق الأدنى، وبعضها في الولايات المتحدة. وهو يشغل منذ عام 1947م منصب أستاذ الفلسفة وعلم النفس في معهد كاليفورنيا التكنولوجي
California Institute of Technology
ومن مؤلفاته الأخرى: مدخل إلى علم الجمال
An Introduction to Aesthetic
كما أنه عضو في مجلس تحرير الكتاب السنوي لدائرة المعارف الأمريكية.
الدكتور فؤاد زكريا
مقدمة الطبعة الثالثة
حاولت مرة أخرى، وأنا أراجع هذا الكتاب للمرة الثانية، أن أنتفع من الاقتراحات المتعددة التي تلقيتها من الأساتذة الذين درسوه وألموا به إلماما كافيا. ولا شك أنني لم أتمكن من أن أضمن الكتاب إلا جزءا من هذه الآراء، وإلا لكان علي أن أؤلف كتابا جديدا كل الجدة، ولكني أخذت على الأقل بعديد من المقترحات التي تكرر إبداؤها من أشخاص كثيرين.
ولقد كانت أبرز التغيرات التي أدخلتها على هذه الطبعة، إضافة فصل ختامي عن النزعة الإنسانية والوجودية؛ ذلك لأن طلب معلومات عن هاتين الحركتين كان هو أكثر الاقتراحات التي تلقيتها تكرارا. كذلك فقد أعدت كتابة معظم الفصلين المتعلقين بالميتافيزيقا، ولا سيما الأقسام الخاصة بالمذهب الثنائي والمذهب التعددي. ويبدو أن هناك إجماعا في الآراء على أن هذين كانا أصعب فصول الطبعتين السابقتين؛ ولذا حاولت أن أزيدهما قربا إلى أفهام الطلاب، فأضفت إلى هذا الغرض مزيدا من الأمثلة الملموسة، واهتممت بتفرعات المذهب الثنائي والمذهب التعددي في الميادين الأخرى.
ولقد أضفت قسما مطولا تتبعت فيه تاريخ مفهوم «الواجب»، ليكون قبل كل شيء بمثابة مدخل إلى دراسة مذهب «كانت » الأخلاقي. وإني لعلى ثقة من أن هذه الإضافة ستجعل الطلاب أكثر تعاطفا مع موقف «كانت» الصارم القاطع، وذلك حين يلمون ببعض الآراء التي كانت فلسفته الأخلاقية رد فعل عليها.
كذلك فإني أعدت كتابة جزء من الفصل الخاص بالمثالية، وتوسعت بوجه خاص في باركلي. ذلك لأنني كنت قد تلقيت عدة اقتراحات بتحسين هذا الفصل، وقد أخذت بها على قدر ما كان ذلك ممكنا من الوجهة العملية. وفضلا عن ذلك فقد توسعت في الفصل الخاص بالتصوف، مع الاهتمام بوجه خاص بالتصوف من حيث هو موقف معرفي (إبستمولوجي).
أما قائمة المصطلحات، التي كانت من قبل مطولة، فقد زيدت قليلا، وذلك بوجه خاص لكي تشتمل على المصطلحات الواردة في الإضافات المشار إليها من قبل. وقد حاولت في كل الأحيان أن أجعل الكتاب متمشيا مع أحدث التطورات في ميدان الفلسفة. وصحيح أن الأفكار الفلسفية قد لا تكون سريعة التغير، ولكن من المؤكد أن المراجع والأمثلة واهتمامات الطلاب تتغير بسرعة أكبر بكثير مما يدركه معظمنا، ولا بد للمؤلف الشاعر بمسئوليته من أن يأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار عندما يراجع كتابه.
أما الأشخاص الذين قدموا إلي اقتراحات مفيدة بشأن تنقيح هذا الكتاب بفهم أكثر مما يتسع المقام لذكره، ولكن س. ن. ستوكتون، من كلية بيكرزفيلد، يستحق ثناء خاصا على أفكاره المفصلة المطولة بشأن طريقة تحسين الكتاب. ومن الحظ سوء أنني لم أستطع، لأسباب عملية، أن أنفذ إلا قدرا يسيرا من اقتراحاته الرائعة. كذلك تستحق ماري أليس آرنت، وفرجينيا كوتكين، ثناء عطرا على مساعدتهما في الأعمال الكتابية.
هنتز ميد
باسادينا، يناير 1959م
مقدمة الطبعة الأولى
هناك طريقتان مألوفتان لبدء الدراسة المنهجية للفلسفة، لكل منهما أنصارها المتحمسون. أما الطريقة الأولى، وربما الأقدم منهما، فتبدأ بتعريف الطالب تاريخ الفلسفة؛ أعني ذلك السجل الزمني للتعاقب المتصل من الشخصيات والمدارس والحركات، الذي يبدأ بطاليس في حوالي 600ق.م. ويظل مستمرا حتى يصل بنا إلى مفكرين ما زالوا أحياء. وربما كانت الميزتان الرئيسيتان لهذه الطريقة التاريخية هما: (1)
أن الطالب يكتسب الإحساس باتصال البحث الفلسفي واستمراره . (2)
وأنه يكتسب قدرا كبيرا من المادة العقلية التي يستطيع الانتفاع منها في أي تأمل فلسفي شخصي قد يقوم به. غير أن العيب الأساسي لهذه الطريقة التاريخية، من الناحية التربوية، هو عيب يكمن في أية دراسة تبدأ الموضوع الجديد منذ أصله ومنشئه الأول: فمهما بدت الطريقة التاريخية منطقية، فإنها لا يمكن أن تكون هي الطريقة الطبيعية بالنسبة إلى المبتدئ. ذلك لأن أي اهتمام تلقائي قد يتملك هذا المبتدئ في موضوع كالفلسفة، لا بد أن يكون ناشئا عن احتكاكه أو صراعه مع مشكلات فلسفية معاصرة له، لا من حب استطلاع ينصب على أصل المفاهيم الفلسفية وتاريخها، أو الاهتمام بما قال به مفكر تاريخي معين. صحيح أن الطالب المبتدئ، حين يعلم أن كثيرا من المشكلات التي تشغل ذهنه هي من المشكلات الدائمة في الفلسفة، يستفيد فائدة ثقافية حقيقية، ولكن الذي يحدث في كثير من الأحيان هو أن الطالب الذي يدرس موضوعا معينا؛ لأنه يشعر باهتمام أصيل به، يجد أن اهتمامه قد أخذ يتلاشى بالتدريج بعد أن يقوم بتحليل طويل للفكر القديم والوسيط وتفكير عصر النهضة والقرن الثامن عشر. ذلك لأن مشكلاته العقلية الخاصة هي مشكلات معاصرة قبل كل شيء، ومطلبه الطبيعي هو أن يتلقى إجابات حديثة إلى حد معقول. وكثيرا ما يشعر، عندما يضطر إلى دراسة مقرر في تاريخ الفلسفة، أن جوعه الفلسفي قد ألقم حجرا - أو خبزا شديد الجفاف على أحسن الفروض.
لهذا السبب التربوي الأساسي يبدو أن الطريقة التاريخية، على مزاياها العديدة، قد أخذت قيمتها تقل تدريجيا، في أيامنا هذه، بوصفها أول مدخل إلى الفلسفة. ويبدو أن عددا متزايدا من الأساتذة قد أصبحوا مقتنعين بأن من الأفضل الاحتكاك بالموضوع، لأول مرة، بطريقة غير تاريخية. وتبنى هذه الطريقة الأخرى عادة إما على دراسة «لأنواع» الفلسفة (أي أهم المدارس والحركات الفلسفية)، كما هي الحال في كتاب «هوكنج
Hocking » المشهور
1
وإما على دراسة للمشكلات الأساسية في هذا الميدان، كما هي الحال في كتاب «كننجهام
Cunningham ».
2
وقد نجد من آن لآخر من يحاول معالجة الموضوع بطريقة أكثر شمولا، يجمع فيها بين الأنواع الأساسية والمشكلات الرئيسية.
والكتاب الذي نقدمه ها هنا يحاول، كما يدل عنوانه، أن يعالج الموضوع بهذه الطريقة الجامعة. ففيه دراسة للمشكلات الرئيسية للفلسفة من خلال ما أعتقد أنه أهم المدارس والحركات الفلسفية الموجودة في أيامنا هذه. وهو يبدأ بمقدمة موجزة تحاول التعريف بالفلسفة، وتبين كيف أن الطلاب (ومعهم كل الناس الآخرين تقريبا) يتفلسفون سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه. ثم يبحث في الفصول من الأول إلى الثالث في العلاقات بين الفلسفة وجيرانها. ولا سيما العلم والدين. ويلي ذلك وصف مفصل للرأيين اللذين أعتقد أنهما أهم وأشمل الآراء عن العامل، وهما المذهبان المثالي والطبيعي
Naturalism
اللذان سنتخذ منهما في واقع الأمر نقطتي ارتكاز في هذا الميدان (في الفصلين الرابع والخامس). أما الفصول الباقية فتعالج مختلف مشكلات الفلسفة، كل مشكلة بما لها من حلول كثيرة ممكنة، وذلك من خلال نقطتي الارتكاز سالفتي الذكر. وبذلك تكون لدى المبتدئ بضعة معالم بارزة يسترشد بها خلال تجواله في هذه الأرض التي هي، على أحسن الفروض، أرض محيرة. وقد يجد الفيلسوف المحترف، الذي أصبح متمكنا من ميدانه على الرغم من تعقده الشديد، أن هذا الترتيب مبسط إلى حد يقارب الإفراط، غير أن تجربتي مع الكثير من فصول المبتدئين قد أقنعتني بأن هذه الطريقة تصلح أكثر من أية طريقة أخرى لكي تكون مدخلا أول إلى الموضوع. فقد اتضح لي أن هذه الطريقة هي التي تفي أكثر من غيرها بالغرض المطلوب، سواء أكان مقياسنا هو سرعة اندماج الطالب في المشكلات الفلسفية، أم كان مقدار التوجيه العام الذي يكتسبه في هذا الميدان بعد فصل دراسي واحد، وما هذا الكتاب إلا تعبير عن اقتناعي بأن النتائج التربوية التي تسفر عنها هذه الطريقة هي قطعا أفضل من كل ما عداها.
ولا شك أن كتابة مؤلف من هذا النوع، ونشره، يقتضي مساعدة من عدد كبير من الأصدقاء الذين يستحيل الاعتراف بفضل كل منهم على حدة. على أن هناك عدة أشخاص قدموا لي معونة خاصة، وهم جديرون بثناء أعظم مما يدل عليه الاقتصار على ذكر أسمائهم، هؤلاء هم: برنيس وجوردون ستافورد، وروسكوبولاند، ومارفن هدريك، وجون باسووتر، وروبرت همفريز، وشيرلي مورس، بل إن هناك عونا كان أعظم حتى من ذلك، هو الذي قدمه ريموند ديورانت، ووالدتي سوازن ه. ميد. ذلك لأن الصبر الذي أبداه الأول في كتابة صفحات الكتاب، والبصيرة النقدية للثانية، كانا لي عونا لا يقدر. كذلك يستحق ريموند إيردل، الأستاذ بكلية بومونا، ثناء خاصا على النصح الذي أسداه إلي في لحظة حاسمة بشأن قائمة مصطلحات الكتاب.
هنتز ميد
سان دييجو، كاليفورنيا
يناير 1946م
الفصل الأول
لا بد لنا من التفلسف
«الفلسفة مضيعة للوقت.» «الفلسفة لا تحل أية مشكلة.» «الفلسفة لا تعالج إلا مشكلاتها الوهمية الخاصة - بل إنها تعجز عن حل هذه المشكلات.» «لم يظهر أبدا فيلسوف تحمل ألما في الضرس.» مثل هذه الملاحظات توجه إلى الفيلسوف المحترف وإلى طالب الفلسفة، وتتكرر إلى حد ينبغي معه النظر إليها على أنها من المتاعب المهنية. شأنها شأن غبار الطباشير في التدريس، أو قذارة الأظافر في أعمال الورش. ومع ذلك، فكما أن المدرس والميكانيكي يغضبان بطبعهما من أي تلميح إلى أن هندامهما الشخصي ليس على ما يرام، فكذلك يغضب الفلاسفة من التلميحات المألوفة التي تنطوي عليها أمثال هذه الملاحظات القائلة إن هندامهم العقلي معيب. وكما أن المدرس أو الميكانيكي قد يجيب كل منهما على النقد بقوله: «كم أود أن أراك وأنت تقوم بعملي وتظل محتفظا بنظافتك!» فكذلك يشعر الفيلسوف في كثير من الأحيان بالميل إلى أن يرد قائلا: «أتراك تتصرف على نحو أفضل لو كنت تعمل في ميدان؟»
ولكن التشابه بين الطرفين ينتهي عند هذا الحد؛ ذلك لأن من ينتقد السترة المغطاة بالطباشير أو الأظافر القذرة يستطيع أن يقول دائما (لنفسه على الأقل) «إن لدى العقل ما يكفي لتجنب أمثال هذه المهن التي تفسد الهندام.» أما في حالة الفيلسوف فليس هناك رد كهذا يمكن أن يوجه إليه؛ ذلك لأننا، كما لاحظ أرسطو منذ وقت طويل، سواء أردنا أن نتفلسف أو لم نرد، لا بد لنا جميعا من التفلسف. فقد يكون في استطاعة الشخص الحريص على النظافة أن يتجنب المهن التي تجعل منظره يبدو غير مرتب، ولكن ليس في وسع أحد أن يفكر منطقيا، وبعمق، دون أن يقوم بدور الفيلسوف، على طريقة الهواة على الأقل. وفضلا عن ذلك، فليس في وسع أحد أن يتأمل تجربته الخاصة، ويصل إلى أية نتائج، حتى لو كانت مفتقرة تماما إلى الدقة، عن العالم، أو الحياة، أو طبيعة الوجود ومعناه، دون أن يكون قد أقحم في تفكيره (ضمنيا على الأقل) مذهبا ميتافيزيقيا كاملا. ذلك لأن ما يفعله الفيلسوف المحترف هو أنه يعرض بالتفصيل ذلك المذهب الفكري الذي توجد بذوره البسيطة في أي رأي ساذج غير واع عن العالم. والفارق الأساسي بين آراء المفكر المدرب وبين الخواطر غير النقدية التي تطرأ بالذهن الساذج من الوجهة الفلسفية، هو فارق في المسافة التي قطعها كل من الذهنين؛ أي إن كل ما يفعله الفيلسوف هو أنه يمضي أبعد في نفس الطريق الفكري الذي يسير فيه المفكر غير النقدي دون وعي. والفيلسوف يسلك عادة طريقا أقصر؛ إذ إنه قد اكتسب مزيدا من الخبرة في تجنب الطرق المسدودة والمسالك الفرعية العقيمة التي قد تعترضه خلال سيره. وفضلا عن ذلك فالأرجح أنه خلال سيره يرى تفاصيل أكثر (أي أكثر أهمية وأعمق معنى بحق)، ومع ذلك فإن الطريق العام الذي يسلكه كل منهما يظل واحدا.
حتمية الفلسفة : من السهل أن يتعرض القارئ للشك في وصفنا هذا للفلسفة بأنها نشاط بشري شامل. فقد تقول: «هذا هراء. فقد أمضيت هذه السنين الكثيرة كلها بلا فلسفة، ولكن من المؤكد أنني خلال طريقي قد قمت ببعض التفكير!» ومع ذلك، فبينما أنه يكاد يكون من المؤكد بالفعل أنك قمت ببعض التفكير خلال وقتك هذا - ولولا ذلك لما كان لديك من التعليم ما يكفي لقراءة كتاب كهذا - فإن الأكثر من ذلك تأكيدا هو أنك لم تفلت من التفلسف خلال جزء من وقتك، هذا على الأقل. صحيح أنك لم تستخدم المصطلح الفني للفلسفة، ولم تكن بطبيعة الحال محترفا يرتزق من تدريس هذا المصطلح لطلاب الكليات، ومع ذلك فلا جدال في أنك كنت تستخدم، بطريقتك الخاصة وبلغتك الخاصة، بعض الأفكار والاتجاهات الفلسفية طوال جزء كبير من ذلك الوقت.
والأمر المؤكد أكثر من كل ما سبق هو أن القارئ لو كان طالبا فيك كلية فلا بد أنه بدأ يتفلسف منذ وقت قريب، وكلما كان بقاؤه في الكلية أطول، كان الأرجح أنه يقف مترددا، في أوقات كثيرة، على حافة التفكير الفلسفي الجاد. مثل هذا الطالب هو عادة شخص ذو ذهن جاد، يهتم بما هو أكثر من الحياة الرياضية والاجتماعية بالجامعة، والأغلب أنه قد انزلق من هذه الحافة مرات كثيرة، وخاض بحر المشكلات الفلسفية العميقة، الذي سبح فيه دون أن يدري، برفقة مجموعة من كبار مفكري التاريخ.
والحق أن من أكثر التجارب التي يمكن أن يمر بها المبتدئ في الفلسفة مدعاة للاستغراب (وربما لخيبة الأمل الشديدة)، أن يكتشف أن مجموعة الأفكار الغامضة، بل المفككة، التي يعتنقها في موضوع الحياة والكون، قد يكون لها اسم، وأن من الممكن، على أساس هذه الأفكار، أن يصنف على أساس أنه «مثالي»، أو «طبيعي»، أو «من أصحاب مذهب اللذة»، وربما على أنه «برجماتي». ذلك لأنك لو كنت شخصا واثقا بنفسه، فأغلب الظن أنك كنت دائما تنظر إلى أفكارك ووجهات نظرك على أنها فريدة في نوعها. وهذا النوع من الأشخاص يدهشه، بل يغضبه، ذلك الهدوء الرزين الذي قد يستطيع أستاذ الفلسفة تحديد الفئة التي تنتمي إليها آراؤه. ومن جهة أخرى فلو كنت طالبا من النوع الأكثر تواضعا وانطواء، فالأرجح أنك تشعر عندئذ بأن ذهنك كان يحتوي على كثير من الأفكار التي هي أكثر «حمقا» من أن تستحق معنوياتها اسما محترما كالفلسفة. وفي هذه الحالة بدورها ستتملكك الدهشة بلا شك، وإن كان سرورك بذلك أعظم؛ إذ إنك لا بد أن تكتشف بدورك أن واحدا أو أكثر من الشخصيات التي حفظها تاريخ الفلسفة، قد قال بنفس هذه الأفكار «الحمقاء»، ووصل إلى الشهرة لا لشيء إلا لأنه قد وسع هذه الأفكار وزادها تكاملا ودقة. وهكذا فإن المبتدئين، سواء أكانوا من الواثقين أم من غير الواثقين بأنفسهم، يكتشفون عادة أنهم ليسوا وحيدين في تفكيرهم؛ إذ إنهم سرعان ما يعلمون أنه لا جديد - إلا القليل جدا - تحت شمس الفلسفة، ولا بد أن تمر بالمرء لحظة هائلة، قد تملكه فيها فرحة طاغية أو خيبة أمل عميقة، عندما يكتشف أنه شريك في الفكر لأفلاطون، أو باركلي، أو اسبينوزا.
الطلاب بوصفهم فلاسفة : يعلم أساتذة الفلسفة في الكليات أن الطلاب الذين يختارون موضوع تخصصهم يفعلون ذلك لأسباب متباينة. ومن الشائع أن يكتشف هؤلاء الأساتذة، من بين الطلاب الذين يختارون منهاج دراستهم لسبب أهم من كونه يتسم بالسهولة أو تلقى محاضراته في مواعيد مريحة، أغلبية يقوم أفرادها بهذا الاختيار لأنهم غير راضين عن الإجابات التي يتلقونها عادة ردا على أسئلة أساسية معينة. وفي معظم الأحيان يقوى هذا الشعور بعدم الرضا كثيرا منذ دخول الكلية؛ لأن من الأسباب التي تبعث في الطالب هذا الشعور، اتساع نطاق معرفته، والمناقشات والمجادلات الحامية التي لا تنتهي، والتي تؤلف عنصرا هاما في الحياة الجامعية. على أن أكثر المؤثرات مدعاة للاضطراب وعدم الاستقرار، قد يكون هو الشعور المتزايد بوجود تباين بين المثل العليا المعترف بها في المجتمع والحضارة، وبين سلوك الناس الفعلي في محيط العمل أو عالم المجتمع - أو في الوسط الجامعي ذاته. وقد يدرك الطالب ذو الضمير الحي أيضا أن المثل العليا التي ينادي بها هو ذاته علنا، كثيرا ما تكون ذات صلة واهية بسلوكه اليومي، ويكتشف أنه ما زال يطيع بلسانه معايير السلوك التي تعلمها في البيت أو في المدرسة، ولكنه يتجاهل معظمها وهو يحيا حياته الجامعية الراهنة.
هذه التناقضات والمفارقات - العقلية، والأخلاقية، والدينية - هي التي تدفع كثيرا من الطلاب إلى القيام بأول اتصال لهم مع الفلسفة، إما في المدرج الجامعي، وإما عن طريق كفاحهم الخاص في سبيل الاتساق العقلي. فكل أستاذ مثلا، يشاهد أمثلة كثيرة لطلاب مثل «بوب». وبوب هذا قد تربى في جو مسيحي محافظ، ولكنه سرعان ما أدرك أن أية إشارة إلى التعاليم التي ظل يقبلها دائما دون مناقشة، تثير على وجوه زملائه من الطلاب نظرات عابسة أو مستنكرة، وربما معبرة عن الحرج الشديد. وفي البداية كان بوب يميل إلى الاستخفاف بهذه الاستجابات السلبية، على أساس أنها تعبر عن حالات استثنائية لا تمثل الموقف العام في الجامعة، ولكن لما كانت كليته تمثل المجموع، فقد كان لا بد له أن يضطر إلى مواجهة الحقيقة الفعلية، وهي أنه هو الاستثناء (أو على الأقل واحد ضمن أقلية)، وأن التعاليم المسيحية لا تؤثر مباشرة إلا في تفكير وسلوك قلة من أصدقائه وزملائه في الدراسة. وقد اشتدت حدة الصراع الذي أثاره هذا الاكتشاف في ذهن بوب بوجه خاص عندما أدرك أن كثيرا من الطلاب الذين كان يقدرهم ويعجب بهم - والأسوأ من ذلك، بعض مدرسيه المحبوبين - يشاركون في عدم الاكتراث العام هذا، أو في تلك العداوة الصريحة، للتعاليم الدينية التقليدية.
ولكي يصل بوب إلى حل لهذا الصراع، فعل ما يفعله أي شخص عاقل في مثل هذه الظروف؛ فقد بدأ يفكر، فاكتسب مزيدا من المعلومات عن أصل وتاريخ تلك التعاليم التي كان يقبلها دائما على أنها «مقدسة»، وحاول فهم الأسباب التي أدت بأشخاص أذكياء مثقفين (ومتمسكين تماما بالأخلاق) إلى التخلي عن هذه التعاليم. فناقش مختلف المشكلات التي يثيرها الموضوع مع ممثلين ينتمون إلى كلتا المدرستين الفكريتين، محاولا أثناء ذلك أن يحتفظ بموقف الحكم النزيه.
ولقد كان هذا الجهد الذي بذله بوب للوصول إلى حل لصراعه هذا، يقتضي منه أن يستخدم العقل لا العاطفة؛ إذ إنه أدرك أن المشكلة عقلية قبل كل شيء، ولا تمس العاطفة إلا بطريق غير مباشر. فانتهى رأيه إلى أن أسرته ومعلميه الدينيين ليسوا «موضوعيين» في الحجج التي يزعمون بها إثبات وجود الله أو خلود النفس، ومن جهة أخرى رأى أن أصدقاءه الشكاك والملحدين لم يكونوا في بعض الأحيان أقل تعصبا وعاطفية، أو كان كل ما يفعلونه هو تبرير تمرد مبني على أسس دينية مشابهة لما لديه. وهكذا بدا له أن كلتا الجماعتين لا تقدم إليه مصدرا موثوقا به للتفكير النزيه، غير الانفعالي، ورأى نفسه مضطرا إلى رفض الاسترشاد بهذا الجانب أو ذاك في حل مشكلته. ومن ثم فقد اضطر إلى محاولة البحث بنفسه عن صيغة منطقية لما يستطيع أن يؤمن به إيمانا صادقا على أسس تجربته ومعرفته التي اكتسبها حتى ذلك الحين.
ومنذ هذه اللحظة، أصبح بوب فيلسوفا، سواء أعرف ذلك أم لم يعرفه. ولو ظل منطقيا وثابر على محاولته صياغة معتقداته الخاصة، لوصل على الأرجح إلى نتائج مشابهة لتلك التي وردت في مذهب ميتافيزيقي معين من المذاهب الموجودة بالفعل. ولكن، سواء أكانت وجهة النظر التي سيصل إليها هي تلك التي اشتهرت بفضل أرسطو، أو وليام جيمس، أم وجهة نظر يستطيع أن يصفها - عن حق - بأنها خاصة به وحده، فإن منهجه لو كان منطقيا، وطريقة معالجته للموضوع لو كانت عقلية، لكان تفكيره هذا، والنتائج التي وصل إليها، جديرا باسم «الفلسفة».
ولنتأمل حالة الطالبة «روث»، وهي حالة نجد لها نظائر في كل جامعة بها تعليم مشترك. فعلى الرغم من أن تعليمها لم يكن محافظا من الوجهة الدينية على قدر ما كان تعليم «بوب»، فإن التعاليم الأخلاقية التي تلقتها من والديها كانت صارمة قاطعة. صحيح أن والديها يعدان نفسيهما «متحررين» ولكن روث قد تعلمت أن هناك أمورا معينة تتجاوز حدود أكثر أنواع السلوك تحررا. وأبرز هذه البنود المستبعدة، كل نوع من السلوك الجنسي يتم خارج نطاق الزواج، ولا سيما بالنسبة إلى امرأة تحترم نفسها. وعلى حين أن والديها قارئان مثقفان، ولديهما بعض المعلومات عن علم النفس وعلم الاجتماع فإنهما قد نشآ ابنتهما على الاعتقاد بأن معايير الأخلاق الجنسية صارمة لا تتغير.
ولكن، بعد أن تمضي روث في الجامعة فصلا دراسيا أو فصلين، تبدأ في إدراك أنه، على الرغم من أن معظم الفتيات قد نشأن في جو أخلاقي مشابه للجو السائد في بيتها، فإن بعضهن قد انحرف عنه نظريا أو عمليا أو كليهما معا. وفضلا عن ذلك فإن بعض هؤلاء الفتيات صريحات فيما يتعلق بسلوكهن، لا سيما حين يتحدثن مع صديقات حميمات. وقد دهشت روث إذ وجدت أن اتجاهاتهن هذه لا يبدو أنها تؤدي إلى الحد من قدرهن في نظر صديقاتهن. ولما كانت روث قد تعلمت دائما أن مثل هذا السلوك يؤدي دائما إلى التعاسة، ولا سيما بالنسبة إلى الفتيات، فإن الأمر الذي كان مصدر أكبر قدر من الإزعاج والحيرة لها، هو أنها لاحظت أن هؤلاء الفتيات لا يبدو عليهن أنهن أقل سعادة وانسجاما مع بيئتهن من معظم زميلاتهن الأخريات.
ولما كانت روث ذكية واسعة الأفق، فقد حاولت بدورها أن تفكر في المسألة من أولها إلى آخرها بطريقة عقلية. وقد أتاحت لها سياسة التسامح التي تتبعها مكتبة الجامعة، أن تطلع على كتب موثوق بها في المشكلات الرئيسية للجنس والزواج، ولكنها سرعان ما أدركت أن حل مشكلتها لن يوجد في هذه الكتب، ولن يستمد من مناقشات منتصف الليل في عنابر بيت الطالبات؛ ذلك لأن ما كانت تحاول كشفه هو شيء أعمق وأعقد وأهم بكثير من أية إجابة على مشكلة العفة الجنسية. فقد كانت تحاول كشف ما يحدد «الصواب» و«الخطأ». فهي قد ظلت حتى الآن تعتمد دائما على كلمة أبويها ومعلميها في تحديد فئتي السلوك هاتين، ولكن ها هي ذي تدرك فجأة أن ذلك لم يعد كافيا، ما دامت كل تعاليمهم قد صيغت على هيئة أوامر محددة تتعلق بأفعال معينة، لا على صيغة معيار عقلي «للحق أو الصواب». أما كون معظم الناس يؤمنون كما يؤمن والدها، فهذا أمر لا يؤثر فيما تبحث عنه شيئا؛ مثلما لا يؤثر فيه كون العفة صفة أثيرة لدى المجتمعات منذ عهود بعيدة؛ ذلك لأنها تدرك أن هذه ليست إلا صورا متباينة للسلطة، التي لا يمكن أن تكون لها قوة عقلية ملزمة لأذهان ترفض السلطة الخاصة المتعلقة بهذا الموضوع بعينه. فلا بد إذن من شيء أكثر تأصلا، وأكثر معقولية.
وهكذا تجد روث نفسها قادرة، آخر الأمر، على البدء بعملية إعادة بناء عقلية. ولا يمضي وقت طويل حتى تكتشف أن مشكلة «الصواب» و«الخطأ» لا يمكن أن تحل إلا بمزيد من التعمق؛ إذ إنها تدرك أن هذين اللفظين يعتمدان على «الخير» و«الشر». ومن هنا فإن بحثها يؤدي بها آخر الأمر إلى هذا السؤال الأساسي: «ما هي الحياة الخيرة؟» وإلى أن يتسنى إيجاد جواب مرض لهذا السؤال - الذي هو أكثر أسئلة الإنسان إلحاحا - فإن روث تدرك أنها لا تستطيع إلا أن تعود إلى سلطة من نوع ما، لتتخذ منها مرشدا لسلوكها، حتى لو كانت سلطة مشكوكا فيها مثل رأي الأغلبية من زملائها الطلاب. ومن الجائز أن بحثها هذا عن جواب شاف عن مشكلة الحياة الخيرة سيؤدي بها إلى اختيار برنامج دراسي في الفلسفة أو الأخلاق. ولكنها - سواء أفعلت ذلك أم لم تفعله - فإنها ستكون سائرة بجد في طريق الفلسفة الفسيح إذا أدت بها جهودها الخاصة إلى بلوغ نقطة قريبة من تلك التي وصفناها.
ولا شك أننا لن نجد جميع الطلاب، حتى لو كانوا أذكياء، ذوي عقول جادة، قادرين على المثابرة في التفكير في مثل هذه المشكلات إلى الحد الذي يكشف لهم بوضوح عن المسائل الفلسفية الأساسية. مثل ذلك أن «بوب» كان يستطيع أن يتوقف فجأة في تحليله بأن يقرر أنه يوجد لدى أي شخص، على ما يبدو، دليل موثوق به على حقيقة المعتقدات الدينية أو بطلانها؛ وبالتالي يصبح «الإيمان» مسألة شخصية بحتة. وكذلك كانت «روث» تستطيع التراجع في رحلتها العقلية بعد البداية مباشرة؛ وذلك بأن تقرر أن أبويها أكبر منها سنا وأحكم عقلا؛ ولذا فمن الواجب اتباع نصائحهما، لا سيما وأن آراءهما تتفق مع رأي الأغلبية فيما يتعلق بالأخلاق الجنسية.
لكن حتى لو لم يكن الطالبان اللذان نتحدث عنهما قد وصلا إلا إلى موقفين مبدئيين من هذا النوع، فإن كلا منهما يكون مؤمنا ضمنيا بفلسفة وجدت خلال التاريخ الطويل للفكر من يعبر عنها بوضوح ويدافع عنها بحرارة. فعندئذ يكون «بوب» مثلا، قد اتجاه نحو مذهب نسبي شكاك من نوع ما، على حين أن «روث» تكون قد ظلت قانعة بنوع من مذهب السلطة المفترض ضمنا.
أمثلة أخرى : ولنبحث الآن حالة «تشارلس». ففي أثناء دراسة تشارلس الثانوية، أبدى اهتماما كبيرا بتلك الألغاز التي لا بد أن كلا منا قد صادفها في وقت ما، من أمثال: «إذا سقطت شجرة في وسط غابة ولم يكن هناك شخص قريب يسمعها، فهل يكون هناك أي صوت؟» وحتى بعد أن عرف أن الجواب يتوقف تماما على تعريف «الصوت»، فقد ظلت المشكلة تخلب لبه، لا سيما بعد أن أخبره شخص أكبر منه سنا أن من الممكن توجيه نفس هذا السؤال بشأن كل تجربة حسية لنا. مثال ذلك، أيكون الفرن «ساخنا»، أو الجو «شديد الرطوبة»، إن لم يكن هناك من يحس به؟ ... وهكذا أخذ تشارلس يشعر بالتدريج أن الشخص، في كل تجربة، يكون أهم من الشيء الذي يمر به في تجربته، بل إن الشخص ليس أهم فقط، وإنما هو أهم وأكثر «حقيقة»، بحيث ينبغي أن يعد الذهن أو الوعي العنصر المركزي الرئيسي في الكون. وبذلك يكون تشارس قد اهتدى، عن وعي أو دون وعي، إلى الفكرة الأساسية لدى مدرسة من أعظم مدارس الفكر الفلسفي وأقواها تأثيرا، وهي المثالية الميتافيزيقية.
وهناك طالب آخر، هو «ديك»، يبدي اهتماما كبيرا بالعلم ولا سيما الجيولوجيا والفلك والدراسات البيولوجية. وقد تعلم مما درسه في هذه الفروع أن العلم، حتى في أشمل تعميماته وأوسع قوانينه نطاقا، يتوقف دائما، وفي نهاية الأمر، على «الوقائع». وهو يشعر بإعجاب متزايد بقدرة العلم على تفسير مختلف أسرار التجربة البشرية واحدا بعد الآخر، ويشعر برضا خاص إذ يدرك أن حدود المجهول والغامض وما هو «خارق للطبيعة» تتراجع وتنكمش يوما بعد يوم. وأخيرا يشعر، كما يشعر كل أساتذته في العلم، أنه على حين أن العلم قد لا يكون قادرا على أن ينبئنا بكل ما نود معرفته، فهناك بالفعل أدلة كافية تثبت أن أي ميدان لا يثمر أكبر قدر ممكن من المعرفة الموثوق منها إلا إذا اتبعت فيه الطريقة العلمية. كذلك يعتقد «ديك» أنه لا يوجد شيء من وراء الكون الطبيعي الذي يدرسه العلم. «فالطبيعة» تشمل كل ما يوجد، بحيث لا يكون ثمة مجال لما هو «خارق للطبيعة». وعندما يصل إلى وجهة النظر الأخيرة هذه، يكون قد عثر (ربما دون أن يعلم مطلقا). على الفكرة الرئيسية في موقف فلسفي رئيسي آخر، هو المذهب الطبيعي.
والمثل الأخير هو «باربارا»، وهي فتاة في السنة الأولى، تتصف بصلابة الرأي وبنزعة عملية مشوبة بشيء من السخرية وعدم الاكتراث، ولا تطيق التفكير النظري أو التأمل أبدا. ففي كل مناقشة نظرية، نراها دائما ترد بقولها: «إلى أين ستؤدي بك؟» وفي الآونة الأخيرة أخذ نطاق تحديها النقدي يزداد اتساعا؛ إذ إنها الآن قد أصبحت تتساءل: «هل نوع النظرية التي تعتنقها يؤدي إلى أي فارق في المدى الطويل - وإذا كان هناك فارق، فما هو؟ وما العائد من النتائج الملموسة - هذا وحده هو ما يهمني!» وهنا نجد أن باربارا بدورها تتخذ موقفا نظريا موجودا بصورة ضمنية في أسئلتها، وإن كانت ستدهش قطعا (وربما غضبت) لو عرفت بالأمر. ذلك لأن أسئلتها توحي بنوع ساذج من «البرجماتية» التي تحاول تقويم كل شيء من خلال نتائج ذات أثر ملموس، وتذهب إلى أن النظريات والتمييزات النظرية لا يكون لها معنى إلا بقدر ما تؤدي إليه من اختلافات يمكننا أن نجربها مباشرة.
وهنا ينبغي أن نؤكد مرة أخرى أنه قد لا يكون هناك واحد من هؤلاء الطلاب الخمسة يعتقد أن النشاط العقلي الذي يمارسه هو نوع من التفلسف، والأبعد من ذلك احتمالا أن تكون نتائج تفكيرهم في نظرهم بوادر أولى لمذهب فلسفي. على أن الفلسفة المنظمة، كما سنرى في الصفحات التالية، قد نمت من تفكير مماثل لهذا تماما، في نفس هذه المشكلات، بل إن تاريخ الفلسفة ليس إلا تعاقبا متصلا من الإجابات المتباينة على هذه المشكلات (وعلى مشكلات أخرى مماثلة لها)، على حين أن أي «مذهب» فلسفي ليس أكثر من محاولة متكاملة شديدة التنظيم للإجابة عن نفس الأسئلة الأساسية التي تلح على ذهن الإنسان كلما بدأ يفكر تفكيرا عميقا شاملا. (1) الاختلافات الرئيسية بين الفلسفة الشعبية والفلسفة المذهبية
هناك ثلاثة اختلافات تفرق بين الفلسفة التي نسميها «شعبية» أو «شخصية» وبين ذلك النوع الذي يحظى بشهرة باقية، بل حتى ذلك النوع الذي يزاوله معظم الفلاسفة المحترفين. أوضح هذه الفروق هو أن هذه الفلسفات الشخصية يعبر عنها باللغة البسيطة التي يستخدمها الإنسان العادي كل يوم. أما أفكار معظم المفكرين الكبار فتصاغ عادة من خلال مصطلح فني أكثر تجريدا، ينبغي أن نتعلمه مثلما نتعلم المصطلح الخاص بأي علم. وهذا المصطلح الفني هو في الوقت ذاته الحاجز الأكبر الذي يقف حائلا بين معظم الفلاسفة وبين عامة الناس.
ولكن الواقع أن هذا الفارق بين النوعين الشعبي والاحترافي أو الفني للفلسفة، ليس ضخما إلى الحد الذي يبدو عليه. فما إن يتعلم المرء هذا المصطلح الفني، حتى يبدأ في اكتشاف أوجه شبه بين الاثنين لم يكن يخطر بباله وجودها. ومن الأمور الشائع حدوثها أن يقول الطالب المبتدئ، بعد أن يقوم معلمه أو القاموس بترجمة عبارة ميتافيزيقية معقدة إلى لغة بسيطة: «لم لم يقل ذلك منذ البداية؟» والرد على هذا السؤال الطبيعي بالنسبة إلى الشخص غير المتخصص، هو أننا حتى لو افترضنا أن الترجمة إلى اللغة العادية دقيقة (وهو ما لا يصح دائما؛ إذ إن هناك جملا فلسفية معينة قد يكون من المستحيل التعبير عنها بالألفاظ المستخدمة يوميا)، فإن الوضع يكون شاذا إلى حد بعيد لو عبرنا عن التجريدات العميقة بلغة غير اللغة الفنية التجريدية.
والحق أن نفس هذه المشكلة المتعلقة بالمصطلح تظهر في معظم فروع العلم، فكثير من المفاهيم الأساسية في أي فرع بعينه يرمز لها بعبارات يراها الشخص غير المتخصص عبارات فنية، غير أن الكاتب أو المتحدث يكون عليه أن يستخدم جملة كاملة (وربما عدة جمل)، بدلا من هذا اللفظ الواحد، إذا ما طلب إليه الاقتصار على استخدام اللغة العادية. ولو أتيح لغير المتخصص أن يقرأ كلاما كهذا أو يستمع إليه وقتا قصيرا، لأدرك بسرعة أن محاولة تجنب كل لغة فنية يؤدي إلى نقص كبير في القدرة التعبيرية ، وذلك من وجهة نظر الكاتب وجمهوره معا. والأمر الذي يبدو أن الحاجة تدعو إليه، ولا سيما في الفلسفة، هو وجود استعداد أكبر من جانب الفلاسفة لتعريف الألفاظ بوضوح ثم استخدامها بدقة واتساق، واستعداد مماثل من جانب الدارسين لتعلم لغة هذا الفرع الخاص. وإننا لنأمل أن يقتنع قراء هذا الكتاب بعينه أن مؤلفه، حين أضاف قائمة بالمصطلحات الفلسفية في نهاية الكتاب، إنما كان يود أن يلتقي مع قرائه، في هذه المسألة، في منتصف الطريق، ومع ذلك فإن هذا العامل المساعد على التفاهم والاتصال. شأنه شأن كل الوسائل الأخرى من هذا النوع، لن تكون له قيمة إلا إذا استعمل.
والفارق الواضح الثاني بين الفلسفات الشعبية وبين الفلسفة الفنية المتخصصة هو أن الفلسفات الشعبية توجد، في معظم الأحيان، بصورة ضمنية، على حين أن المفكر المنهجي قد جعل تفكيره صريحا ظاهرا. ذلك لأن الفلسفة الشعبية، وخاصة إذا كان واضعها شخصا ليست له معرفة بتاريخ الفلسفة، هي فلسفة في طور الجنين فحسب. وقد تكون فيها كل الإمكانيات التي تبشر بالتحول إلى مذهب كامل النمو، ولكن مثلما أنه لا بد من عالم بيولوجي متخصص في علم الأجنة لإدراك هذه القوة الكامنة في الكائن العضوي الذي لم يتشكل إلا جزئيا، فكذلك لا بد من شخص ذي خبرة واسعة في الفلسفة المنهجية لكي يكتشف جميع الإمكانيات الكامنة في موقف فلسفي لم يتشكل إلا جزئيا. إن الفرق ضخم بين الجنين وبين الكائن العضوي الناضج، ومع ذلك فالأجنة لها من الأهمية في نظام الأشياء بقدر ما للبالغين المكتملي النمو. ومن هنا كان من دواعي التفاؤل أن نجد الطلاب عادة يتشجعون حين يستكشفون أن مفكرا مشهورا معينا قد اكتسب شهرته بفضل تقديمه لعرض موسع دقيق لأفكار يستطيع الطالب أن يعرفها على أنها أفكاره الخاصة.
وهناك فارق ثالث هو أن معظم المذاهب الفلسفية تنطوي على قدر من التنظيم والاتساق يكاد يكون من المؤكد أن الآراء الشعبية الخاصة عن العالم تفتقر إليه؛ ذلك لأن الفيلسوف المعترف به ينظم أفكاره بطريقة منهجية، بحيث إن تفكيره يكون نظاما لتفسير الكون وحل المشكلات التي تعترض الذهن عندما يبدأ البحث جديا في طبيعة التجربة. أما تفكير معظم الناس، حتى حين يكون جادا متعمقا، فإنه لا يستطيع أن يصل إلى الاتساق والإحكام في معالجته لأي مجال شديد الاتساع من مجالات الفكر والتجربة. ومع اعترافنا بأن الفيلسوف المنهجي، شأنه شأن أي إنسان آخر، ليس معصوما من التناقض العقلي وعدم الاتساق المنطقي، فإنه مع ذلك ينجح في تحقيق التماسك والوحدة المنطقية بالنسبة إلى مجالات فكرية أوسع بكثير من تلك التي ينجح فيها الرجل العادي، بغض النظر عن مدى إخلاص هذا الأخير وشعوره بالمسئولية بوصفه مفكرا. فالنظر الفلسفية إلى العالم تظل عادة شيئا يدعو إلى الإعجاب من حيث هي مذهب منظم محكم البناء، حتى لو أخفقت فيما عدا ذلك من النواحي. (2) مشكلة التعريف
عندما نحاول تنظيم هذه الأفكار العامة عن طبيعة الفلسفة في تعريف شكلي للموضوع، فسرعان ما تعترضنا الصعوبات؛ ذلك لأن الفلسفة هي عملية أو نشاط أكثر من كونها موضوعا أو بناء للمعرفة، وتعريف النشاط أصعب دائما من تعريف الكيان أو الشيء المحدد المعالم. ويحاول البعض أحيانا تجنب هذه الصعوبة بالقول إنه لا يوجد شيء اسمه الفلسفة، بل يوجد فقط تفلسف. وهو النشاط العقلي الواعي الذي يحاول به الناس كشف طبيعة الفكر، وطبيعة الواقع. ومعنى التجربة الإنسانية. وقد يذهب أناس آخرون إلى القول بأنه لا توجد، على أحسن الفروض، إلا فلسفات؛ أي طرق متعددة للنظر إلى العالم. يصوغها مفكرون يعيشون في مدنيات كثيرة مختلفة. هذه الفلسفات تتباين، وكثيرا ما تتناقض، ومن هذا كان من الممتنع (على ما يقولون) أن ننظر إلى الفلسفة على أنها ميدان أو بناء موحد للمعرفة. وفضلا عن ذلك، فلا مفر لكل مدرسة وكل مفكر فردي من تعريف الموضوع بطريقة مختلفة، فيؤدي هذا التعريف ذاته إلى إغفال الكثير مما يود ممثل المدرسة المضادة أن يعمل له حسابا.
ولا بد لنا من تأكيد هذه النقطة الأخيرة: إذ إنها شيء قد يجده المبتدئ في دراسة الفلسفة عسير الفهم. فهو قد يدرك أن إجابتك عن أي سؤال فلسفي معين تتوقف على المدرسة الفكرية التي تنتمي إليها، ولكن لا يستطيع أن يفهم كيف أن تعريف الفلسفة في ذاتها يتوقف أيضا - إلى حد ما - على المدرسة الفلسفية التي ينتمي إليها القائم بالتعريف. والواقع أننا عندما نقارن بين فلسفة ينصب اهتمامها الأكبر على المسائل الميتافيزيقية (كالمثالية) وبين مدرسة أخرى يتركز اهتمامها على نظريات الحقيقة والقابلية للتحقيق (كالوضعية المنطقية)، فإنا نرى عندئذ أن هذه النتيجة تغدو أمرا لا مفر منه؛ ذلك لأن المدرسة الأولى لا بد أن تعرف الفلسفة على أساس أنها جهد منظم لإثبات الطابع المنطقي للواقع، على حين أن الثانية، التي ترى أن لفظ «الواقع
Reality » لا معنى له، وترى في أي جهد يبذل من أجل إثبات طابعه مضيعة للوقت، تعرف الفلسفة على أساس التحليل المنطقي للغة والمعنى. وهكذا الحال في القائمة الكاملة للمدارس الفكرية الكثيرة، فكل منها تبرز في تعريفها ما تهتم به في نشاطها التأملي أو التحليلي، وكل منها تستبعد بدورها ما لا يهمها، أو ما لا ترى في نفسها الكفاية لمعالجته.
فإذا ما انحزنا مؤقتا إلى صف أولئك الذين يفضلون النظر إلى الفلسفة على أنها نشاط أو عملية، لكانت مشكلتنا هي أن نقرر ما الذي يفعله كل هؤلاء المفكرين المتعددين، المتعارضين أحيانا، عندما يتفلسفون. فما هو العنصر المشترك بين عملياتهم العقلية؛ أي بالاختصار، ما الذي يميز التفكير الفلسفي من الأنواع الأخرى للتفكير؟ وما الذي يفعله الفيلسوف ويختلف فيه عما يفعله العالم أو رجل الدين، وربما الفنان ذاته؟ وما هي أوجه نشاطه العقلي الفريدة أو المميزة له؟
على الرغم من أن تصور الفلسفة على هذا الأساس الوظيفي الدينامي يؤدي إلى تبسيط مشكلتنا إلى حد ما، فما زال التعريف أمرا شديد الصعوبة. فهناك على الأقل نمطان متميزان من النشاط الفكري يزاولهما الفلاسفة من حيث هم جماعة، وإن لم يكن هناك فيلسوف واحد يزاول النوعين معا. وعلى الرغم من أن كلا من هذين النوعين من النشاط العقلي ليس منقطع الصلة بالآخر، فإن بينهما مع ذلك من الاختلاف في المقصد والمنهج ما يكفي لتعقيد محاولات التعريف. وسوف تكون مهمة كثير من الفصول التالية إيضاح هذا الفارق، أما هنا فنستطيع على الأقل تقديم عرض مبدئي لهذا الموضوع. (3) المهمتان الكبيرتان للفلسفة
الفلسفة بوصفها تحليلا : أول نشاط فلسفي رئيسي هو التحليل أو النقد، وفي هذا الدور يقوم المفكر بتحليل ما يمكن تسميته بأدواتنا العقلية: فيدرس طبيعة الفكر، وقوانين المنطق والاتساق، والعلاقات بين أفكارنا والواقع، وطبيعة الحقيقة، ومدى صلاحية مختلف المناهج التي نستخدمها في توصلنا إلى «الحقيقة» أو «المعرفة» (وهذا الموضوع الأخير ربما كان أهم الجميع)؛ فهو يحلل مناهج العلم والدين والفن والحدس والموقف الطبيعي. ويبدي اهتماما كبيرا بأية وسيلة يستخدمها الناس لاكتساب المعرفة أو تنظيم تجربتهم؛ إذ إن الفيلسوف ربما كان أكثر الناس اهتماما بالبحث عن أفضل الطرق للوصول إلى اليقين. ومن بين الأعمال التي يهتم بها، اختبار المناهج العقلية في جميع الميادين لكي يرى ماذا يمكنه أن يتعلم منها، ولكنه أكثر من ذلك اهتماما بتقويم هذه المناهج لذاتها. وهنا تقوم الفلسفة بدور الناقد الأعلى؛ إذ إنها تقوم باختبار دقيق لما تدعيه مختلف الفروع الأخرى من معرفة أو حقيقة، وذلك على أساس المناهج المستخدمة فيها واتساق النتائج التي تصل إليها، والعلاقة بين هذه النتائج وبين الأوجه الأخرى للتجربة البشرية.
على أن هذه المهمة النقدية التحليلية للفلسفة، كما سنرى في الفصول القادمة، لا يفهمها معظم الناس ولا يقدرونها إلا على نحو أقل بكثير من فهمهم وتقديرهم للمهمة الأخرى الأوسع منها شهرة للفلسفة، ألا وهي التركيب، وهذا أمر يدعو إلى الأسف؛ لأن هذه الجهود التحليلية للفلسفة هي التي أصبحت تسود الميدان على نحو متزايد في السنوات الأخيرة، وفي ميدان التحليل هذا يبدو أن الفلاسفة يقومون اليوم بأعظم أعمالهم فائدة. فمعظم المنشورات الفلسفية التي تظهر على شكل كتب أو على شكل مقالات، هي في واقع الأمر دراسات نقدية، تهتم أساسا بمشكلة المعرفة ومناهجها. ولذلك فإن القارئ العام الذي لا يدرك هذه الحقيقة يشعر بالنفور وخيبة الأمل حين يحاول دراسة أوجه المعرفة هذه؛ إذ إنه بدلا من أن يجد إجابات لأسئلته المتعلقة بالحياة والكون، يصطدم بمناقشات شديدة التخصص حول مناهج العلم أو قوانين اللزوم أو مشكلة العلية. فقد كان التصور التقليدي للفلسفة هو أنها مصدر يقدم إجابات للأسئلة التي يمكن أن يوجهها أي شخص مولع بالتفكير. ولكن جهود الفلسفة في العصور الحديثة أخذت تسير على نحو متزايد في طرق تحليلية (وبالتالي فنية متخصصة جدا). أما مسألة ما إذا كان هذا النشاط الرئيسي للفلسفة الحديثة هو أيضا أهم أوجه نشاطها، فهذا أمر لا يمكن البت فيه إلا بعد أن نكون قد توصلنا إلى فهم أفضل لمجال الفلسفة في مجموعه.
الفلسفة بوصفها تركيبا : أما المهمة الرئيسية الأخرى للفلسفة فهي في الوقت ذاته المهمة التقليدية الأقدم عهدا، فهي تحاول إيجاد مركب لكل المعارف، ولتجربة الإنسان الكلية. وهنا ينصب الاهتمام على النتيجة المتوقعة، بدلا من المناهج أو الأدوات المستخدمة. وفي هذا النشاط التركيبي يبحث الفيلسوف عن أشمل رأي ممكن بشأن طبيعة الواقع، ومعنى الحياة وهدفها. وأصل الوعي ومكانته ومصيره، وغير ذلك من الأسئلة الحدية القصوى. فهنا ينصب الاهتمام على «الاكتمال» أو «الشمول». والهدف هو تكوين نظرة إلى العالم (يستخدم للتعبير عنها أحيانا اللفظان الألمانيان
Weltansicht
أو
Weltanschauung )، أو صورة عن الكون لا تغفل من التجربة البشرية شيئا يمكنه أن يجعل من هذا التدفق المستمر للتجربة كلا منظما متكاملا له مغزاه.
ويحرص الفيلسوف الحديث عادة على ألا يخلط بين هذا البحث عن نظرة شاملة إلى العالم الحقيقي، وبين الاعتقاد الضمني بأن أي مركب متكامل يصوغه للتاريخ والتجربة البشرية هو مركب نهائي،
1
إذ يبدو من المؤكد أنه ما دام الجنس البشري مستمرا، فسوف تظهر خبرات وتجارب جديدة تحتاج إلى مركبات أحدث وأوفى. وعلى كل جيل أن يعيد تقويم وتفسير الخبرة المتراكمة للجنس البشري كله، وذلك على الأقل لأن مجموع التجربة البشرية قد زاد منذ الانتهاء من أي مركب سابق.
وفضلا عن ذلك فإن هذا الجزء من الكل، الذي يبدو هو الأهم بالنسبة إلى أي جيل حاضر (أعني ذلك الذي يحدث خلال العقدين أو العقود الثلاثة السابقة)، لا يكون قد تم هضمه عقليا، إن جاز هذا التعبير. ومن هنا فإن مهمة الفلسفة في تحقيق التكامل لا نهاية لها، وينبغي بالضرورة أن تظل كذلك. فليست هناك صيغة، مهما يكن شمولها، تستطيع أن تصمد طويلا بوصفها الكلمة الأخيرة. فقد تظل هذه الصيغة باقية بضعة أجيال، على الرغم من أن ظروف المدنية الحديثة لا تتيح مثل هذا العمر الطويل نسبيا إلا للقلة القليلة جدا. ومن هنا يبدو أن الفيلسوف، شأنه شأن أي مشتغل آخر بالأعمال العقلية، لديه عمل دائم لا ينتهي. (4) بعض التعريفات الممكنة
من الشائع محاولة تعريف الفلسفة من خلال موضوعها، وبالفعل يجد المبتدئ في الفلسفة عادة أن هذه التعريفات السكونية أو الثابتة أكثر فائدة بالنسبة إليه. فهناك تعريف يتخذ صيغة شاملة تعطي لكلتا الطريقتين في النظر إلى ذلك الميدان حقها، يقول إن الفلسفة محاولة مستمرة منظمة «للنظر إلى الحياة في مجموعها، وبطريقة ثابتة». ويفهم هذا التعريف أحيانا بمعنى البحث المنظم عن معان وقيم، وأحيانا أخرى على أنه يوحي باختبار متعمق لطبيعة الواقع، من ذلك النوع الذي يقوم به العالم عندما يبحث في خصائص العالم الفيزيائي أو طبيعة النشاط العضوي. ولكن أيا كانت طريقة فهمنا لهذه العبارة، فالفلسفة هي محاولة دقيقة منظمة للربط بين الكون والحياة البشرية على نحو له مغزاه. وكما قال شخص ما، فإن هدف الفلسفة هو «كشف طبيعة الكون، وعلاقتنا به، وما ينتظرنا فيه، وذلك لغرض مزدوج هو إرضاء عقولنا في سعيها إلى إشباع حب استطلاعها، وقلوبنا في سعيها إلى إضفاء أكبر قدر ممكن من الدلالة والقيمة على الحياة البشرية والتجربة البشرية».
2
إن الفلسفة، (ولا سيما في نشاطها التركيبي)، تمثل الجهود التي ترمي إلى الجمع بين المعرفة كلها والتجربة كلها، سواء منها ما يكتسبه الفرد والجنس بأكمله، في نسق متكامل. وهي تسعى إلى تنظيم كل الحقائق في كل موحد، وإلى أن تستخلص من حياتنا اليومية كل تلك الأوجه الجزئية للتجربة التي ترد إلينا في صورة مجزأة، لكي تمزج بينها في صورة متكاملة. وقد يسمى المفكرون المختلفون هذه الصورة المتكاملة نظرة إلى العالم، أو ترديدا للواقع، أو تلخيصا عاما لطبيعة الأشياء تخطيطا لصورة «المجهول»، أو إطارا يحدد «ماهية الأشياء في ذاتها»، أو تصويرا للمنطق. ولكن أيا كان الاسم الذي نطلقه عليها، وأيا كان ما تمثله في أذهاننا، فإن الدافع الذي يحفز إلى تكوين مثل هذه الصورة واحد في كل مكان وكل عصر: وأعني به زيادة الفهم، وإشباع رغبة الإنسان في أن يعرف؛ وبالتالي جعل الحياة أقرب إلى الفهم وأجدر بأن نحياها في آن واحد.
الفلسفة بوصفها حب الحكمة : نستطيع أن نستشف من المعنى الأصلي للفظ «الفلسفة»، عناصر كثيرة من قصتها. فهذا المعنى كان عند اليونانيين «حب الحكمة»؛ ومن هنا كان الفيلسوف «محبا للحكمة». وقد تفضل وجهة النظر الحديثة النظر إليها على أنها السعي وراء الحكمة أو البحث عنها، غير أن التمييز ليست له على الأرجح أهمية. فالحب يؤدي عادة إلى سعي من نوع ما، وحب الحكمة ليس استثناء لهذه القاعدة. والمهم في الأمر أن الرغبة في الحكمة، لا في الأشياء المألوفة التي يتجه إليها الناس عادة، هي التي تحفز الفيلسوف إلى ممارسة نشاطه. فالمعرفة هي ميله المفضل، والفهم هو هدف حياته. غير أن الفيلسوف يختلف، على الأرجح، عن كثير من أقرانه في درجة الفهم اللازمة لإرضائه. ذلك لأن معظم الأذهان تكون على استعداد للاستقرار والاكتفاء إذا ما جمعت من المعرفة ما يكفي لمواجهة الحاجات العملية للحياة اليومية، أو لجعل أصحاب هذه الأذهان يشعرون بأن لديهم على الأقل بعض الاستبصار بمعنى التجربة البشرية. أما الفيلسوف فلا يقنع بهدف متواضع كهذا، وإنما المعرفة عنده تعني المعرفة الشاملة - أو على الأقل المعرفة التي تكون شاملة بالقدر الذي تتيحه الحياة البشرية القصيرة، والحدود التي لا يتعداها الذهن البشري. فالحكمة الفلسفية تنطوي على نوع من الفهم الأصيل للكون وللتجربة البشرية بأكملها.
الفلسفة بوصفها سعيا عمليا : ومع اعتراف الفيلسوف بأن هدفه أبعد منالا من الأهداف الأخرى الأكثر تواضعا، التي يصبو إليها معظم الناس، فإنه ينكر القول بأن مسعاه أبعد عن الطابع العملي من سائر المساعي البشرية العادية، ذلك لأنه يعتقد أن حافز حب الاستطلاع متغلغل وطبيعي في الإنسان، شأنه شأن أية دوافع أخرى من النوع المسمى «بالعملي»، كاللذة، أو القوة، أو الشهرة، فإذا كان أي نشاط يهدف إلى إرضاء رغبة هو نشاط عملي، فعندئذ يكون البحث عن الفهم أو الحكم، الذي ينشأ عن رغبة من أكثر الرغبات تأصلا في نفس الإنسان، بحثا عمليا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. صحيح أن للفيلسوف عادة من هذا الدافع الخاص أكثر مما لدى معظم الناس، ولكن لا يوجد شخص واحد لا يملك قدرا معينا منه. فحب الاستطلاع جزء لا يتجزأ من كيان الإنسان، ومعنى أن يكون المرء محبا للاستطلاع هو أن يطلب إجابات عن أية أسئلة تدخل في نطاق عقولنا الدائمة التنقيب؛ ومن هنا فإن المرء عندما يتفلسف فهو إنما يحقق إنسانيته. وسواء أقمنا بهذا التفلسف عن وعي، وباستمرار، وبوصفنا محترفين، أم بلا وعي، وعلى فترات متقطعة، وبوصفنا هواة، فلا بد أن نتفلسف على نحو ما، لمجرد كوننا منتمين إلى نوع «الإنسان العاقل
Homo Sapiens ».
ملخص التعريفات : فإذا ما شئنا تلخيصا لهذه التعريفات المتباينة، كان في وسعنا أن نصف الفلسفة بأنها النشاط الذي يسعى فيه الناس إلى فهم طبيعة الكون، وطبيعة أنفسهم، والعلاقات بين هذين العنصرين الأساسيين في تجربتنا. وهكذا تكون الفلسفة بحثا منظما عن المعرفة، نقوم به عن طريق التفكير المنظم في كشوف العالم، ونتائج المؤرخ، ورؤيا الفنان والشاعر والمتصوف، مع الجمع بين هذه كلها وبين تجربتنا اليومية الشخصية. وتقتضي هذه الأفكار المنظمة من جانبها تحليلا دقيقا لقدرة الذهن على اكتساب المعرفة، بحيث إن جزءا أساسيا من النشاط الفلسفي يتألف من دراسة مصادر المعرفة البشرية ومناهجها وحدودها. ولما كانت المعرفة توصل إلى الغير وتسجل عادة، فإن هذا بدوره قد يؤدي إلى تحليل لوسائل الإنسان في الاتصال بغيره، ولا سيما اللغة.
إننا عندما نتفلسف نحاول الإجابة عن الأسئلة التي تطرأ بأذهان الناس جميعا في وقت ما، عن طبيعة الحياة ومعناها وقيمتها . وهكذا فإن موضوع الفلسفة هو طبيعة الوجود، وطبيعة التجربة، وأخيرا، العلاقة التي تربط بين الإنسان وذهنه وبين بقية الكون. فالسعي الفلسفي هو في أساسه سعي وراء معرفة شاملة عن طبيعة التجربة ومعناها وقيمتها. (5) مشكلات الفلسفة
سرعان ما يتضح لنا، عندما نخوض ميدان الفلسفة، أن دراسة هذا الموضوع تقتضي قبل كل شيء الإلمام بمشكلات معينة. وسرعان ما ندرك أن الفلسفة تدور حول هذه المشكلات الرئيسية، ثم نكتشف بمضي الوقت أن هذه المشكلات وحلولها المتعددة هي ذاتها الفلسفة. والواقع أن تاريخ هذا الميدان هو إلى حد بعيد سجل للإجابات المختلفة التي وضعت لنفس المجموعة من الأسئلة التي تتكرر دائما. ولقد تعددت هذه الإجابات بقدر ما تعددت الأذهان التي وضعتها، وبلغت من التباين حدا يصعب معه أحيانا الاعتقاد بأن المقصود منها هو أن تكون إجابات لنفس المجموعة من المشكلات. ومع ذلك فهناك من وراء هذا كله لب عميق من المشكلات الدائمة التي ناضلت حولها أجيال متعاقبة من المفكرين. فالمجتمعات تتغير، والمدنيات تنشأ وتنهار، ولكن كل عصر وكل مجتمع تقريبا، يخلف وراءه من الآثار ما يكفي لإثبات أنه قد صارع بدوره مع المشكلات القديمة جدا، والباقية على الدوام، للفلسفة. وسوف نعالج معظم هذه المشكلات الكبرى بشيء من التفصيل في الفصول القادمة، ولكن قد يكون من المفيد ها هنا أن نقدم وصفا موجزا لبعضها، ما دامت هذه هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها تكوين فكرة عن نطاق الفلسفة وأهدافها.
المشكلة الأساسية : كانت المشكلة الأساسية في الفلسفة التقليدية أو الكلاسيكية هي دائما: بماذا تتعلق التجربة البشرية بأسرها؟ هذا السؤال، إذا ما فهمت دلالته الكاملة، لاتضح أنه يلخص (أو يتضمن على الأقل) معظم المشكلات والمسائل الأخرى التي تعالجها الفلسفة. فالفيلسوف المحترف يسأل هذا السؤال دائما في صورة مجردة ما، مثل: ما طبيعة الحقيقة النهائية؟ أما غير المتخصصين فهم أقرب إلى أن يصوغوا هذا السؤال بطريقة مثل: ما معنى الحياة والكون؟ وبينما هذا السؤال الأخير يقتضي إجابة مختلفة إلى حد ما، فإنه بدوره يشير إلى نفس المشكلة الرئيسية . وأيا كانت طريقة صياغته ، فإنه هو السؤال الأساسي الذي يبني حوله أي مذهب في الفلسفة. ويمكن القول إن كل شخص قد تساءل هذا السؤال، بصورة ما، في وقت معين من حياته، بغض النظر عن ذكائه، أو مدى ثقافته، أو عدم اكتراثه الظاهري بالتأمل الميتافيزيقي.
مشكلة علاقة الإنسان بالكون : وهناك مشكلة أخرى يتعين على الفلسفة مواجهتها، وهي متولدة عن تلك التي عرضناها منذ قليل. هذه المشكلة خاصة بالعلاقة بين الإنسان وبقية الكون. وهناك من المفكرين من يعتقدون أن هذا أهم سؤال نستطيع أن نتساءله؛ إذ إنه رغم أنه قد يكون أضيق نطاقا من البحث الأول الشامل في طبيعة الواقع، فإنه أوثق اتصالا بتجربتنا اليومية؛ ذلك لأن هذا التساؤل الخاص بالعلاقة بيننا وبين بيئتنا قد يكون أهم بالنسبة إلى سعادتنا ورفاهنا من أي سؤال غيره.
ولقد كان الناس في العصور الوسطى يعتقدون أن الكون (بقدر ما كان معروفا في ذلك الحين) لم يخلق إلا ليكون تابعا لكوكبنا، الذي هو بدوره موجود بوصفه مسرحا تمثل عليه دراما الخلاص الكبرى. وبطبيعة الحال كان لهذه النظرية الكونية المتمركزة حول الأرض، تأثير مباشر في تلك النظرة إلى الأشياء، المتمركزة حول الإنسان، وقد اتضح ذلك عندما تقدم كوبرنيق لأول مرة بنظامه الفلكي معارضا به هذه النظرة القديمة. فقد كان الحجة الأخلاقية الكبرى ضد النظرة الجديدة «المهرطقة» هو أنها حطت من قدر الإنسان لأنها أزاحته من مكانته المركزية في الكون، بحيث لم يعد يبدو هو الشخصية الرئيسية في المسرحية الكونية الكبرى. وبينما أي رأي كهذا في علاقة الإنسان بالكون يبدو في نظر العلم الحديث ممتنعا وذاتيا مفرطا، فما زالت هناك من الاختلافات في الرأي حول التحديد الدقيق لطبيعة هذه العلاقة ما يكفي لشغل أوقات الفلاسفة في عمل لا يتوقف. (6) مشكلات الدين
الخلود : كل هذا يؤدي إلى مشكلات أخرى قد تكون أشد إلحاحا، وهي مشكلات لا بد أن تعترف الفلسفة بأنها تنتمي إلى مجالها الخاص. فالبحث في طبيعة الكون وعلاقته بالإنسان يؤدي بنا إلى سؤال يراه الكثيرون أشد الأسئلة التي يتعين على الفلسفة أو الدين أن يواجهها إلحاحا، وأعني به: إلى أين نذهب؟ والواقع أن معظم الأذهان ترى أن لغز المصدر الذي أتينا منه أقل أهمية بكثير من السؤال عن سبب مجيئنا هنا، وعن الوجهة التي سنقصدها فيما بعد. فهم على استعداد لاستبعاد مشكلة أصل الإنسان بوصفها سرا لا أمل فيه، أو على الأقل شيئا ليست له إلا أهمية أكاديمية في المحل الأول. أما مشكلة هدف الحياة والمصير النهائي، فهي مشكلة لا يستطيع إنسان أن يتجنبها. فلا بد أن يكون لكل فرد رأي ما في موضوع الخلود، وهنا أيضا نجد الفيلسوف لا يختلف عن معظم الناس إلا في أن آراءه في الموضوع قد اكتسبت بعد تفكير أعمق، وربما كانت أكثر اتساقا مع الصورة العامة التي يكونها عن الواقع.
الخلود بوصفه مشكلة فلسفية : يرتبط البحث الجاد في الخلود الإنساني عادة بالدين واللاهوت، ونتيجة لذلك فإن الطلاب كثيرا ما يدهشون إذ يعلمون أن الفلسفة تبدي اهتماما جديا بهذا الموضوع. ومع ذلك فإننا إذا ذكرنا أنه لا يوجد في التجربة البشرية شيء يخرج عن مجال الفلسفة - لا سيما إذا كان متعلقا بالمعاني والقيم النهائية - فلن يدهشنا أن تقع مسألة لها كل هذه الأهمية بالنسبة إلى الدين والأخلاق، تحت أعين الفيلسوف الفاحصة.
ونستطيع أن نتوقع أن تكون طريقة معالجة الفلسفة لهذه المشكلة مختلفة اختلافا كبيرا عن طريقة معالجة الدين لها؛ ذلك لأن الميتافيزيقي، على الأقل لن ينظر على الأرجح إلى الخلود على أنه «مصادرة ضرورية» للحياة الأخلاقية، بل إنه سيسترشد على الأرجح بالأدلة العلمية في بحثه عن جواب لهذا السؤال الهائل. وهو يلح عادة على استطلاع الإمكانيات الفعلية لبقاء الشخص بعد الموت استطلاعا كاملا، ويطالب بمناقشة المسألة بأسرها دون مسلمات قبلية حول «ضرورة» الخلود أو علاقته المفترضة بالأخلاق. وحتى لو كان الفيلسوف يعتقد أن من الممكن إثبات البقاء بعد الموت على أسس عقلية، أو أن نظرته إلى العالم تجعل منه على الأقل إمكانا مثيرا، فيكاد يكون من المؤكد أنه سيفسر أي وجود كهذا على أسس تختلف عن الأسس التقليدية في التفكير الديني؛ ذلك لأن العلاقة بين الحياة الأرضية وبين البقاء بعد الموت تتمركز عادة، بالنسبة إلى رجل اللاهوت، حول نقاط معينة كالأخلاق، والعدالة الإلهية، والقصاص وما إلى ذلك. ففي جميع الأديان تقريبا، يرتكز الخلود على الافتراض القائل إنه حالة ينبغي «اكتسابها»، وهذا يؤدي إلى الربط بينه وبين بقية تجربتنا على أسس أخلاقية في المحل الأول. أما الفيلسوف فيهتم، على الأرجح، بالعلاقات بين هذا البقاء وبين تجربتنا الكاملة - وضمنها قراراتنا ومعاييرنا الأخلاقية بالطبع - ولكن ضمنها أيضا عناصر كثيرة غير هذه. فالفلسفة إذ تنظر إلى الكون نظرة شاملة لكل شيء، لا تقتصر على النظر إلى الحياة من زاوية «الخير» و«الشر» و«الخطيئة» و«الخلاص»، ومن ثم فهي تنظر إلى مسألة الخلود بدورها من زاوية واسعة، فتحاول الربط بينها وبين طابع الكون في مجموعه، بدلا من طابع الإنسان أو الخلاص الإنساني.
مشكلة الله : لا يشعر المبتدئ في الفلسفة عادة بدهشة كبيرة عندما يعلم أن مشكلة «الله» تمثل إحدى المشكلات في ميدان الفلسفة. إذ إن موضوع الألوهية عادة يتمثل لنا موضوعا لا يقتصر معالجته على الدين وحده، على خلاف الحال في موضوع الخلود. ومع ذلك فمن الشائع أن يشعر هؤلاء المبتدئون بالدهشة للموقف الذي يتخذه معظم المفكرين من هذه المسألة. فحتى بعد أن يعلم الطالب أننا نستخدم في ميدان الفلسفة نفس منهج التحليل العقلي لكل المشكلات، ونعالجها بموضوعية ونزاهة، فإنه يشعر بعدم الارتياح حين يدرك أن «الله» هو بالنسبة إلى الفلسفة مشكلة عقلية أخرى فحسب. وأحيانا يكون من الصعب إقناع المبتدئ بأن من الممكن (أو حتى من حسن الذوق) أن نتحدث في هذا الموضوع بغير أعين غاضة «منخفضة» وعقل خاشع. والواقع أننا حينما ننبه الطالب في هذا المجال إلى أن الفلسفة لا تعرف جوانب في التجربة البشرية تكون «مقدسة»، بمعنى أنها تظل بمنأى عن التحليل العقلي، فإن هذا التنبيه كثيرا ما يبدو له موقفا غير لائق؛ ذلك لأن البحث في مشكلة الله دون إبداء خشوع أو انفعال يزيد على ما نبديه عند تحليل مفهوم «العلية» (مثلا) يبدو أمرا غير جدير بهذا الموضوع على الإطلاق. وحتى لو فهم الطالب أن موقف الفيلسوف لا ينطوي على أي شيء من عدم الاحترام، وإنما هو مجرد نوع من الضمان الدستوري بأن «كل المشكلات قد خلقت سواء»، فسيظل من المستبعد أن يتمكن من خوض هذه المسألة دون أفكار سابقة؛ ذلك لأن الإيمان بوجود الله قد تأصل في التفكير الغربي منذ أقدم العهود إلى حد أصبح معه أي تحد لهذا الإيمان، أو حتى التفكير جديا في أي بديل عنه، يعد في نظر أذهان كثيرة أمرا لا يتصوره العقل. وحتى لو عقمنا المناقشة تعقيما دقيقا باتفاق جميع الأطراف على أن هذه مسألة أكاديمية بحتة لا ترتبط بالإيمان الديني ارتباطا مباشرا، فسيظل من الصعب على بعض الطلاب أن يهدئوا أعصابهم ويشتركوا في المناقشة بحرية.
ومع ذلك فإن أي شخص يستطيع أن يدرك، بعد أن يمضي في مدرج الفلسفة أياما غير كثيرة، أن مشكلة الله ليست فقط واحدة من أهم المشكلات التي تعالجها الفلسفة، بل هي أيضا من أطرف المشكلات وأكثرها إثارة للفكر. ومن المألوف أن يتبين الطلاب أن الخشوع الذي ضاع من تصور الألوهية قد عوض بمزيد من الاهتمام والإثارة العقلية. ولو كان من حسن حظهم أن يصلوا إلى هذا الكشف، لأصبحوا إلى هذا الحد فلاسفة. (7) مشكلة حرية الإنسان
هناك مشكلة ثالثة تقترن بمشكلتي الله والخلود، هي مشكلة حرية الإرادة. ولقد كان من أهم التغيرات العقلية التي أسفر عنها توسيع نطاق وجهة النظر العلمية، تضاؤل مجالات تجربتنا التي لا تسودها الحتمية الدقيقة. فقد كان الناس في الأصل ينظرون إلى الطبيعة كلها (والطبيعة البشرية بالطبع) على أنها خارجة أساسا عن القانون. فالذهن البدائي كان يرى أنه إذا تدحرجت صخرة على جانب تل، فذلك لأن للصخرة إرادة خاصة بها، يمكن أن تمارس باختيار. أي إن الذهن البدائي كان ينقل حرية الاختيار والحركة التي يستشعرها الإنسان في نفسه بوضوح، إلى كل الأشياء والمخلوقات. فلكل منها إرادة مستقلة ، يمارسها بحرية. على أن هذه النظرية الساذجة قد استبعدت، في معظم أرجاء العالم، بعد أن عرفنا أن الأشياء المادية العادية تخضع لقوانين آلية، على الرغم من أننا لسنا موقنين بعد بماهية هذه القوانين أو طريقة سيرها.
والحق أن نمو العلم قد أحدث تغييرا عميقا في طريقة تفكيرنا، فقد تمكن جاليليو ورفاقه في العمل من صياغة هذه المعرفة المبسطة للواقع الآلي في صورة قوانين لا يتطرق إليها الشك. وفضلا عن ذلك، فقد تبين أن هذه القوانين لا تقبل أي استثناء، وتنطوي على تعاقب دقيق للعلة والمعلول. ومنذ ذلك الحين، أصبح القانون والنظام العلمي يبسط سيطرته على عملية طبيعية بعد الأخرى. وامتدت حدود العالم الخاضع للعلم، من مجال الأجسام المادية، إلى عالم الحياة الحيوانية، ولم يعد أحد يسلم مقدما بأن وجود القدرة على الفعل الحركي يبطل المبدأ الأساسي القائل إن كل تغير ينتج عن تغيرات سابقة من نوع ما - أي إن كل حادث يتحدد بسبب، ويؤدي إلى نتيجة مناظرة له.
ولكن على الرغم من الزحف المتصل للقانون العلمي، فقد كان هناك مجال عظيم الأهمية، هو مجال الحياة البشرية، يعد حتى عهد قريب بمنأى عن أي تطبيق كامل لمبدأ الحتمية هذا فبينما الناس قد تعلموا منذ عهد بعيد أن أجسامهم تخضع لقوانين آلية كثيرة تؤثر في الأشياء غير الحية (كالجاذبية مثلا) فإنهم كانوا يتأثرون دائما بذلك الشعور الذي لا يمكن إنكاره، وأعني به الشعور بأننا أحرار في مجال الاختيار والإرادة. هذا الشعور بالحرية يبلغ من الأهمية في التجربة البشرية حدا يجعل معظم الناس يسلمون دون جدال بأنه إذا كانت أفعالهم خاضعة للعوامل الفيزيائية، فإن إرادتهم تستطيع الاختيار على نحو يستقل عن أية سوابق. والواقع أن هذا الشعور يبلغ من القوة، ويكاد يبلغ من الشمول، حدا يجعل من العسير على أي شخص ليس لديه تكوين علمي أو فلسفي متعمق، أن يعترف باحتمال أن يكون فعله واختياره معا متحددين تماما بحوادث سابقة (هي في العادة فعل واختيار سابقان)، شأنها في ذلك شأن أي حادث آخر في الطبيعة.
حرية الإرادة في مقابل الحتمية : على الرغم من أن علم النفس الحديث قد دعم وجهة النظر الحتمية بقوة، فإن الحتمية ما زالت حتى الآن فرضا لم يتم إثباته؛ ومن ثم فإن المجال يكون فسيحا للجدل الفلسفي حول مسألة حرية الإرادة في مقابل الحتمية. فلما كان موقف المذهب الحتمي منفرا تماما لمعظم الأشخاص ذوي الميول الدينية أو المثالية القوية، فإن المشاعر الفلسفية تحتد حول هذه المسألة، على الأرجح، أكثر مما تحتد حول أية مشكلة أخرى في ميدان الفلسفة، فالذهن الميال إلى المذهب المثالي يرى في توسيع نطاق الحتمية الدقيقة بحيث تمتد إلى مجال الحياة البشرية، أنكارا لتلك القدرة التي ترى أمثال هذه الأذهان أنها هي المميزة للإنسان بحق؛ وأعني بها القدرة على اتخاذ القرارات الأخلاقية. أما الحجج القوية التي يأتي بها مذهب الحتمية (وهي الحجج التي سنعرضها بالتفصيل في فصل تال) فلا يبدو لها، في نظر أصحاب النزعات المثالية الواضحة، من القوة ما يبرر إنكار حرية الإرادة.
على أن أيا من جانبي النزاع الحاد الخاص بحرية الإرادة لم يفلح في قهر الجانب الآخر، وما زالت هذه المشكلة، على الأرجح، أكثر أبناء الفلسفة إثارة للضجيج الآخر، وما زالت هذه المشكلة، على الأرجح، أكثر أبناء الفلسفة إثارة للضجيج والمتاعب. ولكن هناك على الأقل احتمالا في أن يؤدي تطور علم النفس إلى تسوية نهائية لهذه المسألة القديمة العهد. ولو حدث ذلك لكان هذا يوما سعيدا لأمها الفلسفة؛ إذ إن هذا سيثبت مرة أخرى رأيها القائل إنه ليس كل أفراد ذريتها حالات مستعصية يستحيل تقويمها. ولا جدال في أن الفلسفة سوف يسعدها التخلص من هذه المشكلة؛ إذ لا توجد من المشكلات ما أثارت من المتاعب بقدر ما أثارت هذه. (8) الميدان الأخلاقي ومشكلاته
والمسألة الرئيسية التالية التي يتعين على الفيلسوف المتخصص أن يعالجها هي أقرب الألغاز الفلسفية إلى الطابع العملي. ففي وسع المرء أن يستبعد المشكلات التي عرضناها حتى الآن، على أساس أنها ليست بذات أهمية عملية ملحة، مهما تكن حقيقتها ودلالتها من حيث هي مشكلات عقلية، ولكن ها هي ذي مشكلة تعد أكثر المشكلات الإنسانية الكبرى اتصالا بالإنسان، وأعمقها تأصلا فيه، وربما أشدها إلحاحا عليه، وأعني بها: ما الحياة الخيرة؟ أما أولئك الذين ينفرون من أي سؤال يتضمن لفظ «الخير» خشية أن يؤدي إلى إقحامهم في جدل حول الأخلاق، فمن الممكن أن نعيد صياغة السؤال لهم دون أن يفقد شيئا من دلالته، بحيث يصبح: ما أهم شيء في الحياة؟ أو (إذا شئت أن نستخدم صيغة يشعر مؤلف الكتاب نحوها بميل شخصي قوي): ما أكثر شيء يجعل الحياة جدية بأن نحياها؟
والواقع أن مشكلة الخير الأقصى أو النهائي، وطبيعته وعلاقته بكل القيم، هي من أهم الموضوعات التي يبحث فيها ذلك الفرع من الفلسفة المسمى «بالأخلاق». وهناك احتمال في أن الفصول القادمة التي تعالج المشكلات الأخلاقية ستكون هي أطرف المشكلات في نظر أغلبية من القراء. فمثلا: هل «السعادة» أهم شيء في الحياة؟ وإن كان الأمر كذلك، فما علاقة السعادة «باللذة»، التي كان السعي إليها يعد، تقليديا، من البواعث الرئيسية للسلوك البشري؟ وهل يمكن أن يكون تحقيق نوع من «الكمال» أهم حتى من بلوغ السعادة، أم أن «خدمة الآخرين» قد تكون هي أقصى خير في الحياة؟ وما موقع «الواجب» و«الالتزام»؟ وما العلاقة بين كل من هذه المعاني النهائية المحتملة في الأخلاق، وبين حياتنا ككل، وما تأثير كل منها في حياتنا اليومية لو اخترناه بوصفه الخير الأسمى
Summum Bonum ؟
من الواضح أن الأخلاق هي أقل فروع الفلسفة تعرضا للاتهام بالبعد عن الميدان العملي. ذلك لأنه أيا ما كان رأينا في أهمية الأسئلة من أمثال «من أين نأتي؟» أو «إلى أين نذهب؟» فإن السؤال عما ينبغي أن نفعله خلال حياتنا هو سؤال عملي تماما. فمسألة ما يتعين علينا أن نفعله بأيامنا وما ينبغي أن نحاول صنعه بحياتنا، هي في نظر الناس جميعا أشمل الموضوعات العملية وأعظمها أهمية. قد يكون المثقفون وحدهم هم الذين يرون جدوى في البحث النظري حول طبيعة الحقيقة النهائية، ولكن الناس جميعا، حتى أقلهم حظا من الثقافة، يجدون أنفسهم أحيانا منغمسين في مجادلات عنيفة حول طبيعة الحياة الخيرة، وما إذا كان من واجبهم أن يفعلوا هذا أو ذاك. وإذا كنا موقنين بأن التفلسف أمر لا مفر منه، فإن الأمر الأكثر من ذلك يقينا هو أنه ليس ثمة مهرب من ضرورة اتخاذ قرارات أخلاقية على الدوام. وفي هذا المجال يكون الدور الأكبر للفيلسوف هو أن يجعل هذه القرارات عاقلة ومنطقية ومرضية بقدر الإمكان. وتشكل محاولة جعل هذه القرارات على هذا النحو موضوع «علم الأخلاق».
وهناك مشكلات أخرى عديدة تنتمي إلى أسرة الفلسفة الكبيرة، بعضها له من الأهمية ما يستحق معه أن نفرد له فصلا مستقلا في الصفحات التي ستأتي فيما بعد. فسوف تقتضي مشكلة الحقيقة والمشكلات المعقدة المتعلقة بعلم الجمال اهتماما خاصا، ما دامت تنطوي على مشكلات تتعلق بالفلسفة ككل. ومع ذلك فالأفضل أن نرجئ أية إشارة إلى هذه المشكلات حتى نكون متأهبين تماما لبحث ما تنطوي عليه من صعوبات؛ إذ إن أي تقديم موجز لهذه المشكلات قد يبعث في القارئ مزيدا من الحيرة، بدلا من أن يساعده على فهمها. (9) هدف الفلسفة
لا بد أن يكون قد اتضح لنا الآن أن المهمة التي يأخذها الفيلسوف على عاتقه ليست مهمة هينة أو هدفا متواضعا. فالفيلسوف - كما أحسن أفلاطون التعبير عن مهمته - هو من يشاهد كل زمان وكل وجود. وهو إذ يتخذ من المعرفة كلها ميدانا له، ومن التجربة بأسرها مادة خاما لبحثه، يهدف إلى وضع مركب لا يخرج عنه أي وجه للوجود، أو أي جزء من الفكر، أو أية ذرة من الواقع. وعلى ذلك فكل شيء في الكون داخل في نطاق التجربة البشرية، يدخل أيضا في نطاق الفلسفة. وكل ما يمر بنا، أو يؤثر فينا أو يترك أي أثر في وعينا، يهم الفيلسوف. وهو لا يستطيع أن يقبل أي مثل أعلى أقل من تكوين صورة شاملة تامة التوحد للواقع، وهو يقصد بالواقع عادة مجموع التجربة كلها - من ماضية وحاضرة ومستقبلة، وفعلية وممكنة. فكل شيء، في كل مكان، وحيثما حدث، هو وقود لآلة الفيلسوف الذهنية.
أما مسألة تحديد المدى الذي يستطيع الذهن البشري أن يذهب إليه من أجل بلوغ مثل هذا المثل الأعلى الهائل، فلا بد لبحثنا من الانتظار حتى نعالجها في الفصول القادمة. أما الآن فحسبنا أن نذكر أن لدى الفيلسوف شعورا واضحا كل الوضوح بأن مثل هذا المثل الأعلى لم يتحقق حتى الآن. وفضلا عن ذلك، فقد يكون من الأفضل الاعتراف صراحة بأن هناك مفكرين محدثين كثيرين يؤمنون باستحالة بلوغ هذا الهدف. فهناك جزء كبير من النشاط الفلسفي المعاصر يتركز حول السؤال: ما هي قدرات الذهن، وما هي بالضبط حدود المعرفة البشرية؟ ولكن على الرغم من هذه الشكوك الحديثة في قدرة الذهن البشري على بلوغ ذلك الهدف الذي كان الفيلسوف يضعه نصب عينيه في العصور السالفة، فإن هذا الهدف ما زال مثلا أعلى. ومن المؤكد أن الرغبة في معرفة أشمل وفهم أوسع، هي بالفعل الدافع الأساسي لوجود كل فيلسوف أصيل.
الفلسفة بوصفها نشاطا يمارسه البشر أجمعون : لا يمكن أن يكون هناك مفر من هذه المحاولة للتفكير منطقيا حول تجربتنا في مجموعها، ولجعلها معقولة بقدر الإمكان. قد يختلف الأفراد في درجة المعقولية التي يبحثون عنها وسط التجارب اليومية المختلطة، ولكن لا بد لكل منا، لكي يجد الحياة محتملة، من أن يكتشف نظاما وإحكاما ما في المادة الخام التي تتدفق إلى وعينا ساعة بعد ساعة أثناء مضي حياتنا. فكلنا - حتى أقلنا ثقافة أو أكثرنا سذاجة - نقوم بالضرورة بجهد لا ينقطع من أجل الاهتداء إلى معنى من وراء الافتقار الظاهر إلى المعنى، ومن أجل كشف وحدة تحت التنوع السطحي، ومن أجل فرض قدر معين من النظام على الفوضى البادية لتجربتنا الشخصية - وهذا الهدف الأخير هو أهم هذه الأهداف جميعا. وربما كان قدر كبير من هذه الجهود غير واع أو غير واضح المعالم، غير أنه لا مفر لنا من بذلها. فبعض النظر عن عمرنا أو مهنتنا، أو تعليمنا، أو المدينة التي نعيش فيها، فإن هذا الجهد يمثل الحد الأدنى من النشاط العقلي على المستوى الإنساني للوجود.
وهذا بعينه هو ما يفعله الفيلسوف بدوره. فإذا كانت الفلسفة، كما يعتقد الكثيرون، تمثل الحد الأقصى من النشاط العقلي، فمن الواجب أن نستنتج أن الحد الأدنى الذي لا مفر منه، وكذلك الحد الأقصى للفكر البشري، يتعلقان معا بمهمة واحدة: هي كشف النظام والمعنى في تجربتنا التي تنساب من لحظة إلى أخرى. أما الفارق الأساسي بين هذين المستويين العقليين فقد أشرنا إليه من قبل. فالفيلسوف يزاول عن وعي نشاطا يشغل وقته بأكمله، على حين أن معظم الأذهان تزاول عن غير وعي نشاطا متقطعا. غير أنهما معا يسيران في طريق واحد. ومن الطبيعي أن يقطع المسافر المتفرغ للسفر شوطا أبعد، ويرى خلال الطريق أمورا أكثر بكثير، ولكن لا مفر للاثنين معا من أن يكونا رفيقي طريق. وسواء شئنا أم لم نشأ، فلا بد لنا جميعا، بوصفنا بشرا، من أن نسير على نفس الدرب. أما إلى أي مدى نذهب، وما مقدار ما نهتدي إليه أثناء سيرنا، فهذا أمر يتوقف على ذكائنا، ومزاجنا، وتعليمنا، ومع ذلك، فليس لنا مفر من القيام برحلة ما.
إننا لن نحاول في الصفحات الآتية أن نفرض على الطالب أية مجموعة من الإجابات على هذه المشكلات الكبرى للعالم الفلسفي، بل سنحاول طوال الوقت أن نقدم أوفى موجز ممكن للإجابات الرئيسية التي صاغتها المدارس المتعددة وأقطابها الأفراد، حتى نعين القارئ على تنظيم آرائه وتجاربه الخاصة في كل أكثر إحكاما وإرضاء. ونحن لا نستطيع أن نعد القارئ بأنه سيجد في الفصول التالية إجابات على كل الأسئلة النهائية، ولكن أغلب الظن أن الطالب المفكر سيجد على الأقل أن ضوءا جديدا قد ألقي على هذه المشكلات العسيرة. والأهم من ذلك هو أن من المحتمل أن يجد هنا مادة خاما تسهم بدور هام في تمكينه من صياغة وجهة نظر فلسفية خاصة به.
الفصل الثاني
الفلسفة وجيرانها
لا بد أن يكون القارئ قد شعر، عند هذه النقطة من دراستنا، بشيء من الحيرة حول العلاقات بين الفلسفة وبعض الميادين الفكرية الأخرى. فمن الجائز أن كثيرا من التعريفات التي قدمناها توحي بأن الفلسفة تتداخل مع اثنين على الأقل من جيرانها، هما: العلم والدين، وربما تكرر عملهما بلا داع. أليس معنيا، في المحل الأول، بطبيعة العالم الفيزيائي وتركيب الكون؟ أليست هذه المسائل بعينها هي موضوع اهتمام الفيزياء والكيمياء والفلك والجيولوجيا؟ أولم تقدم هذه العلوم إجابات كاملة ومحددة إلى حد معقول؟ وما الذي يستطيع الفيلسوف أن يفعله أكثر من ذلك - بل ما الذي يستطيع أن يريده أكثر من ذلك؟ أما فيما يتعلق بالأسئلة العظيمة الأهمية، المتعلقة بدور الإنسان في الكون ومعنى تجربتنا، فأي هدف يمكن أن يكون للدين سوى تقديم إجابات عن هذه الأسئلة؟ وهنا أيضا نتساءل: أي دفاع نستطيع أن ندافع به عن الفيلسوف وعمله؟
في اعتقادنا أن أفضل وسيلة لاكتساب مزيد من الفهم لميدان الفلسفة، بعد التعريف المبدئي لميدانها، الذي عرضناه منذ قليل، هي أن نعالج الموضوع بطريقة سلبية ونوضح ما لا تكونه الفلسفة. فمع اعترافنا بأن ميدان الفلسفة له صلات هامة جدا بالعلم والدين معا، وبأنه يسعى إلى الإتيان بإجابات أساسية من نفس النوع الذي يسعيان إلى الإتيان به، فإن الفوارق بين الميادين الثلاثة من ذلك أهم مما بينها من أوجه الشبه. فإذا استطعنا أن ننفذ إلى أعماق هذه الفوارق في الغاية والمنهج معا، لقطعنا بذلك شوطا لا بأس به في سبيل فهم روح الفلسفة ومضمونها.
إن للفلسفة، شأنها شأن كل ميادين النشاط البشري، صلات وثيقة بالبعض من جيرانها، وصلات سطحية فقط بجيران آخرين. وأقرب صلاتها هي تلك التي تجمعها بالعلم من جهة وبالدين من جهة أخرى. وهناك ارتباطات أقل وثوقا، بين الفلسفة وبين الفن والأدب، على الرغم من أنه لا يوجد، كما رأينا من قبل؛ أي ميدان للنشاط وأي ميدان للفكر يعد خارجا تماما عن مطلق البحث الفلسفي. فكل شيء يسهم في هذا البحث، وما كان اختيارنا للعلم والدين على التخصيص لإجراء هذه المناقشة الخاصة المتعلقة بالفلسفة إلا أن أهميتها بالنسبة للبحث الفلسفي أعظم. كذلك فإن الخلط بين مجال الفيلسوف وبين هذين الميدانين المجاورين له ، هو أكثر وقوعا من الخلط بينه وبين أي ميدان آخر. وهذا الخلط أمر طبيعي، وما دمنا في الفلسفة نعالج موضوعا قريبا كل القرب من الموضوعات التي يعالجانها. وبالإضافة إلى ذلك فإن المشكلات الخاصة بهذه الميادين الثلاثة تتداخل إلى حد بعيد. وهناك قدر كبير من التشابه في اللغة المستخدمة فيها. ولكن، مهما كان هذا الخلط أمرا طبيعيا، فإن تخليص تفكيرنا منه أمر لا بد منه لأي فهم للفلسفة. ولقد كانت نتائج هذا الخلط خطيرة بوجه خاص في العلاقات بين الفلسفة والدين، وهي العلاقات التي سوف نستهل بها مناقشتنا ... (1) الفلسفة والدين
من أخطر العقبات التي اعترضت عمل المفكر الفلسفي خلال قرون طويلة، الفكرة القائلة إن الفلسفة والدين، نظرا إلى ما في موضوعهما من تداخل جزئي هما توأمان عقليان متلاصقان، لا يستطيع أحدهما أن يذهب إلى أي مكان دون الآخر. ولقد كان هذا الربط مصدر متاعب للتوأم الفلسفي بوجه خاص؛ إذ إن الدين كان عادة يحتل مركز السلطة السائدة؛ وبالتالي كان قادرا على تحديد سرعة أي تقدم واتجاهه. ففي الجزء الأكبر من القرون الوسطى، مثلا، كانت العلاقة الرسمية بين الفلسفة والدين تتلخص في أن للفيلسوف الحرية في الوصول إلى أية نتائج قد يوحي بها تفكيره - شريطة ألا تكون هذه النتائج متعارضة مع نتائج الوحي واللاهوت المقدس. ومن الجائز أن عددا قليلا من مفكري العصور الوسطى هو الذي وجد في هذا القيد من المضايقة ما قد يجده فيه معظم فلاسفة اليوم، ولكن من الواضح أن ذلك القيد لم يكن متمشيا مع الحرية العقلية كما نفهمها في وقتنا الحالي. وعلى حين أن سيطرة الدين على الفلسفة لم تكن دائما كاملة بالقدر الذي كانت عليه في العصور الوسطى، فإن الكنيسة (في فرعيها الكاثوليكي والبروتستانتي معا) لم تكن على استعداد، خلال الجزء الأكبر من تاريخها الطويل، للسماح للفكر النظري بالتنقل بحرية في جميع أرجاء عالم الفكر. ذلك لأن الكنيسة كانت عادة تبدي رغبتها في أن تقوم هي، على الأقل، بإصدار جوازات السفر التي تبيح القيام بأمثال هذه الرحلات، وبذلك تحتفظ لنفسها بسلطة البت فيمن يسمح له بالسفر الفلسفي. والواقع أن الفلسفة لم تتمكن من التحرر من هذه القيود إلا منذ أقل من قرنين من الزمان، حتى في البلاد الديمقراطية الليبرالية ذاتها، بل إن هذه الحرية قد اكتسبت، في مجالات معينة، منذ وقت يذكره أناس ما زالوا أحياء. ولما كان هذا الاستقلال قد اكتسب بعد كفاح مرير، فمن المنطقي أن تنظر إليه جماعة المشتغلين بالفلسفة على أنه أهم الحريات المدنية، وأن تعده جديرا بأن يحفظ بأي ثمن.
صعوبة المحافظة على الاستقلال : على الرغم من أن الفلسفة قد وصلت آخر الأمر إلى موقف تستطيع أن ترفض فيه الاعتراف بأي واجب نحو العقيدة، أو قبول أي مركز خاضع لها، فقد أتت أوقات كان الفيلسوف يبدو فيها كما لو كان قد قفز من المقلاة إلى النار. ففي صراعه للتحرر من سيطرة الدين، كان طبيعيا أن يتحالف مع العالم، الذي مر بتجربة مشابهة لتجربة الفيلسوف إلى حد بعيد قبل حصوله على استقلاله. وفضلا عن ذلك فإن النمو الرائع للعلم خلال الفترة التي كانت الفلسفة فيها تكافح في سبيل استقلالها، كان أحيانا يشعر الفيلسوف بخشوع مفرط، بحيث اتجه في أحيان معينة إلى ربط تفكيره بذيل «طيارة» العالم ربطا أوثق مما ينبغي. وسوف يتضمن الفصل التالي مزيدا من المعلومات عن هذا الخضوع الممكن من الفلسفة للعلم. ولكن مهما تكن حقيقة هذا الخطر، فإن المشكلة الرئيسية، من الوجهة التاريخية، كانت المحافظة على التأمل الفلسفي متخلصا من القيود اللاهوتية؛ لذلك سنبدأ تحليلنا للارتباطات بين الفلسفة وجيرانها ببحث علاقاتها بالدين. (2) الفرق بين الفلسفة والدين
الفارق الأول: الموضوع
تختص الفلسفة، شأنها شأن الدين، بوضع إجابات على أسئلة نهائية معينة. والأسئلة التي يشترك فيها الميدانان بوضوح هي أصل الإنسان ومصيره، وعلاقته بالكون الذي يعيش فيه، وطبيعة الله، وعلاقة الإنسان بالله، وخلود النفس، وحرية الإرادة، وعلاقة السلوك الإنساني بالسعادة الإنسانية. ولا شك أن اشتراك الميدانين، من حيث الموضوع، في مثل هذه المشكلات الكبرى، يكفي في ذاته لكي يجعل الميدانين يتداخلان تداخلا جزئيا. ومع ذلك، فهناك على الأقل أربعة أمور تفصل بين الميدانين فصلا أوضح بكثير. فمن الملاحظ أولا أنه، بينما نجد أن جزءا كبيرا من الموضوعات التي يبحثانها مشترك بينهما، فإن جزءا كبيرا منها مختلف أيضا. فالفلسفة مثلا تتعمق في مشكلة قدرة الذهن على معالجة تجربته معالجة كافية. أما الدين فيحل هذه المشكلة عادة بافتراض مصدرين للمعركة، هما العقل والإيمان، ولا يحلل قدرات أي منهما على أي نحو من الدقة التي تحللها بها الفلسفة. كذلك فإن الفلسفة أكثر اهتماما بالمشكلات العلمية وشبه العلمية، كأصل الكون المادي وتاريخه وقوانينه وتركيبه العام، وأصل الحياة وتطورها، وطبيعة العلية، وما إلى ذلك. ويمكن القول بوجه عام إن مجال نشاط الفيلسوف أوسع من مجال نشاط رجل الدين؛ ومن ثم فإن المشكلات التي يعالجها الفيلسوف تشمل نطاقا أوسع بكثير. وعلى أية حال، فمن الإنصاف أن نقول إنه بينما الاثنان يبدآن بكثير من المشكلات المتماثلة، فالأرجح أن يظل الفيلسوف، بعد مضي وقت طويل من اهتداء المفكر الديني إلى إجابات مرضية، يناضل بعنف في سبيل الاهتداء إلى ما يعده «حلولا أفضل» لنفس المشكلات. والمقصود بهذه الحلول الأفضل، إجابات أدق وأشمل. وبهذا تكون الفلسفة ميالة إلى النظر إلى الأذهان الدينية على أنها معرضة لقبول حلول أسهل مما ينبغي. وأخيرا فأغلب الظن أننا في أية لحظة نرقب فيها الفيلسوف وهو يعمل، سنجده يناضل لحل مشكلات لا تهم اللاهوتي إلا بطريق غير مباشر، إن كانت تهمه على الإطلاق. أي إن الفلسفة، بوجه عام، تتجاوز اللاهوت في نطاقها ومدى تحليلها لأية مشكلة تبحثها.
الفارق الثاني: المناهج
والفارق الثاني بين الميدانين مرتبط بالأول، وهو متعلق بالمناهج التي يستخدمها كل منهما. فالدين، كما رأينا منذ قليل، يقبل قضايا معينة على أنها موضوعات للإيمان - أي يقبلها تصديقا - على حين أن الفلسفة لا تقبل ذلك. ولعل من المفيد - دون الدخول في استطراد طويل نناقش فيه منطق الإيمان أو سيكولوجيته - أن نشير بإيجاز إلى معنى «الإيمان» ما دام هذا اللفظ يستخدم عادة في الدوائر الدينية والفلسفية معا ، فاللفظ، في معناه العادي، يدل على قبول رأي أو مذهب على أنه ينطوي على حقيقة لا تستمد من المصادر الحسية أو من العمليات العقلية. ويعد ذلك المذهب عادة ذا أصل من نوع إلهي أو خارق للطبيعة، فهو نتيجة «للوحي»، الذي يدل بدوره على أية وسيلة يتلقى بها الإنسان مباشرة اتصالا من العالم الخارق للطبيعة. وقد يكون هذا المصدر كتابا (كالكتب المقدسة)، أو أحاديث نبوية، أو تجارب صفوية من نوع ما. ومع ذلك فلا بد أن يكون الوسيط المباشر للوحي إنسانا ما، ولكن قدرته على أن يكون حلقة اتصال بين الله والناس العاديين تؤخذ بدورها على أنها موضوع للإيمان.
ومن الصحيح بالطبع أن المفكر الديني يستخدم المنطق والعقل، ويحرز في ذلك نتائج رائعة، عند شرحه لتفاصيل هيكل التفكير الديني، غير أن المنطق والعقل يستخدمان هنا لإضافة أدلة عقلية إلى ما يقبله هو، مع سائر المؤمنين. على أساس الإيمان. وفي معظم حالات التفكير الديني، نجد أنه إذا ظهر تعارض أو تناقض بين وحي «الإيمان» وثمار «العقل»، فإن الأخيرة تخضع للأولى، وتخلي استنتاجات العقل مكانا لمشاعر الرضا التي يستطيع الإيمان بعثها فينا. أما في الفلسفة فإن للعقل والمنطق دورا رئيسيا. فالفيلسوف على استعداد تام (بل هو حريص كل الحرص) على صياغة نظرة إلى العالم ترضي مطالب الرأس والقلب معا، أما إذا لم يكن هناك مفر من التضحية بأحدهما، فهو في الأغلب يضحي بأشواق القلب.
الفلسفة والعقل : كل هذا يعني أن الميل الطاغي للفيلسوف إنما هو الميل إلى المعرفة، مهما يكن الثمن: فإذا ما أدى بحثه وراء المعرفة والفهم إلى تفسير للتجربة يوازي تفسير معظم الأديان، كان ذلك أفضل. أما إذا أدى استدلاله بمنطق محكم إلى نظرة للعالم لا تكون لحياتنا فيها من غاية أو قيمة إلا ما نستطيع تحقيقه بجهودنا الخاصة في عالم غير شاعر بوجودنا ولا مكترث بسعادتنا، فليكن الأمر كذلك. أي إن الفيلسوف يبذل كل جهد للسير وراء العقل إلى أية نتيجة يؤدي إليها. وهو يسعى، بقدر ما في البشر من طاقة، إلى مجاراة العالم وتجاهل نزوعه الانفعالي خلال بحثه عن الحقيقة. وفي ذلك يقول برتراند راسل: «إن لب النظرة العلمية هو رفض النظر إلى رغباتنا وأذواقنا واهتماماتنا على أنها تمدنا بمفتاح فهم العالم».
1
وبينما الفيلسوف لا يحقق دائما هذا المثل الأعلى الصارم بنفس الكمال الذي يتعين على العالم أن يحققه به، فإن تفانيه من أجله، بوصفه مثلا أعلى، يفيد في التمييز بين نشاطه وبين نشاط المفكر الديني.
ويذكر مؤلف الكتاب أنه سمع ذات مرة سيدة متقدمة في السن طيبة النوايا، تسأل فيلسوفا صارم الذهن: «ولكن ألا تستطيع أن تقنع نفسك عقليا بمثل هذا الإيمان؟» فكان جوابه الفوري: «أليس ما تعنينه هو: ألا أستطيع أن أبرر لنفسي
2
هذا الإيمان؟» وهو يعني بذلك عمل نفس الشيء الذي يحرص العالم والفيلسوف معا كل الحرص على تجنبه - ألا وهو ترك انفعالاته، ورغبته البشرية الطبيعية في العيش في عالم ملائم لنا ولغاياتنا، تؤثر في النتائج التي يتجه إليها استدلاله. فمهما تكن ضروب الإرضاء الأخرى التي قد تتيحها الحياة للفيلسوف، فلا بد له من أن يكتسب الرضا العقلي قبل كل ما عداه. وبينما بعض الأشخاص يرون أن أي مفكر يضع رضاء العقل في مرتبة أعلى من رضاء القلب، لا يكاد يكون بشرا، فإن الفيلسوف يرى أن أي موقف مخالف لذلك لا يمكن أن يكون جديرا بكائن مفكر.
وهناك مشهد معين في إحدى التراجيديات اليونانية القديمة، يمكن أن يبصرنا بطبيعة هذا المسعى الفلسفي. في هذا المشهد يعود أجاكس، وهو أحد أبطال الجيش اليوناني في حربه الطويلة ضد الطرواديين، ولكنه بطل يتسم بشيء من الغباء، يعود إلى داره بعد سقوط طروادة، وهو يتيه فخرا وخيلاء بفتوحاته في ساحة الوغى. وفي آخر الأمر، تشعر آلهة الأولمب المتسامحة ذاتها بالسأم من غروره، وتدبر له عقابا مناسبا؛ ففي ذات يوم تسلبه الآلهة عقله حيث يضطر إلى مهاجمة قطيع من الغنم، وذبح الكثير منها متوهما أنه ما زال يقاتل أهل طروادة. وعندما يستعيد رشده، يكون قد أصبح موضع سخرية اليونان بأسرها؛ فها هو ذا أجاكس، المحارب المغوار، يقضي وقته الآن في ذبح الغنم! على أن مثل هذه السخرية أمر لا يحتمل في نظر شخص لديه دوافع أنانية قوية كهذا البطل السابق؛ لذلك قرر أجاكس، بعد إمعان الفكر في موقفه، أن يعمد إلى الانتحار - وهو الحل التقليدي لمثل هذه المشكلة. فأخذ يشحذ سيفه الذي أصبح الآن مدنسا، ثم تريث لحظة أخيرة محاولا أن يفهم ما الذي حدث له بحيث جعل مكانته كبطل تنحط إلى هذا الحد المؤسف. وقبل أن يغمد سلاحه في نفسه يهتف صارخا للآلهة المنتقمة: «النور! النور! يا ليتني أموت فيه!» في هذه اللحظة الأخيرة من حياة أجاكس، ارتفع إلى المستوى الذي يحاول الفيلسوف أن يعيش فيه في كل الأوقات: فالشوق إلى المعرفة قد سما فوق كل شوق آخر، وهو قد رأى أن الموت يغدو أقل مرارة وإذلالا لو أمكن أن يقترن بالفهم.
التضاد مع الموقف الديني : ليس في وسع الدين أن يقدم نظيرا لهذا الموقف الفلسفي. فالهدف الأول لكل عقيدة تقريبا هو إعطاء أتباعها إحساسا بالسلام والانسجام. وأفضل وسيلة تحقق بها هذا الهدف هي أن تفترض عالما يكون فيه للفرد قيمة وغاية، ويكون فيه لحياته معنى لشيء أو لشخص غيره هو ذاته وغير المقربين إليه. فإذا لم يستطع رجل الدين أن يجد أسبابا عقلية لهذا الاعتقاد، فإنه يجعل العقل خاضعا، ويهيب بالإيمان أن يمده بالاقتناع الذي يفتقر إليه. وعلى قدر ما يطلب الفيلسوف رضا عقليا، يطلب الشخص المتدين رضا انفعاليا. وكل نوع من الذهنين تتملكه الحيرة عادة حين يجد الآخر قانعا بهذا المستوى في الرضا، وكل منهما يجد في الطرف الآخر، في أغلب الأحيان، شخصا ينظر إليه شذرا.
الاختلاف الثالث: المسلمات المبدئية
والعامل التالي الذي يفيد في التفرقة بين هذين الميدانين الكبيرين يتبع العاملين اللذين أوضحناهما عن كثب. هذا العامل هو درجة التسليم التي يأخذ بها كل منهما قبل بدء عملياته العقلية. وهذا يشمل المسلمات والمصادرات وشتى أنواع الأفكار المفترضة.
ففي الفلسفة مثلا يبذل جهد كبير لتجنب التسليم مقدما بأي شيء ما لم يكن ضروريا ضرورة مطلقة، بل إن الفيلسوف يبذل جهدا أعظم للاحتراس من المسلمات الخفية أو اللاواعية. ويشعر الفيلسوف بأن وجود مسلمات غير معترف بها هو إحدى العقبات الكبرى في وجه التفكير الواضح؛ ومن ثم فهو يسعى على الدوام إلى تطهير فكره من أي أثر لها.
مشكلة الله بوصفها مثلا : فلنضرب لذلك مثلا من التضاد بين موقفي كل من الميدانين من مشكلة الله. فاللاهوتي قد يخصص مجلدات لمناقشة طبيعة الله - وعلاقاته بالكون والنفس البشرية الفردية ... إلخ. ولكن مهما طالت مناقشته، ومهما تكن دقة تحليله لفكرة الله، فإن هذا كله يرتكز على أساس افتراض أن الله موجود. وحتى عندما يشتمل التحليل اللاهوتي على ما يسمى بأدلة عقلية على وجود الله، فإننا نجد دائما اقتناعا انفعاليا بهذا الوجود، هو أهم بكثير من أي إثبات مبرهن عليه عقليا. فهناك شيء واحد مؤكد على الأقل في نظر المفكر الديني، مهما تكن الصفات الإيجابية أو السلبية لله، وسواء أكان مشخصا أم غير مشخص، وأيا ما كان دوره في أمور البشر: هذا الشيء المؤكد هو أن الله موجود. فهو يوجد على نحو ما، وفي مقر ما
3
ومعظم اللاهوتيين يعترفون صراحة بأن الله، هو المسلمة الكامنة من وراء كل تفكير لهم. أما المؤمن العادي فقلما يكون شاعرا بأنه يأخذ وجود الله، دون أن يشعر، قضية مسلما بها في أي تفكير يقوم به حول هذا الموضوع. وبالاختصار، فبينما اللاهوتي يعترف عادة بمسلمته الأساسية فإن الذهن المتدين الأقل ثقافة نادرا ما يعترف بذلك.
موقف التجرد في الفلسفة : يتميز موقف الفيلسوف، على خلاف موقف التفكير الديني بمستوييه السالفي الذكر، بأنه موقف تجرد ونظر خالص. فهو يرى أن مسألة الله بأسرها، من حيث وجوده، ومن حيث طبيعته معا، هي مسألة مفتوحة تماما. فالفلسفة لا تعرف «أمورا مقدسة» لا يمكن الاقتراب منها. والمفكر الميتافيزيقي لا يشعر عند معالجته لمفهوم الكائن الأسمى بخشوع يزيد على ما يشعر به إزاء أية مسألة أخرى من تلك المسائل القصوى التي يحار لها ذهن الإنسان . وإن من أول ما يتعلمه دارس الفلسفة، أن نفس وجود ميدان الفلسفة هذا - بوصفه نشاطا عقليا له دلالته - يتوقف على حقنا في مناقشة أية فكرة، أو أي تصور، أو قيمة، أو قانون، أو نشاط، أو نظام داخل في نطاق التجربة البشرية. وكما يقال أحيانا على سبيل المزاح، فحتى الله نفسه ينبغي «أن يقدم أوراق اعتماده أمام مدخل مدرج الفلسفة.»
هذا الموقف النظري المتجرد الذي تقفه الفلسفة، يجعل النتائج التي يصل إليها الفيلسوف أقل تعرضا للاشتمال على مسلمات خفية. فهو يختبر تفكيره ويعيد اختباره مرارا، لكي يتأكد من عدم تسلل أية مصادر لم يعترف بها، أو أي افتراض سابق، في لحظة لم يأخذ فيها حذره. والحالة المثلى هي تلك التي يبدأ فيها تفكيره دون أية مسلمات فيما عدا ما هو ضروري تماما لمزاولة هذا النشاط الفكري. وهو يتمنى لو أمكن إنقاص هذه المسلمات إلى اثنتين أو ثلاث، كوجوده الخاص مثلا، ووجود العالم الخارجي ووجود نوع من علاقة المعرفة أو التجربة بينهما. وبينما أنه من المشكوك فيه أن يستطيع كل فيلسوف أن يدعي صادقا أن عتاده العقلي قد أنقص في الأصل إلى هذه العناصر التي لا تقبل مزيدا من النقصان، فإنه يدعي عادة أنه بذل جهدا واعيا للكشف عن جميع المسلمات - وضمنها تلك المسلمات التي لا غناء عنها كهذه التي تحدثنا عنها.
الفلسفة وحقائق الدين «الواضحة بذاتها» : ينطبق ما قلناه عن فكرة الله على جميع المصادرات الأخرى التي يبنى عليها أي مذهب في الفكر الديني. فكثير من الأديان، مثلا، تبدأ بناءها اللاهوتي بمجموعة معينة من «الحقائق الواضحة بذاتها». هذه الحقائق لا تتعلق عادة بوجود الله وحده، وإنما تتعلق أيضا بقدرته الشاملة، وعلمه المحيط، وحضوره في كل شيء، وخيره المطلق، ودوره بوصفه خالق الكون ... إلخ. وقد تبدو القضايا الإيجابية المتعلقة بهذه المسلمات كلها، في نظر المؤمن، أوضح في حقيقتها من أن تحتاج إلى برهان، فهي تبدو «واضحة بذاتها». ولكنها لا تبدو كذلك في نظر الفيلسوف. فكلمة «واضح بذاته» تمثل تحديا له. وبمجرد أن يرى هذا اللفظ أو يسمعه، نراه ميالا إلى أن يقول: «قف عندك! إن «الواضح بذاته» ليس بالصفة التي يمكن إطلاقها بمثل هذه السهولة. فما الذي تعنيه بها حقيقة وفي نظر من تكون قضيتك واضحة الصحة إلى حد لا تحتاج معه إلى دليل؟» ويلي ذلك عادة مقارنة بين القضية موضوع البحث وبين بعض الأمثلة الكلاسيكية للوضوح الذاتي، كتلك التي تتمثل في البديهيات الكامنة من وراء هندسة إقليدس. ومن هذه النقطة تنتقل المناقشة بالطبع إلى بحث كذلك الذي يقوم به الرياضيون المحدثون أحيانا، حول الوضوح الذاتي لهذه الأمثلة الكلاسيكية ذاتها. وقد يؤدي ذلك منطقيا إلى تحليل لمفهوم الوضوح الذاتي بأسره، وأهميته بوصفه مصدرا للمعرفة، وعلاقته بمشكلة البرهان، وما شابه ذلك. ولكن المفكر الديني يكون خلال هذا الوقت قد انتقل دون شك إلى ما يعتقد أنه بحث فكري أعظم جدوى، مقتنعا بأن هناك من الأفراد الذين سيقبلون قضاياه «الواضحة بذاتها» على أنها واضحة بذاتها حقا، ما يكفي لجعل حديثه إليهم ممكنا.
الاختلاف الرابع: الأهداف
والفارق الرئيسي الأخير بين الفلسفة والدين يكمن في هدفهما أو غايتهما القصوى. وهذا يؤثر بطبيعة الحال في الموقف العقلي الذي يبدأ به نشاط من يمارسونهما كما يؤثر في المناهج التي يستخدمونها. ولقد ذكرنا من قبل أن أول شوق للفيلسوف هو شوقه إلى المعرفة، دون أن يهتم إلا قليلا بالثمن الذي يكلفه بلوغ هذه المعرفة، ودون أن يهتم إلا أقل من ذلك بانسجامها أو عدم انسجامها مع آماله وأمانيه البشرية المتأصلة فيه بعمق. ومن جهة أخرى فقد رأينا أن الهدف الأول للدين هو إعطاء إحساس بالأمان والطمأنينة «لا يستطيع العالم أن يعطيه إيانا أو ينتزعه منا». وهكذا يتضح لنا أن للدين هدفا عمليا أكثر من الفلسفة - وذلك على الأقل من وجهة النظر المباشرة. كذلك يتضح أن الدين يكون على الأرجح أهم في حياة عدد من الناس يزيد كثيرا على أولئك الذين يمكن أن تمسهم الفلسفة ولو من بعيد. وبطبيعة الحال فإن من يكرسون حياتهم للعمل الفلسفي يسارعون دائما بتأكيد أن الدافع إلى المعرفة لا يقل تأصلا في الإنسان عن الرغبة في الأمان والطمأنينة الروحية. ولكن على الرغم من أن الدافعين قد يكونان سواء في أهميتهما، فإنه لا يترتب على ذلك القول بأنهما موجودان بنفس القوة لدى الناس جميعا. فمعظم الأشخاص يرون أن الوعد الذي يقدمه إليهم الدين أقوى جاذبية بكثير. وهم يشعرون بضرورة حصولهم على ضمان بأن الحياة جديرة بأن تعاش، ويؤمنون بأن الدين قادر على أن يعطيهم هذا الضمان على نحو أيسر مما تقدر عليه منافسة الدين (أي الفلسفة). ذلك لأن الفلسفة لو استطاعت تقديم مثل هذا الضمان، فإن ذلك لا يكون عادة إلا بعد تفكير طويل مضن.
وباختصار، فعلى الرغم من أن الفيلسوف قد ينتفع من أنظاره الميتافيزيقية في صياغة فلسفة للحياة تصلح للتطبيق عمليا (وبذلك يحقق نفس النتيجة «العملية» التي يحققها رجل الدين)، فإن معظم الناس يدركون أن الفلسفة تهتم بالنظر أكثر مما تهتم بالعمل. وهم يعتقدون أن الفيلسوف سيواصل تأملاته بنفس الإصرار سواء أدت إلى نتائج عملية - أو إلى «أية» نتائج - أو لم تؤد إليها. أما المفكر الديني، حتى إذا كان تفكيره يكتسب طابعا لاهوتيا تجريديا في بعض الأحيان، فإن هدفه الأول يظل دائما إيجاد الأساس العقلي لنشاط عملي إلى أبعد حد: هو بلوغ سلام الروح وطمأنينة القلب. (3) الفلسفة والعلم
كانت علاقات الفلسفة بجارها الآخر الكبير أكثر توافقا وتعاونا، في عمومها، من علاقتها بالدين. فعلى الرغم من الاتهامات المتبادلة والمناقشات العائلية المعتدلة التي كانت تحدث من آن لآخر، فقد عاشت الفلسفة والعلم معا كما تعيش الأم مع ابنها الذكي. وقد ارتكب كل منهما خطأ التعصب الجامد في اللحظات التي لم يكن منتبها فيها، كما كان العلم يعيب على الفلسفة أحيانا كما يفعل كل الأبناء - أنها أم متمسكة بأساليب وأفكار عفى عليها الزمان، أو تتدخل في الحياة المستقلة لجيل أصغر من جيلها. ومن جهة أخرى فقد كان رد الفلسفة هو انتقادها لكثير من المسلمات والأدوات العقلية التي يستخدمها العلم. كما أنها أبدت قلقا ملحوظا من أن يرتكب ابنها، في لحظة طيش، خطأ «رمى الطفل الوليد مع ماء المستحم»
4
وذلك بأن ينظر إلى أوجه التجربة البشرية التي لا يمكن دراستها في المعمل على أنها غير ذات جدوى (بل غير حقيقية). ومع ذلك فقد كانت العلاقة بين الاثنين، عموما، علاقة احترام متبادل. وقد ازداد ذلك ظهورا منذ رد الفعل على المثالية الألمانية المطلقة، عندما اضطرت الفلسفة ذاتها إلى الاعتراف بخطأ محاولة الإغراق في النظر الميتافيزيقي على نحو مستقل عن العلم. ولما كانت الأم قد اعترفت بأي خطأ سابق ارتكبته في هذه المسألة، فإن الابن قد استعاد الاحترام الذي فقده مؤقتا. وأصبح الوضع الحالي هو أنه، مع اضطرار الفلسفة إلى أن تعتمد على ابنها، وهو العلم، اعتمادا كبيرا في معيشتها، فإن إخلاصه لها قد بلغ حدا جعله لا يشكو منها - على شرط أن تعترف بالطبع بمصدر دخلها، وألا تحاول أن تتجاوزه في الإنفاق على نفسها، بأن تنسب إلى النظريات غير المبرهن عليها، أو للأنظار الفلسفية الخاصة، سلطة علمية.
العلاقة المزدوجة بين الميدانين : يمكننا أن نصف العلاقة بين الميدانين - بلغة أدق - بأنها علاقة مزدوجة. فقد تحدثنا في الفصل الافتتاحي عن النشاط المزدوج الذي تقوم به الفلسفة ككل، وأوضحنا أن عمل الفيلسوف قوامه التحليل والتركيب. ولقد أصبح الفارق بين هاتين الوظيفتين الفلسفيتين المتكاملتين أوضح ما يكون في علاقتهما بالعلم؛ إذ إن نمو العلم هو الذي قام بالدور الأكبر في ضمان السيطرة للنشاط التحليلي للفلسفة في السنوات الأخيرة. وفضلا عن ذلك، فإن هذا التحليل هو الذي يقرب الميدانين بقدر الإمكان، ويولد أكبر قدر من الاحترام المتبادل بينهما. ومع ذلك، فلما كانت الوظيفة التحليلية الأعمق هي في الوقت ذاته أكثر تخصصا وأبعد عن التجربة العقلية لمعظم الطلاب، فقد رأينا أن من الإحكام التأمل أولا في العمليات التركيبية للفلسفة. ولما كان هذا النشاط الفلسفي هو في الوقت ذاته الأقدم عهدا، فإننا حين نبدأ بحثنا به أنما نساير التاريخ العام للفكر. (4) العلم بوصفه تخصصا
في الوقت الذي بدأت فيه ما نسميها الآن «بالعلوم» تغادر لأول مرة بيت أمها الفلسفة وتكون لنفسها حياة خاصة بها، لم تكن التقسيمات المحددة المعالم، والقائمة الآن، قد عرفت بعد، بل إن لفظ «العلم» ذاته لم يكن موجودا، بل إن تلك الدراسات الغامضة التي كانت لا تزال في مهدها، كانت تجمع معا تحت لفظ «الفلسفة الطبيعية». وكان الرواد الأوائل في هذا الميدان أكثر انشغالا بمعالجة مشكلات محدودة، من أن يهتموا ببيان حدوده المنتظرة أو بإدراك أنه قد يحدث شقاق بين المطالبين بأجزاء معينة من الأرض الجديدة التي لم يكن قد تم مسحها. ولقد كان الموقف مشابها لموقف رواد الحدود الأمريكيين. إذ إن انشغال المستوطنين الأوائل بقطع أشجار فردية كان أعظم من أن يترك لهم مجالا للاهتمام بحجم الغابة، وكان الجزء الصغير من الأرض التي يطالبون بها لأنفسهم يشغلهم إلى حد لا يعبئون معه لو أن جارا لهم اجتث بعض الأشجار في الأجزاء الأبعد من ذلك. ولم تبدأ التقسيمات التي نعرفها الآن في الظهور إلا بعد أن أصبحت الأجزاء المتباينة لأرض العلم مطروقة ولو جزئيا. ولقد ظهرت عندئذ عدة خطوط تقسيم طبيعية، ولا سيما حول التمييز الشائع بين العلوم «الفيزيائية» و«البيولوجية». وفيما بعد، نمت العلوم الاجتماعية، وادعت لنفسها الحق في أن تطلق على نفسها اسم العلوم، بحيث إنه لا يوجد اليوم إلا القليل من أوجه النشاط البشري العقلي الذي لا يظهر فيه تأثير وجهة النظر العلمية، وربما طريقتها الأساسية في التنظيم.
ولقد أدى تقسيم «الفلسفة الطبيعية» إلى كثير من الميادين شبه المستقلة، إلى مكاسب كثيرة، وإلى بعض الخسائر. أما التقسيم ذاته فكان شيئا لا مفر منه. ففي أواخر القرن الخامس عشر، كان في استطاعة عبقرية شاملة مثل ليوناردو دافنشي أن يلم إلماما كافيا بكل علوم عصره، وأن يقوم ببحوث أصيلة في كثير منها. وحتى عند نهاية القرن الثامن عشر كان في استطاعة جوته أن يقوم ببحوث في كثير من العلوم غير المرتبطة، إلى جانب كونه سياسيا بارعا، وأعظم شعراء الأمة الألمانية. غير أن هذا النطاق العقلي أصبح اليوم مستحيلا من الوجهة العملية ؛ ذلك لأن كلا من أقسام العلوم، بل كثيرا من الأقسام الفرعية، قد أصبح من التعقيد والتفصيل إلى حد صار لا بد معه من قضاء سنوات من التحصيل من أجل استيعاب أي واحد منها. ولا بد، عادة، من أجل الإسهام بأي نصيب أصيل في الميدان، من احتفاظ المرء بوحدة الهدف طوال حياته، بالإضافة إلى قدر من التخصص لا يكاد يكون من الممكن أن يتصوره الأشخاص الخارجون عن نطاق المعمل. ففي العصور الحديثة أصبح التخصص هو القانون الأول للتقدم العلمي.
وحتى عندما يكون الهدف من بحث العالم هو الوصول إلى نوع من التعميم الشامل الذي يجمع بين نتائج بحوث كثير من الأذهان المختلفة في وحدة مركبة، فإنه يكاد يكون من المحتم أن تكون التجارب الفاصلة والأساليب الخاصة اللازمة لإثبات هذا التعميم الجديد، بمثابة انتباه شديد التركيز على مجالات في الطبيعة تتزايد ضيقا. والواقع أن التجربة الفاصلة التي تستخدم عادة في تحقيق أي فرض جديد، تمثل عادة طريفة في السيطرة والتحكم في عملية معينة، تتميز بأنها أكثر تخصصا وتفصيلا مما تم من قبل.
مثال من الفيزياء في أوائل عهدها : نستطيع أن نجد مثلا طيبا لهذا التخصص المركز في البحوث التي قام بها جاليليو وهو يضع أسس علم الديناميكا حوالي عام 1600م، فقد كان المعتقد قبل تجاربه أن كل الأجسام المادية تتميز بأنها خفيفة أو ثقيلة في ذاتها، وبأن سرعة ارتفاعها أو سقوطها تتوقف على وزنها الكامن، ما دام الافتراض السائد هو أن الأشياء «تبحث عن مقارها الطبيعية» بقوة تتناسب مع ما قد يكون فيها من خفة أو ثقل كامن.
5
ولكن جاليليو لم يكن ليقنع بهذه الفيزياء الأرسططالية الغامضة المضللة، وكان يبحث عن صياغة أدق لقوانين سقوط الأجسام (وهو التحديد الذي حاول الفلاسفة السابقون الوصول إليه)، وإنما تكتفي، بدلا من ذلك، بأن تعبر بدقة وإحكام عن طريقة سقوطها.
كان جاليليو يعلم أن الجسم الساقط يتحرك خلال المكان بسرعة تتزايد باطراد؛ ومن هنا فقد كانت المشكلة الحقيقية هي تحديد معدل هذه الزيادة، وخاصة بالنسبة إلى العوامل الأخرى المتضمنة في الموضوع. وبعد بداية باطلة (مبنية على فرض يؤمن به الذهن العادي، مؤداه أن السرعة تزيد بنسبة مسافة السقوط)، اهتدى إلى الفكرة القائلة إن السرعة تزيد مع زمن السقوط (لا مع مسافته). وكانت الخطوة التالية هي تلك التي تلي صياغة أي فرض علمي: وأعني بها استنباط النتائج التي يمكننا أن نتوقع أنها ستلزم لو كان الفرض صحيحا، ثم إجراء التجارب التي تعطينا نتائج محددة يمكن مقارنتها بتلك التي استنبطت من قبل (وتلك هي الخطوة الثالثة في التجريب العلمي). وسرعان ما اكتشف جاليليو أن التجارب المتعلقة بالأجسام التي تسقط سقوطا حرا هي تجارب لا جدوى منها، ما دامت السرعات أكبر من أن تقاس بالأدوات التي كانت موجودة عندئذ. وإذن فقد كان لا بد من نقص هذه السرعة إلى حد يتيح القياس الدقيق، وهنا كان من الطبيعي أن تطرأ على ذهنه فكرة الحركة على سطح مائل. ومع ذلك يبدو أن جاليليو أجرى حسابات وتجارب كثيرة ليقنع نفسه بأن قوانين سرعة الكرات التي تتدحرج أسفل منحدر هي نفسها سرعة الأجسام التي تسقط سقوطا حرا من نفس الارتفاع العمودي. وعندما اقتنع بهذا التماثل، كان في استطاعته أن يبدأ تجاربه دون تحفظات. وحينما قارن نتائجه بتلك التي استخلصت بالاستنباط من فرضه (القائل إن سرعة سقوط الجسم تتناسب مع زمن السقوط)، استطاع أن يثبت هذا الفرض.
ولقد كانت هذه التجارب الشهيرة نقطة بداية للمنهج العلمي الحديث، وهي قد حددت الاتجاه الذي سار فيه التجريب منذ ذلك الحين. والأهم من ذلك بالنسبة إلى هدفنا في هذا الفصل، هو أنها قد أوضحت أن جاليليو أدرك ما يعرفه كل عالم حديث، وأعني به ضرورة تركيز بحوثه بالاشتغال بطريقة مركزة في مشكلات خاصة محددة بدقة، بطريقة منهجية كاملة.
6
مثال من الفيزياء الحديثة : والمثل الثاني للعالم بوصفه أخصائيا يركز بحوثه في عمل خاص محدد بدقة، مستمد بدوره من مجال الفيزياء. وفي هذه المرة سننتقل إلى أعمال أقرب عهدا، تمت خلال فترة الأعوام الخمسين المنتهية سنة 1933م. أما القائم بالتجارب أ . أ. مايكلسون
A. A. Michelson
وهو من أعظم الثقات العالميين في علم البصريات والفيزياء الضوئية، وقد اشتهر بوجه خاص لاختراعه مقياس التداخل
Interferometer ، وجهوده في سبيل إثبات أو تفنيد وجود وسيط حامل للضوء كالأثير الذي افترضه بعض العلماء.
كان اهتمام مايكلسون الدائم مركزا في مشكلة التحديد الدقيق لسرعة الضوء، وقد كرست تجربتاه الأولى والأخيرة معا، وهما تجربتان يفصل بينهما ما يزيد على ربع قرن، لهذا الموضوع.
7
ونظرا إلى أن سرعة الضوء هي من أهم الثوابت الأساسية في الطبيعة، فقد ظل علماء الفيزياء طوال قرون عديدة يحاولون تحديد هذه السرعة بدقة. وقد أجري أول قياس في عام 1975م، ولكن عن طريق الملاحظات الفلكية وحدها، بحيث إن مشكلة إيجاد طريقة أرضية لتحديد أو زيادة دقة القياس الأصلي (وهو 186000 ميل في الثانية) ظلت قائمة. وقد اصطنع كثير من العلماء التجريبيين في القرن التاسع عشر أجهزة مؤلفة من مرايا دائرية ومصادر ضوئية متقطعة، غير أن تفاوت النتائج التي تراوحت بين 185,150 وبين 195,344 ميلا في الثانية دل على أن الحاجة إلى مناهج أدق ما زالت قائمة. وقد وضع مايكلسون في البداية تنظيما أفضل لهذا القياس عندما كان في الخامسة والعشرين من عمره فقط، وأتى برقم أدق إلى حد ما (وهو 186,508). وهو رقم كان يستطيع أن يضمن صحته في حدود 0,0001٪. ولكن المسافة التي كان يقوم فيها بقياسه كانت قصيرة نسبيا، شأنها شأن بقية التجارب التي أجريت حول هذا الموضوع في القرن التاسع عشر؛ إذ لم يكن يفصل بين المرآتين سوى 500 قدم.
وبعد مضي حوالي أربعين عاما، عاد مايكلسون إلى المشكلة، ولكنه أجرى بحوثه هذه المرة على نطاق أوسع بكثير. فقد كانت نقطتاه قمتي جبلين في كاليفورنيا الجنوبية يفصل بينهما اثنان وعشرون ميلا. وقد أسفرت المحاولات الخمس المنفصلة عن متوسط قريب جدا من رقمه الأول، غير أن الاختلاف بين النتائج المختلفة أدى به إلى زيادة المسافة أبعد حتى من ذلك، أملا في بلوغ مزيد من الدقة. وعلى ذلك فقد اختار قمتين يفصل بينهما اثنان وثمانون ميلا . ومع ذلك فقد كانت هناك صعوبة بدت ثانوية في المسافة الأقصر، ولكنها أصبحت شديدة الخطورة في مسافة الاثنين والثمانين ميلا، وهي الدخان والغبار الموجود في الجو؛ ومن هنا كان من الضروري التخلي عن التجربة.
وعندما كان مايكلسون في حوالي الثمانين من عمره، وفي صحة متدهورة عاد إلى المشكلة للمرة الأخيرة. وفي هذه الحالة تخلى عن طريقة المسافة الطويلة، والتمس الدقة الشديدة بإجراء التجربة في فراغ. فقد صنع أنبوبة معدنية لا ينفذ إليها الهواء، طولها ميل وقطرها ثلاث أقدام، ووضع فيها مضخات خاصة تقوم بتفريغ هذا الوعاء الضخم. وظلت الأبحاث تدور حول هذا الجهاز لمدة ثلاثة أعوام (حتى بعد وفاة مايكلسون في عام 1931م)، وكان متوسط عدد مرات القياس، التي بلغت 2885 مرة، هو 186,264 ميلا في الثانية. ومن المتفق عليه عامة بين علماء الفيزياء أن «هذا الرقم سيظل قائما، على الأرجح، طوال سنوات عديدة، بوصفه واحدا من أدق الثوابت في العلم الفيزيائي.»
8
هذا المثال ينطوي على شيء يهمنا في غرضنا الحالي: هو الطريقة التي التمس بها مزيد من طريق اتباع أساليب متباينة، وأخيرا عن طريق استبعاد ما كان يعد من قبل عاملا لا يمكن التحكم فيه، وهو حالة الجو، بل إن الأهم من ذلك أن نلاحظ أنه، على الرغم من أن موضوع البحث كان هو الوصول إلى ثابت يكون مقياسا أساسيا بالنسبة إلى العلم الطبيعي بأسره، فإن المشكلة الفعلية المتعلقة بتحديد هذا الثابت كانت مشكلة محدودة ومتخصصة إلى أبعد حد، وهي مشكلة كان من الضروري فيها تجاهل الاهتمامات الجزئية لمختلف العلوم الخاصة المتعلقة بالموضوع. وبينما أن للفلسفة بدورها مشكلاتها الفنية، التي يتعين لحلها كذلك تجاهل الاهتمامات العامة للميدان، فإن هذا التركيز المتخصص على مشكلة محددة بدقة يميز العلم أكثر مما يميز الفلسفة بكثير. ذلك لأن الفيلسوف، كما سنرى بعد قليل، كان دائما معنيا بالمشكلات العامة والمسائل الشاملة، وفي سبيل بلوغ هذه الغايات الأعم كان لا بد من التغاضي عن المسائل الجزئية أو المشكلات الفنية المحدودة.
أضرار التخصص : هذا التخصص المفرط، المطلوب من معظم المشتغلين بالعلم، قد أدى بطبيعة الحال إلى إغراء العالم على تجاهل كثير من الاهتمامات العملية وأوجه النشاط الاجتماعية. وفضلا عن ذلك، فقد أدى هذا التخصص إلى الحد بشكل واضح من الوقت والطاقة والتفكير الذي يستطيع العالم أن يكرسه لمتابعة التطورات التي تحدث في مجالات النشاط العلمي الأخرى المختلفة عن مجاله الخاص. وحتى في الحالات التي تكون فيها هذه المجالات قريبة من المجال الذي يشتغل فيه العالم أو تكون فروعا تصادف أن له اهتماما أصيلا بها، فإن هذا القيد يظل أمرا لا مفر منه. ويبدو أن التخصص، والمزيد من التخصص، هو الثمن الذي يتعين على أغلبية المشتغلين بالعلم أن يدفعوه من أجل النجاح في ميادينهم المختارة. وبينما توجد أقسام مختلطة، كالفيزياء الفلكية، والفيزياء النفسية، والكيمياء الحيوية، فإن هذه الاستثناءات التي يبدو أنها تخرج عن الاتجاه نحو التخصص، لا تنطوي عادة إلا على قدر أعظم من التركيز داخل ميدان أوسع قليلا، لا على أي مركب عام من الميدانين موضوع البحث. فالمشتغلون بأي ميدان من هذه الميادين المختلطة يقضون معظم أوقاتهم في معالجة مشكلات محدودة تقتضي تخصصا سابقا، ولا بد أن يكونوا مقيدين، خارج نطاق الميدانين المتضمنين، مثلما تقيد أية جماعة أخرى من المشتغلين بالعلم. والواقع أن التعبير الشعبي الساخر، القائل إن العلم هو عملية معرفة المزيد والمزيد عن الأقل والأقل، هو قول ينطوي على قدر كبير من الصحة.
ولقد أصبح من الشائع في السنوات الأخيرة، أن نجد أصحاب النزعات الإنشائية، وأنصار التعليم المتحرر، والمفكرين المتعمقين بوجه عام، ينددون بهذا التخصص على أساس أنه يهدد كثيرا من القيم التي خلقتها المدنية، بل إن بعض المفكرين، وضمنهم بعض العلماء، يرون فيه تهديدا ممكنا للمدنية ذاتها. وهناك أسباب متعددة تساق تبريرا لهذه المخاوف. فهناك أولا الحقيقة القائلة إن التخصص المفرط يخلق شخصيات أقل من أن تكون شخصيات أناس كاملين. فالعملية التعليمية اللازمة لإنتاج متخصصين علميين ليست بالضرورة عملية تشجع على تكوين أفراد متعلمين تعليما واسع النطاق وملمين من كل شيء بطرف. ونتيجة لذلك كان الأصح أن يقال عن العالم أو الفني إنه «يدرب»، ولا «يتعلم»، بمعنى أنه لا يعد للحياة في العالم الحديث المعقد، ولا سيما عالم الناس ومشكلاتهم الاجتماعية. ونظرا إلى أن هؤلاء العلماء والفنيين قد قدر لهم، على ما يبدو، أن يقوموا بدور متزايد الأهمية في الحياة القومية (والدولية)، فإن ضيق تكوينهم وأفقهم يشكل خطرا مضافا على مدنيتنا بأسرها.
وهناك خطر ثان يتمثل في الميل الطبيعي لدى كثير من العلماء إلى الاعتقاد بأن كل المشكلات الإنسانية يمكن أن تحل بنفس المناهج التي يجدونها مثمرة في ميادينهم. وليس معنى ذلك أن كل العلماء ماديون وآليون، يسعون إلى رد كل حادث في الكون (بما في ذلك أوجه نشاط الإنسان) إلى عوامل فيزيائية كيموية، بل إن المقصود، على الأصح، هو أن العالم المتخصص يميل في كثير من الأحيان إلى الاعتقاد بأن زيادة المعرفة تؤدي بطريقة آلية إلى حل الخلافات وتسوية المنازعات. وهذا يصدق إلى حد بعيد على العلوم المختلفة، ما دامت المنازعات في هذه الحالة تنشأ، في الأغلب، من عدم كفاية المعرفة، مما يتيح للفروض المتضادة والنظريات غير المحققة التصارع بعضها مع بعض فيما يعد في الواقع فراغا معرفيا. ومع ذلك، فإن تزايد المعرفة لا يسهم إلا بدور ضئيل جدا في تيسير اتخاذنا للقرارات في ذلك المجال الواسع الذي يعيش فيه معظم الناس أغلب الوقت؛ أعني في مجال التقويم واتخاذ القرارات، بل إن نمو المعرفة قد يؤدي في الواقع إلى زيادة صعوبة اتخاذ القرارات؛ إذ إننا نواجه في هذه الحالة عددا أكبر من الحلول التي يتعين علينا الاختيار بينها، أو نزداد شعورا بالتفريعات والتعقيدات التي ينطوي عليها كل قرار. وباختصار، فإن من الأخطار التي يولدها التخصص العلمي لدى المشتغلين بالعلم، سذاجة تفكيرهم في المجالات الأخرى غير العلمية، ولا سيما تلك المجالات التي تقتضي عملا اجتماعيا وقرارات أخلاقية سياسية.
وأخيرا هناك خطر آخر هو أن التخصص العلمي قد يخلق شخصيات لا تكترث أو لا تشعر بالبشر وأحاسيسهم. وكثيرا ما يوصف عدم الشعور هذا بعبارة «معاملة الناس وكأنهم آلات»، أو «النظر إلى الناس كما لو كانوا موضوعات فيزيائية فحسب». ولا جدال في أن الأنواع الأخرى من التخصص - بل التركيز المفرط على أي ميدان في الواقع - قد تؤدي إلى تبلد الشعور هذا إزاء البشر وحاجتهم الانفعالية. ولكنه عندما يحدث عند العالم يكون أمرا ملحوظا إلى أبعد حد؛ إذ إن المشتغلين بالعلم من حيث هم فئة، هم بالتأكيد أناس أذكياء ذوو نوايا طيبة. ولكن من سوء الحظ أن تدريبهم، مع استغلاله لذكائهم استغلالا كاملا، قد يبعث البلادة في حساسيتهم الاجتماعية الطبيعية. (5) الفلسفة بوصفها تعميما
إذا كانت العبارة القائلة إن العلم هو عملية تعلم الأكثر والأكثر عن الأقل والأقل هي عبارة تنطوي على قدر كبير من الصحة، فإن العبارة العكسية، القائلة إن الفلسفة هي عملية تعلم الأقل والأقل عن الأكثر والأكثر، هي من نواح متعددة أصح حتى من السابقة. فبينما العلم يسير في طريقه بالتحليل الذي تتزايد تفاصيله، فإن ماهية الفلسفة كانت تعد، تقليديا، مركبا يتزايد شموله على الدوام. والمثل الأعلى للفيلسوف هو شخص يتجنب التخصص في اهتماماته وتكوينه بقدر ما يحرص عليه العالم، فاتساع نطاق الاهتمام يكاد يكون مرادفا للموقف الفلسفي. ومن أهم الشروط الضرورية لكي يكون النظر الميتافيزيقي مثمرا، أن يكون نطاق النشاط العقلي للذهن غير محدود، ومجال معرفته شاملا بالقدر الذي تسمح به حدود الحياة البشرة. ومن جهة أخرى فإن مثل هذا الاتساع في نطاق الاهتمام يعد أمرا ضارا من وجهة نظر العلم؛ لأنه قد يصرف انتباه العالم عن التركيز في مشكلات محددة.
الفلسفة بوصفها مكملة للعلم : وهكذا يتضح أن العلاقة الأساسية بين العلم والفلسفة هي علاقة التكامل. ولو تحدثنا من وجهة نظر الفيلسوف، لقلنا إن من أهم الوظائف التي يؤديها في العالم العقلي، تعويض الاتجاه التخصصي للعالم بنوع من المعرفة يبلغ من الاتساع قدر ما تبلغه معرفة العالم من الضيق. وهكذا فإن كلا من الميدانين يقدم إلى العالم العقلي في عمومه عين ما يفتقر إليه الميدان الآخر. ولو شئنا المزيد من الدقة لقلنا إن الفيلسوف يشغل مركز جهاز الاستقبال العقلي لكل نتائج العلوم المتعددة . فمن أهم وظائفه في المجتمع الحديث، تجميع كل الوقائع والآراء التي يمكن أن يكتشفها العاملون في مختلف الميادين، دون أن يكون لديهم الوقت الكافي (وربما دون أن يكون لديهم الاهتمام اللازم) للجمع بينها في نسق منظم، بل إن الفيلسوف لا يقتصر على تجميع هذه المعرفة فحسب، وإنما نستطيع التعبير عن مهمته بمجاز آخر، فنقول إنه أشبه بمن يعشق لعبة القطع الخشبية إلى حد الإدمان، بمجاز آخر، فنقول إنه أشبه بمن يعشق لعبة القطع الخشبية إلى حد الإدمان، بحيث لا يكتفي أبدا بجمع قطع متعددة فحسب، وإنما يريد تركيبها معا، وذلك من جهة لإرضاء نزعته إلى تحقيق شيء ما، ومن جهة أخرى لكي يرى ما نوع النموذج أو الصورة التي ستكونها القطع، وهذا هو الأهم. فالعلم يكتفي بأن يقتطع أجزاء الصورة الكاملة (أو في حالات أكثر، يضطره ضيق الوقت وقلة الطاقة إلى ذلك)، وأقصى ما يفعله هو أن يجمع البعض القليل منها لكي يكون جزءا فحسب من الصورة في أحد الأركان الصغيرة داخل الكل. أما الفيلسوف فيهتم بالكل أكثر مما يهتم بالأجزاء. وهو يتوق إلى تكوين الصورة الكاملة، إلى حد أنه قد يعمل على سد الثغرات التي لم يتمكن العلم من ملئها بعد، وبذلك يحاول، عن طريق الافتراض والاستدلال والتضمين، أن يصوغ صورة أكمل «لطبيعة الأشياء».
موقف العالم من التعميمات النظرية : قد يبدي العالم الحذر أحيانا - كما هو متوقع - قلقه من هذا الميل الشديد إلى إكمال الأجزاء الناقصة، وهو الميل الذي يتميز به المتأمل الميتافيزيقي النظري؛ ذلك لأنه بينما العالم يعترف بحق الفلسفة في صياغة صورة كاملة مؤقتة، فإنه يخشى ألا يحدد لنا المتأمل النظري بوضوح - في غمرة حماسته - أين تنتهي الوقائع الصلبة، وأين تبدأ الأجزاء غير المؤكدة، المؤلفة من نظريات لم يتم تحقيقها. وهو ينبه إلى أن تاريخ الفكر يقدم إلينا أمثلة متعددة لفلاسفة ركبوا صورا كان معظمها مؤلفا من أجزاء نظرية خالصة، دون وقائع علمية صلبة إلا ما يكفي لجعل الصورة الكاملة تبدو جديرة بالتقدير والتصديق في نظر أولئك الذين لا تكفي حاستهم النقدية لإدراك الخدعة الذكية - والتي هي في الوقت ذاته خدعة صدرت بنية طيبة - المتضمنة في عمل الفيلسوف. ثم يشير العالم إلى ميل الأذهان غير النقدية إلى أن تصدق أن وجود بعض الأجزاء المستمدة من العلم في الصورة، معناه أن الصورة بأكملها تستند إلى تأييد السلطة العلمية. مثل هذا الخطأ يبعث القلق، بطبيعة الحال، في نفس المشتغل بالعلم. وهو قد أدى به عادة إلى تجنب كل المذاهب الميتافيزيقية؛ إذ إن تفنيد هذه المذاهب يؤدي إلى إلقاء ظل من الشك الذي لا مبرر له على جهوده العقلية الخاصة، وعلى نزاهته العلمية.
ولو كان الخطأ في هذه المسألة هو خطأ الجمهور وحده، حين يعجز عن التمييز بوضوح بين الواقع العلمي والتفسيرات الفلسفية، لكان العالم أكثر تعاطفا مع الفيلسوف التأملي. غير أن الذهن العلمي يشك في أن الخطأ ليس خطأ الجمهور بقدر ما هو خطأ الفيلسوف ذاته. ففي بعض الأحيان كان الفيلسوف هو الذي أخفق في الاحتفاظ بالتميز واضحا في ذهنه هو - لا لأنه يفتقر إلى الأمانة العقلية، بالطبع، وإنما نتيجة لشيء أصعب كشفا بكثير، وأخطر من الوجهة الفلسفية؛ ذلك لأن أفضل الفلاسفة يظل مع ذلك بشرا؛ وبالتالي يظل معرضا للميل البشري الطاغي إلى أن يضفي على كل شيء معاني تؤيد مذهبه. وحتى لو ظل يمارس التفكير الدقيق طوال حياته، لما استطاعت ممارسته هذه في كل الأحوال أن تمحو كل أثر للتفكير المغرض من التأمل الفلسفي النظري. (6) العلم يكتشف، والفلسفة تفسر
يوحي الكثير مما قلناه حتى هذه النقطة بأن المثل الأعلى للفيلسوف ينبغي أن يكون شخصا مزودا بمعرفة خبيرة في كل من العلوم. فتبعا لهذا الرأي يكون ذلك الفيلسوف، قبل كل شيء، عالما أعلى
Superscientist ، يحتاج إلى معرفة كل ما يعرفه العلماء جميعا، فضلا عن ضرورة وجود أساس متين من الفكر الفلسفي التقليدي لديه. ولكن من حسن الحظ أن مثل هذا التكوين الشامل ليس ضروريا للتفكير المثمر في هذا المجال الواقع على الحدود بين الميدانين؛ فمن الضروري أن يكون الفيلسوف ملما إلماما واسعا بمبادئ كل علم ونتائجه وأن تكون لديه معرفة جيدة بمنطق العلوم ومناهجها بوجه عام. ولكن ليس من الضروري أن يعرف الأساليب الفنية الخاصة المستخدمة في كل علم، أو أن يستوعب مجموعة المعلومات الهائلة التي تكدست لدى هذه العلوم. وباختصار فإن اهتمامه ينبغي أن ينصب على النتائج العامة، لا على المعلومات التفصيلية المؤدية إلى هذه النتائج، وعلى المبادئ الشاملة، لا على أساليب الاختبار المتخصصة. وبالإضافة إلى هذه المعلومات العامة، فإن مما يفيد الفيلسوف دائما أن يكون قد قام ببحوث في ظروف معملية في واحد من العلوم على الأقل، مثلما أن من المفيد (ولكن ليس من الضروري بصفة مطلقة) أن يكون الناقد الفني قد مارس عملا خلاقا في واحد من الفنون على الأقل. ومع ذلك فإن كل ما يستطيع المفكر النزيه أن يفعله إزاء العلوم في مجموعها هو، على أحسن الفروض، أن يجمع المزيد كلما قام الباحثون العلميون بحلب بقرة الطبيعة. ولكن، حتى على الرغم من هذا القيد، فليس من الأمور غير المألوفة أن نصادف فيلسوفا يتابع ما يحدث في فرع معين من فروع البحث العلمي على نحو أفضل مما يفعله كثير من المشتغلين في المعامل في ميادين قريبة من ذلك الفرع كل القرب أو وثيقة الصلة به.
ولا شك أن أية ادعاءات للفلسفة بأن لديها معرفة كاملة هي ادعاءات لم يعد لها مجال. فكل مفكر نظري تأملي قد أصبح يشعر شعورا كاملا بأنه، بالنسبة إلى العمل الفعلي للعلم، ليس إلا نحلة تمتص الرحيق. ومع ذلك فهناك مفكرون تقوم نظرياتهم وآراؤهم التعميمية الشاملة على معرفة بالبحث العلمي ومشكلاته ونتائجه تبلغ من العمق حدا يستحقون معه (وينالون في العادة) احترام نفس أولئك العلماء الذين هم الأكثر عداء للنشاط الفلسفي. ذلك لأن من الواضح أنه عندما يبنى رأي فلسفي على فهم دقيق لمعطيات العلوم المختلفة، وعندما يكون القائم بصياغة هذه النظرية قد ميز بوضوح تلك الوقائع وبين وسائله الخاصة التي يستخدمها ليجمع بينها في صورة محكمة (وهو أمر لا يقل أهمية عن الأول)، فإن النتيجة لا يمكن أن تكون شيئا يستطيع أن يعترض عليه أي عالم بطريقة مشروعة، مهما يكن من دقة حساسيته النقدية.
وهناك سبب آخر هام يؤدي عادة بالعالم إلى التردد في نقد عادة صياغة فروض تأملية شاملة: هو أن هذه الفروض العامة تقوم أحيانا بدور ملهم أو موجه في تطور أي علم، ولا سيما في مراحله الأولى. ولما كانت هذه الفروض تتجاوز عادة نطاق المعرفة الماضية والحاضرة، بل إنها قد تكون من النوع الذي يستحيل إجراء أية تجارب مباشرة عليه، فإن التأملات من هذا النوع عادة «فلسفية» لا «علمية»، حتى لو كان مضمونها قريبا كل القرب من مضمون علم معين.
وهناك عدة أمثلة مشهورة لقيام الفلسفة بهذا الدور الملهم بالنسبة إلى العلم - منها مثلا تلك المفاهيم الرياضية الآلية التي وضعها الفلاسفة في القرن السابع عشر. والتي ساعدت على التمهيد لعمل رجال مثل جاليليو، ونيوتن، وفي مجال العلم البيولوجي، ظهرت فكرة التطور وطبقت على التاريخ قبل وقت طويل من تطبيقها على البيولوجيا والجيولوجيا، بل إن العامل الأكبر على إحياء فرض التطور على مر القرون كان هو الأجيال المتعاقبة من الفلاسفة، على حين أن معظم علماء البيولوجيا ظلوا يرفضون الفكرة رفضا باتا حتى الوقت الذي نشرت فيه بحوث دارون العظيمة.
ولا شك أنه لا يوجد فيلسوف يزعم أن كل هذه النظرية الفلسفية التأملية أو حتى نسبة كبيرة منها، كانت مفيدة علميا. وقد أحسن جون ديوي التعبير عن هذه الحقيقة عندما قال إنه كان هناك إنتاج فائض من الفروض الفلسفية على الحدود البعيدة للمعرفة العلمية.
9
غير أن هذا الفائض أو الإنتاج الزائد قد أتاح لتقدم العلم مزيدا من المرونة وحرية الحركة. فمن الثابت تاريخيا أن حصادا كبيرا من الأفكار التي أسهمت في هذا التقدم العلمي قد جنى من بين كثير من المناقشات الفلسفية الغثة، وهذه الحقيقة تفيد في ضمان تسامح العلماء إزاء تلك الطاحونة التأملية التي لا يكف الفلاسفة عن إدارتها.
إلى أي مدى ينبغي أن تمضي الفلسفة في تجاوزها للعلم؟ ما زال أمامنا أن نجيب عن السؤال عن المدى الذي يجوز للفيلسوف أن يمضي فيه متجاوزا حقائق البحث العلمي المقررة. حتى عندما يعترف صراحة بأنه يسير متخلفا عن المعطيات المتوافرة. وبعبارة أخرى، فإلى أي مدى ينبغي أن يظل الفيلسوف ملتزما دوره في الاقتصار على عملية التركيب، وإلى أي حد يحق له أن يجرؤ على تفسير هذه الوقائع؟ يقال أحيانا إن مهمة العلم هي الكشف، ومهمة الفلسفة هي التفسير. وهذا القول صحيح في عمومه، ومع ذلك يظل أمامنا أن نحدد إلى أي مدى يستطيع «التفسير» أن يمضي دون أن يصبح وجهة نظر مستقلة لا يعترف أي عالم (أو جماعة من العلماء) بأنها مستمدة بطريقة مشروعة من أدلة تجريبية.
إن العلماء أنفسهم يميلون إلى القول بأن أي مركب للمعرفة البشرية، حتى لو كان مركبا لا يتضمن أفكارا خارجة عن الموضوع أو نظريات مقحمة، هو ميتافيزيقي بطبيعته؛ وبالتالي ليس علميا بالمعنى الدقيق. وقد حدث في السنوات الأخيرة أن ترك عدة علماء مشهورين في مجال العلوم الفيزيائية تجاربهم مؤقتا، ليحاولوا القيام بمثل هذه الصياغات.
10
غير أن معظم زملائهم من العلماء لم يتأثروا بهذه الجهود، إلا ليعترفوا بأنه إذا لم يكن هناك بد من محاولة إجراء هذه العملية التركيبية، فالأضمن - على الأرجح - أن يقوم بهذه المهمة الخطرة عالم تحول إلى فيلسوف، بدلا من أن يقوم بها فيلسوف تحول إلى عالم. ومع ذلك فإن معظم الناس الذين دربوا على المناهج الصارمة في المعامل يشعرون، حتى في الظروف المثلى، بأنه سيظل هناك دائما خطر تسلل التأملات النظرية دون أن يشعر بها أحد، أو بأن الاستدلالات ستخلط عندئذ بالوقائع.
حذر العلم : لا شك أنه مما يسر الفلاسفة أن يجدوا عالما يخاطر بانتقاد زملاء له، ويحاول القيام بمركب كهذا، سواء أكانت الصورة التي جمعها في هذا المركب ترضي الفلاسفة أم لا ترضيهم. فالميتافيزيقيون لا يغارون على الإطلاق من العالم الذي يقوم بتلك المهمة التي كانت تعد جزءا تقليديا من عمل الفيلسوف وإنما هم يشجعون العاملين في ميادين العلم الأخرى المتعددة على أن يفعلوا نفس هذا الشيء. ومع ذلك فمن المشكوك فيه أن يلقى تشجيعهم هذا استجابة عامة من العلماء. ذلك لأن العالم العادي، كما قلنا من قبل، يفتقر إلى الوقت والطاقة والتكوين اللازم للقيام بهذا النشاط التركيبي. وحتى عندما تتوافر لديه الشروط الضرورية، فالأرجح أنه سيتفق مع زملائه من العلماء على أن من الأفضل ترك هذه المشروعات الطموحة للفلسفة. ذلك لأن نوع السمعة العقلية التي يدافع عنها الفيلسوف مختلف كل الاختلاف: فالناس ينتظرون منه أن يكون تأمليا جريئا، ولو تجاوز في تأملاته المعطيات الموجودة. فلن يقسو عليه أحد في النقد إلا العلماء بالطبع.
وهكذا يتضح أن العلاقات بين العلم وبين الفلسفة بوصفها مختصة بالتركيب هي علاقات غامضة متقلبة. ولكن يمكن القول بوجه عام أن العالم لا يعطف كثيرا على هذا القسم من أقسام النشاط الفلسفي، بل إن هذه لو كانت هي العلاقة الوحيدة بين الميدانين، لما كانت الصلات بين الفلسفة وبين العلم أفضل كثيرا مما كانت عليه الصلات بين الفلسفة وبين جارها الكبير الآخر؛ أي الدين في بعض الأحيان. ولكن من حسن حظ علاقات الجوار هذه أن هناك نشاطا آخر تقوم به الفلسفة، ولا يعده العلماء مشروعا فحسب، بل يرونه ضروريا لتقدم ميدانهم الخاص ذاته. فلننتقل إذن إلى بحث موجز للفلسفة بوصفها ناقدة محللة. (7) الوظيفة التحليلية للفلسفة
تتميز هذه العلاقة الأساسية الأخرى بين الفلسفة والعلم بأنها أقرب إلى الطابع الفني المتخصص بكثير من العلاقة الأخرى التي ناقشناها من قبل. ومع ذلك فإن لها أهمية اعظم بكثير بالنسبة إلى العلاقات اليومية المتبادلة بين الميدانين. ولذا كان من الضروري أن نلم على الأقل ببعض المعلومات عن المناهج والنتائج المتعلقة بهذا الموضوع. ولقد حاولنا، في مناقشتنا للعمليات التركيبية التي تقوم بها الفلسفة إزاء نتائج الكشوف المعملية، أن نعطي القارئ فكرة مؤداها أن العمل الأكبر للفيلسوف هو أن يجمع الأجزاء معا، على حين أن العالم مهتم أساسا بتجزيء الواقع الفيزيائي إلى أجزاء أصغر فأصغر. ومن هنا فلا بد من قدر من التهيؤ الذهني لكي نتحول إلى هذه العلاقة الثانية بين الميدانين؛ إذ إن الفلسفة الآن هي التي تقوم بالتحليل، وتمضي في عملية التجزيء أبعد بكثير من العلم ذاته.
مشكلة التعريف : هذا الموقف الذي ينطوي على مفارقة، يحدث في مجال «التعريف» و«صياغة المفاهيم». ولهذا المجال أهمية في الأوساط العقلية تفوق بكثير كل ما يخطر ببال المرء لو اقتصر على قراءة الألفاظ المجردة التي تعبر عنه. فللعلم (وكذلك للعلوم المنفصلة كل على حدة) ألفاظ أساسية متعددة يستخدمها في القيام بعملياته - وهو في ذلك مشابه لكل ميدان كبير آخر من ميادين الفكر. هذه الألفاظ تمثل المفاهيم الأساسية التي يشيد عليها البناء العقلي الضخم. وجميع المسلمات والبديهيات والمصادرات و«المبادئ العامة» لهذا الميدان يعبر عنها بهذه الألفاظ؛ ومن هنا لم يكن مما يدعو إلى الدهشة أن تتكرر هذه الألفاظ مرارا وتكرارا كلما بدأت المناقشة تصل إلى القاع الذي يكمن من وراء جانب خاص معين من جوانب البناء العلمي. وأهم الأمثلة في ميدان العلم العام هي المادة، والطاقة، والقوة، والزمان، والمكان، والقانون، والنظام، والعلة (وهذه الأخيرة أهمها جميعا). فأي شخص قرأ كتابا مدرسيا بسيطا في الفيزياء أو الكيمياء المقررة على طلبة المدارس الثانوية لا بد أن يذكر مدى تكرار ظهور هذه الألفاظ. فهي أساسية للعلم إلى حد بعيد واستخدامها أصبح مميزا لهذا الميدان إلى حد أن أي قارئ مثقف لا بد أن يعرف فورا، عندما يلقي نظرة إلى هذه القائمة، أن المناقشة ذات طابع علمي.
الدور الأكبر الذي أسهمت به الفلسفة في العلم : لقد اكتشفت الفلسفة منذ وقت طويل أن كل مشتغل بالعلم يستخدم هذه الألفاظ؛ ومن ثم فالمفروض أنه يعرف معناها. ولكن الأمر الذي كان واضحا في أحيان كثيرة، لسوء الحظ، هو أن الألفاظ لم تكن تعني دائما نفس الشيء حتى عندما كان الشخص الواحد يستخدمها في أوقات مختلفة. ومن ثم بدأ الفيلسوف يتساءل عن مدى «الحقيقة الموضوعية» التي يستطيع أي ميدان أن يدعيها لكشوفه إذا كانت الألفاظ الرئيسية المستخدمة في صياغة هذه الكشوف تفتقر إلى أية معان موحدة. فعلى الرغم من الدقة العقلية الكبرى التي يتسم بها العلم، فإن دقته في استخدام الألفاظ لم تكن دائما على نفس هذا المستوى، بل إن الموقف هنا كان مماثلا إلى حد بعيد لما نجده في الحديث المعتاد، حيث نفترض عادة أن كل الأفراد المشتركين فيه يستخدمون الألفاظ والمفاهيم بطريقة واحدة؛ أي إننا نتصور أن كل شخص قد وافق على التعريف الدقيق لهذه الألفاظ والمفاهيم قبل أن تبدأ المناقشة. ولكن الذي يحدث عادة هو أننا نكتشف بعد المناقشة أن الأمر ليس كذلك. فبعد قدر معين من الجدل، وربما بعد استخدام بعض التعبيرات العنيفة، يتفق الطرفان على أن يعيدوا الكرة بادئين بتعريف الألفاظ وإيضاح المفاهيم.
إن لكل من العلوم مفاهيمه الرئيسية ومسلماته الأساسية التي يأخذها المشتغلون في هذا الميدان قضية مسلمة إلى حد بعيد. وفضلا عن ذلك فإن كل العلوم تفترض مقدما، دون سؤال تقريبا، قدرة أذهاننا على اكتساب معرفة موثوق منها - وذلك على الأقل عن طريق مناهج البحث العلمي. فالعالم، بما أنه عالم، لا يناقش بعمق حدود المعرفة البشرية أو مدى صحتها، بل إن من النادر أن يسأل أي مشتغل بالعلم هذا السؤال الذي تعده الفلسفة أهم الأسئلة في هذا المجال بأسره؛ وأعني به: ما هو الشيء الذي تتعلق به المعرفة العلمية؛ أعني: ما الذي نحصل عليه بالفعل عندما نكتسب هذه المعرفة؟ هل نحصل على صورة للواقع، ونسخة طبق الأصل للطبيعة كما هي، مستقلة عمن يلاحظونها من البشر؟ أم أن من المحتم علينا ألا نحصل إلا على تمثيل تقريبي لا بد أن تشوهه أجهزة الإنسان الحسية وتركيب أعصابه؛ أعني تمثيلا لا بد أن يكون متجها إلى تحقيق مصالحنا بوصفنا مخلوقات بيولوجية تحاول البقاء والتكيف في بيئة معينة؟
فإذا أصبح العالم المتعمق في الفكر شاعرا بمشكلات المعرفة؛ أي إذا تجاوز الموقف الطبيعي الساذج فلسفيا، الذي تأخذ فيه أذهاننا وقدراتها على جمع المعلومات قضية مسلمة - فالأرجح أنه سينتقل إلى موقف آخر لا يقل عن السابق افتقارا إلى الروح النقدية، وهو الموقف الذي يسلم فيه بأن كل المشكلات الإبستمولوجية (أي المشكلات المتعلقة بطبيعة المعرفة وحدودها وصحتها) هي مشكلات قابلة للحل. فأغلب الظن أنه سيؤمن بأن تحليلا بسيطا للموقف المعرفي. بالإضافة إلى قليل من الصبر وحسن النية من جانب كل من يهمه الموضوع، سيؤدي فورا إلى حل الصعوبة. غير أن الفيلسوف، الذي يعرف أن مشكلات المعرفة ظلت قرونا عديدة موضوعا للتحليل والنقد والخلاف، لا يمكن أن يقنع بهذا الفرض الساذج. فقد يكون في وسع أي من العلوم أن يدعي معرفة ما هو واقعي وما هو حقيقي، غير أن الفلسفة قد اكتشفت أن هذا الادعاء، إن كان مباحا على الإطلاق، لا يمكن التقدم به إلا بعد تحليل طويل للذهن البشري وعملية البحث عن المعرفة بأسرها لديه.
وهكذا نشأ ذلك البحث الذي يعد دون شك أعظم خدمة تؤديها الفلسفة للعلم، وأعني به التحليل النقدي للأدوات العقلية المستخدمة في ميدان العلم، وشحذ هذه الأدوات من آن لآخر. وبينما العالم كان في بعض الأحيان يقدم أدلة يحاول بها الدفاع عن طريقته الخاصة في استخدام مفهوم معين أداة في بحثه، فقد كان على وجه العموم يشعر بالامتنان لهذا التحليل، بل لقد ظهر اتجاه متزايد من جانب العالم لترك هذه المهمة طواعية لصديقه المحلل، معترفا بأنها ستكون في أيد أمينة؛ ذلك لأن الفيلسوف قد اكتسب خبرة طويلة في معالجة الألفاظ المجردة - بل إنه نادرا ما يتعامل مع أي شيء غيرها - ومن هنا فهو قادر على القيام بهذا التحليل بوصفه خبيرا متمكنا.
وسوف تتاح لنا الفرصة في فصل تال، عندما نبحث في العلوم البيولوجية عامة وفي نظرية التطور خاصة، للقيام بتحليل كامل لمفهومين رئيسيين للعلم (هما «الحياة» و«التطور»). والأفضل ألا نحاول تقديم أي مثال للعملية التحليلية حتى نصل إلى هذه المرحلة في العرض الذي نقدمه. ذلك لأن أي مثال نأتي به في هذه الآونة لا بد أن يطيش عن هدفه. إذ سيبدو بسيطا إلى حد التفاهة في نظر الطالب ذي التكوين العلمي المتين، كما أنه سيبدو على الأرجح مفرطا في التجريد إلى درجة الاستغلاق التام في نظر الطالب الذي يفتقر إلى أي تكوين علمي. ومع ذلك فليس من المحتمل أن ينتهي أي قارئ من هذا الكتاب دون أن يكون قد فهم ما نعنيه عندما نتحدث عن الفيلسوف بوصفه ناقدا أعلى أو محللا أعلى؛ ذلك لأننا، ابتداء من الفصل القادم، سنقوم بتحليلات كهذه طوال الكتاب، على حين أن القسم الأخير الخاص بالله والخلود سيكون بأكمله ذا طابع تحليلي. وحسبن الآن أن يكون القارئ قد كون في ذهنه فكرة معينة عن الوظيفتين المتضادتين اللتين تؤديهما الفلسفة في علاقتها بالعلم. ولا بد أن تؤدي الصفحات القليلة التي تمس المشكلات المشتركة بين الفلسفة وبين جاريها الرئيسيين إلى تعميق هذا التضاد وإيضاحه.
الفصل الثالث
المثالية: العالم ملائم لنا
لا بد أن القارئ قد أدرك الآن أن الفلسفة ليست بالموضوع الهين. فهو قد اكتشف أنه حالما تبدو المشكلة وكأن حلها بات وشيكا، فإن فروعا جديدة تظهر لها. وهذه تؤدي فورا إلى مشكلات أخرى لم تكن تخطر من قبل ببال أحد ثم تؤدي هذه إلى غيرها. ولقد وصف الفيلسوف «بالرجل الذي يسأل دائما السؤال المقبل»، وبأنه هادم اللذات يحطم كل حل يبدو قريبا بقوله: «نعم، ولكن ...» أو «ومن جهة أخرى ...» أو «هذا صحيح، ولكن ألا يترتب عليه ...؟» والواقع أن الفلسفة بالفعل موضوع معقد، وربما كانت أعقد مما يتصوره القارئ. وفي وسعنا عند هذه النقطة أن نعكس عبارة هاملت المشهورة «في السماء والأرض، يا هوراشيو، أمور تزيد على ما تحلم به فلسفتك» بحيث تصبح في الفلسفة أمور تزيد على ما يحلم به معظم الطلاب المبتدئين. فالفلسفة، بوصفها تلك الدراسة العامة أو العلم العام الذي يسعى إلى أن يدمج في ذاته كل الدراسات والعلوم الأخرى ويلخصها في داخله، لا تجد لها مفرا من أن تكون معقدة. فإذا شئنا أن ندرك على نحو صائب مدى ثراء هذا الموضوع وتعقده، فسيكون من الضروري القيام ببعض التبسيطات التمهيدية الشديدة. فلا بد لنا من أن نخاطر بإغضاب الفلسفة؛ وذلك بأن نتجاهل الفوارق ونغفل التمييزات، بحيث لا نبقي إلا الهيكل اللازم للتصنيف؛ ذلك لأننا الآن على استعداد لخوض ذلك البحر الواسع المتلاطم من «المدارس» الفلسفية. ولقد كنا حتى الآن حريصين على ألا نورد - إلا في حالة الضرورة القصوى - أية إشارة إلى وجود هذا البحر العاصف الذي كنا نتبادل الحديث ونحن واقفون على شاطئه. ولكن هدير الأمواج المتلاطمة وتيارات الفكر المتصارعة قد أصبح الآن ملحا إلى حد لم يعد من الممكن معه الاحتفاظ بموقف التجاهل إزاء صراعها هذا.
تاريخ الفلسفة بوصفه صراعا بين تيارين فكريين رئيسيين : يمثل هذا الفصل، والفصل التالي، محاولة للنظر إلى الفلسفة نظرة جامعة مبسطة. وسيكون معنى ذلك - كما هي الحال في كل تبسيط شديد آخر - حذف كثير من الفوارق ومحو الحدود بين المدارس الصغرى. ومن الممكن إضافة هذه العناصر المحذوفة فيما بعد - كلما دعت الحاجة إليها. أما الآن فحسبنا أن ندرك بوضوح وعلى نحو دائم، التقابل الأساسي بين الحركتين الميتافيزيقيتين الكبريين.
وبعبارة أخرى فإن الصورة التي سندركها ونحن ننظر من مكاننا المرتفع إلى أسفل، ستكون أشبه بخريطة للمحيطات توضح عليها الاتجاهات الرئيسية للمياه، كتيار الخليج والتيار الياباني. وفي هذه الحالة، لا يحاول واضع الخريطة أن يبين كل تنوع في متوسط الحركة التي تحدث طوال العام. بل إنه حيث يتلاقى تياران رئيسيان، تصور الخريطة اتحادهما بأنه هادئ تم بلا أي عنف تقريبا. أما الدوامات والحركات العنيفة التي يسفر عنها هذا الالتقاء، فلا يشار إليها إلا إشارة عابرة، وقد تغفل تماما. ومع ذلك فلو أتيح لنا أن نعبر هذا المحيط ملاحة، لكان الانطباع الذي يتكون لدينا مختلفا كل الاختلاف عن تلك المنحنيات البديعة المنسابة التي رسمها صانع الخريطة، بل إن إحساسنا بالمظهر السطحي للمحيط يطغى علينا إلى حد لا نصدق معه أن هناك أي اتجاه عميق ثابت للحركة في هذا المكان. وهكذا نجد تعقدا متصارعا حيث أظهر لنا صانع الخريطة وعالم البحار بساطة منسابة. ومع ذلك فكل من الطرفين على صواب. إذ إن الصورة نسبية لوجهة النظر.
وسنحاول في هذا الفصل والفصل التالي أن نحاكي صانع الخرائط. وفيما بعد، سنقدم عرضا نفصل فيه إلى حد ما ذلك التبسيط الشديد الأول. وسيكون لزاما علينا أن نوضح أهم التيارات الفرعية على الأقل. أما في البداية، فسنبحث أولا أهم حركتين. ولنغير الاستعارة التي كنا نستخدمها مؤقتا فنقول إننا في دراستنا لهاتين المدرستين سنحاول إيجاد تقسيم في مجال الفلسفة له من الأهمية في هذا الموضوع ما لفكرة الشحنات الإيجابية والسلبية في الفيزياء الحديثة؛ ذلك لأن هاتين المدرستين هما الدعامتان الرئيسيتان للتفكير الفلسفي، وحولهما تتحرك معظم المدارس والمفكرون الأفراد فيها. (1) وجهة النظر العامة للمثالية
إن نظرة واحدة نلقيها على تاريخ الفكر في الحضارة الغربية لكفيلة بأن تبين لنا أن المثالية كانت، على الأرجح، أكثر الفلسفات شيوعا وأعظمها أهمية. ولقد انتشرت هذه الفلسفة في العصور الحديثة بوجه خاص، وامتد تأثيرها إلى حد أن الطالب المبتدئ كثيرا ما تتملكه الدهشة حين يكتشف أن «المثالية» و«الفلسفة» ليسا لفظين مترادفين. ولقد كان مركز السيطرة الذي احتلته هذه المدرسة، مقترنا بما لقيته من قبول لدى جميع أنواع السلطات السائدة مؤديا إلى أن تبدو منافستها الكبرى، وهي المذهب الطبيعي
Naturalism
كما لو كانت دخيلا أقحم نفسه في حديقة الميتافيزيقا، أو قريبا فقيرا تسلل إليها. وكان من الأسباب التي أدت إلى احتلال المثالية مركز السيطرة هذا، وجود نقاط اتصال وتقارب بين آرائها وآراء المسيحية، وكان منها أيضا ذلك الموقف التفاؤلي من الحياة والعالم، الذي كانت تتميز به العقلية الغربية. وأيا ما كان المصدر الذي أتى منه التأييد، فإن المثالية قد ظلت قائمة طويلا بوصفها، التراث الأرستقراطي في الفلسفة، ووجد أنصارها أوسع استجابة ممكنة.
وليس معنى ذلك أن المثالية لا تتضمن في ذاتها من المزايا ما يعلل سيادتها على الفكر الغربي، بل إن الأمر على عكس ذلك تماما، فتعاليمها تلقى استجابة قوية من العقل والعاطفة معا، وقد كان بين دعاتها مجموعة من أقدر المفكرين الذين ظهروا بين البشر وهي فضلا عن ذلك ترضي العقل والقلب معا على نحو قد تعجز عنه أية نظرة أخرى إلى العالم . ولما كان هذا الإرضاء المزدوج هو ما ينتظره معظم الناس من الفلسفة، فإن تأثير المثالية وحيويتها قد يظلان باقيين بحق، بل إن خصوم المثالية أنفسهم يعترفون عادة بأنها تتم، بوصفها صياغة ميتافيزيقية، بجلال يبهر النفوس.
الحقيقة النهائية ذات طبيعة نفسية : فما هي الآراء الرئيسية لهذه المدرسة الفكرية؟ إذا تجاهلنا مؤقتا كل المدارس الفرعية المتباينة، وأرجعنا المثالية إلى ماهيتها الأصيلة، كانت هي الاعتقاد بأن الحقيقة النهائية ذات طبيعة نفسية أو روحية، وأن الكون تجسد للذهن أو الروح. فالمثالية ترى أننا إذا شئنا أن نكتسب أوضح تبصر بطبيعة الواقع، فلزام علينا ألا نبحث في العلوم الفيزيائية، بما فيها من اهتمام بالمادة والحركة والقوة، ومن إلكترونات وبروتونات وما شاكل ذلك، بل إن من واجبنا أن نتجه إلى الفكر والعقل وكل الأفكار والقيم الروحية لدى الجنس البشري. وليس معنى ذلك أن الصورة التي يقدمه إلينا العلم عن العالم فيها أي شيء من الخطأ - بل إن من الجائز أنها صحيحة جدا، وفي حدودها الخاصة، غير أنها ناقصة. فالعلم يدع جانبا كثيرا من الأمور التي يراها المثالي ضرورية لكي تكون الصورة صحيحة أو كاملة. مثال ذلك أنه يحذف الاعتبارات المتعلقة بالقيمة بل إنه لا يكاد يعترف بوجود ما يعد (من وجهة نظر المثالي) أهم شيء في الكون - وأعني به الشخصية. وفضلا عن ذلك فالعلم، بما يتسم به من موضوعية ولا شخصية كاملة، لا يملك أن يتجنب تقديم صورة مشوهة لطبيعة الأشياء. فهو يتجاهل بالضرورة أهم عنصر في المعرفة أو التجربة: وهو الذهن أو الأنا المجرب: ذلك لأن من الواضح أن كل إدراك أو معرفة يقتضي ذاتا عارفة، غير أن العلم يتجاهل هذه الحقيقة، والمذهب الطبيعي ينكر أهميتها القصوى. أما المثالية فترى أن هذه الذات العارفة المجربة هي مصدر كل معنى وقيمة، بل مصدر كل وجود. ومن هنا فإن أي مذهب لا يتخذ من الذهن أو الذات العارفة دعامة رئيسية، ينبغي بالضرورة أن يقدم صورة ناقصة (إن لم تكن باطلة) عن الحقيقة.
ومن الواضح أن مثل هذا الكون الذي يكون فيه لب الحقيقة ذهنيا أو روحيا، لا ماديا، هو نظام للعالم وثيق الصلة بالإنسان وأعماله، وأمانيه ومثله العليا. فهو عالم يقدم للفرد تأكيدا بأن له رسالة، وبأن البيئة الكونية تعطف على جهود الإنسان في سبيل تحقيق هذه الرسالة. فالمثالية هي نظرة إلى «الأشياء كما هي»، تجعل من العالم مكانا نستطيع أن نشعر فيه بعلاقة وثيقة بيننا وبين الكون. في مثل هذا العالم نشعر بأننا في وسط ملائم لنا عقليا وعاطفيا؛ إذ إننا نحن وبيئتنا جزء من نظام كوني واحد، ومصدرنا هو نفس «الذهن» أو «الروح».
ومن الأفكار المثالية الأساسية الأخرى، الاعتقاد بأن أذهاننا والعالم الفكري الذي تتحرك فيه ترتبط بالواقع على نحو وثيق وذي دلالة خاصة. ففي نشاطنا العقلي أو الذهني نقترب كل الاقتراب من تلك «الفاعلية» الشاملة التي تشكل الكون. فإذا شئنا أن نعلم ما يكمن في قلب العالم، فعلينا أن نتأمل داخل أنفسنا. ففي أذهاننا ونفوسنا نحن، وفي طبيعة الشخصية الإنسانية، نجد أوضح تعبير عن طبيعة هذه «الفاعلية» الشاملة.
النتائج الرئيسية للمثالية : هذا التوازي الخاص بين أذهاننا وبين الواقع له عدة نتائج هامة، وهذه النتائج هي التي تكسب المثالية أقوى جاذبية لها بين الناس. ذلك لأننا نستطيع أن نفترض أولا. على أساس الحقيقة القائلة إن أذهاننا المتناهية تعمل على أساس المنطق والنظام والإحكام، أن «الذهن المطلق» يعمل على نفس النحو. ولما كان الكون تجسدا أو خلقا لهذا «الذهن» فلنا أن نتوقع أيضا أن تتكشف بيئتنا الطبيعية عن نفس خصائص النظام والإحكام والمنطق. ومن هذا التوازي نستطيع أن نفترض أن الكون في أساسه يتسم بالمعقولية؛ إذ إنه لما كان هذا الكون من خلق العقل الشامل، فمن الطبيعي أن تكون المعقولية متغلغلة في تركيبه الأساسي. وأخيرا، نستطيع أن نفترض من هذه المعقولية والقابلية للفهم، أن أذهاننا البشرية قادرة على التعامل مع العالم الذي نعيش فيه. فذهننا قادر على فهم العالم لأن كليهما معقول في أساسه، وكلاهما معقول لأنهما يعتمدان على «العقل» الكوني. (2) التمييز بين «المظهر» و«الحقيقة »
إلى هذا الحد وجدنا المثالي يبني حججه على أسس منطقية خالصة. فهذا القدر من مذهبه مستخلص من المصادر الأصلية، وهي أن الكون تجسد «للروح» أو «الذهن». والآن، بعد أن أثبت ذلك، نراه يقفز إلى نتيجة جريئة. فلما كان الكون معقولا ومفهوما، فلا يمكن أن يكون فيه اضطراب أو لامعقولية أو تنافر دائم. فهو ليس معقولا فحسب، وإنما هو كل معقول. فالذهن يعمل في جميع أرجائه، ولا يمكن أن يظل ركن أو جزء من الكون الذي يكمن فيه العقل، بمنأى عن تأثيره الطاغي.
ولكن، مهما تكن هذه النتيجة لازمة منطقيا من المصادرة المثالية الأساسية المتعلقة بالطبيعة الذهنية للواقع، فمن الواضح أنها ليست مستمدة من التجربة اليومية التي يمر بها الرجال والنساء في حياتهم. فاتصالنا اليومي المباشر بالعالم المحيط بنا يكشف لنا عن أمر واقع لا تكاد تربطه صلة بهذا الفرض النظري الجريء؛ ذلك لأن الحياة تبدو في نظر الإنسان خليطا مضطربا من التقدم والتدهور، والانتصار والهزيمة، والحرب والسلام، والجوع والوفرة، والطبيعة العطوف والطبيعة المعادية إلى حد التوحش. وفي حياة الفرد، تكون معقولية الكون وقابليته للفهم أقل حتى من ذلك: فالإحباط والألم والهزيمة تحتل في تجربتنا مكانة لا تقل عن مكانة النجاح والسعادة والانتصار، بل إن أنجح حياة وأكثرها تنظيما، تكشف عن جوانب كبيرة من المعاناة التي لا يبدو لها هدف، ومن الألم الذي لا يبدو له معنى. كذلك فإن أكثر أجزاء طبيعتنا معقولية، وهو ذهننا، يخفق بدوره في تحقيق هذا الشرط النظري كاملا. فخبرته في التبرير (أي في الاهتداء إلى أسباب جيدة لإيجاد مبرر لأفعال أنانية أو شهوانية) لا تقل عن خبرته في الاستدلال العقلي، ونحن - بوصفنا أفرادا - لا نكون مخلوقات عاقلة إلا في أوقات قليلة غير منتظمة. أما الحياة الأقل نجاحا وتنظيما فهي عادة صراع بين اللذة والألم، فالحياة لا تكاد تكون محتملة بالنسبة إلى جزء كبير من الجنس البشري، وهناك ملايين لا يحول بينهم وبين الانتحار إلا إرادة حياة غريزية عمياء ، وأمل خادع يعللهم دائما بغد أفضل لا يأتي أبدا.
أهمية التمييز : إزاء هذه الحقيقة الأساسية للحياة البشرية، يكون لنا أن نتوقع من المثالي دعم موقفه بشيء آخر إلى جانب التجربة المباشرة، إذ إنه أكثر الناس شعورا بأن كسب المناقشة ينبغي أن يكون على أسس أخرى غير هذا الأساس، ولا يمكن أن يهيب المرء بالتجربة عندما تكون الشواهد المستمدة من هذا المصدر غير قاطعة على أحسن الفروض، وسلبية إلى أبعد حد على أسوئها. وهكذا فإن المثالي، لكي يواجه مشكلة إثبات أن الكون معقول ومنسجم على الرغم من كل الشواهد المضادة، يضع أولا تمييزا له أهمية كبرى في تفكيره، وأعني به التمييز بين المظهر والحقيقة.
هذا التمييز يرتبط ارتباطا وثيقا بقدر كبير من تجاربنا الشائعة. فالمثالي يؤكد مدى الخلط الذي نقع فيه بين المظهر والحقيقة؛ إما نتيجة للإهمال في الملاحظة، وإما لعدم كفاية التفكير. كذلك فإننا كثيرا ما نظن أننا قد تغلغلنا من وراء المظاهر السطحية للأشياء، ونفذنا إلى ما نعتقد أنه هو الحقيقة ذاتها ثم نجد أن هذه الحقيقة الموهومة ليست إلا مظهرا لحقيقة أعمق منها وأهم - ونظل نسير هكذا حتى يكون لدينا سلم كامل من «الحقائق» التي لا يكون كل منها إلا «مظهرا» لحقيقة أعمق. غير أن كل سلم كهذا ينطوي ضمنا على نقطة نهائية من نوع ما. ومن هنا يظهر حتما السؤال: ما هي الحقيقة النهائية؟ ألا يجوز أنها شيء يختلف تماما عن المظهر السطحي «للأشياء كما هي»؟ وفضلا عن ذلك، فلما كان من الممكن أن نخطئ كثيرا في تجربتنا اليومية، فهلا يجوز (بل يرجح) أن نكون قد ارتكبنا خطأ جسيما في حق الواقع الحقيقي إذا ما تركنا الاضطراب واللامعقولية الظاهرين في العالم يؤثران فينا؟
من الضروري أن نوضح أن المثالية تتجاوز بكثير ذلك التمييز الذي نقول به في موقفنا الطبيعي دائما بين المظهر والحقيقة. عندما نقول مثلا أن منظرا مسرحيا يظهر كأنه شارع في مدينة، اصطفت على جانبيه الأبنية، ولكنه في الحقيقة قطعة من القماش المرسوم، فإننا نقارن شيئا ماديا ملاحظا (هو القماش) بشيء آخر ملاحظ أو قابل للملاحظة، هو الشارع. وهكذا فإن التقابل الذي نضعه بين المظهر والحقيقة يظل داخلا في إطار التجربة، ويكون كل من طرفي هذا التقابل تجريبيا بنفس المقدار، وقابلا للبحث والتحقيق بنفس المقدار أيضا؛ فمن الممكن إصدار أحكام لها معناها، وقابلة للاختيار، عن كل منهما، ومن الممكن تحقيق هذه الأحكام. وباختصار فالمظهر والحقيقة هما معا. في هذه الحالة، وقائع في التجربة.
ولكن المثالية تقوم بتمييز أعمق وأجرأ بكثير - وأعني به التمييز بين العالم التجريبي أو القابل للملاحظة («المظهر») وبين «الحقيقة» الترنسندنتالية أو غير التجريبية. ومعنى ذلك أن المثالي على استعداد لأن يضفي على شيء ليس غير ملاحظ فحسب، بل هو أيضا غير قابل للملاحظة، قدرا من الحقيقة يفوق ذلك الذي ينسبه إلى العالم المادي الذي نعيش فيه. ومن الواضح أن هذا هو عكس الرأي الذي نقول به في موقفنا الطبيعي، وهو الرأي القائل إن الأشياء المادية هي أكثر الأشياء التي نعرفها حقيقة، وهي التي يبدو أي شيء «ذهني» أو «روحي»، بالقياس إليها، أشبه بالمظهر. ومن المؤكد أن الجرأة التي تنطوي عليها هذه الفكرة تضفي على المثالية، في نظر أناس عديدين، قدرا كبيرا من سحرها وجاذبيتها. (3) مشكلة الشر
تستخدم المدارس الفرعية المختلفة، المنتمية إلى المذهب المثالي، أساليب مختلفة في تفسير هذا التعارض بين المظهر والحقيقة. ومن المهم أن نختبر بعضا على الأقل من أهم هذه المدارس الفرعية؛ إذ إن إجاباتها ستكشف لنا الكثير عن المثالية بوجه عام. ومع ذلك فلما كانت هذه المشكلة الضخمة تتداخل مع مسألة أخرى أوسع انتشارا بين الناس بكثير، ويتعين على المثالية مواجهتها، فإن من المستحسن بحث الأمرين معا. هذه المسألة الأوسع انتشارا هي «مشكلة الشر» المشهورة التي هي دون شك أصلب بندقية يتعين على أي مذهب مثالي كسرها.
والمشكلة باختصار هي : إذا كان الكون هو تجسد «الذهن» أو «العقل» فكيف حدث أن تجربتنا تكشف لنا الكثير مما هو لا معقول ولا مفهوم؟ وكيف يحدث أننا كثيرا ما نضطر إلى التوفيق بين ما هو بوضوح اتفاق أعمى أو مصادفة أليمة، وبين الغاية العاقلة التي يفترض أنها تكمن من وراء ذلك كله؟ ولو كان نظام الأشياء معقولا بحق، أكنا نجلس الآن في هذا المكان نتصارع مع مشكلة الشر؟ إننا لا نسمع قط عن «مشكلة الخير»، مع أن لنا الحق - منطقيا - أن نتوقع، في ذات الكون الذي هو معقول في جميع أرجائه، ألا يكون هناك شر يقتضي تفسيرا، بل إن الأصعب من ذلك تلك الصورة الخاصة لهذه المشكلة الكبرى، وهي الصورة التي يتعين على كل الأديان مواجهتها - وأعني بها: لو كان الله ذا قدرة شاملة وحكمة شاملة، ولكن ليس ذا خير شامل، لأمكننا أن نفهم وجود مثل هذا العالم الذي نعيش فيه بالفعل، أو لو كانت لديه أسمى حكمة وخيرية، ولكن مع قدرة محدودة، لأمكننا أن نفهم ذلك أيضا. ولكن كيف نوفق بين وجود إله لا متناه وبين حقيقة الشر؟ إما أنه لا يكترث وإما أنه يكترث ولكن لا حيلة له في الموقف على الإطلاق. وهناك احتمال ثالث هو أن تكون لديه الحكمة الضرورية اللازمة، ولكن سلطته محدودة، مما يجعله يعمل بالتدريج على محو الشر، ولكن هذا بدوره يقتضي لتحقيقه آمادا هائلة من الزمان.
بعض الإجابات الدينية : يرى التوحيديون المؤمنون بإله مشخص ولكنه لا نهائي، أن المشكلة تقتضي بالضرورة تحليلا مطولا لطبيعة الألوهية، والعلاقات بين الله والكون الذي خلقه ... إلخ. وسوف نبحث كثيرا من هذه التحليلات في الفصلين الأخيرين، ولكن يكفينا هنا أن ننظر إلى الإجابات التي يقدمها الإنسان في موقفه الطبيعي على هذه الأسئلة المحيرة. إن أوضح جواب وهو قطعا أوسع الإجابات انتشارا - هو أن «زمان الله هو الأفضل». فهو يعلم ما يفعله، وما هو أفضل لعالمه وكل المخلوقات فيه. ومن المسلم به أن أساليبه ليست أساليبنا، وزمانه ليس دائما زماننا، ولكن سوف يتضح لنا في آخر المطاف، عندما يكون كل شيء مفهوما، وعندما نتمكن من أن نرى كل شيء في ضوئه الحقيقي، أن شكنا في عدم اكتراث الله أو عدم قدرته أمر لا مبرر له. وعندئذ سنرى أن «مظهر» الأشياء هو وحده الذي خدعنا، أما «الحقيقة» (التي كان يعرفها بالطبع منذ البداية إله عالم بكل شيء) فكانت معقولة، مفهومة، خيرة، وبالاختصار، فصاحب هذا المذهب في الألوهية يرى، مثلما يرى المثالي، أن المشكلة الحقيقية هي أن نخترق حجاب أي المظاهر وننفذ بأنظارنا إلى الحقيقة.
على أن هناك ثلاثة حلول رئيسية لمشكلة الشر واللامعقولية الظاهرين في العالم. ففي استطاعتنا أن نتخذ موقفا متطرفا ونقول إن ما يسمى بالشر ليس إلا خطأ في أذهاننا نحن. ففي الذهن الإلهي أو اللامتناهي، لا يمكن أن يوجد إلا الخير والحق، بحيث إن أي خطأ أو شر لا بد أن يكون ناتجا عن أذهاننا نحن المتناهية الفانية. وكل ما علينا هو أن نطرح جانبا فكرة الشر (ما دامت لا توجد إلا في أذهاننا) لكي نمحو تحقيق الشر؛ ذلك لأن الفكرة والتحقق هنا شيء واحد. والحل الثاني لمشكلة الشر أقل تطرفا وأقرب إلى «الذهن العادي». في هذا الحل يعترف بحقيقة الشر، ولكن يقال إننا لو نظرنا إلى الأمور من منظور طويل الأمد؛ أي إذا تعلمنا أن نرى الأشياء «من منظور الأزل» - لأدركنا أنه مهما تكن أصالة الأمم والشقاء والحمق الموجود في العالم، فإن هذه الأمور تتناقص بالتدريج. ومن الممكن أن يسمى هذا بالموقف التاريخي من المشكلة. فأنصار هذا الموقف يؤمنون بالتقدم، ويرون أن في استطاعة الإنسان، باستخدام العقل وجهوده الخاصة، أن يعجل مسيرة التقدم ويمضي بحركته إلى تحقيق نتائج لا حد لها، من بينها محو الكثير مما نعده الآن شرا. وتعرف وجهة النظر هذه باسم «مذهب التحسن
Meliorism »؛ أي المذهب القائل إن الأمور قابلة لأن تنصلح. ويوحي هذا المذهب في الدين - حيث تدعو إليه كثير من الكنائس المتحررة اليوم بأن الله يحتاج إلى مساعدتنا في الكفاح، وبأن الحياة (وربما العملية الكونية بأسرها) تمثل صراعا لا يرحم بين قوى الخير وقوى الشر. في هذا الصراع لا بد من تجنيد كل مقاتل، وفيه يساعد اختيار الخير على قطع دابر الشر من جذوره. وباختصار، فالشر حقيقي بالفعل، غير أن حقيقته ستزول بانتصار الخير بمضي الوقت، وهو انتصار يمكن تحقيقه بتضافر الجهود بين الله والإنسان.
1 (4) الأفلاطونية
هناك وجهة نظر تقع بين التفسيرين الدينيين (اللذين هما في أساسهما عمليان) للعلاقة بين المظهر والحقيقة، وهي وجهة نظر لها أهمية ميتافيزيقية أعظم بكثير. تلك هي الأفلاطونية، التي هي مذهب من أسمى ما أنتجه النظر الفلسفي. وعلى الرغم من أن تفكير أفلاطون ليس مثاليا بالمعنى الدقيق، ما دام للعناصر الأساسية في مذهبه وجود خارج عن الذهن (أما مسألة كونها ذات طبيعة روحية أو مادية أم منطقية فحسب، فهي من المسائل التي تثير أعظم الجدل في تاريخ الفلسفة)، فإن الأفلاطونية تتميز مع ذلك بسمات متعددة تتضح في المثالية المحدثة. وهي تمثل المزاج والموقف العام لهذه المدرسة الكبيرة تمثيلا جيدا.
يشيد أفلاطون مذهبه على أساس التقابل بين المظهر والحقيقة، وهو التقابل الذي نناقشه الآن. فالطبيعة الحقيقية لأي شيء هي في نظره «الفكرة» التي تتجسد في هذا الشيء. وهو ينظر إلى هذه الأفكار أو الماهيات على أن لها وجودا مستقلا وحقيقة أرفع، بل إنها هي الحقيقة بعينها، أما الأشياء المادية فتقتصر على أن تعكس أو تحاكي هذه الحقيقة القصوى، التي هي ماهية الشيء المادي وأنموذجه الأزلي الثابت في نفس الآن. وهكذا يوجد، من وراء قناع التجربة الحسية، عالم مثالي من الماهيات. ومن هذا المجال الأعلى تأتي كل حقيقة: وكلما كان الشيء أكثر تجسيدا «للفكرة» أو «المثال» الكامن من ورائه، كان له مزيد من الحقيقة.
2
مستويات للحقيقة : غير أن هذا كله عرض مركز مجرد؛ ولذا سنقوم بتحليله وتخفيفه إلى حد ما. فأفلاطون يقول بوجود مستويين أو حالتين للحقيقة؛ أولهما هو الحقيقة الواضحة التي لا تنكر في الموضوعات اليومية الملموسة؛ أعني حقيقة الكراسي والصخور والأشجار والجبال والكائنات الحية. غير أن الوجود على هذا المستوى لا يمثل الحقيقة بمعناها الصحيح، بل إن هذه الحقيقة الحقة إنما تكمن من وراء قناع الحقيقة الظاهرية، وتستقر في عالم أعلى. (ولا يفصح أفلاطون بوضوح عن رأيه في المكان المحدد لهذا العالم الأعلى، إلا لكي يوحي بأنه في مكان ما «في السموات العليا»). هذا العالم يكون نظاما مثاليا للماهيات الأزلية، التي توجد في سلم متدرج مبني على مبادئ أخلاقية ويسوده مثال الخير. ولكن ما هي هذه الماهيات الأزلية المثالية، وما علاقاتها بهذا العالم اليومي الأدنى للأشياء المادية أو الطبيعية؟ يطلق أفلاطون على هذه الأحوال المثالية للحقيقة اسم «المثل» أو «الصور»
Forms
على التخصيص، وقد أصبح اللفظ الأخير هو المفضل في اللغة الإنجليزية. غير أن لكلمة «الصورة» عدة معان، أحدها مضاد تماما لمقصد أفلاطون. فكثيرا ما يكون المقصود من اللفظ هو الشكل الخارجي أو التخطيط العام للشيء؛ أعني قسماته الكلية أو مظهره العام. غير أن هذا اللفظ في نظر أفلاطون، يعني التركيب الباطن أو الفكرة المحدودة التي تتجسد في الشيء. فكيف يكون الشيء شيئا؛ أعني مثلا كيف يكون البيت بيتا؟ هذا هو السؤال الذي تستطيع الصورة أو المثال الإجابة عنه بأن تعرض ماهية الشيء. وبذلك تكون صورة البيت هي خطته أو تصميمه أو تنظيمه، وهذا التصميم أو التنظيم يتكشف في مجموعة من اللوحات الهندسية أكثر مما يتكشف في نموذج أو سلسلة من المقاطع الأمامية والجانبية، أو حتى في الصورة الفوتوغرافية للمبنى الكامل؛ ذلك لأن الصورة الأفلاطونية هي دائما الفكرة غير الملموسة، أو التصور. الذي قد يتجسد أو يتمثل جزئيا في الأشياء المادية، ولكنه لا يمكن أن يتحقق فيها كاملا.
وعلى ذلك فإن عالم الحقيقة الحقة هو عالم من الصور التي هي أزلية ثابتة كاملة. فتلك هي نماذج كل فئات الأشياء الأرضية أو أنواعها. ويرى أفلاطون أنه لا يوجد شيء ليست له صورة مناظرة له، يستمد منها ما له من حقيقة.
الصور بوصفها تصورات : العلاقة الأساسية بين أي موضوع وبين صورته هي ذاتها العلاقة بين المدرك الحسي
وبين التصور الذهني
Concept
المناظر له؛ أي بين شيء عيني يمر بتجربتنا، وينتمي إلى فئة أو نوع (يدل عليه اسم مشترك، كالكتاب أو الكرسي أو الكلب، إلخ) وبين فكرتنا أو تصورنا الخاص بهذه الفئة. فنحن مثلا قد رأينا جميعا مئات من الكتب. ولكن في ذهن كل منا، بغض النظر عن صورة أي كتاب محدد أو انطباعه في الذاكرة، فكرة عن «الكتاب بوجه عام»، أو الكتاب مجردا. هذه الفكرة هي التي تطرأ فورا على الذهن لو كان قد سألنا أحد: «ما الذي يجعل الكتاب كتابا بوجه عام؟» وهذه الفكرة تسمى «تصورا».
هذا التصور أو «الشيء في ذاته»، كما هو في حقيقته مجردا عن كل الصفات العرضية، هو في الميتافيزيقا الأفلاطونية صورة أو مثال. ولقد كانت مشكلة التحديد الدقيق لمكانة التصورات من المشكلات الرئيسية في التاريخ الطويل للفلسفة، ويمكن القول إن فلسفة العصور الوسطى قد تركزت كلها تقريبا في خلاف لا نهاية له حول مسألة كون التصورات ذات وجود حقيقي خارج الذهن. فهناك مدرسة كانت ترى أن «الكتاب» فكرة لها وجود فعلي منفصل ومستقل عن أي كتاب مادي وعن كل الكتب المادية. أما خصومهم فيرون أن أي تصور ليس إلا اسما؛ أي أداة مريحة نصنعها لكي تتيح لنا التعامل مع فئة معينة من الأشياء التي تدخل في نطاق تجربتنا. (ولنتصور ما يحدث لو كانت كل شجرة أو كلب نصادفه طوال حياتنا يحتاج إلى لفظ مستقل يدل عليه). أما موقف أفلاطون في هذا الخلاف فهو محدد تماما؛ فهو ما زال أشهر المدافعين عن أحد جانبي هذا الخلاف وأقواهم تأثيرا. ومذهبه كله يتوقف على الرأي القائل أن التصورات (أو الكليات، إذا شئنا استخدام اللفظ الشائع في العصور الوسطى) لها قدر من الحقيقة أكبر مما لأي شيء يمر بنا في تجربتنا الحسية. ولنقل، بلغة العلم والرياضة الحاليين، إن أفلاطون كان يرى أن الفئة أكثر حقيقة من أفرادها.
والنقطة الرئيسية في المذهب الأفلاطوني هي أن الصور لا توجد فحسب بل إنها هي الحقيقة الحقة الوحيدة. أما الأشياء الأرضية التي تتجسد فيها هذه الصور فما هي إلا «انعكاسات» أو «ظلال» أو «نسخ محاكية» لهذه النماذج الأزلية، تتصف بقدر محدود من الحقيقة لا تكتسبه إلا بالاستعارة، أو حسب التعبير الذي يفضله أفلاطون، بالمشاركة في المثال المناظر. وهنا نجد فكرة كانت على الدوام من المعتقدات الأساسية للمذهب المثالي: هي أن الواقع تصوري أو عقلي؛ ومن ثم فإن أفضل سبيل إلى فهمه هو من خلال العقل وتحليل أوجه نشاطنا الذهنية الخاصة. فبنيان الواقع هو ذاته بنيان أذهاننا، وعن طريق نشاط عقولنا نحن في الفهم ووضع التصورات، نستطيع أن نصل إلى أفضل إدراك لطبيعة الحقيقة القصوى.
نتائج الأفلاطونية : على الرغم مما يتسم به هذا المذهب الميتافيزيقي العام الذي وضعه أفلاطون من أهمية في ذاته، فإنه ينطوي أيضا على نتيجة ضمنية لها أهميتها، وكان الشغل الشاغل للمثاليين منذ عهد أفلاطون هو إظهار مكنوناتها. فإذا كان الوجود الحق يكمن في عالم من الصور المثالية أو الماهيات التي ندركها عن طريق العمليات العقلية، فمن الواضح إذن أن التجربة الحسية وموضوعاتها تغدو ذات أهمية ميتافيزيقية أقل نسبيا. والواقع أن مؤلفات المثاليين حافلة بالعبارات التي تقلل من شأن الحواس وتزدريها، وتؤكد عجز التجربة الحسية عن كشف الحقيقة وعرضية الموضوعات التي تعالجها الحواس في مقابل الطابع الثابت للمعرفة التي يكشفها لنا العقل. ويذهب أفلاطون إلى حد وصف الحواس ونشاطها بأنها عقبة في طريق كشف الحقيقة، فالتجربة الحسية حجاب بيننا وبين «الوجود» الحق؛ إذ إنها لا تستطيع أن تنقل إلينا إلا ما يحدث في عالم التغير أو «الصيرورة». وهكذا تسير المثالية في طريق مضاد لما يمكننا أن نسميه بفلسفة الموقف الطبيعي، وهي الفلسفة التي ترى أن الصورة التي تقدمها إلينا حواسنا عن «الأشياء كما هي موجودة» هي صورة صحيحة (في حدودها الخاصة على الأقل). ولا جدال في أن مما يذهل الإنسان في موقفه الطبيعي أن يقال له إن عملياتنا الحسية ليست كافية فحسب، بل هي أيضا تحول إيجابيا دون فهم الطبيعة الحقيقية للأشياء. أما في نظر المثالي فإن هذه النتيجة ليست منطقية فحسب، بل هي أيضا نتيجة لا مفر منها. (5) الطابع الأخلاقي للمثالية
هذا الإعلاء المثالي للنشاط العقلي فوق التجربة الحسية، لا يبنى على أسس منطقية أو معرفية فحسب، بل إن في معظم المذاهب المثالية، كما في الأفلاطونية طابعا أخلاقيا واضحا يتسم به الجزء الأكبر من تفكيرنا. وكما رأينا من قبل فإن الصور المثالية عند أفلاطون لا تمثل ماهيات فقط بل تمثل كمالات أيضا، والصورة ليست متوسطات وإنما هي مثل عليا، وهذه المثل العليا، هي التي يتوق الذهن إلى كشفها من وراء حجاب الحس. وبعد أن يفهمها الذهن، يصبو إلى أن يحيا حياة قوامها ما في المثل من كمال، بقدر ما يتيح له ذلك عبء الجسد وحاجز الحواس. هذه النغمة الرئيسية التي تصف البدن. بما فيه من حواس وشهوات، بأنه عبء أو سجن أو مقبرة، تتكرر مرارا في المذهب الأفلاطوني. وتوجد على الأقل أفكار ضمنية مخففة من هذا النوع ذاته في كل مدارس الفكر المثالي. والنتيجة الحتمية لهذا الموقف هي الميل إلى الثنائية. فتقسيم أفلاطون الأساسي للحقيقة إلى عالم مادي أدنى، مستمد من غيره، هو عالم «الصيرورة»، وعالم أعلى من «الوجود» الحقيقي، يؤدي بسهولة إلى نظرة إلى الحياة يكون الجسد فيها مقابلا للنفس، والمادة مقابلة للذهن، والحس مقابلا للعقل. وفي كثير من الأحيان يترتب على ذلك مذهب زاهد أو مذهب تطهري
من نوع ما، ويصبح الجسم، حتى برغباته الصحية السوية، موضوعا للارتياب الأخلاقي. وبطبيعة الحال فإن المسيحية، التي تنطوي على ثنائية عميقة، قد وجدت تأييدا فلسفيا كبيرا في المثالية، على حين أن أفلاطون قد أطلق عليه وصف «مسيحي قبل أربعمائة عام من المسيح».
مثال الخير : يبلغ مذهب أفلاطون قمته في صورة الخير. وعلى حين أنه لا يعرف هذه الفكرة بدقة، فمن الواجب أن تفهم بمعنى أخلاقي عام. وهكذا فإن المذهب بأسره قائم على دعامة من القيم. ومن الواضح أن أفلاطون، مهما يكن مقدار اهتمامه بأن يثبت أن العالم المادي ليس إلا ظلا أو انعكاسا لعالم معقول أعلى هو عالم الصور، فإنه كان أكثر اهتماما بأن يثبت أن الكون مبني على أساس من القيم. وفي هذه المحاولة للتوحيد بين الخير والحقيقي، كان أفلاطون مثاليا بالمعنى الصحيح؛ ذلك لأن أمثاله من المفكرين يرون أن من المستحيل، حسب تكوينهم المزاجي الخاص، أن يتصوروا الكون إلا على أنه مرتبط بالخير ومتجه إليه. وهناك مدارس فكرية أخرى تبدي استعدادها للاعتراف بإمكان أن يكون الواقع محايدا من الوجهة الأخلاقية، أو شرا في أساسه، غير أن أية إمكانية كهذه تقع خارج حدود تصور المثالي. وهكذا نستطيع أن نتكهن بالإجابة التي سيرد بها على ذلك السؤال الذي يعده بعض المفكرين أكثر الأسئلة الفلسفية إلحاحا، ألا وهو: هل الكون في أساسه نظام أخلاقي، أم نظام آلي؟ هل الكون جهاز آلي هائل، يسير بطريقة لا شخصية عمياء غير مكترثة، شأنه شأن أي جهاز آلي آخر؟ أم هو في أساسه بناء أخلاقي، تكون للقيم والمثل فيه مكانتها العليا، ويكمن في قلبه الخير، لا العقل والغاية فحسب؟ إن المثالي يذهب إلى أن الرأي الثاني هو وحده الممكن، وأية إجابات أخرى لا تؤدي فقط إلى هدم مذهبه بأسره، بل هي في رأيه تكيل للآمال البشرية ضربات أشد. ذلك لأنه يشعر بأن النظام الكوني الآلي كفيل بأن يقطع الطريق على كل هذه القيم التي لها أهمية عليا في الحياة البشرية، والتي تشكل القوة الدافعة الأساسية لنشاطنا الروحي. ففي مثل هذا الكون الآلي، تدور محاولات الإنسان لكي يعيش حياة خيرة ويحقق غاياته الأخلاقية في فراغ أخلاقي هائل، ومثل هذا الكون إنما هو خواء لا يشعر على الإطلاق، ولا يكترث قط، بكل ما يهم البشرية وأمانيها العليا.
الخير بوصفه كونيا : يتفق المثاليون من جميع المدارس بوضوح على مسألة واحدة: هي أن أي نظام من القيم البشرية البحتة - أي الأخلاقية في إطار النزعة الطبيعية مثلا - لا يمكن أن تكون له غاية أو معنى. فقيمنا، ومثلنا العليا، لا تكون لها حقيقة إلا إذا كانت تستند إلى تأييد من الكون. أما لو كان نظام العام آليا أو طبيعيا خالصا، لكانت هذه القيم تتصف بنفس الفراغ وانعدام الدلالة اللذين يتصف بهما الكون ذاته. وبالنسبة إلى البشرية ذاتها، فن مثل هذا الكون يجعل الميتافيزيقا والأخلاق أسوأ من أن يكونا بلا معنى؛ فهما يصبحان فيه «دعابة أو مهزلة» ضخمة. وباختصار، فالمثالية تجد أن من المستحيل التفرقة بين الأخلاق والميتافيزيقا. فلا يمكن أن يكون لكفاحنا الأخلاقي، بل لقيمنا كلها؛ أي معنى إلا عندما نتأكد من أن لهما علاقة بالكون في مجموعه. وسوف نرى بعد قليل ما يقوله المذهب الطبيعي في هذا الصدد ولكنا نود أن نشير، خلال ذلك، إلى أن هذه النقطة هي التي يبلغ فيها التعارض بين المدرستين الكبريين ذروته. فهذه المسألة أساسية بالنسبة إلى المثالية؛ ومن ثم فلا مجال بها للحلول الوسطى: فإما أن يكون الكون ملائما للإنسان وقيمه جميعا، وإما أن تكون هذه القيم دعابة ساخرة - أو مهزلة كونية. ويخلص المثالي من ذلك إلى القول بأن من المؤكد، في عالم كهذا، أن المثل العليا تغدو شيئا غير جدير بأن نموت في سبيله، بل إنها تغدو شيئا لا يستحق أن نعيش من أجله.
ويشير بعض الملاحظين المحايدين لهذا الخلاف بين المثالية والمذهب الطبيعي أحيانا، إلى أن الميتافيزيقي المثالي يبدو وكأنه يشيد مذهبه وفي ذهنه هدف محدد مقدما: هو أن يصور الكون بحيث لا تكون القيم مأمونة فيه فحسب، بل تكون القوى الكونية مشايعة لها. ويسارع خصوم المثالية باستغلال هذا الحكم المحايد، بوصفه دليلا على أن المثاليين أقل موضوعية من أصحاب المذهب الطبيعي، (وبالتالي فإنهم مرشدون غير موثوق بهم كل الثقة في مجال الفلسفة). فخصوم المثالية هؤلاء يرون أننا لو قررنا مقدما أي نوع من العالم سوف نجد، فهل يكون من المستغرب أن ينتهي بنا الأمر إلى تكوين صورة رائعة عن عالم كهذا بالضبط؟ وهكذا فإن صاحب المذهب الطبيعي يتهم المثالي بأنه ميال مقدما إلى عالم ضامن للقيم، على نحو يجعل منه شخصا متحيزا على أحسن الفروض، ومتهما بالتفكير المغرض على أسوئها، وهو على أية حال شخص لا يعتمد عليه بوصفه مصدرا للحقيقة الفلسفية. والتحدي الذي يحب أنصار المذهب الطبيعي دائما أن يوجهوه في هذه الحالة هو: «أين كان يصبح العلم لو كان قد استهدف غايات محددة مقدما، ومرضية للمشاعر الذاتية كهذه؟» ولكن المثالي يرد على ذلك عادة بقوله إنه ليس عالما، وإنه لا يعترف بأن الموقف العلمي وعلم المناهج العام هما بالضرورة أفضل المصادر الموثوق منها للحقيقة. ولكنا سنتحدث بمزيد من الإسهاب في هذه المسائل الخلافية عندما نتعرض للمذهب الطبيعي في فصلنا التالي؛ لأن المسألة كما هو واضح أكبر وأهم من أن تعالج بإيجاز. (6) المثالية الذاتية
لا بد لنا أن نحرص على ألا يفهم القارئ مما نقول إن اهتمام المثالية مركز في فرع الأخلاق وحده؛ إذ إن كثيرا من الأفراد المعاصرين لهذه المدرسة يبدون اهتماما أعظم كثيرا بالمشكلات المعرفية والميتافيزيقية؛ لذلك فإننا سننتقل من «المثالية الأخلاقية» عند مفكرين مثل أفلاطون إلى المثالية الأقرب إلى الطابع «الميتافيزيقي» (أو المعرفي) عند مفكرين مثل باركلي وهيجل. ومن حسن الحظ أن عرضنا لتفكيرهم يمكن أن يكون أكثر إيجازا بكثير من عرضنا لتفكير أفلاطون. وليس ذلك راجعا إلى أنهم أفراد أقل في هذه المدرسة - فهم في نواح كثيرة أقرب إلى الطابع الحقيقي للمثالية كما هي معروفة في عصرنا الحالي مما كان الفيلسوف اليوناني - وإنما السبب هو أن الاتجاه العام لتفكيرهم هو في أساسه نفس اتجاه تفكير أفلاطون. وسوف تظهر نتائج أخلاقية ضمنية واضحة لدى هؤلاء الفلاسفة المتأخرين، ولكن لما كانت تحليلاتهم الأكثر دقة وتخصصا هي التي تهمنا، فسوف نقصر مناقشتنا عليها.
إن المثالية المعرفية (الإبستمولوجية)، وهي أهم صور المثالية في عصرنا الحالي، هي الاعتقاد بأن الذهن وحده هو الحقيقي. أما المادة، بكل مظاهرها، فما هي إلا مضمون ذهني، وبالتالي فهي متوقفة على الذهن في وجودها. إن المادة موجودة بلا شك، غير أن وجودها هذا يمكن تحليله إلى إدراكات. ولو شئنا أن نستخدم المصطلح الحديث، لقلنا إن المادة ليس لها وجود موضوعي (أي مستقل خارج عن الذهن)، بل هي معتمدة في وجودها على الذات (أي الذهن الذي يلاحظ ويجرب). وينبغي أن يلاحظ أنه قد طرأ هنا تغيير على المذهب كما كان عند أفلاطون. فللمثل أو الصور، في مذهب أفلاطون، وجود مستقل عن الفكر. وليس المهم هنا هو أنه جعل لهذه الصور نوعا من الوجود العيني أو المادي أو لم يجعل لها، وإنما الذي يعنينا هو أن في الأفلاطونية شيئا لا يمكن رده إلى مضمون ذهني للعقل البشري أو للعقل اللامتناهي.
3
فلسفة باركلي : أصبح مذهب المثالية الذاتية هذا سائدا لأول مرة في القرن الثامن عشر. ففي ذلك الوقت كانت الفلسفة قد أصبحت تشعر شعورا واضحا بمدى صعوبة تقديم تفسير مرض للعلاقة الدقيقة بين «المعرفة» و«الواقع»؛ أي بين تجاربنا أو إدراكاتنا الحسية، وبين العالم الطبيعي الخارجي الموضوعي الذي يفترض أن هذه التجارب والإدراكات تشير إليه. والحق أن من الصعب مقاومة إغراء الدخول في تفاصيل قصة التطورات الفذة التي أدت إلى هذه النزعة الذاتية. ومع ذلك فسوف نضطر إلى الاكتفاء بالخطوط العامة لمذهب أبرع المدافعين عن النزعة الذاتية، وهو جورج باركلي. فاستدلال باركلي يسير على النحو الآتي: إن كل الأشياء التي نسميها «مادة» هي موضوعات لتجربتنا. وهي بهذا الوصف لا توجد في نظرنا إلا بوصفها إدراكات. فعندما نقول مثلا أن الشجرة توجد، فنحن نقول إن لدينا إدراكا حسيا أو تجربة نطلق عليها اسم «الشجرة». غير أن هذه التجربة، مهما تكن حيويتها، لا تضفي على أي نحو وجودا موضوعيا مستقلا على «الشجرة» التي تظل مجرد تجربة. وبالاختصار، فالقول إن أي شيء يوجد، مرادف للقول إنه يدرك من خلال حاسة واحدة أو أكثر من حواسنا. ويلخص باركلي المسألة كلها في عبارته المشهورة: وجود الشيء هو كونه مدركا
Esse est Precipi
فليس ثمة وجود بمعزل عن الذهن الذي يدخل هذا الوجود في تجربته. وبلغة علم النفس الحديث، فإن شجرتنا ليست إلا مجموعة من الإحساسات، والإحساس ذاتي. وهكذا يتضح أن ما نسميه «بالموضوع» ما هو إلا تجربة ذهنية - لأن وجوده ما هو إلا دخوله في التجربة - وكذلك الحال في المادة بكل صورها. وإذن فالواقع ذهني بحت، والعالم بأسره ذهني، ولا وجود إلا للأذهان وإدراكاتها.
نقد الموقف الطبيعي لباركلي : اعترف باركلي صراحة بالغرض من وضعه لمذهبه، فقال إنه تفنيد المادية الشائعة في عصره. فقد رأى أنه إذا أثبت استحالة وجود المادة مستقلة، فلن تكون للمادية أرجل تقل عليها - وهو رأي منطقي تماما. غير أن خصومه أهابوا بالموقف الطبيعي، وأراد أحدهم، وهو العالم اللغوي المشهور «صامويل جونسون
Samuel Johnson » أن يفند المثالية الذاتية بضربة هائلة من رجله في حجر، ويقال إنه هتف: «على هذا النحو أفند الأسقف باركلي!» ولكن لا الموقف الطبيعي، ولا ركل الحجر، بكاف للرد على حجته، كما بادر الفيلسوف الأيرلندي الذكي إلى القول. فكل ما أثبته الدكتور جونسون هو ما اعترف به المذهب الذاتي بالفعل وهو أن لدينا حزما من الإحساسات - هي في هذه الحالة إحساسات بالمقاومة العضلية ووخزة من الألم موضعها إبهام القدم. ولكن هل يثبت ذلك أن هناك أي شيء له وجود خارجي، فيما عدا أذهاننا الخاصة الواعية بوصفها مراكز للإدراك الحسي؟ إن حجة الموقف الطبيعي هي أن من الممتع الادعاء بأن موضوع الإدراك الحسي. كالكتاب الموضوع على المنضدة، لا يعود موجودا عندما نغادر الحجرة أو نتوقف عن إداركه لحظة لأي سبب آخر. غير أن باركلي يرد على الفور بقوله: «ما هي الصفات أو الخصائص التي يمكن أن يتصف بها الكتاب «الموجود» في هذه الظروف؟» فإذا ما رد الموقف الطبيعي - كما يتعين عليه أن يرد - بقوله إن هذه الصفات تنتمي إلى حاسة واحدة أو أكثر، «كالأخضر» أو «الثقيل» أو «السميك» أو «الكبير»، فعندئذ يكون باركلي قد أحكم إغلاق الفخ: فماذا تكون هذه الصفات كلها، إن لم تكن معطيات حسية؛ وبالتالي صفات ذهنية أو ذاتية خالصة؟ وهكذا يظل الوجود حزمة من الإحساسات؛ وبالتالي ذهني الطابع، على الرغم من كل ما يستطيع الموقف الطبيعي أن يعترض به عليه.
غير أن الموقف الطبيعي؛ إذ يقتنع بضرورة وجود خدعة في مذهب كهذا، يعود فيوجه هجوما جديدا. فكيف يستطيع باركلي أن يفسر اتساق عالمنا الإدراكي واتفاق الناس عليه؟ لو كان كل وجود متوقفا على الذهن، فكيف يحدث أن تتسق إدراكاتي الحسية المتعددة لتلك الشجرة بعضها مع بعض إلى هذا الحد؟ وكيف تدرك على الدوام على أنها شجرة صنوبر، مثلا، بدلا من أن تدرك أحيانا على أنها شجرة بلوط أو زان؟ وفضلا عن ذلك، فكيف تفسر تلك الأدلة العملية الكثيرة التي تثبت أنني أنا وأنت ندرك نفس الشجرة عندما نحول أعيننا إلى اتجاه معين؟ إذا كانت شجرتك وشجرتي متشابهتين إلى حد تدل معه كل الدلائل على أنهما شجرة واحدة، فلا بد أن يكون هناك مصدر مشترك واحد أو سبب لإدراكاتنا. وأين يمكن أن يكمن هذا السبب إلا خارج ذهني وذهنك؛ أعني في العالم الخارجي؟
يرد باركلي على ذلك بأن يذكرنا بأنه لا ينكر على الإطلاق وجود عالم خارجي وإنما هو ينكر فقط وجود عالم مادي يوجد مستقلا عن كل إدراك؛ أعني عالما لا يكون فكرة في ذهن ما. وهو يعبر عن رأيه هذا بقوله: «إنني لأذهب بالفعل إلى أن موضوعات الحس ليست إلا أفكارا يستحيل أن توجد ما لم تدرك. ومع ذلك فليس لنا أن نستنتج من ذلك أنها لا توجد إلا عندما ندركها نحن، فقد تكون هناك روح أخرى تدركها مع عدم إدراكنا نحن لها. ولا يلزم عن ذلك أن الأجسام تفنى وتخلق من جديد في كل لحظة، أو لا توجد على الإطلاق خلال الفترات الواقعة بين إدراكنا لها.» «قد تكون هناك روح أخرى تدركها مع عدم إدراكنا نحن لها.» ماذا يمكن أن تكون الروح الأخرى أو الذهن الآخر؟ من الواضح أن باركلي لو استطاع أن يثبت وجود هذا الذهن الآخر، لأصبح أقدر على مواجهة مقتضيات الموقف الطبيعي. ولا يحتاج المرء إلى وقت طويل لكي يدرك الاتجاه الذي يسير نحوه استدلاله: «ولكن مهما يكن لدي من قدرة على بعض أفكاري، فإني لا أجد أفكارا أخرى لا تتوقف كذلك على إرادتي. فعندما أفتح عيني في رائعة النهار مثلا، لا يكون في مقدوري أن أختار أن أرى أو لا أرى، أو أن أحدد ما أراه. ومثل هذا يقال عن السمع وغيره من الحواس. فالأفكار التي تنطبع على هذه الحواس ليست مخلوقات صنعتها بإرادتي. ومن ثم فهناك إرادة أو روح أخرى، أو عقل آخر، هو الذي أنتجها.
هذه الأفكار التي لا أستطيع التحكم فيها ؛ أعني هذه الأفكار الحسية، أقوى وأشد حيوية وأوضح تميزا من تلك التي أستطيع التحكم فيها. وهي تتميز أيضا بثبات ونظام وإحكام لا تتصف به تلك التي تنتج بإرادتي. وهي تنم بذلك عن كونها ناتجة عن ذهن أقوى وأحكم من أذهان البشر.
إن هناك حقائق قريبة من الذهن البشري وواضحة له إلى حد أن كل ما يحتاج إليه الإنسان هو أن يفتح عينيه ليراها. ومن قبيل هذه الحقائق في نظري، هذه الحقيقة الهامة، وأعني بها أن كل ما في قبة السماء وما تحمله الأرض؛ أي باختصار، كل الأجسام التي تكون الهيكل الجبار للعالم، ليس لها وجود بدون ذهن ما، وأن وجودها هو أن تدرك أو تعرف، وأنها بالتالي، ما لم أكن أدركها بالفعل، أو لم تكن موجودة في ذهني أو في ذهن أية روح مخلوقة أخرى، لا بد إما ألا يكون لها وجود على الإطلاق، وإما أن تظل قائمة في ذهن روح أزلية ما.»
وهكذا فإن الفرض الذي يقول به باركلي لا بد له، لكي يرضي الموقف الطبيعي للإنسان، من أن يسلم بوجود ذهن معين غير ذهننا (وأعظم منه). فليس ثمة وسيلة أخرى تحفظ وجود الكون، وليس ثمة وسيلة أخرى تتيح تفسيرا كافيا لإحكام إدراكاتنا واتساقها. وهكذا ربط باركلي مذهبه كله بذلك المفهوم الواحد، مفهوم «الله». فإدراك الله يحفظ للكون وجوده، سواء أكانت أية أذهان بشرية تقوم بواجبها الإدراكي أم لا. وذهن الله يضمن أيضا اطراد إدراكاتنا: فعندما ننظر من نفس النافذة كل يوم نرى نفس الأشجار والمباني في الخارج؛ لأن وجودها الحقيقي يتوقف على الوعي الإلهي بها. إننا نحن قد نذهب ونجيء، وننظر من النافذة أو لا ننظر، غير أن الله يحفظ باطراد وجود كل الأشياء الطبيعية التي تمر بتجربتنا مرورا عارضا غير منتظم ولا دائم. والواقع أننا مهما نقل عن إله باركلي، فمن المؤكد أنه ليس متهاونا أو مهملا في الاضطلاع بواجباته الإدراكية! فهو مواظب على القيام بالعمل، أربعا وعشرين ساعة في اليوم، كل يوم من أيام السنة. وبطبيعة الحال، فإنه لما كان ذا علم محيط، فإنه يدرك كل ما يوجد، وضمنه الكثير مما لم يره الناس ولن يروه قط.
الدور الرئيسي لله في مذهب باركلي : لن نكون مغالين إذا قلنا إن لله من الأهمية في مذهب باركلي ما له في أي بناء لاهوتي؛ ذلك لأن باركلي، حين استعان بالذهن الإلهي ورصيده اللامتناهي من الإدراكات، قد ضرب عدة عصافير بحجر واحد: (1) فهو علل وجود العالم الخارجي كما يطلب الموقف الطبيعي. (2) وفسر استمرار إدراكاتنا واتساقها (فالذهن الإلهي يتولى العمل عندما ننام أو ننشغل بإدراكات أخرى، وبذلك يحفظ وجود الأشياء جميعا، ويجهزها لكي تدركها الأذهان المتناهية عندما تستيقظ من جديد أو تتحول مرة أخرى إلى هذا الاتجاه)، (3) وفسر التشابه في إحساساتنا عندما ندرك شيئا واحدا مشتركا (ما دام الشيء يوجد بوصفه فكرة واحدة في الذهن الإلهي، فليس من المستغرب أن ندركه كلنا على نفس النحو): (4) وحطم المادية بالقضاء على العالم المادي المستقل عن الفكرة، (5) وفند الإلحاد بأن جعل الله حقيقة لا غناء عنها في كل وجود. وليس من شك في أن بركلي كان يؤمن بإخلاص بأن محو فكرة الله من الذهن سيؤدي إلى تدمير الكون - ناهيك بتدمير مذهب باركلي ذاته.
وإذن فقد اعتقد باركلي أنه تمكن من تفسير كل هذه الأمور وإثباتها. وكان لا بد للفلسفة أن تنتظر جيلا آخر حتى يبين هيوم، الفيلسوف الاسكتلندي الشكاك اللامع، أن منطق باركلي سلاح ذو حدين، يبتر من هذا الجانب ومن ذاك. ذلك لأننا إن لم نبدأ بالإيمان بوجود الله، فليس ثمة وسيلة لإثبات أن إدراكاتنا لها ركيزة موضوعية في الذهن الإلهي. فمثلا، لو كان وجود أي شيء يتوقف على كونه مدركا، فمن أين يأتي وجود الله، ومن الواضح أنه ليس موضوعا إدراكيا إلا بالطبع إذا شنقنا أنفسنا بالمنطق فأكدنا أن الله يستطيع أن يولد ذاته بإدراك ذاته؟!
وأيا كان تقديرنا النهائي لمذهب باركلي، فإننا نستطيع أن نرى بوضوح سبب إطلاق اسم «النزعة الذاتية» عليه، وسبب اعتماد كل المذاهب المثالية التي تطورت عنه على المنطق ونظرية المعرفة اعتمادا كبيرا. فكل هذه المذاهب تبني نظرتها إلى العالم على حقيقة لا تنكر هي أن كل شيء يوجد، يبدو مرتبطا بإدراكنا له ارتباطا لا ينفصم. ومن هذه المقدمة يعتقد المثالي أن من المنطقي أن نستنتج أن الوجود بما هو كذلك يتوقف على الإدراك
Esse est Percipi
على أن صاحب هذه النظرية الواقعية في المعرفة، كما سنرى في فصل تال - يجد هذا الاستدلال فاسدا. ومع ذلك فإن الأقرب إلى تحقيق غرضنا، عند هذه النقطة من العرض الذي نقدمه، هو أن نناقش بإيجاز ما يسمى «بمأزق التمركز حول الذات»، الذي ظهر أصلا بوصفه حجة ضد النزعة الذاتية، ولكن من الممكن تقديمه من زاوية محايدة على نحو يبدو معه الموقف المثالي أقرب إلى الفهم، وربما أجدر بأن يقبل.
مأزق التمركز حول الذات : لسنا نود أن نخوض في تفاصيل النتائج المترتبة على الحجة المسماة بمأزق التمركز حول الذات
Egocentric Predicament
ولكنا سنعرض مقدماتها بإيجاز على النحو الآتي: لا بد لأي موضوع - لكي يصبح موضوعا للمعرفة، من أن يكون موضوعا للتجربة - أي إن أي شيء لا يمكن أن ينفذ إلى أذهاننا ما لم يدخل في علاقة ما. هذه العلاقة هي علامة المعرفة
cognition (أي الإدراك والتجربة والتعرف، بأوسع معانيها جميعا) فالأشياء لا تنفذ إلى وعينا إلا من خلال العملية المعرفة. وبطبيعة الحال فليس هناك من سبيل إلى معرفة ما عسى أن تكون عليه الأشياء بمعزل عن هذه العلاقة المعرفية - أي ما قد تكونه في ذاتها أو لذاتها - لأن من الواضح أنه في اللحظة التي تبحث فيها أي شيء محاولا أن تعرف طبيعته الحقة، فإنه يصبح موضوعا للمعرفة. وبعبارة أخرى فنحن لا نستطيع أبدا أن نخرج عن أذهاننا ونتحرر من عملياتنا الحسية بحيث نقابل الأشياء وجها لوجه. وليس في وسعنا أن نتسلل من الخلف ونمسك بالأشياء خلسة وهي «على غير استعداد». فنحن محصورون داخل وعينا الخاص، وكأننا مسجونون سجنا مؤبدا داخل جهازنا الحسي والمعرفي. ومن هنا كان «مأزق التمركز حول الذات » الذي لا يستطيع إنسان أن يجد منه مهربا .
ونتيجة هذا الموقف، في نظر المثالي الذاتي، واضحة وضرورية منطقيا. فالذهن المدرك هو الحقيقة النهائية في الكون. والأشياء الوحيدة الموجودة هي الأذهان وإدراكاتها، وفيما عدا هذه لا يوجد شيء. أما الواقعي فيرى أن حقيقة هذا المأزق لا يمكن إنكارها، ولكنه لا يؤمن بهذه النتائج. فالواقعي لا يرى داعيا إلى تأكيد قصور مؤسف يتصف به الذهن، والارتفاع به إلى حد جعله أساسا لنظرتنا إلى العالم. صحيح أن كل ما نعرفه عن العالم هو ما يأتينا من خلاله التجربة، غير أن حتمية العلاقة المعرفية لا تبرر إضفاء تلك المكانة الميتافيزيقية العليا على هذه العلاقة. ومع ذلك فإن المثالي هو الذي له الكلمة الأخيرة هنا (إذ إن هذا الفصل خاص به). فهو لا يرى شيئا «مؤسفا» في مأزق التمركز حول الذات، وفي رأيه أن هذا المأزق لا يدل على قصور في الذهن، بل يعبر عن طبيعة الواقع ذاته. فالمشكلة عند المثالي ليست في الخروج عن أذهاننا؛ إذ إن هذه الأذهان هي الواقع، ولا يمكن أن «يخرج» عن الواقعي إلا غير الواقعي؛ أي ما هو غير موجود. (7) مذهب الذات الوحيدة
من الواضح أن مذهب باركلي مذهب تعددي؛ إذ إنه يرى أن الواقع يتألف من أذهان (أو «أرواح»، حسب تعبير باركلي) وإدراكاتها. وحتى الذهن الإلهي، على ما له من أهمية في جمع شتات المذهب، ليس إلا مركزا إدراكيا مضافا إلى غيره، وبذلك تظل التعددية باقية.
ويبدو أن أي مذهب يجمع بين التعددية والذاتية معرض دائما لأن يتهدده خطر شبح لا يمكن التخلص منه نهائيا بأي التجاء إلى الذهن الإلهي. هذا الخطر الذي يتهدد المذاهب الذاتية على الدوام هو مذهب «الذات الوحيدة
Solipsism » الذي يعترف الجميع بأنه أشد المواقف الفلسفية تطرقا وأكثره تخريبا من الوجهة العقلية. والقائل بالذات الوحيدة هو مفكر ذاتي متطرف لديه الجرأة على أن يخطو الخطوة المنطقية الأخيرة التي يشعر جميع أعداء النزعة الذاتية بأنها خطوة لا مفر منها بالنسبة إلى هذا النوع من المثالين. فهو على استعداد للسير في منطقه حتى نهايته المريرة . وذلك بأن ينتهي إلى أنه لا يوجد شيء في الواقع إلا هو ذاته وإدراكاته الفردية. «فأنا وأفكاري (أو إدراكاتي) كل ما يوجد» - هذا هو الموقف الأساسي للقائل بمذهب الذات الوحيدة، وكل ما عدا ذلك؛ أي كل الأشخاص والأشياء والكون المادي بأسره، لا وجود له إلا بقدر ما يتحقق على الدوام في ذهن صاحب مذهب الذات الوحيدة.
وأهم ما يفعله صاحب هذا المذهب هو أنه يتحدى أي شخص، وكل شخص، أن يأتي عن طريق المنطق برد إيجابي على السؤال: «ما الذي يوجد غير ذاتي وتجربتي؟» ومن الواضح أن هذا ليس إلا امتداد للسؤال المتضمن في الأنواع الأقل تطرفا من المثالية الذاتية، كمثالية باركلي. ولكن بينما باركلي (ومعه كل مثالي في الواقع) يتساءل: «كيف تستطيع أن تثبت أن أي شيء يمكن أن يوجد إلا وهو معروف لذهن ما؟» فإن صاحب مذهب الذات الوحيدة يزيد السؤال حدة بأن يقول: «كيف يمكن إثبات أن أي شيء يمكن أن يوجد إلا وهو معروف لذهني أنا؟» ويلح هذا المذهب على طلب رد منطقي، فهو لا يقنع بأية إهابة بالموقف الطبيعي، ولا بأية إهابة برأي الأغلبية الساحقة. فلما كان صاحب هذا المذهب قد أعلن منذ البداية أنه أقلية تتألف من واحد له من الأهمية ما يجعل أفكاره وتجاربه تضفي الوجود على كل شيء آخر له وجود، فإنه لا يتأثر أبدا بالحجة القائلة إن معظم الناس لا يتفقون معه. فمن هم أولئك الملايين الذين لا يوافقون؟ إنهم مدينون بوجودهم ذاته لإدراكه لهم، وإذن فعلى أي أساس ترجح كفة آرائهم على النتائج المنطقية للذهن الذي بعثهم إلى الوجود؟ ...
ولعل القارئ قد بدأ يدرك الآن لم كان مذهب الذات الوحيدة، من الوجهة المنطقية، موقفا أقوى مما يبدو لأول وهلة. فبغض النظر عن مدى نفور الموقف الطبيعي منه، فإن هذا الموقف يصعب تنفيذه ما دمنا نمارس اللعبة الفلسفية على أساس قواعد المنطق الدقيق (وهو ما يصر صاحب الذات الوحيدة على أن نفعله). وعلى حين أن شوبنهور لم يكن من أصحاب هذا المذهب، فإن العبارة التي استهل بها كتابه الفلسفي الأكبر تعد تعبيرا كلاسيكيا عن الفكرة الأساسية لهذا المذهب: «العالم فكرتي». وفي ذلك يتفق معه صاحب مذهب الذات الوحيدة قائلا: «بالضبط! وإنني لأتحدى أي شخص أن يثبت أن العالم وكل ما فيه هو على أي نحو أكثر من فكرة لي.»
وإنه لمن العبث أن نرد على صاحب هذا المذهب بالإشارة إلى الحقيقة التي يعترف بها الموقف الطبيعي، والقائلة إن العالم قد وجد قبل وقت طويل من ميلاد صاحبنا هذا، وسيظل موجودا بعد وقت طويل من مماته؛ إذ إن رده يكون دائما على نحو مماثل لهذا: «كيف أعلم ذلك - وكيف يمكن إثباته لي» إن كل ما أعلمه (وكل ما يمكن إثباته بالمنطق) هو أنني الآن أدرك بيئة محيطة بي. أما منذ أي وقت ظلت هذه البيئة موجودة، وإلى أي وقت ستكون موجودة، وإلى أي حد تمتد فيما وراء نطاق إدراكي، فتلك كلها أمور لا أعلم عنها، ولا يمكن أن أعلم عنها، شيئا. صحيح أن هناك أقوالا متواترة، وإشاعات، بل سجلات من أنواع شتى، غير أن هذه بدورها لا توجد إلا بوصفها جزءا من تجربتي. وفضلا عن ذلك فهي ليست معرفة بالمعنى الذي أصر على أن نعرف به المعرفة؛ أعني ما هو معروف لي شخصيا بتجربة مباشرة أمر «بها».
أما فيما يتعلق بوجود الكون بعد أن تنتهي التجربة الخاصة لصاحب مذهب الذات الوحيدة، فإن صاحبنا هذا يتفق تماما مع ما ورد في إحدى قصائد أ. أ. هوسمان
A. E. Housman
بأن كل ما على من يود الانتحار أن يغمد الخنجر الذي يمسك به في صدره، لكي ينهار الكون كله فيصبح عدما. وقد عبر شاعر آخر، وهو الشاعر الأمريكي «جون هول ويلوك
John Hall Wheelock » عن فكرة تكاد تكون مماثلة لهذه تعبيرا رائعا في قصيدته الطويلة «التوسط
Mediation ».
4
فبعد تأمل في سر الوجود والتعبير عن هذا السر في الفن والأدب، يقول:
الأرض تأخذ معها؛ فهي في صمت تدور
حول المدار القديم، تحمل في صدرها
ذلك الفم الوسنان، الفم الذي يغني. •••
لكن هذا كله لا يحيا إلا في ذهني،
وعندما يظلم هذا الذهن، ستظلم الدنيا كلها
فجأة؛ ستصبح الدنيا كلها عمياء ... •••
إن كل ما مسست، وكل ما أحببت وعرفت
سيتخلى عني؛ وسوف يتراجع صدر الحياة
تاركا إياي وحدي في الظلام ... •••
أيها الكون الحاشد بالنجوم، المعلق في جرس
ذهني الصداح، لتعش في الآن!
ولتسكن في هنا لحظة! •••
فلكم ولدت في أذهان الكثير من الناس،
لتنقضي سراعا ... •••
وتموت مرة أخرى مع كل ذهن!
إنها لفكرة ما أقساها علي:
فما أشد مرارة التفكير ...
في أن هذا كله سيكون، بالنسبة إلي،
كأنه لم يكن، عندما ينقضي أجلي ...
ولكن قد يحسن بنا نحن أيضا أن نتراجع. ولنكرر مع هامات تعبيره البليغ، الذي قاله بعد التأمل في مشكلات مماثلة: «في هذا الطريق يقبع الجنون». (8) المثالية الموضوعية أو المطلقة
كانت الرغبة في التخلص من ورطة مذهب الذات الوحيدة من بين الأسباب التي دعت مدرسة من الفلاسفة الألمان في أوائل القرن التاسع عشر إلى وضع آخر صورة مثالية يتعين علينا بحثها. هذه المثالية تعرف باسم المثالية المطلقة
5
أو «فلسفة المطلق»، وهو الاسم الأكثر شيوعا. ولقد كان أهم دعاتها هم نتشه وشبلنج وهيجل، الذين كان آخرهم يفوق الباقين في تأثيره بمراحل. ولقد كان لهذه المدرسة تأثير هائل في المذهب المثالي في إنجلترا والولايات المتحدة. ويبدو أن هذا التأثير قد تعدى نقطة السمت قبل الحرب العالمية الأولى بفترة ما. ولكن أحدا لا يستطيع أن يقرأ بفهم فلسفة القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ولاهوته أو حتى شعره، ما لم يكن على شيء من الإلمام بهذه المدرسة وتعاليمها.
وأهم ما يميز المثالية المطلقة هو أنها تتجه بقوة إلى الواحدية بقدر ما يتجه مذهب باركلي إلى التعددية. «فالوحدة» و«الشمول» و«الكل» ألفاظ رئيسية في هذا المذهب. وربما كانت تمثل أجرأ محاولة بذلت حتى الآن لفرض الوحدة والتكامل على العالم والتجربة البشرية. وهي قد حققت هذه الوحدة بوسيلة تبدو بسيطة، هي التوحيد بين الطبيعة والذهن. وبطبيعة الحال فإن باركلي كان قد حاول أن يقوم بشيء مشابه لهذا في توحيده بين الطبيعة والجربة، غير أن مذهبه كان يشتمل على عدد من الأذهان الفردية أكبر من أن يتيح سد الثغرة بينهما. أما مذهب هيجل فقد حاول التخلص من هذه الصعوبة عن طريق مفهوم الذهن الشامل أو المطلق (الذي يطلق عليه عادة «المطلق» فحسب)، والذي لا تكون أذهاننا المتناهية إلا أجزاء منه فحسب.
من باركلي إلى هيجل : والواقع أن الخطوات المنطقية التي أدت إلى ظهور هذا «المطلق» طريفة إلى أبعد حد، لا سيما بعد أن أصبحنا قادرين على فهم هذا التطور المحتوم من النزعة الذاتية عند باركلي. فصاحب المذهب المطلق شأنه شأن صاحب النزعة الذاتية، يبدأ بما هو في نظر المدرستين معا أهم الوقائع المجردة: ألا وهو الاعتماد التام لكل وجود كما نعرفه على التجربة. من هذا الموقف المعرفي المعترف به، يقفز كل من نوعي المثالية قفزة هائلة إلى الرأي القائل إن الوجود يتوقف على التجربة - لا الوجود - كما نعرفه فحسب (أي بقدر ما تمتد تجربتنا)، وإنما الوجود بما هو كذلك. ولكن في الوقت الذي ينتقل فيه باركلي إلى افتراض ذهن إلهي لكي يحفظ وجود العالم الطبيعي (بوصفه موضوعا للإدراك). فإن منطق المذهب يؤدي إلى تصور أعمق وأدق من الوجهة العقلية إلى حد ما. فهذا «المطلق» هو، من وجهة النظر المعرفية، ذات شاملة لكل شيء، تناظر الكون بوصفه موضوعا شاملا. ذلك لأننا لو اعترفنا مع باركلي بأن «وجود الشيء هو كونه مدركا»، وبأن كل موضوع في العالم ليس إلا موضوعا للإدراك (أو منسوبا إلى التجربة)، فعندئذ يلزم عن ذلك منطقيا أن نفترض فعلا إدراكيا مطلقا يضفي الوجود على المجموع الشامل للأشياء الطبيعية، الذي نسميه الكون؛ أي إن نفس وجود هذا الكون، الذي لا تعرفه أذهاننا المتناهية إلا معرفة جزئية (أي بوصفه موضوعات فردية) يقتضي هنا أن نؤمن «بمجرب مطلق» يحقق تكامل كل تجربة ممكنة لا كل تجاربنا الجزئية فحسب.
وأيا ما كان حكمنا الشخصي على المثالية بالمطلقة بوصفها الرأي النهائي عن العالم، فلا مناص من الاعتراف بأن منطقه محكم. فما إن نقبل أن نخطو أول خطوة ودية مع الأسقف الطيب باركلي، في أيامه الغابرة في القرن الثامن عشر، حتى يكون صاحب المذهب المطلق قد امتلكنا جسدا وروحا. ولا يبدو أن هناك مفرا من منطقه الصارم؛ إذ إن أبسط غزل بريء مع «وجود الشيء هو كونه مدركا» يؤدي حتما إلى الوقوع في أحضان «المطلق» التي لا يفلت منها شيء. أما الواقعي، الذي هو حريص قبل كل شيء على الإفلات من هذا المصير العقلي، فإن لديه طريقته الخاصة في الاحتفاظ بحريته. غير أن هذه خاصة أخرى، ينبغي أن تنتظر فصلا آخر.
خصائص المذهب المطلق عند هيجل : نود، قبل أن نختم هذا البحث الذي هو أوجز بحث ممكن للمثالية المطلقة، أن نعدد بعضا من سماتها الهيجلية الخاصة التي كان لها أوسع تأثير. فأولا، يلاحظ أن هذا الشامل، أو الكل الذي هو «مطلق» ليس شيئا جامدا لا حياة فيه. وقد أخذ هيجل هذه البادرة (كما يفعل المثالي دائما) من طبيعة الإنسان، ولا سيما طبيعة عمليات الإنسان العقلية، وجعل منها مفتاحا رئيسيا يفض به أسرار الحقيقة. ولما كان يؤمن بأن الطبيعة والعقل موحدان في كل عضوي، فإن من المنطقي في نظره أن يجد في طبيعة الإنسان العقلية ماهية «المطلق»؛ فهو روح أو عقل كوني شامل. وهناك فكرة أخرى، تعد من أجرأ إسقاطاته، هي أن العملية التاريخية أو التطورية للكون ما هي إلا تكشف أو تحقق متزايد «للروح». وفي هذا التحقق المتزايد نجد نموا مزدوجا، فالروح تحقق ممكناتها، وتزداد وعيا في نفس الآن. وكل تغير تاريخي، وكل حادث في الزمان، وكل نمو تطوري، يمثل مرحلة في النمو التدريجي «للروح». وأن هذه المراحل (أي أكملها تحققا وأكثرها وعيا) هي النظم البشرية، ولا سيما الفن والدين والفلسفة.
وإذن فكل ما يتبقى هو تحقيق الوحدة النهائية. فإذا كان كل وجود تعبيرا عن «الروح المطلقة»، إذا كان هذا «المطلق» هو بالتالي الواقع الكامل فعندئذ لا يمكن أن يكون وعينا إلا الوعي الذاتي المطلق. وإذن فالتاريخ، أو مرور الحوادث ، وتجربتنا، أو وعينا بهذه الحوادث، هما النصفان المحدودان أو الناقصان لعملية واحدة.
6
وهكذا فإن العملية الكونية غائية، وكل ما يحدث يهدف إلى تحقيق الإمكانات الكامنة في «الروح». «فالحدوث» يعني تحقيق إمكان آخر معين للمطلق. (9) تلخيص للمثالية
كان تقديم المثالية بالطريقة الشاملة المعممة التي قدمناها بها في هذا الفصل أمرا بالغ الصعوبة. ذلك لأنه كان هناك خطر دائم من أن نرتكب، خلال محاولتنا الأخذ بيد القارئ خلال هذه الغابة الفلسفية في جولة سريعة شاملة، خطأ تجاهل هذه الحقيقة الهامة. وهي أن أية غابة مؤلفة من أشجار لا تتشابه منها اثنتان. ومن المعلوم أن الفوارق بين المدارس الفرعية المتعددة داخل المذهب المثالي كثيرا ما تكون فوارق ملحوظة، بل إن المفكرين الأفراد يختلفون في آرائهم اختلافا أكبر. ولقد كان أصعب الأسئلة إجابة، في تقديمنا لهذه الصورة العامة لمثل هذا الميدان المعقد، هو سؤال أفلاطوني، وأعني به: كيف يكون المرء مثاليا؟ ... أو بعبارة أخرى: إذا استبعدنا كل الفوارق «المظهرية» وتغلغلنا في «الحقيقة» فما هي ماهية المثالية؟
تلخيص عام : إذا شئنا أن نلخص هذا الفصل ونختمه، فلنقل إن المثالية هي نظرة إلى العالم يكون فيها الذهن أو الفكر أو الروح الحقيقة الأساسية، وهي مذهب يتخذ من الذات العارفة (أي الذهن البشري الفردي المتناهي أو العارف المطلق، أيا كان نوعه) مركزا للأشياء، ثم ينظم الكون حول هذا الوجود المركزي. وفضلا عن ذلك فإن الكون مرتبط ارتباطا منظما بهذه الذات المركزية العارفة على أنحاء شديدة الوثوق بوجه خاص. فالكون هو على نحو معين - يتفاوت من مدرسة مثالية إلى أخرى - إسقاط أو امتداد للذهن أو الروح. ومن ثم فإن الواقع يتصف بكثير من الخصائص التي يعدها الذهن أساسية فيه هو. فالمثالية تصور لنا عالما غالبا، معقولا، مفهوما، والأهم من ذلك كله أنه إما خير في ذاته، وإما معني أساسا بالخير. إنه عالم لا يكون للقيم فيه وجود موضوعي فحسب، وإنما يعمل مسار الكون ذاته على تحقيقها وحفظها، بل إننا نستطيع أن نجد، في النظرة المثالية إلى العالم، أسبابا للاعتقاد بأن الهدف الأول لهذه العملية الكونية تحقيق القيم إلى أقصى حد ممكن. وبذلك «لا يستبعد شيء مقدما بوصفه مستحيلا في اتجاه أعلى أمانينا البشرية.»
7
ذلك لأن الكون في صميمه ملائم للإنسان ومثله العليا.
الفصل الرابع
المذهب الطبيعي: العالم غير مكترث
مثلما أن الدين يجد المثالية أقرب المذاهب الفلسفية إلى قلبه، فكذلك كان العلم رفيقه الفلسفي الخاص، هو المذهب الطبيعي. هذا المذهب هو في أساسه الاعتقاد بأن العالم الطبيعي أو «الواقعي»؛ أي عالم التجربة البشرية - هو المجال الوحيد الذي يمكننا أو يجب علينا أن نهتم به. وهذا التحديد لم يوضع اعتباطا؛ إذ إن العالم الطبيعي هو الذي رسم حدود بحثنا، نظرا إلى كونه العالم الوحيد الذي تكشف لنا التجربة وجوده. ومن الواضح أن هذا الاعتقاد الأساسي في المذهب الطبيعي يعني آليا رفض الاتجاه إلى العالم الآخر، والنزعة المتعالية أو فوق الطبيعة بكل صورها. فأية معرفة أو قيمة أو مثل أعلى لا يمكن إرجاعه إلى التجربة البشرية وإلى ما فيه صالح البشر، لا يمكن أن يكون له معنى في نظر المفكر المؤمن بالمذهب الطبيعي.
وينظر صاحب المذهب الطبيعي عادة إلى الميتافيزيقا المثالية الرحبة على أنها بناء منطقي رائع، لم يشيد على أساس من التجربة، على حين أن النموذج الذي يقدمه الدين، والذي يمتلئ أملا وتبشيرا، يبدو في نظره ناتجا عن تفكير مغرض مبني على افتقار مماثل إلى أساس من الواقع. وصاحب المذهب الطبيعي يكون عادة على استعداد لترك المثالي ورجل الدين والمتصوف مع مذاهبهم، غير أنه يؤكد ضرورة النظر إلى هذه على أنها مسائل إيمانية خالصة، ليست لها أية علاقة بالبرهان التجريبي. وهو يفخر عادة «بصرامته الذهنية»، ويميل إلى النظر بطريقة تمتزج فيها السخرية بالسخط، إلى ما يعده «رقة ذهنية» لدى المثالي، الذي يبدو عاجزا عن الحياة، إن لم يشيد لنفسه عالما يلائمه ويحميه، والمذهب الطبيعي يتهم المثالية بأنها تجعل أماني الإنسان وأحلامه تؤثر في بحثه عن الحقيقة، بل تشوهه، على حين أن القائل بالمذهب الطبيعي يكون عادة واثقا من أن صفحته في هذا الصدد بيضاء. غير أن ما قلناه عن المذهب الطبيعي حتى الآن يكفي للتأثير في كثير من القراء مثلما يؤثر في المرء إناء من الماء البارد يلقى على وجهه، فالأفضل إذن أن نرجع ونضع بعض الأسس ريثما يلتقط القراء أنفاسهم. (1) المركز التاريخي للمذهب الطبيعي
يرجع تاريخ الفلسفة في العالم الغربي إلى حوالي عام 600ق.م. أي إن عمره حوالي خمسة وعشرين قرنا. وعلى حين أن هذه الفترة الطويلة من الزمان والتغير قد شهدت بالطبع مولد كثير من المدارس ووجهات النظر الفردية، فإن جهد الفيلسوف في يومنا هذا ما زال مماثلا لجهده في العصور اليونانية الأولى، وهو أن ينفذ من وراء الاضطراب والتغير الذي تنطوي عليه التجربة اليومية، ويكشف الطبيعة الثابتة للأشياء. على أن الطريقة المثالية في القيام بهذا البحث كانت ولا تزال، كما أوضحنا من قبل، أقوى الطرق في وصف الحقيقة تأثيرا وأوسعها انتشارا. ولو تصورنا الفلاسفة على أنهم يكونون لجنة تحقيق دائما، مكلفة بمهمة كشف طبيعة الحقيقة النهائية، لأمكن القول إن المثالية هي التقرير الرسمي أو تقرير الأغلبية عادة. ولقد اكتسب هذا القبول، على مر القرون، قوة زائدة مستمدة من السوابق التاريخية، بحيث إن أية وجهة نظر معارضة كانت تجد نفسها عادة في مركز من يهاجم «الوضع القائم» بكل ما يستتبعه هذا الوضع من مزايا.
المذهب الطبيعي بوصفه وجهة نظر الأقلية : إذا تأملنا تاريخ الفلسفة في عمومه، وجدنا أن المذهب الطبيعي يمثل تقرير الأقلية. وقد تفاوتت هذه الأقلية في الحجم من أقلية كبيرة (في أوائل العصر اليوناني، وفي العصور الأخيرة) إلى أقلية لا تكاد تذكر. كما أن جهودها تراوحت ما بين إثارة الضجيج الزائد (كما هي الآن) وبين الصمت الذي يكاد يكون مطبقا. ولكن مهما كان صغرها، فقد كانت دائما موجودة، تطلق النيران بطريقة حرب العصابات على المواقع المحصنة للأغلبية المثالية. ولقد كان تدفق تفكير المذهب الطبيعي في بعض الأحيان أشبه بقطرات ضئيلة لا يكاد يلاحظها أحد، وكان أحيانا أخرى - كما هو الآن - أشبه بالفيضان الذي يدفع المثالية إلى التحصن بأرض أكثر منعة. ولكنه سواء أكان قطرات أم فيضانا، فقد كان يشكل تيارا من الاحتجاج والنقد على المسلمات الأساسية والنتائج النهائية للتأملات المثالية. ولما كان هذا المذهب يمثل جماعة الاحتجاج أو حزب «الخوارج»، فقد كان بطبيعته عدوانيا؛ ذلك لأنه لما كان منذ البداية في مركز اجتماعي أقل، نظرا إلى أنه يمثل موقف الأقلية، فلم يكن لديه الكثير مما يخشى فقدانه. ومن ثم فقد كان في استطاعته أن يخوض بصدره غمار المعركة الفلسفية. وكانت نظرة المثالية إلى المذهب الطبيعي - شأنها شأن نظرة كل المدافعين عن «الوضع الراهن» إلى من يهاجمهم - هي أنه يفتقر إلى التهذيب وإلى احترام الوقار التقليدي للفلسفة. وكان رد الفعل الشائع في المعسكر المثالي هو أن «الشغب» لا يليق بالفيلسوف. ومع ذلك فقد استمر المشاغبون في مظاهراتهم، حتى أصبحوا اليوم يلقون معاملة أفضل، بل أصبح لهم صوت أكبر في إدارة شئون الفلسفة. غير أن التقابل الأساسي بين وجهتي النظر ما زال قائما، وأغلب الظن - بناء على أسباب سنحاول إيضاحها في هذا الفصل - أنه سيظل يمثل دائما أهم مظاهر الانقسام داخل الفلسفة. (2) ما هو العالم في صميمه؟
من الملاحظ أولا أن التقابل بين قطبي التفكير يظل باقيا لأن المسألة الأساسية ليست، كما يعتقد الكثيرون، هي كون طبيعة الواقع النهائي مادية أم ذهنية، بل إن هذه المسألة، كما رأينا في الفصل السابق، هي: هل نظام العالم آلي في صميمه، أم هو نظام أخلاقي؟ وهل الكون شبيه بآلة هائلة، بلا ذهن، وبلا غاية؛ وبالتالي خارج عن مجال الأخلاق، أم هو بناء أخلاقي، يسير على أساس غاية عاقلة، وفي اتجاه تحقيق القيم والمثل العليا؟ لا بد أن يتضح لنا على الفور أن هذا تباين أساسي، لا يمكن التغلب عليه حتى لو تم الاتفاق على «جوهر» العالم. فقد تتفق المدرستان على أن الطاقة هي الأساس النهائي لتركيب العالم (وهذا يبدو أمرا محتمل الوقوع). ولكن ما دامت إحدى المدرستين تنظر إلى هذه الطاقة على أنها في أساسها ذهنية أو روحية، وتتجه إلى الحديث عنها بصيغة التفخيم (وبذلك توحد بينهما ضمنيا - على الأقل - وبين الذهن الشامل أو الله)، على حين أن المدرسة الأخرى تنظر إلى الطاقة كما ينظر إليها العلم، فإن الانقسام سيظل قائما.
مركز القيمة : وهناك سبب ثان يؤدي إلى استمرار التعارض بين المدرستين: فالقيمة في نظر المثالية الكامنة في الكون، وهي موجودة في صميم الأشياء، كما أن الحوادث والعمليات الكونية تتجه إلى تحقيق الخير إلى أقصى حد ممكن. وعلى ذلك فالقيمة شيء موضوعي يكتشفه الإنسان بوصفه أساسيا في الكون، ولا شيء في نظر المثالي يثبت القرابة بين الإنسان وبين بيئته الملائمة بمثل الوضوح الذي تثبتها به هذه الحقيقة، ألا وهي أن الإنسانية والكون معنيان معا بالخبر. أما المذهب الطبيعي فيرى أن العالم لا يتضمن من القيمة والخير إلا بقدر ما نستطيع نحن أنفسنا تحقيقه بجهودنا الخاصة من بيئة غير مكترثة. فالقيم لا وجود لها إلا بالنسبة إلى الكائنات العضوية الحية، ويعتقد صاحب المذهب الطبيعي أننا نخدع أنفسنا لو سعينا إلى إسقاط هذه المثل العليا على شاشة الكون، وادعينا أن للكون أي شأن بها. ذلك لأن الكون يظل مترفعا عن آمال الإنسان ومثله العليا، غير مكترث بها، ولا يستطيع صاحب المذهب الطبيعي أننا نخدع أنفسنا لو سعينا إلى إسقاط هذه المثل معنى (أو حتى أي وجود) خارج مجال الأمور البشرية.
تلك هي الحجة القديمة، التي أحسن عرضها اسبينوزا ومفكرون كثيرون غيره. فهل نحن نرغب في أشياء ومثل عليا معينة لأنها خيرة، أم نحن نسميها خبرة لأننا نرغب فيها بطبيعتنا، ونحاول على هذا النحو أن نبرر رغباتنا بإطلاق أسماء تمجيدية عليا؟ إن الخيرية في نظر المثالية، تكمن في أشياء معينة وأفعال معينة لأن هذه الأشياء والأفعال تكون جزءا له دلالته من الخطة الكونية. أما المذهب الطبيعي فيرى أن هذه «الأمور الخيرة» لا توجد إلا سبب طبائعنا البيولوجية وحاجاتها. فلدينا بوصفنا أفرادا وبوصفنا جنسا في آن واحد، حاجات ينبغي الوفاء بها إذا أردنا استمرار بقائنا الفردي وتحقيق مصالح النوع الذي ننتمي إليه. ولذا فنحن نطلق اسم «الخير» على تلك الأشياء (كالطعام) أو النظم (كالزواج) أو الأفعال (كتضحية الوالدين) التي تفي بأي من الحاجات الأولية، وهذا هو كل ما يمكن أن يعنيه اللفظ في نظر المذهب الطبيعي. أما الحديث عن «الخير» بوصفه ما يعلو على مصالح البشر فهو بالنسبة إلى تفكير المذهب الطبيعي حديث لا معنى له.
الآراء المتضاربة حول طبيعة الإنسان : هناك سبب آخر غير الأسباب السابقة، للتعارض الدائم بين هاتين المدرستين. فعلى الرغم من كل ما قد تقوله المثالية عن وجود قرابة بين الإنسان وبين الكون الملائم له، فإنها تبني مذهبها الأخلاقي على أساس وجود انفصال بين «الطبيعة» وبين «الطبيعة البشرية»؛ فالمثالي، مع إصراره على تأكيد الطابع العقلي والأساس الروحي لعالم الطبيعة، يرى أن الإنسان بما له من ذهن وإرادة روحية ينفرد بهما عن غيره، له كيان مستقل عن بقية الطبيعة. وفضلا عن ذلك، فالطبيعة البشرية ليست مستقلة فحسب، وإنما هي أعلى؛ أي إنها حلقة اتصال - إن جاز هذا التعبير - بين الطبيعة والذهن الشامل، أو بين ما هو طبيعي وما هو فوق الطبيعي. ومن هنا فإن المثالي لا يتأثر عندما يقول صاحب المذهب الطبيعي مثلا أنه ليس ثمة دليل على وجود العدالة في الكون إلا بوصفها مثلا أعلى بشريا محضا، ويبين أن القانون الأساسي للطبيعة يبدو شيئا أشبه بقاعدة «السمك الكبير يأكل السمك الصغير»؛ ذلك لأن المثال يعترف بأن للطبيعة «أنيابا وأظفارا مخضبة بالدماء»، ولكنه يؤكد أن امتلاك الإنسان للعقل ينأى به عن هذا القانون البدائي الذي هو مجرد قانون للصراع المرير من أجل البقاء. فالطبيعة البشرية تنال الخلاص بفضل اقترابها من مصدر «العقل» و«الخيرية» وبهذا تعلو على أصلها الحيواني.
أما في رأي المذهب الطبيعي، فإن الإنسان أحد أفراد النوع الحيواني، وهو لا يستطيع الخلاص أبدا من هذا الأصل، على الرغم من امتلاكه العقل أو الوعي. فعالم الطبيعة شامل لكل ما فيه على نحو متصل، والإنسان جزء من هذا العالم، شأنه شأن أي نوع آخر: وهو لا يقل عن أي شيء آخر في الكون من حيث خضوعه لقوانين العالم، وتحكم مبدأ العلة والمعلول في أفعاله؛ ذلك لأن الطبيعة لا تعرف استثناءات، صحيح أن لكل نوع قدرات وخصائص فريدة، غير أن امتلاك هذه الخصائص لا يفصل هذا النوع بأية حال عن بقية النظام الطبيعي. كذلك فإن القدرات الفريدة للنوع لا تضفي عليه أهمية تزيد على ما للأشكال الأخرى للحياة. ولا جدال في أن الحيوان القارض تبدو له القدرة على الهضم أهم «وبالتالي ذات دلالة كونية أعظم» من القدرة على الاستدلال المجرد. كذلك فإن السرعة في نظر الغزال، تجعله على الأرجح فريدا في عينه هو؛ وبالتالي أهم في أعين الكون. أما بالنسبة إلى السمك، فكل القيم ترتكز على أساس من السيولة والقدرة على العوم.
1
نظرة المذهب الطبيعي إلى الذهن : نستطيع الآن أن ندرك، بناء على ما قلناه في الفصل السابق، أهمية المكانة المركزية التي يحتلها الذهن في النظرة المثالية إلى الأشياء. أما المذهب الطبيعي فيرى في الذهن مجرد أداة فحسب. ذلك لأن قدرة الإنسان على البقاء في الصراع على العيش لا تجد معونة من الألوان التي تحميه، ولا من السرعة الفائقة، أو المخالب الحادة، أو القدرة على إطلاق رائحة ساطعة، أو إصدار زئير مخيف. ففي استطاعة الحيوانات الأخرى أن تتفوق عليه في سرعة الجري، وفي القدرة على السباحة، وأن تقهره في أية معركة تنشب دون أسلحة. غير أن للإنسان، بدلا من هذه القدرات والأجهزة الخاصة، أداة أخرى، هي عقله، تمكنه من أن يعوض نفسه وزيادة، عن طريق اختراع شتى أنواع الأسلحة والأدوات، وتسخير قوى الطبيعة لخدمته. غير أن هذا الذهن الفذ الذي يمتلكه، والذي هو بالفعل أكثر أدوات التكيف مرونة، يظل مع ذلك (بالنسبة إلى بقية الكون) مجرد أداة من أدوات البقاء والتكيف. إنه حقا فريد، وذو أهمية قصوى للإنسان، ولكن هذا ليس دليلا على أن له أية أهمية كونية تزيد على أهمية مخلب النمر أو زعانف السمكة. صحيح أن الإنسان يستطيع أن يفعل بعقله أمورا تفوق ما تفعله الحيوانات الأخرى «بأدواتها» ولكن من الصحيح كذلك أنه يستطيع أن يستخدمه في اتجاه الشر مثلما يستخدمه في اتجاه «الخير». وبالاختصار، فكل ما يعنيه امتلاك العقل هو المزيد من القوة واتساع نطاق السلوك، وليس بالضرورة المزيد من الخير.
وهكذا فإن هذه الفكرة المألوفة لدى أصحاب المذهب الطبيعي، تسير على النحو الآتي؛ ففي البدء كانت الطبيعة، ثم ظهر الإنسان بعد عملية تطور طويلة شديدة البطء. والنوع البشري هو ارتقاء (أو ازدهار، إن كان هذا اللفظ يسعد المثالي) للطبيعة، ولكنه ليس أكثر أو أقل أهمية من الأنواع الحيوانية الأخرى، التي تفصل الإنسان عنها فوارق أقل أهمية بكثير، من وجهة النظر البيولوجية، من الحاجات والسمات التي يشترك فيها مع هذه الأنواع. فالنظام الطبيعي متصل، والإنسان، على الرغم من فردانيته الذهنية، وأهميته العامة في نظر نفسه، لا يشكل انقطاعا في هذا النظام. «الطبيعة» في الإطار العام لتفكير المذهب الطبيعي : يوجه خصوم المذهب الطبيعي أحيانا إلى القائل به تهمة توسيع تصور «الطبيعة» وجعله شاملا إلى حد يغدو معه هذا اللفظ بلا معنى، مثلما أن صاحب المذهب الطبيعي يتهم خصمه بالتوسع في تصور «الذهن» إلى حد يصبح معه شاملا لكل شيء، وبذلك يجعله بلا معنى. غير أن ما يعنيه المذهب الطبيعي بلفظ الطبيعة شيء مختلف كل الاختلاف. فهو عندما يسمي «الطبيعة» بالحقيقة الوحيدة، ويبدو ذلك كأنه يوحد بينها وبين الوجود، لا يكون معنى ذلك أنه قد افترض «مطلقا» جديدا يكون أشبه «بالليل الذي تبدو فيه كل الأبقار سوداء».
2
وإنما يفترض صاحب المذهب بدلا من ذلك، عالما لا يمكن أن يكون فيه للعالي وجود. فهو يدعو إلى نزعة طبيعية تستبعد أي مبدأ فوق الطبيعة. والأمر الذي يؤدي به إلى تعريف الطبيعة على نحو يؤدي إلى استبعاد كل «عالم آخر» أو «ما وراء هذا العالم» من مقولة الوجود، هو ارتيابه العميق في المذاهب التي لا تقوم على أسس تجريبية، مهما تكن منطقية أو محكمة البناء.
ويفترض المذهب الطبيعي ثلاث مسلمات بشأن الطبيعة. وهذه المسلمات تبلغ من الأهمية ومن الدلالة حدا يجعلها تتحكم في تجديد الطابع الكامل لهذه المدرسة الفلسفية. ومن ثم فإننا لو فهمنا هذه المسلمات فهما كاملا، ومعها نتائجها السلبية لأمكننا أن نكون صورة لا بأس بها عن نظرة هذه المدرسة إلى العالم. (1)
يؤكد المذهب الطبيعي أولا أنه لا يوجد إلا نظام أو نسق واحد للواقع ومستوى واحد للوجود. وهذه المسألة تؤدي ضمنيا إلى استبعاد كل ميتافيزيقا ثنائية، وتجعل من المستحيل وجود أي نوع من العالم العلوي أو فوق الطبيعي. (2)
ويرى المذهب الطبيعي ثانيا أن هذا النظام الواحد للحقيقة يتألف من كل الأشياء والحوادث الموجودة في المكان والزمان، ومن هذه وحدها. ولهذه المسلمة بدورها نتائج سلبية هامة، فهي تؤدي إلى استبعاد إمكان الكلام عن ألوهية «خارج الزمان» أو عن عالم علوي «بمعزل عن المكان». كما أن أية قضايا متعلقة بالموضوعات والحوادث التي لا يمكن إدراجها ضمن مقولتي الزمان والمكان تصبح في نظر ذلك المذهب قضايا لا معنى لها. (3)
وأخيرا، يرى المذهب الطبيعي أن سلوك هذا النظام الواحد للوجود - أي العملية الكونية بأسرها، وجميع الحوادث الفردية التي تتألف منها هذه العملية - يتحكم في تحديده طابع هذا النظام وحده، ومن الممكن إرجاعه إلى نسق من قوانين العلية. وهنا أيضا نجد للنتائج الضمنية أهمية قد تفوق أهمية المسلمات ذاتها، وهي قطعا تكشف عن أمور أكثر مما تكشفه هذه المسلمة؛ ذلك لأن قبول هذه المسلمة يعني تأكيد إيماننا بأن الكون منطو على ذاته، ومكتف بذاته، ومعتمد على ذاته، ومدبر لذاته. كما يعني أننا نعتقد أن الكون يوجه ذاته، دون أن يتأثر بأية فاعلية «خارجية» أو قوة «أعلى»، بل إن قبول هذه المسلمة يعني إنكار إمكان تدخل أي فاعل على أي نحو في نظام العالم، أو في سلسلة الحوادث الطبيعية. وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يتعلم كيف يتحكم في الطبيعة بكشف قوانينها وتطبيقها. فلما كان الإنسان ذاته، تبعا لفرض المذهب الطبيعي، جزءا من نظام الطبيعة. فإن تدخله في هذا النظام، حتى عندما يصبح أظهر ما يكون (كما في حالة تحريك الجبال) أو أعمق ما يكون (كما في حالة الانشطار الذري)، لا يشكل تدخلا من خارج الطبيعة كتلك المعجزات أو «التجليات الإلهية» التي يفترض وقوعها. (3) المذهب الطبيعي والعلم
من الواضح أن فيلسوف المذهب الطبيعي يؤمن إيمانا تاما - كما هو متوقع - بمناهج العلم ونتائجه. أما المثالية فهي، كما رأينا من قبل، تقبل النظرة العلمية إلى العالم في حدودها الخاصة، ولكنها تنكر أنها تصل إلى حد إعطائنا معرفة نهائية قصوى. ومن جهة أخرى فإن صاحب المذهب الطبيعي ينكر من جانبه أن يكون في وسعنا تجاوز هذا التنظيم المنهجي للمعطيات التجريبية، الذي نطلق عليه اسم العلم، ونظل مع ذلك على أرض موثوق منها. ففي رأي هذا المذهب أن المعرفة (أعني أية معرفة جديرة بهذا الاسم) ينبغي إما أن تكون مستمدة من التجربة الحسية مباشرة، كما هي الحال في الموقف الطبيعي، وإما أن تكون قابلة للتحقيق الحسي عندما تتوافر الشروط اللازمة، كما هي الحال في العلم.
الخلط بين المذهب الطبيعي والمذهب الوضعي : أدى قصر المعرفة على المستوى التجريبي أو العلمي، على نحو ما رأينا، إلى سوء فهم كثير للمذهب الطبيعي، سواء من جانب خصومه المثاليين، ومن جانب المثقفين بوجه عام. ولسوء الفهم هذا جذوره التاريخية التي تمتد طوال الأعوام المائة الأخيرة من التطور العقلي. فهناك من المدارس الفرعية في المذهب الطبيعي بقدر ما في المذهب المثالي تقريبا، كما رأينا من قبل. وقد اضطرت كلتا المدرستين الكبيرتين إلى أن تدفع في بعض الأحيان ثمنا من فقدان هيبتها العقلية لقاء المواقف المتطرفة التي اتبعتها مدرسة فرعية صغيرة ما، من بين المدارس التي تسير في ركابها. وفي حالة المذهب الطبيعي، كانت الجماعة المتطرفة هي الوضعيين ولقد كان مؤسس مذهبهم الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت، الذي نشر كتابه الرئيسي منذ أكثر من مائة عام (1839-1842م). ولقد اندثرت مدرسته الآن تقريبا - وهو أمر يدعو إلى ارتياح المعتدين من أصحاب المذهب الطبيعي، الذين أرهقهم في العقود الأخيرة تبرير موقفها المتطرف. ولكن من سوء الحظ أن كثيرا من خصوم المذهب الطبيعي لا يدركون أنها اندثرت بالفعل. ومن ثم تراهم يواصلون محاسبة المذهب الطبيعي ككل على خطايا الموتى.
كانت الوضعية توحد بين المعرفة وبين العلم توحيدا تاما. فلم يكن العلم في نظرها هو السلطة الوحيدة في كل أمور الحقيقة أو المعرفة فحسب، بل إن أية تجربة لا تقبل التحقيق العلمي كانت ترد إلى فئة الأقوال المنعدمة المعنى، بل إلى فئة اللاوجود. ولقد أدت وجهة النظر القطعية هذه، وهي نظرة لم يكن من الممكن أن تنشأ إلى عندما كان العلم الحديث في عنفوان الثقة بالنفس، التي تتصف بها فترة المراهقة - أدت بطبيعة الحال إلى استثارة سخط كل أولئك الذين تبدو لهم تجارب الإنسان الأخلاقية أو الفنية أو الدينية تجارب حقيقية، بل تجارب لها مغزاها ودلالتها. ومن ثم هوجمت الوضعية بعنف، وامتد عنف الهجوم، في كثير من الأحيان، بحيث شمل كل رفاق الطريق من أصحاب المذهب الطبيعي. ولكن أغلب الظن أننا لن نجد اليوم أي مفكر بارز يؤيد هذا الموقف الوضعي المتطرف، بل إن الاتجاه اليوم قد تحول إلى المسار العكسي: ففي نصف القرن الأخير، كان هناك تطوير فلسفي مطرد، داخل الحدود العامة للمذهب الطبيعي في عمومه، لمدرسة يطلق عليها اليوم عادة اسم «المذهب الطبيعي النقدي». وتحاول وجهة النظر هذه، التي ربما كانت تمثل موقف المذهب الطبيعي في أعمق اتجاهاته الفكرية، أن تتجنب تطرف الوضعية وتطرف مادية القرن التاسع عشر، بأن تجد مكانا لكل الظواهر، وضمنها الظواهر الاجتماعية والأخلاقية والجمالية.
3
فالمذهب الطبيعي النقدي، مع تعريفه لكل شيء (وضمنه الذهن) من خلال العالم الطبيعي، ومثابرته على مهاجمة النزعة فوق الطبيعة بكل أشكالها، لا يوجد بين مجال الواقع العلمي وبين مجال التجربة البشرية الكاملة. والأهم من ذلك أنه يرفض تعريف الطبيعة من خلال المادة والحركة وحدهما، أو من خلال الحوادث التي تقع في الزمان- المكان من جهة أخرى. فهو يعد هذه مفاهيم منهجية ضرورية لعمل العلم، ولكنه يأبى أن يعزو إليها مركزا ميتافيزيقيا بوصفها الوسائل الوحيدة لتحديد طابع الطبيعة أو الواقع.
أما الأمر الذي يقبله المذهب الطبيعي النقدي - وهو هنا يتحدث باسم جميع أنصار المذهب الطبيعي - فهو الموقف أو الاتجاه العلمي، ولا سيما الإطارات العامة المستخدمة في صياغة المبادئ العامة للعلم. فهو يوافق على أن هذه المبادئ ينبغي أن تكون مبنية على وقائع تجربتنا المشتركة؛ أعني ذلك العالم الموضوعي القابل للتحقيق المفتوحة أبوابه لكل الملاحظين - وينبغي ألا تتجاهل هذه الوقائع أو تدعي العلو عليها بطريقة ما.
قانون الاقتصاد في الفكر : ينبغي لنا، لكي ندرك الدلالة الكاملة لوجهة النظر الأخيرة هذه، أن نبحث واحدا من المبادئ العامة للعلم، وهو المبدأ المعروف «بقانون الاقتصاد في الفكر
Law of Parsimony ». هذا المبدأ، الذي صاغه في الأصل وليام الأكامي
William of Occam
في القرن الرابع عشر (والذي يعرف أحيانا باسم سكين أوكام
Occam’s Razor ) ينص على وجوب عدم تعديد مبادئ التفسير أو عوامله أكثر مما تدعو إليه الحاجة. ولقد كان الهدف من هذا «السكين» هو إيجاد سلاح لبتر الشوائب العديدة من الكيانات والجواهر والعلل، إلخ، التي تراكمت طوال قرون عديدة من التفكير في العصر الوسيط. وكانت نتيجته غير المباشرة هي تمهيد الطريق للصيغ العلمية التي وضعت في عصر النهضة، وإعطاء العلوم الجديدة - آخر الأمر - أداة من أهم أدواتها العقلية. ويقول هذا المبدأ، بلغة أبسط، إنه إذا كانت لدينا عدة تفسيرات محتملة لأية ظاهرة بعينها، كلها تبدو متساوية في قدرتها على تعليل الوقائع، وكلها منطقية بدرجة متساوية، فإن أساس الاختيار بينها ينبغي أن يكون هو البساطة. وهناك تعبيرات شائعة عن هذا المبدأ، مثل «الطبيعة تحابي أبسط المناهج» أو «الطبيعة تسلك بأيسر الطرق». ولو طبقنا مبدأ الاقتصاد في الفكر على فقرتنا السابقة، لكان مؤداه أنه إذا كانت العلل الطبيعية كافية لتعليل كل الظواهر؛ أي إذا كانت المعرفة العلمية تقدم تفسيرا كافيا - فما الذي يدعونا إلى الإتيان بفرض المثالية الذي لا يمكن إثباته؟
وبطبيعة الحال فإن لب المشكلة هو ما إذا كانت الصيغ العلمية تأتي بإجابات مرضية لنا في سعينا إلى المعرفة القصوى أم لا. ففي رأي المثالي أن العالم الذي تكشفه العلوم المختلفة قد يكون عالما حقيقيا، ولكنه لا يمكن أن يكون العالم الكامل مطلقا، بل إن المثالي يشك حتى في كونه نموذجا يمثل الواقع تمثيلا صحيحا، فكيف إذن يقال إن قوانينه تشكل تفسيرات كافية ترضينا؟ ويواصل المثالي كلامه قائلا إن قانون أوكام قد يكون صحيحا بالفعل، ولكن ينبغي أن يلاحظ أن المطلوب منا هو انتقاء أبسط تفسير كاف. على أن التفسيرات العلمية ليست كافية إلا بالنسبة إلى أغراض العلم، وهي في ذاتها قد تعطي صورة صحيحة عن الواقع المادي، ولكنها لا تنبئنا إلا بالقليل جدا عن «الواقع» الحقيقي الكامن من ورائه.
الآراء المتضاربة بشأن «الطبيعة»: ذلك لأن المثالي يرى أن «الاكتفاء الذاتي الظاهري ما هو إلا وهم».
4
فالعالم الطبيعي ليس إلا قناعا على وجه الواقع، وما الطبيعة بأسرها إلا مظهر، أو ظاهرة، يوجد من ورائها «شيء في ذاته» مختلف كل الاختلاف. وأساس العالم الطبيعي إنما هو هذه الحقيقة غير المادية، التي يتوقف عليها بناء الكون بأسره. أما صاحب المذهب الطبيعي فإن وجهة النظر هذه تبدو خيالية في نظره، فهي تبدو أشبه بوضع العربة قبل الحصان، ولكن على مستوى الكون بأسره. فالمذهب الطبيعي يرتكز على وجهة نظر الموقف الطبيعي، القائلة إن ما يبدو للطبيعة من اكتفاء ذاتي هو حقيقة أصيلة. والنظام الطبيعي لا يعتمد على شيء خارجه في وجوده أو بقائه، بل إن كل شيء في الكون، وضمنه الإنسان وذهنه، يعتمد إلى وجوده على النظام الطبيعي. فالكون يرجع أساسه إلى ذاته فحسب، ولسنا بحاجة إلى افتراض مصدر خارجي أو قوة علوية لإضفاء الوجود أو المعقولية عليه. أي إن الكون يقف على أرجله، غير معلق «بأربطة حذاء» كونية. ومن ثم فإن السؤال عما يقع خارج الكون أو وراءه هو سؤال لا معنى له، فاللفظ يشمل مجموع كل وجود - وكيف يمكن أن يكون وراء «الوجود» شيء؟
حول هذه المسألة يحدث الانقسام الأساسي بين المثالية وبين المذهب الطبيعي. فالحقيقة القصوى في نظر المثالي هي شيء روحي، يوجد من وراء الواقع الظاهري الذي يكشفه لنا عالمنا اليومي التجريبي، عالم اللحظة الحاضرة والمكان الحالي. أما في نظر صاحب المذهب الطبيعي فإن عالم التجربة هذا؛ أي النظام الطبيعي، هو في ذاته نهائي؛ ومن ثم فإن قانون الاقتصاد في الفكر يحتم علينا ألا نفترض أية عوامل تفسيرية غير ضرورية لتعليمه. فقوانين العلة والمعلول - كما يفهمها العلم وكما تطبق فيه - هي تفسيرات كافية، لا للعلم وحده، ولكن للفلسفة والحياة العملية أيضا. وهكذا فإن المذهب الطبيعي يرى أن الصيغ المفصلة التي تضعها المثالية والأديان معا، تبتر بواسطة سكين أوكام، ولا يوجد مبرر معقول لاستمرار وجودها.
وهنا قد يتساءل القارئ: «ولكن، إذا كان موقف المذهب الطبيعي سليما إلى الحد الذي يدعيه أنصاره، وكانت المثالية غير ضرورية، فلماذا ازدهرت هذه الأخيرة طوال تاريخ الحضارة الغربية، ولماذا كانت لا تزال تحتفظ بقدرتها الفائقة على النمو؟ لا بد قطعا أن يكون في المثالية شيء أكثر من التراث، هو الذي يحفظها حية!» وفي اعتقادي أن القارئ محق في ذلك تماما، وهذا «الشيء» هو أن وجهة نظر المذهب الطبيعي ليست كافية في نظر كل شخص بل ليست كافية في نظر أغلب الأشخاص. ذلك لأن وجهة النظر هذه، مهما تكن قدرتها على إرضاء العقول، لا ترضي قلوب أناس كثيرين.
كذلك فليس ثمة احتمال كبير في أن نظرة المذهب الطبيعي إلى العالم سوف تتمكن في أي وقت من إرضاء المطالب العاطفية لمعظم الناس على النحو الذي تستطيع أن ترضيها عليه النظرة المثالية. فسوف تضطر النظرة الطبيعية دائما إلى أن تواجه الاتهام القائل إن أنصارها قوم لا قلوب لهم، وإنهم لا يكادون يكونون بشرا، وإن نظرتهم باردة قاتمة بالقياس إلى ما تستطيع المثالية تقديمه من دفء وأمان. وكما قلنا من قبل، فإن هذا الاتهام الموجه لصاحب المذهب الطبيعي بأنه غير مكترث بمطالب القلب، هو في نظر معظم الناس أخطر وأهم من أية نقاط ضعف عقلية في المذهب. فمعظم الناس الذين يقبلون على الفلسفة ملتمسين لديها إجابات عن أسئلة تحيرهم، يكونون عادة على استعداد للتغاضي عن بضع هفوات في المنطق، وعن بضع مسلمات لم تختبر ، تسللت إلى الاستدلال، أو بضع ثغرات لم تسد، لو كان من شأن النغمة العامة والاتجاه العام للإجابة أن ترضي عواطفهم. ومن المؤكد أن المثالية تتيح مثل هذا الإرضاء، فهي قد تقف مع المذهب المنافس لها على قدم المساواة من حيث المنطق، ولكنهما ليسا ندين من حيث الإرضاء العاطفي. وهذه الحقيقة وحدها تكفي لتعليل الشعبية الواسعة والحيوية الدائمة للمثالية. (4) المثالية الميتافيزيقية مقابل المثالية الأخلاقية
يكاد يكون من المحتم أن يكون القارئ قد شعر فجأة بمفارقة في موضع ما من هذا الفصل. وربما كانت تجربته مشابهة لتجربة أناس كثيرين. فمن الجائز أن أصدقاءه وأقرباءه يسمونه «مثاليا» ولكنه يكتشف الآن أن آراءه في الكون والواقع أقرب إلى آراء المذهب الطبيعي. فإذا كانت الفكرة الرئيسية التي ألف حولها هذا الكتاب صحيحة، وكانت المثالية والمذهب الطبيعي هما القطبين المتقابلين في الفلسفة، فكيف يمكن إذن أن يكون المرء في كلا المعسكرين دون أن يكون مفتقرا أساسا إلى الاتساق - الذي يشعر القارئ على الأرجح أنه لا يفتقر إليه؟
إن تفسير هذه المفارقة أبسط مما يعتقد، وذلك على الأقل من وجهة نظر المثالي. ذلك لأن الخلط ينشأ من وجود نوعين من المثالية، يفرق بينهما لفظ المثالية الميتافيزيقية والمثالية الأخلاقية (أو التقويمية
Axiological ). والأولى هي التي كنا نتحدث عنها حتى الآن. ولكن الواقع أننا لو شئنا الدقة فكان من الواجب تسمية هذه النظرة الميتافيزيقية الكبرى باسم «الفكرية
Ideaism ». ولكن من المؤسف أن نطلق الكلمة على هذا النحو الصعب في اللغة الإنجليزية؛ ولذا فقد أضيف إليها الحرف «I» منذ وقت بعيد لتحسين وقع اللفظ. وترتب على ذلك أن اللفظ الواحد أصبح يستخدم الآن للتعبير عن مفهومين مختلفين (بل لا يوجد بينهما ارتباط في نظر صاحب المذهب الطبيعي): أولهما هو تلك النظرة إلى العالم، التي تكون فيها الفكرة، أو التفكير، أو الذهن، هي الحقيقة الأساسية، والثانية هي ذلك المذهب في الاعتقاد أو السلوك، الذي تكون فيه المثل العليا؛ أي الغايات أو المعايير المرغوب فيها - هي الدافع الأساسي. ولو كان من الممكن استخدام لفظ الفكرية للتعبير عن الميتافيزيقية ولفظ المثالية للتعبير عن المذهب الأخلاقي، لأمكن استبعاد قدر لا حد له من الخلط.
ادعاء الاحتكار لدى المثالي الميتافيزيقي : ومع ذلك فالأمر هنا يزيد على مجرد تحسين وقع اللفظ. فهناك سبب آخر أدى إلى عدم استخدام لفظين مستقلين هو أن المثالية الميتافيزيقية قد حاولت الاحتفاظ باحتكار اللفظ الواحد، بتأكيدها القاطع أن من المستحيل الفصل بين النظرتين. فهي تذهب إلى أن من المستحيل أن يكون لديك مذهب مثالي في السلوك، إن لم تكن تفترض مقدما نظرة إلى الكون تصور الواقع بأنه ذهني أو روحي. وباختصار فالمثالي الميتافيزيقي يؤكد أن من المحال أن يكون لأي مذهب أخلاقي قوة أو حتى معنى، ما لم يكن يفرضه نظام كوني هو في صميمه نظام أخلاقي، ويوجد فيه الله بوصفه الماهية العميقة للواقع. ففي نظر هذه المدرسة من مدارس المثالية، يكون تعبير «أخلاق المذهب الطبيعي»، أو «الأخلاق في إطار من المذهب الطبيعي»، تعبيرا متناقضا؛ إذ لا بد أن يكون لمثلنا العليا ومعاييرنا علاقة بمثل عليا أعلى وأشمل؛ أي «بالمثل الأعلى» الواحد الشامل - إذا ما شئنا أن تكون لها قيمة على الإطلاق. أما إذا نظرنا إليها على أنها معايير بشرية محضة، لا تستمد إلا من التجربة البشرية، ولا يكون لها معنى إلا بالنسبة إلى أمور البشر، فإنها عندئذ لا تكون ذات أثر أو قيمة.
المثالية الأخلاقية في علاقتها بالمذهب الطبيعي : على أن المثالية الأخلاقية لا ترتبط ارتباطا ضروريا بوجهة النظر الصارمة هذه، وكثيرا ما نجد مثاليين أخلاقيين لا يتمسكون بها. هذا النوع من المفكر الأخلاقي كثيرا ما يكون صاحب مذهب طبيعي في الميتافيزيقا، يرى أن القيم والمثل العليا لا تفقد شيئا من معناها أو قوتها حين تكون «بشرية فحسب». فليس في تسميتنا إياها بالقيم البشرية، أو في تسمية القائل بها باسم صاحب نزعة إنسانية، أي إقلال من شأنه؛ ذلك لأنه لا يوجد في فلسفته عنصر إلهي أو فوق الطبيعي يكون الطبيعي أو «البشري فحسب» أدنى مرتبة بالقياس إليه، بل إن صاحب المذهب الطبيعي يرى في قدرة الإنسان على صياغة مثله العليا ثم السير في حياته بمقتضاها أمرا عظيما له دلالته، غير أن هذه الدلالة لا تأتي إلا من السعادة البشرية والازدهار البشري الذي يمكن أن يتحقق على هذا النحو، لا من أية علاقة مفترضة بالخير الكوني. فللمثل العليا البشرية جدارة وقيمة خاصة بها، وهي تقف بذاتها، مستمدة معناها وقيمها من علاقتها بالحياة البشرية وإمكاناتها. مثال ذلك أنه حتى لو لم تكن «للعدالة» «صورة» أفلاطونية تكون هي مصدرها والضامن الميتافيزيقي لوجودها، فإنها توجد بوصفها مثلا أعلى له معناه وفعاليته في أي مجتمع مؤلف من كائنات تستطيع مشاعرها وعقولها أن تحس بالظلم. وباختصار، فنحن نضع المثل العليا ونسعى إلى تحقيقها لأننا شاعرون بوجود قصور ونقائص في تجربتنا، لا لأننا مثقلون بأي إحساس بالكمال الإلهي أو الخير الأسمى. فالسبب الذي يجعلنا نضع المثل العليا هو نفس السبب الذي يجعلنا نتفلسف: أعني أننا بشر لدينا قدرات تجعل كلا من وجهي النشاط هذين ممكنا، وأننا نعيش في عالم يجعل كلا منهما أمرا محتوما.
وإذن فالمذهب الطبيعي لا يرى في كل من وجهي النشاط هذين أكثر من رد فعل طبيعي لكائنات بشرية تعيش في هذا العالم. فلا البحث عن معرفة قصوى، ولا السعي إلى تحقيق مثل عليا في حياتنا، يستتبع القول بعالم رحيم أو مملكة عليا «للخير والحق والجمال». قد يكون غير مكترث بمثلنا العليا وآمالنا، ولكن هذا أمر لا صلة له بالموضوع. فنحن نسعى إلى تحقيقها لإرضاء أنفسنا، أو لتحقيق الرخاء لمن نعرف والسعادة لمن نحب. وهذا مسعى لا صلة له باهتمام الكون أو عدم اكتراثه. (5) النتائج العامة للمثالية
لا بد أن يكون القارئ قد كون في ذهنه الآن فكرة واضحة عن المعالم الجغرافية لنصفي الكرة الفلسفيين هذين. وبذلك نكون على استعداد لبدء دراستنا لمشكلات الفلسفة؛ إذ إن من الممكن الآن أن نفهم هذه المشكلات والمدارس التي نشأت للإجابة عنهما لفهمهما أفضل. فبعد أن أصبحنا متجهين في الاتجاه الصحيح، نستطيع منذ الآن أن نتوغل في خضم الفكر التأملي المتلاطم ، واثقين أن لدينا من المعالم ما يكفي لضمان عودتنا إلى البر في أمان. ولكن قد يكون من المستحسن لضمان المزيد من الأمان والمتعة في الرحلة المقبلة، أن نلقي حولنا نظرة أخيرة شاملة؛ ذلك لأن معالم الأرض قد تبدو مؤكدة لا تخطئها العين ونحن راسون على الشاطئ، ولكنها على الأرجح لن تظل بمثل هذا الوضوح أثناء محاولتنا الإبحار في طريقنا من خلال الأمواج المتلاطمة والتيارات المتشابكة.
لقد رأينا أن المثالية مذهب تفاؤلي مليء بالثقة. ومصدر هذه الحالة النفسية التي تتسم بالوثوق هو تلك النظرة المحكمة إلى الواقع بوصفه عالم قيم عقلية وأخلاقية وروحية - أو إطار يتخذ فيه نضالنا من أجل تحقيق القيم والمثل العليا أهمية متزايدة؛ لأن الكون في مجموعه لا يعطف على مثل هذا الجهد فحسب، بل أنه يشارك فيه إيجابيا. ففي هذه النظرة إلى العالم يكون «الذهن» أو «العقل» هو مركز كل وجود. غير أن هذا العقل ليس مجرد مركز محايد للعمليات العقلية، وإنما هو - على العكس من ذلك - يتصف بالخيرية مثلما يتصف بالمعقولية.
السلوك الإنساني في ظل النظرة المثالية إلى العالم : مثل هذه النظرة إلى العالم تنطوي ضمنا على نتائج هامة بالنسبة إلى السوك البشري. فهي تتضمن أولا أن أوجه نشاط الإنسان العقلي والروحي لها أهمية تفوق بكثير ما يوحي به مقدار الوقت الذي نكرسه لها عادة. فعندما نكون في أكثر حالاتنا معقولية أو روحية، نكون في أشد حالات الانسجام مع الكون. وعندئذ نصبح أقرب ما نكون إلى الحقيقة القصوى. وفي هذه الحالة نحقق أكمل ما في ذاتنا، والغرض الرئيسي من وجودنا. وهناك نتيجة ثانية للنظرة المثالية إلى العالم. هي ما تتيحه من تحقيق يكاد يكون لا متناهيا للمثل العليا الأخلاقية والروحية للإنسان. ولقد سبق لنا أن اقتبسنا عبارة لواحد من أشهر المثاليين الأمريكيين يقول فيها إن مدرسته تذهب إلى أنه «ليس ثمة شيء، يحكم عليه سلفا بأنه مستحيل في اتجاه الأماني والرغبات البشرية العليا». فالكون الذي يكون عاقلا ومتلائما معنا يقدم إلينا أملا - بل وعدا محددا - بأن أعمق أمانينا، وأسمى آمالنا، ليست عقيمة أو عديمة المعنى. وبذلك لا يكون أمل الإنسان في الخلود وتوقع عدالة نهائية مجرد حلم تعويضي، وإنما هو «الوعد الحق»، الذي تبرره طبيعتنا الخاصة، وكذلك طابع الكون ذاته.
وفضلا عن ذلك؛ ففي الكون المعقول، المفهوم، لا يمكن أن تكون هناك دعابات كونية ساخرة، على حين أن شوق الإنسان إلى الأزلي لا بد أن يكون دعابة ساخرة كهذه لو كان مجرد تفكير مغرض مبني على أمل كاذب. فمعقولية الواقع ذاتها تستبعد إمكان وجود مثل هذه اللامعقولية الشنيعة. والتسلسل المنطقي لتفكير المثالي يمضي على النحو الآتي، الإنسان لديه عقل، والعقل عند الإنسان لا يمكن أن يأتي إلا من العقل الشامل. وبناء على الأسباب المنطقية التي سبق إيضاحها، فلا بد من التسليم بأن مصدر هذا العقل هو بدوره مصدر كل وجود. «فالذهن» الشامل مصدر الوجود كله، البشري منه وغير البشري. ولما كان العالم الذي يصدر عن الذهن الشامل لا بد أن يحمل طابع أصله، فإن في هذا الدليل الكافي على المعقولية المشتركة بين الإنسان والعالم. غير أن كل الأجزاء، في العالم المعقول، المفهوم، ينبغي أن تتألف وتتكامل. ولو لم يكن تصور الإنسان للحياة الأزلية والعدالة الكونية إلا تعبيرا عن رغبة حيوانية في شيء لا يملكه، لما كان الكون كلا موحدا؛ إذ إن ذهن الإنسان وعواطفه تغدو عندئذ متنافرة مع طبيعة الأشياء. وهكذا فإن ما يضمن تحقيق أعلى أمانينا هو أن لدينا من العقل ما يكفي لكي نتطلع إلى هذه الأماني ونعبر عنها. (6) رد فعل المذهب الطبيعي على النتيجة المتضمنة في المثالية
تعد وجهة نظر المذهب الطبيعي رد فعل على هذه النظرة المثالية إلى حد بعيد. وكما قال بعضهم، فإن السبب الرئيسي الذي يدفع صاحب هذا المذهب إلى البحث في الميتافيزيقا هو نفوره مما يعتقد أنه فيض زائد عن الحد من الميتافيزيقا الرديئة. فالعالم كما تصوره المثالية يبدو له مثلا واضحا كل الوضوح لقدرة الإنسان على التفكير من خلال غاياته الخاصة وصبغ أحلامه بصبغة عقلية، ومن هنا يجد صاحب المذهب الطبيعي نفسه مدفوعا إلى الاحتجاج عليها. غير أن الاحتجاج على مذهب ميتافيزيقي معناه القول ضمنيا بمذهب آخر، وما إن يوضع المذهب المضاد ضمنا حتى تصبح صياغته أمرا لا مفر منه. وهكذا يجد المفكر القائل بالمذهب الطبيعي نفسه مدفوعا إلى النظر الميتافيزيقي، مهما يبذل من محاولات لكي يتوقف بعد أن يكون قد كون مركبا من نتائج العلوم والمباحث العقلية المختلفة. والواقع أن اقتحام صاحب المذهب الطبيعي لساحة الميتافيزيقا على مضض، هو الذي يدفع المثالي أحيانا إلى اتهام خصمه بأنه يتخذ من الفلسفة ومشكلاتها موقفا سلبيا، فهو يميل إلى الاعتقاد بأن المذهب الطبيعي ليس فلسفة، وإنما هو إنكار للفلسفة. وبعبارة أخرى، فإن خصم المثالية يتهم بأنه يتخذ موقف من لا ينفع الناس ولا يدع غيره ينفعهم؛ فهو إذ يعجز عن أن يصوغ صورة «عقلية» كاملة للحقيقة (أعني صورة تجعل للذهن دور البطولة، وتضمن للإنسان مقعدا مريحا في المقصورة الملكية)، فإنه يهاجم بعنف كل الجهود التي تبذل للقيام بما يعجز هو عن القيام به. ولكن صاحب المذهب الطبيعي يرد على ذلك بعناد قائلا: «صحيح أن نظرتي إلى العالم أقل تناسقا وإيحاء من نظرة المثالية، غير أنه راجع إلى أن نزاهتي العقلية لا تسمح لي بملء الثغرات التي تنطوي عليها الصورة بمسلمات كتلك التي أعتقد أن المثالي يلجأ إليها. فإن كان المثالي يود استخدام قلبه لإكمال صورة لا يستطيع أي عقل حتى الآن أن يحققها، فهذا من حقه - ولكن ذلك لا يثبت أن مذهبه هو وحده الذي يستحق أن يسمى فلسفة.» (7) تباين الجو العام للمدرستين
على أن معظم الناس، كما أشرنا من قبل، يهتمون بالجو أو المزاج العام للفلسفة أكثر مما يهتمون بتفاصيلها العقلية. فهذا الجو العام أو النغمة الأساسية لأي مذهب فكري هو الحاسم بالنسبة إلى الإنسان العادي. ولا شك أننا ندرك الآن بوضوح أن الجو العام للمثالية وللمذهب الطبيعي أشد تباينا حتى من جوانبهما العقلية. فالمثالية تنطوي على جو من الثقة الهادئة بالمعقولية الأساسية للإنسان والكون معا. وهذه المعقولية لا تتضمن فقط القول إن للواقع نظاما وتركيبا منطقيا مماثلا لنظام الذهن وتركيبه، بل هي تشير إلى وجود غاية واتجاه في العملية الكونية. ولما كانت هذه الغاية، أو هذه «الحالة التي تسود الطقس الكوني» (كما أسماها وليام جيمس) تتجه إلى تحقيق القيمة أو بلوغ «الخير»، فكل ما علينا هو أن نربط حياتنا وغاياتنا الفردية بالغاية الشاملة لكي نجد في الحياة دلالة وسعادة. ومن هنا فإن المثالية تدعونا إلى البحث عن الواقع المعقول الذي يعترف بأنه كثيرا ما يكون مختفيا وراء المظاهر الأقل معقولية - وإلى التمتع خلال هذا البحث بالصفاء الذي يبعثه الإيمان بوجود مثل هذا الواقع المعقول وقابليته للكشف.
أما فلسفة المذهب الطبيعي، فليس في وسعها أن تقدم إلينا إلا مزاحا إسبرطيا ومتعة باهظة الثمن. من ذلك النوع الذي يجلبه أخذ حمام بارد في الصباح. فالجو الذي يسودها، وهو جو عدم الاكتراث، والعيش في عالم لا تكون فيه أمور البشر وأمانيهم أهم من أوجه نشاط أي نوع حيواني آخر ورغباته، هو جو لا يلقى استجابة من معظم الناس. وأصحاب هذا المذهب الطبيعي، شأنهم شأن أولئك الذين يأخذون حماما باردا في الصباح، سيظلون دائما، على الأرجح، أقلية عنيدة، تتسامح معها الأغلبية على أساس أنها فئة لا ضرر منها، وأن تكون شاذة إلى حد ما. ذلك لأن المذهب الطبيعي لا يقدم إلينا حالة نفسية من الراحة واليقين، ولا يزيل التناقضات بين كل العناصر المتنافرة في الحياة، بل هو بالأحرى يقول ما يغنيه أ. أ. هوسمان على الدوام:
إن متاعب ترابنا الفخور الغاضب
موجودة منذ الأزل، ولن تغيب أبدا
وليس معنى ذلك أن المذهب الطبيعي ينكر إمكان تحسين أحوال حياتنا - بل إنه قطعا ليس ملزما بالنظر إلى الطبيعة البشرية نظرة متشائمة - وإنما هو يؤكد أن كل تحسين كهذا لا بد أن يأتي من جهودنا الخاصة التي نبذلها في هذا العالم الحاضر. ويعبر جزء من مقطوعة شعرية لستيفن كرين عن هذه المسألة تعبيرا محكما؛ إذ يقول:
قال الرجل للكون: «سيدي، أنا موجود!»
فرد الكون قائلا : «ولكن
هذه الحقيقة لم تولد في
إحساسا بالالتزام.»
5
عدم اكتراث العالم بأمور البشر : نستطيع أن نعبر عن هذه الفكرة تعبيرا أقرب إلى الطابع العملي، باستخدام تشبيه مستمد من الدراسة النفسية للتكيف. فمشكلة السعادة البشرية، كما يقول عالم النفس، هي مشكلة تكيف: إذ إن السعادة هي النغمة الانفعالية المستمرة التي تقترن بحالة التكيف بين الكائن العضوي السليم وبين بيئته. وبالاختصار فلا بد لنا، لكي نكون سعداء، من أن نصبح مندمجين في العالم المادي والاجتماعي الذي نعيش فيه، إما بتغيير تلك البيئة، وإما (إذا كان ذلك مستحيلا)، بتغيير أهدافنا على نحو يجعلها قابلة للتحقيق. ولكن من واجبنا، حتى نبدأ عملية التكيف، أن نتذكر هذه الحقيقة الأساسية، وهي أن بيئتنا ليست إلا شريكا سلبيا في هذه العلاقة. فالعالم يوجد حولنا بطريقة سلبية، على استعداد لأن يستغل إلى أي حد يمكننا أن نفرض به إرادتنا عليه. أما أن نقبع في أماكننا وننتظر منه أن يخطو الخطوة الأولى، أو يبدي أي اهتمام بمصالحنا وسعادتنا، فهذا دليل على الافتقار إلى النضج العقلي والعاطفي.
والأمر هنا أشبه بحالة طائر يبني عشه تحت سقف مخزن للغلال. فالمخزن هناك، سلبي وغير مكترث بنجاح عملية بناء العش أو إخفاقها. وقد يستهلك الطائر نفسه من فرط التعب دون جدوى؛ إذ إنه ما لم يحل مشكلة تكييف مواده حسب هذا المكان، فإن مآله الحتمي سيكون إلى الإخفاق. ولن يرفع المخزن لوحا من الخشب أو يحرك عمودا، بغض النظر عن جهود الطائر ورغباته. وليس ثمة شيء قادر على أن يحول المخزن عن عدم اكتراثه هذا، لنفس السبب الذي لا يستطيع من أجله أي شيء أن يحول الكون من عدم اكتراثه: فكل منهما لا يمثل إلا فعل القوى الطبيعية. وليس في أي منهما «عقل» أو «روح» أو «شخصية». ولا يوجد في أي منهما شيء يمكن تحريكه بالفكر وحده، سواء اتخذ هذا الفكر صورة أحلام اليقظة الخاملة، أم صورة الميتافيزيقا المذهبية المحكمة، أو حتى صورة الصلوات الخاشعة. وهذه، في نظر صاحب المذهب الطبيعي، هي الحقيقة الأساسية في علاقة الإنسان بالكون الذي يعيش فيه.
المذهب الطبيعي ليس تشاؤميا بالضرورة : على أن موقف المذهب الطبيعي هذا من العالم الذي نعيش فيه لا يعني (كما يسارع أنصاره إلى القول) أن السعادة مستحيلة، أو أن الحياة مهزلة، أو أن الكون دعابة ساخرة هائلة. فالمذهب الطبيعي يهتم بالسعادة البشرية بقدر ما تهتم به أية فلسفة أخرى. ومع ذلك، فهو يختلف عن معظم المدارس الأخرى، ولا سيما المثالية، في الوسيلة التي يمكن بها بلوغ السعادة على أفضل نحو، وتحقيق أكبر قدر من إمكانيات الطبيعة البشرية. ففي رأي صاحب المذهب الطبيعي أن الوسيلة الوحيدة لبلوغ هذا الهدف أن نبني حياتنا وحضارتنا معا على أساس من المذهب الطبيعي. ونحن لن نجني شيئا من الحديث عن «قانون علوي»، أو «عدالة إلهية»، أو «خير كوني» أو «السماء»، أو «المطلق». ولكننا يمكن أن نخسر منه الكثير؛ لأن هذه المفاهيم الغامضة قد تصبح أدوات هروبية، ووسائل لتجاهل شرور اجتماعية واضحة، أو أساليب لتبرير المظالم الكامنة في مجتمعنا. صحيح أن التفكير على أساس مثل هذا «الوحي» يجلب لنا السكينة عندما ننوه بمشكلات فادحة، وعندما تبدو الحياة أعقد من أن تفهم أو أصعب من أن تحتمل، ويتفق صاحب المذهب الطبيعي مع عالم النفس على أن هذه المعتقدات تكون لها في بعض الأحيان قيمة علاجية، من حيث إنها تخفف مؤقتا توتر الحياة اليومية. غير أن هناك خطرا دائما من أن تتحول هذه المعتقدات إلى فلسفة هروبية منظمة، وبذلك تكون عقبة في وجه الإمكانيات الهائلة التي تتيحها الحياة لبلوغ الرضا والسعادة. والحق أن هذه الإمكانيات لا تتحقق على الوجه الأكمل إلا إذا نظمنا حياتنا داخل إطار الواقع؛ أعني الواقع كما نعرفه من خلال التجربة الحسية والعلم. فنحن نحصل من الحياة على أكبر نصيب إذا ما واجهناها، لا إذا هربنا منها، حتى بوسيلة موقرة كالفلسفة. (8) التقابل بين وجهتي النظر لا يمكن التغلب عليه
والآن، ما الذي نصنع، في الختام، حيال هذا الصراع الدرامي بين وجهتي نظر بينهما هذا القدر من التعارض العميق ، كالمذهب المثالي والمذهب الطبيعي؟ كيف يكون من الممكن، أولا، أن يصل أناس أذكياء، متشابهون في تجاربهم وتكوينهم العلمي، ويعيشون في مجتمع واحد وعصر واحد، إلى وجهتي نظر بينهما كل هذا التعارض؟ وكيف يتسنى، مثلا، لواحد من المتمسكين بالمذهب الطبيعي، ولواحد من المتحمسين للمذهب المثالي، أن يمرا جنبا إلى جنب بتجربة مشتركة، وأن يخرج كل منهما بمزيد من الأدلة التي تؤيد وجهة نظره الخاصة؟ لقد أتيح لمؤلف الكتاب مرة أن يقوم برحلة في جبال «هاي سييراز» في كاليفورنيا، برفقة اثنين من أصحاب هذين الاتجاهين الفلسفيين، ووجد أن حججهما طريفة ومحيرة في آن واحد. فإزاء هذا المنظر الهائل المترامي الأطراف، لقمم يبلغ ارتفاعها أربعة عشر ألف قدم، يجد المثالي حتما دليلا على «الخير والحق والجمال»، وإزاء جلال الطبيعة يشعر دائما بغائية الكون وخطته وقد بدت واضحة. فالجبال الكبرى قد أثارت فيه أفكارا كبرى بدورها، وهذه بدورها نقلته إلى «الفكرة الكبرى» الكامنة من وراء هذا كله. وهو في الأعالي وقد وجد «المطلق»، فجبال «سييرا
High Sierras » لها في نظره دلالة رئيسية هي أنها من صنع الله.
ولكن ما هو موقف صاحب المذهب الطبيعي؟
إنه بعد أن أفاق من استجابات المثالي إلى حد يسمح له بالتعبير الكلامي عن استجاباته هو، ظهر التباين في وجهة نظره بكل وضوح. فالمنظر كان بالنسبة إليه رائعا بنفس المقدار، بل يمكن القول إنه كان أقوى إحساسا بالجمال الطبيعي. ولكنه لم يستطع أن يحس، في القمم الشامخة والبحيرات البديعة؛ أي «ذهن» أو أية «خطة» أو «غاية». وإنما أوحت إليه هذه المناظر بالاتساع الهائل في نطاق الطبيعة، وبعزلتها، وثباتها الذي لا ينال منه الزمان، وبالدورة الأزلية لليل والنهار، والصيف والشتاء، والشمس والثلج. وهو لم يجد في ذلك «حضرة» باقية «مقرها نور الشموس الغاربة»، أو لمحات على الخلود، بل إنه كان في معظم الأحيان يبدي إعجابه بأزلية النظام الطبيعي في مقابل قصر عمر الإنسان. وهكذا أشعرته كل هذه العظمة والجمال بصرامة الطبيعة، وكذلك بعدم الاكتراث الهائل للكون إزاء الإنسان وحياته القصيرة. ولعل لفظ «العزلة » كان أكثر الألفاظ ورودا على لسانه وهو يصف أحاسيسه إزاء قمة أو بحيرة. ولقد وجد في هذا المنظر حافزا ومثيرا، وكلنه لم يجده «ملهما» أو «موحيا»، فالحياة في مثل هذا الإطار لمدة أسابيع قليلة كفيلة بتطهير مخه من نسيج العنكبوت الذي يعشش فيه، وبإشعاره بضآلة أمور البشر، (وضمنها أموره الخاصة. ولهذه الحياة بوجه عام تأثير مقو - ولكنه كان التأثير المقوي الناتج عن الاستغراق في إحدى تلك البحيرات التي يبلغ ارتفاعها ميلين. أما الجبال فلم يجد فيها «ذهنا»، بل إن عزلتها الموحشة لم يكن يعدلها إلا عزلة النجوم اللامعة التي تدور حول الرءوس في إطار مرصع يكاد سناه يسلب عين الإنسان الكرى.
الأسباب المحتملة للتعارض بين الموقفين : وهكذا نعود مرة أخرى إلى السؤال: كيف يستطيع الناس أن يمروا بنفس التجربة ويستخلصوا منها مثل هذه النتائج المتباينة؟ إن من المستحيل الاختيار بين المثاليين من حيث هم جماعة وبين الطبيعيين من حيث هم جماعة، على أساس الذكاء أو الإخلاص أو الحكمة أو الإرادة الخيرة. ومن الواجب أن ننظر إلى ما هو أعمق من القدرة العقلية أو اتساع نطاق المعرفة، إذا شئنا أن نفسر التقابل الأساسي بين قطبي الفلسفة هذين. ولقد قسم وليم جيمس، في هذا القرن، وفي البلاد الأمريكية، الناس إلى صنفين كانا في نظره أساسيين: هم «ذوو العقول الصارمة» و«ذوو العقول الرقيقة» وقد لقي هذان التعبيران قبولا واسعا.
ولقد كان جيمس يجمع بين وجهة نظر عالم النفس ووجهة نظر الفيلسوف. ولذلك فإن مما له دلالته أنه ذكر أن الفارق هو على الأرجح فارق في المزاج - وبالتالي فهو في عمق جذوره لا يقل عن أية فوارق بشرية أخرى نعرفها. ومن سوء الحظ أننا لا نعلم عن أساس هذا «المزاج» أو طبيعته أكثر مما كان جيمس يعلم منذ ثلاثة أجيال. فما زال هذا المجال، حتى اليوم، سرا غامضا، على الرغم مما بذله علماء البيولوجيا وعلم النفس من جهود لارتياده وكشفه.
من الممكن اتخاذ قرار: لا بد أن يكون قد اتضح للقارئ الآن أن الجدل بين هاتين المدرستين الكبيرتين يمكن أن يستمر إلى الأبد - وهو على الأرجح سيستمر بالفعل. وبغض النظر عن طريقة تفسيرنا للتقابل بين هذين القطبين الرئيسيين للفكر الفلسفي، فإن هذا التقابل ذاته سيظل أبرز حقيقة في التاريخ الطويل للنشاط التأملي. وقد لا يكون في وسع المبتدئ في الفلسفة بعد أن يحدد الفئة التي ينتمي إليها، أو أن يدرك أهو «مثالي» أم «طبيعي»، ولكن هذا أمر لا يتوقع من المرء في المرحلة المبكرة من تطويره الفلسفي. ويكفي أن نكون قد أحسسنا الآن بالتقابل الأساسي ونتائجه الرئيسية. ولعل القارئ قد شعر بأن كلتا المدرستين لديها حجج قوية مقنعة، وبأن في استطاعة المرء الاختيار من بين هذه الحجج من أجل تكوين مذهبه الخاص في الفلسفة. وبالفعل نجد كثيرا من المبتدئين في هذا المجال يحاولون القيام بهذا العمل، ولكن المرء كلما تقدم في الدراسة الفلسفية، كان الأرجح هو أنه سينجذب إلى أحد هذين القطبين أو الآخر. وسوف يزداد موقف القارئ الخاص وضوحا في نظره خلال الفصول القادمة، عندما نقوم باستعراض عام لمختلف مشكلات الفلسفة داخل الإطار الذي حددناه الآن.
الفصل الخامس
أصل الحياة ومجراها
يبدي كثير من الطلاب اهتماما بالمشكلات التي تثيرها العلوم البيولوجية، ويفوق اهتمامهم بأية مشكلات أخرى تعالجها الفلسفة. وهذا أمر طبيعي؛ إذ إن هذه المشكلات أقل تجريدا من كثير من المشكلات التي تعالجها الفلسفة، وهي تتعلق بأكثر الموضوعات كلها أهمية، ألا وهو المخلوقات الحية. وفضلا عن ذلك، فتلك مسائل ذات صلة مباشرة بتاريخنا نحن: فمن أين أتت الحياة؟ وماذا كان شكل الحياة الأصلية؟ وما التغيرات التي حدثت منذ هذا الأصل، ما الذي سببها؟ وهل ما زالت التحولات مستمرة؟ وهل الإنسان مجرد نوع آخر من الحيوانات، أم أن له طبيعة فريدة لا يمكن تفسيرها إلا بافتراض خلق خاص - أو على الأقل بافتراض اهتمام خاص من جانب الكون؟ وباختصار، نحن نواجه الآن مباشرة تفريعات متنوعة لذلك البحث الذي يعد موضوعا من الموضوعات الثلاثة الرئيسية في الفلسفة، وهو: من أين نأتي؟
تحت هذا السؤال الواحد الشامل، تندرج ثلاثة أسئلة فرعية، تتعلق بطبيعة الحياة، وأصل الحياة ، ومجرى الحياة. ولعل من المستحسن، ونحن نستهل هذا الفصل الذي يتعين أن يكون مكتنزا مكدسا، أن نذكر أنفسنا بأن كل الوقائع والنظريات التي نصادفها تتعلق بثلاث مشكلات: (1) ما الحياة؟ (2) من أين أتت، أو كيف بدأت؟ (3) ما الأسباب التي أدت إلى ذلك التنوع اللانهائي للكائنات العضوية التي تعمر الأرض الآن؟ ومن المألوف أن نجد الطلاب الحديثي العهد بالفلسفة أكثر اهتماما بأصول الحياة، ولكن سيكون لزاما علينا أن نركز اهتمامنا بالأحرى في المسألتين الأخريين. ذلك لأن العالم البيولوجي والفيلسوف هما معا أكثر اهتماما بمجرى الحياة من اهتمامهما بأصلها، وإن كان من الواضح أن أية مناقشة لأي من هذين الموضوعين ينبغي أن تكون متوقفة على الآراء التي نقول بها بشأن طبيعة العملية الحيوية.
ما الحياة؟
من المنطقي إذن أن نبدأ بالسؤال: ما الحياة؟ أما العالم البيولوجي فيفضل أن يتساءل: ما العملية التي نطلق عليها اسم الحياة؟ ومع ذلك فإن كلا من العالم البيولوجي والفيلسوف متفقان على أننا إذا كنا نستطيع أن نحدد ما الذي يميز المادة الحية من غير الحية، لكنا بذلك قد قطعنا شوطا بعيدا نحو الإجابة عن سؤالنا الأول. على أن من الضروري، قبل أن نبدأ مناقشة الخواص الفريدة للحياة، أن نفهم تمييزا لا بد منه من أجل فهم هذا الفصل وعدة فصول مقبلة - وأعني به التمييز بين النظريتين الجوهرية
Substantive
والوظيفية
Functional
للحياة. ومن سوء الحظ أن هذا التمييز، على قدر ما له من أهمية، صعب الفهم إلى حد بعيد. وهو يمثل بالنسبة إلى معظم الناس خروجا جذريا عن كل العادات الفكرية السابقة، يشعرون معه وكأنه قد طلب إليهم فجأة أن يفكروا بلغة جديدة. (1) النظرة الجوهرية
النظرة الجوهرية إلى الحياة، التي اعتنقناها كلنا تقريبا منذ طفولتنا، والتي نعدها بالتالي «موقفا طبيعيا»، تعد الحياة جوهرا. ولكيلا يبدو تعبيرنا السابق هذا تحصيل حاصل مفرطا في السذاجة، فلننظر إلى لفظ «الجوهر» مؤقتا على أنه مرادف «للشيء». وهكذا يتضمن هذا الرأي اعتقادا بأن الحياة شيء، أو كيان، أو وجود مادي من نوع ما، على أن مفهوم الجوهر ينطوي عادة على شرطين منفصلين، فالجوهر لا بد أولا أن يكون قادرا على الوجود المستقل، وذلك على الأرجح حتى بعد أن تختفي جميع صفاته وخصائصه وتغدو عدما
1
والجوهر ثانيا لا بد أن يتصف بالدوام، بل إن هذا المعيار الثاني يصبح دائما هو المحك العملي للجوهرية. «ذلك لأن الطريقة الوحيدة التي نعرف بها أن الشيء قادر على أن يوجد وحده هي أن نلاحظ أنه يوجد في وقت ما في غياب الأشياء الأخرى التي يرتبط بها عادة. وهكذا فإن الشيء إن لم يكن يتصف بالدوام، لما أمكن أن يعد جوهرا. ونستطيع أن نتصور حالة يكون فيها الشيء دائما دون أن يكون جوهريا، ولكنه لا يمكن أن يكون جوهريا دون أن يكون دائما».
2
ومن الواضح أن «الدوام» لفظ نسبي. ولكنه يتضمن في استخدامه العملي ثباتا أو استقرارا بالنسبة إلى عمر الحياة البشرية. وهكذا تكون النجوم دائما على حين أن الزهرة ليست كذلك.
وهناك وسيلة أخرى لوصف النظرة الجوهرية إلى الحياة، هي القول إنها تعد الحياة «مادة
Stuff ». والواقع أن كثيرا من مجازاتنا الكلامية ينطوي على هذا المفهوم: فنحن نتحدث عن «إضاعة حياتنا» أو «تبديد المرء لحياته في ميدان القتال» أو «وهب حياتنا من أجل قضية» أو «إنفاق حياتنا في جهد عقيم»، بل إن كل لفظ يستخدم في الكلام عن الحياة، خارج معمل البيولوجيا، وربما خارج قاعة محاضرات الفلسفة، يكاد في كل الأحيان يكشف عن هذا الاتجاه إلى النظر إلى الحياة على أنها مادة أو شيء من نوع ما؛ تتصف بكل الدوام والاستقلال في الوجود، اللذين نربط بينهما عادة وبين شتى أنواع «الأشياء». وسوف نناقش في فصلنا الأخير عن مشكلة الخلود بعضا من الآثار المضللة للنظرة الجوهرية إلى الحياة (والنظرة الجوهرية إلى الذهن، وهي أسوأ من الخطأ السابق). وحسبنا في هذه المرحلة أن نشير إلى أن هذا الرأي يؤدي حتما إلى إيمان بالبقاء بعد الموت. ذلك لأن الحياة - كما يقال عادة - لا يمكن أن تختفي وكأنها لم تكن: «فالشيء» لا يحدث له ذلك، بل إن أقصى ما يحدث للأشياء هو أن تغير صورتها؛ ومن هنا كان من المعقول أن نفترض أن حياتنا ستستمر في صورة ما بعد الموت، على أن هذا موضوع سنعرض له فيما بعد بمزيد من التفصيل. (2) النظرة الوظيفية إلى الحياة
إن رد الفعل المعتاد للطلاب على أول تحد يصادفونه للنظرة الشيئية إلى الحياة، هو رد فعل يتسم بالدهشة الشديدة. فهم يتساءلون: «ماذا عسى أن تكون الحياة أن لم تكن شيئا من هذا القبيل؟ أليس وجود اسم هو «الحياة» دليلا على أن من الضروري وجود شيء جوهري يناظر هذا الاسم؟ إن اللفظ قطعا لا يدل على بدعة من صنع الخيال!»
وهنا قد يكون من المفيد، قبل عرض الرأي الآخر، أن نقضي لحظة في تحليل هذه المسلمة الأخيرة، القائلة إن الأسماء لها دائما مقابل جوهري. وأن كل معلم للفلسفة ليشعر في كثير من الأحيان بخيبة الأمل؛ إذ يكتشف مدى السهولة التي يقع بها الطلاب في خطأ التسليم بهذا الأمر، لا سيما وأن من الممكن تجنب هذا الخطأ بقليل من التفكير. فالأسماء تشير أساسا إلى تجارب من أنواع شتى. ومعظم هذه التجارب عينية: كالكتاب، والكرسي، والكلب، والقمر، وما إلى ذلك. وهناك أسماء أخرى تمثل تجربة وهمية أو متخيلة، كالشبح والطيف والجن ... إلخ، غير هذه وتلك؛ أسماء تدل على تجريد أو مفهوم فكري خالص: كالعدالة واللانهائية والله مثلا. وهناك أسماء أخرى تمثل سلسلة كاملة من التجارب، تكاد تكون لا نهائية العدد، وكل وظيفتها هو تلخيصها تحت لفظ واحد لأغراض الاتصال. ومن الأمثلة المشهورة لهذا النوع من الأسماء، الذهن، والنفس، والوعي، وهكذا فإننا عندما نستخدم هذه الألفاظ لا نشير بالضرورة إلى أي «شيء»، أو «مادة» أو «جوهر». فمن الواجب قبل كل شيء ألا نفترض أن كون اللفظ ذاته مفردا ويوحي إلى ذهننا بالوحدة، يجعل لنا الحق في النظر إلى ما يدل عليه اللفظ على أنه بدوره مفرد، موحد، جوهري.
أما النظرة الأخرى إلى الحياة، التي يفضلها معظم البيولوجيين، فتعرف عادة بالنظرة الوظيفية أو العملية
Operational . هذه النظرة تعد الحياة عملية
، أو بالأحرى سلسلة كاملة من العمليات، بدلا من أن ترى فيها شيئا أو جوهرا. وهكذا تصبح «الحياة» مجرد اسم بسيط نطلقه على مجموع أوجه النشاط أو الوظائف أو العمليات التي تميز الكائن العضوي، والحد الأدنى لقائمة هذه الوظائف هو عادة شيء من هذا القبيل. التكاثر، والتكيف، والتعويض الذاتي، والقابلية للتأثر (أي القدرة على الاستجابة لتغيرات البيئة). وتسعى النظرة الوظيفية عادة إلى تفسير كل هذه العمليات الحيوية على أسس فيزيائية وكيموية. ولهذا فهي ترتبط ارتباطا وثيقا بالنزعة الآلية في البيولوجيا، أما النظرة الجوهرية فتكاد تكون مرادفة للنزعة الحيوية
Vitalism
وسوف يخصص الجزء الأكبر من هذا الفصل لعرض النزاع بين النزعتين الآلية والحيوية، وهو النزاع الفلسفي الرئيسي الذي تثيره العلوم البيولوجية. وعندما نصل إلى هذا العرض، ستتاح لنا فرصة الإشارة مرارا إلى التقابل بين النظرتين الجوهرية والوظيفية. ولكن من الواجب، إلى أن يجيء الوقت الذي نبلغ فيه هذه المرحلة، أن نتأمل النظريات المختلفة المتعلقة بأصل الحياة ومجراها. وعندما تستقر هذه النظريات في أذهاننا بوضوح، يكون من المفيد عندئذ أن نعود إلى مناقشتنا لطبيعة الحياة. (3) أصل الحياة: ثلاث نظريات
كانت هناك ثلاث نظريات تقليدية عن أصل الحياة، تعرف على التوالي باسم الخلق الخاص
Special Creation
والنقل
Transmission
والبداية التلقائية
Archebiosis . وقد استعيض عن اللفظ الأخير، في العهود القريبة، بلفظ الانبثاق
Emergence
في معظم الأحيان، على الرغم من أن المفهومين لا يعنيان شيئا واحدا. ولقد كانت هناك، من الوجهة التاريخية، عدة نظريات فرعية تندرج تحت هذه الفئات الرئيسية، ولكن يكفينا لكي نحقق غرضنا أن نصف هذه النظريات الثلاث: (1)
الخلق الخاص : تكاد نظرية الخلق الخاص تشرح نفسها بنفسها. فهي تذهب إلى أن الحياة قد استحدثت في عالم من المادة غير الحية بفضل فعل خاص للخلق، يفترض أن الله هو الذي قام به، وأن هذا الفعل حدث بعد خلق سابق للكون ثم على يد نفس هذه القوة الفاعلة. وينبغي أن نشير إلى أن هذه النظرية، بما هي كذلك، لا تنطوي بالضرورة على التفسير الوارد في سفر التكوين بالإنجيل عن الخلق. فكل ما تشترطه النظرية هو الإيمان بأن الحياة قد خلقت عمدا في صورة ما بفضل قوة فاعلة متدخلة. وهكذا فإن المرء لا يستطيع فقط أن يستبعد وصف الإنجيل للخلق، بل يستطيع أن يؤمن بالنظرية العامة للتطور، ويظل مع ذلك داخلا في إطار فرض الخلق هذا. فما دام يفترض أنه كان لا بد من فعل خاص معين من أجل بدء النشاط الحيوي، فإن الأسئلة الخاصة بوقت حدوث فعل الخلق هذا، أو كيفية حدوثه، أو من الذي أحدثه، تغدو عندئذ أمورا ثانوية. كذلك فإن هذا الافتراض يجعل جميع الأسئلة المتعلقة بالصورة الأصلية للحياة أسئلة ذات أهمية ثانوية.
ولسنا بحاجة إلى القول بأن نظرية الخلق الخاص هذه قد حظيت خلال التاريخ بقبول شبه إجماعي. وهذا لا يصدق فقط على المسيحيين، بل إنه يصدق على أغلبية المذاهب الفكرية القائمة على الدين وفكرة الألوهية. وبالنسبة إلى الغرب فقد كان لمذهب الخلق سيادة لا ينازعه فيها أي مذهب آخر - هذا إذا استثنينا بضعة أفكار ساذجة ولكنها ذكية ظهرت بين المفكرين اليونانيين الأوائل - وذلك حتى أواخر عصر النهضة، عندما بدأت النظريتان الأخريان تصبحان موضوعا للنقاش. (2)
النقل : تحاول نظرية النقل حل مشكلة كيفية بدء الحياة عن طريق تجنبها، أو على الأصح إرجائها إرجاء دائما. وترى هذه النظرية، وباختصار، أن الحياة قد أتت إلى أرضنا من كوكب آخر، بل ربما من نظام شمسي آخر. والوسيلة المفترضة لهذا النقل هي أبواغ Spores شديدة الضآلة تشتمل عليها الشهب الصغيرة، أو بعض الفتات الأخرى للمادة الموجودة بين الكواكب. والواقع أننا نعرف في الوقت الحالي أنواعا معينة من الأبواغ تبلغ من الصلابة وطول العمر حدا يجعل طريقة النقل هذه من كوكب إلى آخر لا تعود مسرفة في الخيال كما تبدو للوهلة الأولى. ولكن هذه النظرية تصادف مع ذلك، من وجهة النظر الفلسفية، اعتراضا هادما؛ فهي قد تفسر كيف أتت الحياة إلى الأرض، ولكنها لا تبذل محاولة لتعليل وجود الأشكال الحية في الكوكب الذي يفترض أنها انتقلت منه. وقد يكون في هذا الكفاية من حيث هو مجرد تعليل بيولوجي «لأصل» الحياة، ولكنه لا يكاد يستحق اسم التفسير بالمعنى المعتاد لهذا اللفظ. (3)
البداية التلقائية : وهكذا يبدو أن علينا أن نختار بين نظرية في الخلق الخاص وبين نوع من البداية التلقائية. وتعد وجهة النظر الأخيرة هذه، بوجه عام، معبرة عن موقف العلم الحديث. وهي، بالاختصار، تذهب إلى أن المادة العضوية قد ظهرت من المادة غير العضوية في وقت معين من الزمان، وهي لا تفترض أن أية قوة خارجية أو قدرة خالقة كانت لازمة لإحداث هذا التغيير، وإنما هو قد حدث بوسائل طبيعية محضة؛ أي نتيجة لتجمع عفوي لظروف طبيعية. ولا تدعي هذه النظرية القدرة على وصف هذه الظروف بدقة، كما أنها لا تدعي الآن القدرة على تكرارها من جديد في المعمل. الواقع أن من الواجب النظر إلى فرض البداية التلقائية على أنه عقيدة قبل كل شيء، فهو ليس صيغة تفسيرية دقيقة، وإنما هو أقرب إلى أن يكون تعبيرا عن إيمان بأن من الممكن الوصول إلى تفسير طبيعي محض لأصل الحياة.
ولقد كان الاعتقاد بأن المادة يمكن أن تصبح، على نحو ما، كائنا عضويا حيا، خليقا بأن يبدو مسرفا في الخيال حتى العلماء أنفسهم منذ مائة عام. ومع ذلك فمنذ حوالي قرن على وجه التحديد، أخذ معمل الكيموي ينتج «معجزة» تلو الأخرى في صور مركبات عضوية خلقت من مادة غير عضوية. ولنسمع إلى ما يقوله واحد من كبار مؤرخي العلم في هذا الموضوع:
ظل الناس طويلا يعتقدون أن المواد الشديدة التعقيد، التي تميز الأنسجة الحيوانية والنباتية، لا يمكن أن تتكون إلا تحت تأثير عمليات حيوية، وكان يعتقد أن مصير الإيمان بالتفسير الروحي للحياة متوقف على صحة هذا الرأي. ولكن تحضير «اليوريا» (البولينا) صناعيا في عام 1828م، على يد «فريدرش فولر
Fredrish Wohler
أثبت أن من الممكن أن تصنع في المعمل مادة لم تكن توجد من قبل إلا في الكائن العضوي الحي. وتلا ذلك تحضير مواد طبيعية أخرى بطريقة صناعية ، حتى نجح إميل فيشر
Emil Fischer
في عام 1887م في تركيب الفركتوز (سكر الفاكهة ) والجلوكوز (سكر العنب) من عناصرهما. وهكذا انهار التمييز بين العضوي وغير العضوي، غير أن المواد المسماة «بالمركبات العضوية» تبلغ من الكثرة ومن التعقد حدا يظل من المفيد معه التفرقة بين الكيمياء العضوية وبين الكيمياء غير العضوية والكيمياء الفيزيائية.
3
والواقع أن التجارب الأخيرة في الإخصاب الكيموي لأنواع معينة، تقدم أدلة متزايدة تثبت وجود خط متصل بين العالمين غير العضوي والعضوي. فقد اكتشف منذ بضع سنوات أن من الممكن إخصاب بويضة قنفذ البحر
Sea-urchin
بوسائل أخرى غير الوسائل الطبيعية، كما أمكن بنجاح إخصاب أنواع أخرى كالأرانب بوسائل صناعية.
4
وهكذا، فعلى حين أنه من المستحيل على العلم، حتى الآن، أن يصف بدقة، أو يكون من جديد بنجاح، تلك الظروف التي كان يمكن عن طريقها ظهور الحياة بطريقة طبيعية خالصة، فإنه يكتشف على الدوام وقائع جديدة تؤكد أن من الممكن (بل من المرجح في نظر كثير من الثقات) أن تكون الحياة قد بدأت بالفعل على هذا النحو.
الحلول الممكنة : سوف يكون علينا أن نذكر المزيد عن نظرية المذهب الطبيعي في أصل الحياة عندما نناقش التضاد بين المذهب الآلي والمذهب الحيوي في موضع تال من هذا الفصل، على حين أن المناقشة التي سنجريها في الفصل التالي لمختلف النظريات المتعلقة بطبيعة الذهن وأصله سوف تلقي مزيدا من الضوء على هذا الموضوع. أما الآن فحسبنا أن يكون الطالب قد أدرك أن الحلول المختلفة لسؤالنا عن كيفية بدء الحياة تبدو وكأنها ترتد كلها إلى حلين ممكنين فحسب. ففي استطاعتنا أن نقبل نظرية الخلق الخاص، وهي نظرية لا تفسر إلا القليل جدا، وليست لها علاقة بالعلم الحديث، مهما تكن مزاياها اللاهوتية، كما أن في استطاعتنا أن نختار بدلا من ذلك التفسير العلمي الذي لم يكتمل بعد، والذي يرى أن الحياة قد انبثقت من غير الحي بوسائل طبيعية خالصة دون أي نوع من التدخل الخارجي. (4) التطور قبل دارون
سوف ننتقل الآن إلى استعراض لمختلف النظريات المتعلقة بمجرى الحياة. هذه النظريات تتعلق بتفسير طريقة ظهور تلك المجموعة الهائلة من أشكال الحياة الموجودة الآن. وإذن فنحن الآن على أهبة التصدي لتلك المشكلة الشديدة التعقيد، ألا وهي مشكلة التطور، ناظرين إلى هذا اللفظ الأخير على أنه يعني عملية بيولوجية، كما يعني في الوقت ذاته مقولة عامة تصف نواحي معينة من عالم التجربة الذي نعيش فيه.
والواقع أن اسم تشارلس دارون يحتل من الأهمية في أية مناقشة للتطور، ما يعرض الطالب دائما لخطر الاعتقاد بأن هذا العالم الكبير قد صاغ نظريته هذه بجهوده الخاصة وحدها في فراغ عقلي تام. ولكن الواقع أن فكرة المجرى التطوري للحياة أقدم بكثير من دارون، وأن الفكرة كانت شائعة في الأوساط الثقافية في الوقت الذي بدأ فيه دراسة المشكلة، بل إن بعضا من أقدم المفكرين اليونانيين لم يكتفوا بالاعتقاد بأن التغير هو الحقيقة النهائية في الكون (ومنهم هرقليطس مثلا)، بل لقد نظروا إلى مجرى الحياة على أنه عملية متدرجة يستعاض فيها عن الأشكال الناقصة بأشكال أكثر منها كمالا. ومنهم أنبادقليس مثلا). وبحلول عصر أرسطو، ظهرت الفكرة القائلة إن الأكثر كمالا يمكن أن يتطور من الأقل كمالا. وفي عصر النهضة بعثت من جديد الفكرة القائلة بإمكان وجود نوع من النمو المتدرج، على الرغم من أن الفلاسفة، لا العلماء الرواد، هم الذين أبقوا شعلة فكرة التطور متوهجة، فقد ألقى بيكون، وديكارت، وليبنتس، و«كانت»، أفكارا كانت بمثابة الوقود في هذه النار. وخلال ذلك كان العلماء يجمعون ببطء تلك الوقائع التي زودت دارون وغيره من مفكري القرن التاسع عشر، في الوقت المناسب، بأساس يكفي لجعل فرض التطور أكثر من مجرد ألعوبة فلسفية.
ومن الطريف أن نلاحظ أن كفة الجانب المعرض لفرض التطور، في الرأي العام العلمي، كانت حتى وقت نشر نظرية دارون هي الراجحة. ولكن من حسن الحظ أن بداية القرن التاسع عشر قد شهدت ظهور عدد من علماء البيولوجيا وعلماء النبات يؤيدون فكرة النمو المتدرج بشكل من أشكالها؛ مما أدى إلى نشر فكرة بين الأوساط العلمية - وإن لم تكن قد عرضت على سلطات الكنيسة بعد. فقد كان أرازموس دارون
Erasmus Darwin (1738-1802م)، وهو جد تشارلس قد ذهب إلى أن كل الحيوانات الحية نتجت مما أسماه «نسيجا حيا واحدا»، كما أيد بوفون
Buffon
الفرنسي فكرة قيام ظروف البيئة بإدخال تعديل مباشر على الأشكال الحيوانية.
5
نظرية لامارك : على أن الفضل لا بد أن يرجع إلى لامارك (1744-1829م) في الإتيان بأول نظرية تطورية محدودة ومنطقية بحق. فقد كان يعتقد، مثل «بوفون»، بقدرة الظروف الخارجية على تعديل الكائن العضوي. ومن هذا الاعتقاد جاءت نظريته المشهورة «وراثة الصفات المكتسبة». وأساس هذه النظرية هو أن التغير في البيئة يؤدي إلى تعديل التركيب الجسمي للنوع. ولنستخدم المثال الكلاسيكي الذي أورده لامارك، فنقول إن نظريته تذهب إلى أن رقبة الزرافة الطويلة قد أتت من قيام أجيال متعاقبة من الزراف بمد رقابهم من أجل الوصول إلى غذاء نباتي شحيح أو رقيق كان ينمو في مكان أبعد مباشرة عن متناولهم. والمفروض أن هذا المد المستمر قد أدى إلى تعديل في الكائنات العضوية الفردية وهذه التعديلات (التي هي ضئيلة جدا في أية حالة فردية) قد زادت بالوراثة.
وينبغي أن نلاحظ أن نظرية لامارك، على ما تتسم به من طابع منطقي ومن معقولية في نظر الإنسان العادي، ظلت مجرد فرض نظري دون أية أدلة مباشرة تؤيدها. ومع ذلك فقد أوحت لعلماء البيولوجيا التالين باتجاهات مثمرة في البحث للقيام بتلك الكمية الهائلة من الأعمال التفصيلية المرهقة التي كان لا بد منها لكي يصبح من المستطاع صياغة أي فرض علمي حقيقي. (5) دارون والانتقاء الطبيعي
يرجع إلى دارون الفضل الأعظم في صياغة هذا الفرض علميا؛ وبالتالي في الجمع بين التيارين المتلازمين، تيار البحث العلمي وتيار النظر الفلسفي. ولقد كان دارون، في مزاجه الطبيعي وفي تكوينه، عالما طبيعيا بيولوجيا بالمعنى الصحيح. فقد كان مقتنعا، حتى في شبابه، بأن هناك نموا متدرجا لأنواع
Species
جديدة في الطبيعة، مثلما أن هناك نموا لفروع
Varieties
جديدة في الطبيعة وفي السلالات الحيوانية التي يربيها الإنسان. وكان الرأي التقليدي هو أنه على الرغم من أن الفروع يمكن تعديلها بتربية السلالات أو بفضل ظروف البيئة، فإن الأنواع المختلفة كانت ثابتة مثلما خلقت؛ لذلك أدت هذه الفكرة التي اقتنع بها دارون إلى إثارة مشكلتين في ذهنه، فقد كان عليه أولا أن يجد نوعا من التفسير المنطقي لما يقول به من ظهور للأنواع الجديدة، وكان عليه ثانيا أن يجمع أدلة تزيد على ما كان موجودا من قبل، لإثبات أن مثل هذا التعديل للأنواع «الثابتة» يحدث بالفعل. ومن حسن الحظ أنه اهتدى في سن مبكرة إلى طريقة ممكنة للتفسير، بحيث إن مشكلته المزدوجة قد اختصرت إلى نصفها. فعندما كان في التاسعة والعشرين فقط من عمره، توصل من خلال كتابات المفكر الاقتصادي الإنجليزي «مالثوس
Malthus » إلى الفكرة التي كان يبحث عنها. وكانت النتيجة - كما وصفها بألفاظه هو - واحدة من تلك الفتوحات الفكرية الكبرى التي كانت لها أهميتها العظمى في تاريخ العلم:
في أكتوبر عام 1838م، تصادف أن قرأت على سبيل التسلية كتاب مالثوس في السكان، ولما كانت ملاحظتي الطويلة المستمرة لعادات الحيوانات والنباتات قد هيأت ذهني لتقدير أهمية الصراع من أجل الوجود، وهو الصراع الذي يدور في كل مكان، فقد تبادر إلى ذهني على الفور أن من الممكن، في ظل هذه الظروف أن تحفظ التغيرات المواتية ويقضى على التغيرات غير المواتية، فتكون نتيجة ذلك تكوين نوع جديد. وهنا أصبحت لدي نظرية أستطيع أن أبدأ العمل بها.
6
وهكذا اتخذ دارون من هذه الفكرة النيرة مرشدا، وقضى بعد ذلك واحدا وعشرين عاما يجمع الأدلة البيولوجية لتأييد فرضه. وأخيرا ظهر في عام 1859م كتاب «أصل الأنواع
The Origin of Species »، وهو من أعظم المؤلفات إثارة للفكر. ففيه يعرض مجموعة هائلة من الأدلة بوضوح كبير، ويدلل على الفرض الأساسي بطريقة مقنعة كل الإقناع، بحيث إن كتابه هذا لا يمثل العرض الكلاسيكي لوجهة النظر التطورية فحسب، بل إنه يعد أيضا واحدا من أبرز الأمثلة التي توضح كيف يعمل العقل العلمي. وفور ظهور هذا الكتاب اقتنع عدد كبير من العلماء بأدلة دارون، لم تمض سنوات قلائل إلا وكان فرض التطور قد حظي بقبول أغلبية الأذهان العلمية. ولكن من سوء الحظ أن ضمان القبول لهذه الفكرة خارج نطاق الأوساط العلمية كان أمرا أصعب بكثير. فقد كان الكنيسة متحاملة بوجه خاص على هذه النظرية؛ إذ إنها بدت لها مناقضة لتفسير الكتاب المقدس للخلق، ومؤدية إلى الحط من الإنسان إلى مستوى النوع الحيواني. ولكن من حسن الحظ أن دارون، الذي كان هو ذاته خجولا انطوائيا، وجد له نصيرين قويين في شخص هربرت سبنسر وتوماس هكسلي. وكان الأخير بوجه خاص مجادلا رائعا، أسمى نفسه «كلب حراسة دارون». فقد تحمل بشجاعة رائعة ومقدرة ووضوح في العرض، العبء الأكبر للهجوم الموجه من جميع الجهات على كتاب دارون، وقاد مرارا وتكرارا هجمات مضادة ناجحة على خصومه المقهورين».
7
عوامل ثلاثة في الانتقاء الطبيعي : على الرغم من أنه قد ظهرت بعد دارون عدة كشوف علمية أدت إلى إدخال تعديلات في تفاصيل أعماله، فإن هذه الأعمال تستحق الدراسة بوصفها أكثر من مجرد مرحلة تاريخية في العلم. فقد كان دارون، شأنه شأن أي عالم آخر، يبحث عن وسيلة يستطيع بها تفسير الطريقة التي تحدث بها التغيرات في الأنواع. ولما كان يعتقد أن لديه من الأدلة ما يجعله موقنا بأن مثل هذه التغيرات تحدث بالفعل، فقد تركزت جهوده الأساسية في بحث الوسيلة التي يتم بها هذا التغير. فلاحظ أن العملية الفعلية تنطوي على ثلاثة عوامل منفصلة: الصراع من أجل الوجود، والتنوعات بين أفراد النوع الواحد، ونقل هذه التنوعات عن طريق الوراثة. ومن الضروري إلى أقصى حد أن نفهم هذه العوامل الثلاثة: (1)
إن الصراع من أجل الوجود شيء يكاد يفسر نفسه بنفسه. فنظرا إلى الخصب الهائل للطبيعة، فإن عدد الكائنات العضوية التي تولد يزيد كثيرا على ما تتحمله البيئة الطبيعية. ويؤدي التنافس على الغذاء، الناجم عن هذه الزيادة العددية، بالإضافة إلى خطر الأعداء الطبيعيين الذي يهدد أغلب أشكال الحياة الحيوانية، إلى جعل الحياة صراعا مستمرا من أجل البقاء. ومن الواضح أن هذه مسألة حياة أو موت، فالمنتصر يبقى، والمهزوم يفنى. وليست هناك جائزة ثانية للمهزوم ، أو محكمة عليا يستأنف أمامها، بل إن الصراع مميت لا يرحم وهو يستمر طيلة حياة الفرد . (2)
في هذا الصراع الذي لا ينقطع، يجد كثير من الأفراد ظروفا مواتية لهم، بينما تعاكس الظروف أفرادا آخرين. ومصدر هذه المزايا والمضار هو التنوعات أو الفوارق الفردية التي توجد داخل أي نوع. ولم يكن في استطاعة دارون تقديم تفسير لهذه التنوعات، غير أن وجودها كان حقيقة لا تقبل الجدل. (ولقد كان دارون يعتقد أن هذه التنوعات ضئيلة جدا، وتلك نقطة حدث فيها تغير من أهم التغيرات التي أدخلت على النظرية بعد دارون.) ولكن، أيا كان سبب هذه التغيرات، فإنها تنفع الفرد المحظوظ من حيث إنها تعطيه مزيدا من السرعة أو القوة، أو مخالب أو أنيابا أشد حدة، أو ألوانا أفضل تحميه، أو أية صفة جسمية أخرى تفيد في بقاء الحيوان. ونتيجة ذلك هي أن احتمال بقائه يزيد، كما تزيد فرصته في كسب المنافسة التي تدور من أجل الحصول على رفيقات في الجنس. وهنا أيضا نجد أن الفرد الذي يتميز بتنوعات غير ملائمة تعمل على إعاقته. قد لا يجد جوائز تعويضية في هذا الصراع، فيكون عليه إما أن يموت جوعا، وإما أن يلتهم، وإما أن تظل حياته في عقم لأنه لا يستطيع كسب رفيقة. (3)
ومع ذلك فإن مجرد اكتساب فارق عفوي يفيد في بقاء الفرد، لا يكفي لتفسير تغيرات النوع، بل إن من الواضح أن هذه التنوعات ينبغي أن تكون قابلة للنقل عن طريق الوراثة، ولولا ذلك لعادت ذريته إلى المستوى العادي للنوع، مهما كانت المزايا التي يتمتع بها الفرد نفسه، ولكان معنى ذلك أن نعود من حيث بدأنا. فمن الواضح إذن أن فرض التطور بأسره يتوقف على إمكان أو عدم إمكان نقل هذه التنوعات عن طريق وسيلة الوراثة العادية. ومن حسن حظ هذا الفرض أن الملاحظة والتجربة قد أثبتتا أن نقل الفوارق المفيدة والضارة هو حقيقة واقعة. وإذن فحتى لو كانت هذه الفوارق شديدة الضآلة يكون واحد من أبوينا قد اكتسبها بالميلاد. وهذا الفارق راجع إلى نوعي كما كان دارون يعتقد، فإن النتيجة التراكمية لعدة أجيال من هذه التنوعات يمكن بسهولة أن تكون نوعا جديدا.
لامارك في مقابل دارون : تشكل العوامل الثلاثة التي عرضناها ما يعرف باسم قانون أو مبدأ الانتقاء الطبيعي. وهناك أمران متعلقان بهذا المبدأ ينبغي تأكيدهما، لا يسما وإنهما ما زالا صحيحين إلى اليوم كما كانا عند نشر كتاب دارون عام 1859م: أولهما هو الاختلاف بينه وبين نظرية لامارك، التي يخلط الناس عادة بينهما وبين فرض دارون. ففي مقابل ما يقول به لامارك من وراثة للصفات المكتسبة؛ أي تلك الناتجة عن التدريب والاستجابة المتكررة بالتعود - يفترض دارون وراثة فوارق عفوية يتصادف أنها تفيد في بقاء الحيوان. وعلى ذلك فنحن لا نرث ما قد يكون آباؤنا قد اكتسبوه بالتمرين من عضلات أو مهارات، ولكنا نستطيع أن نرث - ونرث بالفعل - فوارق في التركيب الجسمي يكون واحد من أبوينا قد اكتسبها بالميلاد، وهذا الفارق راجع إلى نوعي أو نظامي الخلايا التي لدينا، وهي مسألة سنشرحها بعد قليل. والأمر الثاني الذي ينبغي ملاحظته في مبدأ الانتقاء الطبيعي هو صفة «الطبيعي». ففي مذهب دارون نجد تفسيرا كاملا مفصلا لتغيرات نوعية لا يفترض فيها أي نوع من التدخل الخارجي. فالعملية كلها قابلة للتفسير على الأسس الطبيعية الخالصة التي عرضناها الآن، ولا ضرورة فيها لتدخل أية قوة خارجية أو «خارقة للطبيعة».
وأغلب الظن أن هذا الاستغناء عن أي فاعل عاقل أو غائي في عملية التطور، كان هو العامل الأكبر في إثارة المعارضة الأخلاقية والكنسية لكشوف دارون، فقد بدا أن هذه الكشوف توحي بأن الله أقل ضرورة في تدبير الأشياء مما كان يعتقد من قبل. ومع ذلك فمن المستحسن الانتظار حتى نعالج كل النتائج الضمنية لفرض التطور في قسم مستقل سنورده في هذا الفصل فيما بعد. (6) التطور بعد دارون
في خلال الأعوام المائة التي انقضت منذ نشر كتاب دارون الهائل حدثت تغيرات متعددة في تفاصيل النظرية التطورية، على الرغم من أن خطوطها العامة ما زالت تعد دعامات أساسية للعلوم البيولوجية. ولقد كانت معظم هذه التغيرات ناتجة عن اتساع نطاق معرفتنا للعمليات الآلية للوراثة. والواقع أن من أفيد النتائج التي أسفر عنها نشر كتاب «أصل الأنواع» أنه أحدث زيادة كبيرة في كمية البحوث التجريبية في علم البيولوجيا. ولقد وصلت معرفتنا لقوانين الوراثة في الوقت الحالي إلى حد أصبحت معه المصطلحات الفنية، من أمثال «الجين» (المورث) و«الكروموزوم» (الصبغية)، والطفرة
Mutation
والسائد
dominant ،
8
وما إلى ذلك، جزءا من الألفاظ التي يتداولها أي شخص مثقف، وليس من المستحسن، في كتاب من هذا النوع، أن ندخل في تفاصيل هذا الميدان الذي هو شاق وشائق في آن واحد، لا سيما وأنه توجد، في أية مكتبة جامعية، كتب عديدة تعرف لآليات الوراثة بإيجاز ووضوح.
9
ومع ذلك، فمن الواجب - بغض النظر عن الصعوبات الفنية - أن نتحدث عن تعبيرين جذريين أدخلا على فرض التطور منذ صياغته الأصلية.
اكتشاف فيزمان : أول هذين الاكتشافين لا يمثل تعديلا على النظرية الداروينية، بقدر ما يمثل امتدادا وإثراء لها. وقد كان فيزمان
Weismann
هو الذي قام بالكشف العظيم الأهمية، الذي اتضح منه أن للجسم نظامين منفصلين وشبه مستقلين للخلايا. فالجزء الأكبر من تكويننا العضوي المادي يتألف من خلايا جسمية
Somatic
تأثر بالاستعمال والتموين. ومن ثم فهي مقر «الصفات المكتسبة» عند لامارك. أما النظم الثاني للخلايا فهو الخلايا الجرثومية
Germ-Cells . هذه الخلايا تتصف بما يمكن تسميته بالخلود؛ إذ إن الخلية الجرثومية تستمر من أول كائن بشري (وربما من أول كائن عضوي حي) حتى تصل إليك؛ أعني إلى قارئ هذه الصفحة. وهكذا فإن كل فرد يستمد أصله، لا من الخلايا الجسمية القابلة للتعديل، التي كانت لدى أبويه، وإنما من الخلايا الجسمية الخالدة التي لم يكن أبواه إلا حاملين أو ناقلين لها. وأهم الحقائق هي أن هذه الخلايا الجرثومية، التي تختزنها الخلايا الجسمية أو تحملها، تظل مستقلة تماما عن التغيرات التي تحدث في النوع الآخر من الخلايا. وهكذا يبدو كأن نظرية لامارك قد تركت بلا أساس من الوراثة ترتكز عليه، ما دامت الوراثة تتوقف تماما على نقل الخلايا الجرثومية، التي لا تتأثر إلا بالتنوعات المستقلة التي تطرأ عليها.
ولقد وقع دارون في نفس الخطأ الذي وقع فيه لامارك عندما افترض أن تغيرات النوع تأتي من تعديل في الخلايا الجسمية. ولكن من حسن الحظ أن هذه المسألة لم تكن لها، في نظرية دارون، نفس الأهمية الرئيسية التي كانت لها في نظرية لامارك بأسرها. ومن هنا فإن كشف فيزمان لم يسفر إلا عن تحسين في فرض دارون، على حين أنه قد سدد ضربة قاتلة إلى نظرية لامارك السابقة على هذا الفرض، والواقع أن من أروع سمات الصيغة الأصلية لنظرية دارون، أنها استطاعت أن تتحمل عددا كبيرا من التغيرات وتظل مع ذلك باقية. فكل ما فعلته الكشوف التالية هو تعديلها، غير أن أساسيات الفرض الأصلي ظلت على ما هي عليه.
كشف الطفرات : أما الكشف الثاني فكان يمثل اختبارا لفرض دارون أقسى بكثير مما كان يمثله فيزمان. ففي عام 1900م أتم العالم التجريبي الهولندي دي فريس
De Vries
بحثا بدا لفترة معينة أنه يهدد بهدم نظرية دارون من أساسها، وهو أمر كان مصدر ابتهاج كبير لذلك العدد الكبير من خصوم نظرية التطور، الذين كانوا لا يزالون محتفظين بنشاطهم في ذلك الحين. ومع ذلك فقد أدخل مرة أخرى تعديل على الفرض الأصلي بحيث أصبح يتسع للمعلومات الجديدة، وبذلك ضمن فسحة جديدة من العمر. فلقد رأينا من قبل أن التعبير الأصلي عن النظرية يفترض وراثة التنوعات التي تفيد في البقاء، وكان المعتقد أن هذه تنوعات ضئيلة تحدث بطريقة عفوية. ولكن دي فريس اكتشف في سلسلة مشهورة من التجارب التي أجراها على نبات زهرة الربيع المسائية
Evening Primrose
أنه تحدث أحيانا تغيرات تبلغ من الضخامة حدا تكون معه نمطا جديدا كل الجدة. وفضلا عن ذلك فإن بعضا من هذه الزهرات تتكاثر. وقد أطلق على هذه التغيرات الكبرى اسم «الطفرات
Mutations »، تمييزا لها من التنوعات الضئيلة التي افترضها معظم الباحثين السابقين عليه. وهكذا فإن من الممكن أن يظهر فجأة، ودفعة واحدة، تنوع جديد، بل ربما نوع جديد، بدلا من أن يظهر نتيجة تراكم تدريجي لتنوعات ضئيلة. ولقد كان أنصار نظرية التطور، قبل هذا الكشف الهام، يجدون لزاما عليهم أن يفترضوا انقضاء مدد زمنية هائلة لتعليل ظهور ألوف الأنواع المختلفة التي توجد الآن على سطح الأرض. ولكن يبدو أن الحاجة إلى افتراض مثل هذه الفترة الزمنية التطورية الهائلة قد زالت بفضل «زهرة الربيع» المتواضعة وعاداتها التناسلية غير المنتظمة. وهكذا فإن النتيجة الكاملة لكشف الطفرات هذا لم يكن أضعاف فرض دارون، بل كانت هي جعله أكثر منطقية وأقرب إلى التصديق.
والواقع أنه لم تكن هناك صعوبة كبيرة في إدماج هذا الكشف الجديد في النظرية الأصلية. ذلك لأن الطفرات ما إن تحدث (ولم يكن دي فريس يقل جهلا بأسبابها الدقيقة عما كان دارون بالنسبة إلى «تنوعاته») حتى يسير بقاؤها إلى عدم بقائها تبعا لمبادئ الانتقاء الطبيعي، التي ناقشناها من قبل. ولقد ظهرت منذ عام 1900م أدلة كثيرة في علم الحفريات تؤيد كشف دي فريس. (7) الحجج المؤيدة للتطور
على الرغم من أن النظرية العامة للتطور أصبحت تقبل الآن بوصفها أساس العلم البيولوجي الحديث، فإنها لم تلق بعد قبولا تاما خارج الدوائر العلمية. أما بالنسبة إلى أرقى الناس ثقافة، فإن الخلاف الذي كان محتدما من قبل، حول «التقابل بين التطور والكتاب المقدس» يبدو اليوم وكأنه كاد يصبح مسألة تاريخية بحتة، شأنه شأن المعركة المماثلة التي نشبت بين النظام الشمسي المرتكز حول الشمس، وبين النظام الشمسي المرتكز حول الأرض، الذي كان يستند إلى تأييد الكتاب المقدس. ومع ذلك فإن ما يدفعنا إلى تلخيص الحجج التي يأتي بها كل من أنصار نظرية الخلق ونظرية التطور ليس هو الأهمية التاريخية للنزاع بينهما فحسب. ذلك لأن القيام بهذا التلخيص هو أفضل وسيلة لإدراك النتائج الفلسفية لكل رأي، وهذه النتائج هي ما يهمنا بوجه خاص.
وسوف نفرق، في العرض الذي سنقدمه لحجج كل جانب، بين الحجج «العلمية» والحجج «الأخلاقية» - على أن يفهم كل لفظ من هذين بأوسع معانيه. وكما هو متوقع، فإن القائل بنظرية التطور يبدي اهتماما أعظم بالأدلة العلمية، على حين أن القائل بنظرية الخلق يرتكز في حججه أساسا على وجهة النظر الأخلاقية. غير أن لكل منهما حججا تنتمي إلى المجالين معا. ومن الواجب أن نوازن بين كل واحدة وبين مقابلتها. وسيكون الأقرب إلى المنطق أن نبدأ بوجهة نظر المذهب التطوري؛ إذ إن دعاته هم الذين كان عليهم - تقليديا - أن يأتوا بالبينة على ما يدعون.
الحجج السبع الرئيسية : ترتد الحجج العلمية المؤيدة للموقف التطوري العام إلى ست حجج أو نحوها.
10 (1)
أقوى الحجج تأثيرا في نظر كثير من الأذهان هي الحجة المستمدة من علم الحفريات
. ذلك لأن بقايا الحفريات تشكل ما يكاد يكون سلسلة كاملة من الأشكال التي تؤدي من نمط من الكائنات العضوية إلى نمط آخر مختلف عنه كل الاختلاف. في هذه السلسلة من الحفريات يكون الفارق بين أفراد السلسلة عادة ضئيلا إلى حد يكاد الاعتقاد بوجود نمو تدريجي يصبح معه أمرا لا مفر منه. ومن أشكال الحفريات المشهورة بوجه خاص، تلك التي توضح التدرج من الفرس القديم الصغير
Eohippus
أو ما يسمى «بحصان الفجر
Dawn Horse » حتى الحصان كما نعرفه الآن. ولو قدر لك أن تلاحظ هذه السلسلة في متحف، لكانت هذه الملاحظة أشبه بمشاهد فيلم سينمائي يصور تفتح زهرة: فالهيكل الصغير ينمو تدريجيا بقفزات واضحة، وعدد أصابع الأرجل يتناقص ويكون بالتدريج حافرا ... إلخ. (2)
والحجة المستمدة من علم الأجنة
Embryology
تؤثر بدورها تأثيرا متساويا في أذهان الكثيرين. وتدل هذه الحجة على أننا كلما رجعنا القهقرى في نمو الجنين، كان التشابه أعظم بين تلك الأنواع التي يعتقد القائل بالتطور أنها مرتبطة. ولنتأمل المثل الكلاسيكي في هذا الصدد، فأجنة البشر والقرود شبه البشرية أقوى تشابها بكثير في الشهر الثالث من الحمل منها في الشهر الأخير. وثانيا فإن الجنين يمر بمراحل في النمو تناظر بوجه عام تلك التي تعتقد النظرية التطورية أن النوع قد مر بها. ففي حالة البشر، نجد أن أبرز هذه المراحل الجنينية هي ظهور فتحات خيشومية، وذيل، وأضلاع أكثر من تلك التي لدى البالغ السوي. هذه المراحل يمر بها الجنين عادة بسرعة كبيرة، ومع ذلك فقد عرفت حالات استمرت فيها هذه المراحل إلى ما بعد الولادة، كما يحدث عندما يولد طفل بعدد من الفقرات الزائدة يكفي لتكوين ذيل متميز. هذه السلسلة من «الذكريات القديمة» تسمى بالمراجعة
Recapitulation ؛ إذ يبدو فيها أن نمو النوع يمر بما يشبه العرض السريع المجمل. (3)
وهناك أدلة وثيقة الصلة بالحجة المستمدة من علم الأجنة، هي تلك التي تستمد من علم التشريح المقارن
Comparative Anatomy . هذه الحجة تشير إلى أن التجربة تعلمنا أن التشابه المادي يعني عادة وجود أصل مشترك - بحيث إننا عندما نجد شخصين متشابهين جدا، فإننا نفترض وجود قرابة بينهما. وعلى ذلك فعندما نكتشف أوجه شبه قويه في التركيب أو الوظيفة بين أنواع مختلفة (كالبشر والقرود مثلا)، فمن المنطقي أن نشتبه في وجود أصل مشترك. (4)
ولقد كشف تحليل دم أنواع متعددة وجود أوجه تشابه أقوى بين الأنواع التي يقول التطوريون (على أساس أدلة أخرى) بوجود صلة وثيقة بينها، وبين تلك التي يعتقد أنها متباعدة الصلة. وأفضل مثال لذلك هو البشر والقرود مرة أخرى؛ إذ إن التحليلات تدل على أن الصلة بين دم هذين النوعين أقوى من الصلة بين دم أي منهما وبين دم أي نوع آخر. (5)
أما الحجة المتعلقة بالأعضاء المتخلفة
Vestigial Organs
فهي حجة مألوفة لنا جميعا. تؤكد أن الكائنات العضوية البالغة ذاتها يمكن أن تكون لها آثار تشريحية متخلفة، كالزائدة الدودية، التي ليست لها فائدة، بل قد تكون مصدر ضرر. فليس في وسع الفرض المرتكز على فكرة الخلق أن يقدم تعليلا لهذه الأعضاء المتخلفة. أما النظرية التطورية فتقول إنها مخلفات من مخلوق قديم من الجدود الأولين. كان لها نفع لديه. (6)
وهناك طلاب كثيرون يتأثرون خاصة بالحجة المستمدة من التوزيع الجغرافي وهي الحجة القائلة إن تلك الجزر أو كتل اليابس التي يعتقد علم الجيولوجيا أنها ظلت معزولة أطول فترة ممكنة (كأستراليا وجزر «جالاباجوس
Galapagos » مثلا) يوجد فيها عادة أكبر عدد من الأنواع النادرة أو «الشاذة». وهذا ما ينبغي توقعه، حسب الفرض التطوري، ما دام من الضروري أن تكون تلك البقاع التي انفصلت عن بقية العالم منذ أقدم عهد ممكن هي التي أتيح لها أكبر قدر من الوقت لإظهار أنواع تختلف عن تلك التي توجد في البقاع الأخرى. (7)
وأخيرا فهناك حجة مستمدة من التجربة المرسومة أو المدبرة
Controlled Experiment
فتربية السلالات النباتية والحيوانية تقدم أوضح الأمثلة كالتجارب المشهورة التي قام بها لوثربيربانك
Luther Burbank
11
ولقد أشرنا من قبل إلى أعمال مماثلة قام بها دي فريس، طبقت فيها ضوابط دقيقة من أجل إحداث تغير ملحوظ في النوع.
ويعترف نصير نظرية التطور عادة بأن أية حجة من هذه الحجج، إذا ما نظر إليها في ذاتها، لا يمكن أن تكون مقنعة إقناعا تاما، ولكنه يعتقد أنها إذا ما أخذت سويا ودعمت بعضها البعض، كان لتجمعها تأثير لا يقاوم. وبالاختصار فإن هذه النقاط السبع تنطوي، في نظر المدافع عن هذه النظرية، على مجموعة من القواعد الملاحظة التي يفسرها فرضه على نحو أفضل بكثير مما يفسرها الفرض القائل بالخلق. ولما كان فرضه هذا يؤدي إلى تكامل وتفسير أفضل للوقائع، فمن الواجب إذن الأخذ به ورفض الفرض المضاد. (8) الحجج العلمية عند القائلين بنظرية الخلق
يمكن القول إن الحجج العلمية لنظرية الخلق سلبية إلى حد بعيد، من حيث إنها تشكل هجوما على موقف نظرية التطور، أكثر مما تشكل وجهة نظر إيجابية.
12 (1)
فهي أولا تذهب إلى أن هناك ثغرات خطيرة في السلسلة التطورية المزعومة، ولا سيما بين الإنسان والحيوان من جهة، وبين المركبات الكيموية والكائنات العضوية من جهة أخرى. وهذا الفاصل الأخير واضح بصورة خاصة، ولم يحدث تقدم ملحوظ نحو سد الثغرة بينهما. (2)
والأدلة المباشرة على التطور قليلة جدا - إن كانت هناك أدلة على الإطلاق. والمقصود بالأدلة المباشرة، الأمثلة الملاحظة لحدوث تعديل فعلي. وإذن فينبغي أن تظل النظرية بأسرها دون إثبات، بل تظل غير قابلة للإثبات ما لم تتم ملاحظات كهذه. (3)
ولا يستطيع من يدافع عن نظرية التطور أن يقدم تفسيرا مرضيا لأصل الحياة؛ إذ إن حججه كلها تفترض أن الحياة موجودة من قبل، وهو بالطبع هروب من مسألة عظيمة الأهمية. (4)
ويذهب القائل بنظرية الخلق أخيرا إلى أن النظرية التطورية تمثل تبسيطا مفرطا لوقائع هي في ذاتها شديدة التعقيد. فالكلمة «يتطور» مثلا تستخدم بحيث تدل على عوامل كثيرة، وما هي في الواقع إلا قناع يخفى جهلنا بالوسيلة التي كان يمكن أن يحدث بها هذا النمو المتدرج بالفعل.
وردا على ذلك، يعترف القائل بنظرية التطور بوجود ثغرات حقيقية بالفعل في كثير من سلاسل النمو المتدرج، ولكنه يشير إلى أن استمرار التقدم العلمي يؤدي إلى سد هذه الثغرات بالتدريج. وعلى أية حال، فمن المؤكد أنها أقل اتساعا مما كانت من قبل. وهو أيضا يعترف بالجهل فيما يتعلق بأصل الحياة، ولكنه يذهب إلى أن الاعتراف النزيه بالجهل أفضل إلى حد لا متناه من التعليل الخيالي الساذج - ولا نقول الخرافي - الذي يفترضه كثير من القائلين بنظرية الخلق لأصول الأشياء. وفضلا عن ذلك فإن الافتقار إلى أدلة ملاحظة مباشرة على التطور ليس أخطر في هذه الحالة مما هو في حالة بناء فرضي آخر هائل، هو المذهب الذري للفيزياء الحديثة. فكلتا النظريتين تمثل أفضل محاولة للقيام بما ينبغي على كل فرض علمي أن يقوم به: أعني تفسير كل الوقائع المتعلقة بالموضوع بأبسط الطرق الممكنة وأكثرها فعالية وأقربها إلى المنطق. وأخيرا فإذا كان الأساس اللازم للبت في هذا الموضوع هو الأدلة الملاحظة المباشرة، فهل في استطاعة القائل بنظرية الخلق أن يضرب لنا مثلا لحالة لاحظ فيها أي شخص خلق من نوع جديد؟ (9) الحجج الأخلاقية
من الأفضل، عند استعراض الحجج الأخلاقية التي يتقدم بها كل من الطرفين، أن ندع القائل بنظرية الخلق يتحدث أولا؛ إذ إن معظم عتاده الثقيل مستمد من المجال الأخلاقي. (1)
ما زال كثير من القائلين بنظرية الخلق يشعرون بالقلق لأن التفسير الدارويني لأصل الأنواع لا يتمشى مع تفسير الإنجيل، وإن كانت هذه الحجة قد أصبحت اليوم أكثر ترددا على الألسن مما كانت عليه من قبل. (2)
كذلك فإن الصورة التطورية، التي تشمل الإنسان، تنطوي على الحط من الجنس البشري. فلم يعد الإنسان يبدو آخر مخلوقات الله (وأثرها لديه)، وإنما أصبح مجرد نوع حيواني آخر . (3)
كذلك فإن نظرية التطور، كما قلنا من قبل، تبدو وكأنها تلغي الحاجة إلى غاية أو إرادة خلاقة في الكون ، بما تقدمه من تفسير طبيعي بحت للظواهر البيولوجية، بل إن النظرية بأسرها إنما هي محاولة أخرى للقضاء على العنصر فوق الطبيعي في تفكير الإنسان. (4)
وليس في استطاعة فرض التطور أن يقدم إلينا صورة لبداية مرسومة أو غاية مرغوب فيها للحياة على الأرض. ذلك لأن العلوم المختلفة يبدو أنها توحي بأن أرضنا ستنجذب في وقت ما، إلى الشمس نتيجة لفقدانها قدرتها على الاندفاع المستقل، أو ستفقد حرارتها نتيجة لبرودة الشمس تدريجيا، أو ربما صادفت كارثة من التصادم مع جرم فلكي آخر. فإذا كانت هذه هي الصورة الصحيحة لمصير الإنسان، فعندئذ يكون الإنسان عقيما تماما، وكذلك الحال في مثله العليا. (5)
وأخيرا فإن نظرية التطور، بما تفترض من تطور لمثلنا العليا مع تطور تركيبنا الجسمي، تقترح أصلا طبيعيا بحتا لوجود الإنسان الأخلاقي. وهنا أيضا يستبعد ما فوق الطبيعي، ويقترح علينا تفسير مادي آلي لطبيعة الإنسان الروحية.
التطوري يرد : أما التطوري، فلديه بدوره بعض العتاد الأخلاقي، الذي صنع الجزء الأكبر منه لغرض صريح هو الرد على اعتراض القائل بنظرية الخلق. (1)
فهو عادة يعترف صراحة بالتعارض بين التفسير الدارويني وبين التفسير الوارد في سفر التكوين، ولكنه يشير إلى أن نفس الاعتراض قد أثير في وجه النظام الكوبرنيقي في الفلك عندما صيغ لأول مرة في القرن السادس عشر. وكما أمكن التخلي عن المعلومات الفلكية الواردة في الكتاب المقدس دون مساس بسلطته الروحية، فمن المؤكد كذلك التخلي عن المعلومات البيولوجية الواردة فيه دون إنقاص من قدرته الأخلاقية. (2)
كذلك لا يرى القائل بالتطور أي حط من قدرنا إذا كنا قد ارتفعنا من أشكال دنيا للحياة. ذلك لأن موضوع فخرنا ليس ما أتينا منه، بل ما تحولنا إليه. (3)
والتفسير الطبيعي لأصلنا لا يؤدي بالضرورة إلى حذف فكرة الله من الصورة، حتى بوصفه خالقا؛ ذلك لأن من الممكن النظر إلى التطور - أو بتعبير أدق، إلى الانتقاء الطبيعي - على أنه هو الوسيلة التي تتحقق بها «الغاية الإلهية». وهذا أمر وجد تقديرا لدى كثير من المثاليين والمفكرين الدينيين المحدثين، فتراهم ينظرون إلى العملية التطورية بأسرها على أنها هي «الاستراتيجية الكبرى» التي حقق بها الذهن الشامل ذاته في العالم المادي. (4)
ويعترف القائل بالتطور بجهله بالأصول (كما رأينا من قبل)، ويرفض الاعتراف بأن لفرضه أية صلة بموضوع غاية الحياة أو هدفها، أو أية مسئولية عنه. غير أنه يعتقد أن رأيه يجعل من الحياة والتاريخ البشري مغامرة مليئة بالتحدي، وهو ما لا يؤدي إليه القول بوجود مصير مقدر مقدما.
التطور ومشكلة الشر : توجد لدى المدافع عن نظرية التطور حجة أخلاقية كبرى خاصة به، بالإضافة إلى هذه الردود. هذه الحجة تتعلق بمشكلة الشر، وهي مشكلة ستطل برأسها في كثير من الفصول التي سترد فيما بعد. وقد قدم «دوترر» عرضا موجزا واضحا للموقف كما يراه أنصار التطور (وقد استخدم دوترر للتعبير عن التطورية لفظ «التحولية
Transformism »، فقال:
على أن أخطر اعتراض يوجه إلى الفرض القائل بالخلق الخاص، هو ذلك الذي ينجم عن التفكير في وجود الشر في العالم. فأي تعليل يستطيع فرض الخلق أن يقدمه لأصل جراثيم الأمراض بوجه خاص؟ أنستطيع حقا أن نفترض أن الله قد تعمد خلق الكائنات العضوية الجرثومية التي تسبب الالتهاب الرئوي وشلل الأطفال، والطاعون الدملي، والتهاب السحايا المخية الشوكية، وسائر الأمراض اللعينة المخيفة التي تفتك بزهرة الجنس البشري؟
فإذا ما قلنا، محاولين تجنب الصعوبة الناجمة عن وجود هذه الأنواع الكثيرة من البكتريا المسببة للأمراض، أن هذه البكتيريا لم تكن في الأصل مسببة للمرض، لكان ذلك اعترافا منا بقابلية الأنواع للتعديل على نحو جذري، ولكنا بذلك نقبل من حيث المبدأ وجهة النظر التحولية؛ ذلك لأننا إذا كنا نعترف بأن الأنواع المؤذية قد ظهرت من أصل طبيعي، فكيف نستطيع أن ننكر أن الأنواع الأخرى ربما كانت قد ظهرت على نفس النحو؟
13
ولا بد أن يكون القارئ قد أدرك أن الخلاف بين القائل بنظرية الخلق والقائل بنظرية التطور يرتد إلى صراع بين النزعة الطبيعية والنزعة فوق الطبيعية . فالفيلسوف المؤمن بالمذهب الطبيعي ينظر إلى الفرض الدارويني - عن حق تماما - على أنه واحد من أقوى أسلحته؛ إذ إن هذه النظرية هي التي أسهمت بالدور الأكبر في إتاحة امتداد التفكير الطبيعي إلى الميادين البيولوجية والنفسية والاجتماعية. أما القائل بنظرية الخلق فلا بد أن يكون من المؤمنين بالنزعة فوق الطبيعية؛ إذ إن نفس مفهوم الخلق الخاص يقتضي فاعلا أو قدرة خارجية (أي فوق الطبيعية) من نوع ما. ولو نظرنا إلى المسألة من خلال النزاع بين مختلف المدارس الفلسفية، لوجدنا أن التأثير العام للمذهب التطوري كان دعم المذهب الطبيعي إلى حد بعيد. وعلى العكس من ذلك، فربما كان المذهب التطوري هو أقوى عامل منفرد أرغم النزعة فوق الطبيعية على الوقوف موقف الدفاع، بل إن المثالي نفسه قد وجد لزاما عليه، في كثير من الأحيان، أن يعدل تفكيره على نحو يتسع معه للنظرية الجديدة ونتائجها الضمنية. (10) صراع بين المذهب الآلي والمذهب الحيوي
بعد أن أسفرت الحرب بين مذهب الخلق ومذهب التطور عن انتصار الأخير إلى حد بعيد في وقتنا الحالي، وذلك من وجهة النظر العلمية على الأقل، فإن الجدال بين أنصار المذهب الآلي وأنصار المذهب الحيوي قد أصبح أشد ميادين الخلاف حيوية في ذلك المجال الغامض المسمى «بفلسفة العلوم البيولوجية». ويبدو أن كل جيل يتعين عليه أن يقاتل في ميدان جديد؛ ففي الوقت الحالي أصبح الميدان الرئيسي للمعركة هو ذلك الفرع من الميدان البيولوجي، المسمى «بعلم النفس». ومع ذلك فالأفضل أن نبدأ بدراسة الجدال بين المذهبين الآلي والحيوي في علاقته بميدان البيولوجيا بوجه عام.
عرض موجز للموقفين : يدل لفظ المذهب الآلي في البيولوجيا على ما يعنيه هذا اللفظ بالضبط؛ فهو محاولة للامتداد بالنظرة الآلية إلى الكون بحيث تشمل الكائنات الحية. ويرى هذا المذهب باختصار أن من الممكن تقديم تفسير كامل للكائن العضوي على أساس المبادئ الآلية؛ أي عن طريق القوانين التي تسري على المادة في حركتها. ولو شئنا استخدام تعبير أدق وأقرب إلى الروح العلمية، لقلنا إن المذهب الآلي البيولوجي يرى أن الكائن العضوي نظام فيزيائي كيموي، يمكن تحليل سلوكه إلى تلك الأنواع من التفاعلات التي تدرس في معامل الفيزياء والكيمياء. وهكذا فإن القائل بالمذهب الآلي لا يعترف بوجود فارق هام بين العالمين العضوي وغير العضوي: فالسلوك على المستوى العضوي لا يمثل إلا صورة أشد تعقيدا بكثير، من تلك التفاعلات التي تميز سلوك المادة غير العضوية. وينكر المذهب الآلي أن يكون أي عامل أو مبدأ غير فيزيائي قد ظهر في الطبيعة مقترنا بظهور الحياة. وهكذا تصبح البيولوجيا مجرد امتداد للفيزياء والكيمياء في مجال يتضمن ظواهر أعقد من تلك التي يدرسها العلمان الآخران عادة. ومع ذلك، فلما كان ميدان البيولوجيا متصلا بميداني هذين العلمين الأقدم منه عهدا، فإنه لا يحتاج إلى مبادئ جديدة أو مفاهيم أساسية جديدة كل الجدة.
أما المذهب الحيوي
فيعتقد أن الظواهر العضوية لا يمكن تعليلها تعليلا كافيا على أساس معرفتنا الحالية للفيزياء والكيمياء، ولا على أساس أية معرفة مقبلة شاملة لقوانينهما. فصاحب هذا المذهب يرى أن ظهور الحياة في الكون قد أدى إلى إدخال عامل أو مبدأ جديد أصيل في الطبيعة. وهو يرى، فضلا عن ذلك أن هذا المبدأ «حيوي» غير آلي وغير مادي وغير كيموي. وهكذا فإن المذهب الحيوي هو في أساسه المذهب القائل إن ظواهر الحياة فريدة في نوعها - إنها فئة لا نظير لها - ومن ثم فهي تختلف أساسا عن الظواهر الفيزيائية الكيموية. فصاحب هذا المذهب يجد في الكائنات العضوية الحية شيئا جديدا ومختلفا كل الاختلاف عما يمكن كشفه في أي مجال آخر من مجالات النظام الطبيعي؛ أعني شيئا لا يمكن تعليله على أساس مجرد زيادة تعقد أو تعدد العوامل الموجودة من قبل. هذه الإضافة الجديدة المفترضة إلى الطبيعة تكاد تكون مما يستحيل تعريفه، ما دامت (كما قلنا الآن) فريدة في نوعها، والشيء الذي يكون منفردا تماما يستحيل تعريفه؛ إذ إن كل تعريف ينبغي أن يكون بالنسبة إلى شيء آخر داخلا في نطاق تجربتنا. وقد أطلق مختلف أنصار المذهب الحيوي على هذا العامل غير القابل للتعريف أسماء متباينة ، «كالقوة الحيوية» أو «قوة الحياة» أو «الكمال
Entelechy » أو «الدفعة الحيوية
Élan Vital » أو «العالم شبه النفسي
»، وغيرها. وحاول آخرون وصف طبيعته المفترضة على أساس الاختلافات التي تفرق بين النشاط العضوي والنشاط غير العضوي، غير أن هذا العامل قد ظهر آخر الأمر غامضا غير قابل للوصف. (11) حجج كل من الجانبين
لكل من جانبي النزاع حججه القوية. وسوف نستمع إلى صاحب المذهب الآلي في البداية؛ إذ إن المذهب الحيوي إنما هو إلى حد بعيد نقد لما ينطوي عليه الموقف الآلي من تبسيطات أو نواقص (حقيقة مزعومة). (1)
حجج المذهب الآلي : (أ) يشير صاحب المذهب الآلي أولا إلى أن وجهة النظر العامة للعلم، وكذلك منهجه العام، تتسم بأنها آلية. ومما له دلالته الخاصة أن أشد العلوم دقة؛ أعني أقرب العلوم إلى المثل الأعلى لكل نشاط علمي، هي الفيزياء والكيمياء. وهذان العلمان يقومان على أساس من العلية الآلة. وفضلا عن ذلك فإن العلم كلما ازداد دقة، ازداد اقترابا من الطابع الآلي. وهكذا يكون لنا الحق في أن نفترض أن العلوم البيولوجية كلما ازدادت دقة، أصبحت تفسيراتنا أقرب إلى الطابع الآلي. (ب) وهناك علاقات عامة معينة بين البيولوجيا وبين العلوم الأخرى تشير إلى ضرورة تفسير العمليات الحيوية تفسيرا آليا. ومثال ذلك أن كل الكائنات العضوية تخضع لقوانين المادة ومبدأ «بقاء الطاقة». وربما كان الأهم من ذلك أن كثيرا من التركيبات والعمليات الحيوية الخاصة يمكن إرجاعها إلى تركيبات وعمليات آلية أو كيموية. ولعل أفضل مثال لذلك، التحليل الكيموي للخلايا، الذي يرجعها إلى أجزاء مكونة لها كالبروتينات والببتونات وما شابهها، وهذه بدورها ترد إلى تجمعات شديدة التعقيد من الهيدروجين والنيتروجين والكربون وغيره. (ج) وهناك حقيقة تدعم موقف صاحب المذهب الآلي بقوة، هي أنه كان هناك اتساع مطرد، من الوجهة التاريخية، في تطبيق التفسير الآلي على العمليات البيولوجية، وضمنها تلك التي كان يعتقد من قبل أنها بمنأى عن مثل هذا التفسير، كالاستجابة للمنبهات مثلا. وعلى الرغم من وجوب الاعتراف بأن هناك عمليات عضوية متعددة لم تخضع بعد للتفسير الآلي، فإن هناك احتمالا (بل ترجيحا في نظر البعض) في أن تخضع هذه بمضي الوقت لتلك الطريقة في التفسير. وكما أحسن بعضهم التعبير عن هذه الفكرة، فإن صاحب المذهب الآلي هو إنسان لديه إيمان معين؛ أعني إيمانا بالمناهج الآلية. فهل يستطيع أحد أن ينكر عليه حقه في هذا الإيمان، بعد ما توصل إلى تحقيقه الآن من إنجازات؟ (د) ويستفيد القائل بالمذهب الآلي كثيرا من الكشوف التي تم التوصل إليها، في ميدان إنتاج تركيبات صناعية تحاكي الكائنات العضوية بنجاح. وهناك أمثلة أقوى من هذه تأثيرا في أذهان معظم الطلاب، وهي حالات الإخصاب الصناعي التي ذكرت في هذا الفصل من قبل، والتي أمكن فيها الاستغناء عن الحيوانات المنوية للذكر بطرق آلية أو كيموية. والواقع أن كثيرا من الأذهان ترى في هذه المحاكاة للأشكال أو العمليات الحية، حتى مع كونها قليلة العدد، أقوى حجة ممكنة تؤيد المذهب الآلي فتراهم يتساءلون: إذا كنا قد استطعنا أن نفعل كل هذا الآن عن طريق محاكاة العمليات الحيوية، فما الذي يمكن أن يحمله المستقبل في طياته من الاحتمالات؟ (2)
حجج المذهب الحيوي : غير أن لصاحب المذهب الحيوي بدوره حججه القوية التي تؤدي واحدة أو اثنتان منها إلى هدم بعض النقاط التي يقول بها صاحب المذهب الآلي أو إضعافها، على الأقل، إلى حد خطير. (أ) فالمذهب الحيوي يرى أولا أن المفاهيم الفيزيائية والكيموية لا تكفي بذاتها لتفسير ظواهر معقدة كالكائنات العضوية الحية. فهناك ثغرة هائلة تفصل بين السلوك الآلي (كسلوك جسم يهوي مثلا) وبين السلوك البشري (كإجراء عملية جراحية دقيقة مثلا) - وهذه الهوة تبلغ من الاتساع حدا يستحيل معه إرجاعها إلى مجرد فروق في الكم. ويواصل نصير المذهب الحيوي كلامه قائلا إن من المستحيل أن تكون أية إضافة لعوامل أو أي تعديد للتجمعات الممكنة، كافيا للجمع بين مجموعتي السلوك هاتين، بل إنه حتى إذا أمكن إرجاع الفرق إلى ازدياد في التعقيد فإن التعليل الآلي يظل مع ذلك غير كاف. فلا بد أن يبلغ تنظيم المادة (أي التركيبات) الذي يحتاج ليه المذهب المادي في تفسيره، حدا من التعقيد يجعله شيئا خياليا مبالغا فيه - بل شيئا لا يمكن تصوره. (ب) ويلاحظ ثانيا أن ظاهرة «الحياة» تنطوي على عدة عمليات، كالتنفس والتعويض الذاتي، وهي عمليات لا يمكن تفسيرها إلا غائيا؛ أي على أساس هدف أو غاية من نوع ما. ومن الواضح أن الآلية والغائية مفهومان متعارضان: فالفرض الآلي يفسر كل شيء على أساس العلل الفاعلية (أي الحوادث السابقة)، على حين أن الغائية تفترض علة غائية؛ أي هدفا أو نتيجة مرسومة. وفيما يتعلق بالتركيبات العضوية، يبدو هذا الهدف «معيارا» أو شكلا نموذجيا يتميز به كل نوع، ويسعى كل فرد في النوع إلى تحقيقه، وهذا يصدق أيضا على العمليات الحيوية أو الوظائف الجسمية: فلكل جزء من الكائن العضوي، بل للكائن العضوي في مجموعه «معيار» وظيفي يتجه سلوكه إلى تحقيقه. (ج) وربما كانت أشمل حجج المذهب الحيوي هي في الوقت ذاته نفس الحجة التي يجد صاحب المذهب الآلي أكبر قدر من الصعوبة في الرد عليها بطريقة مرضية. تلك هي الحقيقة القائلة إن الكائن العضوي هو كل منظم يسلك بطرق لا تسلك بها أية آلة أو نظام آلي. فكل سلوك عضوي يمثل عملية تكيف يحاول بها الكائن العضوي الوصول إلى التلاؤم أو الاحتفاظ بالتلاؤم مع البيئة المحيطة به. ويقدم «كننجهام» وصفا دقيقا لهذه العلاقة حين يقول: «إن حركة الأميبا نحو الطعام أو بعيدة عن أية مادة ضارة، مثلا، هي حركة تخدم الحياة الفردية في مجموعها، ونشاطها له بعض الصلة بمصلحة الأميبا في المستقبل.»
14
هذا النشاط الغرضي المنظم هو الذي يفرق على أفضل نحو بين سلوك الكائن الحي وسلوك الكائن غير الحي، ويرى صاحب المذهب الحيوي أن أي تفسير آلي، حتى لو كان تفسيرا لذهن محيط بكل شيء، لا يمكن أن يكفي لتعليل العمليات الحيوية. ومن هنا فإن افتراض «قوة للحياة» أو «فاعلية حيوية» من نوع معين هو أمر لا مفر منه. (12) أسس المفاضلة بين المذهبين
إذا حاولنا أن نفاضل بين المذهب الآلي والمذهب الحيوي، فلا بد لنا من أن نضع في اعتبارنا أمورا معينة. فيبدو من الواضح أولا أن أية مسألة لها مثل هذا الطابع العلمي الأساسي ينبغي أن يبت فيها على أساس الأدلة العلمية بقدر الإمكان. ولقد رأينا أن الأدلة حتى الآن غير قاطعة: فبعض الثقات يرون أن لدينا، على الأرجح، من المعطيات المتوافرة ما يكفي لتثبيت دعائم المذهب الآلي على نحو قاطع، ولكن غيرهم يتخذ موقفا أشد حذرا. ولما كنا نفتقر إلى الدليل الحاسم. فلن يكون أمامنا إلا أن نكتفي بالحل الذي يلي ذلك في ترتيب الأفضلية: وأعني به أن نتخذ لأنفسنا فرضا عمليا من الموقف الذي نعتقد أن الشواهد المؤدية له هي الأقوى. ومع ذلك فلما كان الافتقار إلى دليل علمي حاسم يؤيد أيا من جانبي الخلاف بجعل المسألة فلسفية قبل كل شيء، فلا بد لنا أن نسعى إلى بناء قرارنا على أسس عقلية، لا على تفضيلات عاطفية. ولن يستطيع القائل بالمذهب الآلي أن يقاوم الإشارة إلى أن المذهب الحيوي يتمتع دون شك بتأييد من مدارس فلسفية معينة، أقوى من التأييد الذي يجده من العلماء. وعلى الرغم من أننا نجد من علماء البيولوجيا من هم من أنصار المذهب الحيوي، فإن أصحاب المذهب الثنائي في الفلسفة، والمثاليين على الأخص، هم الذين أيدوا الموقف الحيوي بقوة؛ إذ إن من المتوقع أن يكون المذهب الآلي مذهبا غير مقبول على الإطلاق في نظر الفلسفات التي تتصور «الروح» على أنها «الحقيقة النهائية»، أو على أنها (في حالة المذهب الثنائي) واحدا من عنصرين نهائيين لا يردان إلى غيرهما. فالصلة بين التفسير الآلي وبين المذهبين الطبيعي والمادي تبدو أقوى من أن تجعل هذا التفسير مقبولا لدى أصحاب العقليات المثالية.
الأدلة العلمية في مقابل الإعجاب الانفعالي : إذا وقفنا خارج مجال هذا النزاع، محاولين استعراض المسألة كلها بطريقة موضوعية، فسوف نجد أن الواجب يقضي علينا بأن ننصح الطلاب المعجبين بالمذهب الحيوي، بأن يختبروا دوافعهم لكي يتأكدوا من أن الاعتبارات الدينية أو العاطفية ليست هي التي تحضهم على هذا الاختيار. ولا شك أنه لا توجد قاعدة تنهى عن اتخاذ قراراتنا على أسس عاطفية، ولكن المثل الأعلى في الفلسفة، كما في العلم، ينبغي أن يكون بناء أحكامنا على أسس عقلية. وأنه لمن الممكن تماما أن يكون المرء من أنصار المذهب الحيوي بناء على اعتبارات عقلية، كما يثبت ذلك وجود أقلية عنيدة من علماء البيولوجيا الذين يتمسكون بهذا الموقف. ومع ذلك، فلما كان الأسهل من ذلك أن يناصر المرء المذهب الحيوي على أسس عاطفية، فإن على الطالب الذي يدين للروح الفلسفية بأي قدر من الولاء أن يختبر دوافعه قبل اتخاذ قراره.
والأمر الثاني الذي ينبغي أن نضعه في اعتبارنا ونحن نقدر قيمة الموقفين هو الاتجاه التاريخي الذي ينطوي عليه كل منهما. فمن الواجب أن نذكر أن المذهب الحيوي ظل هو الرأي السائد أو «الرسمي» طوال قرون عديدة، على حين أن المذهب الآلي، مستجد نسبيا في الفكر الحديث. ونظرا إلى الحداثة النسبية لموقف المذهب الآلي، فإن النتائج التي حققها يمكن أن تعد كبيرة بحق. فهو قد غزا ببطء، ولكن باطراد، أرضا بدت في أول الأمر محصنة لا تقتحم. وأجبر المذهب الآلي على التخلي عن جزء من أرضه هنا، وعن موقف هام هناك. ومن المعترف به على نطاق واسع في الأوساط الثقافية حاليا أن المذهب الحيوي أصبح الآن يتخذ موقف الدفاع. ومع ذلك فمن الخطأ تماما أن نتصور أن هذا يعني أن المذهب الحيوي ضعيف، ناهيك بكونه يحتضر. فعلى الرغم من كل منجزات المنهج الآلي. فإن أمام المدافعين عن الآلية شوطا طويلا ينبغي أن يقطعوه قبل أن يكون في وسعهم ادعاء النصر التام. وكما قال الكثيرون من قبل، فمع أن المذهب الحيوي أصبح يتخذ موقف الدفاع، ويتخلى عن أرض واسعة، فما زال هذا المذهب قويا لأن الأراضي التي ينبغي عليه التخلي عنها شاسعة.
الاتجاه إلى التوحيد في العلم : وأخيرا، ينبغي أن يلاحظ أن الاتجاه إلى الآلية في البيولوجيا هو جزء من معركة عامة نحو التوحيد في العلوم، ولو عدنا بأنظارنا إلى تاريخ العلم، لأحسسنا بأن هذه الحركة التوحيدية كانت موجودة بصورة ضمنية منذ اللحظة التي أصبح فيها العلم الحديث شاعرا بذاته في شخص فرانسس بيكون وجاليليو. ومع ذلك لا يكاد يكون في وسع أحد أن يدعي أن هذين الرائدين الأولين كانا شاعرين بأي اتجاه كهذا؛ إذ إن هذا الاتجاه لم يصبح هدفا صريحا بين المفكرين العلميين إلا في القرن الماضي. ومع ذلك فسواء أكانت حركة التوحيد مقصودة أم غير مقصودة، فإنها قد ظلت تتقدم باطراد.
ولما كانت الفيزياء والكيمياء هما أول علمين يبلغان سن الرشد؛ ومن ثم كانا أول علمين يصلان إلى الدقة عن طريق الانتفاع الكامل من المناهج الكمية، فقد كان من المحتم أن يصبحا معيارا أو مثلا أعلى تسعى إلى بلوغه كل العلوم الأخرى. وقد أصبحت الفيزياء بوجه خاص هي العلم المثالي، وسرعان ما أصبحت طريقتها الدقيقة المحكمة في صياغة مبادئ الميكانيكا هي الحلم الذي ييأس من تحقيقه المشتغلون في ميادين أخرى أحدث وأقل تنظيما. وكان من الطبيعي أن تعمد العلوم الأخرى في محاولتها الوصول إلى قدر مناظر من الدقة والوضوح، إلى محاكاة مناهج الفيزياء، فنقلت وجهة نظرها الحتمية وأساليبها الآلية برمتها إلى مجالات الطبيعة الأحدث عهدا، والتي لم تذلل بعد. وعلى الرغم من أنه قد اتضح قبل مضي وقت طويل أن كثيرا من هذه المناهج يتعين تعديله قبل أن يغدو ملائما للميادين الجديدة، فإن الأسلوب الآلي العام ظل هو المثل الأعلى للمنهج العلمي.
والواقع أن وجهة النظر الآلية العامة ما زالت أساسية في العلم، على الرغم من التغيرات العديدة التي حدثت داخل علم الفيزياء، وضمنها التحسينات الهائلة التي أدخلت على مناهجه، وهكذا فإن القائل بالمذهب الآلي في البيولوجيا هو باحث في علوم الحياة يحاول أن يمتد بهذا المنهج العام إلى ميدانه الخاص، لكي يحقق مزيدا من الدقة في تحليل الظواهر البيولوجية، وكذلك لكي يزيد من وثوق الصلة بين ميدانه وبين المجموع العام للعلم. وإذن فالطريقة الآلية في معالجة البيولوجيا ممتازة بوصفها مثلا أعلى علميا. صحيح أن اللاهوتيين والمثاليين والثنائيين قد يعترضون عليها لأسباب أخلاقية، غير أن اعتراضاتهم هذه، في نظر العالم خارجة عن الموضوع. والمسألة الوحيدة الصحيحة من وجهة نظر العالم أو القائل بالمذهب الطبيعي في الفلسفة هي: هل المذهب الآلي كاف بوصفه تفسيرا للسلوك العضوي؟ لقد عرضنا من قبل إجابتنا - أو على الأصح إجاباتنا. فهو بالنسبة إلى القائل بالمذهب الآلي تعليل كاف، أو هو على الأقل يبشر بأن يكون كافيا في المستقبل غير البعيد، وهو بالنسبة إلى القائل بالمذهب الحيوي غير كاف الآن، ولا يمكن أن يصبح كافيا في المستقبل. وباختصار، فصاحب المذهب الحيوي يرى أنه مهما كانت كفاية المنهج الآلي في الفيزياء أو الكيمياء أو الفلك أو الجيولوجيا، فإنه ينهار حالما نحاول الانتقال به إلى ميدان الظواهر البيولوجية. ولنقل مرة أخرى إن صاحب المذهب الحيوي يرى أن ظهور الحياة في الكون ينطوي على إدخال عامل جديد تماما، متميز كيفيا، ولا بد لتفسير هذا العامل الحيوي من استخدام مفاهيم جديدة كل الجدة.
15 (13) المذهب المثالي في مقابل المذهب الطبيعي في علم البيولوجيا
إذا ألقينا نظرة عامة على هذا الفصل، لوجدنا فيه اتجاها واضحا نحو ذلك التقابل الأساسي بين المثالية والمذهب الطبيعي، وهو التقابل الذي عرضناه في الفصلين السابقين. ومن الواضح أن هناك، فيما يتعلق بأصل الحياة وتطورها، مدرستين فكريتين بينهما تضاد شديد. وعلى الرغم من أننا لا نستطيع التوحيد بين مذهب الخلق وبين المذهب المثالي (إذ إن المثالي ينبغي أن يصل إلى تفاهم مع العلم الحديث، كما ينبغي أن يفعل الفلاسفة في كل مدرسة) فإن المثالي، حتى حينما يقبل الفرض التطوري، يجد في عملية التحول والنمو خطة أو غرضا أو «استراتيجية» من نوع ما. وهكذا فإنه، في نظر المدافع عن المذهب الطبيعي لا يقبل ارتباطا بالمذهب فوق الطبيعي عن مذهب الخلق. والواقع أن المثالي، والقائل بالمذهب فوق الطبيعي، يفترضان قوة أو فاعلا خارجا عن نطاق العمليات العادية للطبيعة. فالقائل بالخلق مثلا يجعل من هذه القوة شيئا لا يرسم خطة أو يضع هدفا فحسب، بل يتدخل في النظام الطبيعي لكي يحقق هذه الخطط. وهناك تشابه بين القائل بالمذهب فوق الطبيعي في العصر الحديث. وبين المثالي في هذه المسألة - بل إن الصلة بين المدرستين في هذه المسألة تبلغ من الوثوق حدا يستحيل معه التمييز بينهما. فكلتاهما تقبل الموقف التطوري العام، ولكن كلا منهما تبدي اهتماما هائلا بالعملية التطورية من حيث هي أداة, فالمدرستان تنظران إلى التطور (وضمنه التغير الفلكي والجيولوجي، فضلا عن النمو البيولوجي المتدرج) على أنه لا يعدو أن يكون الوسيلة أو العملية الخلاقة التي أنتج بها الذهن الشامل ذهنا بشريا، والروح الشاملة روحا بشرية؛ أي إنه أداة كبرى استخدمها الذهن الإلهي أو المطلق في تكوين أذهان بشرية؛ وبالتالي في إيجاد القيم أو الخير بطريق غير مباشر.
والواقع أن من المنطقي، وربما من المحتم، أن ينظر المثالي إلى التطور في هذا الضوء. فلما كان قد التزم الاعتقاد بأن أساس الكون روحي، واتجاهه خاضع لتحكم القيم، فمن الطبيعي أن يذهب إلى أن كل العمليات الكونية لها آخر الأمر طابع منتج للقيم. وهذا الاعتقاد العميق المتأصل هو الذي أتاح للمثاليين قبول التطور، على حين أن كثيرا من معاصريهم القائلين بمذهب الألوهية، ولكن من وجهة نظر ضيقة، قد وجدوا فيه عقبة خطيرة في وجه الإيمان الديني.
وبطبيعة الحال فإن القائل بالمذهب الطبيعي يقبل وجهة النظر التطورية قبولا تاما، ولا يحتاج إلى الاهتداء إلى غرض أو خطة في العملية التطورية لكي تصبح مقبولة لديه. ففي استطاعة المذهب الطبيعي أن يواجه النظرية القائلة إن العضوي قد انبثق من غير العضوي، وأن الحياة قد تدرجت من أشكال دنيا إلى تلك المجموعة الهائلة من الأنواع الموجودة حاليا، دون أن يفترض قوة أو غاية أو شخصا أعلى يقف من وراء هذه العملية. ومن الواضح أن هذا يعود بنا إلى المصادرة الثالثة من مصادرات المذهب الطبيعي التي عرضناها في الفصل السابق. هذه المصادرة تقول إن سلوك الكون، سواء في مجموعه وفي كل تفاصيله، لا يتحدد إلا بطابع الكون ذاته، الذي يعمل بوصفه نظاما واحدا مكتفيا بذاته ومعتمدا على ذاته. ومن هنا فإن صاحب المذهب الطبيعي ينظر إلى التطور في مجموعه على أنه عملية طبيعية خالصة، ليس فقط في ألياتها المحددة، بل أيضا في بدايتها الأولى. وواضح أن ذلك يؤدي إلى استبعاد أي فاعل متدخل يبدأ حركة التطور، وأي هدف يفترض أن العملية تتجه إلى تحقيقه.
وبالاختصار فإن التطور غائي في نظر المثالية (وفي نظر مذاهب الألوهية التي استطاعت التفاهم مع النظرية التطورية). أي إنه يسير نحو تحقيق هدف أو غاية. وهكذا فإن القوة الأساسية فيه هي قوة جاذبة من الأمام؛ أعني أن هناك حالة مقبلة، أو هدفا، يدفعان عملية النمو المتدرج وينشطانها. أما المذهب التطوري فيرى، على العكس من ذلك، أن القوة الدافعة هي قوة من الخلف
Vis a Tergo (أي إن كل شيء يحدث نتيجة لحوادث ماضية). وفي هذا المجال يكون المذهب الطبيعي ذا اتجاه حتمي تماما، إذ ينظر إلى التغيرات التطورية على أنها نتيجة لعلل طبيعية بالمعنى الدقيق؛ أعني حوادث سابقة تنجت هي ذاتها بفعل قوى يشتمل عليها الكون الذي يسير ذاته بذاته.
ولا شك أن موقف كل من المذهب الطبيعي والمذهب المثالي من الصراع بين النظرتين الآلية والحيوية واضح. فعلى الرغم من أن من الممكن أن يقول المفكر بالمذهب الحيوي وبالمذهب الطبيعي في آن واحد، فإن هذا، إذا حدث، يكون جمعا نادرا. وفي استطاعة من يتخذ موقف الجمع بين هذين المذهبين أن يقول مثلا إن «قوة الحياة» أو «الكمال» الغامض، مهما يكن من استحالة إرجاعها إلى عوامل فيزيائية وكيموية، تظل طبيعية بمعنى أنها لا تمثل عنصرا مقحما من خارج نظام الطبيعة الفيزيائية. غير أن هذا الموقف الممكن نظريا يبدو أنه لا يجذب إلا مفكرين قلائل: فالقائلون بالمذهب الحيوي في البيولوجيا هم على وجه العموم مثاليون. وهذه الحقيقة توحي بسؤال محير: فأيهما جاء قبل الآخر: أهو مذهبهم الحيوي الذي أدى إلى نظرة شاملة إلى الحياة، أم مثاليتهم، التي لم تكن تستطيع أن تقبل إلا نظرية حيوية؟
وأغلب الظن أننا سنجد مفكرين أقل حتى من الفئة التي تحدثنا عنها من قبل، يجمعون بين الآلية في المجال البيولوجي وبين المثالية في المجال الفلسفي. ولنقل مرة أخرى إن الجمع بين وجهتي النظر هاتين ممكن نظريا؛ ففي استطاعة المرء أن يقول بأنه، لو أن أساس الوجود كله ذهني أو روحي، فإن العملية الحيوية لا يمكن تعليلها بالتحليل الفيزيائي تعليلا كاملا. ولكن لما كان أقوى الدوافع التي تؤدي بالفكر إلى اتخاذ موقف مثالي في الميتافيزيقا هو عادة الحاجة إلى صياغة مذهب في العالم يجعل لذهن الإنسان وروحه المكانة الأولى، فإنه يكون من الغريب حقا أن يبدأ شخص إلى تفسير أسبقية الروح في الكون، بأن يفترض أساسا فيزيائيا أو آليا للحياة ذاتها. وبعبارة أخرى، فلما كان «الذهن» و«الروح» معتمدين على عمليات حيوية تتم في الكائنات العضوية، فإن من المنطق الغريب أن يؤكد المرء أن هذه العمليات ذاتها ذات طابع فيزيائي فحسب؛ إذ إن هذا يعني الاعتراف بأن أساس الوجود مادي، وهو بالطبع مضاد للمسلمة المثالية الأساسية المتعلقة بطبيعة الواقع. وأيا ما كانت نتيجة الخلاف بين المذهب الآلي والحيوي، فيبدو أن من المؤكد أن المثالي سيظل يؤيد النظرية الحيوية ما دام من الممكن عقليا أن يفعل ذلك.
أما الآن، فلا بد لنا من أن نواصل سيرنا، ونتعرف بقية أفراد أسرة المشكلات الفلسفية.
الفصل السادس
الذهن: لغز أم أسطورة أم نظام آلي؟
ربما كانت مسألة التعريف أكثر المشكلات الفلسفية دواما وإثارة للمتاعب. صحيح أن كل ميدان للنشاط العقلي يتعين عليه أن يصارع مع مشكلة تقديم تعريف واف لمصطلحاته، غير أن الفلسفة تواجه مع هذه المشكلة وقتا عصيبا بوجه خاص. ومن الأسباب التي يرجع إليها ذلك أن الفيلسوف - كما قلنا من قبل - هو عادة شخص ذو نزعة فردية متطرفة؛ إذ إن من المستحيل أن يجعل أي شخص من الكون كله، ومن التجربة البشرية بأسرها، مشكلة عقلية، لو لم يكن ذا نزعة فردية صارمة. ومع ذلك فإن هذا الخلط يرجع في الأغلب إلى طبيعة الموضوع. فالفيلسوف لا يتعامل إلا مع تصورات معظمها شديد التجريد. ومن ثم فإنه يشتغل في جو عقلي أثيري، يبلغ الهواء فيه من الرقة حدا لا يكاد يحتمل معه نشاطا.
فإذا ما انتقلنا إلى تحليل الذهن، لصادفتنا مشكلة التعريف هذه بكل ضخامتها. وهذا أمر يدعو إلى الأسف الشديد؛ إذ إن «الذهن» من أهم المقولات في الفلسفة. فهو يشكل واحدة من أهم نقاط الارتكاز في هذا الميدان، بل إن من العسير أن نجد نقاط ارتكاز أشمل منه، يمكنه أن يرتبط بها بدورها، وأن يعرف من خلالها. وهكذا نكون إزاء مقولة أو فئة رئيسية للتجربة، تبلغ من التفرد حدا يجعلها توجد فيما يشبه الفراغ الميتافيزيقي. فالذهن، كما يقول عالم المنطق، هو شيء فريد في نوعه، يؤلف فئة قائمة بذاتها. ولكن لما كان مفهوم الذهن أساسيا في مجال المصطلحات الفلسفية، فلا بد لنا من الوصول إلى نوع من الفهم لمعناه.
التمييز بين الذهن والمخ : يلاحظ أولا أن الطلاب يخلطون على الدوام تقريبا في تحديد العلاقة بين «الذهن» و«المخ» بدقة. ومن حسن الحظ أنه ليس من العسير على أذهاننا فهم هذا التمييز، من حيث ما يتضمنه من مصطلحات. ولنضرب لذلك مثلا: فالجملة السابقة قد تضمنت لفظ «أذهاننا»، ومن غير المحتمل أن يجد القارئ أية صعوبة في فهم عبارة «ليس من العسير على أذهاننا فهم هذا التمييز». ولو كانت هذه الجملة قد تضمنت لفظ «مخنا» لكان من المؤكد أن يشعر القارئ بشيء من الدهشة؛ ذلك لأن المخ عضو مادي، وهو موجود في الزمان، وله وزن يقدر بحوالي خمسين أوقية (في الذكر البالغ)، كما أن له علاقة وظيفية محددة ببقية التركيب المادي للكائن العضوي. ولقد رأى معظمنا أمخاخا، محفوظة في زجاجات على رفوف المعامل، أو في مكانها الطبيعي من تجويف جمجمة ضفدعة أو قطة يجري تشريحها في درس البيولوجيا. وبالاختصار فالمخ شيء مادي، يتميز بأنه ملموس و«موضعي» شأنه شأن الكرسي أو الحجر. وهو بهذا الوصف خاضع لكل القوانين التي تؤثر في الأشياء المادية (كالجاذبية)، فضلا عن تلك التي تسري على المادة العضوية (كالتحلل). وهكذا تكون الجملة السابقة قد تضمنت معنى هزيلا جدا لو كانت قد تحدثت عن ضرورة «فهم مخنا لهذا التمييز»؛ ذلك لأننا لا نفهم التمييزات بواسطة أشياء مادية، ولكن نوضح التمييزات المتعلقة بالأشياء المادية. أما إذا كانت الجملة قد ذكرت شيئا عن «ثقب في المخ»، فإن الجملة عندئذ يكون لها معنى.
فما هو «الذهن» إذن؟ إن لفظ «الذهن» من أكثر الألفاظ استخداما في المناقشات العقلية، وقد أوردنا وصفا لنظرة إلى العالم (هي المثالية) ترتكز على الذهن بوصفه الحقيقة النهائية. فإن لم يكن الذهن يشمل مكانا، أو له ثقل، ولم يكن يتأثر بالقوانين الآلية أو الفيزيائية، ولا يمكن تحديد موقعه في بقعة مكانية محددة، فما هو إذن؟ وأين هو؟ وما علاقاته بعالم الأشياء المادية، وضمنها الجسم والعالم الطبيعي بأسره؟
هذه المسائل، ومعها عدة مسائل ثانوية، هي موضوع الفصل الحالي. فسوف نبدأ أولا ببحث الآراء الرئيسية في طبيعة الذهن ذاته. ثم ننتقل إلى مشكلة العلاقات بين الذهن والجسم، ولا سيما ذلك الجزء من الجسم، الذي يعرف بالجهاز العصبي المركزي، والذي يشمل المخ. وبعد ذلك ينبغي علينا أن نستكشف منطقة الحدود الواقعة بين مشكلة الذهن ومشكلة المعرفة، وهي المنطقة التي تعد أهم مشكلاتها هي العلاقة بين الذهن وبين العالم الخارجي الذي يمر بتجربة الذهن. وأخيرا ينبغي أن نكون ميتافيزيقيين لفترة وجيزة، ونتأمل نظريا في العلاقة بين الذهن وبين الواقع بوجه عام. وكما هو واضح، فإن أمامنا فصلا بأكمله لمعالجة هذا الموضوع. (1) النظرة الجوهرية إلى الذهن
كانت هناك آراء متعددة حول طبيعة الذهن، ما زالت كلها تقريبا تجد لها أنصارا بين جماعات كبيرة أو صغيرة من المفكرين. ومن حسن الحظ - فيما يتعلق بالتحليل الذي نقدمه - أن هذه الآراء المتعددة يمكن أن ترد بشيء من السهولة إلى أربعة مواقف أو خمسة، وحسبنا في مدخل إلى الفلسفة كهذا أن نكون فكرة واضحة عن هذه الآراء، أو هذه الآراء، وأهمها من الوجهة التاريخية، هو النظرة الجوهرية.
1
وكما توحي هذه التسمية، فهي تنظر إلى الذهن على أنه جوهر؛ أي شيء أو كيان. على أن المفهوم العام للجوهر لا يتضمن الوجود المادي وإنما الوجود المستقل ، كما رأينا في الفصل السابق، فالجوهر هو ما يوجد في ذاته وبذاته، لا بوصفه حالا لشيء آخر. فهو ما يتلقى التعديلات ولكنه لا يعتمد على هذه التعديلات (أو على أي نوع من العلاقات) لكي يستمد منها وجوده. وإذن، فمهما تكن علاقات الذهن بالجسم أو بالعالم الخارجي. فإنه (تبعا لهذا الرأي الجوهري) لا يعتمد على هذه العلاقات في وجوده. فهو، بوصفه جوهرا روحيا، مكتف بذاته وموجود في ذاته.
هذه النظرة إلى الذهن كان لها من التأثير في الفكر الغربي ما يسمح لنا بالتنبؤ بأن تسعة على الأقل من كل عشرة طلاب يكونون مؤمنين بها عند بدء دراستهم للفلسفة أو علم النفس. فهي تمثل الموقف التقليدي للمسيحية، وهي تنسجم مع ذلك الموقف الذي سنرى بعد قليل أنه أكثر المواقف الميتافيزيقية شيوعا، وهو «ثنائية الموقف الطبيعي
Common-Sense Dualism » (الفصل العاشر)، بل إننا نكون منطقيين تماما لو أطلقنا على هذا الرأي اسم «المذهب الجوهري للموقف الطبيعي»: إذ إننا بطبيعتنا ننظر إلى ذهننا على أنه كيان لا مادي يوحد بين تجاربنا التي تحدث من لحظة لأخرى. فنحن ننظر إلى الذهن على أنه ما تكون لديه هذه التجارب المتعددة؛ أي ما يدركها أو يفكر فيها أو يريدها. ونحن نتصوره كيانا يكمن من وراء كل الحوادث الذهنية، وفاعلا تحدث بواسطته وتنتمي إليه. والذهن، في لغة الحديث اليومي، هو «ما يمر بالتجارب». فمما يتفق مع الموقف الطبيعي أن نعتقد أن هناك لبا ثالثا لا يتغير أساسا، تكمن فيه هذه التجارب وتتوحد بواسطته. ويستخدم دعاة الجوهرية عادة لفظ «النفس»، بدلا من لفظ «الذهن» الأحدث عهدا، غير أن المفهوم ذاته متشابه إلى حد بعيد، سواء أكان من يستخدمه هو أفلاطون أم المثالي الحديث. وهكذا فإن الألفاظ الرئيسية التي يشيع استخدامها في هذه المدرسة هي ألفاظ المفارقة للجسم، والوحدة، والجوهرية، ويضاف إلى هذه الألفاظ الثلاثة عادة لفظ رابع مستمد منها منطقيا، هو الخلود.
نقد هيوم لفكرة الجوهرية : على الرغم من أن الاعتراضات قد أثيرت على هذه النظرية الجوهرية حتى قبل أن ينتهي أفلاطون من تعريفه له فإن هذه الهجمات لم تبلغ حد العنف الكفيل بجعل أنصار الجوهرية يلتزمون موقف الدفاع إلا في القرن الثامن عشر. فقد كان هيوم، الشكاك الاسكتلندي الكبير، من حدة الذهن بحيث أدرك أن الإيمان بجوهر روحي، مهما يكن منطقيا أو مرضيا من الوجهة الدينية، لا يستند إلى أي أساس من تجربتنا الفعلية. ولقد كان المفكرون السابقون مباشرة على هيوم، ولا سيما ديكارت وباركلي، قد ذهبوا إلى معرفتنا لذهننا أو ذاتنا هي أكثر المعارف التي يمكننا اكتسابها يقينية. فديكارت، الذي بدأ استدلاله بالعبارة المشهورة «أنا أفكر ... إذن أنا موجود»، قد جعل من الوضوح الذاتي المزعوم للذهن الجوهري أساسا لمذهبه كله. وهكذا فإن هؤلاء المفكرين السابقين على هيوم قد جعلوا من الاستبطان أو المعرفة الذاتية نقطة بداية لكل بحث عقلي. وقد وافق هيوم على هذا المعيار الاستبطاني على مضض، ثم شرع يطبقه نقديا على الموضوع المفضل لدى القائل بفكرة الجوهرية؛ أعني الذهن ذاته، فكانت النتائج سليبة تماما؛ إذ لم يستطع أن يهتدي إلى كيان جوهري من أي نوع. والحق أن الحجة التي دلل بها هيوم على وجهة نظره هي مثال للاستدلال النقدي يبلغ من الروعة حدا جعله واحدة من أكثر الفقرات التي يشيع اقتباسها بين المؤلفات الفلسفية كلها: «من الفلاسفة من يتصورون أننا في كل لحظة واعون داخليا بما نسميه ذاتنا، وأننا نشعر بوجودها واستمرارها في الوجود، وأنننا واثقون من هويتها وبساطتها الكاملة إلى حد لا نحتاج معه إلى دليل ... أما أنا، فإني عندما أتوغل بكل عمق فيما أسميه ذاتي، أعثر دائما على إدراك أو إحساس محدد معين، بالحرارة أو البرودة، والضوء أو الظل، والحب أو الكراهية، والألم أو اللذة، ولا أستطيع أبدا أن أقتنص ذاتي في أي وقت دون إدراك، أو أن ألاحظ أي شيء ما عدا الإدراك. وعندما تتوقف إدراكاتي خلال أية فترة، كما في حالة النوم العميق، فإني أظل طول ذلك الوقت غير شاعر بذاتي، ويمكن القول حقا إنني لا أوجد ... فما الذات إلا حزمة أو مجموعة من الإدراكات المختلفة، التي تتعاقب بسرعة لا يمكن تصورها، وتظل في صيرورة وحركة دائمة ... إن الذهن نوع من المسرح، تظهر فيه عدة إدراكات متعاقبة، فتمر، وتمر من جديد، وتتباعد، وتمتزج على أنحاء لا حصر لها من المواقف والأوضاع. غير أن من الواجب ألا ندع التشبيه بالمسرح يضللنا. فالإدراكات المتعاقبة وحدها هي التي تؤلف الذهن ...»
وهكذا فإن هيوم بعد أن أفرغ من النظرة الجوهرية إلى الذهن كل ما فيها من حشو، صاغ رأيا يمكن تسميته بالنظرة الفعلية
Actualist
إلى الذهن. هذه النظرية تنمو منطقيا من الاستدلال الذي اقتبسناه منذ قليل: فما الذهن إلا مجموعة كومة من التجارب. و«حزمة الإدراكات»، تربطها معا قوانين معينة للتداعي.
وليس ثمة لب باطن أو أساس روحي يستخدم في توحيد مختلف الحوادث الذهنية. ولا توجد إلا الحوادث ذاتها، التي ترتبط عشوائيا وفقا لما يطلق عليه هيوم اسم «العادات». وبغض النظر عما في افتراض وجود فاعل يقوم بالتوحيد أو كيان في قلب تجربتنا، من إرضاء لتفكيرنا المنطقي أو حاستنا الجمالية، فإن هيوم يتشبث بموقفه: فلا الاستبطان، ولا أية طريقة أخرى في المعرفة، تكشف لنا عن شيء كهذا. والأمر المشاهد بالفعل هو أن أذهاننا ليست إلا تلك التجارب الدائمة التغير. التي ترتبط فيما بينها ارتباطا غير وثيق عن طريق التداعي.
رأي «كانت» في الذهن : على الرغم من أن «إمانويل كانت» قد استيقظ بفضل تحليل هيوم من الإيمان القطعي بوجهة النظر الجوهرية، فإنه لم يستطع أن يظل قانعا بتلك النتائج التي هي أقرب إلى الفوضوية، والتي انتهى إليها هيوم؛ لذلك انتقل إلى إدخال تعديل على هيوم كان له تأثيره الهائل. ففي رأي كانت أن عيب الموقف الجوهري التقليدي ليس تعارضه مع التجربة، بقدر ما هو تناقضه الذاتي المنطقي؛ ذلك لأن المذهب الجوهري يرى أننا نستطيع معرفة ذهننا أو ذاتنا بوصفها موضوعا للمعرفة بنفس الطريقة التي نعرف بها أي شيء في العالم الخارجي. غير أن من المستحيل في رأي كانت، أن تكون الذات في آن واحد موضوعا وذاتا في علاقة المعرفة. فأنا لا أستطيع أبدا أن أعرف نفسي بوصفي ذاتا، ولكني أعرف نفسي فقط بوصفي موضوعا. ونحن لا نستطيع أن نعرف أنفسنا إلا بوصفنا «مفعولا به» لا بوصفنا «فاعلا». وعندما ننظر إلى هذا المفعول به القابل للمعرفة، نكتشف ما سبق أن اكتشفه هيوم بالضبط: أعني تعاقبا متصلا للحالات الذهنية أو «التجارب».
ولقد كان الأمر الذي أخذه كانت على تحليل هيوم هو إخفاقه في تأكيد وحدة الذهن بما فيه الكفاية. فليست قوانين التداعي وحدها؛ أعني التلاصق
Contiguity
والتعاقب والتشابه - بكافية لتحويل حزمة متجمعة من الإحساسات إلى كل من أي نوع. فالتداعي مثلا يفترض الذاكرة، والذاكرة بدورها تفترض شيئا يقوم بالتذكر. وعلى الرغم من أن كانت قد أطلق على هذا العامل الموحد اسما شديد التعقيد هو «الوحدة التركيبية للوعي الذاتي
The Synthetic Apperception of Unity »، فيكفي - بالنسبة إلى غرضنا الحالي - أن نفهمه على أنه عامل ليس جوهرا ولا كيانا، وإنما هو مبدأ منظم أو موحد يقوم بمهام أكثر كثيرا من مجرد «الربط» بين مجموعة الإحساسات والحوادث الذهنية. وفضلا عن ذلك فإن هذا المبدأ أو الفاعلية إيجابي نشط؛ ومن ثم فهو مختلف تماما عن ذلك الكيان السلبي السكوني الذي تصوره أفلاطون ومعظم القائلين بالجوهرية منذ عهد أفلاطون. وعلى حين أنه قد استخدمت أسماء كثيرة للتعبير عن هذه النظرة الكانتية إلى الذهن، فإن اسمي «الترنسندنتالي» و«العضوي» هما الأفضل. وسوف نستخدم اللفظ الأخير، على سبيل التيسير، ما دام يفيد في تأكيد الطابع الموحد والعضوي للذهن.
وأخيرا، فمن الواجب أن نلاحظ أن رأي كانت يمثل موقفا توفيقيا. فهو يحاول وضع نظرية في الذهن تتمشى مع ملاحظتنا الفعلية للذهن عن طريق الاستبطان، وتعمل أيضا حسابا للوحدة الخاصة التي يبدو أنها تميز أذهاننا كما تعرف بالنسبة إلى ملاحظ آخر. وهكذا تصور كانت أنه، بافتراضه فاعلا موحدا، قد تمكن من تلبية كل من المطلبين - حتى لو كان ذلك يحتم إخفاء جهلنا بطبيعة هذا الفاعل وراء اسم مهول. أما المنطقي التجريبي الحديث (كما سنرى في الفصل الحادي عشر) فيرى أن مثل هذه الموجودات غير القابلة للتحقيق ليس لها في الفلسفة مكان أكثر مما لها في العلم. ولكن «كانت» كان يتفلسف على أساس التراث السائد في عصره عندما قال بهذا الفاعل الموحد الفرضي. (2) النظرة المادية إلى الذهن
وفي الطرف المقابل للنظرة الجوهرية التي يقول بها المثالي، نجد ما يمكننا أن نسميه بنظرة الهوية
Identification Theory
التي يقول بها المادي المتطرف ومعظم السلوكيين المعاصرين. والقضية الرئيسية لهذه المدرسة بسيطة؛ «فالذهن» وكل أوجه نشاطه يتألف من حركات شديدة التعقيد في المخ، الجهاز العصبي المركزي، وأعضاء جسمية أخرى (أحيانا). وبعبارة أخرى، فالظواهر النفسية في هوية مع الظواهر المادية، وما الحوادث الذهنية إلا تغيرات جسمية معينة، ولا سيما تلك التي تتعلق بالجهاز العصبي المركزي. وهكذا ينتهون إلى رأي يتمشى مع الموقف المادي العام، ويقول إنه ليس ثمة شيء اسمه «العالم النفسي»، فلا وجود للذهن بما هو كذلك ولا مبرر للفظ «الذهن» أو «الذهني» إلا بوصفه تصنيفا مريحا لأنواع معينة من الأحداث المادية.
النتائج الواحدية للمادية : هذا العرض الموجز للفرض المادي هو ذاته كاف لكي يبين لنا أننا لسنا إزاء مذهب متطرف فحسب، بل مذهب ينتمي إلى فئة مختلف تماما عن تلك التي تنتمي إليها الآراء الثلاثة التي نوقشت من قبل. فنحن هنا، في الواقع، إزاء رأي مختلف من الوجهة الميتافيزيقية، كما سنوضح بالتفصيل في فصل تال (الفصل التاسع)؛ ذلك لأن الآراء الثلاثة الأولى، مهما يكن اختلافها فيما بينها، تنطوي كلها على نظرة ثنائية إلى الواقع. وهي كلها تفترض تمييزا كيفيا بين الذهن والجسم: فأيا كانت طبيعة الذهن، فهو شيء منفصل عن التركيب المادي للجسم، بل إن الموقف المتطرف الذي اتخذه هيوم ينطوي ضمنا على تمييز كيفي بين الإحساسات أو الإدراكات، التي تكون الذهن بتجميعها سويا، وبين المخ المادي أو الجهاز العصبي الذي تحل فيه هذه التجمعات. كذلك فإن «الوحدة التركيبية للوعي الذاتي» كانت هي قطعا ذات طابع نفسي أو روحي، أيا كانت طبيعتها الأخرى. ولما كانت النظرة الجوهرية تعرف بأنها الرأي القائل إن الذهن كيان أو جوهر روحي، فإن النتائج الضمنية الثنائية لهذا الموقف بادية للعيان.
وفي مقابل هذه الآراء الثلاثة، تقول المادية بنظرية واحدية صارمة: فالذهن هو ذاته التغيرات المعقدة الدقيقة التي تحدث في الجهاز العصبي وجهاز الغدد، ولا شيء غير ذلك. وليس ثمة فارق كيفي هنا، ما دام العالم المادي أو الجسمي هو كل ما يوجد. والنشاط (الذي يعني نوعا من الحركة) في أجزاء معينة من العالم المادي هو ما نطلق عليه، على سبيل التيسير، اسم «الذهن». وبالاختصار «فالذهن» اسم سهل لخرافة منهجية مريحة، ولكنه لا يدل على كيان أو فاعل منفصل.
مغالطة الرد : لقد وصفنا الموقف المادي بأنه «متطرف». غير أن خصومه المستائين (ولا سيما المثاليين) يطلقون عليه أوصافا أعنف من هذه بكثير، بل إن صاحب المذهب الطبيعي ذاته، الذي قد ينتظر منه أن يكون أكثر الناس تعاطفا، يشعر عادة بأن المادية تقع هنا في ذلك الخطأ المسمى بمغالطة الرد
The Reductive Fallacy - وهو الخطأ الفكري الذي تتعرض له بوجه خاص المذاهب المتطرفة، الروحية منها والمادية، والمغالطة في الحالة الراهنة تتعلق بالادعاء بأن الذهن «ليس إلا» مادة. فعلى حين أن كل علماء النفس المعاصرين، على الأرجح، قد يعترفون بأن الظواهر الذهنية لا يمكن أن توجد إلا بوجود أحوال جسمية سابقة، فإن السلوكيين المتطرفين هم وحدهم الذين يستدلون من ذلك على أن الذهني «ليس إلا» الجسمي، ولكن باسم آخر؛ ذلك لأن أية هوية كهذه بين فئتي الوجود هاتين، كما سنرى فيما بعد عندما نتعمق في مشكلة الميتافيزيقا، تتنافى مع تجربتنا ومع لغتنا معا. فمهما يكن مقدار اعتماد الظواهر الذهنية في وجودها على الظواهر المادية، فإن فئتي التجربة هاتين ليستا فئة واحدة، ولا يمكن أن يفيد أي تبسيط ردي
Reductive
كذلك الذي تحاول المادية القيام به، في الوصول إلى التوحيد بين كل منهما. وحتى لو سلمنا بأن الذهني لا يمكن أن يظهر بدون المادي (وهو موقف يقول به المذهب الطبيعي وينكره المذهب المثالي)، فإن الذهني ما إن يصل بالفعل إلى هذا الوجود المعتمد، حتى يصبح منتميا إلى نمط مختلف تماما من أنماط الوجود. فقد لا تكون للذهن أولية ميتافيزيقية (حسب قول المثالي)، غير أن لديه قطعا وجودا متميزا من الناحية الكيفية.
2 (3) النظرة الوظيفية إلى الذهن
اقترح البعض النظرية الوظيفية
Functional ، في محاولة لصياغة رأي عن الذهن يعمل حسابا لتجربتنا، ويتمشى تماما في الوقت ذاته مع العلم الحديث، ولكن من سوء الحظ بالنسبة إلى أغراضنا الراهنة، أن هذا الرأي الوظيفي هو عادة رأي يصعب على الطلاب فهمه ما لم يكن لديهم، قبل الشروع في دراسة الفلسفة، إلمام واسع بعلم النفس. ومع ذلك فإن دراستنا الموجزة للمذهب الوظيفي في الفصل السابق كفيلة بأن تجعل هذا المفهوم مألوفا إلى حد ما.
يبدأ صاحب النظرة الوظيفية بنقد مغالطة الرد في المذهب المادي، وهي المغالطة التي عرضناها منذ قليل. وإذ يرفض المذهب الوظيفي كل الآراء الثنائية (ولا سيما الرأي الجوهري)، فضلا عن الواحدية المتطرفة للمذهب المادي، فإنه يعترف بأن من المحال وجود تفكير بلا مخ، ولكنه يرفض أن يوحد بين الاثنين على أساس هذه الحقيقة. فالاعتراف باعتماد س على ص ليس معناه إرجاع س إلى ص، ولا هو ضمان لاستنتاج أن س هي بالتالي غير حقيقية. فصاحب النظرية الوظيفية يرى أن «الذهن» هو مجموعة أو فئة من الوظائف، وليس مجرد مخ مادي، أو جوهرا روحيا بسيطا. ذلك لأن القول بأن الذهن كيان أو جوهر روحي لا يعني شيئا؛ إذ إن علاقة هذا المفهوم بتجربتنا تبلغ من الضآلة حدا يجعل اللفظ لا يعني شيئا. ومن جهة أخرى فالقول بأن الذهن هو المخ ليس إلا كلاما فارغا - أو على الأصح كلام لا معنى له: فمثل هذا الحكم لا يقع خارج نطاق التجربة (كما هي الحال في المذهب الجوهري) وإنما الأصح أنه يناقض تجربتنا، التي هي - كما هو واضح - تجربة فيها نمطان أو عالمان للوجود.
الذهن هو ما يفعله الذهن : وباختصار فالمذهب الوظيفي يرى أن الذهن هو ما يفعله الذهن. وأفضل تشبيه هنا هو التشبيه بمجال الفيزياء. فالفيزيائي يرى أن الكهرباء لا يمكن أن تعرف إلا على أساس نشاطها. فليس في وسع أي عالم أن ينبئنا بما تكونه الكهرباء «في ذاتها»، وإنما هو لا يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال إلا بتعداد لما تستطيع الكهرباء أن تفعله. فالكهرباء في نظر علم الفيزياء هي ما تفعله، وهي لا تعرف إلا على أساس وظيفتها. ومن ثم فإن أي تعريف علمي لها ينبغي أن يكون وظيفيا بالمعنى الدقيق. وكذلك الحال في كثير من المفاهيم الأساسية الأخرى للعلم. «فالطاقة» مثلا تعرف بأنها القدرة على القيام بالعمل، و«طبيعتها» هي هذه القدرة أو وظيفة أداء العمل هذه، وهذا هو كل ما تعرفه الفيزياء، أو تحتاج إلى أن تعرفه، عنها. أما الكهرباء أو الطاقة كما هما في ذاتهما؛ أي بمعزل عن وظائفهما - فالعلم لا يعرف عنهما شيئا، بل إن نفس تصور تعريف غير وظيفي لأي منهما هو شيء لا معنى له في نظر العلم. والواقع أن معظم العلماء يتفقون مع التجريبيين المنطقيين المحدثين الذين يذكرون أن مجرد الكلام عن طبيعة الكهرباء «في ذاتها» هو لغو لفظي، ما دامت أية نظريات تتعلق بهذه الطبيعة المزعومة غير قابلة للتحقيق.
والواقع أن النظرة الوظيفية إلى الذهن تتوسع في هذا الرأي بحيث تمده إلى المجالين النفسي والفلسفي. فهي تذهب إلى أن قوام الذهن هو أوجه نشاط وقدرات معينة للكائن العضوي. فالذهن هو، إلى حد بعيد، ما يفعله الكائن العضوي. وهناك، إلى جانب أوجه نشاطنا الجسمي، أوجه نشاط ذهنية، كالتفكير والشعور والتذكر. والذهن هو مجموع أوجه النشاط هذه؛ ومن هنا فهو وجه من أوجه النشاط الكلي للكائن العضوي، أو سلوكه. ومع ذلك ينبغي أن يلاحظ أن هذا الرأي الوظيفي لا ينظر إلى الذهن على أنه «شيء» يقوم بأوجه النشاط الخاصة أو غير الجسمية هذه. فليس ثمة لب مركزي أو فاعل موحد أو «شخصية» تقف من وراء أوجه النشاط هذه، كما لو كانت مشجبا تعلق أوجه النشاط هذه عليه. ذلك لأن الشخصية ليست بأقل وظيفة من الذهن، بل إننا نستطيع تعريف الشخصية بأنها الأوجه الاجتماعية للذهن؛ فهي مجموع أوجه الذهن القاهرة «للشخصيات» الأخرى. وفي الفرد السوي، تتكامل هذه الأوجه المتباينة أو تتوحد، غير أن «الشخص» أو «الذات» لا ينبغي النظر إليه على أنه فاعل مستقل له هذه الأوجه أو يقوم بهذا النشاط. فهو وهي شيء واحد. ومرة أخرى، فلنقل إن الذهن هو ما يفعله. (4) مشكلة الذهن والجسم
من المنطقي أن ننتقل من هذه المشكلة الشائكة، مشكلة طبيعة الذهن، إلى بحث العلاقة بين الذهن والجسم. وعلى الرغم من أن علم النفس قد أخذ على عاتقه، جزئيا، بحث هذا الميدان الخاص، فإن الفلسفة ما زالت تهتم بهذه المسألة اهتماما كبيرا. كذلك فإن التطورات التي طرأت على علم النفس لم تفلح في حل المشكلة؛ ولذا فلا يزال هناك مجال للفيلسوف ليدلي بدلوه، ويتقدم بنظرياته وتأملاته، في هذا الميدان.
والقسمان الواضحان اللذان تتشعب إليهما الآراء المتعددة حول هذه العلاقة هما النمط الواحدي والنمط الثنائي. ولقد كانت الآراء الثنائية هي الأقوى تأثيرا بكثير، من الوجهة التاريخية، من بين هاتين الفئتين. وهذا أمر غير مستغرب؛ إذ إن الثنائية، كما أوضحنا من قبل، تعبر عن وجهة نظر الموقف الطبيعي. وفضلا عن ذلك فإن المسيحية تستتبع القول بنزعة ثنائية واضحة، ومن المعروف، بالنسبة إلى الفلسفة الغربية، أن أكثر الآراء عن الذهن تمشيا مع تعاليم المسيحية هي التي كانت تتفوق على غيرها عادة. وبالنسبة إلى الموقف الطبيعي، فإنه يبدو لنا من الواضح تماما أننا مكونون من جسم وذهن مجتمعين، بحيث إن إرجاع أحدهما إلى الآخر (على النحو الذي يقتضيه أي مذهب واحد) يبدو أمرا لا يتصور. لذلك فإننا سنبدأ بعرض النظريات الثنائية، محاولين بذلك الانتفاع من وجهة نظر الموقف الطبيعي، ومن تجربة الطالب في آن واحد.
نظرية التأثير المتبادل : تعد نظرية التأثير المتبادل
Interactionism
أشمل النظريات الثنائية في العلاقة بين الجسم والذهن وأوسعها تأثيرا. وهذه النظرية تذهب بالاختصار إلى أن الذهن والجسم يمثلان نظامين مستقلين للوجود لا يمكن إرجاع أحدهما إلى الآخر، غير أن في استطاعة كل منهما أن يمارس فاعليته على الآخر أو يؤثر فيه. ولهذه النظرية ميزة كبرى، هي أنها تبدو متفقة مع تجربتنا اليومية؛ ذلك لأننا نستطيع أن نقرر أن نرفع ذراعا (أي أن تكون لنا تجربة «ذهنية» خالصة بشأن موضوع مادي) فنجد الذراع قد ارتفع بالفعل. وعلى العكس من ذلك، فكلنا قد جربنا تأثير التعب أو المرض أو العقاقير المخدرة في عملياتنا الذهنية، فعندما يضطرب الجسم على أي نحو، يكون التفكير عادة مضطربا أو مشوها. والواقع أن هذه التجارب تبلغ من الشيوع حدا يصعب معه على الطلاب أن يدركوا إمكان وجود أي رأي آخر غير نظرية التأثير المتبادل. غير أن هناك، لسوء الحظ، اعتراضات خطيرة جدا توجه إلى الموقف القائل بالتأثير المتبادل. ولقد أدت نقاط الضعف هذه، التي يرى كثير من المفكرين أن منها واحدة أو اثنتين تقضيان على النظرية تماما، إلى ظهور النظريات المنافسة. ويمكن القول إن كل هذه الآراء البديلة تقريبا قد وضعت من أجل تجنب العناصر المعترض عليها في نظرية التأثير المتبادل؛ ومن هنا فإن من الضروري لنا أن نكون صورة واضحة عن هذا المذهب وعن الاعتراضات الأساسية التي أثيرت ضده.
الحجج المضادة لنظرية التأثير المتبادل : أولى نقاط الضعف في نظرية التأثير المتبادل هي أننا نجهل تماما كيف يحدث هذا التأثير المتبادل المزعوم. فإذا سلمنا بأنه يبدو من الممكن في نظري أن أرغب في رفع ذراعي ثم أنفذ هذه الرغبة، فإن علم النفس الحديث ذاته لا يستطيع أن ينبئنا إلا بالقليل جدا عن الطريقة التي يؤثر بها الفكر في العضلات والمفاصل اللازمة لرفع الذراع بالفعل؛ وهكذا فإن جهلنا بهذه المسألة لا يكاد يقل عما كان عليه عندما قدم ديكارت، في أوائل القرن السابع عشر، عرضه الكلاسيكي للمذهب الثنائي. فقد كان ديكارت يقول بنظرية تبدو لنا اليوم ممتنعة، مؤداها أن الغدة الصنوبرية (التي توجد في منتصف المخ) هي نقطة الالتقاء أو «البوابة» التي تتحول بها الأفكار غير الممتدة وغير الجسمية إلى تنبيه يحرك الجسم المادي الممتد (الذي يشغل مكانا). وعلى العكس من ذلك فإن هذه الغدة الصنوبرية كانت هي الوسيلة التي يتحول بها حادث جسمي (كوخزة الدبوس مثلا) إلى إحساس أو إلى «فكرة».
والاعتراض الرئيسي الثاني على نظرية التأثير المتبادل هو استحالة تصوره؛ ذلك لأن الكثير من خصوم هذه النظرية يرون أن فكرة ديكارت ليست أكثر امتناعا من الفكرة القائلة أن شيئين بينهما هذا القدر من التنافر الذي يوجد بين الذهن والجسم يمكن أن يكون بينهما تأثير متبادل من نوع ما. فالفرق الكيفي بينهما أعظم بكثير من أن يسمح لنا حتى بتصور إمكان حدوث تأثير سببي متبادل. ذلك لأنه لا يوجد سر واضح في الطريقة التي يستطيع بها شيئان ماديان أن يؤثر كل منهما في الآخر (كما في حالة الاصطدام مثلا)، كما أن تأثير حادث ذهني في الآخر هو قطعا ظاهرة مألوفة أخرى - كما يحدث عندما تؤدي رائحة (وهي إحساس) إلى استعادة ذكرى (وهي صورة). أما تصور قيام حادث ذهني بإحداث تغيير في موضوع مادي أو العكس، فهو أمر واضح الامتناع.
رد القائل بنظرية التأثير المتبادل : توجد لدى القائل بنظرية التأثير المتبادل ردود عاجلة على هذين الاعتراضين الأولين الموجهين إلى نظريته. فهو يتناول هذين الاعتراضين بالترتيب العكسي، فيشير إلى أن حجة «استحالة التصور» ليست حجة على الإطلاق؛ ذلك لأن تاريخ العلم حافل بأمثلة تحول فيها شيء يعد تصوره مستحيلا إلى حقيقة واقعة. فبالنسبة إلى الذهن الذي كان يعيش في العصر الوسيط، كان من المستحيل تصور إمكان أن يعيش الناس على الجانب السفلي للعالم؛ إذ إن من الواضح أن هذا يؤدي إلى سقوطهم - وفضلا عن ذلك فمن ذا الذي يستطيع أن يعيش معلقا إلى الأرض بقدميه، مثلما تتعلق الذبابة بالسقف؟ وفيما بعد كان من «غير المتصور» أن يستطيع الإنسان الطيران؛ إذ كيف يتسنى لوسيط رقيق كالهواء «عقلا»، أن يحمل شيئا ثقيلا كجسم الإنسان؟ وهكذا يشير القائل بالتأثير المتبادل إلى أن المسألة بالاختصار هي أن الدليل الوحيد على الواقعية هو الواقع ذاته. ففي استطاعتنا أن نقدم حججا منطقية على أن هذا الشيء أو ذاك لا يمكن عقلا أن يحدث أو يوجد، ولكن إذا كانت تجربتنا الحسية تبين لنا أنه قد حدث أو وجد بالفعل ، فلن يؤدي افتقاره إلى المنطق أو استحالة تصوره إلى تغيير هذه الحقيقة.
وفضلا عن ذلك فإن «الغموض» المزعوم، المتعلق بطريقة إمكان حدوث تأثير متبادل بين المادي والذهني ليس حجة على الإطلاق. ففي النظام الطبيعي حوادث متعددة تعد «غامضة» بالمعنى الصحيح. فمن الجائز أنه لا يوجد قانون علمي توطدت دعائمه بقدر ما توطدت دعائم صيغة نيوتن العامة للجاذبية، ومع ذلك فلا نيوتن ولا نحن نعرف كيف يتسنى لأشياء مادية تفصل بينها مئات الملايين من الأميال أن يؤثر بعضها في بعض. وعلى حين أن أينشتين قد قدم إلينا بضعة اقتراحات رائعة عن سبب حدوث ظاهرة - «التأثير عن بعد» هذه، فإن الطريقة الأساسية التي يحدث بها هذا التأثير ما زالت سرا غامضا. وإنه لمن «غير المتصور» أن يكون في استطاعة الأشياء التأثير بعضها في بعض دون أن يحدث بينها اتصال ميكانيكي مباشر، أو دون أن تبعث حركات في وسيط معلوم معين، قادر على نقلها، مثلما يستطيع الهواء أو الماء نقل الموجات. ومع ذلك فلا يمكن أن يكون ثمة شك في حقيقة الجاذبية، مهما يكن من غموض هذا التأثير. وينتهي صاحب نظرية التأثير المتبادل إلى أن الأمر قد يكون كذلك في حالة التأثير النفسي المتبادل: فسواء أكنا قادرين على «تصوره»، أم على تقديم تفسير مرض له، أم لم نكن، فإنه، بوصفه واقعة خالصة، يبدو أمرا لا يمكن إنكاره. ومن ثم فعلى المنطق وعلم النفس أن يتهادنا مع هذه الواقعة، سواء أكانا بهذه المهادنة سعيدين أم لم يكونا. (5) المذهب الآلي ومبدأ بقاء الطاقة
هناك اعتراض أخطر بكثير على نظرية التأثير المتبادل، وذلك من وجهة نظر ذوي العقليات العلمية على الأقل، ألا وهو ما يبدو أن هذه النظرية تستتبعه من خروج على مبدأ بقاء الطاقة. هذا المبدأ هو واحد من أشمل المبادئ التي صاغها العلم وأكثرها أساسية. ومفاده باختصار أن كمية الطاقة في أي نظام فيزيائي تظل ثابتة. فمن الممكن تحويل هذه الطاقة، أو حتى تبديدها في جميع أرجاء النظام الكامل بحيث تظل داخليا في سكون ، غير أن المجموع الكلي للطاقة لا يمكن أن يزيد أو ينقص. على أن نظرية التأثير المتبادل بين الذهن والجسم تبدو متعارضة مع هذا المبدأ. ولنوضح ما نقول بذلك المثال الذي سبق لنا استخدامه: فإذا قررت أن أرفع ذراعي ثم نفذت هذا القرار، فإن الحادث الذي بدأ في أول الأمر نفسيا بحتا، ينتهي حادثا ماديا. وفي هذه الحالة يبدو أنه قد أضيفت كمية معينة من الطاقة إلى النظام المادي للجسم من لا شيء. وبالعكس فلو أن تغيرا معينا في العالم المادي، مثل دق جرس، قد انتهى إلى إحساس أو إدراك للصوت في وعيي، لبدا أن الطاقة الجسمية أو المادية قد تلاشت في «الذهن» الذي هو عدم من النواحي المادية. وفي كلتا الحالتين يبدو أن مبدأ بقاء الطاقة قد خولف.
وهنا أيضا نجد لدى القائل بنظرية التأثير المتبادل إجابات سريعة، وإن لم تكن تبدو مقنعة بقدر ما كانت تبدو إجاباته على الاعتراضات السابقة. فهو يرد أولا بأن العلاقة السببية لا تنطوي بالضرورة على تحويل الطاقة.
3
فكل ما يلزم لإقامة علاقة سببية بين شيئين أو حادثين هو نوع من الاعتماد الضروري لأحدهما على الآخر. وهذا الاعتماد قد ينطوي أو لا ينطوي على تحويل للطاقة. وثانيا فإن تعبير أصحاب نظرية التأثير المتبادل عن العلاقة بين الذهن والجسم لا يحول دون إمكان حدوث تحويل فعلي للطاقة. فمن الجائز أن الطاقة النفسية تتحول إلى طاقة جسمية، والعكس بالعكس، بحيث لا يكون في الأمر خلق للطاقة أو تبديد لها. وبعبارة أخرى فإن فرض التأثير المتبادل لا يستلزم افتراض نظامين مغلقين، فمن الممكن النظر إلى الكائن العضوي على أنه نظام كامل، لا يكون الجسم والذهن إلا أجزاء منه. (6) نظرية التوازي
ليس في وسع أحد أن ينكر أن فرض التأثير المتبادل، مهما يكن حكمنا النهائي عليه، يستند بقوة على تجربة الإنسان في موقفه الطبيعي. أما النظرية التي سنعرضها بعد ذلك، عن العلاقة بين الجسم والذهن، فإنها تدير ظهرها للموقف الطبيعي. وتحاول بهذه الطريقة الجذرية أن تستبعد بعض الاعتراضات الموجهة إلى الآراء الأخرى. هذه هي نظرية التوازي
ويكاد هذا اللفظ يشرح نفسه بنفسه: فالذهن والجسم يمثلان سلسلتين من الحوادث تتميزان بأنهما منفصلتان، ومستقلتان، ولا توجد بينهما رابطة سببية، بل توجدان جنبا إلى جنب في تواز كامل. ويعترف أنصار هذا الرأي بأن لكل تغير ذهني تغيرا جسميا مناظرا له، وأن هذين التغيرين يصاحب كل منهما الآخر دائما وبالضرورة في ارتباط وثيق. غير أن ما تتميز به هذه النظرية عن كل ما عداها هو أنها تنكر أية علاقة سببية بين الاثنين. فمهما يكن من حتمية الارتباط بينهما، فإنه ليس ارتباط تأثير، فالذهن والجسم دائرتان مقفلتان، لا تؤثر إحداهما في الأخرى. وهما، كما اقترح البعض، أشبه بشريكين في رقصة أشباح دائمة لا تنتهي بعناق أبدا.
الاعتراضات على نظرية التوازي
وجه خصوم نظرية التوازي - كما يمكننا أن نتوقع - انتقادات شديدة إليها. ولعل أكثر الألفاظ تداولا في وصف هذه النظرية هو صفة «الاستحالة» أو «الامتناع». ومع ذلك فقد دعا إليها اثنان من أعظم الشخصيات في الفلسفة الحديثة، هما اسبينوزا وليبنتس، وكان لها مؤيدون قديرون حتى اليوم. ويبدو أن أقوى الاعتراضات الموجهة إليها هي: أنها أولا تخالف مبدأ التطور البيولوجي، الذي يقول إن الكائنات التي تظل باقية في الصراع من أجل الوجود هي تلك التي تكون لها قيمة وظيفية أو قيمة تمكنها من البقاء؛ أي تساعد الكائن العضوي على تحقيق تكيف أفضل مع بيئته. وهكذا فإن فرض التوازي يجعل الذهن غير قابل للتفسير على الإطلاق، ما دام لا يؤثر في الجسم أو في بيئته المادية. فكيف إذن أتيح للذهن أن يستمر في الوجود، وأن يزيد مقدرته وأهميته طوال مجرى التطور؟
ويعترض ثانيا على نظرية التوازي بأن نتائجها ممتنعة. فلا يمكن أن تكون نتيجتها المنطقية إلا نوعا من مذهب شمول النفس
؛ أعني المذهب القائل إن هناك «ذهنا» في كل الأشياء وفي كل مكان من النظام الطبيعي؛ ذلك لأنه إذا صح ما تقول به النظرية من وجود نوع من الارتباط الحتمي المتبادل بين الحوادث الجسمية والذهنية، فإن كل حادث ذهني لا يناظره حادث جسمي فحسب، بل إن كل حادث جسمي لا بد أيضا أن يكون له نظير نفسي من نوع ما. وهكذا فلن يكون هناك فقط نظير واع لكل التغيرات الجسمية (كالحركة اللولبية للأمعاء أو نمو الخلايا مثلا)، بل إن الحوادث المادية البحتة في الطبيعة، كتحلل الصخور، لا بد أن يكون لها بدورها نظير نفسي من نوع ما. ولقد اعترف بعض القائلين بنظرية التوازي صراحة بهذه النتائج التي تؤدي إلى القول بشمول النفس - ومنهم ليبنتس مثلا - ولكن غيرهم ينفر من هذه النتائج المنطقية التي تبدو لا مفر منها في نظر معظم خصوم هذه النظرية.
موقف ليبنتس
ربما كان أكثر دعاة نظرية التوازي اتساقا بين كبار الفلاسفة هو ليبنتس نفسه، وهو عالم رياضي وميتافيزيقي ألماني في القرن السابع عشر.
4
والواقع أن المأزق العقلي الذي أدت به النظرية إليه، فضلا عن الوسيلة اليائسة التي اضطر إلى اتباعها للتخلص من هذه النتيجة، تكشف عن تهافت وجهة النظر هذه. فقد واجه ليبنتس، شأنه شأن كل المدافعين عن هذه النظرية، مشكلة تفسير طريقة حدوث هذا التوازي، وكذلك (إن أمكن) سبب وجود هذا الارتباط الدائم والعقيم بين الطرفين. ولعل الحل الذي أتى هو الحل الوحيد الذي يمكن اقتراحه في هذا الصدد: فالله قد خلق مملكتين توأمتين، هما مملكتا الذهن والمادة، ثم ربط بينهما ربطا دائما عن طريق نوع من «الانسجام المقدر
» وقد استخدم ليبنتس، لإيضاح رأيه هذا، تشبيه الساعتين المشهور. فمن الممكن أن نتصور صانع ساعات خبيرا يمكنه صنع ساعتين بلغتا من دقة التركيب وكمال الصنعة حدا يجعلهما، بمجرد بدئهما معا، يظلان يدلان دائما على نفس الوقت في انضباط تام. في هذه الحالة لن يكون هناك تأثير من الواحدة في الأخرى، ولا علاقة مع الأخرى، ويظلان يعملان جنبا إلى جنب في موازاة مطلقة. وهكذا الحال في سببية - من أي نوع - إذ لا حاجة إلى هذا أو ذاك؛ ومع ذلك فإن حركاتهما تظل متوازية على الدوام، بحيث تطابق كل دقة دقة، وتتفق كل ساعة تماما مع الأخرى، ويظلان يعملان جنبا إلى جنب في موازاة مطلقة. وهكذا الحال في عالمي الجسم والذهن التوأمين. فالله قد وفق بين سلسلتيهما المستقلتين من الحوادث، بحيث يتلاءمان على أكمل نحو، والانسجام المقدر لا يخفق أبدا، بل إن ظواهر العالمين تنسجم في تواز مطلق طوال وجودها. (7) مذهب الظاهرة الثانوية
أدى عدم الاكتفاء بنظرية التأثير المتبادل وبنظرية التوازي معا إلى وضع مجموعة من الآراء التي يمكن أن تعد كلها احتجاجات على هاتين النظريتين. ويتصف أحد هذه المواقف المحتجة بأنه ثنائي بدوره، غير أن معظم الآراء المعارضة تحاول الوصول إلى حل واحدي لمشكلة الذهن والجسم.
أما الحل الثنائي البديل فهو مذهب الظاهرة الثانوية
Epiphenomenalism
هذه النظرية، رغم ما يبدو على اسمها من تعقيد، بسيطة نسبيا، وهي تحظى بقبول غير قليل في الوقت الحالي. ولقد صيغت في الأصل على أنها رأي مادي في الذهن، وكانت لها على هذا الأساس شعبية كبيرة بين أنصار المادية في القرن التاسع عشر، بل إن دعاتها اليوم لا يأتون إلا من معسكر المذهب الطبيعي الآلي، وذلك لأسباب ستتضح بمجرد أن نشرح النظرية. وتقول هذه النظرية، بالاختصار، إن العلاقة بين الذهن والجسم علاقة سببية غير أن هذه ليست سببية متبادلة، كما هي الحال في مذهب التأثير المتبادل. فالتأثير يسير في اتجاه واحد فحسب؛ إذ إن التغيرات الجسمية تؤدي إلى حدوث تغيرات ذهنية، لا العكس. فليس النشاط النفسي إلا نتاجا ثانويا، والعملية الأساسية ذات طابع فيزيائي بحت. وهكذا يصبح الذهن مجرد ظاهرة مصاحبة أو ظل للنشاط الجسمي، لا تأثير لها فيه. وكما يعبر برجسون عن هذا الرأي، فإن الذهن يغدو تبعا له مجرد هالة تتراقص فوق عمليات المخ. وهناك تشبيه أشهر من ذلك، هو التشبيه بظل تلقيه عجرة دائرة. فليس للظل تأثير على العجلة أو على حركتها، ولكنه هو ذاته معتمد تماما عليها في وجوده وفي طابعه. وهكذا يصف سانتيانا الذهن في عبارة رائعة بأنه «صيحة غنائية في زحمة العمل». فالشيء الأساسي والهام بحق هو النشاط الجسمي. أما الوعي المصاحب له فلا يمثل إلا زخرفا غير وظيفي لهذا النشاط. ويضيف صاحب هذا المذهب قائلا إننا، مثلما نتأثر في كثير من الأحيان بالمظهر الخلاب أو الزخرف أكثر مما نتأثر بالشيء الأساسي، فإننا هنا أيضا نتجه إلى أن نجد في هذه «الصيحة الغنائية» شيئا أهم بكثير مما يسمح لنا به الحكم الموضوعي الرزين على الأمور.
مذهب الظاهرة الثانوية والعلم : كانت أقوى مزايا هذه النظرية شبه الثنائية؛ أعني نظرية الظاهرة الثانوية، هي تأثيرها المثمر في علم النفس وعلم وظائف الأعضاء معا. فهي قد شجعت دعاتها على البحث عن تفسيرات جسمية خالصة للظواهر الذهنية، وقد أمكن القيام بكثير من الأعمال التجريبية المفيدة على قياس هذا الفرض. بل فرض الظاهرة المصاحبة هذا كانت له من النتائج المثمرة بوصفه منهجا، مما يجعل المرء مترددا في مهاجمته، وإن كان من الواجب أن نتذكر أن نجاحه بوصفه فرضا منهجيا لا يثبت كفايته من حيث هو موقف ميتافيزيقي شامل. فمن الملاحظ مثلا أن الحجة التطورية التي سقناها ضد مذهب التوازي، يمكن أن تساق بنفس القوة ضد النظرية الحالية. فإذا كان ما يساعد الكائن العضوي في الكفاح للحصول على وسائل العيش وفي استمرار النوع هو وحده الذي يقدر له البقاء في الصراع من أجل الوجود، وإذا كان الذهن أو الوعي مجرد «صيحة غنائية» وسط هذا الصراع، فكيف أتيح له إذن أن يستمر في الوجود ويزداد أهمية في حياة الإنسان؟ وهكذا نستطيع أن نختتم كلامنا عن مذهب الظاهرة الثانوية بتقديم حكم موجز عليها، فنقول إن نتائجها قد أثبتت قيمتها بوصفها فرضا عمليا ينطوي على منهج للبحث العلمي، أما من حيث هي نظرة شاملة إلى الذهن، فإن قيمتها تقل عن ذلك إلى حد ما. (8) آراء اسبينوزا وليبنتس
تمثل نظرية الظاهرة الثانوية التي عرضناها الآن مذهبا ثنائيا يتحول بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية، إلى واحدية منهجية. أما النظرية التي يتعين علينا بحثها بعد ذلك، فتمثل واحدا من الموقفين اللذين يقولان بالواحدية. ولقد كان الهدف من اتخاذ كل من هذين الموقفين هو محاولة تجنب الصعوبات التي تبدو حتمية لا مفر منها في أي حل ثنائي لمشكلة الذهن والجسم. ومع ذلك، فإن الحل الذي تقدمه إحدى هاتين النظريتين يبدو مصطنعا، شأنه شأن الحل الذي تأتي به نظرية التوازي. هذه النظرية هي نظرية الوجهين
Double-Aspect Theory ، التي ارتبطت بوجه خاص باسم اسبينوزا، وهي تذهب باختصار إلى أن الذهن والجسم ليسا إلا وجهين متقابلين لحقيقة نهائية واحدة تكمن من ورائهما. فهما أشبه بجانبي الورقة، أو إذا شئنا تشبيها أفضل لقلنا إنهما أشبه بالوجهين المقعر والمحدب لعدسة زجاجية. وبعبارة أخرى فإن تسميتنا للحادث بأنه «جسمي» أو «ذهني» تتوقف على الوجه الذي نلاحظه منه؛ أي على العلاقات التي ننظر إليه من خلالها - مثلما أن حكمنا بأن العدسة ينبغي أن توصف بأنها مقعرة أو محدبة يتوقف على العلاقات التي ننظر إليها من خلالها.
الاعتراضات على نظرية الوجهين : على الرغم من أن المدافع عن هذا الفرض القائل إن الذهن والجسم ليسا إلا صفتين توأمين لجوهر نهائي واحد يستطيع أن يتجنب الانتقادات الموجهة إلى مذهب التوازي، فإنه يقع في صعوبات خاصة به. فلما كان يرى الذهن والمادة حقيقة واحدة، فإنه لا يحتاج إلى الإتيان بتفسير مسرف في الخيال كذلك الذي التجأ إليه لبينتس. ومع ذلك يتعين عليه أن يحاول إقناع الموقف الطبيعي، الذي ينظر إلى المسألة عادة على النحو الآتي: أن تشبيه القوسين المحدب والمقعر تشبيه دقيق جدا. ولكنه لا يكاد يكون تفسيرا للحقيقة القائلة إن تجربتنا بأسرها تشتمل على مجالين مختلفين تماما من مجالات الوجود. ففي استطاعتنا أن نسميها شيئا واحدا، ولكن من الواضح أننا لا نستطيع أن نثبت أنهما شيء واحد. وفضلا عن ذلك، فمن الممكن الاعتراض بأن هذا التوحيد بين المجالين لا يكاد يكون تفسيرا على الإطلاق. فهو يحاول أن يتخطى مشكلة الذهن والجسم بأسرها عن طريق إنكار وجودها: ولو كان الاثنان في أساسهما شيئا واحدا فحسب، لما كانت هناك أية صعوبة في موضوع الصلة بينهما.
وكثيرا ما تشعر الأذهان المعاصرة بأن نظرية الوجهين هذه تقف موقفا يائسا، بطريقتها الواحدية، مثلما أن نظرية التوازي تقف موقفا يائسا بطريقة ثنائية؛ ففي كلتا الحالتين يثور العقل في موقفه الطبيعي، ويجد الطلاب المبتدئون عادة أن المذهبين متساويان في عمقهما. ومن المؤكد أن كلا من هاتين النظريتين لا تقدم أي تفسير يستطيع العلم أن يتخذ منه فرضا مثمرا، وعلى الرغم من أن هذه الحقيقة وحدها لا تكفي لاستبعادهما من مجال البحث الفلسفي. فإنها تحملهما عبء البيئة الأثقل. أما أنهما قادرتان أو غير قادرتين على حمل هذا العبء، فذلك أمر ينبغي تركه للقارئ.
مذهب شمول النفس : أما المحاولة الأخرى للوصول إلى حل واحد لمشكلة الذهن والجسم فهي تلك التي أشرنا إليها من قبل باسم مذهب شمول النفس
وأساس هذا المذهب هو الامتداد بالوعي، أو بنوع من النشاط النفسي على الأقل بحيث يشمل جميع أرجاء الكون. وليس هذا مجرد افتراض لذهن شامل من نوع ما، كما تفعل كثير من أنواع المذهب المثالي، وإنما هو نسبة عمليات ذهنية إلى كل جزء من النظام الطبيعي. وهكذا ينظر القائل بهذا المذهب عادة إلى الطبيعة بأسرها على أنها مؤلفة من مراكز نفسية، كل منها مشابه للذهن البشري، فتكون النتيجة نظرة يمكن تسميتها بالمذهب الذري الروحي
Spiritual Atomism . وبذلك يصبح الواقع، كما كان في المذهب المادي القديم والمذهب الفيزيائي الحديث، مجموعة مؤلفة من عدد لا متناه من الذرات. غير أن مذهب شمول النفس يرى، على خلاف هذه الأنواع المألوفة للمذهب الذري، أن الوحدات النهائية ذات طابع ذهني أو نفسي أساسا. وهنا أيضا نجد أن ليبنتس هو المثل الكلاسيكي لهذا الرأي: ففي مذهبه، يتألف الكون من عدد لا متناه من «الذرات الروحية
Mondas » أو مراكز الإدراك. وتتفاوت درجة الإدراك أو مستواه في هذه المراكز من العلم الشامل في الله، الذي هو «موناد المونادات»، حتى «الذرات الروحية الناعسة» التي تتألف منها المادة الفيزيائية. فليست لهذه الذرات الروحية الأخيرة إلا «إدراكات بسيطة
» أو حالات ذهنية لا واعية، غير أن ماهيتها مع ذلك تظل نفسية أساسا. وهكذا فإن الفكرة الأساسية في مذهب ليبنتس هذا، كما في كل مذهب يقول بشمول النفس ، هي أن «الذهن حاضر في الأشياء جميعا» - أو بالاختصار أن «الذهن في كل مكان».
في هذه الحالة بدورها ندرك بوضوح أن هذا الحل لمشكلة الجسم والذهن لا يتفق مع وجهة نظر الموقف الطبيعي إلا اتفاقا ضئيلا. كذلك فإن وجهة النظر الجديدة هذه، شأنها شأن نظرية التوازي ونظرية الوجهين، عقيمة عمليا، بل إن نظرية شمول النفس لا تكاد تكون نظرية قابلة للإثبات بالمعنى المألوف لهذا اللفظ، فلو كنت أكدت أن هذه الصخرة حية وحاسة، فلا يكاد يكون في وسعي مناقشتك، وكل ما أستطيع أن أرد به عليك هو أنك لا تستخدم الألفاظ بمعناها المعتاد، وأنك تدير ظهرك لتجربتنا المألوفة في الموقف الطبيعي، وهي التجربة التي نجد فيها فارقا بين الصخور وبين الأشياء ذات القدرة الواضحة على الحساسية، التي نطلق عليها اسم الحيوانات. ومن المعترف به أنك، كالقائل بنظرية الوجهين، قد «حللت» مشكلتك بإلغائها. أما كون الثمن العقلي لهذا الحل أبهظ مما ينبغي. فهذا أمر ينبغي أن يترك البت فيه للقارئ. وعلى الرغم من أننا لا نود التأثير في الحكم الذي سينتهي إليه القارئ، فمن الواجب أن نشير إلى أن الرأي منعقد على أن الثمن مبالغ فيه إلى حد بعيد. (9) الذهن بوصفه منبثقا
ما زال أمامنا أن نبحث رأيا أخيرا في علاقة الذهن بالجسم. وقد أرجأنا هذا الرأي إلى النهاية لسببين: أولهما أنه ربما كان أفضل نظرية موجودة حاليا في هذا الميدان المزدحم بالنظريات، وثانيا لأنه رأي يلقى استجابة من الذهن العلمي، ويتفق أيضا مع الموقف الطبيعي الذي تأثر به الطالب المبتدئ. وبذلك يشعر القارئ بتخفيف لحدة الضجر الذي قد يحس به إزاء بعض النظريات اليائسة المتطرفة الأخرى، ونستطيع أن نأمل أن نختتم هذا الفصل دون أن نترك الطالب ثائرا أو مرتبكا إلى حد قد يأبى معه الانتقال إلى بحث مشكلات أخرى في الفلسفة.
هذه النظرية الأخيرة في الذهن تتصف بأنها ليست رأيا في العلاقات بين الظواهر الجسمية والذهنية فحسب، وإنما هي على الأصح رأي في مركز الذهن في النظام الطبيعي بوجه عام. وهي تبنى مباشرة على نظرية الانبثاق التي عرضناها في الفصل الأخير، بل إن الارتباط بين المذهبيين يبلغ من الوثوق حدا يجعل النظرية التي سنعرضها تسمى في كثير من الأحيان باسم النظرية الانبثاقية
Emergence Theory
في الذهن. هذه النظرية تتوسع في الفرض القائل إن الحياة ظهرت أو «انبثقت» عندما تكون نمط جديد أشد تعقيدا، من المواد غير العضوية؛ أي عندما ظهر مستوى جديد من التنظيم بظهور أنواع جديدة من الاستجابة، فنقول إن الذهن هو بدوره نتيجة لتنظيم أعقد للتركيب الجسمي (أو على الأخص، العصبي). وبعبارة أخرى، فبازدياد تعقد تركيب العمليات الآلية العصبية، وظهور جهاز عصبي مركزي يربط بين كل أجزاء الكائن العضوي، «انبثق» من هذا المستوى التكاملي الجديد نوع جديد من الاستجابة. وظهر الوعي - أو الذهن بمعنى أعم - بوصفه نتيجة مباشرة لهذا التنظيم الناتج؛ ومن ثم فإنه يعتمد على هذا التركيب العصبي في استمرار وجوده.
النتائج الضمنية للنظرية الانبثاقية : من المفيد أن نناقش بعض نتائج النظرية الانبثاقية وتشعباتها. أولى هذه النتائج هي أنه لا يوجد على الأرجح واحد من المدافعين عن هذه النظرية، يقول إن هذا المستوى الجديد للتنظيم العصبي قد ظهر بقصد إتاحة ظهور الذهن في الكون. فالكون يعد نتيجة للتنظيم، لا سببا له. ومن الواضح أن هذا يؤدي إلى الربط بين نظرية الانبثاق وبين النظرية الطبيعية
Naturalistic
إلى العالم، بل إن هذه النظرية هي الأثيرة لدى القائل بالمذهب الطبيعي، ما دامت تذهب إلى أنها تقدم تفسيرا طبيعيا بحتا لتلك المشكلة التي يعدها أصحاب المذاهب الآلية والمادية والطبيعية مشكلة حساسة بحق - وأعني بها: كيف دخل الذهن إلى المجال الكوني؟ وهناك نتيجة ثانية، لنظرية الانبثاق، هي أنها توحي بميل إلى نظرية «الظاهرة الثانوية»، وقد يصبح هذا الميل من آن لآخر أكثر من مجرد الإيحاء. فكثير من أنصار هذه النظرية يعترفون بأنه إذا كان الذهن قد ظهر متأخرا في التاريخ التطوري، ولم يكن ظهوره إلا نتيجة لازدياد التعقد والتخصص الوظيفي في الجهاز العصبي، فإن من الواضح نتيجة لذلك أن أهميته السببية ليست كبيرة جدا . ومثل هذا الاعتراف يعود بنا مرة أخرى إلى نظرية «الظاهرة الثانوية»، ويظل علينا أن نواجه الاعتراضات التي أثيرت في وجه هذه النظرية. ومع ذلك فإن أولئك المفكرين الذين يؤيدون نظرية الانبثاق يكونون عادة ميالين إلى نوع من مذهب التأثير المتبادل. فمهما يكن من اعتماد الذهن في وجوده على مستوى جديد من التكامل العصبي، فسيظل من الممكن أن ينظر إليه على أنه يؤثر في الجسم؛ ذلك لأن اعتماد أصله على غيره ليس دليلا على عجزه من ناحية السببية. ومن جهة أخرى فهناك أنصار لنظرية الانبثاق يفضلون الفرض المادي، ويذهبون إلى أن نتيجة النمو التطوري للجهاز العصبي لا يمكن، على أحسن الفروض، أن تكون إلا مجموعة جديدة من ردود الأفعال والوظائف الجسمية الأخرى.
وهكذا يتضح لنا أن نظرية الانبثاق ليست وجهة نظر في طبيعة الذهن بقدر ما هي تفسير لأصله. وعلى هذا الأساس، فمن الممكن أن ينطبق عليها الوصف الذي قيل عن فلسفة حديثة مشهورة؛ فهي أشبه بممر تطل على جانبيه أبواب متعددة؛ إذ إن في استطاعة الأفراد الذين ينتمون إلى مدارس فرعية متباينة داخل إطار المذهب الطبيعي أن ينتقلوا إلى حجراتهم الخاصة، عبر هذا الممر الواحد. ومع ذلك فهناك شيء ينبغي أن نكون على يقين منه، فليس من المحتمل أن نجد مثاليا واحدا يتجول خلال ممر الانبثاق هذا. ذلك لأنه، وإن يكن من الممكن منطقيا أن نقول بأن أذهاننا البشرية الفردية؛ أعني الذهن المتناهي دون أي تفخيم - قد انبثقت بالطريقة التي وصفناها الآن، فإن المثالي يضطر إلى القول بأن الانبثاق لم يكن إلا الوسيلة التي تدخل بها «الذهن» الكوني الشامل في العالم الجسمي. ذلك لأن المثالية لا تستطيع أن تؤمن بأن هذا الظهور المتأخر للذهن في العملة التطورية هو أول ظهور «للذهن» الشامل في الكون. وحتى لو أثبت البحث البيولوجي يوما ما إن فرض الانبثاق قد أصبح بمنأى عن الشك، فإن المثالي يستطيع مع ذلك أن يظل يعتقد (ويكاد يكون من المؤكد أنه سيظل يعتقد) بأن الانبثاق لم يكن إلا الأداة أو الاستراتيجية التي حقق بها «الذهن» الشامل ذاته في العالم العضوي. فهو سيقول، تمشيا مع نظرته العامة إلى العالم ، إن الانبثاق ليس إلا مفهوما منهجيا، وليس مفهوما كونيا (كسمولوجيا)، فقد يكون في استطاعة النظرية أن تنبئنا بالطريقة التي ظهر بها الذهن، ولكنها لا يمكن أن تنبئنا بسبب حدوث ذلك ولا بالعلاقة بين الذهن وبين الواقع.
تلخيص : قد يكون من المستحسن أن نتريث ونلقي نظرة إلى الوراء على الأرض التي استكشفناها في هذا الفصل؛ إذ إن من المعترف به أن مشكلات الذهن من أصعب المشكلات في الفلسفة.
فقد بدأنا بإيضاح الخلط الشائع بين «المخ» و«الذهن»، وبينا أن الأول جزء من العالم المادي وله كل الخصائص التي يتصف بها أي موضوع مادي، على أن الذهن يبدو محتاجا إلى مقومات خاصة تنطبق عليه وحده، وبعد ذلك عرضنا الرأي التقليدي أو الجوهري في الذهن، وهو الرأي الذي يعد جوهرا روحيا فريدا له وجود مستقل ولا يتوقف وجوده بأية حال على علاقاته (بالجسم أو بالعالم الخارجي). وقد لاحظنا كيف أن هذه النظرة إلى الذهن تؤدي بسهولة إلى الثنائية أو المثالية، فضلا عن الاعتقاد بأولوية العالم الروحي وخلود النفس.
ثم أشرنا بعد ذلك إلى نقد هيوم لهذه النظرية الجوهرية، وهو نقد مبني على نظرة تجريبية خالصة إلى المشكلة، ولا يجد أساسا تجريبيا للاعتقاد بوجود جوهر روحي مستقل. وجاء بعد ذلك رد فعل كانت على هجوم هيوم الثوري هذا على الرأي التقليدي، ولاحظنا كيف صاغ المفكر الألماني العظيم مذهبا وسطا يترك مجالا كاملا للعنصر الذهني القبلي أو الأولي
A Priori
وللعنصر الذهني المستمد من الحواس.
وقد حللنا بعد ذلك الرأي المادي، الذي يناقض تماما النظرة إلى الذهن على أنه روحي. وفي هذا الصدد أكدنا بوجه خاص النقص الواضح للموقف، المتطرف لدى الماديين الأوائل، على الأقل، وهم المفكرون الذين اتهمهم الكثيرون «بمغالطة الرد»؛ أعني إرجاع الذهن إلى «مجرد» مادة ولكن بشكل آخر. ومن ذلك انتقلنا إلى وجهة نظر إلى الذهن، محببة جدا إلى قلوب علماء النفس، تؤكد التعريف الإجرائي
Operational
أو الوظيفي للذهن. هذه النظرية تقول إن الذهن لا ينبغي أن يوصف إلا من خلال ما يفعله - أي كيف يؤدي عمله - وتذهب إلى أن أية محاولة للنفاذ من وراء العمليات الذهنية إلى كشف طبيعة «الذهن في ذاته» ينبغي التخلي عنها على أنها عقيمة غير ضرورية.
وقد حللنا في النصف الأخير من الفصل مختلف حلول مشكلة الذهن والجسم. فعرضنا أولا رأي الموقف الطبيعي، وهو فكرة التأثير المتبادل، التي تبشرنا بالكثير، ولكنها تثير أمامنا بالفعل مشكلات جديدة تبلغ من الكثرة حدا جعل الكثير من المفكرين يرفضونها. وأوضحنا الجهد اليائس الذي يبذله «مذهب التوازي» لتجنب المشكلات المتصلة بأية نظرية في التأثير المتبادل، كما بينا الأسباب القوية التي دعت إلى انتشار رفض هذا المذهب. وبحثنا بعد ذلك نظرية «الظاهرة الثانوية» (التي كانت مفضلة لدى علماء القرن التاسع عشر وفلاسفته الماديين)، وهي النظرية التي تضفي على الذهن وجودا حقيقيا، ولكنه وجود ثانوي فحسب، على حين أنها تنكر عليه الفاعلية السببية أو الدلالة الكونية.
وتلا ذلك عرض سريع لمحاولتي نظرية «الوجهين» ونظرية «شمول النفس» في حل هذه المشكلة، إذ إن النواقص الواضحة لهاتين النظريتين جعلت من غير الضروري تخصيص وقت طويل لهما. وأخيرا انتقلنا إلى النظرية الانبثاقية في الذهن، وهي النظرية التي تبدو اليوم أفضل إجابة ممكنة على مشكلة الذهن والجسم القديمة العهد. وقد أشرنا إلى تفضيل العلماء المعاصرين لها في الوقت الراهن. ولكنا لاحظنا أيضا أنها لا ترضي أفرادا كثيرين في مجال الفلسفة؛ إذ إنها لا تنبئنا إلا بطريقة ظهور الذهن، ولا تقول إلا القليل عن طبيعته أو عن مكانته في النظام العام للأشياء.
وأغلب الظن أن كثيرا من القراء سيخيب أملهم لنتائج العرض الذي قدمناه للذهن، ما دام من الواضح أنه لا توجد وجهة نظر واضحة المعالم، أو رأي للأغلبية، يستطيع الطالب أن يأخذ به بأكمله على أنه رأيه الخاص. بدلا من ذلك نصادف في هذه الحالة، كما في حالة جميع المشكلات الفلسفية الكبرى، مواقف متباينة، يتناقض الكثير منها بعضه مع بعض، ولا يبدو أحدها كافيا تماما. على أن هذه نتيجة لا مفر منها، ولا سيما في كتاب من هذا النوع، يهدف إلى أن يقدم للقارئ أنواع الفلسفة ومشكلاتها، لا إلى أن يفرض عليه أي نمط معين أو أية مجموعة جاهزة من الإجابات. فما يهمنا قبل كل شيء هو أن نزود الطلاب حديثي العهد بالفلسفة بالمواد الخام التي يبنون منها نظرتهم الخاصة إلى العالم؛ إذ إن أي موقف فلسفي إذا حكمنا عليه حكما نهائيا فلن تكون له قيمة إلا بقدر ما يكون موقفا خاصا بنا.
الفصل السابع
الحقيقة: مشكلة بيلاطس - ومشكلتنا
من أكثر اللحظات درامية - ومن أقربها قطعا إلى الفلسفة - في قصة المسيح في العهد الجديد، تلك التي اقتيد فيها المسيح أمام بيلاطس، الحاكم الروماني لجوديا، لكي يحقق معه. ففي خلال المحادثة التي دارت بين المحقق وبين المتهم، يقول بيلاطس: «أملك أنت إذن؟» فيكون الرد هو تلك العبارة المشهورة: «إنما كانت الغاية التي من أجلها ولدت، والغرض الذي من أجله أتيت إلى العالم، هو أن أكون على الحقيقة شاهدا. وإن كل من كان من أهل الحقيقة ليصغي إلى ما أقول». أما رد بيلاطس فكان أشهر حتى من ذلك. فقد تساءل: «ما الحقيقة»، وبذلك كشف عن موقف فلسفي معين ما زال إلى اليوم قائما كما كان منذ عشرين قرنا - بل ربما كان اليوم أكثر شيوعا مما كان من قبل.
على أن هذا ليس معناه أن المحقق الروماني قد أدرك كل النتائج الضمنية التي ينطوي عليها سؤاله الشامل. كما أن من غير المحتمل أن يكون قد تنبأ بأنه سيحقق لنفسه خلودا مريبا في تاريخ الفكر البشري بتساؤله هذا السؤال. ومع ذلك فقد كشف عن نوع من نزعة الشك العنيدة، التي حظيت باحترام الفلاسفة المحدثين. وإذا كان من الصعب على من تشبعوا بالتعاليم المسيحية أن ينظروا إلى بيلاطس دون تحامل. فمن الواجب أن نتذكر أن عصره كان عصر غليان اجتماعي. فقد كان في فلسطين في ذلك الوقت كثير من المصلحين والتقدميين والأنبياء، كلهم ينادون «بالحقيقة». فليس من المستغرب إذن أنه قد سئم تكرار اللفظ بكل هذه السهولة وعدم الاكتراث؛ إذ إنه قد شعر بأنه ليس كل شاهد على الحقيقة يستطيع أن يروي نفس القصة، وكان من الطبيعي أن يتساءل عما تكونه الحقيقة بالضبط. وقد يشعر المسيحيون بأنه كان أعمى إذ لم يستطع أن يرى الحقيقة عندما ظهرت له في شخص المسيح، غير أن موقفه الساخر كان هو الموقف الطبيعي لرجل في مثل مركزه.
كذلك فإن هذا هو الموقف الطبيعي لأي شخص في مركز الفيلسوف المحترف؛ إذ إنه بدوره قد صادف أنصارا عديدين لمذاهب متعددة، كلهم يدعون أن لديهم «الحقيقة»، وكلهم تقريبا يدهشون حين يجدون أي شخص يتحدى ادعاءهم بسؤال بيلاطس الملح. ذلك لأن قرارات الفيلسوف قد أوصلته إلى فهم كثير من المذاهب، التي تدعي كلها أنها مبنية على «الحقيقة»، بل إن القليل منها هو الذي يتواضع فيعترف بأنه قد لا تكون هناك إلا حقيقة جزئية فحسب. فالفيلسوف إذن قد وصل إلى نقطة يكون له فيها كل الحق في أن يتساءل: «ما الحقيقة؟» ولكن من المؤسف أن موقف بيلاطس وموقف الفيلسوف ينبغي أن يفترقا عند هذه النقطة: فليس في وسع الفيلسوف أن يستبعد المشكلة بهزة من كتفه، أو بتسليم من هم شهود على الحقيقة إلى أعدائهم ليعدموهم، وإنما ينبغي له مواجهة السؤال الملح، وبذل كل جهد لحله.
تعقد المشكلة : تعد مشكلة الحقيقة من أعقد المشكلات التي يتعين على الفلسفة بحثها. ذلك لأنه ليست هناك كثرة من «الحقائق» فحسب، بل إن الناس نادرا ما يعنون نفس الشيء عندما يصفون عبارة بأنها «حقيقة». وإن تحليلا بسيطا لكفيل بأن يبين لنا أن كثيرا من تلك الحجج التي تنتهي بصياح أحد الفريقين أو كليهما: «كذاب!» إنما تصل إلى هذه النهاية المؤسفة، لا بسبب تزييف متعمد أو حتى خطأ غير مقصود، بل لأن الخلاف الأساسي يكمن في أن أحد الفريقين يستخدم نظرية أو معيارا معينا للحقيقة، في حين يرتكز الآخر على مفهوم مختلف كل الاختلاف. فلا غرو إذن ألا يشاهد كل من المتنازعين خصمه وجها لوجه، بل إنهما لا يتكلمان لغة واحدة، حتى وإن كانا يستخدمان نفس الألفاظ. ذلك لأن المعاني، لا الأصوات، هي التي تكون ماهية اللغة - وهو أمر لا نكاد نكون بحاجة إلى التنبيه إليه. فإذا قلت «حقيقي» وكان في ذهني معنى معين، وقلت أنت نفس اللفظ وكان في ذهنك معنى آخر، لكان في مواصلة الحديث مضيعة للوقت - ما لم نتمكن بالطبع من التوقف وتحليل خلافاتنا من أجل كشف أساس معقول للتفاهم يتيح مواصلة الحديث.
ولكي يفعل المرء ذلك فلا بد له من القيام بدور الفيلسوف. فمن المؤكد أننا عندما نتساءل جديا: «ما الحقيقة؟» نكون قد وضعنا أقدامنا في قطار الفكر النظري التأملي. وفي وسعنا أن نضيف إلى ذلك أننا إذا كنا جادين في هذا السؤال بحق، فلا بد أن نكون قد قضينا وقتا معينا في هذا القطار. ولكي نصل إلى نقطة نهاية تكون فيها محطة مريحة، فلن نجد الأمر نزهة ممتعة في عصر يوم من أيام الإجازة، أو سياحة عقلية مريحة هادئة، بل إننا سنجد الرحلة طويلة وشاقة. (1) النظرية الأولى: الحقيقة بوصفها تطابقا
رأينا في الفصل الأول الخاص بالمشكلات الرئيسية في الفلسفة أن هناك ثلاثة مفاهيم أساسية للحقيقة، تعرف عادة باسم «نظريات الحقيقة»: أول هذه المفاهيم هو ذلك الذي يقول به كل شخص، بلسانه على الأقل، وهو يمثل ما نعتقد عادة أننا نعنيه عندما نصف عبارة بأنها «حقيقة». تلك هي نظرية «التطابق
Correspondence » ومفادها أن العبارة (أو «القضية» أو «الحكم» حسب المصطلحات الفنية التي يفضلها الفلاسفة) تكون حقيقة إذا كانت تطابق واقعا موضوعيا. فإذا قلت: «إن الكتاب على المنضدة الموجودة في الحجرة المجاورة، كانت هذه العبارة حقيقة إذا كان الكتاب بالفعل موجودا في ذلك الموضع. وبعبارة أخرى، فإن الموضع الفعلي للكتاب واقعة، وإذا كانت عبارتي تطابق النظام الموضوعي للوجود، الذي تكون فيه للكتاب والمنضدة والحجرة المجاورة علاقات محددة بعضها ببعض، فعندئذ تكون العبارة صحيحة، فهي تصف موقفا واقعيا، ومن هنا كانت منطوية على حقيقة.
كل ذلك يبدو غاية في البساطة والوضوح ، على الرغم من بعض المصطلحات الفنية المبعثرة هنا وهناك. إذ يبدو أنه لا يمكن أن يكون هناك أي مأخذ على القول بأن كلماتي تكون «حقيقة» إذا كانت تصف الأشياء بدقة كما هي بالفعل، فكيف يمكن أن يكون هناك أي جدال حول موضوع كهذا؟ بل ما الذي يمكننا أن نعنيه «بالحقيقة» غير هذا؟ أليس المثل الأعلى لكل جملة إخبارية أن تصف الأشياء كما هي بالفعل، وبأدق الطرق الممكنة وأقربها إلى الواقع؟ أما الفيلسوف فيرد بقوله: إن هذا دون شك هو المثل الأعلى لكل عبارة صادقة. ولكن لا بد هنا من بحث نقطة صغيرة: فكيف نعرف أن عبارتنا الإخبارية المثالية قد فعلت ما يتعين عليها أن تفعله؟ وما وسيلة اختيار العبارات للتأكد من أنها تؤدي وظيفتها المفروضة؟ لو قلت إن عبارتي تعبر عن واقعة موضوعية وقلت أنت إنها لا تفعل ذلك، لعدنا معا من حيث بدأنا؛ إذ يكون كل منها عندئذ معرضا لأن يطلق عليه الآخر مرة أخرى اسم «الكذاب». وبعبارة أخرى، فما هي محكمة النقض والإبرام التي تبت في واقعية أية قضية؟
النطاق المحدود الذي تنطبق عليه النظرية : هناك صعوبة أخرى تواجهها نظرية التطابق هذه، التي تبدو بسيطة ظاهريا. فماذا تكون فائدتها في ميدان ليست فيه «وقائع»، بمعنى أشياء موجودة يمكن التحقق منها على نطاق شامل؟ مثال ذلك أن الشخص المؤمن يرى أن المعجزات المنسوبة إلى قديس أو نبي هي «واقعة»، على حين أن الشكاك يرى فيها أسطورة خرافية. أما الفيلسوف فيضطر هنا إلى الوقوف إلى جانب الشكاك، وإنكار واقعية المعجزات التي تواترت أنباؤها من العصور الماضية، وليس ذلك بالضرورة لأنها تبدو مناقضة للعلم الحديث، بل لأنه يشعر أن الأفضل الاحتفاظ بلفظ الواقع للأمور التي يمكن التحقق منها على نحو يقره الجميع. ولنتأمل مثالا آخر لعدم كفاية نظرية التطابق، مستمدا من ميدان الرياضيات. فمن الممكن تشييد نسق كامل للتفكير الرياضي ليست له علاقة وثيقة «بالموقف الطبيعي»، بل يمكن أن يكون متنافيا معه. وفي هذه الحالة لا يمكن أن يكون للفظ «الواقع » إلا معنى ضئيل. فتأكيد وجوب مطابقة القضايا الرياضية للأشياء كما هي، هو تأكيد ممتع، ما دامت الأشياء كما هي ، في ذاتها قد تعني في الرياضيات علاقات لا توجد إلا في ذهن الشخص الذي يصوغ النسق.
فأين يؤدي بنا هذا كله إذن؟ من الواضح أن نظرية التطابق، بدلا من أن تكون بمنأى عن الشك كما يعتقد معظم الناس، لا يمكن الاعتماد عليها إلا عندما تستخدم بدقة في مجالات معينة، بل إنه حتى في الحالات التي تنطبق فيها بالفعل على موقف ما، فلا بد أن تكون هناك وسيلة مكملة لإثبات أن عبارتنا القائلة «الكتاب على المنضدة الموجودة في الحجرة المجاورة» تمثل بالفعل واقعة أو تنطوي عليها. وبعبارة أخرى، فإن مشكلتنا الأولى هي إيجاد معايير إيجابية لتحديد الواقعية. وإلى أن نفعل ذلك، فسيظل الادعاء بأن هذا الشيء أو ذاك «واقعة» خلوا من المعنى. شأنه شأن الادعاء بأن هذا الشيء أو ذاك «حقيقة». والواقع أن كل من يعلن أنه يقدم إليك «الوقائع» لا يفعل ذلك بالضرورة. بل إن من المحتمل جدا ألا تكون لمحدثك هذا إلا فكرة شديدة الغموض عما تكونه الواقعة. وإنا لنسمع أحيانا عبارات «الوقائع الصلبة» أو «الوقائع الثابتة» أو «الوقائع الإيجابية» أو حتى «الوقائع المطلقة». والنتيجة الضمنية التي تنطوي عليها هذه الأوصاف صحيحة: ففي كثير جدا من الأحيان لا تكون الوقائع صلبة ولا ثابتة ولا إيجابية ولا مطلقة. وقد لا تكون هذه الوقائع في نظر الذهن التحليلي وقائع على الإطلاق، وإنما مجرد مسلمات أو مصادرات أو فروض أو نظريات أو ادعاءات من أنواع شتى، تعاني حالة شديدة من حالات التفكير المغرض. (2) التحقيق الحسي بوصفه معيارا للحقيقة
إن أهم وسيلة لإثبات العلاقة الواقعية بين العبارات وبين النظام الموضوعي للأشياء هي التحقيق الحسي. فإذا أمكن الاستعانة بحاسة أو أكثر لإثبات أن الأشياء على النحو الذي نقول إنها عليه، لأدى ذلك إلى أن تبدو صحة القضية في نظر معظمنا ثابتة بلا أي جدال. فلنفرض أنني قلت مرة أخرى إن «الكتاب» على المنضدة الموجودة في الحجرة المجاورة»، ثم دخلنا هذه الحجرة ورأينا أنه في المكان المحدد. عندئذ لا يمكن أن يكون هناك أي شك فيما إذا كانت هذه القضية صحيحة أم غير صحيحة. غير أن للفيلسوف مطالب أخرى ينبغي تحقيقها قبل أن نوافق جميعا على أن لدينا هنا مثلا لا شك فيه «للحقيقة». فما الذي نفعله مثلا عندما لا تتفق حاستان أو أكثر من حواسنا فيما يبلغاننا به، كما يحدث عندما تبدو العصا للعين ملتوية في الماء ولكنا نجدها عند اللمس مستقيمة، أو عندما تبدو المادة صلبة على حين أنها لا تكون كذلك، إننا قد جربنا جميعا تلك الخدع التي يمكن أن توقعنا فيها حواسنا، والواقع أن مختلف أنواع الأوهام أكثر شيوعا من أن تسمح لأي شخص بأن يؤكد أن التحقيق الحسي يكفي وحده في كل الأحوال لإثبات الواقعية الموضوعية.
الهلوسة : والأهم من ذلك من الوجهة الفلسفية تلك الظواهر التي يدركها عالم النفس تحت فئة «الهلوسة». ولفظ الهلوسة لفظ واسع، يشتمل على أنواع متعددة من «الرؤى» وحالات الوجد الديني، وحالات الغيبوبة. ففي حالة «الخداع
Illusion » تكون لدينا استجابة حسية فعلية لمؤثر خارجي أخطأته الحواس (أي أخطأت تفسيره) - أو بعبارة أخرى، تكون لدينا تجربة لها أساس في النظام الموضوعي الخارج عنا. أما في حالة الهلوسة فلا يوجد مصدر خارجي يسبب التجربة، وإنما تنشأ التجربة من أحوال في كياننا العضوي ذاته، كالإفراط في شرب الخمر، الذي يجعلنا نرى «أفيالا وردية» أو كالجوع الشديد الذي يسبب أنواعا من الرؤى ومن حالات الغيبوبة. وبينما الأفيال الوردية والثعابين القرمزية ليست لها أهمية ميتافيزيقية، فقد تكون لتجارب أخرى في الهلوسة مثل هذه الأهمية. مثال ذلك أن أشخاصا كثيرين يجدون قدرا كبيرا من «الحقيقة» في حالات النشوة الدينية عند مختلف القديسين أو حتى في تجاربهم الصوفية الخاصة، وهم يجدون في رؤى جان دارك والقديسة تريزا دليلا على وجود نظام خارق للطبيعة.
1
فإذا كان لدى شخص معين نوع من التجارب الصوفية الخاصة به، فمن المستحيل عادة زعزعة إيمانه بوجود عالم فوق الطبيعي أو موجود فوق الطبيعي. فهو يقول - بطريقة طبيعية تماما - أن الرؤية كانت بالنسبة إليه حقيقية شأنها شأن أية تجربة حسية. وهو يعلم أن الله موجود، أو أن الحقيقة النهائية «واحدة»، بنفس اليقين الذي يعلم به أنك أنت، الذي توجه إليه سؤالك موجود، ولنفس السبب بالضبط؛ فهو قد رأى كلا منكما، وأحس بحضوركما وربما سمع كلاما منكما. وهو لم يعد يستطيع الشك في الوجود الموضوعي والحقيقة الفعلية لما مر به في تجربته، أكثر مما يستطيع الشك في أية «واقعة» أخرى كشفتها له حواسه. فهو يعرف لأنه قد أدرك حسيا.
هنا يجد الفيلسوف نفسه في موقف حرج إلى أبعد حد. فالشك في الحقيقة الموضوعية «للوقائع» الصوفية يعني إلقاء ظل من الارتياب على قدر كبير من مضمون الإيمان الديني. ومن جهة أخرى فإن إعطاء هذه «الوقائع» نفس المكانة المعرفية التي نعطيها لموضوعات التجربة اليومية الشاملة يبدو أمرا مستحيلا. ذلك لأننا إذا فتحنا الباب على مصراعيه وسمحنا بدخول الرؤى الدينية إلى مجال الحقيقة الواقعة، لكان هناك دائما خطر اتساع هذا الباب لكل تجربة ذاتية، بحيث يكون لخيالات المجنون ذاتها نفس الحق في ادعاء الواقعية. وعلى العكس من ذلك، فإننا إذا استبعدنا من فئة الأمور الواقعية أية تجربة لا تصمد لاختيار العمومية (أعني أية تجربة لا يمكن أن يشارك فيها كل شخص) فعندئذ نكون قد أغلقنا الباب في وجه مجموعة من أروع تبصرات الجنس البشري. فمن الجائز أن جان دارك كانت مصابة بالرؤيا الذهنية، ومع ذلك يظل من الصحيح أن القديس ميخائيل كان بالنسبة إليها حقيقيا مثلما كانت أغنامها التي ترعاها، وأنها قد تخلت عن رعي الأغنام بناء على تعليماته ومضت لتنقذ فرنسا.
وهنا نعود مرة أخرى إلى سؤالنا: إلى أي مدى يمكن الاعتماد على التحقيق الحسي بوصفه دليلا على صدق أية عبارة؟
الإحساس في مقابل الموقف الطبيعي : هناك سبب آخر يدعونا إلى الامتناع عن وضع ثقة لا حد لها في التحقيق الحسي بوصفه دليلا على التطابق بين أفكارنا وبين الواقع. وهذا السبب هو الخلط الذي يحدث كثيرا بين التحقيق الحسي بمعناه الصحيح وبين مقابلة المزيف، المسمى «بالموقف الطبيعي». ويقدم العلم الحديث إلينا مثلا جيدا لهذا الخلط. «فالموقف الطبيعي» مثلا ينبئنا بأن قرص المنضدة المصنوعة من خشب البلوط صلب؛ لأن من المؤكد أنه يقاوم حاسة اللمس لدينا مقاومة كبيرة. ومع ذلك فإن الفيزياء الحديثة تصف قرص المنضدة هذا نفسه بأنه أبعد ما يكون عن الصلابة. فهو بدلا من ذلك كتلة من الذرات، تتألف بدورها من نواة مركزية من الطاقة الكهربية تحيط به شحنة سلبية واحدة أو أكثر تسمى بالإلكترونات، التي تتحرك في مداراتها بسرعة هائلة. فلا البروتون المركزي ولا الإلكترونات المحيطة به تعد «صلبة» بأي معنى يقول به الموقف الطبيعي، على حين أن المكان الذي يفصل بين النواة وبين الشحنات المحيطة به قد يكون مشابها نسبيا للمكان الذي يفصل الكواكب من الشمس في مجموعتنا الشمسية.
وعلى الرغم من أن قدرا كبيرا من هذا النظام الذي يظل تأليفا نظريا، فإن هناك من «الأدلة التجريبية» ما يكفي لإثبات أنه على الأرجح أكثر من مجرد نظرية. ومع ذلك فإن «الأدلة التجريبية» تعني التحقيق الحسي، وبذلك تكون لدينا مفارقة واضحة من وجهة النظر الإبستمولوجية (المعرفية) ذلك لأن لدينا هنا شهادة حسية أو أولية (هي شهادة «الموقف الطبيعي») على أن قرص المنضدة صلب، ولدينا أيضا شهادة حسية تجريبية أو غير مباشرة على أن قرص المنضدة غير صلب، فما هو إذن مدى إمكان اعتمادنا على التحقيق الحسي بوصفه دليلا على «الحقيقة»؟
ولا يمكن الإجابة عن هذا السؤال في عبارة واحدة نعمل فيها حسابا لآراء كل مدرسة فلسفية؛ ذلك لأن إجابتنا تتوقف هنا، كما تتوقف في حالة الكثير من المشكلات الفلسفية، على المدرسة الفكرية التي ننتمي إليها. ومع ذلك فإننا نستطيع أن نقول بوجه عام إن لشهادة الحواس أهمية كبرى بوصفها واحدا من معايير الحقيقة، ولكن من المستحيل الاعتماد عليها بوصفها المعيار الأوحد. وقد أبدت بعض المدارس اهتماما كبيرا بشهادة الحواس، مؤكدة أنها، على الرغم من نواقصها المعترف بها، تظل أفضل وسيلة منفردة لتحديد صحة عباراتنا أو بطلانها. ومن جهة أخرى فإن صاحب المذهب العقلي لا يقدر التجربة الحسية إلا بوصفها معيارا ثانويا للحقيقة، ولا يبدي بها ثقة كبيرة بوصفها دليلا مستقلا، مكتفيا بذاته، على الحقيقة، وقد لا يثق بها في هذا الصدد على الإطلاق. ومع ذلك فإن المدارس كلها تتفق في النظر إليها على أنها واحد من معايير الحقيقة، ولكن التحديد الدقيق لمكانتها بوصفها معيارا كهذا هو مسألة غير هينة. (3) ردود الأفعال المتعارضة للمذهبين الطبيعي والمثالي
يتخذ المذهبان المثالي والطبيعي - كما قد يتوقع المرء - موقفين متعارضين من هذه المسألة. فالمثالية، بتأكيدها للذهن وأوجه نشاطه العقلية، قد أبدت دائما اهتماما بأوجه الفكر والتجربة التي تنطوي على استدلال عقلي وتصور ذهني. ونتيجة ذلك، فقد اتجهت هذه المدرسة إلى عدم الثقة بالحواس بوصفها مصادر للمعرفة ووسائل لكشف الحقيقة. ذلك لأن كل ما تنقله إلينا الحواس هو مظهر الأشياء، أو الظواهر؛ ومن هنا لم تكن لإحساساتنا علاقة ضرورية بالواقع الكامن من ورائها، بل إنها كثيرا ما تكون حائلا دون الاتصال بالواقع؛ لأن ما تنقله إلينا قد يكون «مثيرا» إلى حد أنه يصرف أنظارنا عن الواقع الحقيقي، أو مشوها إلى حد أنه يضللنا كل التضليل. وكما قال أفلاطون، فنحن سجناء أجسامنا وأجهزتها الحسية. ولما كنا معتمدين تماما على هذا الجهاز في معرفتنا للعالم الخارجي، فإنا لا نعرف إلا بقدر ما يستطيع الذهن أن يقدم إلينا؛ أي إننا لا نعرف إلا الظواهر أو المظاهر. فالمثالي يرى أنه لولا عقلنا، الذي يتمكن من اختراق حاجز الإحساس المضطرب المختلط والنفاذ إلى الواقع الكامن من ورائه، لظللنا منعزلين أبديا عن أية معرفة أو حقيقة نهائية. فوظيفة الذهن الرئيسية عند المثالي هي تنظيم إحساساتنا، «وغربلتها» من أجل استخلاص ما فيها من «قمح» أنطولوجي، والانتقال من عملية التجريد هذه، عن طريق التعميم ووضع التصورات، إلى صياغة صورة «حقيقية» للواقع.
ومن هنا لم يكن من المستغرب أن تتجه المثالية إلى النظر إلى «الحقيقة» على أنها نتيجة صراع دائم بين الإحساس والعقل - ينتصر فيه العقل دائما قبل أن تظهر «الحقيقة». هذه الثنائية التي يوضع فيها العقل في مقابل الحس (والأهم من ذلك: الذهني في مقابل المادي) موجودة ضمنا في كل مثالية ميتافيزيقية. وهي تظل أحيانا ضمنية فحسب، ولكن الأكثر شيوعا أن يظهر التقابل الأساسي بوضوح تام، كما هي الحال في المذهب الأفلاطوني، الذي يغدو فيه هذا التقابل أساسا لمذهب ميتافيزيقي معرفي أخلاقي جمالي ضخم، يبدو فيه الفيلسوف وكأنه قد أصبح بالفعل «شاهدا على كل زمان وكل وجود».
المذهب الطبيعي : يرى المذهب أن عكس هذا هو الصحيح: فالتجربة الحسية على الرغم من نواقصها المعترف بها، هي وسيلة للاتصال بالواقع أفضل بكثير من عمليات الذهن التجريدية التصورية، التي يبدي المثالي كل هذا الإعجاب بها. ومع ذلك فإن السذاجة لا تبلغ بأي واحد من أنصار المذهب الطبيعي حد القول بأن الإحساس البحت يستطيع بذاته أن يعطينا قدرا كبيرا من المعرفة أو «الحقيقة». فهو يعترف بأن الذهن ينبغي أن ينظم معطياته الحسية قبل أن يتسنى لها أن تصبح قابلة للفهم، وهو يوافق على عبارة كانت المشهورة، القائلة إن «الإدراكات (أي الإحساسات) بلا تصورات عمياء». ومع ذلك فإن القائل بالمذهب الطبيعي يظل في صميمه ذا نزعة تجريبية؛ بحيث يجعل من التجربة سلطة نهائية - والمقصود بالتجربة بالطبع، التجربة الحسية. فهو يرى أن الأفكار والمفاهيم وكل نواتج النشاط الفعلي ينبغي أن يحكم عليها في النهاية بمعيار التجربة الصارم. وهكذا يشك صاحب المذهب الطبيعي دائما في المذاهب المثالية والعقلية، بما فيها من اتجاه إلى التركيز على العقل على حساب التجربة الحسية. وهو يشعر بأن الدليل التجريبي هو الرقيب الأوحد على قدرة الإنسان الهائلة في التخيل والحكم والتبرير. ولو ارتكبنا، في سعينا إلى الحقيقة أو الواقع، خطأ وضع الأدلة التجريبية في مكانة ثانوية، فما الذي يمكن أن يحول عندئذ بين العقل، بما لديه من قدرة على أن يجعل الأشياء تبدو على نحو ما نريد لها، وبين تقديم صورة مزيفة ولدتها الأحلام للواقع؟ إن المعطيات الحسية ينبغي أن تكون هي محكمة النقض والإبرام. فإذا لم تكن هذه المعطيات متفقة مع «نظرتنا العقلية إلى الأمور»، فعندئذ يكون من واجبنا تغيير هذه النظرة، لا استبعاد هذه المعطيات على أنها «مظاهر». (4) النظرية الثانية: الحقيقة بوصفها ترابطا
وهكذا يتضح لنا أن نظرية التطابق أكثر تلاؤما مع نظرة المذهب الطبيعي إلى العالم مما هي مع النظرة المثالية. أما النظرية الرئيسية الثانية فتلائم الموقف المثالي تماما. تلك هي نظرية الترابط
Coherence ، ومفادها باختصار أن العبارة أو القضية تكون صحيحة إذا كانت تنسجم مع حقائق أخرى مقررة أو مع معرفتنا ككل. وأفضل مثل لذلك هو ميدان الرياضيات. ففي هندسة إقليدس مثلا نجد نسقا مستمدا بالاستنباط، خطوة فخطوة، من البديهيات والمصادرات الأصلية. وما إن تؤخذ هذه البديهيات والمسلمات على أنها صحيحة، حتى يلزم عنها بقية النسق منطقيا، وعلى نحو يكاد يكون محتوما. فنحن في هذه الحالة ننتقل في سلسلة لا تنقطع، قوامها استدلال غاية في الدقة، من البديهيات الأصلية إلى عبارة «وهو المطلوب إثباته» التي يختم بها البرهان على النظرية الهندسية. وبالوصول إلى النتيجة تكون لدينا سلسلة تامة التكامل من التفكير المنطقي، تترابط بدورها مع نسق كامل من الاستدلال.
في مثل هذه الأنواع من التفكير الاستنباطي، يكون من الواضح أن الحقيقة والبطلان يتحددان تبعا لكون القضية المطلوب بحثها تنسجم مع النسق الذي يفترض أنها تكون جزءا منه. وهنا يصبح الترابط هو المعيار الوحيد للحقيقة: فالعبارة لا تكون باطلة إلا إذا لم تتكامل مع مجموع معرفتنا أو اعتقادنا.
وفي حالة هذه النظرية بدورها نجد أن أول رد فعل لنا على مثل هذا المعيار هو - كما كان في حالة نظرية التطابق - رد فعل ملائم على الأرجح؛ إذ لا يبدو هناك اعتراض واضح على النظرية. وفضلا عن ذلك فإن الإحكام المنطقي، بوصفه مثلا أعلى. يمتدح أمامنا إلى حد يجعلنا نبدي أشد الإعجاب بهذا الهدف. أعني هدف النسق الفكري التام الإحكام، ولا سيما إذا كان هذا الهدف طموحا إلى حد يشمل معه كل معرفتنا وتجربتنا، كما في حالة الميتافيزيقا. غير أن الفيلسوف (عندما يكون تجريبيا) يسارع عادة إلى القول بأن جنة نظرية المعرفة هذه تربط فيها حية رقطاء. هذه الحية هي أن نظرية الترابط، وكذلك كل النسق والاستنباطية المبينة عليها، لا تنطوي على «حقيقة» على الإطلاق، إذا شئنا الدقة. فكل ما لدينا في هذه الحالة هو اتساق منطقي
Logical Consistency
الذي يستحسن أن يسمى بالصواب
Validity ، والذي لا تربطه علاقة ضرورية بالواقع، أو بالعالم الموضوعي أو بالنظام الخارجي للطبيعة. فكل ما لدينا هنا نوع من النظام والترابط المنطقي، قادر تماما على أن يقوم في فراغ بالنسبة إلى الواقع الموضوعي.
الفرق بين «الحقيقة» و«الصواب»:
لا شك أن الطلاب الذين درسوا مقررا دراسيا في المنطق، يذكرون بعض النتائج الغريبة التي انتهت إليها أقيستهم، والتي كانت مع ذلك صائبة تماما بالنسبة إلى قواعد التفكير المنطقي. ففي محاضرات المنطق وحدها يميز المرء عادة تمييزا دقيقا بين «الصواب» و«الحقيقة المطابقة للواقع». فلنتأمل مثلا مستمدا من منطقة الحدود الواقعة بين الفلسفة واللاهوت. فالمؤمن بمذهب الألوهية يشيد مذهبه على مسلمات معينة، كوجود الله وعلمه المحيط ومقدرته الشاملة، وخلود النفس، وحرية الإرادة، إلخ ... هذه المسلمات هي المقدمات التي يبدأ منها استدلاله. فهو يبدأ بهذه المسلمات، ويصوغ منها بالاستنباط بناء فكريا ضخما، يحوي في داخله كل التجربة البشرية، ومصير الفرد والجنس البشري معا. أي إن هذا المذهب الألوهي يؤدي إلى نتائج معينة، يبدو أنها تلزم منطقيا وحتميا من المسلمات أو المقدمات التي بدأت بها السلسلة الاستدلالية. غير أن هذه النتائج لا تلزم منطقيا إلا من هذه المسلمات الأصلية بعينها. فلو بدأنا من مجموعة أخرى من المسلمات (مثل عدم وجود الله، وفناء النفس، والحتمية الكونية، إلخ) فإننا سنصل بنفس الضرورة المنطقية المحتومة إلى مجموعة مختلفة تماما من النتائج. وفي هذه الحالة تغدو كل من المجموعتين صائبة، ومرتبطة بالمقدمات التي بدأنا بها (بل لازمة عنها). ولكن أيهما هي «الحقيقة» - إن كانت إحداهما تتصف بهذه الصفة، وماذا يكون المقصود «بالحقيقي» في هذه الحالة؟ إذا كنا نفكر على أساس نظرية التطابق، فمن الواضح عندئذ أن مجموعة النتائج التي تعبر عن وقائع الوجود الموضوعي على أفضل نحو هي الأكثر حقيقة. ولكن عندما تكون هذه النتائج متعلقة بقضايا مثل «الله خير»، و«الكون روح شاملة»، و«الكون آلة ضخمة لا روح فيها»، وما شابه ذلك، فأية قيمة يمكن أن تكون لنظرية التطابق في هذه الحالة؟ وبالاختصار، كيف نستطيع أن نثبت، على أي نحو، التطابق بين أمثال هذه العبارات وبين الواقع الموضوعي؟ أو بعبارة أخرى - وهذا هو السؤال الأهم - ما قوام «الواقع» في هذا المجال؟ وإذا اتبعنا الاقتراح الذي قلنا به من قبل، واقتصرنا على استخدام لفظ «الواقع» للدلالة على تلك التجارب التي يمكن تحقيقها على نطاق شامل؛ أعني تلك التي يمكن أن تدخل في تجربة كل الملاحظين - فهل يكون من الممكن أن نتحدث عن «وقائع» في صدد الفلسفة أو الدين على الإطلاق؟ (5) حدود الصواب المنطقي
إن أفضل وسيلة لإيضاح العلاقة بين «الصواب» و«الحقيقة» هي شرحها بضرب أمثلة من الاستدلال المنطقي والرياضي. فمثلا، إذا كانت لدينا معادلة مثل س = ص، تليها معادلة ص = ع، فعندئذ يكون من الصواب أن نستنتج من ذلك أن س = ع. غير أننا نصل إلى هذه النتيجة دون أية معرفة لمعنى الرموز أو قيمتها؛ لذلك لا تكون لدينا معرفة متعلقة «بالحقيقة المطابقة للواقع» في نتيجتنا هذه؛ لأننا لا نعرف أي معنى واقعي للمعادلة س = ع.
2
وكل ما نستطيع أن نتحقق منه هو أنه إذا كانت لدينا المقدمتان س = ص وص = ع. فإننا، نستطيع أن نستخلص منهما نتيجة صائبة هي أن س = ع. ولنتأمل مثلا آخر مستمدا من مجال المنطق الاستنباطي أو الصوري، هو القياس الآتي:
كل أشجار البلوط لها لحاء خشن
هذه الشجرة شجرة بلوط
إذن هذه الشجرة لها لحاء خشن
من الواضح أن هذه النتيجة صائبة، ولكنها لا تكون حقيقة مطابقة للواقع إلا إذا كانت المقدمتان بدورهما مطابقتين للواقع. فإذا استطاع شخص أن يثبت أنه ليس لكل أشجار البلوط لحاء خشن، أو إذا استطعنا أن ننجح في تحدي «الواقعة» القائلة إن نفس هذه الشجرة التي نبحثها هي شجرة بلوط، عندئذ لا يمكن أن تكون نتائج القياس صحيحة؛ أي مطابقة للواقع أو للنظام الموضوعي للطبيعي، مهما تكن سلامة القياس وصوابه ، من حيث هو سلسلة استدلالية. ومن جهة أخرى، فلنقم بتغيير طفيف في هذا القياس بحيث يكون نصفه:
كل أشجار البلوط لها لحاء خشن
هذه الشجرة لها لحاء خشن
إذن هذه شجرة بلوط
مثل هذا القياس يتضح لنا للوهلة الأولى أنه غير صائب؛ إذ لا يوجد في المقدمات ما يؤكد أن أشجار البلوط وحدها هي التي لها لحاء خشن. فالاستدلال غير قاطع؛ إذ إن كل ما نستطيع استنتاجه من هاتين المقدمتين هو: «إذن هذه الشجرة قد تكون شجرة بلوط». ولكن لا سبيل لنا إلى أن نستخلص منها تأكيدا قاطعا هو: «إذن هذه شجرة بلوط». وستظل النتيجة على صورتها هذه غير صائبة، حتى ولو تصادف أن كانت مطابقة للواقع. وبعبارة أخرى، فلو تصادف أن كانت الشجرة بالفعل شجرة بلوط، فإنها تكون كذلك بالمصادفة، لا بسبب أية ضرورة منطقية منبعثة عن المقدمات الموجودة.
هذا هو الفارق بين «الحقيقة المطابقة للواقع» وبين «الصواب» وكما قلنا من قبل، فإن النظرية التي تجعل من الحقيقة ترابطا تمتاز بالبساطة، من حيث إنها لا تهتم إلا بالصواب والاتساق. فإذا ما ترابط نسق فكري منطقيا لم نكن نحتاج إلى شيء آخر من أجل قبوله، تبعا لهذه النظرية. وإنها لميزة غير قليلة أن يكون لدينا مثل هذا المعيار البسيط، لا سيما وأن من الممكن عادة (كما أوضحنا من قبل) أن نصل إلى اتفاق حول ما هو متسق وما هو غير متسق مع أي نسق في مجموعه. ولكن من سوء الحظ أن نقاط الضعف الواضحة في هذه النظرية تفوق مزاياها بكثير. ومن ثم فهي تستخدم معيارا أوحد للحقيقة في ميادين قليلة جدا، ولا سيما في الرياضيات.
نقاط الضعف الرئيسية في نظرية الترابط : أوضحنا في الفقرات السابقة، بطريقة ضمنية، أبرز نقاط الضعف في هذه النظرية؛ ذلك لأنه لو لم يكن لدينا هذا الشرط المقيد، وهو أن تتفق نتائجنا مع الواقع الموضوعي على نحو قابل للإثبات، لغدا من الممكن عندئذ تشييد أروع وأعقد البناءات الفكرية على مقدمات لا يزكيها شيء سوى كونها تتفق مع مصالحنا الأنانية (كما في مذاهب الأيديولوجية السياسية أو الاقتصادية)، أو كونها تتفق مع تطلعنا إلى نظرة إلى العالم تعطينا ثقة وأملا. والخطر الأساسي هو أن الذهن غير النقدي قد يعجب بالبناء في صورته النهائية، وبنتائجه (ولا سيما إذا كانت ترضي رغبته في الاطمئنان العاطفي أو التبرير الأخلاقي) إلى حد يؤدي به إلى إغفال ملاحظة الأسس التي شيد عليها البناء بأكمله. وكثرا ما يحدث، عندما يقوم مفكر تحليلي بكشف هذه الأسس، أن يتغير موقف الذهن الذي كان قبل ذلك يقبل النسق بأكمله، فيتحول إلى رفض الكل لأنه لم يعد يقبل المقدمات الأصلية. ولكن الأكثر من ذلك حدوثا أن ينقب هذا الذهن من حوله ويحاول أن يضع أسسا خاصة به تتألف من مقدمات مقبولة أكثر من الأولى، ثم ينقل البناء الفكري بأكمله سليما فوق الأساس الجديد. وقد يحدث أحيانا أن يدرك ذهن أن المقدمات الأصلية مسلمات غير مقبولة، ويعترف بأنها غير مرضية، وربما ممتنعة، ولكنه يظل يؤكد في عناد أن أي نسق يبلغ هذا الحد من الروعة، ويصل إلى مثل هذه النتائج البديعة التي تطرب لها النفس، لا بد أن يكون صحيحا بغض النظر عن اسمه. ومن الأوضح أنه عندما يكون لأي شخص «إرادة اعتقاد» كهذه، فأغلب الظن أننا نكون مضيعين لوقتنا لو قمنا حتى بمناقشة مشكلة الحقيقة معه. وعندما يكون البناء الفكري الذي يصر على الاحتماء في داخله، قد ظل صامدا قرونا طويلة، فعندئذ يكون من الأكثر عقما أن نحاول إقناع المؤمن غير النقدي بأن هذا البناء ليس مشيدا على أسس واقعية موضوعية يمكنها أن تصمد للاختبار الذي يتخذ من التطابق معيارا للحقيقة. (6) النظرية الثالثة: النظرية الحقيقية عند البرجماتيين
لن يكون من الإنصاف أن نحكم على من يختار نظرية الترابط، بدلا من نظرية التطابق، بأنه يسلك اعتباطا، أو يفكر على النحو الذي يرضي رغباته فحسب. فهناك احتمال في أن يكون قد استعان، عن وعي أو دون وعي، بثالث النظريات الكبرى عن الحقيقة في الاختيار بين النظريتين اللتين ناقشناهما من قبل . هذه النظرية الثالثة هي المفهوم «البرجماتي» للحقيقة
3
وأهم ما تقول به هذه النظرية هو أن معيار الحقيقة الوحيد الذي له دلالة هو معيار النجاح العملي
Workability
أي الثمار التي تحملها والنتائج التي تؤدي إليها. وهكذا تكون العبارة صحيحة في نظر البرجماتي إذا كانت تعبر عن واقع أو تصف موقفا نستطيع أن نسلك على أساسه ونحقق النتائج المتوقعة. فقضيتنا القديمة «الكتاب على المنضدة الموجودة في الحجرة المجاورة» ليست في حقيقة الأمر إلا خطة للسلوك الممكن، فهي تعني أنني إذا ذهبت إلى الحجرة المجاورة ونظرت إلى المنضدة، فسوف أجد الكتاب. ولو تصرفت على أساس هذه الخطة، ووجدت الكتاب بالفعل في المكان المذكور، فعندئذ تصبح العبارة صحيحة - أو بتعبير أدق، تكتسب الصحة أو الحقيقة.
على أن النظرة المثالية العامة إلى الحقيقة هي شيء مختلف كل الاختلاف - فبينما المدارس الفرعية داخل المذهب المثالي تتباين أفكارها إلى حد ما، فإن هذه المدارس كمجموعة تنظر إلى الحقيقة على أنها شيء ينبغي أن يكون شاملا من الوجهة المنطقية. فهي ترتبط مباشرة بالواقع النهائي؛ ذلك لأن من النظريات المميزة للمثالية، كما رأينا من قبل، أنها تدمج «الخير والجمال والحق» لتكون الواقع من الكل. ومن ثم فإن «للحقيقة» وجودا مستقلا، وتجربتنا معها تتخذ دائما طابع الكشف. فالحقيقة موجودة، ونحن نكتشفها؛ ومن هنا تؤلف «مطلقا» من نوع ما. أما البرجماتي فلا يرى أن هناك شيئا اسمه الحقيقة المطلقة بوصفها كيانا له وجود مستقل مكتف بذاته. وإنما هي على الأصح شيء نصنعه. فنحن نصوغ أحكاما من أنواع شتى لأننا نحتاج إلى عوامل ذهنية تساعدنا على التعامل مع تجربتنا. ولا تصبح هذه الأحكام حقائق إلا عندما نسلك على أساسها. وهكذا فإن أية عبارة هي بالنسبة إلى البرجماتية فرض ينبغي تحقيقه بالسلوك على أساسه وملاحظة النتائج.
البرجماتية والعلم : المصدر الرئيسي للبرجماتية هو مناهج البحث العلمي. ذلك لأن العلم، من حيث نظرته إلى «الحقيقة» هو برجماتي بطبعه. فبعد أن يصوغ العالم فرضه لتفسير الوقائع المراد بحثها، يكون المعيار المألوف الذي يتخذه للتحقق من ذلك الفرض هو تصميم تجربة نقدية تؤدي إلى نتيجة قاطعة تنتهي «بنعم أو لا». وفي استطاعة الباحث أن يتنبأ بالنتائج التي يتوقع من التجربة أن تسفر عنها (إذا كان الفرض صحيحا) على أساس معرفته بهذا الميدان العلمي ومبادئه المقررة. وهكذا فعندما تجري التجربة، «ويوجه الأسئلة إلى الطبيعة ويرغمها على الإجابة»، تكون حقيقة الفرض متوقفة تماما على كونه مؤديا إلى النتائج المتوقعة أو غير مؤد إليها. وإذن فالبناء الكامل للعلم يبنى على القدرة على النجاح العملي: فالفرض الذي ينجح أو يسفر عن نتائج هو الذي يقبل بوصفه حقيقة.
4
والواقع أن البرجماتي، شأنه شأن أي شخص آخر، يتأثر كل التأثر بمنجزات العلم الحديث. ولما كانت هذه المنجزات قد تحققت بفضل استخدام هذه النظرية عن الحقيقة، التي تتصف بأنها عملية، غير مثالية، وثيقة الصلة بالحياة اليومية، فمن الطبيعي أن تقترح مدرسة فلسفية ما، التوسع في هذه النظرية بحيث تنتظم التجربة بأسرها. إذ يبدو من المنطقي أن نفترض أن أية نظرية تثبت أنها مثمرة إلى هذا الحد في مجال معين، ستثبت قيمتها في المجالات الأخرى بدورها. غير أن الهجمات الرئيسية على هذا التوسع البرجماتي للنظرية قد أتى من جانب أنصار المثالية المطلقة، وتركز على ادعائها أن النجاح العملي وحده هو معيار الحقيقة. ومن الجائز أن بعض البرجماتيين الأوائل قد ارتكبوا خطأ تبسيط مشكلة الحقيقة إلى حد الإفراط، وحاولوا - في حماسة الرواد - أن يقيموا نظرية يكون فيها معيار النجاح العملي الأوحد هذا هو الذي يتحكم بذاته في تحديد ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. غير أن البرجماتية الناضجة في أيامنا هذه قد انتفعت من هذه الانتقادات، وهذبت نظريتها بحيث تحذف منها أية زوائد كهذه.
العوامل المساعدة التي تلجأ إليها البرجماتية في تحديد الحقيقة : يدرك معظم البرجماتيين أنه، بينما النجاح العملي قد يكون أهم معيار للحقيقة، فمن الممكن الاستعانة بمعونة إضافية من مصادر أخرى. أول هذه العوامل المساعدة هو «الترابط» الذي عرفناه من قبل: فليس في وسعنا أن نحتفظ بحقائقنا ومعتقداتنا منعزلة وكأنها ذرات تنفصل كل منها عن الأخرى، بل لا بد أن تنسجم في كل. (ولو سألنا في ذلك برجماتيا من الطراز القديم لقال على الأرجح إنه يفضل هذا الاتساق المنسجم على أساس أن حقائقنا ستحرز «نجاحا عمليا أكبر» إذا كونت نسقا مترابطا). والعامل المساعد الثاني الذي تستعين به البرجماتية من آن لآخر هو عامل مميز لهذه المدرسة
5
فعندما نعجز عن الاختيار بين عبارتين على أساس الأدلة التجريبية، أو الترابط، أو «القيمة النقدية
Cash Value » للنتائج المباشرة، فعندئذ يكون لنا الحق في تحديد أي القضيتين «صحيحة» على أساس مقدار ما يمكن أن تسهم به كل منهما من «القيم العليا» أو «قيم الحياة». فمعتقداتنا، ولا سيما تلك التي تتعلق بتجربتنا ككل، تستطيع التأثير في موقفنا من الحياة والعالم الذي نعيش فيه. وهي تستطيع أن تجعل العالم يبدو عقيما أو يبدو جديرا بأن نعيش فيه، وفي إمكانها أن تكسبنا استقرارا عاطفيا «وطمأنينة النفس»، أو أن تؤدي إلى عكس ذلك. وعلى هذا، فعندما يكون علينا أن نقرر ما هي العبارة «الصحيحة» من بين عبارتين متناقضتين - مثل: «النفس خالدة» و«النفس فانية» - فمن الواضح أننا لن نجد عونا كبيرا من معيار النجاح العملي أو الترابط، ولن نجد عونا على الإطلاق من معيار التحقيق الحسي. وإذن فمن الواجب أن نختار بين العبارتين على أساس آخر. وفي مثل هذه الحالات، نجد أن المعيار الذي نحدد على أساسه أي القضيتين تؤدي إلى تحقيق «القيم العليا للحياة» على أفضل نحو هو معيار لا يصلح للتطبيق فحسب، بل ربما كان معيارا لا مفر منه.
6
وينبغي أن يلاحظ أن البرجماتية لا تلجأ أبدا إلى تبرير اختيار عبارة معينة على أنها صحيحة بالنسبة إلى قضية أخرى على أساس «القيم العليا» وحدها. ذلك لأنه لا يحق لنا في نظرها أن نلجأ إلى هذا المعيار الأخير بوصفه محكمة نقض وإبرام إلا عندما تخفق المعايير الأخرى في تحديد «حقيقتها». فإذا استطاعت النتائج التجريبية ، أو «القيمة النقدية»، أو الترابط، أن تقوم بالاختيار لنا، فإن أي التجاء إلى «القيم العليا» يبدو أمرا مريبا، وكأنه نوع من التزييف العقلي. وإذن فلا يحق لنا أن نسمح لسعادتنا الروحية وحاجاتنا العاطفية بأن تتحكم في اختيارنا للحقيقة إلا عندما يستحيل تطبيق المعايير الأخرى، أو عندما تنتهي إلى حالة من التوقف نعجز فيها عن اتخاذ أي قرار. (7) المعايير المختلفة للحقيقة
لا بد أن القارئ يشعر الآن بأنه أكثر تعاطفا مع بيلاطس عندما سأل سؤاله الخالد عن طبيعة الحقيقة. ومع ذلك فإن بحثنا لم ينته بعد. فقد ناقشنا حتى الآن ثلاث نظريات عن الحقيقة، بالإضافة إلى أحد معايير الحقيقة وهو التحقيق الحسي. ولكن هناك عدة معايير أخرى كهذه يتعين علينا بحثها، كلها لا تقل عن معيار التحقيق التجريبي شيوعا، وربما أهمية. ويفضل أشخاص كثيرون أن يطلقوا على هذه اسم «مصادر» الحقيقة لا «معاييرها»، ولكن اللفظ لا أهمية له ما دمنا نفهم علاقة هذه المعايير بالمشكلة الرئيسية.
السلطة : ربما كان معيار الحقيقة الأكثر تداولا، بعد معيار التحقيق الحسي، هو السلطة. فاعتمادنا على السلطة يبلغ من القوة حدا يجعلنا لا نكاد نشعر بذلك عن وعي، ولما كان من الصحيح أن السلطات الأخلاقية والكنسية القديمة قد انهارت إلى حد بعيد، فإن سلطات جديدة من نوع مخالف قد حلت محلها. مثال ذلك أننا نعتمد الآن، في اكتساب «حقائقنا» على سلطة العلم أكثر بكثير مما نعتمد على سلطة الكنيسة. ومن حسن حظنا أننا لسنا مضطرين هنا إلى البت في مسألة كون هذه السلطة الجديدة أكثر فاعلية من حيث هي مرشد لنا في الحياة أم لا. فالمسألة الهامة هي أننا على الأرجح قد أصبحنا معتمدين في اكتساب حقائقنا على مصادر خارجنا أكثر مما كنا في أي وقت مضى. فقد نكون على ثقة من أن العلم سلطة يعتمد عليها أكثر من غيرها. ومع ذلك يظل من الصحيح أنه بدوره مصدر خارجي بالنسبة إلى معظم الأشخاص. وقد نشير إلى النتائج البرجماتية للعلم بوصفها دليلا على إمكان الارتكان إليه، أو قد نؤكد اعتماده المطلق على التحقيق التجريبي بوصفه ضمانا لقبول ما يدعيه من سلطة. كما أن من الجائز أن نكون قد اشتغلنا نحن أنفسنا في المعامل إلى الحد الذي يكفي لتأييد حقائق واحدة من العلوم. ومع ذلك فحتى الباحث المعملي المحترف لا يكون لديه من التدريب ومن الوقت ما يكفي للقيام بعمليات التحقيق هذه في أي ميدان ما عدا ميدانه الخاص. وقد نقول إننا بعد أن نكون قد اختبرنا بعض قضايا العلم عن طريق تجاربنا الخاصة، يكون لنا الحق في افتراض أن الوقائع العلمية الأخرى «صحيحة» بدورها. ومع ذلك، فإن هذا يعني أننا نأخذ بهذه الوقائع الأخرى على أساس السلطة، مهما كان درجة ثقتنا بها.
دور السلطة في التعليم : لا تتاح لمعظمنا من فرص التحقق من السلطات التي يخضع لها ما يتاح حتى للعالم الهاوي ذاته. ومثل هذا يصدق على كل ميادين النشاط البشري. وأغلب الظن أن كمية المعرفة التي نكتسبها بالخبرة المباشرة تمثل، عند الشخص المتعلم، الجانب الأقل بالنسبة إلى مجموع معرفته. وكلما ازددنا تعلما واتسع الأساس الذي نبني عليه ثقافتنا، اتسع حتما نطاق السلطات التي نعتمد عليها؛ إذ إن ارتفاع مستوى التعليم يعني ازدياد كمية المعرفة النظرية والتعلم غير المباشر. فالتلميذ في روضة الأطفال يتعلم إلى حد بعيد بالعمل، وبأداء أوجه نشاط شتى، أما طالب الكلية المتقدم فإن المصدر الأهم لتعليمه هو قراءة موجزات وتلخيصات لأعمال أناس آخرين. ولكن هذه الطريقة المتقدمة، مهما يكن من فعاليتها بوصفها طريقة للتعلم، فإنها تؤكد أهمية السلطة إلى حد الإفراط. وما يصدق على التعليم الرسمي يصدق على كل الميادين. ففي مدنية تبلغ من التعقد والتشعب الهائل ما بلغته مدنيتنا، يكاد كل شيء نقوم به يكون منطويا على تجربة غير مباشرة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك، مصادر أنبائنا، كما أننا في ميادين كالطب والاقتصاد وما إلى ذلك نكاد نقف عاجزين إزاء موكب السلطات التي تتفاوت أنواعها ودرجة إمكان الاعتماد عليها.
وهكذا تصبح المشكلة هي مشكلة التمييز بين مختلف أنواع السلطة ودرجاتها، وفي بعض الأحيان بين الآراء المتعارضة للخبراء في الميدان الواحد. ومع ذلك، فلما كان لكل ميدان معاييره الخاصة، فلا يمكن أن يكون في هذا الكتاب مجال لمحاولة القيام بتقييم مفصل لأنواع السلطة. وحسبنا أن يكون القارئ قد أصبح أكثر إدراكا لحتمية الالتجاء إلى السلطة في تحديد ما ينبغي وما لا ينبغي أن نعده «حقيقة». والواقع أن الفيلسوف كثيرا ما يتملكه اليأس من أن يتمكن من التمييز بين «الحقيقة» وبين «الظن»، وذلك من فرط خضوع الأذهان غير النقدية «للسلطة» (التي تكون عادة آخر سلطة سمعتها أو قرأت لها) وسهولة انخداعها بحيث تصدق أن المعرفة التي اكتسبتها على هذا النحو هي معرفتها الخاصة. ولقد كافح كل من سقراط وأفلاطون من أجل تحقيق هذا التمييز بين الحقيقة والظن، ثم خلفاءه للفلسفة بوصفه ميراثا دائما. وفيما يتعلق «بالحقيقة» اليومية العملية، تحتل السلطة، من حيث الأهمية، مكانا يلي التحقيق الحسي والنجاح العلمي مباشرة. «ما الحقيقة؟» إنها - كما يبدو أن بيلاطس قد أدرك بوضوح - هي إلى حد بعيد ما تحدده السلطة السائدة. وهو ذاته قد اعترف بهذه الحقيقة، إذ قبل أن يحكم في القضية المعروضة عليه، على الأساس الذي أوصى به أولئك الذين كانوا، وفقا للقانون العبري، هم «السلطات» المختصة. (8) معيار الاتفاق الاجتماعي أو اليقين الباطن
هناك معيار آخر يرتبط ارتباطا وثيقا بمعيار السلطة، وقد يكون في ظروف معينة أكثر إقناعا حتى مما كانت الكنيسة ذاتها في وقت ما، أو من العلم في وقتنا الحالي. ذلك هو معيار الاتفاق الاجتماعي. «فالحقيقة» هي، إلى حد بعيد، ما يقول الجميع إنه حقيقة. والشخص الذي يتعين علينا أن نقول له إن «كل شخص يعلم أن هذا صحيح!» لا بد إما أن يكون شخصا ناقص المعلومات وإما أقل من العادي في الذكاء، أو كليهما معا. وعلى حين أن الاتفاق الاجتماعي يمارس تأثيرا قويا على أحكامنا عن «الحقيقة» في جميع الميادين، فإنه أقوى ما يكون في ميادين العرف والعادات الاجتماعية والأخلاق. فقبول عادة أو معيار أخلاقي معين على نطاق واسع جدا، هو في نظر معظم الناس سبب كاف للنظر إليه على أنه «حقيقة»، بل إن كثيرا من الناس يصدمون إذ يرون شخصا يتشكك في حقيقة وجهة نظر أخلاقية يشيع قبولها على نطاق واسع. فقبول الجميع - أو حتى الأغلبية - لرأي معين، هو بالنسبة إلى هذه الأذهان ضمان كاف لحقيقة هذا الرأي.
أما الفيلسوف فقد تخصص منذ وقت طويل في تحدي قوة الاتفاق الاجتماعي. فقد يجد لذة خاصة في أن ينبه الأذهان إلى ما في هذا الاتفاق من تقلب وتهافت، حتى عندما يكون الاتفاق عاما. وفي الواقع إن عدم دوام العادات والسنن الاجتماعية المألوفة هو أمر أوضح من أن يحتاج إلى تعليق فلسفي. ومع ذلك، فإن الفلسفة تشعر بوجود خطر شديد عندما يسيطر الاتفاق الاجتماعي وحده على المعايير الأخلاقية. ذلك لأن القدر الأكبر من التقدم الأخلاقي قد أتى من جانب أقلية ضئيلة من الأشخاص الذين لم يرهبوا القوة الطاغية للاتفاق الاجتماعي - وهم الشهداء والمصلحون وأعداء التفرقة العنصرية، الذين لا يجدون علاقة بين الحقيقة وبين رأي الأغلبية. «فالحقيقة» في نظر هؤلاء الرواد الأخلاقيين هي شيء مكتف بذاته، مستقل عن قبول الجموع الكبيرة له.
هذه النفوس المنعزلة الشجاعة كانت دائما تختبر «حقيقتها» بمعيار غير الاتفاق الاجتماعي. ففي بعض الأحيان كان هذا المعيار هو السلطة؛ أعني سلطة الإنجيل، أو سلطة نبي أو زعيم ما. وفي حالات أخرى كان أساس حججهم هو نظرية الترابط؛ إذ إنهم قد رأوا أن هناك عادات أو معايير معينة لا تتسق مع المثل العليا الأخلاقية الشاملة السائدة في المجتمع الذي يعيشون فيه، وربما قد لا تتسق مع تعاليم المسيح. وفي أحيان أخرى كانوا يستعينون بالنظرية البرجماتية إذ اتضح لهم أن النتائج الفعلية للعادة الاجتماعية كانت شرا، بغض النظر عن التبريرات الأخلاقية التفصيلية التي تقدم لها. والمثل الكلاسيكي لعادة اجتماعية هوجمت في البداية لأسباب برجماتية في المحل الأول هو الرق.
المعيار الصوفي أو الحدسي : ومع ذلك فهناك معيار آخر لم نكد نذكر عنه شيئا، يلتجئ إليه الرائد الأخلاقي أكثر مما يلتجئ إلى أي معيار آخر من المعايير السابقة؛ هذا هو المعيار الصوفي أو الحدسي - وهو «نور باطن» أو اعتقاد عميق راسخ يبدو أكثر إقناعا ، ويحمل من اليقين المعصوم قدرا أعظم، من كل المعايير الأخرى للحقيقة مجتمعة. ولا حاجة بنا إلى القول إن هذا المعيار بالنسبة إلى الفلسفة، هو معيار شخصي وذاتي إلى حد لا يسمح بكثير من التحليل. فالفيلسوف يجد لزاما عليه أن يعترف بحقيقة هذه التجارب وتأثيرها في الفرد، ولكنه لا يستطيع أن يقول الكثير بعد ذلك، بل إن عالم النفس ذاته لا يستطيع تقديم الكثير، إلا أن يشير إلى مسألتين ينبغي أن تؤخذا بعين الاعتبار عند الحكم على صحة هذه التجارب. أولى هاتين المسألتين سلبية، فالشعور باليقين الباطن هو في ذاته شعور لا يعول عليه مطلقا، كما يدل على ذلك كون المجانين، على الأرجح، أكثر «يقينا» بحقيقة معتقداتهم من أية مجموعة أخرى من البشر. أما من الناحية الإيجابية، فينبغي أن نسارع إلى الإشارة إلى أن هذا الإحساس الباطن باليقين موجود في نهاية الأمر، في كل تجربة للحقيقة، أيا ما كانت النظرية أو معيار الحقيقة الذي نستخدمه عن وعي. وحتى لو تأملنا حالة التحقيق الحسي (الذي يبدو أصح المعايير وأكثرها شمولا) فما الذي نعتمد عليه آخر الأمر لكي نثبت أننا «نرى» أو «نشم» أو «نسمع» ما نظن أننا نراه أو نشمه أو نسمعه؟ أهو شيء آخر غير هذا الشعور الباطن ذاته باليقين؟ ولنعد إلى المثل الذي ضربناه عن جان دارك: ألا يحتمل أنها كانت موقنة بأنها «رأت» القديس ميخائيل «واستمعت» إليه وهو يأمرها بأن تذهب لإنقاذ فرنسا، بقدر ما كانت موقنة بأنها رأت الغنم ترعى حولها واستمعت إلى أصواتها؟ أليس الدليل على أي شيء نحكم عليه في تجربتنا بأنه «حقيقي» مرتكزا على نفس معيار اليقين الباطن هذا؟ وهل يمكن القول إن يقين القارئ بأنه يرى الكتاب الذي يقرؤه الآن هو في أساسه أعظم بأي قدر من يقيم جان دارك عندما رأت القديس ميخائيل، أو أعظم من يقين المصاب بالبارانويا الذي يعاني من جنون الاضطهاد ، بأنه يرى أعداء متربصين به في كل ظل؟ صحيح أن الكتاب يستطيع أن يفي بما تشترطه معايير أخرى لا يستطيع أن يفي بشروطها القديس ميخائيل أو «أعداء» المصاب بالبارانويا - وأهم هذه المعايير الأخرى هو اتفاق الجميع عليه. غير أن هذه المسألة لا تدخل في صميم الموضوع. ذلك لأن عرض الكتاب على مئات من الملاحظين الآخرين لكي يؤكدوا وجوده الموضوعي لا يؤدي إلا إلى مائة يقين آخر مساوية ليقين القارئ ويقين جان دارك ويقين المصاب بالبارانويا.
وهكذا فإن الشعور باليقين الباطن هو في الوقت ذاته أهم معيار ذاتي للحقيقة، وهو أقل المعايير من حيث إمكان الاعتماد عليه. ويبدو أن أفضل حل لهذا الموقف المحير هو الآتي: من المعترف به أنه لا يمكن أن تكون لدينا تجربة بحقيقة ما لم يكن هذا الشعور الحدسي باليقين موجودا، ولكن هذا الشعور في ذاته غير موثوق منه. فوجوده ضروري، ولكن من الواجب أن يكون مصحوبا بعدة معايير أخرى. إنه وسيلة التصديق على المعايير الأخرى الأكثر موضوعية، وهو أداة لتحقيق المعايير الأخرى للحقيقة، ولكنه ليس معيارا صحيحا عندما يكون قائما بذاته. (9) حكم نهائي على نظريات الحقيقة
بعد القيام بتحليل لفكرة الحقيقة على النحو الذي قمنا به، يكون من الطبيعي أن يثار في ذهن القارئ هذا السؤال: «أهناك أية حقيقة؛ أعني أية حقيقة بالمعنى الذي يفهم به معظم الناس هذا اللفظ، وبالمعنى الذي كنت أفهمها به قبل قراءة هذا الفصل؟» هذا سؤال ينبغي على كل قارئ أن يجيب عنه بنفسه، وسوف يكون من العوامل التي تتوقف عليها إجابته عنه، ما يعتقد أنه هو المقصود من هذا اللفظ بوجه عام. فإذا عدت الحقيقة شيئا سكونيا مطلقا، فالأرجح أن معظم القراء هم الآن على استعداد للشك في وجود شيء كهذا. أما إذا كنا نعني باللفظ شيئا نسبيا وديناميا، فمن المؤكد عندئذ أن معظمنا سيوافق على أنها موجودة. بل إن معظم القراء قد يشعرون أنه على الرغم من الانتقادات التي وجهناها إلى كل معيار ونظرية عندما استعرضناها، فإن واحدة منها على الأقل قد اجتازت المحنة ونجحت في ذلك إلى حد يجعل منها معيارا معتمدا عليه للحقيقة.
المعيار المركب : ومع ذلك فأغلب الظن أن معظم الطلاب سيوافقون على أن الدليل الوحيد الكافي على الحقيقة ينبغي أن يكون مركبا من كل النظريات والمعايير المتعددة. ومعنى ذلك أننا نستطيع أن نقول، دون خوف من الخطأ على الأرجح، إننا نكون قد قلنا الحقيقة: (1)
إذا أمكن عن طريق التحقيق الحسي بيان أن القضية تطابق الواقع الموضوعي. (2)
وإذا كانت تترابط مع كل معارفنا «وحقائقنا» الأخرى. (3)
وإذا استطعنا بسلوكنا على أساسها أن نحقق النتائج المتوقعة. (4)
وإذا كان هناك قدر كبير من الاتفاق الاجتماعي حول هذه الأمور الثلاثة الأولى. (5)
وإذا اتفقت عليها كل السلطات ذات العلاقة بالموضوع. (6)
وأخيرا، وإذا كان هناك، من وراء ذلك كله ومن خلاله، يقين باطن واقتناع طبيعي بشأن تلك التجربة. ومع ذلك فقد لا تكون هذه الحقيقة ذاتها هي النوع الذي ينبغي أن نصفه بأنه «حقيقة» بالمعنى الكامل، ولكنها تقدم إلينا على الأقل شيئا يمكننا أن نعتمد عليه ونبني حياتنا حوله.
ولكن هناك تعبيرا شعبيا ساخرا يلخص الموقف على أفضل وجه، هو أن «هذا شيء رائع، إذا أمكنك القيام به». فمعظمنا على أتم استعداد لبناء حياتنا على حقائق وطيدة الأركان كهذه. غير أن أمثال هذه الحقائق قليلة ومتباعدة. وفضلا عن ذلك، فإن حالات الحقيقة التي تبلغ هذا القدر من التوطد هي عادة أبسط من أن تحل مشكلاتنا الأكثر إلحاحا. مثال ذلك، أن قضيتنا القديمة: «الكتاب على المنضدة الموجودة في الغرفة المجاورة» قد تكون قادرة على مواجهة كل هذه الاختبارات، مثلما تقدر على ذلك معظم العبارات البسيطة المعبرة عن أمر واقع، والخاصة بالعلاقات الزمنية والمكانية للأشياء المادية، بل إن التصنيف الأساسي لأمثال هذه الموضوعات قلما ينطوي على مشكلات خطيرة متعلقة بالحقيقة. فإذا قلت: «هذا الكتاب أخضر»، كان من الممكن إثبات حقيقة هذه العبارة أو بطلانها على نحو قاطع - على شرط ألا أكون متحدثا، بالطبع، عن كتاب مشكوك فيه أو لون باهت، وإلا اشترط اتفاق الأشخاص المصابين بعمى الألوان، أو ألا أكون أنا ذاتي مصابا بعمى الألوان.
حدود المعيار المركب : ولكن من سوء الحظ أن جزءا فقط من القضايا التي يتعين علينا الحكم عليها بأنها «حقيقة» أو «بطلان» هو وحده الذي يستطيع الصمود لكل هذه المعايير. فلنأخذ حكما مثل: «الانتحار لا مبرر له أبدا». فكيف نستطيع أن نقرر إن كان هذا الحكم حقيقة أم؟ من الواضح أن من المحال الالتجاء إلى أي تحقيق حسي، أو إلى أية نظرية للتطابق. كذلك فإن المعيار البرجماتي لا قيمة له، ما لم يكن ذهننا من النوع الذي يتأثر بالحكم العام، الذي لا تربطه بموضوعنا صلة وثيقة، والقائل: «تصور أن الجميع قد انتحروا!» أما معيار السلطة فلا يكون مقيدا إلا لأولئك الذين يقبلون السلطة الخاصة التي ترد في حديثنا: فالنهي الصارم للكنيسة الكاثوليكية عن الانتحار، مثلا، ليس ملزما إلا للكاثوليكيين. وقد تكون نظرية الترابط مفيدة، ولكن ذلك يتوقف على الأساس الكامل لمعرفتنا وتجربتنا. ففي استطاعتنا أن نشترط أن تتفق القضية القائلة إن: «الانتحار لا مبرر له أبدا» مع كل الحقائق والمبادئ. ولكن لما كانت لكل شخص مجموعة مختلفة من الحقائق والمبادئ، فإن ذلك يؤدي إلى جعل حكمنا عليها بالحقيقة أو البطلان حكما ذاتيا بحتا. ومع ذلك فلما كان المعيار الوحيد الباقي، وهو الاتفاق الاجتماعي، معيارا لا قيمة له؛ إذ إننا كلنا نعرف مدى اختلاف الآراء حول الانتحار، فربما أدى بنا ذلك إلى القول بأن نظرية الترابط هي على أية حال تلك التي يمكن الاعتماد عليها أكثر من غيرها. ولكن ما حدث لنظريتنا المركبة الرائعة عن الحقيقة بعد هذا كله؟ من الواضح أننا لا نستطيع أن نأمل في الحصول على موافقة مختلف نظريات الحقيقة وجميع معاييرها، وفي استخلاص التأييد القاطع منها، إلا في ميدان التجربة الحسية. ويبدو أن معنى لك هو أن ميدان التجربة الحسية هو وحده الذي نستطيع أن نحصل فيه على أية حقيقة مطلقة أو حقيقة لا ترد. أما بالنسبة إلى بقية جوانب التجربة البشرية، فيبدو أننا مضطرون إلى الاقتصار فيها على معيار الحقيقة، أو مجموعة معاييرها، التي تثبت التجربة أنها هي الأفضل في ذلك الميدان بعينه.
بل إن هناك احتمالا يدعو إلى المزيد من القلق، تؤدي إليه هذه المناقشة، ألسنا نجدها توحي أيضا بأن كل حقيقة قد تكون شخصية خالصة أي بأن كل شخص يصنع حقيقته الخاصة، ويعيش في عالم خاص من «حقائقه» الخاصة، وهو عالم قد يتداخل مع عالم الحقيقة الخاص بشخص غيره، ولكنه لا يمكن أن يكون في هوية تامة معه؟ وبالاختصار يمكن أن تكون هناك أية حقيقة عامة، أو شاملة، ولا نقول أية حقيقة مطلقة؟
الكلمة الأخيرة للبرجماتي : ربما كانت للبرجماتي الكلمة الأخيرة في هذا المجال. فنحن لا نرى شيئا يدعو إلى الفزع في وجود أنساق فردية للحقيقة ذلك لأن كل شخص سيصوغ في هذه الحالة، عن وعي أو بلا وعي، نسقا للحقائق يفي على نحو معقول بشروط الحقيقة الثلاثة، التي يضعها البرجماتي. أول هذه الشروط هو أن يكون نسقه محكما إلى حد معقول، وفيه من الاتساق ما يكفي لإرضاء ما قد يكون لديه من حاسة الاتساق المنطقي، وثانيها أن يكون مطابقا للعالم الخارجي إلى حد يكفي لتحقيق النجاح العملي له، وأهم هذه الشروط جميعا أن يكون مرضيا وقابلا للتطبيق العملي في مجموعه. فيجب أن يؤدي هذا النسق إلى نتائج، ويحافظ على سعادته أو يزيدها، ويرضي اهتمامه ورغباته، ويتيح له، على وجه العموم، أن يشق طريقه في الحياة. ومن الجائز أنه لو وجد نسق أمثل - أعني أكثر تطابقا، وأكثر نجاحا عمليا - لأدى إلى نتائج أفضل، ولكان بالتالي «أكثر حقيقة». ولكن، مثلما أن المفروض أن تحصل كل أمة على نوع الحكومة التي تستحقها، فكذلك يحصل كل شخص على نسق الحقيقة الذي يستحقه: وهو نسق ينجح بالنسبة إليه، ويرضي مطالبه من الحياة والعالم المحيط به. وإذن فالبرجماتي ينتهي إلى موقف يمكننا تلخيصه في عبارة نستخدم فيها بيتا مشهورا للشاعر كيتس في غير موضعه، ونحور نصه قليلا، وهي: «هذه كل الحقيقة التي تعرفها في الأرض، أو تحتاج إلى معرفتها ».
الفصل الثامن
نظرية المعرفة: ماذا يمكننا أن نعرف؟
يكاد يكون من المؤكد أن كثيرين من القراء لن ترضيهم نتائج تحليلنا لمشكلة الحقيقة في الفصل السابق. فقد تبدو هذه النتائج نسبية غير قاطعة، أو قد تبدو المسألة بأسرها مؤدية إلى مذهب ضمني في الشك. وقد يشعر المرء كما يشعر كثير من الطلاب بعد مناقشة المشكلة، بأن هناك ما يغريه على التساؤل: «ولكني أريد أن أعرف! فما قيمة الفلسفة إن لم يكن في استطاعتها الإجابة عن أسئلتي؟ ألم يستقر الفلاسفة على رأي قاطع حول مسألة ما إذا كانت هناك أية حقيقة أصيلة، ما إذا كنا نستطيع معرفتها أم لا؟»
لا شك أن مما يوضح الموقف أن نكون صرحاء في هذه المسألة، ونكتسب ثقة الطالب. فمشكلة الحقيقة، مع تعقيدها وصعوبتها، ليست إلا جزءا واحدا من مسألة أشمل وأوسع منها بكثير. تلك هي المشكلة الإبستمولوجية أو المعرفية: ماذا يمكننا أن نعرف، أو ما حدود المعرفة؟ ومن الطبيعي أن أية مسألة أساسية إلى هذا الحد تنطوي على مسائل فرعية متعلقة بمصادر المعرفة، وأنماط المعرفة أو أساليبها، ومناهج البحث العلمي، وما إلى ذلك. غير أن المشكلة الجوهرية هي في الواقع مشكلة صادفناها من قبل في المقدمة التي عرضناها في الفصل الأول لمشكلات الفلسفة، فماذا يمكننا أن نعرف، وكيف نعرف ذلك؟ إن هناك تعبيرا دارجا كثر استخدامه في التحية في الآونة الأخيرة، وهو يشيع كثيرا في جماعات اجتماعية معينة، وهو: «ما الذي تعرفه عن يقين؟»
1 ⋆
وإنه لمن العسير أن نجد صيغة تعبر عن بحثنا في المعرفة تعبيرا أكثر دقة وإيجازا، وكل ما في الأمر أن الفيلسوف يهتم بقدرات الذهن البشري بوجه عام، لا بمضمون أي ذهن فردي. وهكذا تكون الصيغة الحقيقية للسؤال في نظر الفيلسوف هي: «ما الذي يمكننا، بوصفنا جنسا بشريا، أن نعرفه عن يقين؟»
إننا نجد في صدد هذه المشكلة، كما نجد في صدد كل مشكلات الفلسفة، عديدا من المدارس الفكرية. ولكن كل ما يمكننا أن نحاول عمله في مدخل كهذا الذي نقدمه في هذا الكتاب، هو أن نعرض أهم وجهات النظر هذه، ثم ندع القارئ يتخذ قراره الخاص فيما يتعلق بحل مشكلة المعرفة الذي يبدو له مرضيا أكثر من غيره. وقد يختار القارئ إجابة واحدة، أو قد يحاول الجمع بين إجابات عدة في حل واحد أكثر شمولا. وقد نتخذ قرارا على أساس ما تعلمناه منذ الطفولة، أو على أساس تفضيل مزاجي من نوع ما - وربما على أساس رد فعل مضاد لما تعلمناه منذ الطفولة. وعلى أية حال، فسوف يكون القرار شخصيا تماما، بغض النظر عن المعيار الذي يحكم به المرء على مختلف نظريات المعرفة ويختار على أساسه من بينها.
الطابع الشخصي للمعرفة : هناك دائما عقول معينة يدهشها كل الدهشة أن يقال لها أنها تصنع معرفتها الخاصة. أما الفيلسوف فتبدو له هذه النتيجة محتومة لا مفر منها. والواقع أن كلا منا يعتنق نظرية خاصة في المعرفة، سواء أكان ذلك عن وعي أم بلا وعي. فكل منا يقرر ما هي مصادر المعرفة التي سيعطيها الأولوية: أهي التجربة الحسية، أم السلطة، أم العقل، أم الحدس ... إلخ. ومن الجائز أن القارئ قد نشأ على عقيدة تولي السلطة اهتماما كبيرا. فإن كان الأمر كذلك بالفعل، فأغلب الظن أنه سيظل يقبل سلطة من نوع ما، بوصفها المصدر الأساسي للمعرفة - ما لم يكن قد ثار على تنشئته الأولى بالطبع، والأرجح أنه سيرتكز في هذه الحالة على التجربة الحسية والعقل بوصفهما مصدرين نهائيين. وبعبارة أخرى، يبدو أن من المستحيل تجنب النتيجة القائلة إننا، مثلما يصنع كل منا «فلسفته في الحياة»، أو «نظرته إلى العالم»، فنحن نخلق أيضا - إلى حد بعيد - مضمون عالمنا الفردي في المعرفة. وهذا ما ينبغي أن يكون إذا أخذ لفظ الفلسفة بأوسع معانيه. ذلك لأن فلسفتنا ليست إلا مجموع آرائنا المتعددة عن الحياة والتجربة البشرية، ولا شك أن لأفكارنا الخاصة عن قيود المعرفة وحدود اليقين أعظم قدر من الأهمية بين هذه الآراء.
العلاقة بين مشكلة المعرفة ونظريات الحقيقة : توحي مصادر المعرفة التي عددناها منذ قليل - وهي الإحساس، والسلطة، والعقل ، والحدس - بأن مشكلة المعرفة مرتبطة ارتباطا وثيقا بمشكلة الحقيقة. وعلى الرغم من أن الأمر كذلك بالفعل، فإن المشكلتين ليستا متماثلتين تماما. فمشكلة المعرفة أشمل من مشكلة الحقيقة وأعمق أسسا. ومن ثم فقد يتساءل المرء عن السبب الذي دفعنا إلى عدم البدء بمناقشتها أولا. والواقع أن هذا السبب تربوي إلى حد بعيد: فإثارة الاهتمام بمشكلات الحقيقة أيسر من إثارة الاهتمام بمشكلة المعرفة، بل إنه من السهل دائما أن نقنع المبتدئ في دراسة الفلسفة بأن هناك أية مشكلة للمعرفة. فهو قد استمع إلى حجج متعلقة «بالحقيقة» والبطلان قبل أن يسمع عن الفلسفة بوقت طويل، غير أن في الحياة العادية مواقف قليلة جدا تؤدي إلى مناقشة مشكلة «المعرفة» وعدم المعرفة. فقد نتهم شخصا ما «بعدم معرفة» ما يتكلم عنه، ولكن لا بد لك من قدر كبير من التعمق العقلي لكي تفكر أن تسأل خصمك عن مصادر المعرفة الصحيحة لديه، وعما إذا كان يستخدم المصادر الصحيحة وحدها، وكيف يعرف أنه يعرف أي شيء على وجه اليقين.
كل ذلك لا يعني إلا أننا نأخذ معرفتنا قضية مسلمة إلى حد بعيد. فموقف معظم الأشخاص هو ذلك الذي يطلق عليه الفيلسوف اسم الموقف «غير النقدي» أو «الساذج من الوجهة المعرفية»، ذلك لأننا نسلم على نحو طبيعي تماما بأن أذهاننا قادرة على معالجة التجربة (أو موضوعات التجربة إذا شئنا الدقة). وعلى حين أننا قد اعتدنا أن يتحدى البعض، من آن لآخر، الطريقة التي نصف بها هذا الشيء أو ذاك بأنه حقيقة، فإنا ندهش إلى حد يقرب من الذهول إذا ما سألنا شخص: كيف نعرف أي شيء؟ فتأثير هذا السؤال في الشخص الذي يوجهه لنفسه جديا للمرة الأولى هو عادة تأثير لا يقل في إثارته للحيرة إلا بمقدار طفيف عما يحدث له عندما يسأل جديا للمرة الأولى: كيف يعرف أنه موجود؟ ذلك لأن كلا من السؤالين ينطوي على تحد لمسلمات تبلغ ضرورتها بالنسبة إلى الفكر، ويبلغ ارتكازها على موقف الإنسان الطبيعي، حدا يجعل مجرد السؤال عنها يبدوا أمرا سخيفا . ومع ذلك فإن المفكر المحترف يوجه كلا من السؤالين بنية طيبة تماما، وربما كان أكثر المهام إلحاحا بالنسبة إلى الفلسفة الحديثة، هي الاهتداء إلى إجابة مرضية لمشكلة المعرفة. (1) نظرية المعرفة والفلسفة الحديثة
جرت العادة على تحديد تاريخ بداية التفكير الحديث في مشكلة المعرفة بالسنة التي طبع فيها كتاب لوك: «دراسة في الذهن البشري
Essay Concerning Human Understanding »، وهي سنة 1690م. ويمثل هذا الكتاب الذي افتتح عهدا جديدا في تاريخ التفكير في مشكلة المعرفة، ثمار نظر فلسفي دام وقتا طويلا منذ شباب المؤلف. ويصف لوك في مقدمة «الدراسة» كيف أن مجموعة من أصدقائه كانت لديها عادة التلاقي من أجل مناقشة المسائل الفلسفية. ويبدو أن النتائج التي أسفرت عنها هذه الجلسات لم تكن مرضية تماما؛ إذ إنه، كما قال لوك: «... قد طرأ بذهني أننا قد سلكنا مسلكا باطلا، وأنه كان من الضروري، قبل أن نشرع في القيام ببحوث من هذا النوع، أن ندرس قدراتنا الخاصة، ونرى أي الموضوعات تستطيع أذهاننا أن تعالج وأيها لا تستطيع.» وبهذه الطريقة المتواضعة بدأ بحث قدر له أن يؤثر في كل التاريخ اللاحق للفلسفة. فقد بدأ لوك، بناء على تشجيع نفس هؤلاء الأصدقاء، يهتم بهذه المشكلة جديا، وبعد وقت معين، نشر أول بحث حديث في نظرية المعرفة.
وكما يوحي النص المقتبس، فإن لوك قد أدرك أن مشكلة قدرات الذهن هذه هي مشكلة سابقة على أي نظر ميتافيزيقي. وقد اتفق معظم المفكرين المحدثين مع لوك في هذا الموضوع، مؤكدين أن أي بحث في الفلسفة ليس له أن يأمل في أن يكون مثمرا، ما لم نكن قد حددنا في البداية مقدار فعالية أدواتنا التي نستخدمها في هذا البحث. أما اليوم، فيبدو الفلاسفة أحيانا مهتمين بمشكلة المعرفة أكثر مما ينبغي؛ ذلك لأن الفلاسفة التأمليين المحدثين لما كانوا يعتقدون أن من الواجب الاستقرار على نوع معين من نظرية المعرفة قبل أن نستطيع أن نتحول بطريقة مثمرة إلى بحث المشكلات الخاصة في مجال المنطق والأخلاق والميتافيزيقا وعلم الجمال، فقد وضعوا ما يعرف باسم «الفلسفة النقدية»، التي تركز كل النشاط الفلسفي حول مشكلة المعرفة.
بعض النتائج المؤسفة للبحث في المعرفة : لا شك أن الاهتمام بإجراء هذا التحليل الأولي يمثل، نظريا، موقفا معقولا، ولكن ينبغي أن نعترف بأن بعض نتائج هذا الحذر كانت مؤسفة جدا. فتأثيره العام في الفلسفة الحديثة هو أنه جعلها مريضة عقليا. ذلك لأن المفكرين قد أصبحوا منهمكين في المشكلات المتخصصة الدقيقة في ميدان المعرفة إلى حد أنهم أخذوا يفقدون بالتدريج اتصالهم بالمسائل ذات النطاق الأوسع، التي كانت الفلسفة تهتم بها تقليديا. وهكذا أصبحت الفلسفة أشبه بالشخص المصاب بالوسواس، الذي يهتم بنفسه إلى حد أن أبسط التقلبات في حالته الصحية تتضخم أهميتها وتحتل في ذهنه مكانة تزيد على مكانة الحوادث الحقيقية الهامة في العالم الخارجي. وكذلك يصبح الذهن الفلسفي شاعرا بذاته أكثر مما ينبغي. فبدلا من أن تسعى الفلسفة إلى إصدار أحكام لها دلالتها بشأن طبيعة الواقع، أو معنى التجربة البشرية، نراها تكرس جهودها لإصدار أحكامها الخاصة. وبدلا من أن ينظر المفكرون المحدثون إلى العالم تلك النظرة الصريحة الانبساطية التي كان ينظر بها اليوناني إليه، نراهم انطوائيين من الوجهة الانبساطية التي كان ينظر بها اليوناني إليه، نراهم انطوائيين من الوجهة العقلية، وبينما الفلسفة الكلاسيكية كانت في أساسها موضوعية، فقد أصبحت الفلسفة في عصرنا هذا ذاتية قبل كل شيء.
وهناك نتيجة أخرى مؤسفة لهذا الاهتمام المفرط بعملية المعرفة، هو إبعاد الجمهور العام عن الفلسفة؛ ذلك لأن مشكلات المعرفة فنية متخصصة إلى حد بعيد وتحتاج إلى مصطلح خاص وأساس معين من المعارف. ومن ثم فإن الجزء الأكبر من الكتب المعاصرة المتعلقة بالفلسفة يظل غير مفهوم حتى بالنسبة إلى القراء المثقفين من ذوي الاهتمامات العامة. فالفيلسوف المحترف هو وحده الذي يستطيع أن يدخل إلى أعماق هذه المؤلفات، أو هو وحده الذي يستطيع، بعد دخوله، أن يخرج من الطرف الآخر دون أن تبدو عليه أية آثار من العناء الذي ألم به. وهكذا ندور في حلقة مفرغة: فلم كانت الكتابة الفلسفية قد أصبحت أبعد على نحو متزايد عن فهم القارئ العام، فإن قراءته لها تتناقص؛ ومن ثم فإن معظم الكتاب في هذا المجال لم يعودوا يعملون في كتابتهم حسابا للقارئ غير المحترف. وهذا بدوره قد جعل الفيلسوف أقل حرصا على محاولة الوصول إلى استبصار عميق بالمشكلات العامة للتجربة البشرية. وسواء أكان من الإنصاف اتهام الفيلسوف بأنه يعيش في برج عاجي أم لم يكن، فليس من شك في أنه يقضي اليوم معظم وقته في «الورشة» الفلسفية. فهو قد أصبح، كالعالم، باحثا قبل كل شيء، يهتم بمشكلات فنية ومتخصصة إلى أبعد حد.
هل هناك ضرورة للبحث في المعرفة؟
يشعر المبتدئ في ميدان الفلسفة أحيانا بالرغبة في تجاهل مشكلة المعرفة وإغفالها، وذلك كرد فعل منه على الطابع الفني والذاتي المفرط، الذي تتميز به الفلسفة المعاصرة. وهو على الأرجح يبرز ذلك على أساس أن كل ما نحتاج إلى افتراضه هو (1) وجود العالم الخارجي، (2) ووجود أذهاننا الخاصة، (3) وإمكان وجود نوع من العلاقة المعرفية بين الاثنين. وهو قد يشعر أن لنا الحق في افتراض فاعلية هذه العلاقة بين عالم المعرفة الباطن، وعالم الأشياء الخارجي، ما دام من المحال، على أساس فرض التطور، أن نكون قد تمكنا من البقاء بوصفنا نوعا، ما لم يتحقق لنا، بفضل عملياتنا المعرفية، اتصال مرض بالعالم الذي نعيش فيه. فلو لم تكن أذهاننا قادرة على التعامل مع الواقع، ولو كانت حواسنا تعطينا صورة مشوهة تشويها خطيرا «للأشياء كما هي في ذاتها»، لما استطاع الجنس البشري أن يبقى طوال المدة التي عاشها بالفعل. ولما كان هذا الجنس قد استطاع البقاء، وتكاثر عدديا، فإن هذا يبدو دليلا على فعالية عملية المعرفة لدينا. وإذن فأي سبب يمكن أن يبرر لنا الشك في رأي الموقف الطبيعي في المعرفة؟ أليس للشخص البريء فلسفيا كل الحق في ادعاء أن حواسه وعقله يشتركان في إعطائه صورة موثوقا منها للعالم الخارجي؟
هذا التبسيط في مجال معرفة هو أمر يغري كل مستجد في ميدان الفلسفة على الدوام. ومن المؤكد أنه كفيل بإزالة كثير من الخلافات التي تعاني منها الفلسفة اليوم. ولو تحقق له القبول، لنقص عدد المشكلات الفكرية نقصا ملموسا، ولأصبحت المشكلات المتبقية أبسط بكثير. ولكن من المؤسف أن مثل هذا المخرج البسيط غير متاح لنا. فليس في وسعنا أن نصل إلى أية نتيجة في الفلسفة بدون أن تطل علينا مشكلة المعرفة برأسها، وعندما نحاول أن نصيب الأفعى بتلك الصيغة الصغيرة البسيطة التي يضعها المبتدئ، فإن الأفعى لا تتأثر بشيء. ومن هنا فإن أبسط مدخل إلى الفلسفة ينبغي أن يشتمل على عرض لبعض الحلول الهامة التي اقترحت لمشكلة المعرفة. (2) مصادر المعرفة: مذهب السلطة
هناك أولا بعض الطرق الأساسية للمعرفة، ومن الممكن تصنيف المدارس المختلفة في نظرية المعرفة على أساس مدى تأكيد كل منها واحدة من هذه الطرق. أولى وسائل المعرفة هي: مذهب السلطة
Authoritarianism .
2
والفكرة الأساسية في هذا المذهب هي أن المصدر النهائي للمعرفة هو سلطة من نوع ما: كالكنيسة، أو الدولة، أو التراث، أو الخبير. ولا شك أن المشكلة التي نبحثها ها هنا متداخلة مع مشكلة السلطة في صلتها بالحقيقة، وهي المشكلة التي ناقشناها في الفصل السابق، غير أن الباحث في نظرية المعرفة يمضي في التحليل شوطا أبعد بكثير.
لماذا لم تكن السلطة كافية : إن أفضل سبيل إلى البدء في تحليلنا للسلطة بوصفها المصدر النهائي للمعرفة هو أن نعلن مقدما النتائج التي سوف يسفر عنها التحليل. فالسلطة، في نظر الفلسفة، لا قيمة لها بوصفها حلا لمشكلة المعرفة. وتبدأ أسباب هذا الاستنتاج في الظهور حالما نتساءل عن قوام السلطة. وعن المعيار الذي ينبغي أن نفضل به سلطة على أخرى. وتلك أسئلة لا يستطيع القائل بفكرة السلطة أن يتجنبها؛ لأن السؤال «أية سلطة؟» هو سؤال عملي تماما، وهو يثار في أحيان كثيرة. فعندما نجد أنفسنا إزاء اثنين أو أكثر يطالب كل منهما بالعرش، فلا بد من أن يكون هناك معيار معين للاختيار بين المتنافسين. وهذا المعيار، كما سنرى فيما بعد، ينبغي أن يكون مقياسا معينا خارجا عن نطاق السلطات المتنافسة ذاتها. وبالاختصار، فعلى حين أن السلطة قد تكون هي المصدر النهائي للمعرفة، فإن هذا يبدو أمرا بعيد الاحتمال تماما، ما دامت لا تنطوي في ذاتها أبدا على ما يشهد بوجوب التوقف عندها؛ ذلك لأن نفس عبارتها القائلة: «أنا السلطة» ليست كافية، ولا بد أن يكون هناك شيء مستقل عن كل سلطة - حقيقية أو مزعومة - يساعدنا على تمييز الغث من السمين. ومن ثم فإن تحليلنا لمذهب السلطة يصبح دراسة للمعايير الخارجة عن نطاق السلطة التي يلتجئ إليها دعاة المذهب لدعم موقفهم. فلنختبر هذه المعايير إذن، وندرك لماذا كانت الفلسفة تجد معظمها غير صحيح.
معايير السلطة (1)
القدم : من المعايير الأكثر شيوعا، المستخدمة في الاختلاف بين السلطات المتنافسة: معيار القدم
Antiquity . فأقدم مصادر المعرفة هو أكثرها يقينا، وينبغي الحكم على كل من يطالبون بدور السلطة المطلقة على أساس السن. وهكذا فإن أقدم نظم الحكم، وأقدم الكنائس، وأقدم العادات، هي على الأرجح تلك التي تمثل الحقيقة والصواب، «فأقدم الطرق أفضلها» و«الذي تعرفه خير مما لا تعرفه» - أو هو على الأقل أحق بأن يكون على صواب.
هذا المعيار مبني على مسلمتين: إحداهما صحيحة والأخرى واضحة البطلان. فالمسلمة المقبولة هي أن المذهب أو النظام كلما كان أقدم، كان قد اجتاز اختبار الزمن أكثر من غيره، وكان عمره ذاته دليلا على أنه قد اجتاز هذا الاختبار بنجاح. فلما كانت أجيال متعاقبة من الناس قد وجدته صحيحا، فإن احتمال أن يكون صحيحا بالفعل أقوى من احتمال صحة ما لم يمر إلا بفترة اختبار قصيرة. ومن الممكن أن تعد هذه القاعدة فرعا من قاعدة «بقاء الأصلح»، وقد اتفق جميع المفكرين على أنه، إذا تساوت كل الظروف الأخرى، فمن الممكن أن يكون اختبارا صحيحا للمعرفة. وبعبارة أخرى فإن المذهب أو النظام الذي استطاع البقاء وقتا طويلا، لا يستطيع أن يطالب لنفسه بنسبة أكبر في احتمال أن يكون سلطة مشروعة إلا إذا كانت المنافسة بين الخصوم حرة، بحيث يكون من كتب له البقاء هو الأصلح بحق. أما إذا كانت السلطة تتمتع باحتكار، وكان سبب قدرتها على الاحتفاظ بمركزها هو أنها قد قضت على كل منافسة، فعندئذ لا يكون القدم ضمانا بأن أية سلطة هي مصدر صحيح للمعرفة. ويضيف الفيلسوف إلى هذا أن الأمر كان كذلك طوال الجزء الأكبر من تاريخ البشر: ذلك لأن شتى أنواع السلطات كانت تستخدم مركزها، على نحو يكاد يكون محتوما، من أجل القضاء على المعارضة؛ وبالتالي من أجل الاحتفاظ لنفسها بمركز مميز. ومن هنا فلا يمكن السماح للسلطة أن تدعي بأنها مشروعة على أساس القدم وحده إلا في حالات قليلة جدا، وربما لم يكن من الممكن السماح لها بذلك على الإطلاق.
أما المسلمة الأخرى التي ترتكز عليها حجة القدم فسرعان ما يتضح لنا بطلانها بمجرد أن نركز انتباهنا عليها، بل إننا لنعجب لكون الناس قد انخدعوا بهذا الخطأ الواضح في أي وقت. فكثيرا ما يقول أنصار مذهب السلطة إنه «لما كانت السن الكبيرة أحكم من الشباب، فمن الواجب أن نبجل آراء أجدادنا». وكما قال و. ب. مونتاجيو، فإن هذه مغالطة تتعرض لها الأذهان المحافظة بوجه خاص. ولنقتبس هنا جزءا من تحليله لهذا الخطأ: «لو كان أجدادنا أحياء الآن لكانوا مسنين جدا، ولكانت آراؤهم، بوصفها نتيجة أجيال من الخبرة، جديرة بالتبجيل حقا. ولكن في الوقت الذي صرح فيه أجدادنا بالآراء التي أصبحت الآن موغلة في القدم، والتي يطلب إلينا تبجيلها، كانوا صغارا في السن مثلنا، وكان العالم الذي يعيشون فيه أصغر بكثير من حيث خبرة النوع. فمهما يكن قدم آرائهم، فإنها تعبر عن طفولة الجنس البشري، لا عن نضجه. ومن هنا فإن قدم الرأي أو الاعتقاد هو في واقع الأمر قرينة تنقص من حقيقته ولا تزيدها».
3 (2)
العدد : والمعيار الثاني، الخارج عن نطاق السلطة، للمفاضلة بين الادعاءات المتعارضة هو معيار العدد. وصيغة هذا المعيار بسيطة، فالمذهب أو السلطة التي يقبلها أكبر عدد من الأشخاص هي الصحيحة. ولهذه الحجة ذاتها صيغة أخرى يمكن أن تسمى بعبارة العمومية، تذهب إلى أن أي اعتقاد يحظى بقبول عام يكاد يكون من المحقق أنه صحيح. ولنعبر عن هذا الرأي ذاته من خلال مشكلتنا الحالية فنقول إن السلطة التي يعترف بها في كل مكان هي التي يعتمد عليها أكثر من غيرها بوصفها مصدرا للمعرفة.
ويلاحظ أن المسلمة التي يبنى عليها هذا المعيار هي في أساسها نفس مسلمة القدم، فكلما ازداد عدد الأذهان التي تقبل مذهبا ما كان عدد الاختبارات التي يواجهها أكبر؛ وبالتالي كان احتمال صحته أكبر. ويبدو هذا المعيار في ظاهره أمرا يمكن الاعتماد عليه، ولكن إعمال الفكر فيه سرعان ما يكشف نقاط ضعفه. فمجرد العدد لا يمكن أن تكون له أهمية بوصفه عاملا في تحديد الحقيقة إلا إذا كانت الأذهان قد توصلت إلى أحكامها المختلفة كل على نحو مستقل عن الآخر. ففي المحكمة مثلا لا تكون هناك أهمية لعدد الشهود الذين يدلون بنفس الشهادة إلا إذا كنا على ثقة بأنهم قد توصلوا إلى آرائهم بحيث إن كل واحد منهم مستقل عن الآخر. ومثل هذا يصدق على شتى أنواع آراء الخبراء: فعدد الخبراء الذين يمكن الإهابة بهم تأييدا لموقف معين لا يمكن أن يزيد من دعم هذا الموقف إلا إذا كانوا قد توصلوا إلى هذه الآراء مستقلين.
بل إننا، حتى في أيامنا هذه - حيث يستطيع رأي الأغلبية أحيانا، في الدولة الديمقراطية، أن يكون ذا سلطات شاملة - نكون عادة حذرين في تأكيد أية علاقة ضرورية بين الأعداء وبين الحقيقة. وهذا ما علمنا إياه التاريخ، الذي يحفل بأمثلة آراء للأغلبية ثبت بطلانها، بل بحالات لمعتقدات شاملة اتضح خطؤها. وأوضح مثل على ذلك هو «حقيقة» أن الأرض مسطحة، وهي حقيقة كانت في وقت من الأوقات اعتقادا يقول به الجميع ولا يتشكك فيه أحد. وفضلا عن ذلك، فإن أشد أنصار مذهب السلطة تعصبا يكون هو ذاته شاعرا في العادة بأنه قد يكون متمسكا بنظرية معينة تمثل وجهة نظر الأقلية، ولا يكون بطبيعته راغبا في أن تقدر هذه النظرية المعينة على أساس إحصاء الرءوس فحسب. وهكذا فإن معظمنا يدرك اليوم أن استخدام المعيار العددي لإقرار السلطة ما هو إلا وسيلة اصطلحت عليها الحكومة الديمقراطية فحسب. (3)
النفوذ : والمعيار الثالث لتحديد السلطة هو معيار النفوذ
هذا المعيار ينطوي على مشكلة ضمنية هي رأي الخبراء، ما دام الخبير في أي ميدان هو ذلك الذي اكتسب ، بوسيلة ما، من النفوذ ما يكفي للنظر إليه على أنه سلطة أو حجة. ولعل هذا المعيار الثالث هو أقوى المعايير كلها تأثيرا؛ لأن كل ذهن يتأثر بالنفوذ أو الهيبة، مهام يكن محصنا ضد معياري القدم والعدد. والمشكلة العملية التي تواجهنا ليست هي كيفية إزالة تأثير النفوذ من تفكيرنا، ما دام ذلك يكاد يكون مستحيلا، وإنما هي كيفية استخدامنا له بطريقة ذكية مشروعة.
إن الخطر الأكبر في هذا الصدد هو الميل الطبيعي إلى تحويل النفوذ من ميدان إلى آخر. وعلى حين أنه لا يوجد ميدان من ميادين الشئون البشرية يظل بمنأى عن هذه الإعارة الفاسدة، فإن أوضح الحالات في أيامنا هذه تظهر عادة بالنسبة إلى العلوم. فسلطة الخبير العلمي. بين زملائه من العلماء وبين عامة الجمهور، تبلغ من الضخامة حدا يجعلنا كلنا نتأثر على الأرجح بأي رأي يبديه في أي موضوع. وحتى لو كان ذلك الرأي في موضوع ليست للعالم معرفة خاصة به، فإن من العسير علينا ألا ننقل الشهرة التي اكتسبها في ميدانه الخاص إلى مجال آخر معين. ولسنا في حاجة إلى القول إن أية سلطة مشروعة يمكن أن يكتسبها هذا الرأي، تتوقف على مدى وثوق الصلة بين الميدانين موضوع البحث. فإذا أصدر حجة في الفيزياء تصريحات في موضوع الكيمياء، فالأرجح أن تكون هذه التصريحات جديرة بأن يصغى إليها في احترام، وإذا ما أعرب عن رأي في العلوم البيولوجية، كانت الصلة أقل وثوقا؛ ومن ثم كانت «السلطة» أقل أهمية على الأرجح. أما إذا كان له رأي في العلوم الاجتماعية، فأغلب الظن أن يكون ذلك مجرد رأي، لا ينطوي في ذاته على أهمية بوصفه صادرا عن سلطة أو حجة، بل إنه كثيرا ما يحدث أن يكون تعليم المرء وخبرته في ميدان معين عائقا فعليا في وجه قدرته على إصدار أحكام خبيرة في ميدان معين آخر. فالتعليم العلمي مثلا قد يحول بين المرء وبين إصدار أحكام في الميدانين الفني والأدبي. وهناك مثل آخر أكثر شيوعا، هو أن قدرة المرء على كسب المال في النظام الاقتصادي الأمريكي تحول بين المرء دون شك وبين إصدار أحكام تقديرية يعتمد عليها في الفنون والآداب والعلوم والتربية، بل في النظرية السياسية أيضا. ومع ذلك فقد كان من أخص مميزات الثقافة الأمريكية حتى عهد قريب جدا، أن الأشخاص الأثرياء يتخذون حجة على نطاق واسع جدا، في أي ميدان وفي كل ميدان من ميادين الفكر.
4 ⋆
وكان الأكثر من ذلك انتشارا، هو ذلك الاستغلال للنفوذ، المسمى بالإعلان عن طريق الشهادة
Testimonial Advertising
حيث يقوم نجوم الشاشة والإذاعة، وأبطال الرياضة، ومعبودو الجماهير في مختلف الميادين، بالإعراب عن إعجابهم بأنواع من السجاير والصابون وعلب البقول، إلخ؛ ففي كل الأحوال تقريبا لا تكون لهذا الحكم أية قيمة مشروعة؛ لأن العلاقة بين من يصدر الحكم وبين السلعة هي ذاتها العلاقة بين المستهلك العادي وبين هذه السلعة ذاتها. فعندما تعلن ممثلة السينما الآنسة س أنها تدخن سيجارة من نوع ص وحده، فإنها لا تعبر دون شك إلا عن تفضيل شخصي، قد لا يكون أعمق في نقده أو تحليله من رأي المدخن العادي. والنتيجة الضمنية التي يود المعلن أن يحملها إلى أذهان الجمهور هي أن ذوقها في السجاير على مستوى يتناسب مع شهرتها من حيث هي شخصية من شخصيات الشاشة. أما مسألة كون المعلن ينجح في ذلك أم لا، فينبغي أن تترك للمسئولين عن ميزانيات الإعلان. ولكنا إذا حكمنا على الأمر على أساس مقدار الأموال التي تنفق على هذا النوع من الإعلان، فلا بد أن يكون أصحاب الإعلانات مقتنعين بأن الإهابة بسلطة النفوذ هي وسيلة مربحة.
التأثير الشامل للنفوذ : ليس هناك شخص محصن تماما من تأثير النفوذ، كما قلنا من قبل. فكلنا تقريبا لنا معبود أو بطل أو مفكر معين يؤثر في تفكيرنا وحياتنا، ونميل إلى الاقتداء به، حتى في الأمور التافهة، أو في القرارات التي لا يكون «للبطل» فيها مؤهلات خاصة قد تقدم إلينا توجيها نافعا. وقد يتركز هذا النفوذ أحيانا حول كتاب أو نظام أو عبادة. بحيث إن الإنجيل أو الكنيسة أو النادي أو الحزب السياسي يصبح هو السلطة التي تتحكم في تحديد التفاصيل الصغيرة للحياة اليومية. والمشكلة هنا ليست في كيفية التخلص من تأثير كل سلطة، وهو محال، وإنما في طريقة اختيار السلطة التي يوثق فيها أكثر من غيرها، والتي تعد مصدرا صالحا للمعرفة. فإن لم يكن لنا مفر من اتباع سلطة معينة، شئنا ذلك أم أبينا، فكيف نحدد السلطة التي ينبغي اتباعها؟
عند هذه النقطة يأتي الفيلسوف ليقول ما يبدو أنه الكلمة الأخيرة في العلاقة بين السلطة وبين مشكلة المعرفة في عمومها. فهو يشير إلى أنه مهما تكن قيمة السلطة في الدين أو في الحكومة، فمن الواجب، بالنسبة إلى أغراض بحثنا عن المصدر النهائي للمعرفة، أن نرفض كل مذهب للسلطة. ذلك لأن كل سلطة، كما رأينا من قبل، ينبغي لها، عاجلا أم أجلا أن تواجه السؤال: «لماذا كانت كلمتنا أكثر حسما من كلمة المدعي المنافس لنا؟» فيكون من الضروري أن يأتي الجواب على أساس خارج عن نطاق السلطة. فلا بد للمرء أن يهيب عندئذ بشيء يقع خارج نطاق السلطة الأصلية. وحتى لو اقتبس كلمات سلطة أخرى معينة، فلن يكون في ذلك إلا إرجاء للمشكلة. ولما كانت هذه مسألة يستحيل التسلسل فيها إلى ما لا نهاية، فإن سلسلة السلطات تعود بناء بعد وقت معين، إلى مصدر خارجي معين. ففي نهاية السلسلة نكشف على الدوام فردا استمد معرفته من تجربة عادية، أو من وحي صوفي أو خارق للطبيعة من نوع معين. أما التجربة العادية - من بين النوعين السابقين - فمن الممكن أن تكون: (1) إدراكا حسيا، (2) أو استدلالا من هذه التجربة الحسية، (3) أو استدلالا من حقائق أولية أو واضحة بذاتها، من نوع ما. هذه هي مصادر المعرفة التي ينبغي أن تعتمد عليها كل سلطة آخر الأمر؛ ومن هنا فإن بحثنا في المعرفة ينبغي أن ينتقل إليها الآن. (3) مصادر المعرفة: التصوف
إن المصدر الخارجي للمعرفة، الذي يرجح أن القائل بالسلطة الدينية يرجع إليه، هو تجربة صوفية أو خارقة للطبيعة من نوع ما. مثل هذه التجارب تسمى في العادة وحيا ، وعليها تبنى معظم مذاهب التفكير الديني. وليس من الضرورة أن تكون هذه التجارب هي تجارب المؤمن بالسلطة ذاته، بل إن الأرجح في معظم الحالات أن تكون قد حدثت لنبي أو مؤسس عقيدة، بل من مشاهدة ملهم يقبل المتدين المؤمن سلطته.
والمعنى الذي ينطوي عليه قبول هذا الوحي بوصفه أساسا سليما للمعرفة أن للإنسان مصدرين متميزين للمعرفة: (1) المعرفة العادية أو الطبيعية، وهي عادة إدراك حسي واستدلال مبني على هذا الإدراك. (2) والمعرفة غير العادية أو الخارقة للطبيعة. وينقسم النوع العادي إلى عدة أنواع، ولكنها كلها تندرج عادة تحت اسم عام هو «التجارب الصوفية».
ويمكن تعريف التصوف بأنه الاعتقاد بأن أفضل مصدر للمعرفة أو الحقيقة هو ملكة فوق الحس وفوق العقل. هذه الملكة تحدد أحيانا بأنها «الحدس
Intuition »، ولكن كان هذا اللفظ يستخدم في الحديث العادي بمعنى فضفاض جدا، فإن معظم الصوفية المعاصرين يفضلون النظر إلى مصدر المعرفة الذي يعتدون عليه على أنه شيء مستقل عن الحدث. فهم يرونه أداة متميزة فريدة لفهم الواقع. وفضلا عن ذلك فإن كل الصوفية متفقون على أن أهم نشاط للإنسان هو تنمية هذه التجربة الباطنة الفريدة. وهم يتفقون أيضا على أن للوحي الصادر عنها أسبقية على جميع مصادر المعرفة الأخرى. فهذه التجربة، من وجهة نظر المعرفة، مطلقة.
طبيعة التجربة الصوفية : ما هي هذه «التجربة الباطنة» التي هي أساسية في نمط الحياة التي يحياها المتصوف، والتي يكتسب منها أهم معرفة له؟ على الرغم من أن كثيرا من الصوفية قد حاولوا وصف هذه التجربة، فمن سوء الحظ أنهم يؤكدون أنها في أساسها تجل عن الوصف. ويبدو أن إخفاق الجهود التي يبذلونها في هذا الوصف هو دليل على رأيهم هذا. ومن أسباب ذلك أن التجربة مختلفة عن كل التجارب الأخرى إلى حد بعيد، كما أن من أسبابه أنها تستحوذ تماما على المرء عندما تحدث. وعلى ذلك، فعلى الرغم من كثرة الكتابات الصوفية، فإنا لا نعرف بالفعل إلا القليل جدا عن التجربة الرئيسية التي كانت مصدرا لهذه الكتابات. ومع ذلك فإن معظمنا كانت له لحظات من الحدس، أو من «النور الباطن»، أو من الاقتناع الذي لا يفسر، وهي لحظات يبلغ التشابه بينها وبين تجربة الصوفي حدا يتيح تقريب تجربته إلى الأذهان. والأمر الذي يحول بين معظمنا وبين الانتماء إلى فئة «الصوفية» ليس افتقارنا التام إلى هذا النوع من التجارب، وإنما هو كوننا «بحكم مزاجنا أو تعليمنا» لا نأخذ هذه التجارب مأخذ الجد، وبالأخرى فنحن لا نجعل لها مكانة أساسية في حياتنا.
على أن معظم الصوفية، لو عرض عليهم هذا الموضوع، لأكدوا أن هذه التجارب شبه الصوفية التي يمر بها معظمنا أحيانا، ليست هي التجارب الأصلية. فهم يرون أنها لو كانت كذلك، لكان لها من القوة والأهمية ما يجعلها تطغى على جميع الحوادث الأخرى، السابقة منها واللاحقة. وهذا بعينه ما يحدث في حالة المتصوف الحقيقي.
ومع ذلك فإن هذه التجربة، في أكثر صورها شيوعا، تشبه إلى حد واضح لحظات معينة تمر بنا كلنا تقريبا في مناسبات نادرة. تلك هي اللحظات التي يبدو فيها كل شيء وقد احتل مكانه الصحيح؛ إذ يبدو فجأة أن الفوضى والاضطراب المألوفين في حياتنا قد وصلا إلى حالة من السكينة أو السمو، وأن كل الأجزاء المشتتة في لغز القطع المبعثرة الذي نسميه «بالحياة» قد تداخلت فجأة وكونت نموذجا له معناه، أو أنه، إذا لم يكن إلا نموذجا (الذي ترسمه هذه القطعة) واضحا كل الوضوح، وظلت بعض الأسئلة معلقة، فإن الحوادث تبدو وقد عادت بنا، على الأقل، إلى لحظة فيها نشاطنا. عندئذ نتريث، وقد تملكنا الاقتناع بأن هناك بالفعل إجابات عن أسئلتنا وحلولا لكل المشكلات؛ أعني اقتناعا بأن لحياتنا معنى معينا ونظاما من نوع ما؟
ولعل أغلب الأوقات التي تتملكنا فيها هذه الحالة هي تلك التي نواجه فيها الطبيعة مباشرة، ولا سيما عندما نقف إزاء الجمال الطبيعي الخلاب. وقد كتب كثير من الشعراء قصائد عن هذه اللحظات، ولكن أحدا منهم لم يتفوق على وليام ووردذورث، الذي كان هو ذاته متصوفا مؤمنا بشمول الألوهية فهو ينبئنا كيف أنه وسط الجمال الطبيعي : ... أحسست
بحضرة تجعلني أضطرب بالفرح
بأفكار رفيعة، إنه إحساس علوي
بشيء أعمق تغلغلا بكثير
مستقره نور الشموس الغاربة،
والمحيط الدائر والهواء الحي،
والسماء الزرقاء، وذهن الإنسان،
إنها حركة وروح، تدفع
كل الأشياء المفكرة،
وكل موضوع لكل فكر،
وتسري خلال الأشياء جميعا ...
ويمر بعض الناس بتجارب مشابهة عندما يكونون إزاء أعمال فنية عظيمة، أو عندما يستمعون إلى موسيقى معينة. وقد تحدث هذه التجارب لغيرهم على أثر تجربة انفعالية معينة تتعلق بأشخاص آخرين، كرؤية طفل أو محبوب نائم. وأهم ما يميز هذه التجربة أنها مركب
Synthesis ؛ أعني أنها تكامل وانضمام لمجالات واسعة للحياة وللمعنى. ولو أردنا التعبير لفظيا عن هذه التجربة عند حدوثها، لكانت كلماتنا في العادة شيئا من هذا القبيل: «هذا ما تعنيه الحياة» وربما «هذه غاية الحياة».
وهكذا الحال في التصوف. غير أن تجربة المتصوف تختلف، على الأرجح، عن ذلك النوع الذي أوضحناه الآن في العمق والشمول. كما أنها قد تختلف أيضا في كونها تظهر في أوقات وأماكن لا تتصل بالتجربة ذاتها مباشرة ... بدلا من أن تكون نتيجة لموقف انفعالي أو جمالي معين. وهي تختلف بطبيعة الحال في تأثيرها في حياة الفرد؛ إذ إن المتصوف، على الأرجح، يؤرخ كل أحدث تاريخ حياته، منذ هذه اللحظة، على أساس وقوعها قبل حدوث هذه التجربة أو بعده.
ومن الواضح أن قبولنا أو عدم قبولنا للتصوف بوصفه أفضل طريقة للمعرفة، هو أمر يتوقف على اعترافنا أو عدم اعترافنا بأصالة التجربة الصوفية ذاتها. وعلى الرغم من أن هذه التجربة قد تتخذ أشكالا متعددة، فإن معظم المتصوفين البارزين في التاريخ قد ذكروا عنها أنها في أساسها شعور لا يوصف، ولكنه شعور طاغ، بواحدية الأشياء جميعا أو وحدتها. وكثيرا ما تكون التجربة، على هذا الأساس، مرتبة بمذهب شمول الألوهية
ما دامت تبدو وكأنها تجعل الله والكون شيئا واحدا. ولقد كانت التجربة الصوفية في بعض الأحيان اتصالا مباشرا بالله ، يبلغ من الوثوق حدا يجعله يؤلف اتحادا أو هوية مؤقتة. والواقع أن كتابات الصوفية زاخرة بالإشارات إلى «الواحد»، وقد يكون معنى اللفظ في هذه الحالة هو الله أن الوجود الكلي الذي يندمج فيه الله والكون على نحو ما.
الطابع المباشر لمعرفة المتصوف : إن أوضح ما تتصف به التجربة الصوفية وتتميز به طريقة المعرفة هذه من جميع المصادر العادية للمعرفة هو طابعها المباشر. ذلك لأن أي مصدر آخر - سواء أكان إدراكا حسيا أم استدلالا عقليا أم سلطة - لا يمكنه أن يعطينا إلا معرفة غير مباشرة، أو معرفة توسطية. فهناك في كل حالة شيء يقف بيننا وبين الواقع الحقيقي. هذا الحاجز قد يكون هو الجهاز الحسي، أو الخطوات المتعاقبة في سلسلة الاستدلال، أو الأذهان والمخطوطات التي نقلت بها السلطة إلينا؛ ففي كل حالة نكون بعيدين مرحلة واحدة على الأقل عن الواقع الحقيقي. أما المعرفة المباشرة فلا نكتسبها إلا بالحدث والتجربة الصوفية. فهي وحدها التي تستطيع استبعاد كل توسط من عملية المعرفة، وجلب الذات أمام الموضوع وجها لوجه بطريقة لا نظير لها، بل إن الذات والموضوع يصبحان في بعض التجارب الصوفية شيئا واحدا، وهنا يبلغ الطابع المباشر أعلى درجاته.
تفسيران متعارضان للتجربة الصوفية : ينبغي أن نلاحظ أن الصوفية، كما وصفناها حتى الآن، تنطوي على القول بأن الحس والعقل غير قادرين على إعطائنا معرفة حقة. كما أنها تتضمن القول بأن لغة الكلام تعجز عن وصف طبيعة تلك المعرفة بعد أن نكون قد تلقيناها. وبالاختصار، فالواقع الحقيقي لا يفهم إلا بطريق فردي مباشر، وهو في أساسه تجربة خاصة، لا توصف ولا تقبل المشاركة.
وهناك مدرستان فكريتان تقدمان تفسيرين متعارضين لمصدر هذه التجربة. فتفسير المذهب الطبيعي يرجع أصل تجاربنا الحدسية إلى ذاك العالم الذهني الخفي الغامض الواسع، الذي تتضافر فيه الغريزة مع الذاكرة مع اللاشعور، والذي لم يتغلغل علم النفس فيه حتى الآن إلا قليلا. فأصحاب المذهب الطبيعي يبدون إعجابهم، مثلا بالدراسات النفسية للإدراكات الحسية دون العتبية.
5 ⋆
فقد أثبتت هذه الدراسات بطريقة قاطعة أن ما يعده كثير من الأشخاص «حدسا» إنما هو ناتج عن إدراكات حسية أضعف من أن تدخل في نطاق الوعي، ولكنها قادرة مع ذلك على توجيه السلوك. وعلى ذلك فعندما يصبح شخص معين «شاعرا عن طريق الحدس» بأن الحجرة التي كان يظنها شاغرة تضم الآن شخصا آخر غيره، على الرغم من أنه لم يسمع أو ير الشخص الآخر، وهو يدخل من وراء ظهره، يكون ما حدث بالفعل هو أن الشخص الآخر الذي دخل الغرفة «في صمت» قد أصدر بالفعل أصواتا أضعف من أن يستمع إليها الشخص الأول عن وعي، ولكنها مع ذلك أدركت الهواء بدرجة تكفي لكي يستجيب جلد الشخص الأول لحركة الهواء دون أن يتأثر وعيه بطريق مباشر أيضا. والواقع أن أمثال هذه التفسيرات العلمية تؤثر في أنصار المذهب الطبيعي تأثيرا قويا، وتجعلهم يؤمنون بأن كل ما يسمى بالتجارب الصوفية قد تفسر، ذات يوم، تفسيرات طبيعية.
ولا حاجة بنا إلى القول بأن من يؤمنون بالتجربة الصوفية بوصفها المصدر النهائي للمعرفة يرفضون أي تفسير كهذا، وإنما هم يؤمنون بدلا من ذلك بأن لهذه الحدوس أصلا خارقا للطبيعة. فهم ينسبون هذه التجربة إلى مصدر أقل دينونة وذاتية؛ أعني إلى الله أو إلى نوع من «العقل» الكوني؛ ومن هنا كان من المنطقي بالنسبة إلى أي شخص يقبل مثل هذا التفسير الخارق للطبيعة أن يؤمن إيمانا قويا بهذه التجارب بوصفها مصدرا موثوقا منه للمعرفة. أما تفسير المذهب الطبيعي فهو يضع المعرفة المكتسبة من هذا الطريق ضمن نفس فئة السلوك المدفوع بالغريزة. وهو يرى أنه قد يكون من الممكن الاعتماد على الاثنين عندما يخضعان لتحكم العقل ولاختبار التجربة، ولكنهما في ذاتهما غير كافيين بوصفهما طريقة للمعرفة أو مرشدا للسلوك. وفي مقابل ذلك يعتقد معظم المتصوفة أن التجارب الصوفية لا يمكن أن تقارن بأشياء طبيعية كالغرائز البيولوجية. فمثل هذا التفسير لا يؤدي فقط إلى الحط من شأن التجربة الصوفية، بل إنه يقلل من أهميتها؛ ذلك لأن هذه التجربة تأتي من مصدر أعلى، وهذا الأصل فوق الطبيعي هو (في نظر الصوفية) ضمان كاف لجعلها تجارب موثوقا منها. (4) مصادر المعرفة: المذهب العقلي
إن أولئك الذين يرفضون الحدس بوصفه حلا لمشكلة المعرفة، ينحازون عادة إلى صف العقل أو التجربة بوصفهما مصدرين للمعرفة أفضل من المصدر السابق. ويعرف مؤيدو كل من هذين المصدرين باسم العقليين والتجريبيين على التوالي. وعلى حين أن أفراد المدرستين كثيرا ما يتنازعون فيما بينهم، فإنهم يتفوقون على أنه لا مجال للتصوف في مزاجهم. وليس في هذا ما يدعو إلى الاستغراب؛ إذ إن الصوفي، كما رأينا من قبل، يتشكك في العقل والتجربة، ولا يقبل بالطبع إلا التجربة الصوفية.
على حين أن المذهب العقلي، بمعناه الدقيق، يمثل حركة تاريخية بلغت قمتها في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولا يمثل مدرسة معاصرة واضحة المعالم، فإنه يمثل في الوقت ذاته اتجاها متكررا للذهن، وهو اتجاه يمكن أن نجد له أمثلة في تفكير أي عصر. ويرى المذهب العقلي، بوجه عام، أن الصورة المثلى للمعرفة هي تلك التي يمثلها البرهان الرياضي، فمثل هذه البراهين تبدأ ببديهيات، أو حقائق واضحة بذاتها، وتصل، عن طريق سلسلة من الاستنباطات المتدرجة إلى نتائج منطقية، ضرورية، لا رجوع فيها، وتقدم إلينا الهندسة الإقليدية المثل الكلاسيكي لتطبيق هذه المناهج العقلية. فهي تبدأ بمجموعة من البديهيات التي تقبل على أنها واضحة بذاتها (مثل: «الأشياء المتساوية المضافة إلى أشياء متساوية تعطينا أشياء متساوية» و«الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين»، وغيرها)، ثم تثبت سلسلة من النظريات عن طريق قضايا تستمد بالاستنباط من البديهات الأصلية والمصادرات المتصلة بها. والعملية كلها عملية استدلال دقيق جدا، كما يتذكر كل طالب درس الهندسة في المدارس الثانوية.
من أين تأتي الحقائق «الأولية»؟
نستطيع أن ندرك على الفور أن صحة هذا المنهج تتوقف على شيئين: صحة استدلالنا، وطبيعة بديهياتنا ومصادرتنا الأصلية. فقد أثبتت التجارب أن الذهن البشري يستطيع، بشيء من التدريب، أن يصل إلى مستوى رفيع من الدقة في استخدام الاستدلال الاستنباطي. ونتيجة لذلك فإن كل الهجمات الموجهة إلى المذهب العقلي قد تركزت كلها تقريبا حول مشكلة الوصول إلى مقدمات تكون من الصلابة بحيث تستطيع تحمل الثقل الهائل الذي سيرتكز عليها في سلسلة الاستنباطات. هذه البديهيات الأصلية تستمد عادة في الرياضيات، كما قلنا من قبل، من «الموقف الطبيعي»، أو (في نظر العقليين) من مبادئ أساسية واضحة متميزة ذات يقين حدسي. وهذه المبادئ بدورها ينظر إليها على أنها صادرة عن «النور الطبيعي للعقل» أو تركيب الفكر ذاته، وهي لا تحتاج إلى ضمان أكثر مما يقدمه وضوحها الذاتي. ويعد الاستقلال المزعوم لهذه المبادئ عن أي أصل تجريبي صفة ذات أهمية عظمى بالنسبة إلى المذهب العقلي. فهي تعد أولية، أو سابقة على التجربة، وهي في نظر العقل غير معتمدة على التجربة، بل إن التجربة هي التي تعتمد عليها؛ ذلك لأن ما يصدق على المعرفة الرياضية يسري (في نظر صاحب المذهب العقلي) على كل معارفنا النهائية التي قد تكون كذلك مستمدة بالاستنباط من مبادئ أولى ذات أصل عقلي محض. ومن هنا فإن في استطاعة معرفتنا النهائية، إذا توافرت الشروط اللازمة، أن تبلغ درجة اليقين التي نجدها في نظريات إقليدس.
ويكاد يكون من المؤكد أننا، عندما نفحص قائمة الحقائق الأولية التي شهدت عليها المذاهب العقلية المتعددة في الفلسفة، سوف ندهش للافتقار إلى الاتفاق بينها. وقد يعيننا ذلك على تذكر مسألة أشرنا إليها من قبل في فصل سابق: ألا وهي أن «الوضوح الذاتي» لفظ يسهل استعماله، ولكنه واقعة يصعب إثباتها. فما هو واضح بذاته بالنسبة إليك قد لا يكون كذلك بالنسبة إلي. وفضلا عن ذلك فإن الأولية
A
هي بدورها أمر يصعب إثباته: فالمبدأ الذي يراه العقل سابقا على التجربة، كثيرا ما يكون في نظر التجريبي مستمدا من التجربة، وإن يكن ذلك بطريق غير مباشر، وربما لا شعوري. ومع ذلك فهناك على الأقل عدد قليل من هذه المبادئ العامة متفق عليه بين العقليين، وهذه المبادئ تعد شرطا أساسيا لكل تفكير ولكل وجود. وفضلا عن ذلك فإن هذه المبادئ العامة لا تعد سابقة على التجربة فحسب، بل تعد أيضا خارجة عن التجربة. وهي لا تفهم إلا بالحدس (وهنا يكون منهج المذهب العقلي موازيا لمنهج الصوفية)؛ ومن هنا كانت تعطينا معرفة للواقع الحقيقي لا يعطينا إياها أي قدر من الإدراك الحسي. وهكذا فإن المعرفة العقلية تختلف كيفيا عن المعرفة التجريبية.
مبدأ عدم التناقض : لعل أهم هذه المبادئ العقلية الأولية الشاملة هو «قانون عدم التناقض». وينص هذا القانون، باختصار، على أن القضيتين المتناقضتين لا يمكن أن تكونا صادقتين معا، أو بلغة المنطق، فمن المحال أن يكون الشيء ولا يكون في نفس الآن، أو أن يكون الشكل دائرة ومربعا معا. وقد نظر أرسطو، ومعه كل المناطقة الصوريون منذ عهده، إلى مبدأ عدم التناقض هذا على أنه أهم قوانين الفكر جميعا. غير أن المبتدئ في دراسة الفلسفة قلما يتأثر بهذا المبدأ إلى هذا الحد؛ فرد الفعل المعهود لدى الطالب هو: «يا للحمق - إن هذا شيء واضح بذاته!» وهذا ما يرد عليه صاحب المذهب العقلي بقوله: «بالضبط! وهو فضلا عن ذلك ليس مستمدا من التجربة بعملية تعميم، فهو مبدأ أولي، تفهمه كل الأذهان السوية بالحدس. وهو يتيح لنا، على هذا الأساس، معرفة أكثر يقينية مما يمكن أن يتيحه أي تعميم بحت من التجربة.»
أمثلة أخرى للمنهج العقلي : هناك مثال آخر لتطبيق المذهب العقلي، يتميز بأنه أقل تجريدا من المثال السابق، وهو الدليل الأنطولوجي المشهور على وجود الله. ونظرا إلى أننا سنذكر المزيد عن هذا الدليل عندما نبحث في مشكلة الله في الفصول الأخيرة من هذا الكتاب، فلا داعي، في هذا الموضوع، إلا إلى تقديم عرض مختصر لهذه الحجة. فتصور الله هو تصور كائن كامل - بل هو أكمل كائن نستطيع تصوره. مثل هذا الكائن، إذا كان كاملا إلى هذا الحد، لا ينبغي أن يكون مفتقرا إلى صفة من صفات الكمال. فهو إذا كان مثلا يفتقر إلى الوجود، فإن الكائنات الأخرى التي تتصف بالوجود تكون أكمل منه. ومن هنا، فلما كانت قوانين الفكر تقضي بألا يكون هناك سوى كائن واحد هو «الأكمل» فلا بد أن يكون الله موجودا. وهكذا يثبت وجود الله تصوريا ؛ أي من تعريف لفظ «الله» ذاته. وقد عرف أحد الكتاب المذهب العقلي بأنه: «النظرية القائلة إن المعرفة تكتسب بمقارنة الأفكار بأفكار أخرى، أو بالاختصار، أننا نعرف ما أمعنا فيه الفكر».
6
والواقع أن الحجة الأنطولوجية التي عرضناها الآن تمثل هذه العملية أصدق تمثيل: ففي رأي العقليين أن المعرفة الحقة تأتي من قدح فكرتين أو أكثر سويا - وهما في هذه الحالة فكرتا «الكمال» و«الوجود». (5) مصادر المعرفة: المذهب التجريبي
الخصم المألوف للمذهب العقلي في المعركة الدائرة بين النظريات المختلفة للمعرفة هو المذهب التجريبي، الذي عرفناه بأنه المذهب القائل إن المصدر النهائي لكل معرفة هو التجربة أو الإحساس. ولنقتبس مرة أخرى عبارة أخرى عرف بها الكاتب نفسه المذهب التجريبي بأنه يرى «أننا نعرف ما اهتدينا إليه».
7
وينبغي أن نؤكد أن هذه المدرسة لا تنكر صحة أو أهمية عملياتنا الفعلية بوصفها وسيلة لتوسيع نطاق معرفتنا المستمدة من الحواس، ولكنها تؤكد مرارا وتكرارا أن الدليل النهائي على هذه الامتدادات التجريبية ينبغي أن يكون هو العودة إلى التجربة. وفي مناهج البحث العلمي نجد أبرز مثال لدورة الابتعاد والعودة هذه. فالعلم يبدأ من المعطيات الحسية، ويصوغ (بالعقل) فرضا تفسيريا. وبعد ذلك يستنبط، بالعقل أيضا، تلك النتائج التي يمكن توقعها عندما يجري تجربة فاصلة (يستخدم في وضعها العقل والإدراك الحسي معا)، وهذه التجربة هي التي تؤدي إلى تأييد فرضه أو تنفيذه على نحو قاطع. وبعد ذلك يقوم بإجراء التجربة، وهذا معناه القيام بتحديد تجريبي لنتائج العمليات العقلية التي توسطت بين الملاحظة الأصلية وبين التجربة. وهكذا يكون لدينا في العلم مزيج رائع من المنهجين العقلي والتجريبي. فكل منهما يقوم بما هو أهل للقيام به، ويترك المنهج الآخر ما يكون هذا الأخير أقدر عليه. ومع ذلك فإن التجريبي بوجه خاص هو الذي تكون له الغلبة، آخر الأمر، في كل نشاط علمي. ذلك لأنه مهما يكن مدى الطابع العقلي الذي تتصف به بعض خطوات المنهج العلمي (وهو طابع يكون عقليا خالصا في حالة استخدام الرياضيات مثلا) فإن هذا المنهج عملية ينبغي أن تبدأ وتنتهي بالإحساس. أما إذا كنا نفتقر إلى المعطيات الحسية عند بداية هذه العملية أو نهايتها. فلن يكون لدينا عندئذ علم.
نقد التجريبيين للمذهب العقلي : ذكرنا من قبل أن التجريبي يؤمن بأن المبادئ الأولية الواضحة بذاتها المزعومة (التي يرى صاحب المذهب العقلي أنها تفهم بالحدس) مستمدة من التجربة الحسية. فلنتأمل الآن مثلا أثيرا لدى صاحب المذهب العقلي، وهو مبدأ العلية. ففيلسوف المذهب العقلي يرى أننا لا نستطيع أبدا أن نستمد هذا المبدأ الشامل بطريقة تجريبية، فلا يمكن أن تشتمل تجربتنا على كل الحوادث الحاضرة - ناهيك بالماضية والمستقبلة - ومن هنا فلا بد أن يكون مصدر آخر لاعتقادنا الأكيد بأن لكل حادث علة. ويعترف التجريبي بوجود هذا القصور لدى الذهن، ولكنه يهاجم موقف المذهب العقلي بأن يتحدى القضية الأصلية القائلة إن العلية تمثل معرفة مطلقة. والحجة التي يأتي بها التجريبي في هذا الصدد تسير، بالاختصار، على النحو الآتي: فإيماننا بالعلية الشاملة لا يمثل إلا امتدادا لتجربتنا؛ ذلك لأن تحليلنا لكل حادث لاحظناه يثبت أنه يتوقف على علة سابقة. ومن هنا فإنا نتوسع في هذه الوقائع التجريبية فنجعلها شاملة، غير أن هذا الطابع الشامل لا يمثل يقينا، وإنما يمثل احتمالا فحسب. فنحن لا نعرف أن كل الحوادث، الماضية منها والحاضرة والمستقبلة، لها علل، وإنما نفترض أنها كذلك، على أساس التجربة التي مرت بنا حتى الآن بالنسبة إلى شتى أنواع الحوادث. ومع ذلك فليس هذا إلا اعتقادا، لا واقعة من وقائع المعرفة المطلقة. وينتهي التجريبي من ذلك إلى القول إن الأساس الوحيد الممكن للمناقشة بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي هو، بالاختصار، ما إذا كان مبدأ العلية يمثل معرفة مطلقة أم لا. فإذا أصر المذهب العقلي على أن يعده معرفة مطلقة، فعندئذ يكون من المسلم به أننا لا نستطيع استخلاص مثل هذه المعارف المطلقة الشاملة من تجربتنا المحدودة. ومع ذلك فلا حاجة بنا إلى النظر إلى مبدأ العلية على أنه أكثر من مجرد فرض ناجح عمليا، ينطوي على درجة عالية جدا من الاحتمال. ففي استطاعة العلم أن يسير في طريقه على خير وجه باستخدام العلية على هذا النحو، وليس هناك ما يدعو المذهب العقلي إلى ارتكاب مغامرة إبستمولوجية غير مأمونة العواقب بأن ينظر إليها على أنها معرفة مطلقة.
المذهب العقلي مقابل المذهب التجريبي في الأخلاق : يعد الخلاف بين المذهبين العقلي والتجريبي في ميدان الأخلاق من أشد الخلافات احتداما بين المذهبين. ذلك لأن صاحب المذهب العقلي يعتقد أنه يستطيع أن يكشف في ميدان الأخلاق حقائق واضحة بذاتها، من نفس النوع الذي يكتشفه في المنطق والرياضيات والميتافيزيقا. وهنا أيضا تكشف قائمة المبادئ الأخلاقية التي وضعها مختلف المفكرين العقليين عن تباين كبير؛ فهذه المبادئ تتفاوت ما بين «كل كذب هو خطأ مطلق - حتى أكذوبة الطبيب من أجل إنقاذ حياة مريضه»، وبين مبادئ رفيعة كالقاعدة الذهبية.
8 ⋆
أما التجريبي فهو، كما يمكننا أن نتوقع، يتحدى كل ادعاء للأولية في الأخلاق. وهو يعتقد بدلا من ذلك أن أسس القواعد الأخلاقية وأشملها هي ذاتها مستمدة من تجربتنا الفعلية المتعلقة بالأمور التي تؤدي إلى تحقيق مصالح المجتمع أو الأضرار بها. ولما كان الفصل الذي سنخصصه للأخلاق سيشتمل على مناقشة مفصلة لهذين الموقفين المتعارضين، فلا حاجة بنا إلى مناقشتها أكثر من ذلك في هذا المجال. (6) دور «كانت» في نظرية المعرفة
يمثل مذهب إمانويل كانت، الذي هو دون شك أقوى المفكرين تأثيرا في الفلسفة الحديثة، محاولة للتوفيق بين المذهبين المتعارضين، العقلي والتجريبي، على أن أنصار الموقفين المتطرفين لم يرضوا أبدا عن حل كانت للمشكلة، كما يحدث للحلول الوسطى في معظم الأحيان. ولكن كثيرا من الفلاسفة المعاصرين يرون أن مذهبه يقوم بعمل رائع في التوفيق بين الآراء المتعارضة لكلتا المدرستين؛ لذلك فإن الواجب يقضي علينا بحث نظرية المعرفة عند كانت بإيجاز.
ولو نظرنا إلى الأمر من الناحية التاريخية، لوجدنا أن «كانت» كان يهدف إلى التوفيق بين ذاتية باركلي، بنظريتها القائلة إنه لا يوجد شيء ما عدا الأذهان وإدراكاتها، وبين تجريبية مفكرين مثل لوك. فقد كان لوك يرى أن هناك عالما كاملا من المادة يوجد مستقلا عن أذهاننا المدركة، على الرغم من المادي الكامن من وراء الكيفيات الحسية. أما كانت فيبدأ بالاعتراف بضرورة أنه قد اضطر إلى الاعتراف بأنه لا سبيل لنا إلى كشف طبيعة هذا الأساس وجود علة لكل الانطباعات الحسية، وبأن هذه العلة ينبغي أن توجد خارج الذهن ذاته. ومع ذلك فإن الاعتراف بوجودها الطبيعي لا يثبت أننا نعلم أي شيء عن طبيعتها. ففي وسعنا أن نعلم أن هناك شيئا خارجيا معينا، ولكننا لا نستطيع أن نعلم ماذا يكون هذا الشيء. فهو يظل، وسيظل دائما، «الشيء في ذاته» الذي لا يمكن أن يعرف. ذلك لأن أذهاننا مهيأة بحيث لا تعرف إلا مظاهر الأشياء، أو الظواهر
أما الأشياء في ذاتها
Noumena
المقابلة لها، أو الحقيقة الحقة، فلا يمكننا إلا التخمين بها، بل إن العلم ذاته، بكل مناهجه وإنجازاته، لا يستطيع أن ينفذ من وراء الظواهر ليكشف الواقع الحقيقي.
الحل الوسط الذي أتى به كانت : وعلى ذلك فإن كانت يرى أن أذهاننا تصنع «الطبيعة» أو «الواقع الفيزيائي»، ولكنها لا تصنعه من لا شيء. فحواسنا تمدنا بالمادة الخام عن طريق ردود أفعالها إزاء «الشيء في ذاته». ومع ذلك فإن هذا النصيب الذي تسهم به الحواس هو مادة خام بحق، فهو خليط ليس له أي قوام أو تنظيم. وكل ما يكتسبه من تشكيل أو تنظيم إنما يفرض عليه من أذهاننا، التي تأتي بالإطار أو القالب الذي ينبغي أن تصب فيه الكثرة من الإدراكات غير المهضومة قبيل أن تتصف بالمنطقية أو المعقولية. فليس الذهن مجرد أداة سلبية لتلقي الانطباعات، كما كان يرى المفكرون السابقون، وإنما هو أداة إيجابية لا تكف أبدا عن أداء العمل الذي تقوم به، وهو تحويل الكثرة المتدفقة من الإحساسات إلى عناصر منظمة لها معناها. وأخيرا فإن التركيب أو التكوين الخاص للذهن ذاته هو الذي يتكشف في الحصيلة النهائية لعملية المعرفة. «فالواقع» كما نعرفه هو مصنوع أكثر منه معطى، وهو تركيب أكثر مما هو تلق. وكل ما يجعل العالم مترابطا ذا معنى يأتي مما يسميه كانت «بالفهم »، بل إن الزمان والمكان، وهما الوسيلتان الرئيسيتان اللتان نعرف من خلالهما عالمنا، هما صورتان ذهنيتان أوليان للفهم، كما هي الحال أيضا في كل المقولات أو الشروط الأساسية للمعرفة، وهي الكم والكيف والعلية ... إلخ. وبينما قد تكون المادة الخام آتية من الخارج فحسب، عن طريق الإحساس، فإننا نحن الذين نصنع «عالمنا»؛ أعني ذلك الكون المنظم المعقول الذي نستطيع فيه أن نعيش ونفكر.
وهكذا يولي «كانت» أهمية متساوية «لصور الفهم» العقلية، التي هي كامنة في التفكير وضرورية لتجربة الفهم، وللمعطيات التجريبية. ذلك لأن هذه المعطيات الإدراكية تمد الذهن بمضمونه الكامل، على حين أن «الصور» الذهنية تقوم بما يوحي به اسمها بالضبط؛ أعني أنها تضفي على هذا المضمون شكلا وصورة. ويلخص «كانت» موقفه التوفيقي الشامل في عبارة مشهورة أشرنا إليها من قبل، وهي «التصورات بدون الإدراكات فارغة، والإدراكات بدون التصورات عمياء». (7) النتائج الميتافيزيقية للمذهبين العقلي والتجريبي
لسنا بحاجة إلى أن نشير إلى الصلة الوثيقة التي تقوم بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي من جهة، وبين المذهبين اللذين سبق أن أشرنا إليهما مرارا من جهة أخرى، وهما المذهب المثالي والمذهب الطبيعي. وإذا لم يكن من الممكن أن نوحد تماما بين المثالية والمذهب العقلي، أو بين المذهب الطبيعي والتجريبية فإن العلاقات بين مجموعتي المذاهب وثيقة إلى أبعد حد. فقد كان العقليون، باستثناء فيلسوف واحد كبير (هو اسبينوزا)، إما مثاليين (مثل ليبنتس وولف)، وإما ثنائيين مع ميول مثالية واضحة (مثل ديكارت). أما التجريبية فتسير جنبا إلى جنب مع النظرة الطبيعية إلى العالم. وأساس موقف المذهب الطبيعي هو أن نظل قريبين بقدر الإمكان من التجربة في العالم الطبيعي الحالي الذي نعيش فيه. أما المثالية فقد اتجهت، على خلاف هذا الرأي، إلى الإقلال من شأن العالم التجريبي بتأكيد وجود حقيقة أعلى لنظام ترنسندنتالي (أي خارج التجربة) لا يمكن بلوغه إلا عن طريق النشاط العقلي التصوري للذهن.
وهكذا يتضح أن التقابل الأساسي بين مدرستينا الميتافيزيقيتين الكبريين يمتد إلى ميدان نظرية المعرفة. وهذا أمر لا يدعو إلى الاستغراب: فعندما يأخذ مفكر على عاتقه أن يصوغ (أو يدافع عن) نظرية كلية شاملة إلى طبيعة الأشياء، فمن المنطقي أن ينحاز إلى أسلوب التفكير أو طريقة المعرفة التي تؤيد موقفه إلى أقصى حد. ومع ذلك فمن الواجب أن نفهم أن العامل الميتافيزيقي هو أهم الجميع، وأن وسائل المعرفة تختار من أجل دعم الموقف العام. فالبحث في المعرفة ينمو من الميتافيزيقا، لا العكس. والنظرة إلى العالم أساسية، كما هي على الدوام.
الفصل التاسع
الميتافيزيقا: ما الواقع؟
نستطيع أن نقول إن الفصول السابقة قد عالجت مشكلات الوجود، والمعرفة، والاتصال معالجة دقيقة إلى حد ما. وإذا كان القارئ قد تملكه أي قدر من حب الاستطلاع الأصيل بشأن هذه المشكلة النظرية، فيكاد يكون من المحقق أن حب الاستطلاع هذا قد أشبع الآن، بل أتخم، بفضل تلك المجموعة الكبيرة من الإجابات الممكنة التي قدمناها. أما بالنسبة إلى كثير من الفلاسفة المحترفين، فإن كل ما ذكرناه إلى الآن لا يعدو أن يكون تلميحا إلى المسألة الفلسفية الحقيقية؛ لذا فقد آن الأوان لخوض تلك المشكلة التي ينظر إليها عادة عن أنها هي المشكلة الرئيسية في الميدان النظري بأسره، وهي المشكلة التي تمكننا من أن ننظر إلى كل ما ناقشناه حتى الآن على أنه مجرد مقدمة تمهد لها. فما هي طبيعة الواقع النهائي؟ وما العالم - أو ما الذي يكمن من وراء كل شيء؟ وما هو الشيء الأساسي (أو المادة، أو الفكرة أو الجوهر أو المبدأ الأساسي) في الكون؟
هذا السؤال يوجد ضمنا من وراء كل الأسئلة الأقل منه أهمية، التي تساءلناها في الفصول السابقة، كما أن كثيرا من الإجابات التي اقترحناها للأسئلة السابقة هي في الوقت ذاته إجابات ضمنية على هذه المشكلة الكبرى بدورها. فالعرض الذي قدمناه للنظريتين المتعارضتين إلى العالم، وهما المثالية والطبيعية، يشير بوضوح إلى رأيين متعارضين أيضا عن طبيعة الواقع. غير أننا لم نواجه المشكلة بعد بطريقة مباشرة. ويحق لنا أن نتوقع أن يؤدي هذا التحليل إلى الربط بين كل المناقشات والتحليلات التي عرضناها حتى الآن، بحيث يتمكن الطالب أخيرا من أن يتأمل عالم الفلسفة في نظرة شاملة. أما أن النتيجة ستكون كلا متماسكا، فهذا أمر لا نستطيع إلا أن نرجوه. وعلى أية حال، فسوف نصبح عندئذ أقدر على معالجة المشكلات المتبقية في الميدان النظري، وهي المشكلات المتعلقة بطبيعة «الحياة الخيرة»، ومسألة الواجب، وحرية الإرادة، والمشكلة الجمالية، ووجود الله، والخلود. وتلك هي المشكلات الأقرب إلى الطابع العلمي في الفلسفة، التي يستحسن أن ننتهي من تحليلنا الميتافيزيقي قبل الانتقال إليها، ذلك لأن الإجابات التي نأتي بها لهذه المشكلات العملية ستتوقف حتما، كما أوضحنا من قبل مرارا، على حلنا للمشكلة الميتافيزيقية.
تعقد المشكلة : تبدو المشكلة الميتافيزيقية لأول وهلة مسألة بسيطة متعلقة «بعدد» الكيانات التي ينطوي عليها الواقع؛ أعني، هل الواقع النهائي مفرد أم مثنى أم جمع. والواقع أن المسألة في أساسها بسيطة على هذا النحو، غير أن هذه البساطة الأصلية سرعان ما تتعقد كثيرا لوجود مشكلات كيفية أخرى متضمنة بدورها في الموضوع. فمثلا، إذا كان الواقع مفردا، فما طبيعة هذه المادة أو هذا المبدأ أو الكيان الواحد؟ وإذا كان ثنائيا، فما طبيعتا الكيانين أو الماهيتين اللتين ينطوي عليهما، وما علاقات كل منهما بالأخرى؟ وفضلا عن ذلك، فهل هذان الاثنان نهائيان بحق، أم إنهما قد يكونان أشبه بتلك النجوم المزدوجة المعروفة في الفلك، والتي تبدو دائرة حول مركز مشترك غير منظور قد يكون أكبر وأهم من كل منهما؟ وبعبارة أخرى، ألا يمكن أن يكون هذان التوأمان الميتافيزيقيان (اللذان يطلق عليهما عادة اسم «الذهن والمادة» أو «الروح والجسد») مجرد وجهين متعارضين لحقيقة واقعة واحدة تكمن من ورائهما، بحيث ينتهي الأمر بالثنائية الظاهرة لنا إلى واحدية فعلية؟ وإذا انتهينا إلى أن الكون تعددي، فما هي تلك الكيانات التي يرتد إليها الكل الظاهر؟ وكم عددها، وما صفاتها، وما علاقاتها المتبادلة؟
لم كان الإجابات كثيرة؟
وهكذا يتضح لنا أن هناك عوامل معقدة في مشكلتنا التي كانت في الأصل مشكلة كمية بسيطة - وأعني بها مشكلة معرفة ما إذا كان الكون وحدة أم ثنائية أم تعددا، ولا بد أن تفيد هذه الحقيقة في جعل القارئ يتعاطف مع الفيلسوف في محاولاته الوصول إلى جواب، ويقدر أيضا أسباب إخفاقه حتى الآن في الوصول إلى حل يقبله الجميع. وإنه لمن الخير أن نواجه هذه الحقيقة، وأعني بها أنه لا يوجد حول هذه المسألة من الإجماع أكثر مما وجدناه في حالة المشكلات الأخرى للفلسفة، بل إن الاتفاق على هذه المسألة أقل. فهناك، إلى جانب التقابل المعتاد بين المذهبين المثالي والطبيعي، خلافات بين المدارس الكمية الثلاث، بحيث نجد مذهبا تعدديا هو في أساسه مثالي، يتصارع مع مذهب تعددي ذي نزعة طبيعية، أو مثالية ذات نزعة واحدية قاطعة تعارض مثالية ثنائية في أساسها. وقد يتساءل الناس أحيانا «هل ينبغي أن يختلف الفلاسفة؟» ولكن ينبغي أن يلاحظ أن هذا السؤال قلما يوجهه أولئك الذين يعرفون الكثير عن الفلسفة ومشكلاتها. ومن المؤكد أنه لا يصدر أبدا عن أي شخص ملم إلماما كافيا بتعقد البحث الميتافيزيقي عن الواقع النهائي. أما الشخص الذي تمرس طويلا في هذا الميدان، فإن الأمر الذي يدعو إلى العجب في نظره هو أن الفلاسفة قد وصلوا إلى هذا القدر من الاتفاق. وسوف يكون الهدف الذي نضعه نصب أعيننا، ونحن نبدأ هذا الفصل، هو أن نقلل عدد وجهات النظر الميتافيزيقية المتعارضة بقدر الإمكان. (1) الآراء الأساسية للمذهب الواحدي
يدور بين مؤرخي الفلسفة أحيانا جدال حول مسألة ما إذا كانت الواحدية أو الثنائية هي التي ينبغي أن تعد وجهة النظر البشرية «الطبيعية»، والنتيجة التي يسفر عنها مثل هذا الجدل عادة هي أن الاختيار لا بد أن يتوقف على وجهة النظر التي نقصدها، وهل هي وجهة النظر الساذجة، غير النقدية، عند من يسمى «بالإنسان العادي»، أم هي الموقف العقلي المعقد للفلسفة واللاهوت المنهجي. ففي نظر الذهن غير النقدي تبدو الثنائية مذهبا يكاد يكون غير قابل للنقد. ذلك لأن الشخص الساذج فلسفيا، متمدينا كان أم بدائيا، يعتاد بطبيعته النظر إلى عالم تجربته على أنه مؤلف من مجالين منفصلين: عالم مادي فيزيائي، يوجد فوقه أو من ورائه عالم مستقل ذهني أو روحي. ويمكن أن يسمى هذا المذهب ب «ثنائية الموقف الطبيعي»، وهو منتشر إلى حد أنه يكون دون شك أكثر الآراء الميتافيزيقية شيوعا، وذلك طوال التاريخ وفي أيامنا هذه أيضا. أما الفيلسوف فيبدو مهيأ منذ البداية، بنفس المقدار، للانجذاب إلى موقف واحدي. ويبلغ هذا الميل من القوة ما يسوغ لنا القول بأن الثنائية والتعددية معا يمثلان أفضل اختيار ثان بالنسبة إلى الفلسفة. ذلك لأن البحث الميتافيزيقي هو عادة، في نظر من ينصرفون إليه جديا، بحث عن عنصر واحد نهائي من نوع ما. وعندما تسفر النتيجة عن توأمين أو أكثر، فإن ذلك يكون راجعا إما إلى سبب منهجي،
1
وإما لأن هناك اعترافا ضمنيا بأن الباحث قد أخفق في إرجاع الكون إلى مادة أو مبدأ كامن. ولما كان هذا الكتاب مدخلا إلى الفلسفة المنهجية لا إلى التفكير الشعبي، فسوف نبدأ تحليلنا ببحث الموقف الواحدي.
العنصر المشترك بين كل المذاهب الواحدية : على الرغم من أن الواحدية الميتافيزيقية تتخذ صورا شتى، فإن لهذه الصور كلها رأيا مركزيا مشتركا: وهو أن أساس العالم واحد، وأن كل وجود يرجع إلى «مادة» واحدة أو مبدأ واحد. وعلى ذلك فإن الواحدية هي تلك النظرة إلى العالم، التي تبحث عن الوحدة في الواقع وتهتدي إليها. وبذلك تجعل من التنوع الزاخر للتجربة البشرية مجرد جوانب متعددة لنعصر نهائي واحد. وقد يتحقق هذا التوحيد على أساس مادة واحدة، أو على أساس روح أو ذات واحدة، أو قانون أو مبدأ واحد، وربما على أساس نشاط واحد أو عملية واحدة. ولقد وجدت المذاهب المتعددة التي تنتمي إلى المذهب الواحدي، مصدر الوحدة الذي تقول به في مواضع متباينة. ونتيجة لذلك فإن المذاهب الفكرية الكاملة كانت من التباين بحيث إن «الفردانية
Singleness » هي القاسم المشترك الوحيد بينها. وعندما يبلغ التقابل بين بعض هذه المذاهب وبعضها الآخر ما يبلغه التقابل بين بعض الأشكال المتطرفة للواحدية المثالية وللواحدية المادية، فإنه يصبح من الواضح أن المواقف الميتافيزيقية الأخرى في داخل المذهب الثنائي أو المذهب التعددي قد يكون بعضها أحيانا أقرب إلى البعض الآخر من بعض المدارس الواحدية.
عبء البرهان يقع على عاتق المذهب الواحدي : ليست الواحدية، كما أوضحنا من قبل، هي وجهة نظر «الموقف الطبيعي» أو رأي رجل الشارع في الأمور، بل إن قدرا كبيرا من تجاربنا اليومية يسير في طريق مضاد تماما للمصادرة الأساسية للمذهب الواحدي. ولكي نجد سببا كافيا للشك في آراء أي نوع من المذهب الواحدي، فإن كل ما علينا هو أن ننظر إلى إنسان آخر - أو إلى أنفسنا في المرآة. ذلك لأنه يبدو لنا بوضوح أننا مزيج من جسم وشيء واع نسميه عادة «بالذهن» أو «النفس» أو «الوعي». كذلك لا يستطيع الإنسان في موقفه الطبيعي أن يتصور كيف يمكن رد أي من هذين العنصرين إلى الآخر، فكل منهما يبدو نهائيا. ولو تحولنا من أنفسنا إلى العالم الخارجي، لما كان من الضروري أن يكون المرء صوفيا أو شاعرا لكي يحس وجود «حضرة
» أو «روح» تكمن في الطبيعة، بل إن الإنسان في موقفه الطبيعة ذاته كثيرا ما يكون لديه شعور بشيء في الطبيعة غير المادة التي تتخذ شكلا عضويا. وهكذا فإن تجربتينا الداخلية والخارجية معا تؤديان طبيعيا إلى إثارة السؤال عن الطريقة التي يستطيع بها القائل بالمذهب الواحدي أن يثبت موقفه - والأهم من ذلك، الطريقة التي يستطيع بها أن يحافظ عليه.
والواقع أن الواحدي ذاته، بغض النظر عن نوع الوحدة الذي يدعو إليه، هو أول من يعترف بأن موقفه لا يسهل الدفاع عنه. ذلك لأن الهجوم موجه إليه من كل النواحي. وكثيرا ما يتنافس «الموقف الطبيعي» والمذهب الثنائي، والتعددي، فيما بينهم، لكي يروا أيهم يستطيع أن يدس أكبر القنابل تحت بنائه الواحدي المحكم. على أن للهجوم الموجه من الموقف الطبيعي تأثيرا خاصا، ولو شاء الفيلسوف أن يحتفظ بأي اتصال بعالم التجربة البشرية اليومية، لكان عليه أن يصل إلى نوع من التفاهم مع الموقف الطبيعي في اعتراضاته هذه. ولما كان يبدو بوضوح أن تجربتنا تثبت على نحو قاطع وجود عالمين منفصلين، فإن عبء البرهان (أو البينة) ينبغي أن يقع على عاتق أي شخص يزعم أن هذه الثنائية ليست إلا مظهرا.
الواحدية والموقف الطبيعي : لا شك في أن عبء البرهان هذا أثقل على الواحدي منه على القائل بالمذهب الميتافيزيقي المضاد؛ أي التعددي؛ ذلك لأن من الممكن إقناع معظم الناس بأن العالم أعقد مما كانوا يظنون، وأن مكوناته الأساسية قد تكون مكونات لا حصر لها. ولكن الأصعب من ذلك بكثير أن نقنعهم بأن تباينه وتعقده الظاهر ليس إلا مظهرا فحسب، وأن كل الأشياء وكل التجارب - التي تشمل هذين العالمين المتعارضين ذاتهما، عالم «المادة» وعالم «الذهن» ترتد أساسا إلى وحدة نهائية واحدة. على أن من حسن حظ الواحدي أن هذا لم يعد اليوم يقتضي من الإسراف في الخيال ما كان يقتضيه من قبل، أو أننا أصبحنا اليوم على الأقل معتادين على مثل هذا الإسراف؛ ذلك لأن المثقفين مهيئون ذهنيا في الوقت الحالي لقبول رأي العالم الفيزيائي، القائل إن المادة تخرج إلى حد بعيد عن نطاق الموقف الطبيعي. وقد أصبح في استطاعتنا أن نقبل القضية العلمية القائلة إن قرص المنضدة ليس هو ذلك الشيء الصلب الساكن الذي تدركه حواسنا، كما أننا تكيفنا مع الفكرة القائلة إنها كتلة دينامية مؤلفة من ملايين البروتونات والإلكترونات الدائرة. وإذن فدهشتنا، على الأرجح، تكون أقل من دهشة أجدادنا عندما يعلن فيلسوف معين بكل جدية أن التباين الظاهري للعالم ليس إلا قناعا يخفي ما هو في أساسه واحد، أو أن كل الأشياء في نطاق تجربتنا ليست إلا مظاهر لمادة واحدة أو روح واحدة. وليس معنى ذلك أن في استطاعة الواحدي، باستخدام تشبيهات ضعيفة أو استدلالات متهافتة، أن يدعم موقفه الآن بسهولة أكبر مما كان يستطيع به ذلك في الماضي، بل إن كل ما يعنيه هو أن احتمال مواجهتنا لمثل هذه الاقتراحات بالهتاف «غير معقول» قد أصبح أقل. فنحن قد أصبحنا أكثر استعدادا للاستماع إلى وجهة نظر الواحدي، سواء أكنا متفقين معه أم لم نكن. (2) مدارس الواحدية: المادية
هناك وجهان لنظرية الوحدة الميتافيزيقية ينبغي التفرقة بينهما. هذان الوجهان ينشآن من كون مشكلة الواقع النهائي مسألة ذات طابع مزدوج في أساسها. فأولا: ما طبيعة الوجود؟ وثانيا: ما عدده؟ وعلى حين أن قليلا من الفلاسفة هم الذين يحتفظون فعلا بالتفرقة بين المشكلتين الكمية والكيفية، فمن المهم أن ندرك أن المشكلتين متميزتان من الوجهة المنطقية. ولو لم نقم بهذا التمييز لشعرنا بالحيرة والارتباك عندما نصادف مفكرا يقول بأن هناك نوعا واحدا فقط من الوجود (أي مادة أو جوهرا أو مبدأ واحدا)، ولكن يؤكد بنفس القوة أن عدد الموجودات الفعلية غير محدودة.
2
إن من الصعب أن نحدد لأول وهلة أي نوع من الأنواع المتعددة للمذهب الواحدي هو الأكثر إقناعا من غيره؛ ذلك لأن الاختيار محدود في نظر معظمنا، ممن نشئوا على نوع من الثنائية. ويرى الفلاسفة أنفسهم عادة أن المادية هي النوع الأكثر إقناعا عندما يصادفه المرء لأول وهلة، ولكنهم لا يقصدون من ذلك أن مجرد كونه يبدو أكثر إقناعا هو دليل ضروري على حقيقته. وهناك مدرسة مادية متطرفة تذهب إلى أن المادة في مختلف صورها هي التي تؤلف الوجود كله. فلا شيء يوجد ما عدا المادة، على الرغم من كل المظاهر التي تبدو مخالفة لذلك، ولكن النوع الأكثر شيوعا بكثير في أيامنا هذه، هو ذلك النوع المعتدل من المادية، الذي يرى أن المادة، وإن تكن هي الحقيقة الأساسية، فإن الذهن يمكن أن تعزى إليه حقيقة ثانوية أو نصف حقيقة، تستمد من المادة أو تتوقف عليها. وتبعا لهذا الرأي المعتدل يعد الذهن تطورا للمادة، أو تنظيما عضويا لها، أو ثمرة لها «مثلما تزدهر النورة على الشجرة».
بعض مشكلات التعريف : نستطيع أن ندرك على الفور أن أي توحيد كهذا بين المادة وبين الواقع لا يمكن أن يكون له معنى إلا إذا عرف اللفظ تعريفا مرضيا. ولكن من سوء الحظ أن المادي ذاته كان في كثير من الأحيان غير دقيق في استخدامه لمصطلحاته الرئيسية. فقد كان، على وجه العموم، يكتفي بأن يستخدم لفظ «المادة» بنفس المعنى الذي يستخدمها به العالم. وهكذا نصل إلى نظرة إلى الواقع تجعله في هوية مع العالم الفيزيائي، الممتد مكانيا، والذي يسير وفقا لقوانين الحركة، بل إن المذاهب المادية القديمة كانت في العادة تعرف «المادة» و«الحركة» بأنهما هما الحقيقتان النهائيتان، ثم تحاول وضع مذاهب يرتد كل شيء فيها إلى هذين. أما اليوم فإن الفيلسوف المادي يعرف الواقع عادة بأنه مرادف لعالم الحوادث الفيزيائية الكيميائية. وعلى ذلك فالعالم الفيزيائي له الأولوية في نظر المذهب المادي؛ وبالتالي فإن المجالات الذهنية والروحية الأخلاقية ينبغي أن تخضع لهذا العالم الفيزيائي، وتقنع بأن تعد أنفسها أوجها له.
وكثيرا ما تثار أمام المادي مسألة كون مفهوم المادة يمر بتغير مستمر على يدي العلم، ويكون المقصود من هذه الإشارة هو أن تشييد نظرة إلى العالم على أساس مفهوم غير مستقر كهذا هو إجراء ميتافيزيقي مشكوك فيه. والواقع أن المادية تعترف بهذا التغير، ولكن دعاتها لا يخشون هذه الحقيقة. فهي بوصفها فلسفة، على استعداد تام لتشييد بنائها على العلم. وهي تفخر بصلتها الوثيقة بالعلوم، وتنظر إلى وصفها بأنها «فلسفة للعلم» وهو الوصف الذي يوجه إليها أحيانا بازدراء، على أنه مديح يدعو إلى الفخر. وفضلا عن ذلك، فإنها ترد على هذه التهمة القائلة إنها مبنية على مفهوم متغير، بالإشارة إلى أن المذهب الذهني، والمذهب الروحي، والمذهب المثالي، وجميع المذاهب الميتافيزيقية التي تبنى على الذهن أو الفكر بوصفه هو العنصر النهائي، تقف بدورها نفس الموقف. ذلك لأن مفهوم الذهن بدوره يمر بتغير مستمر، بل إن «الذهن» قد مر في نصف القرن الأخير بتغير أكبر مما مرت به «المادة». فقد أدى نمو علم النفس الحديث إلى تغيير عميق في مفاهيمنا عن أصل الذهن وطبيعته ووظيفته. ومن الجائز أن فرويد وحده، بنظريته في اللاشعور، قد أحدث في أفكارنا عن طبيعة الذهن تغييرا أعظم من كل ما أحدثه علماء الفيزياء في الأعوام الخمسين الأخيرة من تغييرات في آرائنا عن طبيعة المادة.
المادية الكلاسيكية في مقابل المادية الحديثة : كان المذهب الذي يمكن تسميته بالمادية الأقدم عهدا، أو الكلاسيكية، ينظر إلى المادة على أنها مؤلفة من جزئيات صلبة دقيقة يؤثر بعضها في بعض بطريقة آلية محضة؛ أي بالتصادم بعضها مع بعض ككرات البلياردو. وكانت المادة تعد جامدة أو «ميتة»، وكل التغيرات أو الحوادث تعد نتيجة لتعديل هذه الجزئيات لمواقعها. غير أن تقدم الفيزياء الحديثة قد أدى إلى القضاء على هذه النظرية القديمة، التي تعرف عموما باسم المذهب الذري الآلي. فلم تعد المادة تعد «ميتة»، أو حتى صلبة. والشيء الوحيد الذي ظل دون تغير هو تركيبها الانفصالي، أو طابعها الذري العام. وبدلا من الجزئيات الصلبة الجامدة، أصبحت المادة تعد الآن «طاقة منظمة مرتبة في نماذج أو أنماط»
3 ، بحيث إن العالم المادي يعد اليوم متصفا بكثير من الخصائص الدينامية التي كانت من قبل ترتبط بعالم الذهن أو الروح وحده. ولم تعد المادية اليوم تتحدث عن «المادة» وكأنها حد نهائي، وإنما أصبحت تقتدي بالعلم وتتحدث عن «الطاقة». وكثيرا ما أصبح يعترض اليوم بأن لفظ «المادية» لم تعد له أية صلة بالمذهب الذي يفترض أنه يصفه، وقد اقترح لفظ «مذهب الطاقة
Energism » بديلا عنه. ومع ذلك فإن المفكرين الذين يرون أن العالم الفيزيائي الكيموي هو النهائي، يفضلون في عمومهم الاحتفاظ باللفظ التقليدي - ولكن على أن يكون مفهوما أن «المادة» لا تعني تفسير الواقع على أساس ذرات متحركة، وإنما تشير إلى إرجاع التجربة والوجود معا إلى أية وحدات أساسية تقول بها العلوم الفيزيائية.
4 .
وسواء أقمنا بتغيير في المصطلح أم لم نقم، فمن الضروري أن نفهم الفارق بين المذاهب المادية القديمة والمعاصرة. ولو لم نفهم هذا الفارق لما كانت انتقاداتنا لهذا النوع الأول الكبير من المذهب الواحدي إلا من قبيل ذلك النشاط العقلي العقيم المعروف باسم «مهاجمة رجل من القش». والواقع أن كثيرا من الهجمات الموجهة إلى المادية، والتي تسمع اليوم في الأوساط المثالية، إنما تستهدف آراء لم يعد أي ممثل للمدرسة المادية يقول بها. ومما لا شك فيه أن الهجوم على الأشكال المعاصرة للواحدية المادية هو عمل يمكن أن يشغل المثالي بما فيه الكفاية، دون أن يضطر إلى أن ينفض الغبار عن آراء تاريخية لكي يسدد حربة إلى أجسادها التي تسهل إصابتها بالجروح.
نظرة أوسع إلى المثالية : سوف تتكون لدينا صورة أوضح للمادية، الماضية منها والحاضرة، إذا نظرنا إليها على أنها المذهب الذي يرى أن الواقع في هوية مع العالم الفيزيائي، بدلا من أن ننظر إليها على أنها مذهب مبني على المادة. والواقع أن هناك مزايا واضحة للأخذ بهذا التفسير للمادية. فهو أولا يوفر علينا أي جدل فني متخصص حول طبيعة المادة. وهو ثانيا رأي يمكن أن يظل صامدا لكل التغيرات التي تطرأ على الفهم العلمي «المادة». وهو ثالثا يؤدي بنا إلى وضع التأكيد في الموضع الذي يضعه فيه المادي ذاته؛ أعني في العالم الطبيعي في مقابل أي نوع من العالم فوق الطبيعي. فإذا نظرنا إلى المادية على هذا الأساس، لاتضح لنا أنها هي اللب الأنطولوجي لنظرة إلى العالم أوسع منها بكثير، هي المذهب الطبيعي. وعلى هذا النحو تتضح لنا علاقة الواحدية المادية بميدان الفلسفة بأسره، ونعود مرة أخرى إلى مواجهة القطبين الميتافيزيقيين اللذين طالما واجهناهما من قبل، وأعني بهما المذهبين المثالي، والطبيعي.
الآراء المادية في الذهن : من الواضح أنه، أيا كان المذهب الذي نختاره من بين المذاهب الواحدية الكبرى، فلا بد لنا أن نواجه على الفور مشكلة كبرى: هي كيفية تفسير الوجه المضاد في تجربتنا من خلال المذهب الذي اخترناه. وهكذا فإن المادية تواجه أشق اختبار لها عندما تحاول تفسير الذهن أو الوعي من خلال العالم الفيزيائي، على حين أن النقطة التي يرجح أن الواحدية الروحية تنهار عندها هي تلك التي تحاول فيها استخلاص العالم الفيزيائي من الذهن أو الروح. وعلى ذلك فإن المهمة التي تواجهنا الآن هي أن نبين كيف تفسر المادية وجود الذهن في الكون.
إن هناك طرقا ثلاثا لتحديد العلاقة بين الذهن والمادة في إطار المذهب المادي، ولهذه الطرق أهمية تاريخية؛ ففي استطاعتنا أولا أن ننظر إلى الذهن على أنه مجرد صفة
Attribute
للعالم المادي، تربطه به العلاقة المعتادة التي تربط بين الصفة وجوهرها. ونستطيع ثانيا أن ننظر إلى الذهن على أنه نتيجة (أو معلول) للمادة، بحيث إن اللفظ المستخدم للتعبير عن هذا الرأي، وهو «المادية العلية »، يوضح العلاقة بين عالمي الذهن والمادية. وأخيرا توجد «مادية توحيدية
Equative Materialism » ترى أن النشاط الذهني في حقيقته ذو طبيعة مادية.
5
ومن الواضح أن هذا الأخير هو أكثر المواقف الواحدية تشددا من بين المواقف الثلاثة الممكنة؛ لأنه يحاول تأكيد أن الذهني إنما هو ذاته المادي. أما «المادية الصفاتية
Attributive » فتكاد تكون أغمض من أن تلقي ضوءا على الموضوع؛ لأن العلاقة بين الجوهر وصفاته علاقة يصعب تعريفها. وأما الموقف الثاني أو العلي، فهو الموقف الذي يفضله علم النفس الحديث على غيره. وهذا ما ينبغي أن نتوقعه؛ لأن علم النفس، شأنه شأن أي علم آخر، يحرص أساسا على تنظيم ظواهر داخل إطار من القوانين العلية.
الموقف المعاصر : يمكننا أن نصف العلاقة بين العامل الفيزيائي والعامل الذهني، في ضوء موقف المادية المعاصرة، على النحو الآتي: فالذهن أو الوعي يعتمد على حركة المادة؛ أي على العنصر المادي المؤلف من المخ والجهاز العصبي المركزي، أو بعبارة أدق، فهو يعتمد على الحركة في داخل المادة؛ إذ إن العمليات الذهنية تعد نوعا من الطاقة العصبية، يرتبط بتغيرات الطاقة داخل الجهاز العصبي كله. ويحاول البعض أحيانا التوحيد تماما بين العمليات الذهنية والعصبية، كما رأينا من قبل في الفصل المتعلق بالذهن. وهذه «المادية التوحيدية» ترى أن العملية الذهنية أو الحادث الذهني في الوعي ليس إلا تغيرا عصبيا - وهو موقف يختلف عن الموقف الأقل تطرفا للمادية العلية التي نحن بصدد وصفها والتي ترى أن العنصر الذهني نتيجة لتغيرات الطاقة في الجهاز العصبي أو معتمد عليها. والواقع أن وجهة النظر التوحيدية المتطرفة سرعان ما تصادف صعوبات، وذلك في نظر معظم الفلاسفة على الأقل؛ ذلك لأنه، رغم أن من الأمور التي لا يكاد يتطرق إليها شك أن الوعي يستقر في المخ، ويرتبط بالتغيرات العصبية التي تحدث فيه، فإن أي توحيد بين الاثنين هو أمر يتنافى مع الفكر واللغة. فالقول إن الوعي هو ذاته «الحركة» أو «الطاقة» هو إما استخدام لهذين اللفظين في غير معناهما المقبولين، وإما قول لا يعني شيئا على الإطلاق.
والاعتراض في هذه الحالة هو أن مثل هذا الرأي ينطوي على القول بأن العمليات الذهنية ليست إلا مظهرا خداعا لخصائص معينة للمادة، على حين أن تجربتنا في الموقف الطبيعي تمنع من إرجاع الوعي إلى المادة على هذا النحو، بل إن أصحاب هذا الاعتراض يرون أننا لا نستطيع حتى أن نتصور كيف يمكن أن يكون الإحساس نتيجة لحركة من نوع ما، ميكانيكية كانت أم عصبية. ومع ذلك فإن المادي التوحيدي يرد، كما رأينا في فصل سابق، بأن «استحالة التصور» ليست دليلا على الإطلاق، كما اتضح مرارا خلال تاريخ الفلسفة. وهو يواصل رده قائلا إنه لما كانت الحركة تبدو هي الظاهرة الشاملة المصاحبة لكل الحوادث في الكون، فهلا يكون من المنطقي أن نفترض أنها موجودة أيضا في كل حادث ذهني؟
مشكلة المصطلح : من الواضح أن المناقشة في هذا الصدد سرعان ما ترتد إلى مسألة تعريفات ومصطلح. فيبدو أن المسألة الرئيسية هي ما إذا كانت الحركة الفيزيائية سببا وعنصرا مصاحبا
Accompaniment
أم هي المعادل الفعلي للعملية الذهنية. والواقع أن أغلب الماديين المحدثين يلجئون إلى الشكل العلي للمذهب، فيرون أن كل تغير ذهني ناتج عن تغير فيزيائي من نوع ما - وكما يعبر عالم النفس عن هذه الفكرة، «فليس ثمة حادث نفسي بدون حادث عصبي». أما التحديد الدقيق للطريقة التي يستطيع بها التغير العصبي أن يؤدي إلى إحداث تغير ذهني، فهو مشكلة تترك لعالم الأعصاب وعالم النفس. وللعلماء في هذين الميدانين نظريات متعددة، بعضها منطقي ومقنع، ومع ذلك فإن الطريقة التي تسبب بها الحوادث العصبية حوادث نفسية تظل، آخر الأمر، نوعا من اللغز الغامض، ويعترف المادي بأننا لا نعرف حتى الآن إلا القليل جدا عن هذه المسألة الحاسمة، ولكن ثقته الكبيرة بالعلم من حيث هو أسلوب لحل «الألغاز»، تجعله لا يشعر بالهزيمة من جراء حالة الجهل هذه، وإنما هو يؤمن بأن افتراض وجود أساس مادي من نوع ما للذهن ، هو افتراض أكثر منطقية (وأكثر اتساقا بالتأكيد مع بقية معارفنا العلمية) من الاقتداء ببعض المذاهب المثالية وافتراض وجود «ذهن» لا صلة له بالأصول الفيزيائية، ومستقل عن التغيرات الفيزيائية.
ولعلنا نذكر مما قلناه في الفصل الذي قدمناه عن «الذهن» (الفصل السادس) من أن مثل هذا الاعتماد السببي للذهن على الجسم لا يؤدي بالضرورة إلى واحدية فيزيائية تامة. ففي وسع المرء أن يقول، مع أنصار نظرية الانبثاق بأن الذهن قد ظهر نتيجة لمستوى جديد من التنظيم العصبي، ولكنه يستطيع في الوقت ذاته أن يقول إنه، بمجرد انبثاقه، قد أصبح يكون حقيقة مستقلة في الكون، تتميز كيفيا عن العالم المادي. وعلى حين أن مثل هذا الموقف ليس مستبعدا منطقيا، فإن معظم دعاة الانبثاق كانوا من الماديين السببيين، من ذلك النوع الذي نصفه الآن؛ لأن أي اعتماد سببي يبدو أنه يحيلنا إلى ميتافيزيقا واحدية. ومن الواضح أنه لما كان الرأي الحالي يجعل الذهن متوقفا على الجسم والعمليات الجسمية في وجوده ذاته، فإن الحصيلة النهائية لا بد أن تكون نظرة مادية إلى العالم. وفي مثل هذه النظرة يكون الواقع النهائي فيزيائيا أو ماديا، ومع ذلك يكون للعالم الذهني نوع مشتق أو غير مستقل من الحقيقة. (3) مدارس الواحدية: المذهب الروحي
ينبغي أن يلاحظ أن الواحدية التي وصفناها الآن هي واحدية حقيقية، وليس فردانية. فالواحدية فيها ترجع جذورها إلى «مادة» واحدة نهائية، لا إلى موجود واحد من نوع ما. وبينما الواحدي المادي قد يذهب إلى أن كل ما هو موجود متضمن في الكون الفيزيائي، فإنه يؤكد تفرد «المادة» التي صنع منها الكون، لا كليتها الشاملة الجامعة. أما إذا انتقلنا إلى المذاهب الواحدية الروحية، فهناك احتمال أقوى بكثير في أننا سنجد أنفسنا إزاء مذهب فرداني
Singularism
وقد وصفنا هذا المذهب من قبل بأنه يقول إن الأشياء كلها ليست إلا أجزاء أو فتاتا من الكل أو المجموع الشامل، وتحدثنا عن المثالية المطلقة بوصفها المثل الكلاسيكي لهذا المذهب. ولقد كان هناك دعاة للمذهب الروحي التعددي (مثل ليبنتس وباركلي مثلا)، يرون أن الأذهان الفردية أو «الأرواح» مستقلة بعضها عن البعض بدرجات متفاوتة، ولكن المذهب الفرداني والواحدية الروحية قد أصبحا في الفلسفة القريبة العهد شبه مترادفين.
الحجج الرئيسية للواحدية المثالية : هناك عدة حجج تساق لتأييد الواحدية المثالية أو الروحية، غير أن من الممكن إرجاع هذه الحجج إلى حجتين أساسيتين:
الأولى: هي حجة باركلي التي أصبحت الآن مألوفة، والتي هي أساس نظرية المعرفة المثالية الحديثة: فكل وجود كما نعرفه متوقف على التجربة، ومن ثم فكل وجود متوقف على القائم بهذه التجربة، الذي هو الذهن أو الروح أو الوعي. وعلى ذلك فإن الأذهان أو الأرواح وأفكارها هي كل ما يوجد؛ وبالتالي فإن الذهن أو الروح هو الحقيقة النهائية. والحجة الثانية تشير إلى واقعة لا يمكن إنكارها، هي أننا نحس بأنفسنا أو «ندرك» أنفسنا على أننا موجودات لا مادية أو روحية، لا يمكن التوحيد بين وجودها وبين وجود الأجسام المادية. وقد قبل كثير من المفكرين المثاليين هذا الشعور الحدسي دون مناقشة، وهو في نظرهم يمثل حجة قوية في صف الواحدية الروحية. وقد يعترض على ذلك بأن شعورنا بأنفسنا بوصفنا موجودات روحية، حتى لو كان حدسا صائبا لا يثبت أن الكون في مجموعه ذو طبيعة نهائية روحية. غير أن لهذا الحدث أهمية عظمى في البحوث الميتافيزيقية بالنسبة إلى المثاليين من جميع المدارس، الذين يرون أن طبيعة الإنسان تكشف خصائص الطبيعة الكونية. «فتركيب الواقع مماثل لتركيب أذهاننا». ولما كنا نعرف أننا موجودات روحية، فإن لنا الحق في القول إن العالم ذو طابع روحي.
التفسير الروحي للمادة : من الواضح أنه، مثلما أن أكثر الصعوبات التي تواجهها الواحدية المادية هي تفسير مصدر الذهن وطبيعته، فإن المذهب المضاد لها، وهو الواحدية المثالية، ينبغي أن يواجه صراعا عاتيا مع المشكلة المضادة. فلم توجد المادة - أو إذا شئنا أن نرد السؤال إلى أقرب أمثلته إلى البشر، فلنقل: لم كان للذهن جسم؟ إن الموقف الطبيعي يرى أن كثيرا من الردود التي تقدمها المثالية إنما هي أمثلة بارزة لمغالطة وضع العربة قبل الحصان. غير أن بعض هذه الردود منطقية صائبة، وهي تغدو مقنعة تماما إذا ما قبلنا المسلمة الأصلية لكل تفكير مثالي. ولعل أقوى هذه الحجج اثنتان؛ الأولى: هي أن الذهن يحتاج إلى الجسم بوصفه أداة للعمل الفعال؛ إذ إن الأفكار لا تغدو فعالة إلا إذا تم السلوك بمقتضاها، وهذا السلوك يحتاج إلى كائن عضوي مادي. والثانية: هي أن الذهن يحتاج إلى الجسم بوصفه أداة للاتصال. فنحن، بوصفنا كائنات عضوية، أشبه «بعوالم من الجزر»، منعزلون عن غيرنا من الكائنات الروحية، ولا يمكننا أن نتصل بعضنا ببعض إلا من خلال حواسنا - «فالنفس تخاطب النفس من خلال البدن» - والجهاز الحسي فيزيائي أو مادي بالضرورة. ومن هنا كانت حاجة الذهن إلى الجسم.
على أن لدى الواحدي المادي - كما قد نتوقع - ردودا على كل من هاتين الحجتين، أو لديه على الأصح ردا واحدا يسري عليهما معا. فهو يرى أن الحجتين معا تفترضان نفس الشيء الذي نسعى إلى إثباته؛ أعني ضرورة وجود عالم فيزيائي أو مادي. «فالجسم» لا يكون لازما للعمل الفعال إلا في عالم فيزيائي موجود من قبل. وبعبارة أخرى فنحن لا نحتاج إلى الأجسام لكي نخرج الأفكار إلى حيز التنفيذ. إلا لأننا نحيا في عالم من الأشياء المادية، وضمنه الأجسام الأخرى. ولو كان الكون بأسره روحيا أو ذهنيا، لما احتجنا إلى الأجسام المادية لكي تكون أدوات للفعل أو وسائل للاتصال. ففي وسعنا أن نتصور قطعا، في عالم من الوجود اللامادي، أن تتمكن الأذهان من الاتصال بالأذهان الأخرى والتأثير فيها مباشرة، دون أن تضطر إلى استخدام الأداة القاصرة التي تتيحها آليات الإحساس.
معركة المذاهب الواحدية : في معركة المذاهب الواحدية، يشعر كل جانب بأن موقفه يحتاج إلى مسلمات أصلية أقل، ولا يترك من النهايات غير القابلة للتفسير إلا عددا أبسط، فكل من الطرفين يعترف بأنه يلاقي صعوبة في تفسير وجود العالم المضاد، ولكن كلا منهما يشعر أيضا بأنه يستطيع القيام بهذا التفسير على نحو أفضل مما يقوم به خصمه. مثال ذلك أن المثالي يعترف بأن الأجسام وأجهزتها الحسية تبدو وسائل غير كافية للاتصال، أو أدوات غير كافية للعمل. ولكنه يرى أن القول بأن الوسائل المادية عاجزة عن تحقيق الأغراض الذهنية هو أمر أقرب إلى المعقول من القول بأن المصدر الذهنية كافية لتفسير وجود الذهن. وبعبارة أخرى، فإذا سلمنا بأن لكل موقف نقاط ضعفه، فإن المثالي يرى أن الأجزاء الواهنة عنده أقل ضعفا من تلك الموجودة في المذهب المادي. وينظر المادي من جانبه إلى مسألة بطريقة مماثلة؛ فهو يسلم بأن من الصعب تفسير الذهن على أساس الفرض المادي، غير أنه يذهب إلى أن هذه الصعوبة ليست إلا لهو أطفال إذا ما قورنت بالمشكلات التي تواجهها المثالية عندما تبدأ مقدماتها الذهنية. وينتهي المادي من ذلك إلى القول بأن من أكبر المشكلات التي تواجه المثالي كيفية إرضاء الموقف الطبيعي. ذلك لأن الاعتقاد بأن الذهن قد تطور أو انبثق من المادة، هو قطعا أقرب إلى المعقول من الاعتقاد بأن «الذهن» الشامل كان عليه أن يولد العالم المادي لكي يجعل منه مسرحا يمارس عليه فاعليته. ولا يبدو هذا الرأي الأخير، في نظر صاحب المذهب المادي، أقل إقناعا من نظرية «فشته» القائلة إن «الذهن» (أو الأنا، في مصطلحه الخاص) يخلق لذاته عالما خارجيا ماديا لأن الإنسان في أساسه موجود أخلاقي يحتاج إلى عالم مادي صلب يقاومه - فالأنا في نظر «فشته» يعتمد أن يضع أمام ذاته حدا من أجل أن يتغلب على هذا الحد، والإرادة تخلق المادة بوصفها عقبة لذاتها، حتى تمارس طبيعتها الأخلاقية في ذلك السعي المستمر. والواقع أن الواحدي المادي يرى أن موقف فشته هذا، رغم ما يتصف به من امتناع، إنما هو النتيجة المنطقية لذلك الانقلاب الذي يعكس به المثالي وضع العربة والحصان الميتافيزيقيين. فهو يحذرنا قائلا: إذا بدأت بالمقدمة المثالية الروحية، فسوف ينتهي بك الأمر، بطريقة منطقية خالصة، إلى حماقة فشته. (4) الواحدية المحايدة
لا بد أننا قد أدركنا الآن أن كلا من هذين المذهبين الواحديين يمثل تبسيطا مفرطا للمسألة الأساسية. فكلاهما يبدو وقد وقع أحيانا في مغالطة الرد
Reductive Fallacy ، وكلاهما يبدو مصابا بعمى جزئي فطري بالنسبة إلى إدراكه لأهمية جوانب معينة في التجربة البشرية. ومع ذلك فإن الجدل الذي احتدم بين المدرستين قرونا طويلة قد أفاد الفلسفة في نواح متعددة. فقد كشف هذا الجدل عن الطابع الأساسي للمسألة موضوع البحث، وبين عقم الحلول المبسطة لمشكلة الواقع، كما أنه أرغم كلا من الجانبين على أن يزداد تعمقا، فكشف بذلك عن متضمنات كثيرة جديدة للتجربة أصبحت جزءا من تراثنا العقلي الدائم. وأخيرا فإن هذا الجدل حين كشف عن عدم كفاية الموقفين المتطرفين (أعني حين كشف ذلك للجميع فيما عدا أولئك الذين يقولون بوجهة النظر نفسها) قد دفع المفكرين إلى البحث عن حلول أشمل وأكثرا إقناعا. وهكذا فإن ذلك الخلاف، الذي كان في بعض الأحيان مريرا، كان نافعا بقدر ما كان محتوما. فقد تعلمنا منه الكثير، حتى وإن يكن عدد أولئك الذين وجدوا فيه إجابات مرضية تماما قليلا بحق.
ولقد اقترح اسبينوزا، في أوائل عهد الفلسفة الحديثة، حلا يعد واحدا من الحلول الشاملة لهذه المشكلة الميتافيزيقية. هذا الحل هو النظير الأنطولوجي لنظرية «الوجهين» التي قال بها اسبينوزا بشأن العلاقة بين الذهن والجسم، وهي النظرية التي عرضناها في الفصل السادس. ويعرف موقف اسبينوزا أحيانا «بالواحدية المحايدة
Neutral Monism »، كما يشار إلى مذهبه بالقول إن الواقع النهائي ليس ذهنيا ولا ماديا، وإنما هو جوهر محايد، يكون الذهن والمادة مجرد صفات له. هذا الرأي، كم قلنا من قبل، ينظر إلى ذهن الإنسان وجسمه على أنهما مجرد وجهين لنفس الجوهر الواحد الكامن من ورائهما. وهكذا فإن تسميتنا للحادث «ماديا» أو «ذهنيا» تتوقف على الطريقة التي ننظر بها إليه. فإذا ما نظرنا إليه من خلال وجه معين (أي علاقات معينة) لبدا لنا حادثا ذهنيا، وإذا نظرنا إليه من خلال الوجه المادي، لبدا لنا بالطبع حادثا جسميا، ولكن الواقع أنه هو نفس الحادث، لا يمثل إلا تعديلا لنفس الجوهر الواحد.
مذهب اسبينوزا : على الرغم من أن الواحدية المحايدة لا ينبغي أن تعد هي ومذهب اسبينوزا شيئا واحدا، فإن تفكير اسبينوزا هو الممثل الكلاسيكي لوجهة النظر هذه؛ لذلك فإن خير ما يمكننا عمله هو أن ندرس بعض تفاصيل هذا المذهب. فاسبينوزا يرى أولا أن هذا الجوهر الشامل هو الموجود الحقيقي الوحيد، وليست كل الأشياء الأخرى، المادية منها والذهنية على السواء، إلا صفات أو أحوالا له. وهو يعرف هذا الجوهر صراحة بأنه «ما يوجد في ذاته ويتصور بذاته»، وفضلا عن ذلك فالجوهر هو ذاته الله. فكل ما يوجد هو الله أيضا، ولما كان الجوهر أو الله واحدا أزليا لا متناهيا، فإن الواقع بدوره واحد أزلي لا متناه. ويمتد هذا التوحيد بين الله والجوهر والواقع، في مذهب اسبينوزا، بحيث يشمل الطبيعة. ويقتصر اسبينوزا عادة، في مصطلحه الخاص، على استخدام اللفظين الأخيرين من هذه السلسلة الشاملة، ويتحدث في العادة عن «الله أو الطبيعة
Deus Sive Natura ».
وسوف تتاح لنا في فصولنا الأخيرة فرصة الكلام بمزيد من التوسع عن هذا التوحيد بين الله والطبيعة، الذي يعرف في المصطلح الفلسفي باسم «مذهب شمول الألوهية
»: على أن التفاوت في ردود الفعل على مذهب اسبينوزا، سواء في حياته وفيما بعد، يوضح مدى صعوبة تقدير هذا المذهب بطريقة مرضية. فقد لقي أثناء حياته اضطهادا من الكاثوليك والبروتستانت واليهود معا (وكان هو ذاته يهوديا)، وكان يطلق عليه اسم ذلك «الملحد اللعين»، وبعد قرن من الزمان وصف بأنه «رجل منتش بالله»، ومنذ ذلك الحين رفع إلى مرتبة هي أقرب المراتب التي عرفتها الفلسفة الحديثة إلى القديسين. وحقيقة الأمر هي، على ما يبدو، أن إرجاع الذهن والمادة إلى جوهر واحد مشترك لا يستتبع بالضرورة أية نظرية بعينها في وجود الله، ومع ذلك فإننا لو بدأنا بمصادرة الواحدية المحايدة، فإن أية ألوهية تبدو في مذهبنا ينبغي بالضرورة أن تكون ذات طابع شمولي أو حلولي.
تقدير نهائي : إن حكمنا العام على الموقف الحيادي لا بد أن يكون إلى حد بعيد تكرارا لحكمنا على نظرية «الوجهين» في طبيعة الذهن. ولا بد لنا أن نؤكد مرة أخرى أن الإنسان في موقفه الطبيعي لا يجد في طريقة وصف الواقع على هذا النحو معنى كبيرا. كما ينبغي أن نشير إلى أن أي رأي كهذا إنما يوجد في فراغ، من حيث قابليته للتحقيق؛ إذ لا توجد أية وسيلة يمكن تصورها، نستطيع بها أن نثبته أو نفنده. وحتى لو تسنى لعالم النفس في يوم ما إن يحقق نظرية «الوجهين» في علاقة الذهن بالجسم، فإن هذا لا يثبت أن من الممكن التوسع في النظرية بحيث تصبح نظرة شاملة إلى العالم. وهكذا فإن مذهبا كمذهب اسبينوزا لا بد أن يظل، بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية، عقيما من الناحية العلمية، مهما تكن أهميته الأخلاقية.
ولكن لا بد لنا، لكي نكون منصفين لهذا النوع من الواحدية، أن نعترف بأن جميع المذاهب الميتافيزيقية توجد بدورها، في نهاية الأمر، في فراغ كهذا من حيث قابليتها للتحقيق. فكلها تمثل تركيبات منطقية، لا بناءات فكرية مستمدة من التجربة. والواقع أن المذاهب الميتافيزيقية ليست امتدادا منطقيا هائلا لتجربة الإنسان فحسب، بل إنها تعترف صراحة بتجاوزها للتجربة؛ أي بأنها بعيدة عن منال التجربة. وهذا الطابع البعيد عن التجربة للمذهب الميتافيزيقي يظهر بوجه خاص في حالة الواحدية المحايدة؛ إذ إننا لا نستطيع حتى أن نتصور ما يمكن أن يكون طابع ذلك الجوهر الثالث الذي لا يكون الذهن والمادة إلا وجهين له. فهو لا يتجاوز تجربتنا وحدها، بل يتجاوز خيالنا أيضا. وحتى لو أمكننا أن نتصور هذا الكيان المحايد - وهو أمر مشكوك فيه - فإننا لا نستطيع قطعا أن نتخيل أو نتصور على أي نحو يمكن أن تكون طبيعته. ولن يعيننا في فهمنا على الإطلاق أن نطلق اسم «الله»، ما دامت الأفكار الغامضة الموجودة في أذهان معظمنا عن الله، لا تتفق هي ذاتها مع هذه الألوهية الاسبينوزية.
وبالاختصار، فعلى حين أن الواحدية المحايدة تتجنب المواقف المتطرفة، والتبسيطات المفرطة الممكنة لدى كل من منافسيها الواحديين، فإنها تبدو أقل منهما ذاتهما تقديرا لثراء التجربة البشرية وتعقدها. صحيح أن هذا المذهب يدمج هذه التجربة في كل موحد، على حين أن المذهبين الواحديين الآخرين يشطرانها فيما بينهما إلى حد يؤدي إلى اليأس من استعادة وحدتها . ومع ذلك فإن كلا من الحلين المتطرفين اللذين يأتي بهما كل مذهب، يبدو أقرب إلى الصواب بوصفه تفسيرا للواقع أو لتجربتنا في الكون المحيط بنا.
ولكن لنتأمل الآن ما تستطيع المواقف الميتافيزيقية الممكنة الأخرى أن تقدمه إلينا.
الفصل العاشر
الميتافيزيقا: الثنائية والتعددية
درسنا في الفصل السابق ثلاثة أنواع من الواحدية، ووجدنا أن الأنواع الثلاثة جميعا تواجه صعوبات - قد يكون بعضها صعوبات تقضي على المذهب بأسره. ولقد كان إخفاق الواحدية - الحقيقية أو المزعومة - يؤدي إلى القول بنوع من الثنائية. وأهم ما تقول به الثنائية. بإيجاز، هو أن الواقع يتألف من كيانين أو جوهرين أو مبدأين نهائيين لا يردان إلى غيرهما. ويختلف المفكرون في طريقة تصورهم للتقابل بين هذين العنصرين النهائيين، وإن كانوا في معظم الأحيان يسمونهما «بالذهن» و«المادة» أو «الروح» و«المادة»، وفيما يتعلق بالطبيعة البشرية، يؤكد المذهب الثنائي التضاد بين «الجسم» و«النفس» أو «البدن» و«الروح». وقد يتحدث الفيلسوف الثنائي أحيانا عن «وجود مادي» في مقابل «الوجود الذهني»، فأفلاطون مثلا قد وضع تقابلا بين العالم المحسوس (ويعني به العالم المدرك حسيا) وبين العالم المعقول (أي الذهني أو التصوري). أما الثنائيون اليوم فيفضلون الكلام عن العالم المادي في مقابل العالم الروحي. ولكن أيا كانت طبيعة هذا التقابل، وسواء أكانت تعبر عنه أسماء أم صفات، فإن وجهة النظر العامة تظل واحدة؛ فهناك نوعان من الوجود، ينفصل كل منهما تماما عن الآخر. والواقع أن لفظ «الثنائية» يشرح نفسه بنفسه، على شرط أن ننظر إليه في مفهومه الميتافيزيقي على أنه يدل على انقسام أساسي في داخل الوجود.
ومن الضروري بالنسبة إلى أي مذهب ثنائي أصيل أن يكون المبدآن النهائيان اللذان يتحدث عنهما غير قابلين للرد؛ أعني ألا يكون من الممكن إرجاع أحدهما إلى الآخر، وألا يكون من الممكن إرجاع أحدهما أو كليهما إلى مبدأ ثالث له الأولوية عليهما معا. وبعبارة أخرى، فإن الثنائية الأصلية لا تنظر إلى مبدأيهما الأخيرين - أيا كان اسمهما - على أنهما مجرد مظهرين مختلفين لشيء أهم منهما. وفضلا عن ذلك فإن الثنائية تعتقد أن هذا الانقسام في داخل الوجود دائم، لا مجرد حالة عارضة تزول بمضي الوقت بفضل ازدياد اصطباغ الواقع بالصبغة الروحية أو المادية. وهكذا يفترض أن الانقسام كامن في طبيعة الوجود ذاته - وليس مجرد وجه سطحي للأشياء.
وتفترض الثنائية عادة أن عالمي الوجود هذين مستقلان تماما، بحيث تكون لكل منهما قوانينه الخاصة وعملياته الخاصة. وفضلا عن ذلك فإنهما يعدان عادة متقابلين. ويتمثل ذلك بوضوح في تلك الثنائية الكلاسيكية التي عرفها الكثيرون منا طوال حياتهم عن طريق المسيحية، وهي عقيدة ثنائية في آرائها التي تنتمي إلى مجال الميتافيزيقا والأخلاق وعلم النفس. ولقد كان هناك، في العهود القديمة والوسطى المسيحية بوجه خاص، اتجاه إلى النظر إلى الحياة البشرية على أنها حرب لا تنقطع بين «البدن» و«الروح»، وكان المفروض أن نتيجة هذه الحرب التي تدوم طوال الحياة هي التي تحدد مصير النفس الفردية بعد الموت في الجنة أو النار. فإذا تركنا «البدن» ينتصر في هذه الحرب، فستكون النار مقرا أبديا لنا، أما إذا كسبت «الروح» الصراع، كان مصيرنا إلى الجنة. وكثيرا ما كان المسيحيون الأوائل ينقلون الحرب إلى منطقة الجسم ذاتها، بأن يأبوا عليه الغذاء والنوم اللازم، أو حتى الكساء الكافي لتدفئة الجسم. وعلى هذا النحو تضخم الصراع بين الجسم والنفس واتخذ طابعا دراميا. غير أن هذه الأساليب الزاهدة ليست إلا مظهرا مبالغا فيه للتقابل الثنائي بين مستوى الواقع النهائي، وهو التقابل الذي تفترضه المسيحية من حيث المبدأ. (1) الثنائية في المجال الأخلاقي
على أن المسيحية لا تحتكر وحدها هذا النوع من الثنائية، كما يتضح من هذه الحقيقة، وهي أن هناك كثيرا من الفلسفات الدينية الشرقية كانت تبدي اهتماما متساويا، وربما اهتماما أعظم، بوجود ثنائية أساسية في مجال الأخلاق. وفضلا عن ذلك فإن الثنائية الأخلاقية مذهب يعتنقه كثير من الغربيين الذين يعتقدون أنهم تركوا المسيحية ومؤثراتها خلف ظهورهم، مما يوحي بأن هذا رأي يستطيع الوقوف على قدميه دون ارتكاز على اللاهوت.
وتفترض الثنائية الأخلاقية عادة قوتين متعارضتين في الكون، تسميان في العادة باسم «الخير» و«الشر» - أو «الصواب» و«الخطأ»، بتعبير أقل دقة. وهكذا فإن التجربة البشرية تنطوي على صراع ، أو على الأقل اختيار بين هاتين القوتين المتعارضتين. إنه صراع يشترك فيه كل فرد بالضرورة، بأن يختار الجانب الذي سيحارب من أجله.
الثنائية في مقابل النسبية : بينما الثنائي الأخلاقي لا يزعم أن أي اختيار نصل إليه، أو أي فعل نقوم به، هو ضربة في صف الخير أو الشر، فيكاد يكون من المؤكد أنه يؤمن بوجود مبادئ مطلقة في الأخلاق. وبعبارة أخرى، فعلى الرغم من أنه لا ينظر إلى كل فعل على أنه «خير» أو «شر» بالضرورة، فإنه يؤكد أن الأفعال التي تنتمي إلى المجال الأخلاقي لا بد أن تكون خيرة أو شريرة على نحو واضح، قاطع، مطلق. ومن هنا كان هذا النوع من الثنائية متعارضا بشدة مع النسبية الأخلاقية. فالقائل بالنسبية يرى أن الأشياء نادرا ما تكون سوداء أو بيضاء فحسب، وإنما هي رمادية بدرجات متفاوتة. وواضح أن وجهة النظر النسبية هذه لا تتمشى مع الثنائية، ما دام لب أية وجهة نظر ثنائية هو التقابل الأساسي بين كيانين لا يردان (هما عادة كيانان مطلقان) من نوع ما.
ولقد ظهرت طوال التاريخ نظرات إلى العالم مبنية على الثنائية الأخلاقية، وكان معظم هذه المذاهب يقول إن العمليات الكونية؛ أي نفس عمليات الطبيعة ذاتها، إنما هي مظاهر لصراع جبار بين قوى الشر وقوى الخير. غير أن هذه الثنائيات الأخلاقية قد أصبحت في أيامنا هذه أقل اهتماما بصياغة نظرة شاملة إلى العالم. وإنما هي تكتفي بوضع مذهب أخلاقي شامل. وكثيرا ما نسمع اليوم عن مفكر يوصف بأنه ثنائي أخلاقي لأنه يدعو إلى (أو يمارس) حياة مبنية على أحكام أخلاقية واضحة المعالم - وإن تكن الألفاظ في هذه الحالة غير مستخدمة بدقة كاملة، بل إن من الشائع اليوم إطلاق اسم الثنائي الأخلاقي على ذلك الذي يصدر تقديراته وأحكامه الكبرى من خلال قيمتي الصواب والخطأ، ولا سيما إذا كان هذا الشخص صارما لا يلين في أحكامه، وإذا كان يعدها أحكاما مطلقة. وعلى أساس هذا المعنى الفضفاض للفظ - والذي هو مع ذلك معنى شائع - فمن الممكن أن يندرج ملايين الأمريكيين، وربما أغلبهم، ضمن فئة الثنائيين الأخلاقيين. ومن المؤكد أن أية شيعة مسيحية تهتم بالخطيئة والتكفير، تنطوي على ثنائية من هذا النوع، ذلك لأن من العسير بناء عقيدة تؤكد أهمية الخطيئة وعواقبها، دون أن يكون هناك تميز قاطع يفرق بين الأفعال الآثمة أو الخاطئة والأفعال التي ليست كذلك.
والواقع أن ما يعرف عند الأمريكيين باسم «التطهرية
» إنما هو مثال مشهور للثنائية الأخلاقية. صحيح أن تطهرية القرن السابع عشر (وهي التطهرية الأصلية) كانت ذات مضمون أوسع بكثير من هذا المذهب الحديث، غير أن ما يسمى «بالاتجاه التطهري»، الذي لا يزال ذائعا على نطاق واسع في أيامنا هذه، هو بلا شك ثنائية من هذا النوع. فهو ينطوي على إحساس جامد راسخ بالخير والشر، اللذين يعدان مطلقين ثابتين. والتطهري، في اللغة الشائعة، هو الشخص المتزمت غير المتسامح، الذي يعارض معظم أشكال اللذة، حتى تلك التي يعدها معظمنا لذات بريئة. هؤلاء الأشخاص يبنون موقفهم الصارم هذا على فلسفة من نوع ما، وهذه الفلسفة هي ثنائية أخلاقية. وهذه الثنائية الأخلاقية بدورها تستمد عادة من ثنائية ميتافيزيقية، تنظر إلى الجسم ورغباته على أنها شر بطبيعتها لمجرد كونها جزءا من النصف المادي للواقع. (2) الثنائية الكلاسيكية: ديكارت
كان أدق المذاهب الميتافيزيقية الثنائية التي ظهرت في الفلسفة، ذلك المذهب الذي عبر عنه المفكر الفرنسي ديكارت تعبيرا كلاسيكيا في القرن السابع عشر. فالمبدآن النهائيان في المصطلح الديكارتي - وهما «الذهن» و«المادة» - يوصفان على أساس أهم صفاتهما وأكثرها تفردا؛ ولذا يسميهما «بالفكر» «والامتداد» - أو بتعبير أدق، «الجوهر المفكر» «والجوهر الممتد» (أي الذي يشغل مكانا). ولقد كان انقسام الواقع، في نظر ديكارت وأتباعه، مطلقا: فكل من الجسم والذهن قائم بذاته، وخصائص كل منهما أو صفاته مختلفة كل الاختلاف. بل إن كلا منهما يستبعد الآخر: فأي شيء يكون صفة للذهن لا يمكن أن يكون صفة للمادة، والعكس بالعكس.
ومن المؤكد أن ديكارت لم يكن أول من اخترع الثنائية، غير أن صياغته للموقف الثنائي لها أهميتها ودلالتها؛ لأنها استخدمت الحتمية الآلية الدقيقة في التعبير عن كل الحوادث التي تقع في العالم المادي، على حين أنها رفضت الحتمية في المجال الذهني الروحي. وهكذا لم يفترض ديكارت نوعين من الوجود فحسب، بل إنه افترض أيضا نوعين من العلية.
العالم المادي حتمي، والعالم الروحي لا حتمي: كان ديكارت يرى، فيما يتعلق بالعالم المادي، أنه على حين أن الله هو العلة الأولى أو المحرك الأول الذي بدأ كل حركة، ومنذ هذه الدفعة الأولى، كانت كل الحركات آلية بحتة؛ وبالتالي فهي خاضعة للعلية الحتمية. وعلى ذلك فإن العالم الفيزيائي ليس حقيقيا ومستقلا عن الناس فحسب (وهي فكرة يظهر بوضوح مدى اختلاف ديكارت فيها عن المثاليين من أمثال باركلي)، بل إن سلوكه يخضع أيضا لتلك القوى الآلية التي طالما أكدها الآليون والحتميون. ولقد كان ديكارت يرى أن مهمة العلم هي كشف تلك القوانين التي تسري على العالم المادي. ويبدو أنه كان ينظر إلى هذه القوانين على أنها مطلقة وحتمية.
ولكن ديكارت عندما انتقل إلى بحث عالم الوجود الذهني أو الروحي، ولا سيما في علاقته بمظهره الرئيسي، وهو النفس البشرية، عكس موقفه تماما. فقد دافع في هذا المجال عن حرية الإرادة، بل إنه ذهب إلى حد القول بأن في وسع الإنسان أن يختار بحرية بين شيئين، بحيث يقع اختياره على ذلك الذي تكون رغبة عقله فيه أقل. (وهذا رأي مخالف لموقف إحدى المدارس القائلة بحرية الإرادة، وهي المدرسة التي تذهب إلى أننا نستطيع أن نختار ما نريد، غير أن هذا الاختيار يقع دائما على الطرف الذي يكون مرغوبا فيه أكثر من الآخر - وواضح أن هذا الرأي يقيد نطاق حرية الاختيار إلى حد بعيد). وعلى ذلك فإن ديكارت يرى أنه، مهما يكن مدى خضوع جسم الإنسان، بوصفه جزءا من العالم المادي للمؤثرات الحتمية، فإن ذهنه أو روحه يظل بلا تأثر بكل اختيار سابق أو بكل قوى خارجية.
ولقد كان الفاصل الذي وضعه ديكارت بين العالمين المادي والذهني فاصلا قاطعا، وكانت حتميته في الأول تامة، مثلما كانت لا حتميته في الثاني كاملة . ونتيجة لهذه الثنائية، اضطر إلى القول ببعض النظريات الغريبة؛ فكان يرى مثلا أن الإنسان وحده، من بين الكائنات الحية، هو وحده الذي يملك حرية الإرادة. أما الحيوانات فكان يعدها أجساما آلية منعدمة الحرية، بل منعدمة الإحساس أيضا؛ فقد كان يعتقد أن الكلب مثلا ليس إلا جهازا آليا يسلك على نحو مفتقر إلى التفكير وإلى الإحساس، شأنه شأن الآلة. ولم يكن نباح الكلب أو هزه لذيله، في نظره، سوى أفعال منعكسة، لا يصاحبها انفعال. والإنسان وحده هو الذي يتصف بالوعي وحرية السلوك. أي إن الإنسان هو في نظره وحدة أو نقطة التقاء القوى المادية والروحية. والكائنات البشرية وحدها، ومن بين كل الأشياء الموجودة في الكون، هي التي تشارك في كل من «الجوهر الممتد» و«الجوهر المفكر»؛ ولذا كان البشر وحدهم هم الذين يمكن أن تكون لديهم إرادة حرة.
الثنائية المتطرفة: الفرصية : بعد أن فرق ديكارت بين عالمي الذهن والمادة أتم تفرقة ممكنة، شرع في القيام بدور العالم والبحث عن القوانين العلية الآلية التي تسري على النصف المادي للواقع. ولكن من سوء الحظ أنه بعد أن أفلح في شطر الوجود إلى هذا الحد، ترك لخلفائه العبء الأكبر في مشكلة إرجاع كل من هذين النصفين إلى الآخر، من أجل تعليل تلك العلاقة العملية التي يتضح لنا جميعا أنها موجودة بينهما. غير أن الثنائيين يكونون عادة أكثر نجاحا في فتق الواقع منهم في إعادة رتقه، ولم يكن خلفاء ديكارت المباشرون استثناء من هذا الحكم العام. ولقد تقدم بعض أفراد هذه المدرسة بحل يائس يسمى بالمذهب الفرصي
Occasionalism ، وهو المذهب القائل إن الله يقوم بمعجزة في كل لحظة يقع فيها حادث جسمي يكون له نظير ذهني (كما هي الحال عندما أجلس على مسمار وأشعر بألم)، أو كلما أدى حادث ذهني إلى نتيجة مادية (كما يحدث عندما أقرر تحريك قدمي فأراها تتحرك بالفعل). والواقع أنه لا بد من تفسير متطرف مسرف في الخيال كهذا، من أجل تعليل العلاقة المتبادلة الواضحة بين الذهن والجسم، في عالم تام الثنائية كالعالم الذي صوره لنا ديكارت. ومن هنا فليس لنا أن ندهش كثيرا إذ نجد أصحاب المذهب الفرصي، بمجرد قبولهم للفرض الثنائي، قد طلعوا علينا بتفسيرهم هذا.
الصعوبات التي تواجهها الثنائية : يشعر كل خصوم الثنائية بأن أي تقارب مع هذا الفرض القائل بوجود حقيقتين منفصلتين، يؤدي بالضرورة إلى مشكلات عقلية لا تحل. مثال ذلك أنه إذا كان الذهن والمادة (أو الذهن والجسم) على هذا القدر الذي يقول به الثنائيون من الاختلاف، فكيف يكون أي تأثير متبادل بينهما ممكنا؟ بل كيف نتصور أن يكون كل منهما قادرا على التأثير في الآخر؟ وفضلا عن ذلك، فإذا كان عالما الوجود يسلكان وفقا لنظامين مختلفين للعلة والمعلول - أحدهما حتمي والآخر لا حتمي - فكيف أمكن أن يتكاملا معا؟ ولنضرب لذلك مثلا ذكرناه من قبل، وهو الجلوس على مسمار. فالثنائية تعترف بأن قوانين الطبيعة تؤدي إلى أن يكون لتلك التجربة تأثير مادي - أي إن سن المسمار ستخترق الجلد إلى عمق معين. غير أن الثنائية لا تفسر لماذا نضطر إلى أن نشعر بالألم إذا كانت أذهاننا حرة تماما، وإراداتنا تستطيع التصرف بحرية، ما دام الإدراك منتميا إلى المجال الذهني تماما. (ولو عرضت هذه المشكلة على واحد من أتباع مذهب «العالم المسيحي
Christian Scientist »
1 ⋆
لما اعترف بأننا مضطرون إلى الشعور بالألم، ما دام هذا مجرد «خطأ وقع فيه ذهن فان». غير أن هذا موقف لا يرغب في الدفاع عنه كثير من الثنائيين).
ولو خضنا مشكلة التأثير المتبادل من زاوية الوجه المادي للوجود، فعلينا أن نتساءل: لماذا يطيع جسمنا رغباتنا عادة؟ لنفرض مع الثنائي أن إرادتنا وأذهاننا حرة، على الرغم من أن أذهاننا مقيدة بالحتمية الآلية. ففي أية نقطة، إذن، من موقف العلة والمعلول (أعني من الذي أريد فيه تحريك رجلي فتتحرك فعلا) تصبح الفكرة «اللامتحددة» (أي التي لا سبب لها) سببا «محددا» للحركة المادية أو متحكما فيها؟ وإذا أبى الجسم، نتيجة للتعب أو المرض، أن يطيع ذهني، فكيف نفسر هذا الإخفاق؟ وعند أية نقطة في السلسلة العلية لم يعد الجسم يطيع علة متحكمة، واكتسب بدلا من ذلك إرادة خاصة به؟ إن الإجابات التي يرد بها المذهب الثنائي على هذه المشكلات عادة هي إجابات يائسة من نوع إجابات المذهب الفرصي، وذلك في نظر خصوم الثنائية على الأقل.
والواقع أن معظم الفلاسفة يرون أن أظهر نقاط الضعف في المذهب الثنائي هو إخفاقه في الربط بين حقيقتيه الأساسيتين في أي تفسير مقنع. وإنا لنجد هؤلاء النقاد على استعداد للاعتراف بوجود مبدأين نهائيين مختلفين في الكون، بشرط أن يتمكن أولئك المفكرون الذين يفترضون هذا الانقسام الأساسي، من تقديم صورة مقنعة للطريقة التي يرتبط بها هذان العنصران الثنائيان في داخل الواقع معا. ومع ذلك فقد ظلت هذه مهمة مستحيلة بالنسبة إلى الثنائيين طوال تاريخ الفلسفة الغربية، ويبدو أن الإجابات التي تقدم لا ترضي إلا الثنائيين الآخرين وحدهم على الأقل. (3) الثنائية في الفنون
كانت الثنائية على الدوام فلسفة ولها جاذبية خاصة بالنسبة إلى الفنانين والشعراء ورجال الأدب عامة. وليس من العسير أن نكتشف سبب هذه الجاذبية؛ ذلك لأن الثنائية كانت، من بين جميع نظريات العالم التي وجدت لها أنصارا كثيرين في العالم الغربي، أكثرها تلونا وتنوعا ودرامية. ومن ثم فقد كان من السهل إخضاعها للغايات الفنية، بحيث إن قدرا كبيرا من الفن والأدب الغربيين يعبر عن نظام ثنائي للعالم (أو يتضمنه على الأقل).
وكما نعلم جميعا، فإن الصراع هو محور الدراما، ولا يمكننا أن نجد موقفا ذا طابع درامي أوضح من ذلك تتقابل فيه قوى جبارة وجها لوجه. ولما كانت ماهية النظرة الثنائية إلى العالم تفترض هذا الصراع الجبار بعينه، فإن القيم الدرامية في هذه الفلسفة واضحة. ومما يضاعف من تأثير الصراع الدرامي في هذه الحالة، أن القوى المتعارضة التي ينطوي عليها هذا الصراع هي القوى النهائية في الكون. ومن المؤكد أن هذه الحرب ليست اشتباكا محليا تافها، وليست حملة صيفية، وإنما هي الصراع الأساسي بين عالمين : العالم الروحي في مقابل العالم المادي، والعالم الأعلى في مقابل الأدنى. وفضلا عن ذلك فإنها صراع يفترض أن كل إنسان مشتبك فيه، ما دامت الطبيعة البشرية هي البؤرة التي تتلاقى فيها هذه القوى المتعارضة. وهكذا يبدو أن الإنسان، بما يمثله من مزيج عجيب بين البدن والروح، يرتبط في وجوده الكامل ارتباطا لا ينفصم بالصراع الأبدي بين عالمي الوجود هذين.
الإنسان المنقسم : هذه الطبيعة الثنائية للإنسان، بما تقتضيه من ولاء موزع بين مجموعتين مختلفتين، بل متناقضتين، من القوانين، تجعله ذلك المخلوق الذي نعرفه؛ أعني ذلك المخلوق البطولي، الذي تكون المأساة ماهيته. ولقد وصف كثير من الشعراء هذا الولاء الموزع الأليم، الذي يمزق كل إنسان. ولكن أحدا لم يصفه خيرا من «فولك جريفيل»، وهو شاعر معاصر لشكسبير، في «الكورس» المشهور في قصيدته «مصطفى»:
ما أصعبه لك الموقف الذي تعيش فيه البشرية!
إذ تولد وفقا لقانون، وتلتزم بآخر،
وتولد عبثا، ومع ذلك تنهى عن الغرور،
وتخلق عليلة، وتؤمر بأن تكون سليمة.
ما الذي تقصده الطبيعة إذن بهذه القوانين المتباينة؟
إن الأفعال والعقل يولدان انقساما ذاتيا ...
فهل هي علامة عظمة أو قوة.
أن تصنع خطايا يمكنها غفرانها؟
إن الطبيعة نفسها تأمر نفسها.
بأن تبغض تلك الأخطاء التي ترتكبها هي ذاتها.
إذ كيف يفكر الإنسان فيما لا يجوز له فعله،
أولم تكن الطبيعة تخفق وتعاقب أيضا؟
إنها لطاغية على الآخرين، ظالمة لنفسها،
لا تأمر إلا بالصعب والشاق من الأمور،
وتنهانا عن كل ما تعلم أننا نشتاق إليه،
تيسر الآلام، أما المثوبة فتجعلها مستحيلة.
إن الطبيعة، لو لم تكن تجد في الدم لذة،
لجعلت طريق الخير أيسر.
أما نحن، الذين أخذنا على أنفسنا العهود والمواثيق،
وألزمتنا طقوس الضحايا والشعائر المقدسة،
بالدعوة إلى الإيمان بالله، والحض على التقوى،
والدعوة إلى معجزات السماء ومسراتها،
أما نحن، فعندما ينظر كل منا في قرارة نفسه،
فإنه يجد الله فيها مختلفا تماما عما يجده في كتبه.
وبهذه الطريقة الشاعرية ينقل إلينا «جريفيل» بعض النتائج التي تنطوي عليها الثنائية الأصلية. ومن المؤكد أن المأزق الأساسي الذي يضعه لم يحل بعد انقضاء ثلاثة قرون ونصف قرن على نشر قصيدته (1609م). غير أن هناك فارقا بارزا بين جريفيل وبين معظم الفلاسفة الثنائيين، سواء منهم من كانوا في أيامه ومن يعيشون في عصرنا، فمن الواضح أنه لم يكن سعيدا بفلسفته الثنائية. فقد كان يجدها مفروضة عليه، إن جاز هذا التعبير، ولكنه يحتج بقوة. غير أن معظم الثنائيين الصرحاء يبدون أكثر منه اطمئنانا إلى هذه النظرة إلى العالم، بل إن الكثيرين منهم يبدون سعداء بها، ويجدون تفسير جريفيل ذا نزعة مرضية مبالغ فيها. وعلى الرغم من أنني لا أعتقد أن الكثيرين منهم لا يودون تغيير البيت الأول من قصيدته بحيث يصبح:
ما أروعه ذلك الموقف الذي تعيش فيه البشرية!
فإن من الواضح أن معظم الثنائيين يجدون الموقف الإنساني أقل إيلاما مما وجده ذلك الشاعر الذي عاش في عصر إليزابيث.
كان كثير من المفكرين، وما زالوا، مقتنعين بأن الواحدية والثنائية معا ينبغي أن تعد مذاهب ميتافيزيقية تفتقر إلى النجاح. ومن ثم فإن هؤلاء المفكرين، ما لم يكونوا راغبين في التخلي عن البحث الميتافيزيقي كلية، قد وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الانتقال إلى المذهب الثالث من المذاهب الكبرى عن العالم. والواقع أن التعددية
بمعناها الدقيق، هي أية نظرة إلى العالم ترى أنه لا يوجد مبدأ أو كيان نهائي واحد أو اثنان، وإنما توجد كثرة منها. ولنقل، بمزيد من الدقة، إنها أية نظرة تحدد عدد العناصر الميتافيزيقية التي لا ترد إلى غيرها بأنه أكثر من اثنين. وهكذا فإن رأيا مثل رأي الفيلسوف اليوناني أنبادقليس، بما فيه من جواهر أولية أربعة (هي: التراب، والهواء، والنار، والماء) لن يكون أقل تعددية من أي مذهب يفترض عددا لا متناهيا من الجواهر.
وليس من الضروري، لكي يكون لدينا مذهب تعددي، أن تكون الكيانات النهائية الكثيرة منفصلة كيفيا. فالمذهب الذري الروحي، ومن ذلك النوع الذي قال به ليبنتس، والذي يكون فيه الوعي الإدراكي هو العنصر المشترك بين ذرات لا نهاية لها في العدد، يمكن أن يعد مذهبا تعدديا كميا؛ إذ إن كل الكيانات متشابهة في طبيعتها، وإن تكن متميزة بعضها عن بعض، ولا نهائية في العدد . أما مذهب أنبادقليس، بما فيه من عناصر أربعة تكون باتحادها موضوعات تجربتنا التي لا حصر لها، فإنه يمثل مذهبا تعدديا كميا وكيفيا في آن واحد. وهناك فيلسوف يوناني آخر، هو أنكساجوراس، كان يعتقد أن هناك من العناصر بقدر ما تستطيع حواسنا التمييز بينها، كالحمرة، والبرودة، والخشونة ... إلخ. وباختصار فإن لفظ التعددية يتضمن القول بكثرة من الكيانات النهائية، التي قد تكون متعددة كيفا وقد لا تكون.
إن من الصعب تعريف الطلاب المبتدئين بالمذهب التعددي، وذلك لسببين، أولهما أن هناك أنواعا كثيرة من التعددية، وثانيهما أن هذه الأنواع الكثيرة لم يكن بينها في بعض الأحيان أي عنصر مشترك سوى رفضها للواحدية والثنائية؛ لهذا السبب كان أفضل ما يمكن عمله هو اختيار عدد قليل من المذاهب التي تتمثل فيها خصائص التعددية أوضح ما تكون، والتي كانت أقواها تأثيرا، وبحث هذه المذاهب بإيجاز. وسوف نجد عند دراستنا لهذه المذاهب أن لدينا (على حد تعبير مصدر موثوق به)، «نظريات متعددة تجد ضالتها الفلسفية المنشودة في الكثرة والتنوع، لا في أي وحدة قابلة للمعرفة أو غير قابلة للمعرفة».
2
ولقد بدأنا هذا الفصل بأن وصفنا الثنائية بأنها هي المذهب الذي يعبر عن رأي الموقف الطبيعي، والواحدية بأنها نوع من المثل الأعلى لدى الفيلسوف. فقد كان الفلاسفة في عمومهم عاشقين للوحدة أو الواحدية؛ ومن ثم فإن الكثيرين منهم قد نظروا إلى أي شيء غير الواحدية على أنه إما أسلوب قصد منهم التيسير منهجيا (كما هي الحال عند ديكارت)، وأما أفضل موقف لأولئك الذين لا يمكنهم الوصول إلى الأفضل، وهو تحقيق نوع من الواحدية. وبطبيعة الحال لم يكن كل الثنائيين على استعداد لقبول هذا الموقف المتسلط للواحديين تجاه المذاهب الثنائية، بل إن أغلب الظن أن معظمهم كانوا على استعداد للاعتراف بأن الواحدية هدف مرغوب فيه عقليا إذا كان من الممكن تحقيقها. وهكذا يمكن النظر إلى الواحدية على أنها هي المعيار الأنطولوجي، وإلى كل من الثنائية والتعددية على أنها هي المعيار. ومن المؤكد أن التعددية كانت تعد في العادة انحرافا عن هذا المعيار أكبر من انحراف الثنائية؛ إذ إن الواحديين والثنائيين مهما اختلفوا فيما يبنهم، كانوا يتمكنون دائما من تكوين جبهة واحدة ضد التعددية، بل إن كليهما قد أعلن في كثير من الأحيان شكه في إمكان النظر إلى التعددية على أنها موقف ميتافيزيقي مشروع. وقد رأى البعض أحيانا أن التعددية تشكل خيانة للفلسفة، أو هي على الأقل تخل عن البحث الميتافيزيقي. فإذا كانت الثنائية هي أفضل موقف يلي الموقف الأصلي المفضل، فإن التعددية هي (في نظر كل خصومها) مذهب اليأس والاستسلام؛ ذلك لأنها تبدو لخصومها مذهبا لا يبذل أي جهد لتحقيق التكامل في تجربتنا، أو للنفاذ من وراء المظهر التعددي المعترف به للأشياء، من أجل الاهتداء إلى الوحدة الكامنة فيها - أو على الأقل الثنائية الكامنة فيها. ولكن لتستمع إلى ما يقوله التعددي ذاته.
التعددية اليونانية القديمة : كان أول مذهب تعددي في الفلسفة الغربية هو مذهب أنبادقليس (القرن الخامس ق.م.) الذي أشرنا إليه من قبل. أما قبل هذا المذهب فكانت الفلسفة اليونانية واحدية؛ إذ حاول كل مفكر أن يفسر العالم من خلال «مادة» واحدة كامنة وراء التغيرات الظاهرية، كالرطوبة، أو الهواء، أو النار ... إلخ. ولكن أنبادقليس اتخذ الخطوة التعددية الحاسمة، فتخلى عن الواحدية بوصفها مثلا أعلى، وافترض ذلك الرباع الذي اشتهر في علم العصور الوسطى: التراب، والهواء، والنار، والماء. هذه العناصر الأربعة، التي تتحكم في تنشيطها قوتا الحرب والكراهية (اللتان يمكننا تقديم ترجمة حديثة أفضل لهما، هي «الجذب» و«التنافر»)، هي مكونات كل ما يوجد، وضمنه العقل البشري أو النفس. وعلى ذلك فليس الكون والفساد إلا تغيرا في التركيب: «لا يمكن أن يفنى شيء ظهر إلى الوجود، أو ينتهي في غياهب الموت، بل كل ما هناك امتزاج، وانفصال لما امتزج». وهكذا فإن هذا المذهب التعددي الأول، مع كونه بسيطا، كان كاملا، وكان في إطاره الساذج، وحدوده الضيقة جدا، نظرة تعددية إلى العالم بحق.
وهناك مفكر يوناني آخر ذكرناه من قبل، كان قريب العهد من أنبادقليس، هو أنكساجوراس. هذا المفكر كان يرى أن مثل هذا الرباع البسيط من العناصر لا يكفي لتفسير التنوع الهائل من الانطباعات الحسية. وهناك عبارة تصف عمل هذين الفيلسوفين بدقة، تقول إنه بينما أنبادقليس قد مزق العالم الواحدي الذي صوره المفكرون الأوائل، فإن أنكساجوراس قد سحقه. فقد افترض أنكساجوراس عددا من الجواهر أو العناصر النهائية يماثل ما يوجد من كيفيات حسية، كالحرارة والبرودة والرطوبة والجفاف والصلابة والليونة. وفضلا عن ذلك، فقد نظر إلى هذه العناصر على أنها كلها موجودة في الأشياء جميعا، ولكن بدرجات متفاوتة. فهي منتشرة في كل مكان، بحيث لا يكون هناك جزئ من المادية ذو طابع بسيط أو نقي. ومع ذلك فلكل ماهيته، أو صفته الغالبة التي تفيد في تمييزه. ومن هذه الصفة نستمد طبيعة المادة واسمها - كما يحدث مثلا عندما نصف الثلج بأنه «أبيض»، مع أنه ليس في الواقع بياضا خالصا. (4) التعددية الحديثة
قدمنا من قبل عرضا عاما للمذهبين التعدديين عند ليبنتس وباركلي؛ ولذا فلن يكون من الضروري تقديم مزيد من الوصف لهذين المذهبين. ومع ذلك ينبغي أن يكون مفهوما أن كلا منهما كانت له أهمية عظمى في تاريخ الفكر التعددي. فقد كانت ليبنتس يمثل أعلى قمة بلغتها المدرسة التعددية في الفلسفة الحديثة قبل ظهور التعدديين في القرن العشرين. وبعد موت باركلي في أواسط القرن الثامن عشر، اضطرت التعددية إلى التواري عن الأنظار نتيجة لظهور ذلك التيار الواحدي الجارف الذي اشتهرت به المثالية الألمانية. أما إحياء التعددية من جديد في الآونة الأخيرة فيرجع الفضل الأكبر فيه إلى الفيلسوف البرجماتي الأمريكي المشهور، وليام جيمس.
كان الخصم الفلسفي لوليام جيمس هو المثالية المطلقة لدى الهيجليين، بنظرتها الكلية أو الفردانية إلى الكون. قد رأى جيمس أن أي مذهب يحاول تحقيق هذه الوحدة الفردانية لا يمكنه أن يقدر ثراء الحياة البشرية وتنوعها حق قدره. أي إنه كان، بالاختصار، يرتكز في استدلاله على أساس من تجربتنا المباشرة ، في مقابل نزعة التجديد المنطقي التي تتبدى في فكرة «المطلق» عند هيجل. وكان جيمس يعتقد أن درجة التجريد اللازمة للوصول إلى هذا المركب المطلق، والتي تنطوي على خطوات منطقية متعددة تتوسط بين التجربة العينية و«الذهن المطلق»، لا يمكن أن تؤدي إلى نظرة فارغة تماما إلى الواقع؛ أي إلى «ليل تكون فيه كل الأبقار سوداء».
3
ولقد كان جيمس يحب الحياة، بكل ما فيها من كثرة وتعقد وإمكانيات تتحدى الإنسان، حبا يندر أن نجد له بين الفلاسفة نظيرا. ومن ثم فقد رأى أن أية نتيجة فردانية للبحث الميتافيزيقي كذلك التي اقترحها هيجل إنما هي تجديف في حق الحياة.
والواقع أن تفكير جيمس يمثل التعددية الحديثة أصدق تمثيل، من حيث إن اهتمامه بالجوهر (أو الجواهر) الذي يكون الواقع، أقل من اهتمامه بتركيبه. فالتعددي المعاصر لا يسأل - على الأرجح - هذا السؤال: «ما مادة العالم أو موارده؟» وإنما هو يسأل: «كيف ينظم الوجود النهائي؟» ويعتبر أدق، فإن التعددين المحدثين يهتمون أساسا بالعلاقات بين مختلف أجزاء تجربتنا، بدلا من أن يبحثوا عما يفترض أنه كامن من وراء تلك التجربة.
ما العلاقات؟
إن لفظ «العلاقة»، كما يستخدم في الفلسفة، لفظ يصعب على الطلاب فهمه عادة. ولما كانت التعددية الحديثة نظرية في العلاقات إلى حد بعيد، فمن المنطقي أن نقوم بإيضاح هذا اللفظ الهام قبل أن نمضي في طريقنا أبعد من ذلك. فلنتأمل موقفا بسيطا مألوفا في كل فصل دراسي، لا يتضمن إلا شيئين: كتابا، ودرجا. ولنبحث في كل العلاقات التي يمكن أن توجد بين الاثنين، بادئين بالعلاقات المكانية الخالصة. فمن الممكن أن يكون الكتاب على الدرج، وفي الدرج، وتحت الدرج، وفوق الدرج، وإلى جانب الدرج، ووراء الدرج ... إلخ. فإذا توسعنا قليلا في مفهوم العلاقة، مع بقائنا في مجال المكان، وجدنا أن الكتاب يمكن أن يكون أصغر من الدرج، وأخف من الدرج، إلخ. وإذا أضفنا العلاقات الزمانية، فقد يكون الكتاب أقدم من الدرج أو أحدث منه. وإذا مضينا أبعد من ذلك في ميدان القيم (الاقتصادية وغيرها)، وجدنا أن الكتاب قد يكون أرخص من الدرج، أو أندر من الدرج، بل أهم من الدرج.
كل هذه الجمل تعبر عن علاقات ، كما هي الحال في كل قضية في اللغة. وقد يكون مما يعيننا على الفهم أن نتذكر أن لفظ «العلاقة
Relation » ولفظ «نسبي
Relative » مشتقان في اللغة الإنجليزية من أصل واحد. فكما قارنا بين شيئين أو أكثر، أو حددنا موقع شيء (من حيث المكان أو الزمان أو القيمة) بالنسبة إلى شيء آخر أو أشياء أخرى، كنا نشير بذلك إلى علاقات. وواضح أن كثيرا من أهم أحكامنا هي من هذا النوع العلائقي، وأن الاتصال بين البشر لا يمكن أن تكون له إلا أهمية ضئيلة بدون حروف الجر. ومما قد يفيد القارئ، في الفقرات التالية التي سندرس فيها موضوع العلاقات بوصفه موضوعا يهتم به المذهب التعددي - وهو جزء معترف بصعوبته في الفلسفة الحديثة - أن يحتفظ بقائمة من حروف الجر المألوفة في متناول يده لكي يتذكر معنى «العلاقات»: في، على، تحت، من، إلى جانب، إلى، وهلم جرا ...
نظرية العلاقات الداخلية : ينظر المثالي المطلق إلى الكون وإلى الواقع النهائي، كما رأينا من قبل، على أنه كل عضوي، يكون كل شيء فيه جزءا من كل شيء آخر، وجزءا لا يتجزأ من الكل، وسوف يزداد فهمنا لهذا النوع من المثالية وضوحا إذا أكدنا فكرة «العضوية» أكثر مما نؤكد فكرة «الكلية». والواقع أن الطابع الموحد، المتكامل، المترابط للكون هو الذي يكون أهم مميزاته، لا أي طابع فرداني يتسم به.
ومن الواضح أن العلاقات، في مذهب كذلك الذي يقترحه المثالي المطلق، لن تكون فقط علاقات متبادلة، بل هي أيضا علاقات داخلية. والواقع أن نظرية العلاقات الداخلية هذه، وهي النظرية الأساسية لكل مثالية فردانية، هي التي تميزها على نحو قاطع من التعددية، ما دام التعددي يرى كل العلاقات خارجية بالنسبة إلى الأشياء التي تربط بينهما هذه العلاقات. فالعلاقة، بالنسبة إلى المذهب الفرداني، ينبغي أن تكون علاقة بين جزء والكل الذي ينتمي إليه، أو بين الأجزاء الداخلية في كل - على شرط أن ينظر إلى هذه الأجزاء على أنها منتمية إلى الكل، لا على أنها تقف بمعزل عنه. وهكذا فإن نفس مفهوم العلاقة ينطوي ، في مذهب فرداني كمذهب هيجل، على فكرة الكل العضوي؛ أي إن «الارتباط في علاقة، أو الانتساب
Wholeness » يفترض «الكلية
Relatedness »، ولا بد أن تكون جذور العلاقات كامنة في طبيعة الأطراف التي تجمع بينها العلاقة.
غير أن هذه كلها أمور ذات طابع تجريدي ونظري مفرط؛ ولذا فلنرجع إلى مثالنا السابق عن الدرج والكتاب. فليس يكفي، بالنسبة إلى الفرداني، أن نعرف أن الكتاب على الدرج. فما هذه إلا بداية: ذلك لأنهما معا في حجرة، وداخل مبنى، هو بدوره في موقع جغرافي معين. كما أنه على الأرض وفي داخل المجموعة الشمسية، التي هي في حجرة معينة داخل الكون في مجموعة، ويعتقد الفرداني أننا لا نستطيع تكوين معرفة أصيلة عن الكتاب والدرج إلا إذا أدركناهما في هذا السياق الكلي، فالأشياء لا يكون لها معنى ولا دلالة - بل لا يكون لها وجود في نظر بعض الفردانيين - إلا بوصفها أجزاء من هذا الكل العضوي. أما إذا تأملنا الكتاب في علاقته بالدرج فحسب، فإننا حتى لو وصلنا إلى معرفة كلية بجميع العلاقات الفعلية والممكنة بين الكتاب والدرج، فلن تكون لدينا إلا معرفة جزئية تماما.
ومن الواضح أن مثل هذه النظرية في المعرفة تؤدي بالضرورة إلى جعل كل العلاقات باطنة أو داخلية. فلما كان كل شيء جزءا من كل عضوي، فإن كل العلاقات بين الأشياء ليست إلا علاقات بين أجزاء من هذا الكل. ولما كانت الأجزاء داخل الكل، فإن العلاقات بين هذه الأجزاء الداخلية هي أيضا علاقات داخلية في داخل الكل العضوي.
وعلى الرغم من أننا قد استخلصنا المثال السابق من مجال العلاقات المكانية، فمن الواجب أن ندرك أن الفردانية تتجاوز في نظريتها في العلاقات نطاق العالم المكاني بكثير. وفضلا عن ذلك فهي تشتمل على أكثر من مجرد العلاقات المكانية والزمانية (مثل «قبل» و«بعد» و«سابق» و«لاحق» إلخ)، مجتمعة. فكل أنواع العلاقات تخضع للنظرة الشاملة لأي مذهب فرداني كالمثالية المطلقة، ولكنها كلها تظل داخلية، ما دامت كلها أجزاء من «المطلق».
نظرية المذهب التعددي في العلاقات الخارجية : أما المذهب التعددي فيرى أن العلاقات خارجية في أساسها. فهي مستقلة عن الأشياء التي تربط بينها العلاقات، والتي يمكن أن تدخل في العلاقات أو تخرج منها دون أن يلزم عن ذلك أن تكون منتمية إلى كل شامل من أي نوع، بل إنه حتى حين تكون الأشياء أجزاء من كل، يظل من الممكن أن ترتبط هذه الأجزاء بعضها ببعض ارتباطا مستقلا، دون نظر إلى أية صلة قد تكون لها بالكل. مثال ذلك أن موقع الكتاب بالنسبة إلى الدرج - من حيث هو فوقه أو تحته أو فيه، إلخ - يظل قائما بغض النظر عن موقع الدرج بالنسبة إلى أي شيء آخر. ويؤكد التعددي أنه، سواء أكان الدرج في الفصل أم في عربة نقل متحركة، أم في مخزن، أم في قطار، أم في محل تجاري، فمن الممكن أن تظل هناك علاقات منفصلة بينه وبين الكتاب. (5) الواقعية الحديثة
تعد نظرية العلاقات الخارجية هذه من أهم الأسس التي تقوم عليها بعض من أهم المدارس الحديثة في نظرية المعرفة، وهي التي تصنف على أنها مختلفة من الواقعية. وعلى الرغم من أن الآراء المتعددة لهذه المدارس صعبة ومتخصصة إلى حد بعيد، فقد يساعد تقديم موجز مبسط لها على زيادة فهمنا للتعددية المعاصرة.
ويمكن القول بوجه عام إن الواقعية الحديثة ثورة على المثالية، الذاتية منها والموضوعية. وهي بوجه خاص ثورة على النظرية المثالية الرئيسية القائلة إن الذهن يقوم بدور أساسي في بعث موضوعات المعرفة إلى الوجود. وهكذا تعيد الواقعية تأكيد تلك الحقيقة التي لم يشك فيها الإنسان في موقفه الطبيعي أبدا: وهي أن عالم الطبيعة أو الموضوعات الفيزيائية يوجد على نحو مستقل قل أن يمر بتجربتنا. ومع ذلك فإن الواقعية الحديثة أعمق من تلك الواقعية الساذجة التي يقول بها الموقف الطبيعي، ما دامت تعترف بأن الموضوعات تنتسب إلى الوعي، وإن كانت تنكر (على خلاف المثالية) أنها تعتمد على الوعي. وتعترف نظرية الاستقلال الواقعية هذه بأنه عندما تحدث المعرفة يكون هناك، كما هو واضح، عارف يتعامل مع موضوعات، ولكنها لا تعترف بأن هذه العلاقة المعرفية مسئولة عن طابع الموضوعات كما نعرفها. فكون الشيء معروفا (أي كونه يصبح موضوعا للتجربة) هو أمر يحدث لشيء موجود من قبل. وخصائص هذا الشيء الموجود من قبل هي التي تحدد ما يحدث عندما يعرف هذا الشيء. وهذا يؤدي إلى عكس وجهة النظر المثالية، التي ترى أن فعل المعرفة لا يؤثر فقط في طابع الموضوع، بل إنه مسئول إلى حد ما عن وجوده ذاته.
الموضوعات لا تتأثر بكونها معروفة : تحرص الواقعية على أن تؤكد بوجه خاص أن الأشياء لا تتغير على أي نحو حين تصبح معروفة. فالشيء يظل كما هو قبل دخوله الوعي، وفي أثناء الوعي به، وبعد أن يختفي وعينا به. وعلى حد تعبير واحد من الواقعيين البارزين، فإن «الموضوع لا يدين بصفاته كما تعرف، ولا بوجوده، للذهن الذي يعرفه».
4
ومعنى ذلك، بعبارة أقل تخصصا، أن الأشياء تدخل أذهاننا بحرية (وتتركها فيما بعد عندما نحول انتباهنا إلى شيء آخر) دون أن تتأثر هي ذاتها. فالأشياء في بيئتنا أشبه بذرة من التراب في الهواء، تمر بشعاع من ضوء الشمس، ثم تنقل بعيدا عن الضوء دون أن يتغير طابعها الترابي بهذه الإضاءة القصيرة: إذ إن طبيعتها الخاصة لا تتأثر بتلك اللحظات المتناثرة من المجد المعرفي، وهي اللحظات التي نصبح فيها على وعي بها، وإنما هي سابقة ولاحقة في وجودها بالنسبة إلى أذهاننا، ومرورها عبر شعاع الوعي هو حادث لا يغير من وجودها المستقل في شيء. ومن هنا كان إطلاق اسم «الواقعية» على هذه النظرية القائلة إن للموضوعات وجودا واقعيا (أي فعليا لا ذهنيا) مستقلا تماما عنا وعن كل نشاط معرفي لنا. ومن الواضح أن هذا يؤدي إلى جعل علاقة المعرفة علاقة خارجية، ما دامت الموضوعات المسماة بموضوعات المعرفة تدخل في هذه العلاقة وتخرج منها بسهولة دون أن يؤدي ذلك إلى حدوث تغيير فيها. وهنا أيضا نجد أن هذه النظرية تنطوي على تعددية واضحة، ما دام الواقع النهائي يتألف من عدد هائل من الأشياء ذات الوجود المستقل.
وفي مقابل هذا الموقف الواقعي التعددي، يرى صاحب المذهب الفرداني أنه ليس ثمة شيء يوجد بذاته، ولا واقعة تكون تامة في ذاتها. وفضلا عن ذلك فإن أية عبارة لا تكون تامة الصحة إذا ما نظر إليها في ذاتها؛ ذلك لأن كل واقعة تؤدي آخر الأمر إلى كل واقعة أخرى، بحيث تكون كل وقائع الكون، في النهاية، متضمنة في أية عبارة أو قضية واحدة. ولو عدنا بالذاكرة لحظة إلى تحليلنا لمشكلة «الحقيقة» في الفصل السابع، لاتضح لنا على الفور أن هذه النظرية الفردانية في العلاقات الداخلية ترتبط ارتباطا وثيقا بالنظرية التي تجعل الحقيقة ترابطا. وقد عرفنا أن القضية تكون صحيحة في هذه النظرية إذا كانت تترابط أو تنسق مع بقية معرفتنا أو نسق اعتقاداتنا. كما رأينا أن الرياضيات تتيح لنا أفضل مثال لتطبيق نظرية الحقيقة هذه، ولاحظنا مدى تفضيل المثالي لنظرية الترابط هذه.
رفض المذهب التعددي لفكرة الترابط : أما المذهب التعددي فيرفض نظرية الترابط بوصفها معيارا نهائيا للحقيقة، ويفضل نظرية التطابق، التي هي أقرب إلى الطابق التجريبي، أو المعيار البرجماتي، الذي هو أقرب إلى الطابع العلمي. فالقضايا قد تكون مكملة بعضها لبعض في نظر التعددي، ولكن هذا الإكمال لا ينطوي بالضرورة على تعديل.
5
وهكذا يرى التعددي أن الوقائع يمكن أن تكون مستقلة بعضها عن بعض، وأن مختلف أجزاء تجربتنا لا يتعين أن تكون لها علاقة بعضها ببعض، وأن الكون قد يكون مجرد مجموع متراكم؛ أعني «عالما للمقال
A Universe of Discourse »، بدلا من أن يكون كيانا أو موجودا عضويا من نوع ما. وهذا يؤدي إلى جعل بيئتنا أكثر إثارة إلى حد لا متناه، من حيث إمكانيات ظهور مواقف جديدة كل الجدة فيها. فالتعددية تصور الكون على الطريقة التي صوره بها العالم الدنمركي «تيخو براهي
Tycho Brahé »؛ أعني أنه كون قد تكون آلياته غير منضبطة تماما، بحيث تسمح بكثير من الخروج عن النظام الدقيق، وقد تكون المصادفة فيه عاملا حقيقيا هاما إلى أبعد حد. فالتعددي يؤكد ما أطلق عليه اسم «الشكل الفردي
Each-Form » للواقع، لا «الشكل الكلي
All-Form » كما يتمثل في المذهب الفرداني ، وهو ينظر إلى الواقع من خلال «الكثير» لا من خلال «الواحد». (6) المذهب التعددي والحضارة الأمريكية
ليس من المستغرب أن نجد المذهب التعددي المعاصر يزدهر إلى أقصى حد في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ذلك لأن التعددية فلسفة تجعل من التغير وعدم القابلية للتنبؤ والمغامرة فضيلة. وبدلا من أن يجد المفكرون في عناصر التجربة البشرية هذه شيئا ينبغي استبعاده أو إخفاؤه تحت البساط الميتافيزيقي، فإنهم يجدونها أساسية في العالم الواقعي، بل يجدونها مثيرة فيما تتيحه من تحديات وفرص. والواقع أن صياغة المذاهب التعددية قد ارتبطت بالنمو السريع للحضارة الأمريكية خلال ثلاثة أرباع القرن الأخيرة، وأنه لمن الصعب تصديق أن هذا الارتباط حدث «بمحض المصادفة». وحتى لو كان الأمريكيون قد بدأوا الآن يزدادون اهتماما بالأمان ومسايرة التيار السائد مما هم بالمغامرة والفرص التي تقتضي خوض مخاطر، كما يعتقد كثير من الملاحظين الاجتماعيين اليوم، فإنه يبدو من المؤكد أن التعددية ستظل تجتذب كثيرا من الأمريكيين. فالمدينة الأمريكية بأسرها تعددية إلى حد لا يكاد يكون له نظير في غيرها من المدنيات.
ومن الأسباب التي ترجع إليها هذه الظاهرة، الحجم المادي المجرد للولايات المتحدة. كذلك فإن تنوع الأصول العنصرية والحضارات القديمة التي انصهرت في البوتقة الأمريكية كان من الأسباب التي شجعت على انتشار التعددية. وقد أسهم في ذلك أيضا نظام الحكم الذي يفتقر نسبيا إلى التركيز؛ فهناك حكومة فدرالية، وحكومات للولايات ومجالس للمقاطعات والبلديات، كلها تتنافس على ولاء الأمريكيين وعلى أموال ضرائبهم. مما يزيد في تعدد الولاء وتعدد الضرائب الذي يجد الأمريكيون أنفسهم موزعين بينه. كذلك فإن أمريكا ما زالت تتصف بقدر كبير من الحركة الاجتماعية، وهذا يعني أن في استطاعة معظم الأمريكيين، في أي وقت يشاءون تقريبا، أن ينتقلوا إلى سكنى أماكن جديدة والاشتغال بأعمال جديدة، وتكوين مجموعة جديدة من الأصدقاء. وهذا يشجع بالطبع على تغير الاهتمامات وتحول الولاء. وما زالت الفوارق الإقليمية بين الأمريكيين قوية التأثير إلى أبعد حد، على الرغم من أن أهميتها أصبحت أقل مما كانت عليه منذ جيل مضى. فمعايير إقليم معين تختلف عن معايير إقليم آخر. وبينما أن الأشخاص الذين عاشوا طيلة حياتهم في نفس الإقليم قد يرون أن معايير هذا الإقليم واتجاهاته هي المعايير الوحيدة الصحيحة، فإن هناك من التنقلات السكانية ما يكفي للحيلولة دون أن تصبح هذه المعايير مطلقة.
وأخيرا، فإن المدنية الأمريكية، شأنها شأن مدنية أية أمة صناعية حديثة، تبلغ من التعقد والثراء حدا لا تستطيع معه تجربة أي شخص أن تستوعب إلا قدرا ضئيلا من هذا التعقد والثراء. فالتخصص المهني، بالإضافة إلى قصر الحياة البشرية وضيق نطاق الطاقة الإنسانية، يعني أن أعظم الأشخاص موهبة ونشاطا ينبغي أن يقصروا جهودهم على جزء محدود من المجال الممكن. وهذا يعني بالضرورة أن الناس من مختلف المستويات الثقافية والمهنية والاجتماعية، أو من مختلف أجزاء البلاد، لا يتحدثون لغة واحدة إلا بمعنى حرفي هو أنهم جميعا يتكلمون الإنجليزية. غير أن ما يتحدثون عنه، أو ما يعنونه بالكلمات التي يقولونها ويسمعونها، قد يبلغ من الاختلاف حدا يجعل استخدام لغة مشتركة أمرا لا يعني إلا القليل. ففي جميع أرجاء المجتمع الأمريكي، ابتداء من وزارات الحكومة الفدرالية فما دونها، يحدث في كثير جدا من الأحيان ألا تعلم اليد اليمنى ما تفعله اليد اليسرى. فلدى الأمريكيين تعددية في الحكومة، وتعددية في الطبقات الاجتماعية، وتعددية في المعايير الأخلاقية، وتعددية في التخصصات المهنية، وتعددية في الفنون (أي مدارس مختلفة في الرسم والموسيقى والدراما وغيرها)، وتعددية في الفلسفات - أو المدارس الفكرية، كما يسميها الأمريكيون عادة. وهكذا تبدو التعددية الميتافيزيقية هي المذهب الذي يعد اعتناق الأمريكيين له أقرب إلى المنطق - وذلك بالنسبة إلى التعدديين أنفسهم على الأقل. (7) حكم نهائي على المذهب التعددي
ينبغي أن يترك لكل قارئ على حدة الحكم النهائي على المذهب التعددي من حيث هو موقف ميتافيزيقي، كما اعتدنا أن نفعل في هذا الكتاب الدراسي. ولو قارنا هذه النظرة إلى العالم بالواحدية أو الثنائية، لوجدنا أنها تقدم إلينا صورة للواقع تجعله مثيرا، ديناميا، دائم التغير. فالكون في نظر التعددية يتصف أساسا بالتغير، ولو وصفنا الكون بأنه أزلي لما كان معنى ذلك أنه سكوني، أو «مقفل على ذاته»، كما يقول مذهب الفردانية. بل إن من الممكن أن يكون التغير والتنوع أزليين كالنبات فليس الكون في حاجة إلى أن يكون كلا عضويا، متجمدا على صورة «مطلق»، لكي يكون الواقع، بل إن التغير أهم في تجربتنا من الثبات، والأشياء التي لا حصر لها، والتي تتألف منها تجربتنا - أعني «الكثرة» - أهم بكثير مما يمكن أن يكون أي «واحد» متخيل.
وقد يعتقد القارئ، كما يفعل كثير من المفكرين، أن الرأي التعددي مهما كان مثيرا، فإنه لا يرضينا عقليا. وقد يكون الانطباع الذي نكونه عن صورة الواقع كما يقدمها إلينا هذا المذهب هو أنها أكثر «تخلخلا» وربما «اختلالا»، من أن تكون نظرة إلى الأشياء كما هي في أساسها، يمكن قبولها على نحو دائم. وقد نتفق مع أولئك الفلاسفة الذين يرون أن أية نظرة إلى العالم لا تستطيع أن تفرض على تجربتنا نظاما ووحدة أكثر من تلك التي يفرضها عليها المذهب التعددي، ليست مذهبا ميتافيزيقيا أصيلا. وبالاختصار فإن النظرة التعددية تبدو لأذهان كثيرة «تركيبية» (بالمعنى الشائع لهذا اللفظ) أكثر منها «جامعة»، على النحو الذي يفترض أن تكون عليه المذاهب الفلسفية. وهكذا يقال، اعتراضا عليها، إن الذهن البشري ينشد، ويستحق، شيئا أفضل من هذه النظرة التكدسية إلى الأمور.
ولكن التعددي هو الذي له الكلمة الأخيرة. ولما كان التعددي عادة، في أيامنا هذه، من أنصار المذهب الطبيعي، فإن التعددي وصاحب المذهب الطبيعي سيشتركان في الرد. وهكذا يقولون إن من المعترف به أن أذهانا كثيرة تنشد نظرة إلى الواقع أكثر تكاملا من تلك التي تقدمها إلينا التعددية. وإذا كان كل من جد يستحق أن يجد، فإن هذه الأذهان تستحق حلا للمشكلة الأنطولوجية أفضل من أي حل يستطيع المذهب التعددي أن يأتي به. ولكن السعي والنشدان، أو حتى الاستحقاق، شيء، والوقائع الصلبة الغاشمة الفعلية شيء آخر. ذلك لأن من الممكن أن نتصور قطعا أن يكون للكون نفس ذلك الطابع التكديسي الذي يصفه التعددي. وفي هذه الحالة، ماذا يمكن أن يفيدنا «السعي» أو «الاستحقاق» في الموضوع؟ ألن يؤديا، على الأرجح، إلى إعطائنا صورة مشوهة للواقع، تكون «مرضية» دون شك، ولكنها مع ذلك غير صحيحة؟ وفضلا عن ذلك، فإن الكلام عن «استحقاق» نوع معين من الإجابة على مسعانا الميتافيزيقي إنما هو خيانة لروح الفلسفة ذاتها. ففي السعي وراء الحقيقة العامة، لا «يستحق» الذهن أن يجد إلا ما هو موجود بالفعل. وأي شيء غير ذلك لا يستحق اسم الحقيقة. وأي شيء غير ذلك لن يكون جديرا بالفيلسوف ومسعاه. (8) تلخيص للميتافيزيقا: الواحدية
خير لنا أن نختم هذا العرض للمشكلة الميتافيزيقية بملخص لكل مدرسة تحدثنا عنها في هذين الفصلين الأخيرين. وسوف نركز كلامنا على نتائج كل رأي، ولا سيما في علاقتها بالتجربة البشرية العامة. ولقد أوردنا كثيرا من هذه النتائج، أو استخلصناها، عندما عرضنا وجهة النظر المتعلقة بها، غير أن تقديم موجز نهائي يتيح للطالب فهما أفضل للمشكلة الميتافيزيقية في مجموعها، وللإمكانات التي ينطوي عليها كل من الحلول المتعددة المقترحة. وسوف نتبع في تلخيصنا نفس الترتيب الذي اتبعناه في العرض الأصلي.
من الملاحظ أولا أن كل المذاهب الواحدية (متميزة عن الفردانية
Singularism ) تتميز بصفتين تبدون ضروريتين في مثل هذه المذاهب. فلما كان مظهر الأشياء - كما تبدو «للموقف الطبيعي» يوحي بثنائية ميتافيزيقية أساسية، تكون «المادة»، و«الذهن» فيها هما المبدآن النهائيان اللذان لا يردان إلى غيرهما - وهو أمر يشيع الاعتراف به - فإنه يكاد يكون من المحتم أن تصطدم أية صيغة توحيدية بالموقف الطبيعي، وأن ترتكز خطأ التبسيط المفرط في نقطة أو نقاط معينة داخل المذهب. ومن الواجب أن يعد كل من هذين الاتجاهين نقطة ضعف أو عيبا في المذهب الواحدي بوصفه موقفا ميتافيزيقيا، بغض النظر عن نوع «المادة» أو «العنصر» النهائي الذي يفترض. (1)
الواحدية المادية : تتحدى الواحدية المادية الموقف الطبيعي عن طريق إنكار واقعية الذهن أو الروح - أو فاعليتهما - في نظام الأشياء.
6
ولما كانت تجربتنا اليومية بأسرها تبدو شاهدا على وجود مقولتين للوجود: مقولة مادية، وأخرى ذهنية، فإن البينة الكاملة إنما تكون على المادي، عندما يحاول صياغة موقف واحدي ينكر واقعية هذه الثنائية البادية. أما التبسيط المفرد فيظهر في المادية عندما يحاول أنصارها إرجاع كل الحوادث الذهنية إلى مجرد ظواهر ثانوية مصاحبة للحوادث المادية. والواقع أن النظر إلى هذه الحوادث الذهنية (سواء أكانت إحساسات، أم إدراكات، أم أفكارا، أم تصورات) على أنها «ليست إلا» حوادث في العالم المادي، إنما يعني الوقوع في «مغالطة الرد»، كما أوضحنا في الفصول السابقة. (2)
الواحدية المثالية : تواجه الواحدية الروحية أو المثالية نفس الصعوبتين. فهنا أيضا نجد أنه، لما كان الموقف الطبيعي يشير إلى واقع مزدوج، فإن إنكار العالم المادي أو إعطاءه مركزا ثانويا تماما، لصالح حقيقة روحية شاملة (أو مسيطرة بقوة على الأقل)، يبدو متعارضا مع تجربتنا اليومية. وإذا لم يكن هذا النوع من الواحدية واقعا في «مغالطة الرد» بنفس القوة التي تقع بها المادية فيها، فإن إفراطه في التبسيط ليس أقل ظهورا - وذلك على الأقل في نظر كل الفلاسفة الذين ليسوا واحديين مثاليين. ولو تأملنا مثالا بارزا أوردناه في فصل سابق، لوجدنا أن تفسير الواحدية المثالية لسبب وجود جسم للذهن، أو سبب وجود العالم المادي في كون تتصف الحقيقة النهائية فيه بأنها ذهنية، يبدو مفرطا في التبسيط إلى حد يبدو معه ممتنعا في نظر كثير من المفكرين. (3)
الواحدية المحايدة : تواجه الواحدية المحايدة موقفا أصعب حتى من هذا عندما تتعرض لاختبار الموقف الطبيعي. فحين ترجع وجهة النظر هذه كل وجود إلى «جوهر» محايد لا علاقة له بالتجربة المباشرة، فإنها تنفصل تماما عن الموقف الطبيعي. أما المذهبان الواحديان الآخران، فعلى حين أنهما يواجهان صعوبات خطيرة في محاولتهما إرجاع ثنائية التجربة إلى وحدة ميتافيزيقية، فإن لهما على الأقل بعض الصلة بتجربتنا من حيث إن المبدأ النهائي الذي يختارانه له شيء من المعنى في نظر الفكر والحديث العاديين. أما الواحدية المحايدة، بما فيها من جوهر واحد تكون المادة والذهن مجرد «صفتين» له (من بين صفات عديدة ممكنة) فإنها لا تتيح لنا نقطة اتصال بالتجربة يمكننا عن طريقها أن نفهم طبيعة هذا الواقع النهائي. فلا بأس على الإطلاق، من وجهة النظر العقلية، من تعريف «الجوهر» بأنه «ما تطرأ عليه الأحوال ولكنه ليس هو ذاته حالة» (كما يقول القاموس)، أو بأنه «ما يوجد في ذاته ويتصور بذاته» (كما يقول اسبينوزا، أشهر المدافعين عن الواحدية المحايدة). ولكن هذه الأقوال لا تنبئنا، بالنسبة إلى حياتنا اليومية وتفكيرنا المعتاد، إلا بالقليل جدا عن الواقع النهائي أو طبيعة الكون الذي يتعين علينا أن نعيش فيه. ومن الواضح أن هذا النوع الثالث من الواحدية، وهو الواحدية المحايدة، ينطوي أيضا على تبسيطات للتجربة أشد إفراطا من تلك التي تنطوي عليها المذاهب المتنافسة معه، وإن يكن الأدق أن نطلق على هذه التبسيطات المفرطة اسم التجريدات المفرطة. فكل الصفات والكيفيات والأحوال تنزع حتى لا يتبقى في النهاية إلا الوجود أو الكينونة البحتة التي لا يوجد ما هو أكثر تجريدا منها. ومن الواضح أن إرجاع ذلك التنوع والتعقد اللانهائي للوجود، الذي تكشفه لنا حواسنا، إلى شبح تصوري هزيل «كالجوهر»، يقتضي تبسيطات متطرفة إلى أبعد حد.
مزايا الواحدية : لا حاجة بنا إلى القول إن للواحدية، بوصفها موقفا ميتافيزيقيا، مزايا تزكيها بقوة لو أمكن تحقيقها بطريقة مشروعة، والاحتفاظ بها بطريقة منسقة. ومن المفارقات العجيبة أن الفضائل الكبرى للواحدية تتصل اتصالا وثيقا بالأخطاء التي عددناها الآن؛ ذلك لأن المذهب الواحدي، أولا، يتميز عادة بقدر من البساطة والوحدة لا تستطيع الثنائية ولا التعددية أن تجاريه. وقد يحتاج تحقيق هذه الوحدة إلى بعض التجريدات والتبسيطات المشكوك فيها، ولكن النتيجة، حالما تبلغ، تكون لها في العادة بساطة تدعو إلى الإعجاب. هذه البساطة الموحدة، التي يرد فيها كل تنوع وتعقد في التجربة إلى مبدأ نهائي واحد من نوع ما، تفسر على الأرجح الدور الهام الذي قامت به الواحدية في تاريخ الفكر. ذلك لأنه مهما أوحى لنا موقفنا الطبيعي بأن الواقع ثنائي في طبيعته، فإن الذهن البشري قد ظل يسعى بإلحاح إلى الوحدة الكامنة من وراء مظهر الأشياء. هذا النزوع الأصلي إلى نشدان تفسير أو سبب أو مبدأ أو مصدر أو قانون أو مادة أو صيغة أو نسق لتنظيم تجربتنا، يمثل استجابة من أكثر استجابات الذهن لبيئته شيوعا. ومن هنا فعلى حين أن الواحدية قد تسير في طريق مضاد للموقف الطبيعي، فإن لها حليفا قويا في ذلك الميل الذي يبدو فطريا في الذهن ذاته. أما الاكتفاء بتفسير «متعدد العوامل» لأي شيء، فيقتضي قدرا كبيرا من التعمق والتقدم العقلي.
هذا عن مزايا الواحدية بوجه عام. ولو ألقينا نظرة شديدة الإيجاز على أنواع الواحدية الثلاثة، لوجدنا أن لكل منها مزايا معينة ينفرد بها. (1)
فالمادية، ولا سيما في صورتها المعاصرة الأكثر اعتدالا، تتصف بميزة كبرى، هي صلتها الوثيقة بالعلم، مما يتيح للذهن حرية الحركة من الفلسفة إلى العلم وبالعكس، دون أن يشعر بأنه قد تحول عن موقفه، أو انتقل إلى لغة جديدة، أو دخل عالما مختلفا. والنتيجة هي توحيد للمعرفة (في مقابل وحدة المذهب) لا يمكن أن نجد له نظيرا في أي موقف ميتافيزيقي آخر. (2)
أما الواحدية المثالية فلها ميزة انفعالية فريدة، مشابهة للميزة العقلية التي اعترفنا بها الآن للمادية؛ ذلك لأن النظرة إلى العالم، التي تكون الحقيقة النهائية فيها «ذهنا» أو «روحا»، تصور لنا البيئة بأنها في أساسها متمشية مع الإنسان ومع أحلامه وأمانيه وقيمه. (3)
أما الواحدية المحايدة فلا يمكن أن تتمثل فيها مزايا عملية كتلك التي تتمثل في المذهبين الآخرين، بل إن أفضل وصف لأية فضيلة تتميز بها هو أنها مذهبية. فمع اعترافنا بتبسيطاتها المفرطة للتجربة، وتجريدها الشديد لكل الكيفيات الداخلة في نطاق التجربة، من مجال «الجوهر»، فإن هذه الواحدية تصل، على يد عملاق عقلي مثل اسبينوزا، إلى صيغة تدعو إلى الإعجاب من وجهة النظر المذهبية. (9) الفردانية
للفردانية
Singularism ، ولا سيما كما تتمثل في المثالية المطلقة، خصائص ونتائج تختلف إلى حد ما عن تلك التي نجدها في الواحدية. ذلك لأن هذه النظرة إلى العالم؛ إذ تؤكد الوحدة العضوية الوثيقة في تركيب الواقع، بحيث تترابط كل الأجزاء (أي كل الموضوعات والأشخاص والحوادث الفردية) في «كل» يضيف عليها معناها وقيمتها، بل ووجودها، تجعل كل ما يحدث مجرد تكشف تدريجي لهذا الكل أو المطلق الشامل. وبينما هذا المذهب لا ينكر التغير (بل إن هيجل مثلا قد أكد التاريخ بوصفه تكشف المطلق في الزمان)، فإنه يقضي على إمكانية انبثاق تجديد أصيل من مجرى الحوادث. وهكذا فإن هذه «النظرة الكلية» إلى الكون تبعث في معظم المفكرين شعورا بالسكونية: إذ يبدو المستقبل «مصمتا» أو «محددا ومجففا» قبل أن يحدث. فهي تفتقر إلى المغامرة المثيرة التي ينطوي عليها القول بمرونة المستقبل، وهو القول الذي يتمثل في النظرات الأكثر دينامية إلى الكون.
وإلى جانب هذا الاتجاه السكوني، فهناك نقاط ضعف أخرى في أية نظرة فردانية إلى العالم. فكثير من المفكرين يوجهون إليها اعتراضا آخر، هو الطابع المطلق العام الذي تتسم به هذه المذاهب؛ ذلك لأنها لا تصور الواقع على أنه مطلق فحسب، بل إن المنطلق والطابع العام للتفكير «الذي تنم عنه» يكشف أيضا عن نزعة مطلقة (أي نزعة مضادة للنسبية) متطرفة. فالانطباع العام للمثالية المطلقة، مثلا، في الأشخاص الذين لا ينتمون إلى هذه المدرسة، هو انطباع الثقة المبالغ فيها، والتأكيد القطعي المتكرر. ولقد قبل بحق عن هيجل أنه أكثر الفلاسفة الذين عاشوا وثوقا بنفسه،
7
كما أن خلفاءه وأتباعه خلال الأعوام المائة الأخيرة قد ظهر لديهم، عموما، نفس هذا الاتجاه. وعلى الرغم من أن فلسفة هيجل لا تمثل الفردانية كلها، فإن هذا الحكم يصدق بوجه عام على هذه المدرسة وأفرادها.
مزايا الفردانية : هناك مزايا عديدة لهذه النظرة إلى العالم، كما يتضح من كثرة عدد أتباع المثالية المطلقة خلال الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر. وهناك ميزتان أظهر من غيرهما في هذا الصدد. الأولى ميزة عقلية بالمعنى الخاص الدقيق: فلا بد لأية ميتافيزيقيا فردانية من أن تكون محكمة التركيب، عضوية البناء إلى حد يستحيل على معظم المذاهب الأخرى تحقيقه.
8
فالترابط المنطقي هو أساس المثالية المطلقة، شأنها شأن أي نوع آخر من الفردانية. ومن المؤكد أن - «النظرة المصمتة
Block-View » إلى الكون، التي يكون لمفهوم «الكل» فيها الأهمية الأولى، هي بطبيعتها نظرة مترابطة؛ ولذا لم يكن من المستغرب أن يكون القائلون بمذهب المطلق هم أبرز مؤيدي نظرية الترابط بوصفها نظرية للحقيقة؛ لذلك فإن بعض الأذهان، التي يصل فيها الاتجاه إلى الاتساق المنطقي، والإحكام المذهبي، والتماسك الهندسي، إلى حد الميل الطاغي، تجد الفردانية مذهبا لا يقاوم. وتتضاعف جاذبية الفردانية إذا كانت تلك أذهانا تجد الكل الموحد، مهما تكن درجة تجريده، أقوى دلالة من الجزء العيني، مهما يكن ثراؤه أو واقعيته.
وإلى جانب هذا الإرضاء العقلي، تتمثل في الفردانية بعض المزايا الانفعالية، وهي مزايا تشاركها في معظمها كل المذاهب المثالية، كما رأينا في الفصل الثالث. والواقع أن الإرضاء الذي تتيحه نظرة إلى العالم لا تترك أطرافا معلقة دون ربطها بإحكام، هي مزايا تفوق المجال العقلي وحده. ومن المؤكد أن هناك جاذبية جمالية في مثل هذا البناء المعماري العقلي المتناسق، ولكن الأوضح من ذلك هو تلك الثقة الانفعالية التي يبعثها مذهب تجمع فيه الأجزاء المتباينة في وحدة كونية. إذ إن كل ما يحدث في التجربة البشرية يغدو عندئذ جزءا من النظام الشامل، للأشياء، وهو النظام الذي يكون له فيه معنى وغرض. وهكذا لا تضيع الحياة سدى، ولا يكون الحب الفاشل حبا ضائعا فحسب، ولا يكون هناك ألم بلا حكمة، أو تجربة بشرية بلا دلالة. وعلى حين أن كثيرا من المفكرين يعتقدون أن أمثال هذه المزايا الرائعة لا يمكن أن تشترى في السوق الفلسفية إلا بثمن عقلي باهظ إلى أبعد حد، فإن تاريخ الفكر يثبت لنا أن هناك أشخاصا كثيرين كانوا على استعداد لدفع هذا الثمن. (10) موجز الميتافيزيقا: الثنائية والتعددية
من الممكن أن يكون الموجز الذي نقدمه للثنائية والتعددية أقصر إلى حد ما من موجز الواحدية؛ إذ إن العرض الذي قدمناه لهذين الموقفين في هذا الفصل يجعلها أقرب إلى ذهن القارئ. وفضلا عن ذلك فليس لهذين المذهبين إلا صور قليلة متباينة تقتضي معالجة مستقلة.
الثنائية : إن الصعوبة الكبرى التي تواجهها الثنائية هي صعوبة عقلية. فهذه النظرة إلى العالم؛ إذ تقبل دون مناقشة رأي الموقف الطبيعي إلى الواقع، بما فيه من ازدواج أساسي بين مقولتين لا تردان إلى غيرهما، هما «الذهن» و«المادة»، تلقى عادة إعجابا من المبتدئ في الفلسفة، بوصفها نظرة تبشر بالخير الكثير. غير أن هناك حواجز هائلة بين ما تبشر به وبين ما تحققه فعلا، وهي حواجز لم تتمكن معظم المذاهب الثنائية من اجتيازها. ولما كنا قد ناقشنا هذه الصعوبات منذ وقت قريب، فإنا لا نجد ما يدعو إلى تكرارها، وكل ما نود أن نقوله باختصار هو أن هذه المشكلات يمكن أن تصنف على النحو الآتي: (1) مسألة التحديد الدقيق لطبيعة هاتين المقولتين الأساسيتين، مع بيان حدود كل منهما. (2) العلاقات بين هاتين المقولتين. (3) طريقة أو كيفية حدوث هذه العلاقات. والواقع أن معظم المذاهب الثنائية قادرة تماما على معالجة المشكلة الأولى من هذه المشاكل، ولكن معالجتها للمشكلة الثانية أقل إرضاء، أما تفسيرها لطريقة حدوث العلاقات بين العالمين اللذين يفترض أنهما مستقلان وغير قابلين للرد، فهو عادة تفسير غاية في الضعف. ويبدو على وجه العموم أن الثنائية تعدنا بأكثر مما تستطيع تقديمه إلينا، وإذا ما أقبلنا عليها بآمال عريضة، فأغلب الظن أن خيبة أملنا لن تكون أقل من هذا الأمل العريض.
وإلى جانب هذه الميزة الهائلة للثنائية، وهي ميزة ارتكازها مباشرة على الموقف الطبيعي، (وبالتالي تجنبها للهوة التي تفصل بين التجربة اليومية والتأمل الميتافيزيقي، وهي الهوة التي كانت شائعة جدا طوال تاريخ الفلسفة)، فإنها تمتاز بأنها تكشف بوضوح عن مشكلة المقومات الأساسية والوجود النهائي على نحو لا يقوم به أي مذهب آخر. ومن ثم فإنها هي المذهب الذي يفضله المبتدئ على ما عداه؛ إذ إننا ما إن نمعن الفكر في نتائج الثنائية، ونزن ما لها وما عليها من الحجج في أذهاننا بوضوح، فإننا نصبح عندئذ على استعداد للاضطلاع بالمهام الأصعب، وهي فهم الواحدية والفردانية والتعددية.
التعددية : إن التعددية، بما فيها من تأكيد للطابع «الفردي» للأشياء، بدلا من الطابع «الكلي» (كما تفعل الواحدية )، وبدلا من التقابل «إما ... وإما» الذي تؤكده الثنائية، ترتكز كذلك على موقف وثيق الصلة بالتجربة. غير أن هذا الاتصال الوثيق بالمجال التجريبي يختلف عن ذلك الذي نجده في الثنائية. ذلك لأن التعددية، بدلا من أن تتخذ نقطة بدايتها من المقولات التي يبدو أن موضوعات التجربة وحوادثها تندرج تحتها، تتخذ من الموضوعات والحوادث ذاتها أسسا. ذلك لأن هذه المدرسة ليست فقط أقل اهتماما بالمبادئ والكليات والتجريدات من النظرتين الأخريين إلى العالم - إذ إن التعددي يرى أن هذه أقل أهمية قطعا من الشيء أو الحادث الفردي العيني - بل إن المبادئ والمقولات لا تكون لها أهمية في نظر التعددي إلا بوصفها وسيلة لتفسير الأشياء والحوادث الفردية أو للربط بينها.
ولعل أوضح دليل على اهتمام التعددية بواقعية الشيء الفردي العيني وأهميته، هو نظريتها في العلاقات الخارجية، التي عرضت من قبل بإيجاز في هذا الفصل. ففي نظر صاحب المذهب الفرداني، الذي يؤكد أهمية الكل أو المطلق، تكون للعلاقات بين أجزاء الكل أكبر الأهمية: فهي التي تجعل الجزء، سواء أكان موضوعا أم حادثا، على ما هو عليه. أما التعددية الحديثة فتنظر إلى واقعية العلاقات ودلالتها على أنها ثانوية تماما بالقياس إلى الواقعية الأساسية للموضوعات العينية والحوادث في ذاتها، التي يمكن (في رأي التعددي) أن تدخل في العلاقات وتخرج منها دون أن يطرأ عليها تغير، ودون أن تفقد استقلالها الأساسي.
وهكذا فإن الجاذبية الكبرى للتعددية تكمن في اعترافها الكامل بواقعية التجربة الفعلية وامتلائها وثرائها. والواقع أن أي مذهب فكري لا يباري التعددية الحديثة (كما تتمثل في وليام جيمس مثلا) في هذا الصدد. وكما أن الفردانية تجتذب نوعا معينا من الأذهان المنطقية الصارمة، التي تكون للوحدة والترابط أهمية عظمى في نظرها، فكذلك تجتذب التعددية تلك الأذهان التي يعجبها ثراء التجربة البشرية العينية وتعقدها، والتي تجد تحديا هائلا في الإمكانات العديدة التي تتيحها هذه النظرة الدينامية إلى العالم.
أما نقاط ضعف المذهب التعددي فهي الوجه المقابل لمزاياه. ذلك لأننا لا نستطيع أن نتوقع من نظرة إلى العالم تولى مثل هذه الاهتمام لواقعية الأشياء الفردية وأهميتها، أن تكون متصفة بمنطق محكم أو تماسك عضوي. والواقع أن تعدديين قلائل جدا منذ أيام ليبنتس وباركلي (وينبغي أن نلاحظ أن كليهما مثالي) هم الذين حاولوا صياغة مذهب كامل في الميتافيزيقا، بل إنهم في عمومهم قد اكتفوا، مثل جيمس وغيره من التعددين البرجماتيين الآخرين، ببحث مشكلات خاصة في نطاق الفلسفة، كمشكلة مناهج البحث العالمي ونظرية الحقيقة. ومما يثبت إمكان قيام مذهب ميتافيزيقي تعددي، ما قام به الفيلسوفان اللذان أشرنا إليهما منذ قليل، اللذان كانا من الأفراد الأسبق عهدا في هذه المدرسة، ولكن لم تظهر حتى الآن صياغة حديثة كاملة لوجهة النظر هذه في عالم الفلسفة.
الفصل الحادي عشر
التجريبية المنطقية
لا شك أن العرض الذي قدمناه للنظريات الميتافيزيقية الرئيسية في الفصلين السابقين قد ترك في نفوس القراء تأثيرا متباينا. ومع ذلك فمن المؤكد أن مجموعة من القراء كان لها رد فعل ذو دلالة خاصة؛ إذ إن رد الفعل هذا يقترب من الموقف الذي تتخذه مدرسة فلسفية معاصرة قوية إزاء كل تأمل ميتافيزيقي. هذه المدرسة، التي تعرف باسم «الوضعية المنطقية» أو التجريبية المنطقية، ربما كانت أكثر المذاهب التي ظهرت في الفلسفة تجديدا وعدوانية من الناحية العقلية.
1
ولقد كان تأثيرها في المذاهب التقليدية هداما، وأدى الصراع بينها ويبن المدارس الكلاسيكية إلى جدل أقوى مما حدث في أي صدام سابق في الفلسفة. وقد امتد تأثير هذه الحركة التجريبية حتى تغلغل بعمق في الميتافيزيقا ونظرية المعرفة والمنطق والأخلاق. وكانت النتيجة تحليلا ذاتيا ونقدا باطنا في الفلسفة يمكن القول بأن أفضل نظير له كان ذلك الانقلاب الذي أحدثته النظرية النسبية والنظرية الذرية الحديثة في الفيزياء. وقد حدث هذا الانقلاب الفلسفي في عهد بلغ من القرب حدا لم يهدأ معه غبار المعركة بعد، غير أن الصورة الآن أوضح مما كانت عندما هددت أولى الهجمات الوضعية التجريبية في العشرينيات والثلاثينيات بقلب الفلسفة التقليدية بأسرها رأسا على عقب. ولما كانت هذه الحركة قد أحدثت تغيرات ثورية في أساليب الفلسفة وادعاءاتها معا، فمن الضروري أن يفهم الطالب المبتدئ ذاته شيئا عن نظرياتها.
على أن تقديم عرض موجز مبسط للفكر التجريبي المنطقي ليس بالأمر الهين . وترجع هذه الصعوبة إلى تعقد المشكلات التي يتعين عرضها، كما ترجع إلى وجود خلافات وانقسامات فرعية داخل الحركة. فهناك مثلا فوارق هامة بين الوضعيين داخل القارة الأوروبية (الذين كانوا يتركزون في فينا، ولكن معظمهم انتشر في أماكن متعددة، وذهب كثير منهم إلى الولايات المتحدة) وبين المدرسة الإنجليزية، ولا سيما الجماعة المعروفة باسم مدرسة كيمبردج التحليلية. وسوف نضطر إلى الاقتصار في هذا العرض على بعض المفاهيم التي تبدو أساسية في كل تفكير منطقي تجريبي. وسيؤدي ذلك بالطبع إلى إعطاء القارئ صورة أقل من الكاملة عن تفكير هذه المدرسة، ولكنه سيتيح له أن يتذوق شيئا من مذاقها اللاذع، ويفهم السبب الذي جعل للحركة كلها مثل هذا التأثير في الفلسفة المعاصرة.
الاتجاه العقلي الأساسي : لنبدأ أولا بأن نتساءل: ما هو هذا الاتجاه الذهني، الذي يمكننا الاهتداء إليه لدى بعض الطلاب المبتدئين، فضلا عن بعض الفلاسفة المحترفين، والذي يدفع المرء إلى اتخاذ الموقف التجريبي المنطقي المتطرف؟ ولماذا كان السبب الرئيسي في ظهور هذا الاتجاه هو استعراض النظريات الميتافيزيقية؟ ربما كان أفضل وصف لهذا الاتجاه هو «الصرامة الذهنية»، غير أنها صرامة ذهنية تختلف عن ذلك النوع الذي رأيناه أساسيا في المذهب الطبيعي. فبينما نوع الصرامة الذهنية الذي يتميز به المذهب الطبيعي ينطوي على نظرة كاملة إلى العالم أو موقف كامل من الكون وما ينتظر الإنسان فيه، فإن صرامة التجريبي المنطقي أضيق نطاقا. فهي في أساسها معرفية لا ميتافيزيقية. وهذا يؤدي إلى جعل التجريبية المنطقية أقرب إلى نزعة الشك منها إلى المذهب الطبيعي، ما دام الشكاك، كما رأينا في فصول سابقة، يضع نظرية للمعرفة، لا نظرة شاملة إلى العالم.
ويظهر الاتجاه العقلي العام للتجريبية المنطقية أوضح ما يكون في نظريتها في المعنى. هذه النظرية، التي تعرف في المصطلح الفني باسم «نظرية القابلية للتحقيق في المعنى» ترى أن تحديد المعنى وتوصيله إلى الآخرين أساسي تماما، ليس فقط في الحديث الفلسفي، بل في كل حديث أيا كان - وليس في الحديث أو التخاطب فقط، بل وفي اكتساب المعرفة. ويؤكد التجريبي أنه لا يمكن أن تكون هناك معرفة، بخلاف التجربة الحسية المباشرة، إلا بعد أن نتأكد من معنى كل الجمل التي تصاغ في صورة جمل واقعية؛ أي جمل إخبارية. ومن المؤكد أنه لا يمكن أن يكون هناك اتصال في المعرفة حتى يحلل المعنى ويوضح. ومن هنا كان التحليل اللغوي والمنطقي يحتل مكانة مركزية في التجريبية المنطقية. والواقع أن من الممكن أن يطلق على هذه الحركة، بنفس الدقة، اسم «التحليلي المنطقي» أو «التجريبية التحليلية» - بل يكاد من الممكن القول إن أية طريقة للجمع بين الصفات الثلاث: «المنطقي» و«التحليلي» و«التجريبي»، تصلح للدلالة على هدف هذه المدرسة ومنهجها.
لماذا كانت المشكلات الميتافيزيقية غير قابلة للحل؟
يشعر التجريبيون المنطقيون، شأنهم شأن كثير من المفكرين الآخرين داخل نطاق الفلسفة وخارجها، بالاستياء والكدر لما يبدو من عدم قابلية المشكلات الفلسفية التقليدية للحل. ولقد اشتهر المجال الميتافيزيقي خاصة بأنه ميدان مشكلات دائمة وخلافات تدوم قرونا طويلة، ولا تقل حدتها اليوم عما كانت عليه في أي وقت مضى. ولقد كان هناك خلال التاريخ الطويل للفلسفة شكاكون يرتابون في إمكان حل هذه المشكلات بأي معنى حقيقي أو نهائي، ولكن من المعترف به عادة أن الفضل يرجع إلى «ديفد هيوم»، الذي ألف كتبه في أواسط القرن الثامن عشر، في إرساء نزعة الشك هذه على أساس عقلي دقيق بحق. وهكذا أصبح هيوم واحدا من المؤسسين الحقيقيين للتجريبية المنطقية الحالية، التي يمكن أن تعد امتدادا وتهذيبا وتطبيقا لمنهج هيوم.
ولقد كان هيوم يشترط أن تحقق كل الأفكار أو المفاهيم العامة عن طريق إرجاعها إلى «الانطباعات» (أي الإدراكات) التي تأتي منها. فإذا لم يمكن اكتشاف «انطباع»؛ أي إذا لم تتوافر تجارب إدراكية لدعم المفهوم أو تفنيده - فإنه لا يقبل ذلك التصور أبدا. والنصيحة التي يفضل توجيهها بشأن أية فكرة مجردة تفتقر إلى أساس إدراكي هي «ألق بها إلى النار!» وبالفعل نجده في خلال حياته التحليلية قد ألقى بعدد كبير من المفاهيم الفلسفية واللاهوتية الشائعة عندئذ في لهيب الشك. فلنبحث الآن كيف أخذت التجريبية المنطقية معيار المعنى كما وضعه هيوم، وتوسعت فيه كثيرا، ولا سيما في اتجاه التحليل اللغوي. (1) مشكلة المعنى
معنى «المعنى» : المشكلة الرئيسية في التجريبية المنطقية هي: ما الذي يجعل العبارة المعرفية (أي الجملة الإخبارية) ذات معنى؟ وكيف نحدد معناها، أو كيف نتحقق من ادعائها كونها واقعية؟ إن أية جملة إخبارية تبدو تعبيرا عن واقع (وتدعي عادة أنه كذلك)، غير أن نظرة واحدة إلى عدة جمل من هذا النوع تدل على أن هناك درجات أو أنواعا من الواقعية: (1)
الكتاب على المنضدة. (2)
أنا أشعر بألم ممض. (3)
العالم من خلق عقل علوي. (4)
مجموع زوايا المثلث يساوي 180 درجة. (5)
حبي أشبه بوردة حمراء. (6)
اليورانيوم أثقل العناصر.
2 ⋆ (7)
لا بد لنا من حب جيراننا. (8)
الانتهازي خائن لبلاده.
ترى التجريبية المنطقية أن كل العبارات المعرفية التي تكون وظيفتها الإخبار بمعلومات معينة، تنتمي إلى فئتين. فالقضايا يمكن تصنيفها حسب كون معناها (أ) صوريا ومنطقيا بحتا، أو (ب) واقعيا؛ أي تجريبيا بالمعنى الدقيق. ولا بد لنا من أن نفهم هذا التصنيف فهما كاملا، إذا شئنا أن نستوعب آراء التجريبية المنطقية؛ إذ إن الحركة بأسرها تبدو من غير هذا التصنيف ثرثرة طويلة لا تفهم. (أ)
المعنى الصوري : العبارة ذات المعنى الصوري هي تلك التي يتحدد صوابها أو خطؤها على أساس صورتها فحسب؛ أي على أساس (1) علاقاتها بتركيب منطقي أو نظمي لغوي من نوع ما، أو (2) العلاقات الداخلية للمنطق في داخل الجملة ذاتها. ونظرا إلى أن هذا النوع الثاني من المعنى الصوري قد يكون هو الأسهل فهما، فسوف نبدأ بالكلام عنه. فهذا النوع من الجمل، الذي يعرف باسم «تحصيل الحاصل
Tautology »، يكون للجملة فيه محمول لا يعدو أن يكون تكرارا لما جاء في الموضوع. ومثل هذا التكرار يكون مقبولا عند وضع التعريفات. فمعظم التعريفات القاموسية من هذا النوع، كالجملة رقم (6) التي أوردناها من قبل: «اليورانيوم أثقل العناصر». هنا يكون من الواضح أن المحمول لا يقول أكثر مما هو متضمن في الموضوع، على الرغم من أن العبارة قد تكون مع ذلك عظيمة الفائدة لأي شخص يحتاج إلى أن يعرف معنى «اليورانيوم». وليس من الصعب على الشخص المثقف أن يكتشف العبارات التي تنطوي على تحصيل الحاصل (مثل «مسموع للأذن» أو «المآتم الجنائزية») ولكن من الممكن أن تندس قضية كاملة تنطوي على تحصيل حاصل دون أن تكتشف. وفي هذه الحالة قد نظن أن المتحدث أو الكاتب يقول شيئا له معناه، على حين أن التحليل المنطقي يوضح أنه لا يفعل شيئا سوى أن يصرح بما كان ضمنيا في لفظ الموضوع.
أما الفئة الأولى (1) من العبارات الصورية فهي تلك التي لا تستمد حقيقتها أو معناها إلا من اتساق الجملة الخاصة مع نسق منطقي من نوع ما. ونستطيع أن نجد المثل الكلاسيكي لهذه الفئة في أي نسق رياضي، يضع مصادرات أو بديهيات محددة ثم يستخلص بقية البناء الرياضي المنطقي منها. وعندئذ تصبح «الحقيقة» و«الصواب» مسألة اتساق داخلي في النسق الواحد فحسب. وقد تحدثنا بإيجاز عن الحقيقة الصورية في الفصل السابع في معرض الكلام عن نظرية من نظريات الحقيقة، هي نظرية الترابط. وينبغي أن نذكر أننا أشرنا عندئذ إلى أن من الممكن تشييد بناءات عقلية متسقة في داخلها تماما، على مصادرات لا ترتكز على أساس من التجربة. وتلك إمكانية لها أهميتها القصوى بالنسبة إلى التجريبية المنطقية، كما سنرى بعد قليل. (ب)
المعنى الواقعي : يرى التجريبي المنطقي أن المعنى الواقعي هو ذاته المعنى التجريبي: فالعبارات التي يمكن تحقيقها بالملاحظة هي وحدها التي يمكن أن تعد واقعية، كما أنه لا توجد «وقائع» لا تتحدد تجريبيا. هذه الفكرة الرئيسية في التجريبية المنطقية هي أساس نظريتها المشهورة في المعنى من حيث هو القابلية للتحقق. فالتجريبي يشترط في أية عبارة معرفية، لكي يكون لها معنى (أي لا تكون لغوا - ومن الواجب أن نلاحظ أن لفظ «اللغو
Nonsense » يعني في الأصل «ما ليس له معنى») أن تكون إما معبرة عن حقيقة صورية على النحو الذي حددناه من قبل، وإما أن تقول شيئا يمكن للملاحظة تأكيده أو تفنيده.
وعند هذه النقطة نجد مسألة غامضة غموضا حقيقيا ، أدت إلى إشارة قدر كبير من الجدل والتحليل بين صفوف التجريبيين المنطقيين، وقد كبير من سوء الفهم من جانب نقادهم. فعندما يقول التجريبي إن العبارات الواقعية الوحيدة هي تلك التي يمكن تحقيقها بالملاحظة، فإنه قد يعني بذلك واحدا أو أكثر من ثلاثة أمور مختلفة: (1) فقد يعني أن العبارات الواقعية الوحيدة هي تلك التي أيدتها الملاحظة من قبل، (2) أو قد يدرج ضمنها تلك التي لم تتحقق بعد، ولكن من الممكن تحقيقها إذا شئنا كلما كان التأكيد ضروريا لأي غرض، (3) أو تلك التي تقبل التحقيق من حيث المبدأ، على أساس أننا نعرف ما يلزم لتحقيقها. هذه الفئة الثالثة تشمل عبارات نفتقر في الوقت الحالي إلى وسيلة تحقيقها، ولكنا نستطيع أن نتصور إمكان تحقيقها في المستقبل، كالعبارات المتعلقة بالمسمات الجغرافية للوجه الآخر للقمر، أو بالحياة في الكواكب الأخرى.
ولقد حاول بعض التجريبيين المنطقيين الأوائل، خلال فترة شباب هذه الحركة، حين كانت أقل تعمقا وأقرب إلى الطابع الوضعي، أن يقصروا فئة العبارات «الواقعية» على تلك التي تحققت بالفعل (رقم 1 في التقسيم السابق). ومع ذلك فقد كان هناك، حتى في هذه المرحلة المبكرة، أفراد أكثر اعتدالا في هذه المدرسة، دعوا إلى التوسع في معنى القضايا «الواقعية» بحيث تشمل تلك القضايا التي تتوافر إجراءات تحقيقها، بغض النظر عن كون هذه الإجراءات قد استخدمت فعلا أم لا. وبازدياد نضج الحركة وتعمقها في التحليل، أصبح من الواضح أن هذا القيد ذاته أكثر صرامة مما ينبغي. وقد بدا أمرا مبالغا فيه بوجه خاص لأنه شاع تفسيره على أنه محاولة مغرورة، لا مبرر لها، للتشريع للعلم عن طريق وضع تمييز قاطع بين النظريات العلمية المحققة تحقيقا تاما، وتلك التي لا تؤكد إلا جزئيا - مما يؤدي، على ما يبدو، إلى حرمان الألم من المرونة والحرية التي تلزمه لكي يستخلص نتائج مؤقتة لا غنى عنها في تقدمه العلمي.
أما في الحالة الراهنة الناضجة للمذهب الوضعي التجريبي، فإن هذا المذهب يضيف الشرط رقم 3 بوصفه وسيلة صحيحة لتحديد ما هو «واقعي». وحتى لو كانت الصعوبات العملية التي تحول دون تحقيق عبارة ما، تبدو صعوبات سيظل من المستحيل دائما التغلب عليها، فمن الممكن أن يظل لها الحق في أن تعد عبارة ذات معنى، وذلك إذا عرفنا على الأقل أساس تحقيقها. فإذا وجد موقف تجريبي يمكن تصوره، حتى لو ظل من المستحيل كشفه بوصفه موقفا فعليا، فعندئذ لا تكون العبارة لغوا. أما إذا كانت ذات طابع من شأنه ألا تكون لأية ملاحظة ممكنة علاقة بصدقها أو بطلانها، فعندئذ تكون لغوا - مهما يكن من وقعها في نفوسنا بوصفها عبارة بلاغية أو ميتافيزيقية أو لاهوتية.
وينبغي أن نؤكد أن التجريبي يقيد الشرط رقم 3 ببعض الضوابط الصريحة جدا، خشية أن يتسرب ثانية من خلال نافذة الميتافيزيقا كثير مما ألقى به خارج باب نظرية المعرفة. ذلك لأن اشتراط أن تكون العبارة ذات المعنى «قابلة للإثبات من حيث المبدأ» أو «قابلة للتحقيق نظريا» أو «مما يمكن تصوره»، يبدو أنه يتضمن تقريبا كل جملة إخبارية ليست لغوا واضحا حسب قواعد النظم والتركيب اللغوي (كما هي الحال في قضية «الصلب مجموع الأحمر».) ولكن لو لم تكن التجريبية المنطقية قد فرضت ضوابط صارمة، لفقدت بسرعة شهرتها بالصرامة العقلية في ميدان نظرية المعرفة. والواقع أن الضمانات التي وضعتها التجريبية المنطقية من أجل التحكم في موضوع القابلية النظرية للتحقيق، من شأنها أن تجعل هذا المذهب يبدو في أواسط القرن العشرين محتفظا بنفس النزعة الشكاكة الهدامة للادعاءات الميتافيزيقية واللاهوتية، التي كان يتسم بها في عهده الأول، وإن يكن بالطبع قد أصبح أقل سذاجة. (2) أنواع القابلية للتحقيق
القيود المفروضة على القابلية للتحقيق : ليس من الصعب فهم الضمانات التي تحمي المعيار التجريبي للقابلية للتحقيق: سواء أكنا نراها ضمانات مشروعة أم لا نراها كذلك. فعندما نقول أولا إن الجملة ينبغي أن تكون «قابلة للتحقيق من حيث المبدأ»، فإن ما نعنيه حقيقة (إذا كنا تجريبيين منطقيين) هو أن من الواجب أن نعرف الظروف التي يمكن تحقيقها فيها ... فلا بد أن تتوافر لدينا وسيلة للرد أو التحويل، تتيح لنا ترجمة الألفاظ إلى أفعال، والمفاهيم إلى مواقف عينية، وبذلك تسمح لنا بأن نحدد بدقة أساس البرهنة على أية عبارة أو تفنيدها. فإذا لم تكن العبارة تفي بالشرطين 1 أو 2 (أي إذا لم تكن قد حققت بالفعل أو يمكن تحقيقها كلما دعت الحاجة)، فعندئذ لا بد، لكي يكون لها معنى، من أن يكون من الممكن تصور عملية اختيار معينة، حتى لو لم يكن في وسعنا الآن إيجاد الموقف الاختباري الفعلي. وبالاختصار، فمن الواجب أن يكون للعبارة طابع من شأنه أن يكون من الممكن كشف فوارق يمكن التحقق منها، بين حالة كونها صحيحة وحالة كونها باطلة.
وهنا يستعين التجريبي المنطقي بمبدأ صاغه في عام 1878م المنطقي الرياضي الأمريكي ش. س. بيرس
C. S. Peirce . فقد كان بحث بيرس العظيم الأهمية بعنوان «كيف نجعل أفكارنا واضحة» هو نقطة بداية البرجماتية، ومن الدعامات التي ارتكزت عليها التجريبية المنطقية ومذهب آخر من أبناء عمومتها في مجال نظرية المعرفة، هو المذهب الإجرائي
Operationalism
وقد أكد بيرس أن من الضروري لكي يكون للعبارة معنى من أن تنطوي على فارق؛ أي إن من الضروري أن تؤكد شيئا يحدث فارقا. فإذا كان من شأن العبارة أن ينطوي تأكيدها أو إنكارها على فارق ضمني يمكن إثباته بالملاحظة، فعندئذ، وعندئذ فقط، تكون عبارة لها معنى. أما إذا لم يترتب على العبارة فارق يمكن ملاحظته، سواء أكانت صحيحة أم باطلة، فإن هذه العبارة مهما تكن طبيعتها الأخرى (شعرا أو وحيا أو دعاء، إلخ)، لا يكون لها معنى واقعي؛ وبالتالي تكون لغوا من وجهة النظر المعرفية.
ويقدم أ. ج. رامسبرجر مثلا رائعا لمعيار «الفارق يجب أن يحدث فارقا» هذا، مطبقا على نوع من العبارات الميتافيزيقية، فيقول:
إذا قال لنا فيلسوف مثل هيجل إن «الفكرة الأزلية، في الازدهار التام لماهيتها، تدفع نفسها أزليا إلى العمل، وتولد ذاتها وتستمتع بها بوصفها ذهنا مطلقا»، فإنه يبدو ظاهريا وكأنه يؤكد حقيقة واقعة. فلا بد له إذن أن يكون قادرا على أن يقول ما معنى هذا، عن طريق ترجمته إلى عبارات تشير إلى حالة يمكن ملاحظتها، وتكون دليلا على صحتها. وقد يدعي من يدافع عن هيجل أن من الممكن تفسير هذه العبارة على نحو يفي بهذا الشرط، ولكن الأرجح أنه سيدافع عن موقفه بالقول إن هناك موجودات ميتافيزيقية لا تعرف بأية وسيلة تجريبية. والرد الوحيد على ذلك هو أن نسأله: ما الذي يعنيه بالقول إن قضاياه الميتافيزيقية صادقة وليست كاذبة؟
3
إن أول سؤال يتبادر إلى ذهن التجريبي المنطقي فيما يتعلق بأية عبارة، قبل أن يبحث فيما إذا كانت صحيحة أم باطلة، هو «ما الذي تعنيه؟» فحسب. وهو يطلب على هذا السؤال ردا يبين كيف يمكن تحديد صحة العبارة أو بطلانها. والواقع أن التجريبية المنطقية فريدة بين المدارس الفلسفية من حيث إن أفرادها لا يقضون حياتهم في محاولة أن يبينوا لأفراد المدارس الأخرى المنافسة لمدرستهم أنهم على خطأ، وإنما هم يكتفون في معظم الأحيان بأن يبينوا فمنافسيهم أن عباراتهم لا معنى لها، وأنها غير قابلة للاختبار بواسطة أية طريقة يمكن تصورها من طرق الملاحظة أو التجريب. ولقد أدت هذه المطالبة الدائمة بأن تكون للقضايا الميتافيزيقية معان قابلة للتحقيق، إلى فقدان التجريبيين المنطقيين شعبيتهم بين أقرانهم من الفلاسفة. ذلك لأنه إذا قال لك خصمك في الفلسفة إن عباراتك باطلة لكان في ذلك ما يثير أعصابك، أما إذا قال لك إنها عبارات لا معنى لها، وإنها في حقيقتها لغو، لكان ذلك أسوأ من مجرد إثارة الأعصاب!
الدليل المباشر وغير المباشر : عند هذه النقطة يجوز أن يكون الطالب المفكر قد أثار سؤالا له دلالته؛ فهل تفي المعرفة العلمية كلها بهذا الشرط الصارم؛ أعني الشرط القائل بأن من الضروري أن تكون كل عبارات ذات معنى، وهو الشرط الذي يحاول التجريبي أن يضعه؟ أم أن هذا مثل أعلى في المعرفة يستحيل تحقيقه، وهو مثل أعلى صعب المنال حتى بالنسبة إلى مطالب العلم الصارمة؟ وماذا نقول عن عمليات الاختبار البعيدة تماما عن الطابع المباشر. والتي يلجأ إليها العلم لتحقيق فروضه التفسيرية؟ فمثلا، ما الذي تستطيع الملاحظة، بالمعنى العادي لهذا اللفظ، أن تنبئنا به فيما يتعلق بالتركيب الذري؟ ألم تصبح المعرفة العلمية أعقد، وأساليب العلم في البحث أدق، من أن يقال إنها مبنية على أسس تجريبية بالمعنى الدقيق؟ وماذا نقول عن الاستخدام المتزايد للرياضيات في العلم: ألا تصاغ معظم البراهين العلمية الآن في صورة معادلات، كثيرا ما تكون شديدة التعقيد، تتضمن مئات الخطوات من الاستدلال المنطقي الرياضي؟
إن المذهب التجريبي المنطقي يدرك تماما أن قدرا كبيرا من البحث العلمي ولا سيما في العلوم الفيزيائية، يتم على مكتب أو سبورة، لا وسط صفوف الأجهزة التي نجدها في المعمل. كذلك يدرك التجريبي أن النسبة المئوية للأعمال الورقية في التجربة العلمية (والمقصود بالأعمال الورقية في هذه الحالة، الحساب الرياضي في أغلب الأحيان) تزداد ارتفاعا على ما يبدو كلما ازداد العلم تقدما وازدادت إجراءاته دقة. غير أن التجريبي يعلم أن كل بحث وتجريب علمي، مهما يكن الدور الذي تلعبه العمليات الرياضية فيه. ومهما يكن الطابع الملتوي غير المباشر لأساليبه التجريبية، ينبغي أن يبدأ وينتهي بالملاحظة. فالباحث، الذي يبدأ بالوقائع الملاحظة، قد يظل شهورا، وربما أعواما، يهيم في بيداء من الصيغ وسلاسل الاستدلال الرياضي. ولكن مهما طالت رحلته العقلية غير القائمة على الملاحظات ودارت، فلا بد أن يعود به المطاف آخر الأمر إلى عالم الطبيعة من حيث هي قابلة للملاحظة. في مقابل الطبيعة من حيث هي موضوع للاستدلال. وما لم تتم رحلة الإياب هذه التي يعود فيها الباحث إلى قواعده الأصلية، وهي الملاحظة (التي تتخذ في كثير من الأحيان صورة تجربة فاصلة
Crucial )، فلن يكون لدينا علم.
وتشير التجريبية المنطقية إلى التضاد الصارخ، في هذا الصدد. بين العلم من جهة وبين الميتافيزيقا واللاهوت من جهة أخرى. فالميتافيزيقي واللاهوتي على السواء يبدآن نشاطهما العقلي بالملاحظة. وهذه بطبيعة الحال ملاحظة أوسع تعميما من تلك التي يستخدمها العلم، ما دام أساس هذا السعي وراء الفروض الكونية التفسيرية الشاملة هو عادة الكون بأكمله ، وتجربة الإنسان بأسرها في الكون. غير أن هذين الباحثين العقليين الآخرين عن التفسير، على خلاف العالم، لا يستطيعان القيام برحلة إياب ناجحة يعودان فيها إلى عالم المعطيات التجريبية. وبالاختصار، فإن الميتافيزيقي أو اللاهوتي لا يستطيع تصميم تجارب يختبر بها فرضه التفسيري المتعلق بطابع الواقع، والمصير الإنساني، والطبيعة ... إلخ. ومن الممكن أن يكون فرضه (الذي قد يكون تعدديا) مناقضا لفرض أحد خصومه (الذي قد يكون واحديا). ومن هنا فلا يمكن أن يكون الاثنان صحيحين: فمن الواضح أن ها هنا فارقا من ذلك النوع الذي كان في ذهن «بيرس». ولكن كيف يؤدي - بل كيف يمكن أن يؤدي - هذا الفارق البادي إلى إحداث فارق حقيقي، وما الذي سيتغير في تجربتنا إن كان أحد الرأيين صحيحا والآخر باطلا؟ وما الذي سيحدث على نحو مخالف، أو ما الذي سيتغير؟ صحيح أن مشاعرنا قد تتغير إذا قبلنا هذا الرأي أو ذاك، ولكن ما الذي سيتأثر على أي نحو في العالم الموضوعي المشترك الذي نتقاسمه جميعا؟ هل ستسير الأمور على أي نحو مختلف إذا ثبت أن الكون تعددي. عنها إذا تحققنا من أنه واحدي؟ وهل يتغير الكون والتاريخ البشري إذا استطعنا أن نثبت أخيرا على نحو ينأى عن الشك مذهب الألوهية أو مذهب الإلحاد؟ ومن الواضح أن شيئا من هذا لا يتغير، وهو ما يتضح من أن هذه الآراء الميتافيزيقية اللاهوتية المتباينة قد ظهرت في ظل نفس المجموعة من الظواهر التاريخية ونفس المجموعة من المعرفة البشرية التراكمية. فإذا كان من الممكن أن تكون لدينا مذاهب عقلية متناقضة تفسر نفس الوقائع الملاحظة، فمن الواضح عندئذ (تبعا لاستدلال التجريبية المنطقية) أن هذه التفسيرات لا معنى لها. ذلك لأنها لما كان لا تحدث فارقا، فإن أي فارق ظاهري بينها إنما هو فارق لفظي أو وهمي بحت.
التجربة الفاصلة ودلالتها : تصمم التجارب الفاصلة في العلم لغرض صريح هو إثبات فرض وتفنيد الفرض أو الفروض المنافسة له. ومن الممكن بلوغ هذا الموقف المحدد المعالم عن طريق خطوة استنباطية - في السلسلة الكاملة للاستدلال العلمي. في هذه الخطوة نحدد النتائج المتوقعة مقدما، بحيث تكون النتائج هي تلك التي لا تحدث إلا إذا كان الفرض موضوع البحث صحيحا، والفرض المضاد باطلا. وهكذا فإن العالم يقول لنفسه (ضمنيا على الأقل)، وهو يضع تجاربه، شيئا يقرب من هذا: «إن معرفتنا التراكمية عن هذا الميدان تجعلنا موقنين بأن خصائص الظواهر موضوع البحث من شأنها ألا يحدث إلا شيء واحد عندما نتخذ خطوتنا الأخيرة، إذا كان فرضنا صحيحا. وقد استبعدنا نحن (أو العلماء السابقون علينا) كل الإمكانيات الباقية، فلا بد أن تسفر خطوتنا التجريبية الأخيرة عن فارق معين في هذا الاتجاه أو ذاك؛ وبالتالي تقدم إلينا إجابة قاطعة بنعم أو لا.»
ويشير التجريبي المنطقي إلى هذه المواقف التجريبية بوصفها أمثلة رائعة لتحقيق الشرط الذي وضعه بيرس، والقائل إن الفارق لا بد أن يحدث فارقا، وهو فضلا عن ذلك يشير إلى هذه التجارب بوصفها أفضل أمثلة توضح ما الذي يجعل العبارة صحيحة أو باطلة؛ إذ إن الاختبار الفاصل لا يترك مجالا للشك. ولا بد أن يؤدي إلى الاستغناء عن أحد الفرضين المتنافسين. غير أن من المستحيل، في الميتافيزيقا واللاهوت، أن نكشف أي الآراء المتعددة صحيح وأيها باطل؛ لأنه لا يوجد واحد منها يحدث أي فارق حقيقي. فكل منها يشعر مؤيديه بالرضا الانفعالي، وطمأنينة النفس، والثقة والاتزان العقلي، غير أن هذا الفارق الذاتي لا يجعل الرأي صحيحا أو ذا دلالة بأي معنى موضوعي أو شامل. ونظرا إلى هذا الافتقار إلى حدوث فارق في النتائج الفعلية القابلة للملاحظة، فإن التجريبي المنطقي يتساءل عما نعنيه عندما نصف إحدى العبارات اللاهوتية الميتافيزيقية بالصحة والأخرى بالبطلان. ذلك لأنه لما كانت الاثنتان غير قابلتين للإثبات بنفس المقدار، فإن أية قضية تستخلص منهما هي كذلك غير قابلة للتحقيق؛ وبالتالي فهي آخر الأمر قضية لا معنى لها.
هذه إذن هي حصيلة تحليل التجريبي المنطقي لادعاءات الصحة في القضايا الميتافيزيقية. وهو إذ يبدأ بنظريته في القابلية للتحقيق من حيث هي معيار للمعنى، يضطر منطقيا إلى رفض الميتافيزيقا واللاهوت معا بوصفهما ميدانين خاليين من المعنى. ذلك لأنه إذا كانت العبارات المعرفية الوحيدة التي لها دلالة هي تلك التي تتصف إما بأنها صحيحة شكليا وإما بأنا واقعية، فإن قضايا الميتافيزيقي واللاهوتي هي قضايا تفتقر إلى الدلالة. ولنلخص وجهة النظر هذه باقتباس موجز من واحد من أشهر التجريبيين الإنجليز:
وعلى ذلك ففي وسعنا أن نعرف الجملة الميتافيزيقية بأنها جملة تزعم أنها تعبر عن قضية بالمعنى الصحيح، ولكنها لا تعبر في الواقع عن تحصيل حاصل ولا عن فرض تجريبي. ولما كانت قضايا تحصيل الحاصل وقضايا الفروض التجريبية تؤلف فئة القضايا ذات المعنى بأسرها، فإن لنا الحق في أن ننتهي من ذلك إلى أن جميع القضايا الميتافيزيقية لا معنى لها.
4 (3) نتائج التجريبية المنطقية
هل يعني رفض التجريبيين المنطقيين هذا للميتافيزيقا - وهو رفض أصبح مشهورا - أنهم يدعون إلى التخلي عن كل نشاط فلسفي، ووضع كل المذاهب الفلسفية الموجودة في المتاحف بوصفها عجائب تاريخية؟ وهل يعني ذلك أنهم يدعون إلى إغلاق المدارس الفلسفية مثلما أمر الإمبراطور جيستينيان بإغلاق المدارس الفلسفية اليونانية القديمة في عام 529 الميلادي، وإلى تحويل الفلاسفة إلى القيام بمهام أقرب إلى الطابع العملي؛ وبالتالي يفترض أنها أكثر فائدة؟ وماذا يكون مستقبل الفلسفة لو قيض لها دكتاتور تجريبي منطقي؟
مستقبل الفلسفة : يفرق التجريبي المنطقي، في البرنامج الذي يرسمه لمستقبل الفلسفة، بين ما يعده وظائف صحيحة ووظائف غير صحيحة لها. فهو يعتقد بالطبع أن من الواجب استمرار الأولى، ولكنه يحذف كل ما عداها بكل صرامة. وهذه الوظائف التي يعدها غير صحيحة هي الوظائف الاستنباطية والتركيبية الجامعة. فالوظائف الاستنباطية تمثل محاولة لاستنباط مذهب عن «الواقع» من «مبادئ أولى» أو «مصادرات أولية» على نحو ما قام به الميتافيزيقيون العقليون (كديكارت وهيجل مثلا). والوظائف الاستقرائية تنطوي على محاولة تكوين نظرة شاملة إلى العالم عن طريق التأليف بين عناصر التجربة البشرية على طريقة لعبة القطع الخشبية التي تحدثنا عنها مرارا في الفصول السابقة. وبطبيعة الحال فإن التجريبي يتعاطف مع هذه المحاولات الاستقرائية (لأنها على الأقل تبدأ بمعطيات تجريبية) أكثر مما يتعاطف مع المحاولات العقلية الاستنباطية عند مفكرين مثل هيجل. ولكن لما كانت هذه النظرة الاستقرائية إلى العالم ذاتها تقتضي منا بالضرورة أن نتجاوز حدود التجربة ونصوغ تعميمات لا يمكن اختبارها بالملاحظة، فإن القضايا الميتافيزيقية التي نصل إليها بالاستقراء ليست آخر الأمر بأقل افتقارا إلى المعنى القابل للتحقيق من قضايا العقليين. وباختصار، فإن التجريبية المنطقية تود تطهير الفلسفة من كل نشاط ميتافيزيقي أيا كان، سواء أكان استنباطيا أم استقرائيا.
ومعنى ذلك أن الفلسفة، كما يعرفها ويدافع عنها التجريبية المنطقي، لها طابع منطقي لا تخرج عنه. فهي ليست نظرية أو مذهبا، وإنما هي نشاط؛ أعني توضيحا للفكر. هذا الإيضاح يتم عن طريق التحليل المنطقي للقضايا وتحليل معانيها وتراكيبها، وصياغة قواعد لتحويل (أي الترجمة) العبارات ذات المعنى إلى عبارات أخرى ذات معنى. ولما كان هذا يقتضي من الوجهة النظرية إيجاد لغة مثلى، فإن التجريبين المنطقيين قد بذلوا جهودا كبيرة في وضع المذاهب المنطقية الحديثة التي تستهدف هذا المثل الأعلى.
ولكن ما الذي نعنيه عندما نتحدث عن «تحليل القضايا نم حيث تركيبها اللغوي» و«صياغة قواعد للتحويل»؟ إن أفضل طريقة لتفسير هذه التعبيرات هي أن نفحص رأي التجريبي بشأن العلاقة الصحيحة التي ينبغي أن تقوم بين الفلسفة والعلم، فلننتقل إذن إلى هذا الموضوع. إن الفلسفة في رأي التجريبية المنطقية، ينبغي أن تكون هي نظرية العلم أو منطق العلم - أي إنها هي التحليل المنطقي لمفاهيم العلم وقضاياه وبراهينه ونظرياته. فالمهمة الأساسية للعالم هي صياغة الفروض وتحقيقها، أما المهمة التكميلية، والتي لا تقل عن ذلك فائدة للفلسفة، فهي كشف العلاقات المنطقية بين بعض هذه الفروض وبعضها الآخر، وتعريف الرموز المستخدمة فيها. وهذا يعيد إلى ذاكرتنا المناقشة التي أوردناها في الفصل الثاني، حين وصفنا الدور الأكبر الذي تسهم به الفلسفة في العلم بأنه تحليل لمفاهيمه ومصطلحاته.
ومن شأن طبيعة هذا النشاط التكميلي الذي تقوم به الفلسفة، أنها تجعل من المستحيل على الفيلسوف (في الحدود المصرح له بها في التجريبية المنطقية)، أن ينافس العالم، ناهيك بأن يناقضه. ذلك لأن العلم يختص ببحث سلوك الأشياء، وعباراته المتعلقة بهذا السلوك هي عبارات تجريبية تشير بطريق مباشر أو غير مباشر إلى ملاحظات في العالم الفيزيائي. أما عبارات الفلسفة فليست تجريبية، وإنما هي لغوية ومنطقية. ويلخص أ. ج. آير الفارق بينهما على هذا النحو:
وبعبارة أخرى، فقضايا الفلسفة ليست واقعية، وإنما هي ذات طابع لغوي؛ أي إنها لا تصف سلوك الموضوعات الفيزيائية، أو حتى الذهنية، وإنما هي تعبر عن تعريفات أو عن النتائج الشكلية للتعريفات. ذلك لأننا سنرى فيما بعد أن الصفة المميزة للبحث المنطقي البحت هي أنه يختص بالنتائج الشكلية لتعريفاتنا، لا «بمسائل الواقع التجريبي».
5
هل تلزم المادية عن التجريبية المنطقية؟
هناك نتيجة رئيسية ثانية للتجريبية المنطقية ينبغي بحثها، على الرغم من أن أفراد المدرسة ونقادهم ليسوا متفقين بشأنها. هذه النتيجة، بالاختصار، هي: إذا كان التجريبي يشترط أن تكون كل القضايا ذات المعنى قابلة للتحقيق عن طريق الملاحظة، أليس معنى ذلك أنه، على الرغم من كل تبرئة من المذاهب الميتافيزيقية، يقول ضمنا بنظرية ميتافيزيقية، هي المادية؟ لا يمكن أن يكون هناك شك في أن شرط التحقيق التجريبي الذي يدعو إليه، يعني بالتأكيد المستمد من الحواس. وإن كان نادرا ما يقول ذلك. ولما كانت حواسنا لا تستجيب إلا للظواهر الفيزيائية، فهلا يعني ذلك بالضرورة أن معيار الواقعية (أو «الدلالة» أو «المعنى») في المذهب التجريبي، هو معيار ذو طابع مادي؟ وبالاختصار، ألا تفترض التجريبية المنطقية ضمنا نظرة إلى العالم تتميز بأنها، مهما كانت دقتها وقدراتها على التحليل وتعمقها الإبستمولوجي، هي في أساسها نفس المذهب المادي الذي كان يجد قبولا واسعا بين العلماء والفلاسفة المجددين خلال القرن التاسع عشر؟
وعلى الرغم من أنه يكاد يكون من المستحيل أن نضبط التجريبي وهو في غفلة إلى حد يكفي لكي يعترف بأن نظريته في المعنى بوصفها القابلية للتحقيق تنطوي على نتائج ميتافيزيقية، فإن بعض الأفراد البارزين في هذه المدرسة، كانوا على استعداد للأخذ بوجهة نظر يسمونها بالفيزيائية
ومع ذلك فإنهم يفضلون كثيرا أن يعرضوا هذه النظرية على أنها نظرية في اللغة والاتصال، مما يجعلها تبدو معرفية أكثر منها ميتافيزيقية. ولكن من سوء الحظ أن مفهوم الفيزيائية يرتبط ارتباطا وثيقا بالهدف الأكبر للتجريبية المنطقية، وهو وحدة العلم؛ ومن هنا كان لزاما علينا أن نزيد العرض الذي نقدمه تعقيدا ببحث المسألتين معا في آن واحد.
المذهب الفيزيائي ووحدة العلم : أعلن التجريبيون المنطقيون منذ وقت مبكر أن هدفهم الرئيسي هو ضمان أساس عقلي راسخ للعلم. وفضلا عن ذلك فقد توقعوا أن يؤدي هذا الأساس المتين (الذي يتحقق بالتحليل المنطقي لكل القضايا والمفاهيم، سواء تلك المستخدمة في العلوم وفي اللغة اليومية) إلى إيجاد إطار لعلم موحد. ويعني التجريبي بالعلم الموحد، نسقا شاملا من المفاهيم والألفاظ المشتركة بين كل العلوم المختلفة، دون أن ينفرد بها علم واحد أو اثنان فقط. مثل هذه اللغة تكون في واقع الأمر لغة عالمية للعلم، تتيح لنا الجمع بين عبارات تنتمي إلى ميادين متباينة في قضايا ذات معنى. ويقدم إلينا أوتو نويرات
Otto Neurath ، وهو أحد مؤسسي التجريبية المعاصرة، مثلا للحاجة التي يراها شديدة إلى وجود نسق كهذا، وهو النسق الذي يتيح لنا التنقل بحرية في جميع أرجاء عالم المعرفة العلمية: «إن اللغة العالمية للعلم تصبح مطلبا واضحا بذاته إذا ما تساءلنا: كيف يمكن استخلاص تنبؤات فردية معينة، مثل «حريق الغابة سيخمد سريعا». فلكي نفعل ذلك نحتاج إلى جمل تنتمي إلى مجال علم الأرصاد الجوية وعلم النبات، فضلا عن جمل تتضمن ألفاظ «الإنسان» و«السلوك البشري». فمن الواجب أن نتحدث عن طريقة رد فعل الناس إزاء النار، وأي النظم الاجتماعية هي التي ستستخدم في هذه الحالة. وهكذا فإننا نحتاج إلى جمل من مجالي علم النفس وعلم الاجتماع. ولا بد أن يكون من الممكن الجمع بين هذه الجمل وغيرها في استنباط تكون نهايته هي الجملة: «وإذن، فحريق الغابة سوف يخمد سريعا».
6
وهذا يعني أن التجريبية المنطقية تحاول صياغة طريقة للاتصال تؤدي بالفعل إلى تحويل ما نسميه الآن «علوما» فحسب إلى «علم» واحد. صحيح أنه يشيع بيننا الآن استخدام لفظ «العلم » وكأن لدينا بالفعل نسقا موحدا للفكر والمعرفة. ومع ذلك فإن كل عالم (أي كل مشتغل في ميدان علمي محدد) يعلم جيدا أنه لا يوجد حتى الآن بناء متكامل كهذا. ويرى التجريبي المعاصر أنه لا يمكن وجود علم شامل ما لم يتم إيجاد وسيلة فعالة للاتصال المتبادل بين الميادين الخاصة للعلم. فلا بد من أن تكون هناك لغة مشتركة؛ أي منطق مشترك ومجموعة من الرموز المشتركة - تتيح لنا أن نربط، كلما دعت الحاجة، بين مختلف أنواع القوانين بعضها ببعض بوصفها عناصر في نسق واحد.
ولكن ماذا يكون طابع مثل هذه اللغة الشاملة الخاصة بالعلم الموحد؟ إن المنطقي التجريبي يعتقد أنها لا يمكن أن تكون رياضية خالصة، بغض النظر عن مدى قيمة الرياضيات بوصفها أداة علمية. وإنما هو يعتقد بدلا من ذلك أنها ينبغي أن تكون تطويرا وتهذيبا للغتنا التي نستخدمها بالفعل في المواقف اليومية. تلك هي «لغة الأشياء» التي نستخدمها في الفيزياء والهندسة والحياة اليومية كلما تحدثنا عن أمور مادية. فإذا بدأنا بهذه اللغة الجاهزة - والتي يفتقر استخدامها مع ذلك إلى الدقة - كانت مهمتنا بعد ذلك هي أن نضع قواعد تكوين هذه اللغة وتحويلها حتى يصبح من الممكن التعبير عن جميع القضايا والمفاهيم فيها. والغاية هنا، كما هي في جميع حالات توحيد العلم، هي إنقاص عدد النسق الاستنباطية إلى الحد الأدنى - والمثل الأعلى لذلك هو إنقاصها إلى نسق واحد. ولنستمع إلى ما يقوله في هذا الموضوع، رودلف كارناب
Rudolph Carnap »، الذي ربما كان أشهر ممثلي هذه الحركة:
في مناقشاتنا ... وصلنا إلى الرأي القائل إن هذه اللغة الفيزيائية هي اللغة الأساسية في كل علم، وإنها اللغة العالمية التي تشتمل في داخلها على مضمونات كل اللغات العلمية الأخرى. وبعبارة أخرى، فكل جملة في أي فرع من فروع اللغة العلمية لها نظير في جملة معينة في اللغة الفيزيائية؛ ومن ثم فإن من الممكن ترجمتها إلى اللغة الفيزيائية دون تغيير مضمونها.
7
وترى التجريبية المنطقية أن لهذه اللغة الشيئية ثلاث خصائص، كل منها لازمة لكي تكون للعلم الموحد وسيلة اتصال فعالة. ولا بد لنا من الاقتصار على عرض موجز لهذه الخصائص، ولكننا حتى لو اقتصرنا على تعريفها وحده، لظهر هدف التجريبي واضحا. كذلك سيتيح لنا هذا أن نفهم لماذا كانت اللغة الفيزيائية هي وحدها التي تفي بهذه الشروط.
إن لغة العلم الموحد كما تصوغها التجريبية المنطقية تتصف بأنها (أ) مشتركة بين الحواس
Intersensual ، (ب) ومشتركة بين الذوات
Intersubjective ، (ج) وعالمية
Universal . والمقصود بكلمة «مشتركة بين الحواس» هو أن من الممكن اختبار عبارات هذه اللغة عن طريق أكثر من حاسة واحدة من حواسنا. ولهذه الصفة أهميتها؛ لأننا نجد من الضروري في العلم أن نحدث تآزرا بين كيفيات تنتمي إلى مجالات حسية مختلفة. ولعل الأغلب هو أن نحتاج إلى تحقيق التآزر بين معطيات بصرية ولمسية، على الرغم من أن الجمع بين المعطيات البصرية والسمعية لا يكاد يقل أهمية عن ذلك في اكتساب المعرفة. ومن هنا فلا بد أن تكون اللغة العلمية المثالية قادرة على التعبير عن هذا التآزر بترجمة إحدى الكيفيات الحسية إلى الأخرى بنفس الطريقة التي تحول بها «مرسمة التذبذبات
Oscilloscope » الموجات الصوتية إلى صورة على شاشة. فعندما نستخدم مرسمة التذبذبات، نحاول (من خلال لغة مشتركة بين الحواس) أن نحقق تآزرا بين عبارة «صوت من طبقة وجرس وارتفاع كذا» وبين عبارة في اللغة الفيزيائية، هي «تذبذب مادي له تردد أساسي مقداره كذا وترددات توافقية مقدارها كذا واتساعات مقدارها كذا»
8
وبعد ذلك نحقق هذا التآزر اللغوي تجريبيا بتحويل الصوت إلى صور عن طريق مرسمة التذبذبات.
والمقصود بلفظ «مشترك بين الذوات»، في لغة التجريبية المنطقية، هو الموضوعية؛ أي إن في استطاعة عدة ذوات (أو أشخاص) أن يختبروا العبارة المراد بحثها. وهذا الشرط يبلغ من الأهمية في العلم حدا لا يكاد يحتاج معه إلى تعليق، بل إن من المتفق عليه عادة أن الموضوعية هي لب المعرفة العلمية. فما لم تكن المعطيات والنتائج المستخلصة من هذه المعطيات قابلة للمشاركة، وما لم يكن من الممكن تكرار التجربة بواسطة كل المختصين في الميدان بحيث تأتي بنفس النتائج، لما كان لدينا علم. ومن هنا فإن من الواضح أن أية لغة لا تتيح اتصالا كاملا مشتركا بين الذوات لا يمكن أن تكون لغة علمية لها قيمتها.
أما صفة «العالمية» فالمقصود منها أن يكون من الممكن أن تترجم إليها كل عبارة واقعية (أي كل عبارة قابلة للتحقيق تجريبيا). ويشمل ذلك القضايا العلمية والعبارات الواقعية المنتمية إلى التجربة اليومية، فضلا عن أي تجمع من الاثنين معا. وهنا أيضا ترى التجريبية المنطقية أن اللغة الشيئية في العالم الفيزيائي هي وحدها التي يمكن أن تعد عالمية بحق.
السلوكية المنطقية : من الواضح أنه لا بد من قدر كبير من البراعة من أجل ترجمة جميع مفاهيم علم النفس والعلوم الاجتماعية إلى هذه اللغة الفيزيائية، وبالنسبة إلى شتى أنواع الظواهر الذهنية، نجد أن من حسن حظ التجريبي أن علم النفس السلوكي قد مهد له هذا الطريق من قبل. والسلوكية مدرسة في علم النفس تحاول تخطي الوعي وغيره من الظواهر الذهنية الخالصة عن طريق دراسة سلوك الأشخاص بدلا من تفكيرهم أو شعورهم أو أحلامهم أو تذكرهم. وبعبارة أدق، فإن السلوكية ترى أن الوسيلة الوحيدة التي يصبح بها علم النفس علميا هي أن يقتصر موضوعه على ما يمكن ملاحظته بطريقة مشتركة بين الذوات. وهذا يعني السلوك أو الفعل الظاهر. وضمنه الكلام وغيره من أوجه النشاط التي تستخدم الرموز. ومن ثم فإن السلوكي يدرس موضوعاته البشرية بنفس المنهج الذي يدرس به عالم النفس الحيواني موضوعاته الحيوانية؛ أي بوضعهم في مواقف سلوكية يمكن ملاحظتها، وتسجيل استجاباتهم.
ويرى التجريبي المنطقي (شأنه شأن السلوكي) أن الشيء الوحيد الهام فيما يتعلق بأي موضوع، بشريا كان أم حيوانيا، هو في آخر الأمر سلوكه الفعلي. أما التفكير والشعور وما شاكلهما فلا يكون لهما معنى إلا من حيث إنهما يؤديان إلى فعل من نوع ما. ولما كان هذا الفعل هو كل ما يمكن ملاحظته؛ وبالتالي كل ما يمكن التعامل معه علميا، فلا بد لنا من التخلي عن محاولة سبر غور النفس أو دراسة «الذهن» بوصفه كيانا مستقلا عن الجسم وعن استجاباته.
ويدعو المذهب التجريبي إلى التوسع في هذا المنهج السلوكي بحيث يطبق على كل العلوم المسماة بالعلوم «غير الفيزيائية». وهم يقترحون لهذا الامتداد اسما هو «السلوكية المنطقية
Logical Behaviorism »، ويرون أنه سيكون عاملا هاما في توحيد العلم، بل إن من الصعب أن نرى كيف يمكن تحقيق تكامل بين العلم الفيزيائية والبيولوجية والنفسية والاجتماعية إلا بالامتداد المتوسع للمنهج السلوكي.
ولا يحاول التجريبي المنطقي أن يعلل نفسه بالأمل في أن هذا التوحيد سيتحقق بسهولة أو في وقت قريب، ولكنه يثق بأنه سيكون من الممكن الإقلال من العدد الكلي للمفاهيم المنفصلة التي تلزم الآن للعلوم المختلفة. ولقد حدث تقدم في هذا الاتجاه، ولا سيما في ميدان تلك العلوم التي يطلق عليها اسم العلوم المشتركة (أو المزدوجة)
Hyphenated Sciences
كالفيزياء النفسية، والكيمياء الحيوية، والفيزياء الحيوية، وعلم النفس الاجتماعي، وما شاكلها. ويرى التجريبي أنه على حين أن العالم يبحث عن المعطيات التي تضفي على هذا التكامل دلالة، فإنه يقوم خلال ذلك بعملية تمهيدية لها أهميتها، هي وضع لعة موحدة ومنطق مشترك يكونان هما الأداة الضرورية لأي علم شامل موحد بالمعنى الصحيح. (4) الميتافيزيقا في مقابل التجريبية: هل هناك حال ممكن؟
إذا لم يكن الطالب شاعرا بشيء من الحيرة بعد انتهائنا من هذه الفصول الثلاثة المتعلقة بمسائل ميتافيزيقية، لكان ذلك شيئا يدعو إلى العجب؛ ذلك لأن العرض الذي قدمناه للخلافات التي تفرق بين الواحديين والثنائيين التعدديين كانت دون شك محيرة بما فيه الكفاية، أما أن يقال للطالب في هذا الفصل إن كل هذه الخلافات، فضلا عن المفاهيم التي تتركز هذه الخلافات حولها، كلها أمور لا معنى لها، فلا شك في أنه أمر يزيد الطين بلة! وربما تمنى الطالب أن نكون قد عرضنا التجريبية المنطقية أولا، ما دام ذلك كان، على الأرجح، كفيلا بأن يجعل الفصول الأخرى الخاصة بالميتافيزيقا غير ضرورية.
وقد يبدو لأول وهلة أننا نواجه هنا اختيارا بين أحد أمرين: إما أن نوافق على آراء التجريبي ونرفض الميتافيزيقا، وإما أن نرفض التجريبية المنطقية. وهناك مفكرون ضمن التجريبيين وخصومهم ، يؤكدون أن التضاد بين الحلين السابقين بسيط قاطع. وبالفعل كان الكثيرون من المعسكرين معا على استعداد لاتخاذ إحدى الخطوتين، مؤكدين أنه لا سيبل إلى التوفيق بين الأمرين.
غير أن مؤلف هذا الكتاب لا يعتقد أن هذين الأمرين متنافران ويؤدي كل منهما إلى استبعاد الآخر على النحو الذي صورا به؛ ومن ثم فإنه لا يرى ضرورة للاختيار بينهما على أساس «كل شيء أو لا شيء»؛ ذلك لأنه، على حين أن من الصحيح أن أي شخص يحترم عقله لا يستطيع أن يتجاهل التجريبية المنطقية وكل الحركة الوضعية التي يلخصها هذا المذهب، فإن هذا لا يحتم علينا الانتقال إلى الطرف المضاد الآخر والذهاب مع التجريبي إلى حد رفض الميتافيزيقا كلية.
ففي الوقت الذي بدأت فيه التجريبية المنطقية، لأول مرة، توطد مركزها بوصفها حركة فلسفية في العشرينيات من هذا القرن، كان من الممكن استبعادها على أنها بدعة زائلة في مجال الفلسفة، وربما على أنها ناتج عرضي لنزعة الشك وخيبة الأمل التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، أو تعبير عن زهو مبالغ فيه بإنجازات العلم الحديث. غير أن هذا الاستبعاد الفوري لم يعد الآن ممكنا؛ إذ إن الحركة الآن في جيلها الثاني، ولها مكانة هائلة في نفوس المفكرين الشبان في أوروبا وأمريكا معا. ولو قمنا بتعداد للتجريبيين من بين الفلاسفة العاملين الآن، أو الذين توفوا منذ عهد قريب، لوجدنا أنهم يمثلون حوالي ثلث الفلاسفة المعاصرين من ذوي الأهمية، على حين أننا لو توسعنا في التعداد بحيث نرجع به إلى الوراء لكان يشتمل على عمالقة مثل هيوم، ومثل «كانت» (في بعض نواحي تفكيره). وعلى الرغم من أنه كانت هناك في الماضي مدارس تقوم على نزعة الشك وعلى التحليل الدقيق، كانت تبدو هدامة للفلسفات القائمة، فإن وضع التجريبية المنطقية يختلف تماما عن وضع الحركات السابقة التي يمكن مقارنتها بها. فالحركة المعاصرة لها دعائم عقلية أقوى بكثير من الحركات السابقة عليها، وارتباطاتها بالعلم أوثق بكثير. كذلك فإن تطور علم المعاني، والاتجاهات الحديثة في المنطق، والتغيرات في العلوم الرياضية، كل ذلك قد زودها بأدوات تحليلية أدق بكثير مما كان متوافرا من قبل في أي وقت.
والواقع أن من العوامل التي ساعدت على زيادة قوة التجريبية المنطقية، براعتها في تصحيح ذاتها. فقد أتاح لها ذلك تجنب الفخ القاتل الذي تقع فيه كثير من الحركات المتطرفة: وهو الاتجاه إلى التطرف المتزايد؛ أي الزحف مسافات أطول وأطول على رجل صناعية عقلية، إن جاز هذا التعبير - إلى أن يجيء وقت لا يظل فيه يتمسك بالحركة إلا المتعصبون والمتحيزون المتطرفون. أما التجريبية المعاصرة فقد سارت في الاتجاه المضاد، وتخلصت من الانحياز المتطرف والتعصب الذي كان يلازمها في البداية، وعملت باستمرار على توسيع قاعدتها. وقد أتاح لها ذلك أن تزيد من عدد المنتمين إليها، وأن تقوي نفوذها، مما جعل من الضروري على نحو متزايد أن تعمل لها المدارس الأخرى حسابا. وهكذا فإن هذه التجريبية الوضعية المعاصرة، بوصفها اتجاها أكثر منها بناء فكريا متكاملا، تبدو اليوم عضوا جديدا أضيف بصفة دائمة إلى أسرة الفلسفة، يتعين على الأعضاء الآخرين أن يعيشوا معه، راضين كانوا أم كارهين.
هل ينبغي استبعاد الميتافيزيقا؟
وماذا نقول عن البديل الآخر، الذي ينطوي على استبعاد كل تأمل ميتافيزيقي بوصفه شيئا لا معنى له؟ إننا كثيرا ما نجد أناسا يدافعون عن النشاط الميتافيزيقي على أساس أن له تراثا طويلا؛ أي على أساس أنه كان على الدوام جزءا لا يتجزأ من الفكر الفلسفي. ومن ذلك يستدل عادة على أننا إذا ما شئنا تحريم الميتافيزيقا تحريما تاما، فأن الأكثر من ذلك أمانة، من الوجهة العقلية، أن نتخلى عن لفظ «الفلسفة» بأكمله.
غير أن الحجة المرتكزة على التراث لا تلقى في العادة قبولا لدى الأمريكيين، ولا سيما الشبان منهم، الذين يقول أغلبهم - على الأرجح - إنه إذا اتضح أن علما وقورا كالفلسفة، ونشاطا تقليديا موروثا كالتأمل الميتافيزيقي، قد فقدا قيمتهما، فمن الواجب الإلقاء بهما في سلة المهملات. ولكننا حتى لو وافقنا على هذا الاتجاه الأمريكي المألوف، الذي يقول بوجوب استبعاد أي شيء يفقد قيمته (وهو اتجاه لا يعارضه مؤلف هذا الكتاب)، فإن هذا لا يكاد يكون حلا للمشكلة. ففي اعتقادي أن الميتافيزيقي قد وجدت لتبقى، على الرغم من كل ذكاء الهجوم التجريبي، وذلك للسبب الأرسططالي الذي أشرنا إليه مرارا في فصول سابقة، وهو أننا - سواء أردنا ممارسة النشاط الميتافيزيقي أم لم نرد، (وهو تعديل طفيف لصيغة أرسطو الأصلية) - لا مفر لنا جميعا من أن نكون ميتافيزيقيين من نوع ما. إننا قد نتمكن من تجنب بعض التعقيدات والعقد التي وقع فيها التفكير الميتافيزيقي التقليدي، ولكننا لا نستطيع أن نتجنب أن يكون لنا رأي في طبيعة العالم الذي نعيش فيه. وقد نتمكن من تجنب استخدام لفظ «الحقيقة أو الواقع»، (بالمعنى الشامل أو بدونه)، ونرفض إضاعة وقتنا سدى في مناقشة طابعه النظري، ولكنا لا نستطيع أن نتجنب السلوك وكأن هناك أمورا معينة - أي جوانب معينة لعالمنا - هي أكثر حقيقة بالنسبة إلينا (وهي قطعا أكثر دلالة) من غيرها. غير أن هذا يعني اتخاذ موقف ميتافيزيقي ضمني من نوع ما، «سواء شئنا أم لم نشأ». فأكثر التجريبيين المنطقيين اتساقا لم يفلح في إقناع أي شخص، ما عدا زملاءه من التجريبيين على ما يبدو، بأنه ينجح تماما في تجنب اتخاذ وجهة نظر ميتافيزيقية.
حل ممكن : يبدو أن حل هذه المشكلة هو الاعتراف بحتمية النشاط الميتافيزيقي، ولكن مع تضييق نطاق الميتافيزيقا المنهجية، إن جاز هذا التعبير، وهذا أمر يمكن تحقيقه إذا أبينا الاعتراف بأي زعم قد يدعيه أي مفكر ميتافيزيقي مغرور بأنه قادر على إثبات الحقيقة أو تأكيد الوقائع بالمعنى الذي يفعل به العلم ذلك. كذلك ينبغي أن نرفض بشدة أي ادعاء قد تزهو به الميتافيزيقا بشأن يقينية قضاياها. وكذلك أية مطالبة لها بأن نحكم على قضايا بمنطق «أعلى» يتجاوز التجربة، ويختلف عن المنطق الذي نستخدمه في المجالات الأخرى للغة. وبالاختصار، فمن الواجب أن نقنع المفكر الذي تكون اهتماماته جامعة أو تركيبية، لا تحليلية، بأن يعترف بأن لنظرته إلى العالم نفس المركز الإبستمولوجي الذي نعزوه إلى نظرة الشاعر أو الروائي أو الفنان إلى الواقع. فلنا الحق في أن ننظر إلى المذهب الميتافيزيقي على أنه في أساسه عمل فني - هو بالطبع أقرب إلى الطابع العقلي من معظم نواتج الخلق الفني، وهو قطعا أكثر اعتمادا على المنطق والاستدلال الدقيق، ولكنه يظل في أساسه تفسيرا شخصيا لتجربة بشرية لا تقل ذاتية عن تجربة الفنان. وقد تكون لمثل هذا المذهب، شأنه شأن أي عمل فني كبير، دلالة عالمية شاملة، وقد يكون مقنعا إلى أبعد حد. وهكذا ففي وسعنا أن نمجد الميتافيزيقي لقدرته على الاستبصار وقوته الخلاقة، وبراعته من حيث هو مهندس عقلي. ولكننا لسنا مضطرين إلى قبول ما يدعيه لآرائه من حقيقة، على نفس النحو الذي تقبل به ادعاءات العالم (بل يبدو لي أن دراسة التجريبية المنطقية تثبت لنا أننا لا نستطيع قبول ادعاءات الميتافيزيقي هذه).
فهل يؤدي ذلك إلى جعل العبارات الميتافيزيقية عبارات لا معنى لها؟ من الواضح أنه يؤدي إلى ذلك إذا قصرنا فكرة المعنى على ما يمكن تحقيقه تجريبيا. ولكن هذا يؤدي أيضا إلى وضع الميتافيزيقي في صحبة رفاق من مستوى رفيع إلى حد ما، ما دامت كتابات الأدباء الفنانين والمفكرين الدينيين هي كذلك كتابات لا معنى لها. ومع ذلك، فلما كان معظم الناس يظلون على اعتقادهم بأن هذه العبارات غير القابلة للتحقيق لها معنى كامل، فإن التجريبي المنطقي يبدو في مركز ذلك الذي يريد شرب البحر جافا. فهو بلا شك يظل ملتزما حدوده المشروعة عندما يختار تعريف المعنى على أساس التحقيق التجريبي وحده، ولكنه قطعا ينتمي في هذا الصدد إلى الأقلية.
ولنقل أخيرا إننا ينبغي أن نشكر التجريبي المنطقي؛ لأنه زودنا بسلاح فعال نتحرر به من الادعاءات المفرطة التي يزعم بها الميتافيزيقيون واللاهوتيون بلوغ الحقيقة. كذلك أعتقد أننا ينبغي أن نشكر له تذكيره إيانا بأن المعرفة العلمية هي أكثر المعارف التي نستطيع بلوغها وثوقا - بل إنها تكون فئة قائمة بذاتها من حيث الادعاءات المشروعة للمعرفة. ولكن لما كان التأمل الميتافيزيقي هو على ما يبدو صفة دائمة من صفات الطبيعة البشرية، فيبدو أن الأحكم هو الاعتراف بهذا الميل والاحتفاظ به في حدود النظام. عن طريق النقد والتحليل (ولا سيما التحليل اللغوي، الذي يبرع فيه التجريبي المنطقي إلى أبعد حد )، بدلا من أن نحاول استئصال ما لا يمكن استئصاله. وأنا شخصيا لا أرى أن الميتافيزيقا أحق من الشعر والفن بأن تستبعد من مجتمع الناس الطيبين. ولكني أيضا لا أرى ما يدعونا إلى السماح لواضعي المذاهب الميتافيزيقية واللاهوتية بأن يدعوا بأنهم، لما كانوا يتعاملون مع عموميات، ويصدرون عبارات إخبارية تماثل من الناحية اللغوية عبارات العلم، فمن الواجب أن ننسب إليهم، من الوجهة المعرفية، نفس الفضل الذي ننسبه إلى العالم. فالتجريبي قد علمنا كيف نتحرر من هذا الوهم، ومن الروح القطعية التي ترتبت عليه في كثير من الأحيان، وليس هذا بالفضل البين.
الفصل الثاني عشر
الأخلاق: ماذا ينبغي أن نفعل
من الممكن النظر إلى الفلسفة بإحدى طريقتين : فإما أن تعد نشاطا عقليا منعزلا وإما أن تعد مرشدا في الحياة. أما الطريقة الأولى فلها مزايا متعددة؛ إذ إننا لو نظرنا إلى الموضوع على هذا النحو لكنا أقل تعرضا لأخذ بحثنا أو إجاباتنا أو أنفسنا مأخذ الجد الزائد عن حده، بل إننا نستطيع عندئذ أن نكون أكثر موضوعية وتنزها في تحليلاتنا العقلية، وتكون نظرتنا إليها أقرب إلى نظرة العالم إلى مشكلاته في المعمل. ولو مضينا في بحثنا بهذه الطريقة الأكثر موضوعية، لكان احتمال وصولنا إلى نتائج تتفق مع الطبيعة الفعلية للأشياء أقوى مما لو جعلنا الفلسفة بديلا للعقيدة واتخذناها مرشدا في الحياة. فلو أقبلنا على الفلسفة من وجهة النظر الثانية هذه، لكان هناك على الدوام احتمال في أن تتلون الصورة التي نكونها عن الواقع بلون مستمد من آمالنا ومخاوفنا. ففي هذه الحالة قد تتدخل قلوبنا في عمل عقولنا، وعندما ننتهي من تكوين نظرتنا إلى العالم فقد لا تكون النتيجة إلا إسقاطا لطبيعتنا البشرية، بما تتميز به من عناصر قوة وضعف، على شاشة الكون.
وعلى الرغم من أننا لن نحاول الحكم على هاتين الطريقتين في النظر إلى الفلسفة، فمن الواجب أن نشير إلى أن تعارض الموقفين اللذين تؤديان إليهما يدفع كلا منهما إلى تركيز اهتمامها على فرع مختلف من فروع الفلسفة، تتخذ منه محورا لنشاطها العقلي. فإذا نظرنا إلى الفلسفة على أنها نشاط نظري قبل كل شيء لكان الأرجح أن نولي تفكيرنا شطر المشكلة الإبستمولوجية الميتافيزيقية. أما المدرسة التي تتخذ من الفلسفة مرشدا في الحياة فتركز تفكيرها، إلى حد بعيد، في المشكلة الأخلاقية، وهي: ما الحياة الخيرة؟ فهذه المدرسة لا ترى للبحث الميتافيزيقي قيمة كبيرة ما لم يسفر عن «فلسفة في الحياة»؛ أي عن نوع من المذهب الأخلاقي المحدد المعالم. وفي مقابل ذلك، نجد أن أولئك الذين يمارسون النشاط العقلي بدافع الرضا الذي يبعثه فيهم هذا النشاط في ذاته، ينظرون إلى الأخلاق على أنها خاضعة للإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) والميتافيزيقا. وهكذا فإنهم أقرب إلى القول بأن أهمية أي مذهب أخلاقي ودلالته تتوقف على صحة الموقف الميتافيزيقي الكامن من ورائه.
ولقد قدمنا في الفصول السابقة من عناصر الميتافيزيقا ونظرية المعرفة ما يكفي لإعطاء الطالب الذي يفضل النظر إلى الفلسفة على أنها وسيلة عقلية لقضاء الوقت، مادة غزيرة لنشاطه النظري. ولذا فإننا سننحاز في هذا الفصل وفي الفصلين التاليين إلى المجموعة ذات الاتجاه الأخلاقي، ونذهب معها إلى أن الهدف الرئيسي للفلسفة هو إنارة طريقنا ونحن بسبيل البحث عن الحياة الخيرة. (1) مشكلة الخير
ينطوي ميدان الأخلاق على تعقيدات ملحوظة : إذ إن المشكلة لا تقتصر على وجود وجهات نظر متعارضة عديدة، بل إننا نجد أيضا فئات كثيرة مختلفة، وخطوط تقسيم متقاطعة، ونقاط ارتكاز تبدو منعدمة الصلة بعضها ببعض. وهكذا يكون من العسير في كثير من الأحيان تصنيف المواقف المختلفة، أو مقارنتها بعضها ببعض. وقد نصادف آراء ليست لها علاقة واضحة بعضها ببعض، من حيث إن كلا منها ليس مضادا للآخر ولا مكملا له، بل إن نقطتي الارتكاز اللتين اعتمدنا عليهما منذ البداية، وهما المذهب الطبيعي والمذهب المثالي، لا ترشداننا في هذا الميدان بالقدر الذي كنا نتوقعه منهما.
ومن الأسباب التي يرجع إليها هذا الخلط، وجود تقسيم في ميدان الأخلاق يتصف بأنه أساسي من جهة، ولكن يصعب وصفه أو الاحتفاظ به من جهة أخرى. فمن الممكن، من جهة، النظر إلى الأخلاق على أنها فرع للدراسة المنظمة للقيمة. وفي هذه الحالة تكون مشكلتنا الأساسية هي، ما طبيعة «الخير»؟ ومن الممكن، من جهة أخرى، أن ننظر إلى الأخلاق على أنها دراسة الإلزام، وفي هذه الحالة تكون مشكلتنا الأساسية هي طبيعة «الواجب» ومصدره. وسوف نقدم في الفصلين اللذين نبدؤهما الآن تحليلا لهاتين المسألتين، مع تقديم الإجابات الرئيسية عنهما. وسيكون من الضروري لنا، توطئة للقيام بهذا التحليل، أن ندرك النتائج الرئيسية التي تترتب على كل من هاتين المسألتين.
المشكلتان الرئيسيتان في ميدان الأخلاق : يبدو من الواضح أن الطريقة الأولى - من بين الطريقتين السابقتين في النظر إلى الأخلاق، وهي التي تبدأ بفكرة القيمة، ستكون معنية بكشف ما ينبغي السعي إليه؛ أي ما هو خير، أو ما له قيمة. فهي ستدرس أهداف السلوك أو غاياته المثلى. أما طريقة النظر إلى الأخلاق من خلال نظرية الإلزام فستكون معنية بمشكلة ما ينبغي عمله؛ أي بالطريقة التي ينبغي أن نعمل بها على تحقيق هذا «الخير» أو هذه «القيمة». وعلى الرغم من أن هذه المشكلة الثانية تبدو أقرب إلى الطابع العملي المباشر من الأولى؛ وبالتالي تعد أهم بكثير في نظر الشخص غير المتخصص عادة، فإن الفيلسوف كثيرا ما يشعر بميل أقوى إلى المشكلة الأولى، وهي البحث عن «الخير». وهو يدلل على ذلك بقوله: كيف نستطيع أن نعرف ما ينبغي عمله، ما لم نكن قد حددنا ما نحن بسبيل البحث عنه؟ أليست الغايات أهم من الوسائل؟ ولما كانت الغايات موضع البحث، في الأخلاق، هي الأهداف النهائية للحياة البشرية، فأي مشكلة يمكن أن تكون أهم من الوجهة العملية من تلك المتعلقة بنظرية القيم؟ وعلى أية حال، فإن المفكر الأخلاقي يتساءل، آخر الأمر، سؤالين: ما الذي نحيا من أجله؟ وكيف ينبغي أن نحيا؟ والسؤالان متداخلان بالطبع، ولكن كلما كان الخط الفاصل بينهما أقوى، كان تحليلنا لهما أوضح.
إننا عندما نصدر أحكاما تقويمية
Value Judgments
إنما نقوم بنشاط من أهم أوجه النشاط العقلي عند الإنسان وأكثرها شيوعا. وعلى الرغم من أننا قد لا نكون منحازين عن وعي لأية نظرية من النظريات المتعددة في القيمة، التي سنعرض لها بعد قليل، فلا تكاد توجد لحظة واحدة من لحظات حياتنا اليقظة. لا نجد فيها أنفسنا قائمين بإصدار حكم كهذا، أو بعمل شيء نحقق به حكما سبق لنا إصداره. والواقع أن معظم القرارات التي نتخذها في حياتنا، حتى القرارات التافهة، تمثل أحكاما تقويمية صريحة أو ضمنية، فمعظم القرارات مبنية على أحكامنا على أشياء معينة بأنها طيبة أو رديئة، مرغوب فيها أو غير مرغوب فيها. وحتى عندما نستخدم اللفظ الأساسي في التقويم، وهو اللفظ «خير»، على أنحاء متباينة، كما في قولنا «العدالة خير» و«حفلة الأمس خير من حفلة اليوم»، فإن مضموناته المعيارية أو التقويمية تظل موجودة. ومن هنا لم يكن من المستغرب أن نجد الفيلسوف يبدي كل هذا الاهتمام بمشكلة الخير.
رأيان في طبيعة الإلزام : وصفنا من قبل مشكلة الإلزام بأنها تبدو أقرب إلى الطابع العملي المباشر من مشكلة «الخير»، غير أن مفهوم الإلزام بأسره أصعب مما يتوقعه المبتدئ في دراسة الفلسفة. والواقع أننا لو كنا نعني «بالإلزام» أو الوجوب
Ought ، حالة مشروطة فحسب، لما انطوى الأمر على صعوبة خاصة. ذلك لأنه لو كان كل ما نعنيه هو أنك إذا أردت تحقيق غايات معينة، فعندئذ يجب عليك أن تفعل كذا وكذا، لكانت المشكلة التي أمامنا مشكلة بسيطة تتعلق بالوسائل والغايات. ولكن الذي يحدث في كثير من الأحيان هو أننا نستخدم معنى «الوجوب» بمعنى غير مشروط، فنقول «ينبغي لك أن تؤدي واجبك!» - لا لأنك تسعى إلى إرضاء المجتمع، أو إرضاء ضميرك، أو زيادة في مرتبك، بل لمجرد كون المسألة متعلقة بالتزام أخلاقي. فضلا عن ذلك، فينبغي عليك أداء الواجب بغض النظر عن أية منافع أو أضرار شخصية قد تنجم عنه.
فعندما تستخدم كلمة الإلزام بهذا المعنى المطلق غير المشروط، نجد أنفسنا على الفور إزاء مشكلة من أعقد مشكلات الفلسفة. ذلك لأن في وسع الشكاك دائما أن يتساءل: «لماذا كان ينبغي علي أن أقوم بواجبي، وبخاصة عندما لا تكون في ذلك راحتي؟» أما بالنسبة إلى الفيلسوف، فلا يكفي أن نرد عليه بقولنا «هذا ما ينبغي لك عمله، لا أكثر ولا أقل». فلا بد للشخص المفكر أن يواجه، عاجلا أو آجلا، تلك المشكلة التي هي أصعب المشكلات الأخلاقية جميعا، وأعني بها: من أين تأتي قوة الإلزام الخلقي؟ أو كما يصوغها البعض: من أين تأتي «وجوبية» الواجب؟ إن أي إلزام يتضمن ضرورة قيام شخص ما بعمل شيء ما. فما مصدر هذه الضرورة؟
في هذا الفصل، والفصل التالي، سوف نبحث في هذه الأوجه المتعددة للمشكلة الأخلاقية. ومن واجبنا أن نتذكر، ونحن ماضون في بحثنا، أنه، مهما يكن مقدار تعقد المشكلات، أو مدى الطابع النظري الذي ستتخذه المناقشة، فإن محاولتنا ستنصب على الإجابة عن أهم المشكلات العملية للإنسان وأعمقها وأشملها، وأعني بها: ما «الحياة الخيرة»؟ ومن سوء الحظ أنه ليس من الممكن الإتيان بإجابة لهذا السؤال تبلغ من البساطة حدا يعادل ما له من أهمية. ولكن لما كان الأمر هنا متعلقا بتلك المشكلة الأساسية؛ أعني مشكلة ما ينبغي أن نصنعه بحياتنا، فليس لنا أن نتوقع أن نهتدي إلى إجابة واحدة بسيطة عليها. (2) ما مركز «الخير» في الكون؟
إن أول خلاف رئيسي يثار حول مشكلة «الخير» أو «القيمة» هو الخلاف المتعلق بمركز الخير؛ فهل للخير وجود موضوعي مطلق؟ وهل هناك «خير» بالمعنى العام، أم هو دائما نسبي تبعا لرضا فرد معين أو تفضيله؟ وهل هناك أحكام تقويمية شاملة، تسري على كل الناس في كل مكان؟ وهل هناك شيء ينعقد إجماع الناس كلهم، بغض النظر عن زمانهم أو مكانهم أو جنسهم أو حضارتهم، على وصفه «بالخير»؟ أم أن لكل شخص، في نهاية الأمر، نظرا فرديا، وربما مزيدا، من القيم؟ إن كل شخص يبدو أنه يحدد، عن وعي أو دون وعي، ما يعده ذا قيمة في العالم، وما يود أن يقضي حياته محاولا بلوغه. فهل هناك أية معايير موضوعية نستطيع أن نحكم بها على نظام القيم هذا الذي تنطوي عليه أفعاله؟ أم أن عبارته المجردة «إنني أجد س خيرا» هي الكلمة الأخيرة التي يمكن أن تقال في الموضوع؟
الرأي التقليدي : كان الاعتقاد بأن القيم الموضوعية، توجد خارج أذهاننا بوصفها جزءا من الكون، هو الرأي السائد في الفكر الغربي؛ ولذا فسوف نبدأ ببحثه. ويبدأ أنصار هذا الرأي برهانهم على موقفهم بأن يشيروا إلى أن بعض القيم تبدو موجودة بالنسبة إلى جميع الأشخاص، ومهما تفاوتت هذه القيم في البداية، فإن زيادة التعود والتفكير النقدي تؤدي إلى تقريبها رويدا رويدا نحو معيار مشترك. فالأشخاص الذين لهم مستوى ثقافي أو حضاري متقارب، يتفقون فيما بينهم اتفاقا أساسيا حول الأفعال التي تعد خيرة والأشياء التي تعد قيمة، حتى ولو كانت تفصل بينهم أوسع المسافات أو أطول العهود الزمنية. وثانيا، يلاحظ أن هناك في كثير من الأحيان اتفاقا ضمنيا من وراء الفروق الظاهرية يفوق ما يتصوره الكثيرون. ولنضرب لذلك مثلا:
1
فقناصة الرءوس في بورنيو يبدون خاضعين لنظام أخلاقي متناقض تماما مع النظام الذي يخضع له أحد أفراد مذهب «الكويكرز» (المرتعدين) المسيحي. ولكن لو فكر الهمجي في السبب الذي يجعل قتل عدوه «خيرا» لكان من الأمور شبه المحتومة أن يصل إلى أن قيمة هذا الفعل ترتكز على كونه يساعد على تقوية أواصر الوحدة القبلية، التي تقتضيها ظروف الحياة القبلية عادة. وهكذا يكون هذا الفعل إسهاما في الخير المشترك للجماعة، ما دام يؤدي إلى تحقيق مبدأ أخلاقي مثل «مراعاة مصلحة القبيلة خير». أما الشخص المنتمي إلى جماعة «الكويكرز» فإنه يحكم على نفس الفعل الخاص بأنه شر، غير أن أساس حكمه أو مبدئه واحد - وأعني به مراعاة مصلحة الجماعة. ولا شك أن الفارق بينهما يكمن في مدى مفهوم «الجماعة» أو نطاقه. فهو بالنسبة إلى الهمجي يعني قبيلة صغيرة، على حين أنه بالنسبة إلى «الكويكرز» أو من يؤمن بالمجتمع الدولي، قد يكون هو الجنس البشري كله. وهكذا ينطوي الحكمان معا على أساس أخلاقي واحد مشترك، مهما يكن اختلاف الأساس السوسيولوجي (المتعلق بعلم الاجتماع). فكلاهما يجعل القيمة في مصلحة المجموع، وكلاهما يسعى إلى تحقيقها.
ويعتقد المؤمن بالنظرية الموضوعية في القيمة أن التحليل الكافي يمكن أن يكشف عن هوية مماثلة للمبادئ الأخلاقية، تكمن من وراء كل اختلافات السلوك. وهكذا نجد «جوشيا رويس
Josiah Royce »، الذي ربما كان أبرز مثالي ظهر في أمريكا، يدعو إلى «فلسفة للولاء
Loyalty » تعزى فيها قيمة عليا لكل مظهر من مظاهر الولاء، بغض النظر عن موضوع هذا الإخلاص. فالأمر الأخلاقي الأسمى عند رويس هو «ليكن ولاؤك للولاء». ومن الواضح أن هذا الرأي يمثل محاولة للكشف عن المعيار الشامل أو الموضوعي للتقويم.
ويرى أنصار النظرية الموضوعية في القيمة أن «الخير» كامن في موضوعات أو مواقف معينة، وأننا نقدر هذه المواقف أو نرغب فيها نظرا إلى ما فيها من جاذبية لنا
2
ففي مثل هذا المذهب تكون كل أحكام القيمة، قبل كل شيء، وصفا لما نكشفه في الموضوعات أو الحوادث، وتصبح القيمة ذاتها صفة تجتذب تفضيلنا أو تطالب بتقديرنا. وهكذا يكون الحكم التقويمي في أساسه وصفا لطبيعة الأشياء؛ أي للواقع ذاته. وعلى هذا النحو تقيم النظرية الموضوعية صلة وثيقة بين الأخلاق (وعلم الجمال) وبين الميتافيزيقا؛ إذ إن الخير يرتبط ارتباطا وثيقا بالواقع، بل إن الخير والواقع قد يصبحان في مثل هذا المذهب شيئا واحدا.
الرأي الذاتي : أما الرأي الذاتي في القيمة، الذي يرتبط بمبدأ النسبية ارتباطا وثيقا، فيذهب إلى أن الاختلافات في الأحكام التقويمية من شخص لآخر، ومن عصر لآخر، هي اختلافات عميقة لها دلالتها الكبرى. ذلك لأن كل قيمة تبدو صادرة، من وجهة النظر النفسية، عن الشعور بالرضا أو الإشباع
Satisfaction
فنحن نصف أي شيء يرضي أو يشبع حاجة من حاجاتنا، أو يساعد على تحقيق مصلحة لنا، بأنه «خير» أو «قيم» أو «مرغوب فيه». وأعلى الأشياء قيمة هي تلك التي تشبع حاجاتنا على أفضل نحو، أو ترضي حاجة من أقوى حاجاتنا. ويترتب على ذلك أنه كلما فقد الشيء أو الموقف قدرته على إرضائنا، انعدمت قيمته أيضا. والواقع أن تجربتنا اليومية تثبت على الدوام وجود هذا التحول في «القيمة» من شيء إلى آخر، ومن حب قديم إلى حب جديد. وفي هذا الصدد يتحدث وليام جيمس عن «القدرة الطاردة للهوى الجديد»، كما أن واحدا من أول الشعراء الأمريكيين وأهمهم، وهو فيليب فرينو
(1752-1832م) قد وصف التجربة البشرية الشاملة على هذا النحو:
بأعين ملهوفة نثبت أنظارنا.
على ما يسر له خيالنا:
ولكنا عندما نمتلكه،
يقضي امتلاكنا على الشيء وعلى لهفتنا معا.
إن القبعة التي كانت تخفي شعر «بليندا»،
كانت في وقت ما قرة عينها،
أما الآن فقد رمتها، في مكان لا تعرفه،
وتخلت عنها، لسبب لا تعلمه.
كل هذه أمور يتخذ منها صاحب النظرة الذاتية شواهد على أن القيمة لا توجد إلا في أذهاننا، فالحكم التقويمي ليس إيضاحا الصفات كامنة في هذه الأشياء، تجعلها خيرة أو مرغوبا فيها لذاتها (وهو قطعا ليس وصفا للوقع الموضوعي)، وإنما هو مجرد تعبير عن تفضيل. وهذا التفضيل في نهاية الأمر هو دائما تفضيل شخصي. فهو إعلان عما أحبه أنا ذاتي وأجده خيرا، وعما يرضي رغبتي أو مصلحتي الخاصة، بل إن أحكامنا تتغير دائما حتى في مجال التفضيل الشخصي هذا. فلا حاجة بالمرء إلى أن يكون متشائما ساخرا لكي يقول إن كل أحكامنا التقويمية لا تعبر فقط عن تفضيل شخصي، وإنما تمثل تفضيلا مرهونا باللحظة وحدها، ومعرضا للتغير دون سابق إنذار. وإن أي «خير» إنما هو بالضرورة تجربة لفرد ما، وعندما تتفق مجموعة من الأشخاص على قيمة أية تجربة، فلن تكون لدينا مع ذلك إلا مجموعة من التجارب الفردية التي يحكم عليها بأنها خير. وهكذا فإن صاحب النظرة الذاتية لا يعرف القيمة بأنها كامنة في الأشياء أو المواقف، وإنما يعرفها بأنها كل ما يشبع رغبة أو حاجة أو مصلحة. (3) هل يوجد خير مطلق؟
هناك خلاف آخر وثيق الصلة بهذه المناقشة التي تدور بين النظريتين الموضوعية والذاتية في القيمة، هو الخلاف بين المعيارين المطلق والنسبي للخير. هذا الخلاف الثاني كان من الوجهة التاريخية أهم من الأول؛ لأنه يتصل اتصالا وثيقا بالنظرية القانونية والسياسية، فضلا عن التفكير الديني. ولما كانت النظرة المطلقة هي الرأي «الرسمي» للحضارة الغربية طوال الجزء الأكبر من تاريخها، ولما كان من الواضح أن الاتجاه النسبي المتزايد في أيامنا هذه إنما هو تمرد على هذه النظرة التقليدية، فسوف نبدأ ببحثه أولا. وعلى الرغم من أن المعركة بين النظرتين المطلقة والنسبية تمتد إلى جميع أنواع الأحكام التقويمية، فسوف نقتصر هنا على مناقشتها في المجال الأخلاقي وحده.
وجهة نظر المذهب المطلق : يمكن التعبير عن موقف صاحب المذهب المطلق، باختصار، بأنه يرى أنه لا يوجد إلا معيار واحد (أو في حالة الأخلاق، «قانون
Code » واحد)، هو الصحيح منذ الأزل، وهو الذي يسري على البشر أجمعين. هذا المعيار لا يسري على نحو عالمي شامل فحسب، بل إنه أيضا مستقل عن العصر، وعن الموقع الجغرافي، والتقاليد الاجتماعية المألوفة، والعرف القانوني، وكل شيء آخر. والأمر الذي يشكل التزاما لي في هذا المكان والزمان، هو بالمثل التزام للصيني أو الإسباني أو البولنيزي. وهو فضلا عن ذلك قد كان التزاما بالنسبة إلى اليوناني القديم، والأوروبي في العصور الوسطى، سواء أكان يعلم ذلك أم لم يكن. وهو سيكون التزاما بالنسبة إلى جميع الأجناس والمدنيات التي ستعقب مدنيتنا، سواء أدركت ذلك أم لم تدركه. فما هو خير الآن كان خيرا عندئذ، وسيكون خيرا في المستقبل البعيد، وما كان شرا في الماضي ما زال شرا، وسيظل كذلك أبد الدهر. وليس هناك قانون أخلاقي للماضي وآخر للحاضر، ولا معيار للشرقي وآخر للغربي. وإنما «الخير» أو «الحق» شامل، مطلق، يسري على كل مكان وزمان.
وبطبيعة الحال فإن القائل بالمذهب المطلق يدرك أن المعايير الأخلاقية تبدو متفاوتة إلى حد هائل من عصر إلى آخر ومن مكان إلى مكان. فهو لم يكن بحاجة إلى انتظار الأنثروبولوجيا الحديثة لكي يعلم ذلك، أما أن هيرودوت، وهو أقدم مؤرخي اليونان، كان يجد لذة كبيرة في وصف مختلف المعايير السائدة في عصره. وكل ما فعلته الدراسة العلمية للإنسان هو أنها أكدت ما كان المثقفون يعلمونه على الدوام - ألا وهو أنه لا يكاد يوجد فعل نعده مذموما إلا وكان في وقت معين ومكان معين يعد فاضلا، بل مقدسا. غير أن نصير المذهب المطلق لا يجد في هذه المجموعة الكبيرة من الوقائع الأنثروبولوجية المتوافرة الآن أي دليل على بطلان رأيه؛ إذ هو يعتقد أن كل ما تثبته هذه التغيرات في المعايير والعادات الأخلاقية هو أن الناس كثيرا ما يجهلون المعيار الواحد الحقيقي الصحيح. فكل ما يثبته رضاء آكل لحوم البشر عن عاداته الغذائية هو أنه شخص غير مستنير - وهذا لا يجعل سلوكه صحيحا بأية حال، حتى بالنسبة إلى ذاته. فسلوكه يظل على الرغم من براءة الجهل الذي يعيش فيه، مضادا لقانونه الأخلاقي الصحيح، مثلما أن كل الأعداء مضاد لقانوننا. ذلك لأن هذا القانون الصحيح مطلق ثابت، مستقل عن المعرفة أو الجهل، مثلما هو مستقل عن الزمان والمكان.
ولا ينطوي المذهب المطلق على الاعتقاد بأننا اليوم أقرب بالضرورة، على أي نحو، إلى تحقيق أو ممارسة المعيار الصحيح من آكل لحوم البشر، أو مما كان عليه أجدادنا. فصاحب المذهب المطلق متسق مع ذاته؛ لأنه يعترف بأننا نحن بدورنا قد نكون جاهلين، أو قد تكون أخلاقيتنا غير كافية. وفضلا عن ذلك فإن المعيار المطلق مستقل عن كل العادات الأخلاقية الفعلية، وضمنها عاداتنا، كما أن أحفادنا لن يكونوا بالضرورة أقرب إلى هذا المعيار المطلق منا. وبالاختصار، فهذا المذهب يرى أن مفهوم التطور أو «التقدم» الأخلاقي غير صحيح: فلا قدم العادة الأخلاقية ولا جدتها تعني أي شيء. وإنما المعيار الوحيد لتقدير المفاهيم والعادات الأخلاقية هو علاقتها بهذا المطلق اللازماني الثابت (أي الذي لا يتقدم). ومع ذلك فإن هذا الرأي لا تلزم عنه بالضرورة نزعة محافظة في الأخلاق. فمن الممكن جدا أن نكون سائرين باطراد نحو تحقيق هذا المعيار الصحيح الوحيد، ومن الممكن، بمنطق متساو، أن يكون القائل بالمذهب المطلق داعية إلى التجديد أو إلى الروح المحافظة في الأخلاق. وبالاختصار فإن موقفه لا يقتضي منه أن يمدح أي فعل أخلاقي محدد أو يذمه، وإنما هو يلزمه فقط بالاعتقاد بأن كل ما هو خير أو شر يصدق على الناس جميعا، في كل مكان وزمان.
العلاقة الوثيقة بين مذهب المطلق والنزعة الموضوعية : من المنطقي أن يكون صاحب المذهب المطلق ذا نزعة موضوعية - بل نزعة موضوعية متطرفة. فهو عادة ينظر إلى القانون الأخلاقي، لا على أنه مطلق فحسب، بل على أنه أيضا أساسي في تركيب العالم. وهو شامل بمعنى مزدوج؛ فهو لا يقتصر على الامتداد في كل مكان والانطباق على جميع الكائنات العاقلة، وإنما هو يكون جزءا لا يتجزأ من الواقع. ومن الواضح أن هذا يؤدي إلى استبعاده من المجال الذاتي. والواقع أن صاحب المذهب المطلق ذاته يميل إلى تشبيه القانون الأخلاقي بقانون الجاذبية؛ فهو يرى أن الاثنين معا ملزمان بنفس المقدار، ومتساويان في شمولهما ودوام تأثيرهما، وكما أن من الحمق أن نعتقد أن قوة الجاذبية ليست لها إلا قيمة ذهنية أو ذاتية، فإن من الحمق بنفس المقدار أن كل فرد يخلق «خيره» أو «حقه» الخاص بناء على تفضيلاته، بل إننا نستطيع أن نمضي في التشبيه أبعد من ذلك: فكما أن الجاذبية كانت توجد قبل أن يكتشف نيوتن قوانينها، وكما أنه ستظل هناك جاذبية متبادلة بين كل الأشياء في الكون لو اختفى الجنس البشري من العالم، فكذلك كان القانون الأخلاقي موجودا قبل أن نعرفه، وهو ما زال مستقلا عن معرفتنا، بل إن كثيرا من أنصار المذهب المطلق يرون أن من الممكن أن تختفي البشرية، أو ألا تكون قد وجدت على الإطلاق، دون أن يؤثر ذلك في مركز «الخير» على أي نحو. (4) مصادر النزعة الأخلاقية المطلقة (1)
المصدر التاريخي : ليس من الصعب أن نهتدي إلى المصدر الرئيسي للنزعة الأخلاقية المطلقة
3
ذلك لأن أصل الحضارة الغربية وأساسها مسيحي، وحين نقول «المسيحي» فإننا نعني (بالنسبة إلى الفلسفة) «التوحيدي». فالإيمان بإله واحد، يحكم الكون الذي خلقه، أساس للتفكير الديني للغرب. وفضلا عن ذلك فإن هذا الإله عاقل، تظل أفكاره وأوامره متسقة مع ذاتها على الدوام
4
وهذه الأوامر شاملة، تنطبق على النحو جميعا في كل مكان. ولما كان القانون الأخلاقي صادرا عن هذا الإله العاقل المتسق مع ذاته، فمن المنطقي أن يكون قانونا شاملا ثابتا. ذلك لأن الإله المطلق لا يمكن أن يضع إلا قانونا أخلاقيا مطلقا. وعلى ذلك فإن تباين المعايير الأخلاقية التي نلاحظها من مكان إلى مكان ومن عصر إلى عصر، لا يمكن أن يكون راجعا إلا إلى الجهل بإرادة الله. ولو كان الناس جميعا يعرفون الإرادة الإلهية، لكان لهم جميعا قانون أخلاقي واحد، ولوصف الجميع نفس الأشياء بأنها «خيرة» ونفس الأفعال بأنها «صالحة».
ومما له دلالته أنه، مثلما أن الناس في الحضارة الغربية قد ظلوا حتى عهد قريب يأخذون وجود إله واحد قضية مسلمة، فإنهم أيضا كانوا ينظرون إلى وجود معيار أخلاقي مطلق على أنه أمر واضح بذاته. والواقع أن كل الحجج الفلسفية التقليدية الخاصة بالمعايير الأخلاقية، حتى تلك التي أتى بها مفكر عميق مثل إمانويل كانت، كانت تبدأ بالتسليم بوجود معيار مطلق كهذا. فما دام التوحيد المسيحي قد ظل هو العقيدة السائدة بلا منازع، فقد كان من المحتم أن يكون التفكير الأخلاقي ذا نزعة مطلقة. (2)
المصدر المنطقي : لا يتميز الأساس المنطقي للنزعة المطلقة بنفس الوضوح الذي يتميز به أساسها التاريخي، غير أن للأول أهمية أعظم بكثير بالنسبة إلى الفكر المعاصر؛ ذلك لأن أنصار المذهب المطلق في الأخلاق قد ظلوا طوال أكثر من قرن من الزمان يحاولون تقديم دعامة عقلية، ومنطقية، تحل محل الأساس الذي كانت عقيدة التوحيد تقدمه من قبل. وربما كان «كانت» أشهر هؤلاء العقليين في ميدان الأخلاق. وقد كان يعتقد أن التحليل يستطيع على الدوام أن يثبت أن خرق القانون الأخلاقي هو أيضا خرق لقوانين المنطق، فاللاأخلاقية تنطوي دائما على تناقض منطقي. ولنقتبس أشهر الأمثلة التي ضربها «كانت» في هذا الصدد، فعندما نعطي وعدا دون أن يكون في نيتنا الوفاء به، فإن سلوكنا يكون شرا لأننا نتصرف على أساس مبدأين متناقضين في آن واحد. أول هذين المبدأين هو أن الناس ينبغي أن يؤمنوا بالوعود. ولكني إذا أخلفت وعدي، فمعنى ذلك أن لكل شخص الحق في أن يخلف وعوده، ما دام القانون الأخلاقي ينبغي أن يكون شاملا. ولو أخلف كل شخص وعوده، لما عاد أحد يؤمن بالوعود، ولكان لدينا مبدأ آخر - هو أن من الصحيح أن أحدا لا ينبغي أن يؤمن بالوعد - وهو مبدأ يتناقض مع الأول. ولقد كان «كانت» يعتقد أن جميع أمثلة الشر يمكن أن ترد بدورها إلى أمثلة لانعدام الاتساق المنطقي. وهكذا يصبح قانون عدم التناقض هو المبدأ الأساسي للأخلاق، كما كان دائما بالنسبة إلى المنطق. (3)
المصدر الكيفي : من أحدث المحاولات التي بذلت لإيجاد أساس عقلي للنزعة المطلقة، نظرية سبق لنا الإشارة إليها: «فالخير» كيفية لا تعرف، ولا ترد إلى غيرها، تتصف بها أشياء أو أفعال أو مواقف معينة، وهي كيفية شبيهة بالكيفيات اللونية، كالأصفر مثلا. وعلى الرغم من أن العالم الفيزيائي يستطيع تعريف الأصفر على أساس كمي (فيقول إنه كذا من الذبذبات في الثانية في أثير مفترض)، فإن أي لون يشكل، بالنسبة إلى تجربتنا المباشرة، معطى حسي لا يرد إلى غيره، ولا يمكن أن يعرف إلا بالتجربة. وكذلك فإن القيمة، (وهي في هذه الحالة، القيمة الأخلاقية) كيفية لا تعرف ولا ترد إلى غيرها، تتصف بها أشياء أو مواقف معينة، مثلما تتصف الليمونة بالاصفرار.
الحجج المضادة للنظرة الكيفية : على الرغم من أن هدفنا ليس نقد النزعة المطلقة، وإنما عرضها بوصفها الموقف الذي ثارت عليه النزعة النسبية، فإن من المفيد مع ذلك أن نشير إلى حجة أو اثنتين وجهتنا ضد هذه النظرية الكيفية في «الخير». فمن الممكن أولا أن يشير المرء إلى أن التشبيه باللون فاسد تماما. ذلك لأننا حتى لو سلمنا بأن اللون موضوعي كامن في الشيء (وهو أمر لا يقره إل القليل جدا من علماء النفس)، فلن يكاد يكون هناك وجه للمقارنة بين كيفيتي «الخير» و«الأصفر». ذلك لأن المفروض أن كل شخص ذي إبصار سوي ستكون لديه نفس التجربة عندما ينظر إلى شيء أصفر. وبعبارة أخرى، فللأصفر، من حيث هو تجربة، مركز شامل يسري على الجميع. فهل يستطيع «الخير» أن يدعي أي مركز كهذا؟ على الرغم من أنه قد تكون هناك تجارب أو أشياء قليلة تعد «خيرا» في نظر الجميع ، وعلى نحو شامل، فإن عددها ضئيل جدا بالقياس إلى تلك الأشياء التي لا حصر لها، والتي لا يوجد حولها أدنى اتفاق. ومن هنا كان التشبيه باللون غير صحيح.
وهناك اعتراض ثان، ربما كان أخطر، على هذا الرأي القائل إن الخيرية كيفية أو صفة كامنة؛ ذلك لأننا حتى لو سلمنا بأن الخيرية كامنة في أشياء ومواقف معينة، فإن هذا التسليم لن يكون أساسا كافيا للإلزام الخلقي. ولنقتبس في هذا الصدد تلك الحجة المقنعة التي وردت في كتاب «ستيس
Stace »:
إن كون الشيء يتصف بكيفية أو صفة، يفرض علي إلزاما عقليا أو نظريا محضا بأن أعترف أن لديه هذه الكيفية. ولكن كيف يفرض على ذلك أي التزام بأن أسلك؟ ولم كان يتعين على أن أفعل شيئا حياله؟ لو قيل لي أن زهرة معينة صفراء، ورأيت هذا بعيني، فعندئذ أستطيع أن أفهم أن أكون مضطرا إلى الاعتراف بحقيقة القضية القائلة إن هذه الزهرة الصفراء، بل إنني لا أستطيع أن أفعل غير ذلك ... فأنا مضطر إلى قبولها. ولكن هذا لا يمكنه أن يرغمني على أي نوع من الفعل. فهو لا يرغمني مثلا على التقاط الزهرة. ولن أفعل ذلك إلا إذا كنت أحب الأزهار الصفراء، أو لدي أي ميل آخر يدفعني إلى التقاطها. وكذلك، فإذا قيل لي إن شيئا أو فعلا يتصف بصفة الخير، وإذا أدركت أنا ذاتي ذلك فإني أستطيع أن أفهم هذا سيرغمني على الاعتراف بحقيقة القضية القائلة إن «هذا خير»، ولكنه لا يمكن أي يفرض علي إلزاما عمليا أيا كان. وسأظل لا أفعل أي شيء، ما لم يحدث أن أكون ممن يحبون هذه الأشياء الخيرة. وفي هذه الحالة يكون ميلي هو الذي يدفعني، لا الحقيقة النظرية التي أوضحت لي.
5 (5) الثورة على النزعة المطلقة
إن الموقف النسبي، كما أوضحنا من قبل، هو في أساسه ثورة على النزعة المطلقة. وهو أيضا جزء لا يتجزأ من المزاج العقلي العام لعصرنا، فالنسبية في كل الميادين تبدو في نظر معظمنا «واضحة بذاتها»، مثلما كانت النزعة المطلقة بالنسبة إلى الأذهان في العصور الوسطى. والواقع أن المزاج النسبي يسود الفكر الحديث إلى حد أصبحت معه كل أشكال النزعة المطلقة - سواء منها العلمية أم السياسية أم الأخلاقية أم الدينية - تتخذ موقف الدفاع
6
ولما كنا قد كرسنا كل هذا الوقت لعرض وجهة نظر النزعة المطلقة، فسوف تبدو النسيبة، لحسن الحظ، مذهبا يسهل وصفه.
ويمكن وصف النسبية، باختصار، بأنها مذهب يقف على طرفي نقيض مع كل ما هو أساسي في النزعة المطلقة. فبينما النزعة المطلقة واحدية، فإن النسبية تميل بشدة إلى التعددية. وبدلا من قانون أخلاقي واحد شامل ثابت، تقول النسبية بعدد كبير من هذه القوانين. وبدلا من «خير» واحد، نجد هنا عددا لا حصر له من حالات «الخير» فحسب. وبدلا من «القيمة» بمعناها الشامل، نجد «قيما» فقط. وبالاختصار، فهذه المدرسة ترى أن كل خير نسبي، إما تبعا لما تقول الجماعة إنه صواب، وإما تبعا لما يشعر الفرد أنه صواب. وكل قيمة نسبية تبعا للزمان والمكان والمدينة، وهي تتوقف على طبيعة النوع البشري وحاجات الكائن العضوي الفردي في داخل هذا النوع. أما الكلام عن «الخير» بوصفه شيئا مستقلا عن هذه فلا معنى له. ويرى النسبي أن من المستحيل بوجه خاص، تجاهل طبيعة النوع الإنساني والاهتمامات الفريدة المميزة للبشرية. ولذا فإن كل ما يقوله أنصار المطلق عن «الخير الكوني» الذي يفترض أنه يسري على أي نوع يمكن تصوره من المخلوقات العاقلة، وضمنها أهل المريخ أو الملائكة، إنما هو محض هراء.
الأسس التاريخية للنسبية : لعل أفضل وسيلة لتكوين صورة واضحة عن النسبية هي بحث جذورها التاريخية وحججها الحالية. فبينما هذه النزعة كانت لها أسسها الوطيدة في اليونان القديمة - إذ إن السفسطائيين ربما كانوا أكمل مفكرين نسبيين عرفتهم الفلسفة حتى الآن - فإن تطورها الحديث قد بدأ مع عصر النهضة. وقد وصف عصر النهضة أحيانا بأنه ثورة في جميع الميادين على النزعة المطلقة السائدة في العصور الوسطى. وعلى الرغم من أن في هذا الوصف تبسيطا مفرطا، فإنه ينطوي مع ذلك على قدر غير قليل من الصواب. ولكن من الغريب مع ذلك أنه، على الرغم من أهمية الحركات النسيبة في الميدانين السياسي والديني خلال فترة عصر النهضة، فلم يحدث تطور كبير للنسبية الأخلاقية حتى بعد أن توطدت فترة النسبية في سائر الميادين. فكما رأينا من قبل، ظل «كانت» حتى أواخر القرن الثامن عشر يسلم بأن هناك قانونا أخلاقيا ملزما على نحو مطلق. كذلك فقد أوضحنا السبب الذي ظهرت من أجله النسبية الأخلاقية الحقة متأخرة إلى هذا الحد: ذلك لأن الانقسام الذي طرأ على المسيحية منذ عهد لوثر لم يكن يعني أي تراجع عن عقيدة التوحيد، وما دام هناك إله مطلق ذو إرادة مطلقة يفترض دون مناقشة، فسيكون من المحتم الإيمان بمعيار أخلاقي مطلق، يسود الكون بأسره.
ومع ذلك فقد حدثت خلال الأعوام المائة والخمسين الأخيرة عدة أمور جعلت امتداد النسبية إلى ميدان الأخلاق أمرا لا يقل عن ذلك النمو الهائل في العلم. ولقد كانت النتيجة النهائية لهذا النمو هي جعل الإيمان بألوهية واحدية، أو بنظام مطلق من القيم، أصعب مما كان في أيام «كانت». والعامل الثاني الذي أدى إلى ظهور النسبية الأخلاقية هو بداية عهد علم اجتماعي وتطور علم آخر: فقد ظهرت تلك الدراسة العلمية التي نطلق عليها اسم الأنثروبولوجيا، كما أن التاريخ أصبح يرتكز على أساس متين من البحث والدراسة. وقد أدى هذان المبحثان إلى تكديس مجموعة رائعة من المعلومات حول موضوع تغير العادات البشرية والمعايير الأخلاقية، بحيث لا يجد المرء مفرا من أن يستشف نزعة من هذه الأدلة التراكمية. وثالثا فإن لنظرية التطور نتائج نسبية؛ إذ إنها توحي بأن المعايير الأخلاقية قد تطورت مع المجتمع والنظم البشرية. ومثل هذا التطور الأخلاقي ينطوي بدوره على القول بأن التغير أساسي للأخلاق مثلما أنه أساسي للبيولوجيا، والتغير يؤدي منطقيا إلى إنكار أي معيار مطلق.
الحجج المنطقية : وهناك، بالإضافة إلى هذه الحجج العلمية والتاريخية المؤيدة للنسبية، حجج أخرى متعددة ذات طابع منطقي بحت. فهناك أولا تلك الحقيقة القائلة إن كل أخلاقية تبدو مبنية على استجابة انفعالية - أو بعبارة أدق، على تفضيل انفعالي. وتشكل وجهة النظر هذه هجوما حادا على النزعة العقلية المطلقة عند مفكرين مثل «كانت». وعلى الرغم من أن هذا الرأي المبني على فكرة الانفعال ليس مقبولا لدى جميع النسبيين، فإنه قام بدور هام في جعل النزعة المطلقة تقف موقف الدفاع؛ ومن هنا يستحق عرضا موجزا. هذا الرأي يقول باختصار أن كل ما ينظر إليه الناس بعين الموافقة، أو كل ما يثير استجابة انفعالية سارة، يسمى «خيرا». وكل ما يثير البغضاء أو الغيرة أو الاشمئزاز يرفض بوصفه «خطأ» أو «شرا». ومع ذلك، فلما كانت الانفعالات متغيرة، سواء من فرد إلى فرد، أو من لحظة إلى لحظة في الفرد الواحد، فإنه يترتب على ذلك أن تكون التقويمات الأخلاقية بدورها متغيرة وشخصية. فالشيء الذي يبعث التقزز في شخص معين، قد لا يؤثر في شخص آخر؛ ومن هنا فإن ما يراه الأول لا أخلاقيا أو «شريرا» لن يراه الثاني أمرا أخلاقيا على الإطلاق. وقد يحدث بالمصادفة أن يراه المشاهد الثاني أمرا طريفا، لا أمرا يدعو إلى التقزز، وعندئذ يؤدي إلى حدوث استجابة «طيبة»، أو «خيرة»، ما دام الشعور بطرافة شيء ما هو قطعا تجربة سارة.
أما الحجة المنطقية الثانية للنسبي فربما كان جميع أنصار هذا المذهب يقبلونها. هذه الحجة تشير إلى أن أي قانون أخلاقي مطلق ينطوي على التزام مطلق بأن من الواجب إطاعة القانون. فهناك دائما أمر موجود ضمنا في أية صورة من صور النزعة المطلقة في الأخلاق. كما رأينا من قبل، فليس في المذهب المطلق أي عنصر شرطي؛ فهو لا يقول «ينبغي لك أن تؤدي واجبك إذا أردت أن تعيش سعيدا»، وإنما هو أمر مطلق يقول «ينبغي لك أن تؤدي واجبك». ولهذه الصيغة نفس تأثير الأمر «أد واجبك!» غير أن كل الأوامر تنطوي على مصدر للسلطة، وكل إلزام يقتضي شخصا يلزم.
7
وهكذا فسرعان ما نجد أنفسنا غارقين في المشكلة الصعبة المتعلقة بمصدر الإلزام الخلقي أو أساسه. وحسبنا الآن أن نشير إلى أن النسبي ينكر وجود أية سلطة أو أي أمر كهذا. فهو لا يمل أبدا من الإشارة إلى أن أحدا لم يتمكن، تاريخيا، من أن يكتشف أساسا موضوعيا للإلزام الأخلاقي. ومن المؤكد أن صاحب المذهب المطلق أصبح، منذ انهيار سلطة العقيدة الدينية، يجد من الصعب محاولة إثبات مصدر للأمر المطلق. ذلك لأنه لم يكن من الصعب تحديد الفاعل الآمر، ما دام الناس جميعا يقبلون سلطة الكنيسة ويؤمنون بإله قادر على كل شيء، ذي إرادة مطلقة. ولكن، أمن الممكن إيجاد أساس دنيوي مماثل، يحل محل هذا الأساس الديني؟ هذا هو السؤال الذي يحاول نصير فكرة المطلق أن يجيب عنه بالإيجاب، وإن يكن النسبي يؤكد أنه لا يجاب عليه إلا بالنفي. (6) نتائج النسبية
من المرجح أن كل ما قلناه عن النسبية حتى الآن يجد قبولا لدى معظم القراء. ومع ذلك فإننا لم نكشف حتى الآن إلا عن الجانب الإيجابي لوجهة النظر هذه. ومن سوء الحظ أن للموقف النسبي نتائج معينة تحول بين معظم المفكرين وبين قبوله حتى بعد أن يكونوا غير راضين عن النزعة المطلقة.
8
ولا بد من فهم بعض هذه النتائج قبل أن نحاول الاختيار بين الموقفين، أو قبل أن نشرع في وضع صيغة معينة توفق بينهما.
إن الجميع يعلمون أن الممارسة الأخلاقية نسبية، والكثيرون يتوسعون في هذه الحقيقة وينظرون إلى كل المعايير الأخلاقية على أنها نسبية. ومع ذلك فإن القائل بالنزعة المطلقة يكون واثقا أن أي شخص عاقل لا بد أن يقبل النتائج المنطقية لمثل هذا التوسع. فهو أولا يعني (في رأي المذهب المطلق) أنه لا يمكن أن يكون هناك معيار للحكم على قانون أخلاقي معين بأنه أفضل أو أسوأ من الآخر، أو أعلى منه أو أدنى. فلن تكون هناك عندئذ أسس سليمة لتقويم السلوك، فيما عدا اتفاقه مع العرف المحلي أو القومي. ولنتأمل النتائج الكاملة لهذا الموقف: فإذا كان كل «خير» أو «صواب» نسبيا تبعا للزمان والمكان والظروف، وإذا كان سلوك الرجل الشرقي «صوابا» ما دام يتفق مع المعايير الشرقية، وسلوك الرجل الغربي صوابا إذا كان يرضي أمزجة الغربيين ، فعندئذ يمكن القول إن الالتجاء إلى التعذيب في عدالة العصور الوسطى كان صوابا، وأن المحاولات التي بذلت لإبطال عادة الهنود في دفن الأرامل بعد موت أزواجهن كانت محاولات خاطئة. ويواصل أنصار المطلق كلامهم فيقولون إن هناك نتيجة ثانية للنسبية، هي أن من المستحيل وجود تقدم أخلاقي في ظل معيار نسبي. فكيف نقول إن إلغاء الرق كان «خيرا» أو أن إنهاء الحروب سيكون «خيرا»، أو أن الأخلاق التي دعا إليها المسيح «أرفع» من تلك التي جاءت في العهد القديم؟ وثالثا فلماذا يحاول أي شخص أن يحيا حياة أخلاقية «أفضل»؟ «أفضل» من أي شيء؟ إننا نستطيع أن نقول إن السلوك الأخلاقي لشخص معين قد ازداد اقترابا من معايير عصره أو مجتمعه، أو نقول إنه يسلك الآن بطريقة تزيد من سعادته أو من رضا المجتمع عنه. ولكن ما لم يكن هناك معيار مشترك، شامل (أعني غير نسبي) يغدو أي حديث عن «الأفضل» أو «الأسوأ»، وعن «الأعلى» أو «الأدنى» يغدو لغوا، بل إن لنا أن نتساءل: ما الذي يمكن أن تعنيه ألفاظ مثل «الصواب» و«الخطأ» في مذهب يلتزم النسبية بدقة؟ من المؤكد أنها لا يمكن أن تكون ذات معنى له أدنى صلة بما كانت هذه الألفاظ تعنيه في الماضي.
هل هناك أي بديل غير المذهب المطلق؟
هناك بعض المفكرين الأخلاقيين اللذين يبدون استعدادهم لقبول هذه النتائج الفوضوية التي تترتب على النسبية الأخلاقية الكاملة. ومع ذلك فإن أشد دعاة هذا الرأي تحمسا كانوا هم في العادة علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، الذين تقتصر مهمتهم على ملاحظة أنماط السلوك وتصنيفها. ولقد حاول مفكرون آخرون أن يهتدوا إلى طريق وسط بين الطرفين النسبي والمطلق. وقد تحقق لهم ذلك أحيانا عن طريق إنكار وجود أي أساس كوني «للخير». وفي هذه الحالة تفصل الأخلاق عن الميتافيزيقا، ويكون علينا أن نقتصر على نوع إنساني بحت من النظرية الأخلاقية . وهناك طريقة ثانية لحل هذه المشكلة، وهي طريقة قد تكون أفضل من الأولى، هي الفصل بين المذهب المطلق وبين الشمول. ويتم ذلك عن طريق إيجاد أساس نفسي أو بيولوجي للأخلاق: فنحاول وضع قانون يكون شاملا للناس جميعا، على أساس أن لهم، بحكم انتمائهم إلى نوع واحد، طبيعة بيولوجية مشتركة (وكذلك طبيعة نفسية مشتركة إلى حد بعيد). ولا بد لوجهة النظر هذه أن تذهب إلى أن أوجه الشبه بين الناس أهم بكثير من أوجه الاختلاف بينهم. وبذلك تكون هناك بين الأفريقي غير المتمدين وبين الأوروبي أو الأمريكي الحديث، عناصر مشتركة من الرغبات والميول ودوافع الإرضاء الممكنة تسمح لنا بوصف حياة «خيرة» تسري على البشر أجمعين. وما إن نحدد هذه الحاجات المشتركة وهذا الصالح العام، حتى يمكن - بل يجب - أن تندرج في هذا الإطار كل تقويمات «الخير» أو «الشر»، بحيث يكون الشيء أو الموقف «خيرا» إذا كان يشبع حاجة من تلك الحاجات البشرية الشاملة، ويكون السلوك «صوابا» إذا كان يحقق الصالح المشترك الذي يسري على الناس جميعا بحكم اشتراكهم في صفة الإنسانية. (7) تصنيف القيم
بذلت محاولات متعددة، مستقلة بدرجات متفاوتة عن هذه المشكلة الأساسية المتعلقة بمكانة الخير، لتصنيف القيم بالنسبة إلى معايير أو نقاط ارتكاز متباينة. وكانت هذه التصنيفات عادة تتخذ شكل سلسلة من الأزواج المتقابلة، كالقيم الكامنة
Intrinsic
في مقابل الوسيلية
Instrumental
والقيم العليا في مقابل الدنيا، والثابتة في مقابل المتغيرة ... إلخ. ومع ذلك فليست لكل هذه الأزواج من القيم أهمية متساوية؛ ولذا سنقتصر على الكلام عن تلك التي يشيع النظر إليها على أنها أساسية. (1)
القيم الكامنة والقيم الوسيلية : ينعقد الإجماع على أن التقابل الأساسي في أي تصنيف للقيم هو التقابل بين القيم الكامنة والقيم الوسيلية. وقد أتيحت لنا من قبل فرصة الإشارة إلى هذا التقسيم في فصول سابقة. ويمكن القول باختصار أن القيمة الكامنة هي تلك التي لا تخدم غاية معينة؛ أي تلك التي لا تستمد دلالتها من كونها وسيلة لغاية معينة أخرى. فهي خير في ذاتها وبذاتها ولذاتها، دون إشارة إلى قيمة أخرى أشمل منها. وربما كان أفضل مثل للخير الكامن هو «السعادة». فمن الواضح أننا لا ننشد السعادة من أجل أي شيء غير السعادة؛ أي إننا لا نطلب السعادة من أجل الحصول على شيء غيرها. فهي ليست وسيلة لأي شيء خارج عنها، وإنما تكون لها قيمتها دون إشارة إلى أي شيء غيرها.
وفي مقابل هذه القيمة الكامنة توجد معظم الأمور التي نسميها عادة «خيرا». وأن التحليل ليبين أن معظم الأشياء التي ننشدها، أو المواقف التي نسعى إلى تحقيقها، لا تكون لها قيمة عندنا إلا من حيث هي وسيلة لبلوغ شيء له قيمة كامنة أو باطنة. وأوضح مثل لهذا الخير «الوسيلي» هو المال. فمن الواضح أن المال لا تكون له قيمة إلا من حيث هو وسيلة لكثير من الأمور المرغوب فيها في الحياة. ولا يمكن أن يعده أحد، فيما عدا البخيل، خيرا في ذاته، أو شيئا يكتسب ويكدس دون نظر إلى الحاجة التي يلبيها أو الرضا الذي يمكنه أن يجلبه.
مشكلة القيم الكامنة : يستطيع المفكر الأخلاقي أن يدرك بسرعة أن هناك ثلاثة أمور تنطوي عليها أية علاقة بين القيم الكامنة والوسيلية. الأول هو أن القيم التي هي كامنة بحق قليلة جدا. وقد انتهى بعض الثقات إلى أنه قد لا تكون هناك إلا قيمة كامنة واحدة فحسب، بل لقد أنكروا أن تكون هناك أية قيمة يمكن تصنيفها على أنها كامنة بالمعنى المطلق. وثانيا، فمن الضروري تعويد أنفسنا على التمييز الدقيق بين فئتي القيم هاتين إذا شئنا أن ننظم حياتنا وأوجه نشاطنا الأخلاقي بحكمة. وأخيرا فإن الفيلسوف، شأنه شأن أي شخص مفكر، يدرك بألم صعوبة احتفاظ معظم الأشخاص، ومنهم هو ذاته، بهذا التمييز في أذهانهم. ذلك لأن الناس جميعا يميلون إلى الخلط بين فئتي الخير، وكثيرا ما نسلك وكأن هدفنا المباشر (الذي يكاد في كل الأحوال يكون قيمة وسيلية فحسب) يتميز بالأهمية القصوى التي تتصف بها القيمة الكامنة الحقيقية. فمن السهل أن ننسى أن معظم الأشياء التي نفعلها لا يكون لها معنى إلا لأنها تخدم غاية أوسع منها، «كالسعادة» أو «الرضا» أو «راحة الضمير».
ولقد رأى بعض المفكرين أن التمييز بين الخير الكامن والخير الوسيلي هو التمييز الرئيسي في الأخلاق. ومن المؤكد أنه لا يكاد يكون هناك تمييز أهم منه بالنسبة إلى البحث النفسي في الإرضاء أو الإشباع. وعلى هذا الأساس تكون «الحياة الخيرة» هي التي تؤدي إلى أقصى حد من الخير الكامن، وفي الوقت ذاته تنظم القيم الوسيلية على أساس أنها تخدم القيم الكامنة. والمشكلة الرئيسية في كل حياة نود أن نعيشها بحكمة، هي أن نقرر ما له قيمة كامنة، ثم ننظم حياتنا على أساس تحقيق هذا الشيء وحده ونرفض أن نخضع لإغراء تبديد وقتنا وطاقتنا سعيا وراء الوسائل المجردة وكأنها غايات الحياة أو أهدافها. (2)
القيم العليا والدنيا : أما التصنيفات الأخرى الممكنة في مجال الأخلاق، فتبدو أقل أهمية بالقياس إلى تقسيم القيم إلى كامنة ووسيلية. والواقع أن مجرد الاكتفاء بالإشارة الموجزة إليها كاف لتحقيق غرضنا، الذي هو إعطاء القارئ فكرة عامة عن ميدان الأخلاق بدلا من أن نعرض عليه تفاصيل هذا اليدان، وهناك كاتب مشهور في ميدان الأخلاق، هو و. م. إيربان
W. M. Urban ، يصنف القيم على أنها عضوية (أي جسمية واقتصادية وترويحية)، وفوق العضوية (أي الشخصية والعقلية والجمالية والدينية).
9
وهناك تقسيم آخر مماثل، ولكنه أشهر إلى حد ما، هو تقسيم القيم على أساس الأعلى والأدنى. ولكن من سوء الحظ أنه لا يوجد دائما اتفاق حول تحديد موضع التقسيم بدقة، كما أنه ليس من الممكن التعبير على نحو مرض عن الأساس الدقيق لهذه القسمة الثنائية. ومع ذلك فمن المتفق عليه عامة أن القيم العليا أرق، وأدق، وأرهف، وأنفس، وأنها تفترض القيم الدنيا التي لا يمكن أن تظهر العليا بدونها.
10
أما الدنيا فلا تعتمد على العليا. مثال ذلك أن القيم العقلية تفترض القيم الجسمية، بل والاقتصادية، غير أن الصحة والدخل الكافي لا يتوقفان على حب المعرفة أو عشق الحقيقة.
وعلى الرغم من أن هذا التمييز بين القيم العليا والدنيا كان أمرا مألوفا شائعا في المناقشات الأخلاقية في القرن التاسع عشر، فإن هذين اللفظين لم يعودا اليوم يحوزان رضا المفكرين الأخلاقيين. وقد يكون من الممكن تعريف فئتي القيم هاتين على نحو يجعلهما تحوزان قبولا أوسع في الوقت الحالي، ولكن حتى لو اقتصرنا على الاستخدام الدقيق لهما فسوف ينطويان حتما على ثنائية أخلاقية. وهذه الثنائية تبلغ في بعض الأحيان حدا من التطرف يؤدي إلى ظهور النزعة التطهرية
والنزعة الزاهدة نتيجة لها. فمن السهل التوحيد بين القيم الدنيا وبين الإشباع المادي بكل أنواعه، على حين أن القيم العليا تصبح تلك التي لا تشوبها أية شائبة مادية. هذه التفرقة تنطوي ضمنا على القول إن أي إرضاء مادي لا يمكن إلا أن يكون «أدنى»، على حين أن كل القيم المرتبطة بأعمال الإنسان في المجال الذهني والروحي تضمن لنفسها مكانة «عالية».
وربما كان الاعتراض الرئيسي الذي يوجه إلى هذا التصنيف راجعا إلى الألفاظ المستخدمة ذاتها. «فالأعلى» و«الأدنى» هما بالطبع محايدان غير تقويميين، عندما يستخدمان في معناهما الأصلي للدلالة على العلاقات المكانية. ولكن لفظ «الأدنى» عندما يستخدم في الأخلاق يعبر دائما عن نوع من التحقير؛ إذ إنه يوحي بقيمة أقل جدارة أو نبلا أو نقاء مما نفترض أن القيم «العليا» تكون عليه. ولو لم يكن اللفظان مرتبطين بالجسم من جهة والروح من جهة أخرى، لما أثيرت ضدهما اعتراضات ذات بال. أما بالطريقة التي يستخدمان بها عادة، فإنهما يدلان على تقابل ثنائي - بل على صراع - بين البدن والروح، وهو تقابل لم يعد الفكر المعاصر يسلم به. (3)
القيم الاشتمالية والاستبعادية : هناك تمييز آخر أوضح وأقل إثارة للخلاف، هو التمييز بين القيم الاشتمالية
Inclusive
والاستبعادية
Exclusive . مثال ذلك أن القيم الاقتصادية تكون عادة استبعادية؛ إذ إن امتلاكي يحول بينك وبين كل شخص من أن يمتلك نفس هذه الأشياء. وفي مقابل ذلك نجد أن قيمة مثل الدعابة ليست قيمة يمكن أن يشترك فيها الناس فحسب، بل إنها قد تزيد إذا أمكن أن يشترك شخص آخر أو أشخاص آخرون في موقف الدعابة. ففي صالة العرض السينمائي أو المسرحي مثلا نجد في كثير من الأحيان أن الأشخاص الذين لا يعرف بعضهم بعضا ينظرون بعضهم إلى بعض عندما يضحكون على شيء على خشبة المسرح أو على الشاشة، والسبب الواضح لذلك هو أنهم يجدون أن رغبتهم في الضحك تزيد عندما تقع عيونهم على عين جارهم. وهناك مثال آخر للقيمة الاشتمالية، هو الاستمتاع بالجمال. فمعظمنا يجد هذه اللذة أعظم بكثير عندما يكون في استطاعتنا مشاركة غيرنا في التجربة الجمالية. ولا بد أن يكون الشخص أو الأشخاص الذين يؤدي وجودهم إلى تقوية شعورنا بالجمال - لسبب ما غريب - أشخاصا لا نحبهم، وذلك على العكس مما يحدث في حالة الدعابة أو الضحك، الذي قد يؤدي وجود غرباء عارضين فيه إلى زيادته كثيرا (كما ذكرنا منذ قليل). وفضلا عن ذلك فيبدو أن قيمة الجمال تتناسب طرديا مع درجة ميلنا إلى زملائنا في التجربة المشتركة: وكلنا نلاحظ التأثير الهائل للجمال في المحبين. وكلنا نعلم بنفس المقدار مدى الكآبة التي تلقي ظلها على الموقف الجمالي نتيجة لوجود أشخاص نكرههم. (4)
القيم الدائمة والقيم العابرة : هناك تصنيف آخر للقيم يميز بين القيم الدائمة والعابرة. وعلى عكس ما قد نتوقع، فليس صحيحا أن القيم الدائمة ينبغي تفضيلها دائما على القيم العابرة. ففي حالة اللذة الجسمية مثلا، نجد أن الشدة مصحوبة بقصر الأمد قد تكون مفضلة على الاعتدال المقترن بالامتداد الزمني. فلا شك أن جرعة ماء بالنسبة إلى شخص يموت من العطش تفوق وقت شربها كل القيم الدائمة للفن والدين مجتمعين. وبعبارة أخرى فنحن لا نكون حكماء بحيث نفضل قيمة دائمة على قيمة عابرة إلا إذا كانت القيمتان متساويتين في كل النواحي الأخرى. فمن الواضح أن تفضيل القيمة الدائمة واجب إذا كانت الأمور الأخرى متساوية. ولكن من سوء الحظ أن من الصعب في كثير من الأحيان إيجاد موقف تتساوى فيه كل الأمور الأخرى، لا سيما فيما يتعلق برغباتنا. ففي أغلب الأحيان يكون العصفور الموجود في اليد خيرا من عشرة على الشجرة، ولا بد من حكمة أخلاقية كاملة لتفضيل القيمة الدائمة في المستقبل على الخير المعترف بأنه عابر، والذي يوجد أمامنا مباشرة، وينتظرنا لنستمتع به في اللحظة الراهنة. (8) السلم المتدرج للقيم: «الخير الأسمى»
يوحي هذا التحليل لمختلف أنواع القيم بأنه قد يكون من الممكن والمفيد ترتيب ما لدينا من أشياء خيرة في سلم متدرج. وفي هذه الحالة يرجح أننا سنضع الأكثر اشتمالا في مكانة تعلو على الأقل اشتمالا، ونغلب على الأعلى على الأدنى، والدائم على العابر. والأهم من ذلك كله أننا سنضع الكامن قبل الوسيلي. وكما لاحظنا من قبل، فالقيم الكامنة بحق قليلة جدا، وبدلا من ذلك، يتضح لنا أن معظم الأشياء التي نسميها «خيرا» لا تكون لها قيمة إلا من حيث هي وسيلة لخير آخر أشمل منها، وهذا بدوره يتبين أنه ليس إلا وسيلة لخير آخر أبعد مدى. وهكذا يكون لدينا حتما سلم متدرج من القيم. ولا بد لأي سلم كهذا من أن تكون هناك قيمة من نوع ما، وهكذا نصل إلى مفهوم القيمة العليا أو الخير الأسمى، الذي يشتهر عادة باسمه اللاتيني
Summum Bonum . وإذن فمشكلة «الخير» (متميزة عن مشكلة الإلزام) تؤدي آخر الأمر إلى البحث عن الخير الأسمى، وتحقيق الحياة الخيرة يغدو إلى حد بعيد تنظيما لكل القيم الأخرى في صلتها بهذا الحد الأخلاقي الأقصى.
شروط «الخير الأسمى» بمعناه الصحيح : ماذا ينبغي أن تكون عليه خصائص الخير الأسمى إن شاء أن يكون أقصى خير وأرفع هدف للحياة؟ أول شرط مؤكد، هو أنه ينبغي أن يكون خيرا كامنا لا شك فيه. فلا بد أن يكون من شأنه أن يظل في إمكاننا أن نقول بصدده، بعد أدق تحليل ممكن، «هذا خير، لا بالنسبة إلى س أو بوصفه وسيلة ل... ص، بل في ذاته فحسب». وهناك صفة ثانية ينبغي أن يتصف بها أي خير أسمى ممكن، هو أن يكون نطاقه شاملا لكل شيء - أي أن يبلغ من الشمول ما يكفي لكي تندرج تحته كل أوجه نشاطنا بوصفها وسائل لتحقيقه. وأهمية هذا الشرط واضحة: فلو كانت هناك أوجه نشاط تستهدف تحقيق أهداف أخرى لا علاقة لها به - أعني أهدافا لا تصبح بدورها وسائل لخيرنا الأسمى المفترض - فمن الواضح أننا لا نكون عندئذ إزاء خير أسمى شامل، بل نكون إزاء خير وسيلي من نوع ما.
11
وهناك صفة ثالثة ينبغي أن يتميز بها كل خير أسمى، هي إمكان تحقيقه جزئيا على الأقل، ذلك لأن المثل الأعلى للقيم، الذي يبلغ من الرفعة حدا يجعل من المستحيل تحقيقه ولو بصورة جزئية، لن تكون له إلا صلة عملية واهية بالحياة البشرية. ولكن ينبغي أن يلاحظ أن الخير الأسمى لا يشترط فيه أن يكون من الممكن بلوغه كاملا. فيكفي أن يشعر الناس بإمكان تحقيقه بما يكفي لتبرير تكريس الحياة من أجل بلوغ هذا الهدف. كذلك فإن الاعتبارات العملية توحي بأن أية قيمة نرشحها لتكون خيرا أسمى، ينبغي أن يكون من الممكن بناء خطة للحياة حولها. فإذا كان المثل الأعلى أكثر غموضا أو تجريدا مما ينبغي، وإذا كان يقتضي التضحية بتلك اللذات اليومية القليلة التي تبدو لازمة لكي نحس بأننا نحيا حياة طيبة، أو إذا كان يبلغ من طول المدى حدا لا نرى معه لجهودنا نتائج مباشرة، فعندئذ يصبح لا قيمة له كمثل أخلاقي أعلى. وهذا هو النقد الذي وجه في كثير من الأحيان إلى بعض المثل العليا التي اقترحها الفلاسفة واللاهوتيون. فقد يكون في استطاعة الخير الشامل (أو السماء في حالة اللاهوت) أن ينتظر، ولكن لا بد للإنسان خلال ذلك أن يستمتع بشيء من الرضا والإشباع.
والآن وقد حددنا شروط الخير الأسمى، وأوضحنا بإيجاز العلاقة العامة بين أي حد نهائي أخلاقي كهذا وبين تجربتنا الكاملة، فلنعد إلى بحثنا لمختلف القيم المرشحة لنيل هذا الشرف الرفيع.
الفصل الثالث عشر
الأخلاق: ما الخير الأسمى؟
الآن، وبعد أن اتضحت لنا أهمية «الخير الأسمى» في التفكير الأخلاقي، وكذلك بعض الصفات التي ينبغي أن تتوافر في أية قيمة تود أن تحتل هذا المركز بطريقة مشروعة، ننتقل إلى بحث القيم الممكنة التي تتنافس على هذا الشرف، لعل أولى هذه القيم هي أقدم قيمة مرشحة في هذه الانتخابات الأخلاقية ، وهي قطعا أشهرها - وأعني بها اللذة.
1
وتعرف المدرسة التي تعد اللذة خيرا أسمى وأساسا لكل قيمة باسم «مذهب اللذة
Hedonism » واللفظ الإنجليزي من كلمة
Hedone
اليونانية، ومعناها اللذة. وتشكل وجهة نظر هذه المدرسة قطبا من الأخلاق يمكن مقارنته، من حيث الأهمية، بالمذهب الطبيعي أو المذهب المثالي في الميتافيزيقا. وكما أن قدرا كبيرا من النشاط الفلسفي يمكن أن يفهم على أفضل نحو بوصفه صراعا بين هذين القطبين، فكذلك يكشف قدر كبير من التفكير الأخلاقي عن صراع دائم بين مذهب اللذة وبين مذهب مختلف المدارس المضادة للذة.
جوهر مذهب اللذة : يبدو موقف مذهب اللذة، في جوهره، بسيطا للغاية. «فالخير» يعد في هوية مع «اللاذ»، و«الشر» مع «غير اللاذ». فاللذة وحدها هي التي لها قيمة عليا في نظر صاحب هذا المذهب. والواقع أن من أوضح أسباب جاذبية وجهة النظر هذه، بساطتها الظاهرة. ومع ذلك فإن أي مذهب أعقد مما يبدو لأول وهلة؛ إذ إنه ربما كان يشتمل على ما يقرب من ستة أفكار منفصلة. فأولا، تعد اللذة والألم مشاعر؛ أي مشاعر غير قابلة للتحليل، ولا يمكن ردها إلى أصول نفسية أبعد منها. وهما غير قابلين للتعريف أو الوصف. ومن حسن الحظ أن طابع عدم القابلية للتعريف هذا لا يقضي على النظرية تماما؛ إذ إننا نعرف جميعا بالتجربة المباشرة ما هي اللذة وما هو الألم. وثانيا ينظر مذهب اللذة إلى كل شعور باللذة على أنه خير، وكل شعور بالألم على أنه شر، بالنسبة إلى الفرد الذي يمارسه،
2
فهذه تجارب مطلقة تكون خيريتها أو شريتها مستقلة عن كل شيء آخر. وثالثا تعد كل اللذات، في مذهب اللذة الخاصة، من نوع واحد. فللذة لذة، والألم ألم، بغض النظر عن المصدر. وهذا يؤدي بالضرورة إلى إرجاع الفارق بين أية لذتين على أساس كمي. فالأرجح أن يكون الفارق بين أية تجربتين في اللذة فارقا في الشدة والمدة، وقد تكون إحداهما أنقى من الأخرى (أي أقل امتزاجا بالألم)، ولكنهما فيما عدا هذه الفوارق الكمية متماثلتان. مثل هذا الرد للكيف إلى الكم يعني أن التقدير النهائي لأية تجربة يتحدد حسب كمية اللذة والألم تسفر عنها، وهذه الكمية يمكن الاهتداء إليها عن طريق ضرب شدة الشعور في مدته. وهذا بدوره يوحي بما يسمى بحساب اللذات
Hedonic Calculus ، الذي نقارن فيه اللذات بعضها ببعض على أساس عائدها من اللذة أو الألم، ثم نقوم الموضوع أو الموقف تبعا لهذه النتيجة الرياضية. فإذا كانت نتيجة الجمع الجبري زيادة إيجابية في اللذة، كان الموقف أو الموضوع الذي نبحثه «خيرا»، وإذا انتهينا إلى إجابة سلبية؛ أي إلى ألم يفوق اللذة - كان «شرا».
3 (1) نوعان من مذهب اللذة
النوع النفسي
ينبغي، قبل أن نمضي إلى أبعد من ذلك، أن نضع تفرقة أساسية بين مذهب اللذة النفسي ومذهب اللذة الأخلاقي، فالأول، كما يوحي به اسمه، أقرب إلى النظرية النفسية منه إلى المذهب الفلسفي. وبدلا من أن يكون مذهب اللذة النفسية هذا متعلقا بمسألة ما يبغي أن يفعله الناس (أي ما ينبغي أن يرغب فيه) - وهو ما يتوقع من أية نظرية أخلاقية - فإنه يقتصر على بحث سلوك الناس الفعلي (أي ما يرغب فيه فعلا). وتنكر المدرسة النفسية أن للإلزام أية صلة بالموضوع. فكل الحيوانات، وضمنها الإنسان، لها تركيب من شأنه أن يجعلها تبحث آليا عن اللذة وتتجنب الألم. هذا هو قانون الطبيعة الشامل الذي لا يحتمل استثناء. فاللذة هي الشيء الوحيد المرغوب فيه بوصفه غاية في ذاته، والسعي إليها هو الدافع الأول لأوجه النشاط الحيوية. ولما كنا لا نستطيع أن نرغب في أي شيء غيرها، فمن الواضح أن التساؤل عما إذا كان ينبغي أن تكون لنا أهداف أخرى أم لا، ليس إلا مضيعة للوقت، بل إن الاهتمام الوحيد المشروع للأخلاق، ومن وجهة نظر صاحب مذهب اللذة النفسي، هو مسألة الطريقة التي يمكننا بها تحقيق أكبر قدر من اللذة، أو النجاح إلى أقصى حد في تجنب الألم.
الحجج المضادة لمذهب اللذة النفسي: (1) اللذة ناتج ثانوي : كان لمذهب اللذة النفسي على الدوام أنصار كثيرون، وذلك نظرا إلى شدة وضوح هذا المذهب وبساطة التفسير الذي يقدمه للسلوك الإنساني. ومع ذلك فإن أنصار هذا المذهب لم يجيئوا عادة من بين صفوف الفلاسفة، بل من بين صفوف عامة الناس. فقد أدرك المفكر الأخلاقي منذ وقت طويل أن هذا الوضوح الظاهر يخفي وراءه اعتراضات كثيرة. أهم هذه الاعتراضات هو تلك الملاحظة التي أبداها أرسطو منذ وقت طويل، وأيدتها شواهد كثيرة منذ ذلك الحين، وهي أن الناس قلما ينشدون اللذة مباشرة. كذلك فإنهم قلما ينشدونها عن وعي، بل إننا نرغب بدلا من ذلك في موضوعات محددة أو مواقف عينية، بحيث لا تكون اللذة أو الإشباع إلا ناتجا ثانويا لسعينا إليها أو بلوغنا إياها. فعندما نكون جياعا نبحث عن الطعام، لا عن لذة الأكل (التي هي عارضة)، وعندما نكون في حالة حب نبحث عن موضوع حبنا، لا عن لذة الحب. فاللذة، كما أشار أرسطو، هي حالة شعورية تنشأ عندما يقوم الكائن العضوي بأي عمل من الأعمال المتعددة التي يصلح لها دون أن يعترض طريقه شيء. غير أن اللذة عارضة بالنسبة إلى النشاط أو العمل ذاته. فنحن لا نقوم بالعمل من أجل اللذة الناتجة، وإنما من أجل الوصول إلى أشياء معينة أو تحقيق مواقف خاصة. «إن الشخص الذي يرغب في الطعام يرغب في الطعام، والشخص الذي يرغب في لعب البلياردو يرغب في لعب البلياردو، والشخص الذي يرغب في تنصير الكافر يرغب في تنصير الكافر - لا في اللذة، بل إن فكرة اللذة قد لا تطرأ على ذهنه مطلقا».
4
ويشعر القائل بمذهب اللذة بأن من السهل عليه الرد على هذه الحجة. فهو يعترف بأن فكرة اللذة قد لا تكون موجودة بوصفها غاية واعية، ولكنه يؤكد أن الهدف النهائي مع ذلك هو نوع من اللذة أو الإشباع. أما كوننا غير واعين بهدفنا، أو لم نصرح به، فليس دليلا على أننا سنؤدي الفعل، سواء أجلب لنا لذة أو لم يجلب.
على أن مثل هذا الخلاف عقيم، ما دام من الواضح أن طبيعته ذاتها تجعل من المستحيل الوصول إلى تسوية له. فخصم مذهب اللذة على حق عندما يشير إلى أننا لا نستهدف اللذة في العادة عندما نسلك. ولكننا من جهة أخرى لا نستطيع أن نثبت أن القائل بمذهب اللذة على خطأ عندما يقول إن توقع اللذة هو الدافع النهائي لكل سلوك - حتى لو كان دافعا غير واع. ذلك لأن مذهب اللذة يبدو مرتكزا على أرض ثابتة عندما يذكر أن كثيرا من الأفعال لن تتكرر لو لم تجلب لذة أو تزل ألما. وهكذا يبدو أن المشكلة الحقيقية هي ما إذا كانت هذه الحقيقة تثبت أن مبدأ اللذة والألم هو أساس كل الدوافع. ولكن لما كان كل جواب على هذه المسألة مستحيلا، فإن لكل جانب الحرية في تكوين فرضه النظري الخاص. (2) مفارقة مذهب اللذة : والاعتراض الثاني على مذهب اللذة النفسي ينطوي على ما يسمى بمفارقة مذهب اللذة، التي تشير إلى أن استهداف اللذة مباشرة يؤدي عادة إلى أن تفوتنا اللذة. والدليل الذي يساق في هذا الصدد هو التعاسة الملحوظة التي يشعر بها محترف السعي إلى اللذة. وهكذا يقال إننا لو رأينا شخصا يقضي وقتا طيبا فلن نجده من بين الساعين إلى اللذة، وإنما سنكتشف أنه شخص يشيد بيتا، أو يصنع رداء، أو يكافح في مهنته، أو يربي أسرة، أو يقرأ كتابا. فهذا الشخص السعيد سيكون دائما مشغولا في عمل يستهدف تحقيق مهمة محددة. وبالاختصار، فلا بد لنا - كما يقول المفكرون الأخلاقيون، وكذلك علماء النفس في الآونة الأخيرة - إذا شئنا الوصول إلى السعادة القصوى، من أن ننسى أننا نسعى إليها، ونمحو أنفسنا في نشاط ما، أو نكرس أنفسنا لقضية معينة، أو ندخل في علاقة شخصية نستغرق فيها، ويكون فيها منفذ لطاقاتنا ونقطة ارتكاز لأحلامنا.
النوع الأخلاقي
عندما تحول نظرية القيمة المرتكزة على فكرة اللذة إلى المجال الأخلاقي، نكون إزاء مذهب اللذة الأخلاقي. ووجهة النظر هذه لا تتعلق فقط بما هو كائن (كما هي الحال في مذهب اللذة النفسي)، وإنما هي أكثر تعلقا بما ينبغي أن يكون. والواقع أن مذهب اللذة الأخلاقي أهم بكثير بالنسبة إلى الفلسفة في مجموعها من نظيره النفسي؛ إذ إن الأخلاق تهتم أساسا بوضع معايير للسلوك.
مذهب اللذة الأناني في مقابل الاجتماعي : يمكن تقسيم المدارس المختلفة المنتمية إلى مذهب اللذة الأخلاقي إلى فئتين، هما: مذهب اللذة «الأناني»، ومذهب اللذة «العامة» أو مذهب المنفعة. ونستطيع أن نقول بوجه عام إن المذهب الأناني مميز للتفكير القديم، على حين أن مذهب المنفعة يمثل وجهة النظر الحديثة. وترى النظرة الأنانية أن كل تقويم للسلوك على أنه خير أو شر، صواب أو خطأ، ينبغي أن يتم بالقياس إلى الفاعل؛ أي على أساس مقدار ما يجلبه الفعل من لذة أو ألم للفاعل شخصيا. أما المدرسة القائلة باللذة العامة فإن معيارها أقل أنانية. فهي ترى أن أي سلوك ينبغي أن ينظر إليه على أساس قيمته لجميع الأشخاص الذين يتأثرون به؛ أي على أساس مقدار اللذة والألم الذي يجلبه لكل فرد في الجماعة الكاملة التي يتعلق بها الفعل. ومن الممكن بطبيعة الحال أن يقال إن مصلحة الفرد متفقة في نهاية الأمر مع مصلحة الجماعة، وبالفعل نجد أن أصحاب مذهب اللذة المحدثين قد بذلوا جهودا كبيرة في محاولة إثبات هوية المصالح هذه. ومع ذلك فإن التمييز بين وجهتي النظر الشخصية والاجتماعية كانت له أهميته من الناحية التاريخية. وسوف يزداد ذلك وضوحا إذا حللنا آراء أربعة مفكرين، اثنين منهم كانا من أنصار «الأنانية» والاثنين الآخرين كانا من أنصار «العمومية».
رأى أرستيبوس المتطرف : كان أول القائلين بمذهب اللذة، وربما أكثرهم تطرفا، هو أرستيبوس
Aristippus
الذي عاش في «قورينة
Cyrene » (عاصمة برقة) على الساحل الأفريقي للبحر المتوسط، في القرن الخامس ق.م. كذلك أقام أرستيبوس فترة معينة في أثينا، أصبح فيها تلميذا لسقراط. ومن الواضح أن سماحة أستاذه هي التي أثرت فيه؛ إذ إنه عندما عاد إلى «قورينة» وبدأ مدرسته الفلسفية الخاصة، اتخذ من بعض جوانب التعاليم السقراطية أساسا لوجهة نظر كانت تلائم طبيعته المحبة للذة كل الملاءمة. ويتلخص رأي أرستيبوس في أن اللذة، أو على الأصح، لذة اللحظة، هي التي تتحكم في كل خير، فليس ثمة لذة «عليا» أو «دنيا »، كما أن من الممكن تجاهل عنصر المدة. وإنما الشدة والطابع المباشر هما المعياران الوحيدان لتقويم اللذات، وبذلك تكون الحياة الخيرة هي تلك التي تنطوي على أكبر قدر من أقوى إحساس ممكن باللذة.
موقف أبيقور المعتدل : لسنا بحاجة إلى التوقف للبحث في أسباب إخفاق مذهب اللذة المتطرف هذا عند أرستيبوس، ما دامت المواقف الثلاثة الأخرى التي سنبحثها تستهدف كلها القضاء على عيوبه التي ستتكشف كلما مضينا في بحثنا قدما. ولقد كان أول تعديل هام لهذا المذهب الشديد البساطة هو مذهب أبيقور، الذي كان يعلم في أثينا بعد قرن من حياة أرستيبوس فيها - بوصفه تلميذا لسقراط. وقد أكد مؤسس المذهب الأبيقوري أنه، على الرغم من أن «اللذة هي اللذة»، فإن بعض أشكالها يدوم أطول كثيرا من البعض الآخر، وبعضها يشتري بثمن أعلى بكثير من حيث الجهد أو العناء. كذلك أدخل أبيقور تعديلا آخر على مذهب أرستيبوس المتطرف، وذلك بأن جعل معيار اللذة سلبيا لا إيجابيا: فأعظم خير هو انعدام الألم، وأفضل حياة هي تلك التي يتحرر فيها المرء إلى أقصى حد من الحاجة، والشقاء، واضطراب الانفعال الطاغي. ولقد كانت هذه النقطة الأخيرة، وأعني بها، تجنب الانفعالات القوية، من النقاط المميزة بوجه خاص للمذهب الأبيقوري. فبينما القورينائيون كانوا ينشدون اللذات العنيفة، فإن الأبيقوريين كانوا يتجنبونها بوصفها لذات مكدرة قصيرة الأمد، ثمنها باهظ من حيث ما تستتبعه من رد فعل أليم. وكان أنصار أبيقور يعلمون كيف ينمون متعة الفلسفة والصداقة، وهي متعة أكثر اعتدالا، ولكنها أطول مدى، وأقل تكديرا بلا شك. والهدف الحقيقي عندهم هو السكينة أو الطمأنينة
Ataraxia
فمن الواجب تجنب أي شيء يعكر صفو هذه السكينة، بغض النظر عن مدى شدة اللذة المباشرة التي تجلبها.
مذهب اللذة الاجتماعي: «مذهب المنفعة» عند بنتام : من الواضح أن التفكير الأخلاقي قد قطع شوطا بعيدا خلال القرن الذي كان يفصل بين أرستيبوس وبين أبيقور. ولم تتخذ خطوة أخرى يمكن مقارنتها بهذه، خلال تطور مذهب اللذة، إلى أن بدأ جريمي بنتام
Jeremy Bentham
تفكيره في أواخر القرن الثامن عشر. فلقد كان هذا المفكر الإنجليزي، المؤمن بالموقف الطبيعي (Common-Sense)
هو العامل الأكبر على التحول من مذهب اللذة الأنانية إلى مذهب اللذة العامة. وكان يهتم اهتماما كبيرا بالإصلاح الاجتماعي والإصلاحي التشريعي؛ ومن هنا فلم يكن من المستغرب أن يكون تفكيره الأخلاقي اجتماعيا وعمليا إلى حد غير مألوف. وفضلا عن ذلك فقد سعى إلى الجمع بين مذهب اللذة النفسي ومذهب اللذة الأخلاقي، كما يتضح من تلك الفقرة التي اقتبسها الكثيرون، والمأخوذة من كتابه «مبادئ الأخلاق والتشريع»
Legislation : «لقد وضعت الطبيعة الإنسان تحت سيطرة سيدين مطلقين، هما الألم واللذة ... فهما يتحكمان في كل ما نفعل، وكل ما نقول، وكل ما نفكر فيه، ولا يمكن أن يؤدي أي جهد نبذله للتحرر من الخضوع لهما إلا إثبات هذا الخضوع وتأكيده ... ويعترف مبدأ المنفعة بهذا الخضوع، ويفترضه أساسا لهذا المذهب الذي يهدف إلى تكوين نسيج السعادة بأيدي العقل والقانون. أما المذاهب التي تحاول الشك فيه فهي إنما تتعامل مع أصوات لا معان، ومع الهوى لا العقل، ومع الظلام لا النور.»
وينتقل بنتام إلى تعريف مبدئه في المنفعة بأنه «ذلك المبدأ الذي يتوقف فيه استحسان أي فعل أو استهجانه على ما يبدو لهذا الفعل من اتجاه إلى زيادة أو نقص سعادة الطرف الذي يكون الفعل متعلقا بمصلحته». ولقد كان مقتنعا بأن هذا المبدأ هو الوسيلة التي يختار الناس على أساسها، والتي ينبغي أيضا أن يتم على أساسها هذا الاختيار، والأمر الذي كان يسعى إليه هو أن يجعل من هذا المبدأ المعيار المعترف به للأخلاق والتشريع، حتى يخضع المجتمع لحكمه بدلا من أن يخضع لحكم معيار تجريدي معين للواجب، لا صلة له بسعادة الإنسان.
5
ذلك لأنه رأى أن أي مبدأ تجريدي، غير نفعي، إنما هو «أداة من أفضل أدوات الطغيان وأشدها فعالية. فهو يفيد في إقناع الضحايا بأن إطاعتهم للمستبدين بهم ليست ضرورية فحسب، بل هي واجبة بحق».
6
حساب اللذات : كان بنتام مقتنعا بأن أقوى حصن يحمي من الظلم الاجتماعي هو الاعتراف الصريح بأن كل فرد معني أساسا بمصلحته الخاصة، غير أن ذلك قد تركه إزاء مشكلة تجنب الفوضى الاجتماعية. وبعبارة أخرى فكيف نستطيع أن نجعل الفرد يدرك أن مصلحته الخاصة متفقة مع المصلحة المشتركة؟ إن الخطوة الأولى التي اتخذها بنتام لإثبات اتفاق الصالح الخاص والعام، هي التعبير على أصرح نحو ممكن عن مبدأ حساب اللذات. فقد رأى بنتام أن قيمة أي فعل ينبغي أن يحكم عليها على أساس «الشروط» السبعة الآتية: (1) شدة اللذة أو الألم الناتج منها، (2) مدة أي منهما، (3) يقينيتهما أو عدم يقينيتهما؛ أي مقدار احتمال حدوثهما على النحو المتوقع، (4) سرعة حدوثهما، (5) خصبهما، أو احتمال ترتب إحساسات من نفس النوع عليهما، (6) نقاؤهما، أو تحررهما من أية إحساسات حاضرة أو مستقبلة من نفس النوع، (7) وأخيرا نطاقهما، أو عدد الأشخاص الذين يمكن أن يتأثروا بهذه الإحساسات. وقد لخص بنتام نفسه هذه النقاط في أبيات شعرية طالما اقتبسها الكتاب:
شديدة، وطويلة، ومؤكدة، وسريعة، ومثمرة، ونقية.
هذه الصفات هي التي تدوم في اللذة والألم.
أما إذا كانت عامة، فلتنشرها على أوسع نطاق.
ولتتجنب هذه الآلام أيا كانت آراؤك.
فإن لم يكن من الآلام بد، فليكن نطاقها محدودا فحسب.
وباستخدام هذا الحساب اعتقد بنتام أننا نستطيع أن نحدد بسهولة إن كان الفعل خيرا أو شرا.
ولا شك أن أية نظرة إلى شروط بنتام السبعة، حتى لو كانت نظرة عاجلة، كفية بأن تبين لنا أن الشرط الأخير قد أدخل على تفكير مذهب اللذة عنصرا جديدا كل الجدة. ذلك لأن من الممكن النظر إلى الشروط الستة الأولى على أنها مجرد تحسين لحساب اللذات في مقابل الآلام عند أبيقور. ولو كان بنتام قد توقف عند حد هذه الشروط فحسب، لماك كان مذهبه أقل أنانية من مذهب أبيقور. ولكننا ما إن نبدأ في تقويم الأفعال على أساس عدد الأشخاص، حتى ندخل مجالا أخلاقيا مختلفا. ولم يكن بنتام يعتقد أن إضافة هذا العامل الاجتماعي يحتاج إلى إدخال أي مفهوم جديد من الوجهة الكيفية، بل سيظل من الممكن نظريا الاكتفاء بإيجاد مجموع اللذة الناتجة، بعد بحث كل الاشخاص الذين يتعلق بهم الأمر، وموازنة هذا بمجموع الألم. ومع ذلك فحتى لو كان ذلك حسابا كميا بالمعنى الدقيق، لأدت إضافة الاعتبارات الاجتماعية إلى تعقيد المشكلة إلى حد تؤدي معه إلى أحداث تغيير أساسي في تاريخ مذهب اللذة.
تجديف مل : لو كان أرستيبوس وأبيقور قد اطلعا على مذهب المنفعة عند بنتام، لبدا ذلك المذهب ممتنعا في نظر الأول، ومشكوكا فيه في نظر الثاني. أما عندما نأتي إلى جون ستيورات مل، الذي ولد بعد بنتام بجبلين، فإننا نجد لديه مذهبا في اللذة مختلفا في طابعه إلى حد يحق لنا معه أن نشك في أن بنتام كان يمكن أن يعترف بسلامة هذا الموقف، لو عرفه. وقد وصف كاتب قريب العهد
7
التعديلات التي أدخلها مل بعبارة «تجديف مل
Mill’s Heresy » وهو وصف لا نرى فيه مبالغة. فعندما ظهر كتاب «مذهب المنفعة
Utilitarianism » في عام 1863م كان من الواضح أن قدرا كبيرا من مذهب اللذة في صورته القديمة قد اختفى، ربما إلى الأبد.
ذلك لأنه، على الرغم مما بين أرستيبوس وأبيقور وبنتام من فوارق، فقد اتفقوا جميعا على فكرة أساسية: هي أن اللذة هي اللذة، أيا كان مصدرها، أو شدتها، أو مدتها. وربما اختلف هؤلاء المفكرون فيما بينهم فيما إذا كانت بعض اللذات تستحق ما ندفعه فيها من ثمن، أو فيما إذا كان من الواجب عمل حساب أي شخص آخر غير الفاعل ذاته عند تحديد قيمة أي فعل من حيث اللذة، ولكن لا جدال في أنهم كانوا متفقين اتفاقا تاما فيما بينهم حول التشابه «الكيفي» لكل اللذات. أما «تجديف» مل فيتمثل في أنه قد أدخل مفهوما جديدا، يؤدي من الوجهة المنطقية إلى نتائج هدامة، في تقويم اللذة والألم. ذلك لأن من أقدم الانتقادات التي وجهت إلى مذهب اللذة وأكثرها دوما، رفضه الاعتراف بفوارق كيفية بين اللذات. وقد كان بنتام بوجه خاص صريحا في إنكاره أي فارق داخل هذه الفئة. وفي عصر مل، كان كثير من المفكرين، مثل كارلايل
Carlyle ، قد رددوا التهمة القديمة القائلة بأن مذهب اللذة «فلسفة خنازير»، فالحياة التي تكرس كلها للسعي وراء اللذة لا تليق بالإنسان، وإنما تليق بالخنازير وحدهم.
وقد رد مل على هذه التهمة بنفس الطريقة التي رد بها أبيقور عليها قبل ذلك بألفي عام. فليس القائلون بمذهب اللذة هم الذين يقولون بنظرة وضيعة منحطة إلى الطبيعة البشرية، وإنما خصومهم؛ ذلك لأن القول بأن الحياة التي تقدر على أساس اللذة والألم وحدهما لا تليق إلا بالحيوانات، يعني أن الإنسان لا يسعى إلا إلى اللذات الحيوانية وحدها. وقد نصح أبيقور أتباعه صراحة بأن يبحثوا عن لذات الفلسفة والاتصال الاجتماعي وهي نقطة كان خصوم الأبيقورية وخصوم مذهب المنفعة يغفلونها على الدوام. كذلك فإن مل يذهب إلى حد الاعتراف بوجود فارق كيفي بين اللذات، ويؤكد أن من الضروري التفرقة بين اللذات «العليا» و«الدنيا». وهو يقول في فقرة مشهورة: «خير للمرء أن يكون إنسانا غير راض من أن يكون خنزيرا راضيا، وخير له أن يكون سقراطا غير راض من أن يكون أحمق راضيا». فهناك عامل له أهمية خاصة في تحديد اللذات المرضية بحق، والجدير حقا بالإنسان، هو ذلك الشعور بالكرامة الإنسانية، الذي كان مل يعتقد أنه تمثل، بدرجة ما، في الناس جميعا. (2) حيوية مذهب اللذة
لعل أي موقف في الفلسفة لم يهاجم بمثل الإصرار الذي هوجم به مذهب اللذة، ولا أية وجهة نظر قد صمدت للهجوم مثل وجهة النظر هذه. فعلى الرغم من أن تعاليم مذهب اللذة قد عدلت وهذبت كثيرا خلال التاريخ الطويل لهذه المدرسة، فإن التأكد الأساسي القائل إن أصل القيمة يرجع إلى «الشعور
Feeling » قد ظل دون تغير. ويؤكد أصحاب مذهب اللذة المعاصرون أن من الواجب أن تركز كل المبادئ الأخلاقية على نتائج الفعل التي تقاس تبعا لتحقيقها مصلحة الإنسان، وهذه الأخيرة بدورها تعني اللذة أو السعادة. وما زال القائل بمذهب اللذة في وقتنا الحالي يرى، مثل بنتام، أن أي معيار أخلاقي يكون فاسدا تماما إذا كان يتجاهل نتائج الفعل بأن يحاول الحكم على السلوك البشري على أساس اتفاقه مع مثل أعلى مجرد للواجب أو الإلزام.
الاعتراضات الرئيسية على مذهب اللذة : تتركز الاعتراضات المختلفة على مذهب اللذة الأخلاقي في عدم جدارة هذا المذهب بأن يكون مثلا أعلى بشريا، أو في عدم كفايته بوصفه مذهبا أخلاقيا شاملا. ولسنا بحاجة إلى التريث طويلا لمواجهة تهمة عدم الجدارة، بعد أن استمعنا إلى رد مل على هذه التهمة. كما ينبغي أن نلاحظ أن هذا الاعتراض ينطوي على معيار محدد مقدما لما هو جدير بالإنسانية وما هو غير جدير بها؛ أي إنه يبدأ تحليله «للخير» بفكرة مسبقة عما ينبغي أن يكون عليه «الخير». وهكذا يطلب إلينا أن نرفع أنفسنا بأربطة حذائنا الأخلاقية الخاصة،
8 ⋆
محاولين أن نحدد ما هو «خير» عن طريق ما نعتقد من قبل أنه كذلك، ولسنا بحاجة إلى القول إن هذه ليست بالطريقة السليمة في التفكير؛ ولذا فإن الحجج التي توجه ضد مذهب اللذة وتكون مصوغة بهذه الطريقة لا ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد. غير أن تهمة عدم الكفاية أخطر بكثير، وينبغي لنا أن نبحثها بحثا كاملا.
فلنذكر، في البداية، أن مذهب اللذة الأخلاقي يستطيع الوقوف على أرجله، مستقلا تماما عن صواب أو خطأ النوع النفسي من مذهب اللذة. فلسنا بحاجة إلى الاعتقاد بأن الدافع الوحيد لكل سلوك بشري هو مبدأ اللذة والألم، لكي ننتهي من ذلك إلى أن التقويمات الأخلاقية ينبغي أن تكون على أساس سعادة البشر وما فيه مصلحتهم. وهكذا فعندما يتهم مذهب اللذة بأنه غير كاف من حيث هو تفسير لسلوكنا، أو يقال إن علم النفس الحديث يؤدي إلى استبعاد هذا المذهب، فينبغي أن نتأكد هل الناقد يدرج النوع الأخلاقي من المذهب ضمن اتهامه هذا؟ ذلك لأنه إذا كان لأحد أن يتهم مذهب اللذة الأخلاقي بأنه نظرية غير كافية، فينبغي أن يكون هذا الاتهام ناتجا عن الضعف الكامن في المذهب ذاته، لا عن أي بطلان ممكن في الوجه النفسي لهذا المذهب. وربما ازدادت نقاط الضعف العقلية في مذهب اللذة ظهورا في أثناء دراستنا للمذاهب الأخرى البديلة عنه. ولما كان أقوى صراع في هذا الميدان هو الصراع بين المذهب الشكلي ومذهب اللذة، فسوف نبدأ أولا ببحث هذا المذهب الأشد عداء لمذهب اللذة. (3) المذهب الشكلي: أقوى ناقد لمذهب اللذة
للمذهب الشكلي في الأخلاق صلات وثيقة بالنظرة المطلقة التي تحدثنا عنها في الفصل السابق. وأهم ما يقول به هذا المذهب هو أن خيرية الفعل أو شريته صفة كامنة فيه، مستقلة عن كل شيء - عن الزمان والمكان والظروف وما إلى ذلك. وفضلا عن ذلك فإن هذه الصفة الكامنة أو المطلقة للفعل مستقلة عن أية نتائج مترتبة عليه. فليست لنتائج الفعل صلة بخيريته أو أخلاقيته، وعلى حين أن القائل بمذهب اللذة يرى أن كل معايير الصواب والخطأ ينبغي أن ترتكز آخر الأمر على نتائج كل فعل، فإن القائل بالمذهب الشكلي يعتقد أن للمعايير الأخلاقية سلطة واحدة فحسب: هي طبيعتها الباطنة الخاصة بها، التي لا تربطها صلة بنتائج أي فعل.
وينبغي، إنصافا منا للقائل بالمذهب الشكلي، أن نشير إلى أنه لا يدعي أن نتائج الفعل ليست لها أهمية عملية أو علاقة بالسعادة البشرية. فهو لا يقل عن القائل بمذهب اللذة شعورا بأن للجزء الأكبر من سلوكنا نتائج مستقلة من السعادة أو الشقاء بالنسبة إلى أنفسنا أو إلى الآخرين، ولكنه ينكر وجود أية علاقة بين هذه النتائج العملية وبين ما يتصف به الفعل من صواب أو خطأ. وإذن فالمذهب الشكلي ينظر إلى السلوك البشري على أنه يتم، من حيث النتائج العملية، في فراغ أخلاقي. وقد يكون مما له أهمية عظمى في نظري أن يسرق أحد سيارتي، غير أن هذا أمر لا صلة له بتحديد ما إذا كانت السرقة صوابا أم خطأ. وإنما يقول صاحب المذهب الشكلي أنها تصبح خطأ نظرا إلى صفة كامنة في أفعال السرقة لا يمكن لأي ظرف - حتى ما قد تعده المحكمة «ظرفا مخففا» - أن يغيرها. ويعتقد الفيلسوف الشكلي أن الأفعال الصالحة تنجم عنها، على وجه العموم، نتائج خيرة، والأفعال الخاطئة تنجم عنها نتائج شريرة. ولكن على الرغم من هذا التأكيد، فليس هناك ارتباط ضروري بين الاثنين، فالأفعال «الصالحة» تظل صالحة حتى لو كانت الفضيحة تؤدي دائما إلى تعاسة صاحبها وألم كل المحيطين به. وعلى العكس من ذلك، فحتى لو أدى الفعل «الخاطئ» إلى زيادة سعادة كل من يهمه الأمر، فسيظل مع ذلك خاطئا.
ويعد «إمانويل كانت» زعيم الشكليين الأخلاقيين. ومن سوء الحظ أن تفكيره لا يسهل فهمه، وأن استنتاجاته الصارمة الدقيقة لا تلقى استجابة لدى معظم الطلاب اليوم. ومع ذلك فإن الموقع الهام الذي يحتله في تاريخ الأخلاق يحتم علينا أن نفهم أفكاره الأساسية. ولما كان مذهب كانت الأخلاقي يبلغ قمته في نظرية هي أشهر نظريات «الواجب» (وهو نوع النظرية الذي تصل إليه المذاهب الشكلية في عمومها) فإن تقديم عرض موجز لتاريخ مفهوم «الواجب» يمكن أن يفيد القارئ بوصفه مدخلا إلى تفكير كانت. (4) تاريخ فكرة «الواجب»
على الرغم من أن اليونانيين القدماء كانوا «عصريين» إلى حد بعيد في كثير من أفكارهم، فإن إحساسهم بمعنى الواجب كما نفهمه اليوم كان ضعيفا. فالحياة الأخلاقية والحياة الخيرة كانت عند اليوناني شيئا واحدا؛ أي إن الحياة الخيرة كانت عندهم تلك الحياة التي كان من الضروري فيها توافر فضائل أو ميزات معينة لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تتيح للإنسان الوصول إلى السعادة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك فضيلة «الاعتدال»، التي امتدحها اليونانيون أكثر مما امتدحوا أية فضيلة غيرها. ففي نظر اليوناني لم يكن الاعتدال واجبا عليه - إذ إن الاعتدال ليس إلزاما يفرض بقانون أو سلطة ما - وإنما كان مسألة علة ومعلول فحسب؛ ذلك لأن عدم الاعتدال يؤدي إلى الشقاء؛ ومن هنا كان ينبغي لنا أن نكون معتدلين. غير أن كلمة «ينبغي» لا تعبر هنا إلا عن إلزام مشروط: فإذا أردنا أن نكون سعداء فينبغي لنا (أي إن من الضروري لنا) أن نكون معتدلين في عاداتنا. ولكي نحيا حياة سعيدة يتعين علينا أن نكون معتدلين وشجعانا وعادلين وحكماء. غير أن هذه مسألة علة ومعلول مفهومة للذهن المعتاد، وليست إلزاما مطلقا أو مجردا كالإلزام المتضمن عادة في الأوامر الخلقية.
نظرية الواجب عند الرواقيين : أدخلت فكرة جديدة في التفكير الأخلاقي اليوناني قرب نهاية العصر اليوناني، عند ظهور المذهب الرواقي، وقد أدت هذه الفكرة إلى تحويل الأخلاق من مبحث يتركز حول الخير إلى مبحث يتركز حول الواجب. ومن هنا فقد مهدت الطريق للأخلاق المسيحية وللمذهب التطهري (البيوريتاني) فيما بعد. تلك هي الفكرة التي تعد فيها «الفضيلة» أو «الحياة الصالحة» إطاعة لقانون، لا مجرد مراعاة لقواعد العلة والمعلول. فالرواقي كان يرى أن الحياة الخيرة، التي ينبغي لكل حكيم أن يسعى إلى أن يحياها، هي تلك التي يتحدد بها واجب الإنسان على أساس قانون الطبيعة أو النظام العقلي للكون - أو العقل الكلي، حسب الاصطلاح الرواقي. هذا القانون الكوني للعقل الكلي يحدد لكل فرد مكانه في نظام الأشياء، ويقرر الواجب والالتزامات التي تتمشى مع هذا المركز المحدد. ولقد كان قوام الحكمة عند الرواقيين هو اعتراف المرء بهذه المكانة المحددة له، وبما يرتبط بها من الواجبات؛ وبالتالي العيش في انسجام واع مع الطبيعة - أي مع العقل الكلي. وفضلا عن ذلك فقد كان الرواقيون يرون أن كل ما يحدث في الكون يحدث وفقا لضرورة منطقية. ومن هنا فإن قبول ما تأتينا به الحياة هو أمر لا مفر لنا منه، وهو في الوقت ذاته مظهر من مظاهر الحكمة.
ومن السهل أن ندرك أن هذه النظرية الرواقية تمثل تحولا حقيقيا عن التفكير الأخلاقي اليوناني السابق، على الرغم من أنه كان لا يزال عليها أن تقطع شوطا بعيدا حتى تصل إلى المفهوم المسيحي «للواجب». فمن المؤكد أن الرواقيين، حين جعلوا من الأخلاق أو «الحياة القويمة» مسألة إطاعة لقانون، قد أكدوا بالضرورة فكرة الواجب على نحو أقوى مما أكدت به من قبل، وذلك في العالم الغربي على الأقل. ولكنهم أرادوا بتوحيدهم بين قانون الطبيعة وقانون العقل، ثم بتوحيدهم بين هذا العقل الكلي وبين العقل المتناهي الموجود لدى كل إنسان، أن يحولوا دون أن تتخذ الالتزامات التي يفرضها الواجب طابعا تعسفيا أو تسلطيا محضا. فعقلنا الفردي يتيح لنا أن ندرك عدالة العقل الكلي وحكمته وأوامره الضرورية. ومن هنا كان كل إنسان حكيم فاضل يقبل بحرية تلك الواجبات التي يفرضها علينا العقل الكلي لأنها تتفق مع ما يقضي به عقلنا الخاص ذاته. وهكذا يتفق الحكم الخاص مع الحكم الكوني، ولا يكون هناك شعور بالإكراه الخارجي، أو بالأمر التعسفي.
المسيحية والواجب : أدخلت المسيحية تغييرا آخر هاما في المفهوم الأساسي للأخلاق، كما أنها قد استحدثت الفكرة التي بنيت عليها الأخلاق الغربية الرسمية خلال القرون السبعة عشر الأخيرة. هذه الفكرة هي المذهب القائل إن قوام الحياة الأخلاقية هو طاعة القانون، وإن يكن ذلك قانونا يختلف كل الاختلاف عن ذلك الذي اعترفت به الرواقية. هذا القانون الجديد ليس قانونا يكتشفه العقل البشري، وليس بالتالي قانونا يبدو لنا (معقولا)، وإنما هو قانون أتانا من الوحي الإلهي الذي لا يكون أمامنا إلا أن نطيعه، سواء أكان يبدو معقولا أم غير معقول، منطقيا أم تعسفيا، عادلا أم ظالما. فمن الواجب إطاعته لمجرد كونه تعبيرا عن الإرادة الإلهية، لا لأننا نرى يه وسيلة لتحقيق سعادتنا المباشرة. وبطبيعة الحال فنحن نفترض أنه لما كانت القوة التي تسهر على تنفيذ هذا القانون الإلهي هي ألوهية خيرة، فسوف يكون ذلك قانونا خيرا يعبر عن حكمة عليا. ولكن لما كان خلاصنا يتوقف مباشرة على إطاعتنا لهذا القانون، فمن الواضح أن المطلوب منا هو أداء أية واجبات يحددها، بغض النظر عن رأينا البشري في هذه الأوامر. كما ينبغي أن يلاحظ أن هذا الارتباط (بين طاعة الإنسان للقانون الإلهي وبين خلاصه) هو في المسيحية ارتباط تحدده المشيئة الإلهية، لا العقل البشري، وهذا يؤدي إلى زيادة ضعف العلاقة التي كان يقول بها الرواقيون بين العقل الكلي وبين عقلنا الفردي المتناهي. ولقد ظل أداء المسيحي لواجبه يعد، حتى يومنا هذا، مسألة طاعة لا مسألة تبصر. وقد أحسن بعضهم التعبير عن هذه الفكرة إذ قال إن سبب كون هذه الطاعة خيرا، أو حتى سبب كونها لازمة، هو أمر لا شأن لنا به. وكل ما يهمنا بحق هو أنها لازمة.
9
مذهب الألوهية الطبيعية والواجب : كان من النتائج الجانبية للنزاع بين أصحاب مذهب الألوهية المفارقة
Theists
وأصحاب مذهب الألوهية الطبيعية
Deists ، في القرن الثامن عشر، أن حاول بعض اللاهوتيين الأكثر تعمقا أن يعدلوا هذا الطابع الاعتباطي للأمر الإلهي، بأن يكشفوا عن الصلة الوثيقة بين الواجب الأخلاقي كما يحدده الوحي وبين الواجب الأخلاقي كما ينادي به ضميرنا الفردي. فقد ذهبوا إلى أن الله لا يقتصر على وضع القانون الأخلاقي في الكون، وإنما هو قد بث في كل نفس قبسا أو صدى لهذا القانون الأخلاقي نفسه. وهكذا فإن إصغاءنا لصوت ضميرنا، أو الالتجاء إلى «النور الواضح للعقل الطبيعي» (وهي عبارة أثيرة لدى مفكري القرن الثامن عشر) يؤدي بنا إلى كشف نفس الأوامر التي وردت إلينا من الكتاب المقدس ومن كتابات آباء الكنيسة. وعلى ذلك فإن الوحي يدعم الضمير، والضمير من جانبه يثبت سلطة الوحي. ومن هنا فإننا نستطيع أن نستدل على واجبنا من مصادر أخرى غير سلطة الكتاب المقدس أو القانون الكنسي وحده. ففي استطاعتنا أن نستدل عليه بالبصيرة الباطنة، وإن كانت هذه البصيرة في حقيقتها لا تعدو أن تكون «تعرفا». فنحن نستمع إلى ما هو واجب علينا من الخارج، عن طريق منبر الكنيسة وغيره من المصادر المألوفة للسلطة الأخلاقية، كما نستطيع أن نستمع إليه من الداخل، عن طريق الصوت الخافت للضمير. وبذلك يمثل هذا المذهب عودا جزئيا إلى الرأي الرواقي في الواجب ومصادره.
الآراء الشعبية في الواجب : طرأ على الأخلاق في القرن الثامن عشر تطور آخر كان له دون شك تأثير شعبي أقوى من ذلك الذي أوضحناه الآن. وكان هذا التطور سهل الفهم، كما هي الحال عادة في الأفكار التي تلقى استجابة شعبية. كذلك فإنه كان يتميز بجاذبية انفعالية تفتقر إليها النظريات اللاهوتية والفلسفية العقلية السائدة في تلك الأيام. هذا الرأي الشعبي كان يقول إن من الممكن معرفة واجباتنا بنور العقل الطبيعي، وأن جزاءها (أي السلطة أو القوة التي تلزم الناس بإطاعتها) ليس إلا المكافآت والعقوبات التي تترتب على إطاعتها أو عصيانها. هذه المكافآت أو العقوبات قد تحدث في هذا العالم أو في العالم الآخر، غير أن ما يحدث منها في العالم الآخر خير وأبقى. وهكذا فإن «الجنة» و«النار» يصبحان في هذا المذهب حافزين لهما أهمية قصوى في السلوك الأخلاقي. وهناك حجة مشهورة على وجود الله، تقول: «لو لم يكن الله موجودا لكان من الضروري ابتداعه» - ونستطيع أن نتصور أنصار هذا الرأي وقد أعادوا صياغة هذه الحجة بحيث تصبح: «لو لم تكن الجنة والنار موجودتين لكان من الضروري ابتداعهما» - وذلك لضمان إقبال الناس على أداء واجباتهم المسيحية.
هذا المذهب يبدو أنه ينطوي ضمنا على الرأي القائل إن الأخلاق هي في أساسها مسألة «انتهازية» (أو «شطارة»)، وأن الأخلاقية ليست إلا «سياسة حكيمة». فلو أردنا اكتساب البركة الإلهية، أو البقاء بمنأى عن المتاعب في هذا العالم وفي العالم الآخر معا، فعيلنا إطاعة أوامر الأخلاق، ولا سيما الأخلاق المسيحية. ومع ذلك فإن هذا الموقف لا يقتصر على المسيحية الشعبية، بل إنه، على العكس من ذلك، قد انتشر على نطاق واسع منذ كانت للناس آلهة يطيعونها أو يسترضونها أو يبتهلون إليها. فقد كانت الأذهان الساذجة تميل دائما إلى أن تجعل من العبادة الدينية نظاما للمقايضة، يعد فيه العبد بعمل شيء للرب؛ أي بطاعته أو التضحية له أو مجرد الاعتراف به - ويتوقع في مقابل ذلك نعما معينة من الرب. وتكشف العقيدة الشعبية اليونانية عن مظاهر متعددة لروح المقايضة هذه، كما أن هناك دلائل كثيرة على أنها كانت جزءا هاما من العبادة الدينية الساذجة منذ العصور السحيقة في القدم. ومن هنا فليس من المستغرب أن يعجز القرن الثامن عشر، بكل ما عرف عنه من معقولية و«تنوير»، عن القضاء على هذا الميل القديم العهد إلى النظر إلى الدين على أنه مساومة بين طرفين. ومن الواضح أن «واجبنا» يغدو في هذه الحالة مجرد أداء الجزء الخاص بنا من الصفقة. وهكذا يعدو الواجب تعاقديا، بدلا من أن يكون اعتباطيا أو عقليا أو حدسيا. (5) فلسفة الواجب عند «كانت»
لا جدال في أن أشهر وأقوى المدافعين عن المذهب الأخلاقي المتركز حول الواجب هو «إمانويل كانت». فلقد كان قدر كبير من تفكيره الأخلاقي ثورة على المذاهب الأخلاقية الانتهازية، ومذاهب «السياسة الحكيمة» التي كان يدعو إليها المفكرون الأخلاقيون في عصره. ومن المؤكد أن جزءا من الصرامة الواضحة التي يتسم بها تفكيره لا بد أن يخفف لو كان المجال يسمح لنا ببيان مدى انحطاط المستوى الذي وصلت إليه بعض هذه المذاهب الانتهازية الخالصة. ومع ذلك فلا بد لنا من الخوض مباشرة في مذهب كانت الأخلاقي؛ إذ إن هذا المذهب هو مصدر الكثير من الأفكار التي ظهرت عن الواجب في القرن التاسع عشر.
لا علاقة بين الميل الطبيعي والأخلاقية : رأى «كانت» أنه لا توجد علاقة بين الميل الطبيعي وبين الأخلاقية. أي إن رغبتنا أو عدم رغبتنا في القيام بعمل معين، لا صلة لها بخيرية هذا الفعل أو أخلاقيته؛ ذلك لأن ما أميل إلى فعله اليوم، قد لا أميل إلى فعله غدا. وفضلا عن ذلك، فالميل دائما مسألة شخصية، وذاتية بحتة. ولكن أساس الأخلاق، في رأي كانت، ينبغي أن يكون موضوعيا شاملا بالمعنى الصحيح. ولا بد أن يتحرر، لا من الغرض أو الهوى الشخصي فحسب، بل من عوارض الزمان والمكان والبيئة الثقافية. فلا بد أن تكون الأخلاق الحقة واحدة في كل ثقافة وكل عصر تاريخي، ولا بد أن تسري بغض النظر عن «الجنس أو المذهب أو العقيدة». ذلك لأنه ما لم يكن «الحق» هو الحق، سواء شئنا أم أبينا - وهنا نصل إلى لب مذهب كانت - وما لم يظل هذا «الحق» موضوعيا ملزما بغض النظر عن أي ميل شخصي، فإن مفهوم الواجب يفقد معناه.
ولقد كان «كانت» صريحا في هذه المسألة كل الصراحة. فهو لا يقتصر على القول إن الميل الطبيعي لا صلة له بالأخلاق أو «الاستقامة»، بل إنه يرى أن الأفعال الوحيدة التي هي أخلاقية بحق هي تلك التي تؤدى عن إحساس بالواجب. على أن من المعترف به أن هذا حكم قاس. ومن المؤكد أن هذه العبارة الواحدة هي أقوى العوامل التي أدت إلى اشتهار كانت بالصرامة الأخلاقية. فهو لا يعني فقط أن الأفعال ينبغي أن تؤدى وفقا لمقتضيات الواجب، بل ينبغي أيضا القيام بها من أجل أداء الواجب ، لا لأي سبب آخر وذلك إذا ما شئنا أن تكون هذه الأفعال أخلاقية بالمعنى الصحيح. ولنقتبس فقرة موجزة من «كانت» توضح رأيه هذا:
إن مساعدة الآخرين حين يستطيع المرء واجب، وهناك إلى جانب ذلك نفوس كثيرة لديها من النزوع إلى التعاطف ما يجعلها، دون أي دافع آخر من الغرور، تجد لذة باطنة في نشر السعادة من حولها، وتغتبط لرضا الآخرين مثلما تغتبط لرضائها الخاص. ومع ذلك فإني أذهب إلى أن أي فعل من هذا النوع، مهما كان قويما محببا إلى النفوس، ليست له مع ذلك قيمة أخلاقية أصيلة. فهو يقف على قدم المساواة مع الميول الأخرى - كالميل إلى التكريم مثلا، وهو الميل الذي لو أتيح له من حسن الحظ ما يجعله يصيب شيئا نافعا قوميا؛ وبالتالي شريفا، لكان يستحق الإطراء والتشجيع، ولكنه لا يستحق الاحترام أو التبجيل؛ إذ إن القاعدة التي يسير عليها تفتقر إلى المضمون الأخلاقي، ألا وهو أداء مثل هذه الأفعال، لا عن ميل، وإنما بحكم الواجب.
10
وبعبارة أخرى، فنحن لا نحصل على امتياز في السماء، أو في أي كتاب يسجل استحقاقاتنا الأخلاقية، جزاء على تلك الأفعال الصالحة التي نقوم بها نظرا إلى كونها نافعة، أو لأن دوافع الشفقة أو التعاطف أو الحب تحضنا على أدائها. أما إذا أديت نفس هذه الأفعال، وربما أفعال أقل منها نفعا وجلبا للسعادة، بدافع الواجب المحض، فعندئذ تصبح على التو أفعالا أخلاقية تستحق كل احترام ممكن.
وكما يمكننا أن نتوقع: فقد ظل مذهب كانت الأخلاقي ينتقد ويتعرض للسخرية طوال ما يزيد على قرن ونصف قرن. ومن المؤكد أنه يشجع لأول وهلة على السخرية. ولكنه يعد نتيجة منطقية بالنسبة إلى الإطار العام لتفكير كانت، بل إن خصوم كانت أنفسهم قد اضطروا إلى الاعتراف بأنه قد صرح بأمانة بحقيقة صلبة حاول عدد كبير من المفكرين الأخلاقيين تجنبها أو تخفيفها على نحو ما - ألا وهي أنه إذا كان للواجب أي معنى، فهذا المعنى ليس هو «الميل» أو «اللذة». وبعبارة أخرى، فالواجب لا يعرض علينا مساومة ، وإنما هو يأمر، وليس أمامنا إلا أن نطيعه أو نعصاه، ولكن لا جدوى من البحث عن حلول وسطى أو هروب من الإلزام الكامل في منتصف الطريق.
نقد آراء كانت : على أن من الأسهل بكثير أن ننتقد كانت على هذا الأساس الواضح، وهو أنه قد تجاهل العوامل الاجتماعية التي تكون المضمون الفعلي للواجب، وتعمل على انتشاره. فهو، بالاختصار، كان مهتما أكثر مما ينبغي بإثبات أن أوامر الواجب مطلقة. ولكنه لم يدرك (أو على الأقل لم يعترف) بأن أوامر الواجب مهما تكن مطلقة، فإن المجتمع هو الذي يحدد المضمون الفعلي لهذه الأوامر ويعمل على نشر هذا المضمون. فقد يولد الأطفال ولديهم «ضمير» بمعنى القدرة الكامنة على إصدار أحكام أخلاقية، ولكن لا يمكن أن يعترف أي عالم نفسي أو عالم اجتماعي في أيامنا هذه بأن لهذه القدرة أية صفة أخرى غير كونها كامنة. فالضمير صفحة بيضاء، إن جاز هذا التعبير، يعمل المجتمع (ممثلا إلى حد بعيد في شخص الوالدين) على أن يسطر عليها الأوامر الأخلاقية منذ ساعة ميلادنا.
كذلك يمكن اتهام كانت بأنه قد أفرط في تأكيد القيمة العليا للإرادة الخيرة. مثال ذلك أنه قد أصدر هذه العبارة المشهورة: «لا شيء في هذا العالم أو خارجه يتصف بالخير دون قيد أو شرط ما عدا الإرادة الخيرة». ويبدو أنه كان غافلا عن حقيقة واضحة، هي أن الأحمق ذا النية الطيبة يستطيع في كثير من الأحيان أن يرتكب من الشر بقدر ما يرتكبه الشرير المتعمد. والواقع أن تأكيد «كانت» هذا كان جزءا ضروريا من مذهبه الكامل، القائل إن الأخلاق لا صلة لها بنتائج أفعالنا. وهو لا ينكر أن نتائج أفعالنا هامة لسعادة البشر، ولكنه ينكر على وجه التحديد أن تكون لهذه النتائج، سواء أكانت سعيدة أم لم تكن صلة بخيرية أفعالنا أو شريتها. ومن الواضح أن هذا يؤدي إلى وضع كانت ، من الوجهة الأخلاقية، في الطرف الآخر المقابل لكل القائلين بمذهب اللذة، الذين يحكمون بالطبع على الأفعال على أساس تأثيرها في السعادة أو اللذة فحسب . ولكن لما كان «كانت» قد هاجم مذهب اللذة عن وعي، فقد كان على استعداد تام للوقوف في الطرف المضاد لها.
ولنلخص الآن بإيجاز مذهب كانت الأخلاقي حتى هذه النقطة. فالمعيار الوحيد للأخلاقية عنده هو دافع الفاعل. فإذا ما أدى الفعل بنية طيبة وعن إحساس بالواجب، كان فعلا أخلاقيا على الفور. أما الأفعال التي نؤديها بأي دافع آخر، فهي إما أخلاقية وإما غير أخلاقية. وينبغي أن نلاحظ أن كانت لا يقول إن كل الأفعال البشرية ينبغي أن تؤدى بدافع الواجب. ذلك لأنه قد أدرك، حتى على الرغم من كل صرامته الأخلاقية، أننا نفعل أشياء كثيرة لا صلة لها بالأخلاق، كأن نقرر أية «فردة» حذاء نلبسها أولا، أو ما إذا كنا سنروي الحديقة قبل الظهر أو بعده. ولكنه يؤكد على نحو قاطع أن الأفعال التي نقوم بها عن طاعة لأوامر الواجب هي وحدها الأفعال الأخلاقية. (6) من الذي يصدر أوامر الواجب؟
عند هذه النقطة نصل إلى مسألة أخرى تتضمنها كل فلسفات الواجب - وأعني بها، من الذي يصدر ما يسمى «بأوامر الواجب»؟ ألا يفترض الأمر دائما أمرا من نوع ما؟ ألا ينطوي مفهوم الواجب بأسره على القول بوجود مصدر ذي سلطة يحدد ما هو واجب وما ليس بواجب؟
رد مذهب الألوهية المفارقة : إن كل من يعترفون «بالواجب» بوصفه العنصر الرئيسي في الحياة الخيرة، يعترفون أيضا بالنتيجة الضمنية السابقة. ولكنهم، كما هو متوقع، لا يتفقون على مصدر هذه الأوامر. ومن حسن الحظ أن الكثيرين ممن تسيطر على أذهانهم فكرة الواجب هم في الوقت ذاته من المؤمنين بوجود إله مفارق؛ إذ إن هذا الإيمان يحل المشكلة حلا تاما. فالله، في نظر مثل هذا المؤمن، هو الآمر، وأداء المرء لواجبه يعني الامتثال للإرادة الإلهية. ونحن ملزمون بأداء الواجب على هذا النحو بحكم نفس طبيعة علاقتنا بالله؛ إذ إننا مخلوقاته وعبيده، ومن البديهي أن تطيع المخلوقات خالقها، وأن يطيع العبيد ربهم.
وبطبيعة الحال فإن للمذاهب الدينية المتباينة أراءها الخاصة في طريقة إبلاغ الله أوامره إلى البشر. فمن بين المسيحيين مثلا نجد أن البروتستانت يعترفون بالكتاب المقدس أو الضمير الشخصي (أو مزيج منهما معا)، على حين أن الكاثوليك يقبلون سلطة الكنيسة (أي الإكليروس وبقية رجال الكنيسة). ولكن أي مؤمن بالألوهية المفارقة يرى أن الوسيلة التي يتصل بنا الله عن طريقها أقل أهمية بكثير من حقيقة كونه يتصل بالفعل. ولذا فإن أصحاب هذا المذهب، ممن تتسلط فكرة الواجب على أذهانهم، قلما يهتمون بالآراء المتعددة التي تصل إلى حد التناقض، والمتعلقة بالوسائل التي تصلنا عن طريقها الأوامر الإلهية.
ولكن من الذي يصدر الأوامر لغير المؤمنين بالألوهية المفارقة؟ هذا الإيمان بالله بوصفه مصدرا لأوامر الواجب قد ينفع تماما مع المؤمنين بالألوهية المفارقة. ولكن كيف يمكن أن تؤدي عبارة «إطاعة الأوامر الإلهية» إلى حل المشكلة بالنسبة إلى شخص ذي ضمير حي، مستعد لأداء أي شيء يتطلبه الواجب، ولكنه لا يؤمن بإله - أو لا يؤمن على الأقل بإله يصدر أوامر أخلاقية؟ إن أمثال هؤلاء الأشخاص موجودون في الحضارة الغربية، ويبدو أن عددهم في ازدياد، بل إن كانت ذاته، الذي كان مؤمنا بالله، قد أدرك هذه المشكلة. وقد حاول الإتيان بنظرية في الواجب تكون مستقلة عن الإيمان بالألوهية المفارقة، ومتحررة من جزاء المكافآت والعقوبات فوق الطبيعية. وهكذا كان المقصود من نظريته الأخلاقية أن تكون دنيوية ومسيحية في آن واحد - أو أن تكون، كما كان هو ذاته يفضل أن يصفها، عالمية شاملة.
وقد وصل كانت إلى هذه النتيجة عن طريق إرساء الأخلاق على أساس عقلي بحت؛ أي إنه يحاول أن يجعل الإلزام الخلقي مرتكزا تماما على المنطق. وهو يحاول، بطريقة يتميز بها كل مذهب عقلي، أن يثبت أننا كلما خرقنا قانونا أخلاقيا، أو لم نؤد واجبا، كنا في الوقت ذاته متناقضين منطقيا. فنحن نخرق قوانين المنطق والأخلاق معا بفعل واحد، وبذلك نعرض أنفسنا لنوع من الخطر المزدوج. ومن الواضح أن كانت يرى أنه إذا استطاع أن يثبت هذه العلاقة الضرورية بين اللاأخلاقية وبين التناقض العقلي، فإنه يكون قد أوجد أمتن أساس ممكن للإلزام. ولما كان أي فيلسوف من أصحاب المذهب العقلي يرى في التناقض المنطقي شرا قد لا يقل عن اللاأخلاقية، فمن الطبيعي أن يعتقد كانت أن المذهب الذي يقضي على كلا هذين الشرين في آن واحد يستحق أن نكافح من أجل الوصول إليه.
العنصر الشكلي في مذهب كانت : فلنتأمل الآن كيف يحقق «كانت» هذا الهدف المزدوج، وذلك بالطريقة التي ترضيه هو ورفاقه من العقليين على الأقل. والواقع أن رأيه هو أفضل مثال للشكلية الأخلاقية، التي لا تقوم الأفعال إلا على أساس اتساقها (أي اتفاقها الشكلي) مع بديهيات أو مصادرات معينة. فإذا اتفق الفعل مع واحد من هذه المبادئ العامة أو أمكن أن يستمد منه، فعندئذ يكون أخلاقيا، بغض النظر عن نتائجه. وبعبارة أخرى، فإن الاتساق الشكلي الذي يعلي أفراد هذه المدرسة من قدره إلى هذا الحد، يتم عن طريق كشف أو افتراض مبادئ أخلاقية عامة أولا، ثم استخلاص مذهب أو نسق أخلاقي من هذه. وما أشبه ذلك بنسق رياضي مثل هندسة إقليدس، التي تبدأ بحفنة من البديهيات (مثل «الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين» و«الكل مساو لمجموع أجزائه»)، ثم تستخلص من هذه المصادرات الأولية نظريات متعددة.
ولقد كانت أهم بديهيات «كانت» بل هي في الواقع البديهية الوحيدة التي تتصل بهدفنا في هذا البحث) هي: افعل دائما بحيث تود أن يصبح فعلك قانونا شاملا للبشر. ولاشك أن لهذه بعض الصلة «بالقاعدة الذهبية» التي تأمرك بأن تفعل للآخرين ما تود أن يفعلوه لك (أو تحب لأخيك ما تحب لنفسك). غير أن تأكيد كانت لمعنى الشمول يضفي على بديهيته مذاقا خاصا. «فهل أود أن يفعل كل شخص كما أفعل؟» إذا أمكننا بإخلاص أن نجيب «بنعم» على هذا السؤال، كان لنا أن نعد الفعل أخلاقيا، وإلا كان لا أخلاقيا.
مثال للتناقض : الكذب، مثلا، لا أخلاقي لأن الكاذب يفرض نفسه على المجتمع عن طريق جعل نفسه استثناء. فهو يتوقع من الآخرين أن يقولوا الصدق، وإلا فكيف يمكن تصديق أكذوبته؟ وبعبارة أخرى، فما لم يكن القول الصدق عاما، بحيث نأخذ عادة أقوال الناس على أنها صادقة دون أن نشترط عليها دليلا، فكيف يتسنى للكاذب أن ينتفع من أكذوبته؟ إن موقفه مشابه لموقف مزيف النقود، الذي يستطيع أن يروج تجارته ويجعل نقوده المزيفة المتداولة لأن الجزء الأكبر من النقود صحيحة غير مزيفة، تتداول بحرية دون أن يشك فيها أحد. غير أن قليلا من التزييف يكفي وحده للقضاء على نظام كامل للعملة، ما دامت النقود الزائفة تؤدي إلى طرد الصحيحة. وعلى ذلك فلا يمكن أن يوجد مزيف نقود يود أن تمارس حرفته الخاصة على نطاق واسع. والواقع أن أسوأ شيء يمكن أن يحدث له، باستثناء القبض عليه، هو أن يبدأ أناس آخرون في سك نقود زائفة بكميات تكفي لإلقاء سحابة من الشك حول العملة المقبولة. فلا بد أن تكون العملة صحيحة من أجل أن ينجح التزييف ولو مؤقتا، وكذلك الحال في الكذب: فلو أصبح عاما، لما صدقت أية عبارة يقولها أي شخص، ولما أمكن للكاذب أن ينجح على أساس تصديق الناس لأكاذيبه.
ولكن لا شك في أن هذا ينطوي على تناقض؛ إذ إن الكاذب يريد أن يصبح الصدق عاما، وموثوقا منه، ولكنه يريد أن يكون استثناء لهذه القاعدة العامة. وبالاختصار، فإنه لا يود أن يعمم سلوكه الخاص؛ لأنه لو أصبح هو «القانون العام للبشر» لساء مصيره. وعلى ذلك فهو يدعو أساسا إلى معيار معين لنفسه، وإلى معيار آخر لكل شخص عداه. وهكذا فإن من يكذب يقع في تناقض. فصاحبنا الكاذب هذا يقع في تناقض أساسي؛ إذ يجعل من نفسه استثناء - عن خرق القاعدة القائلة إن كل شخص، في جميع المواقف الاجتماعية، ينبغي أن يحسب فردا فحسب، وأن كل فرد ينبغي أن تكون قيمته مساوية لقيمة كل فرد، آخر أو، كما نقول عادة عن هؤلاء الأفراد، فهم يعترفون بالمعايير بألسنتهم، ولكنهم لا يطبقونها في أفعالهم.
لا بد في كل فعل غير أخلاقي من شيء من التناقض : يعتقد كانت أن كل سلوك غير أخلاقي ينطوي على هذا التناقض ذاته، ما دام ينطوي دائما على سلوك لا نود أن يصبح شاملا للجميع. ومن هنا فإن السلوك غير الأخلاقي هو في أساسه سلوك لامنطقي ولا معقول؛ لأنه يؤدي بالضرورة إلى إيقاع من يمارسونه في تناقضات منطقية. وهكذا يوجد أساس عقلي أو منطقي للأخلاق، مستقل عن الأمر الإلهي، وعن فروض الكنيسة أو العرف الاجتماعي، بل إن هذا الأساس مستقل عن كل سلطة، سواء منها البشرية أو الإلهية. فهو مستقل ذاتيا بالمعنى الدقيق. وربما كان الأوضح أن نصفه بأنه مكتف بذاته، فهو ليس في حاجة إلى دعامة من أي مصدر أو جهة خارجية. وكل ما يحتاج إليه من تبريرات يأتيه من القوانين الأولية للاستدلال السليم. وهكذا يكون هناك أساس للحكم الأخلاقي حتى لدى الشكاك والملحدين، على حين أن المؤمن بالألوهية المفارقة يكتسب أساسا إضافيا يدعم مذهبه الأخلاقي المستمد من الله.
على أن في استطاعة القارئ الناقد أن يكتشف أخطاء في موقف كانت، وذلك من حيث ادعاء كانت أن هذا الموقف يصلح أساسا لأخلاق شاملة ملزمة. فلنفرض مثلا أن شخصا يسلك سلوكا غير أخلاقي، لا يعبأ إن كان متناقضا أم لا ... فإذا اتهمنا هذا الشخص بأن سلوكه غير منطقي، ومتناقض، واكتفى هو بأن يهز كتفيه ويقول: «وماذا في ذلك؟» فما الذي نفعله عندئذ؟ وعلى أي أساس نستطيع أن نحرك مشاعره؟ وإذا لم يكن صاحبنا هذا من أنصار المذهب العقلي، ولم يكن يعبأ بالاتساق العقلي، فماذا نفعل معه؟ من الواضح أن كانت، حين وضع كل أسهمه في هذه الجعبة العقلية الواحدة، قد خاطر مخاطرة كبرى. فهناك دائما احتمال في أن يقوم شخص لا أخلاقي، لا يعبأ بالاتساق المنطقي، بسرقة الأسهم والجعبة معا.
الفضل الدائم «لكانت» : ولكن أيا كانت الأخطاء التي تكتشف في مذهب كانت الأخلاقي، فإنها ليست أخطاء منطقية. ومن المؤكد أنه طبق مثله الأعلى في الاتساق بكل اتساق. ومن المؤكد أيضا أن مذهبه ما زال أدق وأكمل محاولة بذلها فيلسوف من أجل إرساء الإلزام الخلقي على أساس عقلي بحت، مستقل عن الدعامة فوق الطبيعية التي تتمثل في الإرادة الإلهية . وبناء على هذه المزايا وحدها فهو يستحق الاحترام، حتى لو لم نكن نشعر بالميل الصادق إليه. فمن الجائز أن كانت لم ينجح في أن يجعل الحياة التي نحياها من أجل الواجب تبدو في أعيننا جذابة، ولكنه قطعا جعلها مثيرة منطوية على التحدي. وقد وضع أساسا لفلسفة في الواجب كان لها تأثيرها في أشخاص عديدين خلال أجيال متعاقبة. وقد يكون الشرط الذي حدده، وهو أن نفعل بعض الأمور لمجرد كونها واجبا علينا، لا لأي سبب آخر - قد يكون هذا الشرط فلسفة صارمة، ومع ذلك فقد كان هناك أشخاص ارتفعوا إلى مستوى تحدي هذه الصرامة الرفيعة، وكان عدد هؤلاء الأشخاص كبيرا إلى حد يدعو إلى الاستغراب. (7) «تحقيق الذات» بوصفه الخير الأسمى
من المرجح أن يكون أولئك القراء الذين كانوا يأملون أن يجدوا في المذهب الشكلي ترياقا فعالا لمذهب اللذة قد شعروا بخيبة الأمل. فبغض النظر عن مدى كراهية المرء للنظرية الأخلاقية التي لا تعترف بالتزام نحو أي شيء فيما عدا السعادة البشرية، فإن معظم الأذهان الحديثة تجد فكرة الأخلاق التي تتجاهل هذه السعادة تماما فكرة أكثر استحالة.
11
وهكذا نجد أنفسنا مدفوعين بالطبع إلى البحث عن رأي يقف موقفا وسطا بين طرفي مذهب اللذة والمذهب الشكلي هذين. وتعرف وجهة النظر العامة التي تحاول اتخاذ هذا الموقف الوسط بأسماء متعددة، من أكثرها شيوعا: تحقيق الذات
Self-Realization ، ومذهب الكمال
Eudaemonism ، ومذهب الفاعلية
Energism ، ومذهب السعادة
Endaemonism ، والنزعة الإنسانية
Humanism
ويبدو أن هناك ميلا متزايدا إلى الأخذ باسم مذهب تحقيق الذات بوصفه أفضل لفظ؛ ولذا فسوف نأخذ بهذا الاستعمال الشائع.
إن مذهب تحقيق الذات يرى أن أسمى خير هو تحقيق الشخصية أو الذات. وهذا يعني التحقيق الكامل لكل إمكانات الفرد وقدراته (أو نقلها إلى حين الفعل
Energizing
ومن هنا كان اسم «مذهب الفاعلية
Energism »). وفضلا عن ذلك فهو يعني أن كل هذه القدرات ينبغي أن تنمى بحيث تصبح كلا واحدا متكاملا: فالهدف هو الكلية مثلما أنه هو الاكتمال. والواقع أن تأكيد هذين الهدفين المتساويين هو الذي يميز مذهب تحقيق الذات من المذهب الشكلي من جهة ومذهب اللذة من جهة أخرى. فالمذهب الشكلي يؤكد طبيعة الإنسان العاقلة، ولكنه يضحي بمشاعره وأحاسيسه وحياته العاطفية بوجه عام. ومذهب اللذة يتطرف في الاتجاه المضاد، فينظر إلى الإنسان على أنه كائن ذو شعور وإحساس فحسب. وهكذا فإن هدفي المدرستين المنافستين لمذهب التحقيق الذاتي يبدوان ناقصين بالقياس إلى هدفها. فهي وحدها (في رأي صاحب مذهب تحقيق الذات) التي تسعى إلى إدراج جميع طاقات الإنسان وقدراته داخل كل متكامل. ولا بد أن يكون الخير الأسمى الصحيح الوحيد هو التطور المنسجم لجميع جوانب الطبيعة البشرية.
وحسبنا هذا الإيضاح البسيط لمذهب تحقيق الذات. ومع ذلك قلما كانت نتائج هذا الموقف هي التي جعلته قوة فعالة إلى حد بعيد في التفكير الأخلاقي المعاصر، فلزام علينا أن نقدم تحليلا أكمل لهذه النتائج.
تحقيق الذات و«القيم العليا» : يتحدث أنصار تحقيق الذات كثيرا عن «القيم فوق العضوية»، ويبدون اهتمامهم الأول ببلوغ هذه القيم. والمقصود من لفظ «القيم فوق العضوية» هو بوجه عام كل الخيرات أو القيم المغايرة لتلك التي تشبع الحاجات المادية أو البيولوجية البحتة للكائن العضوي. فبينما الإنسان يشارك الحيوانات جميع قيمه العضوية تقريبا، فإنه هو المخلوق الوحيد القادر على تحقيق تلك القيم فوق العضوية؛ أي تلك التي تعلو على الكائن العضوي بوصفه موجودا ماديا؛ ذلك لأن للإنسان حاجات وقدرات تتجاوز بكثير نطاق أعلى الحيوانات ذاتها. وهذه القدرات هي التي تهتم بها هذه المدرسة الأخلاقية بوجه خاص. فأنصار تحقيق الذات يشيرون إلى أن الإشباع العضوي لا يمكن أن يشكل إلا جزءا من «الحياة الخيرة»؛ لأن هذا الإشباع ليس إلا وسيلة فحسب، فهو الأساس المادي للحياة البشرية المتحققة على الوجه الأكمل. صحيح أن من الضروري إطعام الجسم وإيواءه وإرضاءه جنسيا، غير أن هذه ليست إلا المقدمات الضرورية للغاية الرئيسية للإنسان. والواقع أن تحقيق القيم العليا هو تحقيق الذات بمعناه الصحيح، وهذه القيم هي التي يضعها أفراد هذه المدرسة في أذهانهم عندما يقدمون الحجج تأييدا لموقفهم.
وهناك مدارس فرعية متعددة منتمية إلى حركة تحقيق الذات، تمضي في تأكيد هذه القيم العليا إلى حد أنها تقول ضمنا بمذهب ثنائي من نوع ما. فهي تهتم بالإرضاء فوق العضوي إلى حد أنها قد تميل إلى الإقلال من أهمية سعادة الإنسان المادية إلى أدنى حد ممكن. ويستخدم اسم «مذهب الكمال المثالي
Idealistic Perfectionism » عادة للتعبير عن موقف هذا الجناح الروحي. وفي الطرف الآخر نجد أنصار تحقيق الذات الذين ينظرون إلى قدرات الإنسان بمعنى مادي إلى حد بعيد. فهنا يصب الاهتمام على التكيف مع البيئة، أو التكيف البيولوجي. ويعبر لفظ «مذهب الكمال الطبيعي
Naturalistic Perfectionism » عن الطابع العام لهذا الجناح اليساري داخل نطاق مدرسة تحقيق الذات.
موقف جامع : تتألف أغلبية مدرسة تحقيق الذات من جامعة معتدلة تقف بين هذين الجناحين. وتقوم وجهة النظر المتوسطة هذه بجهد حقيقي لسد الثغرة التي تفصل بين الموقفين المتطرفين. فهي تحرص على ألا تؤكد أيا من القيم فوق العضوية على حساب الأخرى، وبدلا من ذلك تجعل هدفها هو التحقيق الكامل لكل القدرات البشرية، دون أن تركز اهتمامها الخاص على قدرة واحدة أو نوع واحد من القدرات. فهدفها الرئيسي هو الشمول، وهي لا تضع سلما من القيم يجعل المادي خاضعا للروح أو العكس. وقد يبدو ذلك لأول وهلة موقفا وسطا ناجحا، ومن يجد استجابة قوية لدى أشخاص كثيرين، يرون فيه أفضل هدف أخلاقي. ولكن من سوء الحظ أن هذا الحل، شأنه شأن كل حل وسط آخر، سرعان ما يظهر إخفاقه حالما نضعه موضع التطبيق؛ ذلك لأن الحياة ليست إلا سلسلة متصلة من أفعال الاختيار التي يتعين القيام بها. فلا بد لنا من أن نختار أي القدرات سنحققها، وأيها سنقرر على كره منا أنها ينبغي أن تظل في حيز الإمكان فحسب. ولعله لا يوجد شخص واحد يستطيع خلال حياته الخاصة وحدها أن ينمي كل القدرات الكامنة فيه. ولما كان الاختيار ينطوي دائما على معيار معين نختار على أساسه ، فسرعان ما نجد أننا قد عدنا من حيث بدأنا دون أن تحل مشكلتنا الأصلية. فأي القيم سنحقق، وأي القدرات سننمي، وأي معيار للكمال سنقبل ؟
اعتراضات أخرى على مذهب تحقيق الذات : كانت توجه من آن لآخر اعتراضات أخرى على مذهب تحقيق الذات بوصفه مثلا أخلاقيا أعلى. وعلى الرغم من أن أحدا من هذه الاعتراضات لا يبدو مؤديا إلى القضاء على المذهب، فلا بد أن الإشارة إليها باختصار على الأقل. ولعل أكثر الانتقادات ترددا هو ذلك الذي يقول إن هدف تحقيق الذات هو في أساسه هدف أناني؛ ذلك لأن تركيز الاهتمام على الذات بهذه الطريقة يؤدي - على ما يقال - إلى التعرض لخطر تقوية أسوأ مشاعر الأنانية والتركيز حول الذات. ونحن لا ننمي ذاتنا إلى الحد الأقصى إلا عندما نمحو أنفسنا في سبيل قضية ما، أو في خدمة من نحب. وكثيرا ما تقتبس في هذا الوضع كلمة من أعمق كلمات المسيح، بوصفها حجة ضد دعوة تحقيق الذات «من كسب حياته خسرها، ولكن من خسر حياته كسبها.»
وهناك اعتراض ثان على هذا المذهب، هو القول إن الناس قد «يحققون» أنفسهم بطرق مضادة للمجتمع. مثلما يحققونها بطرق يقرها المجتمع. فكلنا لدينا إمكانيات للشر تكون جزءا حقيقيا من «قدراتنا الكامنة» تماما كغيرها من القدرات المرغوب فيها بحق. ولكن الدعوة إلى تنمية كل القدرات الكامنة فينا لا توضح أي هذه القدرات ينبغي أن تكون له الأولوية، أو أيها ينبغي أن ننحاز إليه إذا اتضح أن كلا منها يتعارض مع الآخرين. وهنا أيضا نجد لمشكلة الاختيار أهمية قصوى، ولا يمكن أن يكون لمذهب التحقيق الكامل للذات قيمة بوصفه موجها لنا في القيام بمثل هذا الاختيار.
رد أنصار تحقيق الذات : لا يجد أنصار تحقيق الذات صعوبة في الرد على هذه الاعتراضات. فهم يردون على تهمة الأنانية بقولهم إن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع تحقيق أكبر قدر من إمكاناته إلا في علاقاته الاجتماعية. ولما كان من المستحيل حدوث نمو حقيقي للشخصية في فراغ اجتماعي، فإن تحقيق القيم الاجتماعية ينطوي بالضرورة أيضا على تنمية الشخصيات أو الذوات الأخرى كذلك. أما إذا كان المرء أنانيا فإنه يعوق بذلك نمو الذات الكلية. وعلى ذلك، فرغم أن سوء فهم المذهب - أو التصور الزائف للذات، على الأرجح - يمكن أن يؤدي إلى الأنانية، فإن هذا لو حدث لكان تشويها لوجهة نظر مذهب تحقيق الذات، لا نتيجة منطقية له. صحيح أن الاندماج الكامل في قضية أو في عمل يمليه الحب قد يكون أفضل طريقة لتحقيق أكبر قدر من النمو للذات، ولكن هذا إنما يثبت أن الذات نتاج اجتماعي قبل كل شيء.
ويلجأ صاحب مذهب تحقيق الذات إلى هذه الإجابة ذاتها للرد على التهمة القائلة إن الفرد قد يحقق ذاته بطرق لا يرضى عنها المجتمع؛ ذلك لأنه إذا كان الإنسان كائنا اجتماعيا، فمن العسير عليه أن يحقق أعلى نمو لشخصيته بطرق تتعارض مع تقدم المجتمع ونموه. ويضيف صاحب مذهب الكمال المثالي إلى ذلك حجة أخرى؛ إذ إنه يؤكد أهمية تنمية كل ما هو أعلى في الإنسان. ففي استطاعة من يؤمن بهذا المذهب، عن طريق تأكيده لهذا السلم المتدرج للقيم، أن يقول إن الواجب يحتم علينا وضع بعض قدراتنا الكامنة في مركز ثانوي إذا شئنا تحقيق ذات أو شخصية متكاملة، ولما كان الإنسان كائنا اجتماعيا، فلا بد أن تكون القدرات المضادة للمجتمع هي التي توضع في مركز ثانوي.
ومن الواضح أننا لا نستطيع السير في المناقشة أبعد من ذلك كثيرا دون أن نضطر إلى خوض ذلك المجال الذي ربما كان أعوص مجالات الفلسفة؛ وأعني به مشكلة «الذات». ومع ذلك فقد يكون في استطاعتنا، إذا سرنا بحذر، أن نكتفي بالمرور عند طرف هذه المشكلة، ونختم مناقشتنا لتحقيق الذات بعرض موجز لآراء عظم أنصارها، وهو أرسطو. (8) الأخلاق عند أرسطو
الحق أن العودة إلى التفكير الأخلاقي لأرسطو هي على الدوام تجربة تريح الذهن وتجدد نشاطه. فعلى الرغم من أن آراءه لم تكن بمنأى عن الهجوم، كما أن انتشار الديمقراطية أدى إلى ظهور بعضها بمظهر الترفع الكاذب، فإن تفكيره الأخلاقي يتسم بوضوح واتزان وجاذبية للعقل العادي (والأخيرة أهم هذه الصفات جميعا) تجعل هذا التفكير متعة في ذاته، مهما يكن عدد المرات التي نرجع فيها إليه. فكتابه الأخلاق إلى نيقوماخوس ليس فقط واحدا من أعظم المصادر في هذا الميدان، بل إنه أيضا واحد من المنابع التي لا تنضب لتجديد الفكر الفلسفي.
ولقد كان أرسطو يرى، على خلاف سلفه المباشر، أفلاطون، وأغلب المفكرين الأخلاقيين الذين ساروا في خطاه، أن المجال الواقعي الوحيد هو العالم الطبيعي المنظور. فالواقع والمثل الأعلى، والطبيعي والروحي، هما حقيقة واحدة لا تنفصم. مثل هذا الرفض للثنائية يعني أن الحياة الخيرة ينبغي أن توصف على أساس عالمنا هذا، دون أية إشارة إلى المجال العلوي أو المجال فوق الطبيعي. وقد عبر كاتب عن هذه الفكرة في الآونة الأخيرة بقوله إن الفكرة الأخلاقية، عند أرسطو «توجد في تركيب الطبيعة البشرية ذاتها»
12
وعلى ذلك فلا بد لكشف طبيعة الحياة الخيرة أو صورة الخير الأسمى من دراسة طبيعة الإنسان. فلكي نهتدي إلى «الخير» ينبغي أن نهتدي إلى إجابة عن سؤال أولي عظيم الأهمية، هو: بم يكون الإنسان إنسانا؟
بم يكون الإنسان إنسانا؟
يجيب أرسطو عن هذا السؤال بقوله إن الإنسان يكون إنسانا بأدائه لوظائف معينة. بعض هذه الوظائف نشترك في أدائه مع كل الكائنات الحية، وبعضها نشترك فيه مع الحيوانات وحدها، وبعضها الأخير ينفرد به نوعنا. وهكذا فإننا نشارك كل الأشياء الحية الوظائف «الغذائية» البحتة، كالتمثيل الغذائي، ونشارك الحيوانات عمليات الإحساس والحركة. غير أن قدرتنا على التفكير العقلي فريدة، وممارسة هذه الوظيفة هي التي تحدد بوضوح كامل معنى كون الإنسان إنسانا.
على أن هذه القدرة العقلية التي يختص بها الإنسان تمارس لدى مختلف الأفراد على أنحاء شتى؛ ذلك لأن الناس ينشدون أمورا متعددة، ولا شيء يتميز به نوعنا أكثر من تعدد الاهتمامات التي يتجه إليها الناس وتنوع الغابات التي يستهدفونها. وعند هذه النقطة يقدم أرسطو بعضا من أمثلته الشهيرة التي يقبلها العقل العادي بسهولة: فصانع اللجام يسعى إلى أن يصنع لجامات جيدة، والجندي يسعى إلى النصر أو إلى المهارة في التدريبات العسكرية، والمشتغلون بالأعمال الطبية ينشدون الصحة، وهكذا دواليك. ولكن كل أنواع النشاط هذه ليست في آخر الأمر إلا وسائل لغايات، وهكذا نعود مرة أخرى إلى النظر إلى ضروب النشاط البشري على أنها تكون سلسلة متدرجة من مظاهر «الخير» أو «القيم» وهذا ينطوي ضمنا على القول بغاية نهائية تكون متأصلة بحق، هي الخير الأسمى، أو كما يعبر عنها أرسطو «الخير الذي تستهدفه الأشياء جميعا». وهذا الخير الأسمى هو ما يطلق عليه أرسطو اسم
Eudaemonia
وهو لفظ يترجم عادة بكلمة «السعادة
Well-Being » أو «السعادة الحيوية».
السعادة بوصفها الخير الأسمى : من الطبيعي أن تكون سعادة كل نوع من الأنواع الحية مختلفة. ومع ذلك فإن قوامها في كل حالة هو النمو الكامل لتلك الوظائف التي يتميز بها هذا النوع بعينه. ويرى أرسطو أن هذه تكون عادة وظيفة واحدة، ما دام يرى أن لكل شكل من أشكال الحياة نشاطه النوعي المميز. وهكذا تكون مشكلتنا هي كشف الوظيفة التي يؤديها الإنسان على أفضل نحو، والتي ينفرد بها عن غيره ما دامت سعادة الإنسان إنما تنحصر في تنمية هذه الوظيفة أو هذا النشاط إلى أقصى حد. ولقد رأينا أن هذه الوظيفة لا يمكن أن تكون هي عمليات التمثيل الغذائي التي يقوم بها الإنسان، ما دامت كل الكائنات الحية تقوم بنفس هذه الوظيفة. كما أنها لا يمكن أن تكون طبيعته الحاسة أو المتحركة. ما دامت الحيوانات تشارك الإنسان هذه الطبيعة. وعلى ذلك فلا بد أن نجد الخير الأسمى للبشر في أوجه النشاط العقلية التي ينفرد بها الإنسان.
وهكذا يظهر في مذهب أرسطو الأخلاقي عرض منظم للفكرة القائلة إن تحقيق القيم فوق العضوية هو الخير الأقصى. ولو شئنا أن نعرض رأي أرسطو بطريقة أدق لقلنا إن الخير الأسمى للإنسان إنما يكون في رعاية وتنمية جميع وظائفه، مع الاهتمام بوجه خاص بتلك التي تجعل منه مخلوقا عاقلا وكائنا اجتماعيا. وكما أن فضيلة عازف الناي إنما تكون في براعته في العزف على الناي وفضيلة المثال إنما تكون في مهارته في ممارسة فنه، فإن فضيلة الإنسان إنما تكمن في المهارة التي يمارس بها الفن الذي يكون به إنسانا. وهذا الفن، كما رأينا، هو أن نعيش على أساس طبيعتنا العاقلة بقدر الإمكان. فحياتنا الخيرة إنما هي تعبير عن العقل.
الوظيفة المزدوجة للعقل : من الممكن ممارسة طبيعة الإنسان العقلية في اتجاهين. فهي تستخدم، لدى السواد الأعظم من البشر، في التحكم في العنصر الحسي والنزوعي لدينا؛ أي التحكم في طبيعتنا اللاعاقلة. ولقد أكد أرسطو أهمية الاعتدال أو «الوسط العدل» بوصفه أفضل مرشد يعيننا على تنظيم حياتنا وفقا للفضيلة. فالسلوك يكون فاضلا بحق إذا كان يسير في طريق وسط بين طرفي الإفراط أو التفريط، كما هي الحال عندما نكون «شجعانا» بدلا من أن نكون «متهورين» من جهة، أو «جبناء» من جهة أخرى. وفضلا عن ذلك فإن الحياة الفاضلة هي حياة أصبح فيها السلوك الفاضل عادة - أي أصبح فيها العقل - يجدد آليا الوسط الموجود بين طرفين، وأصبح هو الحكم الموثوق منه فيما يصلح الزمان والمكان والظروف الخاصة. وحين نحقق كل قدراتنا عن طريق تكاملها والتحكم فيها بطريقة متوازنة، فلن يكون في ذلك أفضل تحقيق لذاتنا فحسب، بل سيكون فيه سعادتنا أيضا؛ ذلك لأن السعادة، كما يقول أرسطو آخر الأمر، هي في أساسها مصاحبة للأداء الصحيح للوظيفة. فهي ناتج ثانوي، إذا شئنا استخدام هذا اللفظ الذي استعملناه من قبل، فالسعادة تتوج الأداء الصحيح للوظيفة مثلما أن «نضرة الشباب تتوج من هم في زهرة العمر».
ومع ذلك فإن أرفع معيار للخير البشري ليس هو اللذة ولا الفضيلة التي تكتسب عن طريق التحكم العقلي في طبائعنا اللاعاقلة. وإنما هو يكمن في ممارسة التأمل النظري
Theoria . فأرفع سعادة يستطيع الإنسان الوصول إليها هي التمتع بالعقل بوصفه غاية في ذاتها؛ أي التفكير من أجل التفكير. هذا النشاط يمثل أكمل نمو لوظيفة الإنسان الفريدة. وفضلا عن ذلك فإن تنزه هذا النشاط يجعل الرضاء الذي ينجم عنه رضاء مضمونا، حتى لو كانت طبيعته تجعله مستقلا إلى حد بعيد عن الظروف. والواقع أن أرسطو يتفق تماما مع أبيقور في حماسته للذات الفلسفية. وهو يصف هذه بأنها أنقى اللذات؛ إذ إنها لا تشوبها شائبة من الألم الذي تقترن به اللذة الباهظة الثمن أو التي يترتب عليها شعور مقبض بالألم. وحين يمجد أرسطو التأمل النظري، نراه يتخلى عن طريقته المألوفة في العرض، وهي عادة طريقة علمية هادئة، ويحلق في آفاق شاعرية. فهو يصف السعادة القصوى لحياة التفكير التأملي بقوله:
غير أن حياة كهذه تكون أرفع مما ينبغي بالنسبة إلى الإنسان (أي إذا عاشها المرء طوال عمره)؛ ذلك لأنه لا يحياها بما هو إنسان، بل بما يوجد فيه من عنصر إلهي. وبقدر ما يسمو هذا العنصر على طبيعتنا المركبة، يكون نشاطه أرفع من ذلك الذي نمارس فيه النوع الآخر من الفضيلة. فإذا كان العقل إلهيا بالقياس إلى الإنسان، فإن الحياة وفقا له تكون إلهية بالقياس إلى الحياة البشرية.
13
انتقادات : أخذ النقاد على أرسطو تعلقه الشديد بحياة التأمل لسببين؛ أحدهما كان نتيجة سوء فهم، أما الآخر فصحته مشكوك فيها. فأحيانا يساء فهم أرسطو فيقال: إنه يقصد أن أسمى حياة هي حياة من يحرك نسيجا تأصليا من النظريات الميتافيزيقية الفارغة - وهو التصوير الساخر الذي يشيع وصف الفيلسوف به. غير أن القراءة المتمعنة لكتاب «الأخلاق» تبين أن أرسطو لم يكن في ذهنه أي نشاط كهذا يتم في برج عاجي، إذ يبدو أن العالم أقرب إلى مثله الأعلى من الفيلسوف التقليدي، على الرغم من أن هذا المثل الأعلى يمكن أن ينطبق على الفيلسوف إذا كان تفكيره نابعا من الحياة ويمثل تأملا في التجربة البشرية بمعناها العام. ويمكن القول إن العالم الرياضي أقرب إلى مثل أرسطو الأعلى، في بعض النواحي، من كل من الفيلسوف والعالم؛ إذ إنه لو كان هناك مفكر يبدو مستمتعا بالتفكير لذاته، فذلك المفكر هو الرياضي. ومع ذلك فإن للفيلسوف ميزة يتفوق بها على كل المشتغلين بالتأمل: هي اتساع نطاق معرفته وتجربته التي نسميها «بالحكمة». ذلك لأن الفيلسوف، كما يقول أرسطو، «يستطيع تأمل الحقيقة ... وكلما تعمق في تأمله لها كانت حكمته أعظم».
أما الاعتراض الثاني الذي يثار أحيانا ضد حياة التأمل؛ ففيه يتهم أرسطو بأنه يدافع عن معيار أرستقراطي مترفع، لا يمكن أن يصل إليه إلا الشخص المثقف الذي يتمتع بموارد اقتصادية وفيرة. وهذه التهمة تتصف بشيء من الصحة؛ إذ إن من المؤكد أن أرسطو يعترف بأن الشخص الذي تتوافر لديه قدرة معينة على ممارسة التفكير المجرد المنزه هو وحده الذي يصل إلى حالة السعادة هذه. وهو يذكر صراحة أن «الحياة وفقا للعقل» هي بالنسبة إلى معظم الناس تلك الحياة التي يستخدم فيها العقل أساسا لكبح الجانب الشهواني من طبيعتنا. وهو بعبارة أخرى يعترف بأنه يهتم بأرفع ما في الإنسان من حيث هو نوع، لا بما هو أرفع في كل إنسان فردي. فإن كانت هذه أرستقراطية، فتلك هي أرستقراطية العقل وحده.
إمكان تحقيق المثل الأعلى عند أرسطو : كان من الممكن أن تكون التهمة القائلة إن تحقيق هذه الطريقة في الحياة يحتاج إلى دخل مستقل، صحيحة إلى حد بعيد في أيام أرسطو. ولكنه مع ذلك ينكر صراحة أنه لا بد من أي شيء أكثر من دخل محدود - أعني دخلا يكفي فقط لإتاحة وقت معقول من الفراغ لنا. أما في أيامنا هذه، فقد أتاحت التكنولوجيا هذا الفراغ لجزء كبير من الناس، وتدل الدلائل على أنها ستتخذ في المستقبل للناس جميعا. وإذن فعلى الرغم من أن المثل الأعلى للسعادة البشرية عند أرسطو ربما كان ينطوي على «إحساس طبقي» في الوقت الذي صيغ فيه، فإن هذه الصفة المعيبة تختفي بسرعة. وقد يشهد الأشخاص الذين هم أحياء في وقتنا هذا، ذلك اليوم الذي يتمكن فيه الناس جميعا، بقدر ما تسمح لهم مقدرتهم واتجاهاتهم، من تحقيق نمط «الحياة الخيرة» هذا.
تلخيص : يحسن بنا تلخيص هذا الفصل بإيجاز؛ إذ إن ما ذكرناه فيه من أسماء ووجهات نظر عديدة يجعل الخلط بينها يسيرا، بل مرجحا.
لقد بدأنا بالتمييز بين نوعين من مذهب اللذة، النوع النفسي والنوع الأخلاقي. وبعد عرض الحجج المؤيدة للموقف النفسي والمعارضة له، انتهينا إلى أن المذهب ربما كان أبسط من أن يكون مقنعا، وهذا هو علة رفض علم النفس الحديث له. أما مذهب اللذة الأخلاقي فقد رأيناه حيا إلى حد بعيد، وما زال أنصاره العديدون يكونون مدرسة من المدارس الرئيسية في الفكر الأخلاقي. وقد ناقشنا أربعة أمثلة لمذهب اللذة، اثنين من الفلسفة القديمة واثنين من الحديثة. فمذهبا أريستيبوس وأبيقور يمثلان معا مذهب اللذة الفردي أو «الأناني». وكلاهما ينظر إلى اللذة على أنها الخير الأوحد، ولكن بينما أريستيبوس يؤمن بنظرية ساذجة لا تقدر إلا شدة اللذة، فإن أبيقور يرتقي بهذا المذهب فيؤكد عنصري الدوام والثمن (من حيث الطاقة المبذولة والألم أو رد الفعل السيئ الناجم عنها). وهذا يؤدي إلى امتداح اللذات الاجتماعية والعقلية أكثر من اللذات البدنية، كما أنه يشيد بوجه خاص بالمتع التي تجلبها الصداقة والفلسفة. كما لاحظنا أنه بينما أريستيبوس يتخذ موقفا إيجابيا واضحا من اللذة، فإن مذهب أبيقور هو في أساسه سلبي من حيث إنه ينظر إلى الخير الأسمى أنه التحرر من الألم أو الحزن.
ويمثل مذهب المنفعة عند بنتام تغيرا رئيسيا في داخل مذهب اللذة؛ إذ إنه يتعلق بالسعادة الاجتماعية أو الخير العام، لا باللذة الشخصية وحدها. ومع ذلك فإن هذا التغير لا يمثل إلا إضافة إلى المذهب السابق، الذي يحاول بنتام أن يجعله أدق عن طريق وضع صيغة حساب للذات، نزن فيه العناصر الإيجابية (كالشدة والمدة واليقين والانتشار الجماعي إلخ) في مقابل العناصر السلبية، لكي نحدد قيمة أي فعل أو موقف. ومع ذلك فلعل أعظم فضل يرجع إلى بنتام كان تأكيده أن من الواجب تقويم الأشياء على أساس السعادة البشرية، لا على أساس اتفاقها مع مثل أعلى نظري أو علوي أو ديني معين.
أما مل فقد أدخل على مذهب اللذة عاملا جديدا كل الجدة، بل ربما كان عاملا فيه «هرطقة» (من وجهة نظر المذهب)، وذلك إذ جعل من نوع اللذة (أو كيفها) عنصرا في تحديد قيمتها، على حين أن جميع المفكرين السابقين المنتمين إلى هذه المدرسة قد تمسكوا بمعيار كمي خالص في تقويم اللذات البشرية.
وفي النصف الثاني من هذا الفصل تناولنا مختلف الانتقادات الموجهة إلى مذهب اللذة (وردود الأفعال على هذا المذهب ). فبحثنا أولا الاعتراضات الأساسية التي توجه إلى المذهب في صورته العامة. وكان هناك اعتراضان بارزان على نحو خاص، هما القائلان إن النظرية (أ) غير جديرة بأسمى طبيعة للإنسان (ب) وغير كافية بوصفها معيارا أخلاقيا. أما أول هذين الاعتراضين فكان الرد عليه سهلا؛ إذ إنه يبدأ بحثه عن «الخير» بفكرة سابقة عما ينبغي أن يكون عليه الخير. أما تهمة عدم الكفاية فأخطر بكثير، وقد ناقشناها بطريق غير مباشر عندما قدمنا تحليلا كاملا للفلسفتين الرئيسيتين المضادتين لمذهب اللذة، وهما: المذهب الشكلي، ومذهب الكمال (أو تحقيق الذات).
وقد عرض المذهب الشكلي، أساسا، من خلال دراسة الأخلاق الكانتية؛ إذ إن «كانت» دون شك أبرز ممثل لهذه المدرسة. ولاحظنا أن صاحب المذهب الشكلي يبحث عن سلطة أخلاقية معينة تحل محل الإيمان المسيحي بإرادة عليا لإله واحد تعد مصدرا لهذه السلطة، وهو الإيمان الذي بدأت تتداعى قوته. كما لاحظنا القواعد الأولية (القبلية) والأمر المطلق، وكلها مبادئ وضعها كانت لتحل محل السلطة الدينية الملزمة، وبحثنا في عناصر القوة في أي مذهب أخلاقي مبني على هذه الأسس الشكلية، وكذلك في الحدود التي لا يتعداها مثل هذا المذهب.
أما مذهب الكمال أو «تحقيق الذات» بوصفه الخير الأسمى فيتخذ لنفسه مثلا أعلى من اكتمال الشخصية. ويتم ذلك عن طريق تحقيق كل الممكنات أو القدرات الموجودة لدى كل فرد إلى أقصى درجة ممكنة. ومع ذلك فلما لم يكن من الممكن أن يكون ذلك مثلا أعلى نظريا (نظرا إلى قصر عمر الإنسان)، فإن المدارس المختلفة لمذهب الكمال تختار فئات أو مستويات معينة من المقدرة البشرية بوصفها الأكثر دلالة، وتجعل لما يتبقى مكانة ثانوية. وهكذا فإن أقوى هذه المذاهب الفرعية تأثيرا، وهو مذهب «الكمال المثالي» يؤكد القيم فوق العضوية، ويصل في ذلك أحيانا إلى حد الاستهانة بتحقيق الممكنات الجسمية. أما «مذهب الكمال الطبيعي» فيؤكد، على عكس ذلك، أن الهدف هو التكيف مع البيئة أو التكيف البيولوجي.
ويعد تفكير أرسطو الأخلاقي مثلا قديما لنظرية تحقيق الذات، ولكنه مثل ما زال له تأثيره. فهنا يكون الخير الأسمى في الممارسة الحرة لذلك النشاط الذي هو المميز بحق لأي نوع بعينه وهو في حالة الإنسان، النشاط العقلي، ما دامت حياتنا الفعلية هي التي تميز البشرية من بقية النظام الحيواني أوضح تمييز. وعلى الرغم من أن من الممكن ممارسة هذا التفكير العقلي على أنحاء شتى، فإن أرسطو يرى أنه يحقق على ممكناته في النشاط التأملي الفكري الذي يتمثل بأوضح صورة في الفلسفة.
الفصل الرابع عشر
الحتمية في مقابل اللاحتمية
ما مدى حرية الإنسان؟
رأينا أن تحليل مفهوم الإلزام يؤلف قدرا كبيرا من التفكير النظري الأخلاقي. فمن أين تأتي «وجوبية» الوجوب؟ وما واجبنا؟ ولم كان واجبا علينا؟ ولم كان ينبغي علي أن أؤدي واجبي؟ هذه الأسئلة، مضافة إلى تلك التي تتركز في مشكلتي الخير الأسمى والحياة الخيرة، تدل على أن الأخلاق دراسة معيارية
Normative
تختص بتعريف معايير أو مقاييس معينة.
ومن بين المسلمات الأساسية التي يتعين على أية دراسة معيارية أن تأخذ بها، ما يطلق عليه اسم «مصادرة الإمكان
». هذه المصادرة ترى أن المعايير التي نضعها لأي ميدان ينبغي أن تكون قابلة للتحقيق إلى حد ما. وقد ظللنا حتى الآن نأخذ بهذه المسلمة خلال مناقشتنا للمشكلة الأخلاقية؛ إذ إننا قد سلمنا بأن الإنسان يستطيع تحديد طبيعة السلوك المثالي، ثم تحقيق هذا المثل الأعلى - جزئيا على الأقل. ولكن الوقت قد حان الآن لكي نعترف بأن هذه مسلمة جريئة جدا. أعني مسلمة قد لا يكون لها أساس من الواقع. ونحن إذ ندلي بهذا الاعتراف إنما نقر بأننا قد سلمنا أيضا بشيء له في الأخلاق مكانة أساسية تفوق مكانة المسلمة السابقة ذاتها. فنحن قد افترضنا طوال الفصلين السابقين أن الإنسان فاعل حر؛ أي إنه سيد إرادته، والمتحكم الوحيد في أفعاله، وصانع مصيره الأخلاقي الخاص. وبالاختصار، فنحن قد سلمنا بحرية الإرادة، متجاهلين إمكان أن تكون أفعال الإنسان محددة بدقة عن طريق قوانين العلة والمعلول، شأنها شأن حركات الصخرة حين تهوي. فقد ظللنا طوال الوقت نتجنب مشكلة من أكبر المشاكل الشائكة في الفلسفة، وأعني بها مشكلة الحتمية في مقابل اللاحتمية؛ لذلك فسوف نخصص الجزء الأكبر من هذا الفصل لتلافي هذا النقص. (1) تاريخ النزاع حول حرية الإرادة
تتبعنا، في مناقشتنا المبدئية لمشكلات الفلسفة (الفصل الأول) الأصول التاريخية للنزاع حول الحتمية. وبينا كيف أن مبدأ العلية قد أخذ يمتد تدريجيا ليشمل ميدانا تلو الآخر، فقد أخذ نطاق مبدأ العلية يتسع، منذ صياغته الأولى في أبسط قوانين الميكانيكا، حتى أصبحت تدخل في إطاره آخر الأمر ميكانيكا الوراثة ذاتها. ذلك لأن استتباب النظام والقانون العلمي قد أدى في البداية إلى التحكم في سلوك الأشياء المادية، ثم إلى التحكم بعد ذلك في سلوك أشياء تعلو على هذه الأرض، كالنجوم والكواكب. وعندما تبين أخيرا أن سلوك الحيوانات يمكن التنبؤ به على الأقل، وكشفت نظرية دارون عن تلك العملية المنتظمة الهائلة التي تتحكم في أشكال الحياة ذاتها، بدا كأن الزحف المطرد للحتمية قد بلغ أقصى مداه. فقد تبين عندئذ أن كل الحوادث في المجال الطبيعي هي نتائج مباشرة لحوادث سابقة، وأن الظواهر الواقعة في نطاق تجربتنا تكاد كلها تكون قابلة للتفسير (أو يلوح أنها ستكون قابلة للتفسير) على أساس قوانين العلة والمعلول الصارمة. وظهر بوضوح متزايد أن العمل الرئيسي للعلم إنما هو صياغة هذه القوانين العلية. واقتنع العلماء أنفسهم بأن في استطاعتهم تلبية كل ما يطلبه الذهن من تفسيرات، وذلك إذا أمكنهم إعلان الاندماج التام بين مختلف أوجه تجربتنا في نسق واحد هائل من علاقات العلة والمعلول. وفي هذه الأثناء، ازداد الفلاسفة اهتماما بمشكلة العلية، وأصبحوا بدورهم يشعرون بأن مفهوم «العلة» مفهوم رئيسي في التجربة البشرية. وهكذا أصبح نطاق الحتمية، عند نهاية القرن التاسع عشر، يكاد يكون شاملا.
ومع ذلك فقد ظلت هناك قطعة أخيرة صغيرة من الأرض التي لم يتم غزوها، فقد ظل الإنسان ذاته خارج نطاق القانون العلي. وكانت «الطبيعة البشرية» لا تزال شيئا منعزلا عن «الطبيعة»؛ إذ إنها كان تعد مستقلة عن مبدأ الحتمية. وبالاختصار، فقد كان ينظر إلى الإنسان على أنه استثناء. ومهما يكن من أحكام السلاسل العلية التي تربط بقية الكون، فإن أفعال الإنسان ودوافعه كانت تعد حرة إلى حد ما: ذلك لأن في استطاعته في أي وقت أن يتخذ قرارا أو يؤدي عملا لا صلة له بقراراته أو أعماله السابقة. صحيح أن سلوك الحيوان يبدو مجرد استجابة للقوى المادية (التي تسمى بالمنبهات)؛ وبالتالي فإن كل فعل تقوم به هو فعل علي. غير أن الإنسان يستطيع على ما يبدو أن يسبب أفعاله الخاصة، أما بكسر سلسلة علية مستمرة بالفعل، وإما ببدء سلسلة جديدة من أول الأمر.
أنصار فكرة التحدد في العصور السابقة : ظهرت، قبل نهاية القرن التاسع عشر بفترة طويلة، احتجاجات قوية على هذه النظرة إلى الإنسان بوصفه استثناء من المبدأ العلي الشامل، غير أن أصحاب هذه الاحتجاجات كانوا أقلية ضئيلة. ففي العصر اليوناني القديم قال مفكرون ماديون مثل ديمقريطس بشمول هذا المبدأ. وكان أول مذهب حديث في الحتمية الفلسفية هو مذهب الفيلسوف الإنجليزي «توماس هوبز»، الذي صيغ في أواسط القرن السابع عشر. غير أن أعظم الحتميين المحدثين كانوا اسبينوزا، الذي توفي عام 1677م.
وقد وصفنا من قبل هذا الفيلسوف اليهودي العظيم بأنه كان منبوذا من أبناء طائفته ومن المسيحيين المتمسكين معا، وينبغي أن نشير الآن إلى أن مذهبه الحتمي ربما كان هو الذي أدى إلى طرده من الديانة اليهودية أكثر من إلحاده المزعوم ذاته. وعلى الرغم من أن هيوم وغيره قد انتقدوا فيما بعد مفهوم العلية عند اسبينوزا، فإن موقفه الحتمي العام، ولا سيما في تطبيقه على الإنسان ما زال في الأذهان وقع حديث إلى حد يدعو إلى الدهشة. ولن نكون مبالغين إذا وصفنا هذا الجانب من تفكيره بأنه كان سابقا لزمانه بقرنين كاملين.
الاتجاه المزدوج في موقف ديكارت : سوف نقدم بعد قليل وصفا أكثر تفصيلا لموقف اسبينوزا، ولكن ينبغي أن نعرف أولا على أي شيء كان رد فعله. ذلك لأن ديكارت ، الذي ولد قبله بجيل واحد، كان قد وضع مذهبا جريئا، وإن كان مع ذلك قد ظل في حدود ما هو معترف به. فمن مظاهر ثنائيته المشهورة أنه وضع حاجزا أساسيا بين «الطبيعة» وبين «الطبيعة البشرية». وقد تصور كل شيء ما عدا الإنسان بأنه مقيد تماما بقوانين حتمية. وحتى الحيوانات كانت في نظره مجرد أجسام آلية، تستجيب للمنبهات بطريقة ميكانيكية بحتة، بل إن مذهب ديكارت صل إلى حد إنكار وجود وعي لدى الحيوانات، فهي مادة عضوية فحسب، تنتمي بأكمله إلى عالم «الامتداد»، ولا تحركها إلا قوانين الميكانيكا. أما الإنسان فهو وحده الذي وجد فيه عالم أو يؤثر فيه. وإذا كانت أجسام البشر مجرد أجزاء من عالم المادة الممتدة، لها نفس مكانة الأجسام الحيوانية، فإن للإنسان فضلا عن ذلك وعيا ونفسا خالدة. هذا الوعي وهذه النفس ينتميان، كما هو واضح، إلى عالم آخر هو عالم «الفكر»، بحيث يمثل وحدة تجمع بين «الجوهر المفكر» و«الجوهر الممتد».
ولقد قال البعض أن ديكارت قد اضطر إلى اتخاذ موقف الحذر بعد اضطهاد محاكم التفتيش لجاليليو وغيره من المفكرين التقدميين، وأنه بالتالي قد صاغ هذا المذهب الثنائي لكيلا يقع تحت طائلة الكنيسة التي كان سلطانها ما زال طاغيا. على أن من المؤكد أن نتيجة هذا التشعب المزدوج للواقع كانت تحرير العالم الطبيعي، الفيزيائي منه والحيواني، من تلك المفاهيم العقيمة علميا، من أمثال «العلة الغائية» و«القصد النهائي». وترتب على ذلك أن العلم تمكن من أن يبدأ سيره على أساس حتمي بحت. ومنذ ذلك الحين كانت للعلم الحرية في أن يسير في طريقه الخاص، ما دام مبتعدا عن مجال اللاهوت؛ أي عن موضوعات مثل أصل الإنسان وطبيعته ومصيره ... ومن الجائز أن ديكارت كان مخلصا في إيمانه بالثنائية، غير أن نتيجة هذا التقسيم الثنائي قد حققت كل ما كان يمكن أن يرغب فيه كان قد حاول عن عمد أن يفصل العلم الفيزيائي عن اللاهوت. ولكن من سوء الحظ أنه حين حرر العلم الفيزيائي من سيطرة الكنيسة على هذا النحو، قد كبل علم النفس، دون أن يدري، في أغلال عقلية؛ إذ إن نفس هذا العلم، الذي يتخذ من الذهن أو الوعي موضوعا، بدأ داخلا في المجال اللاهوتي. وترتب على ذلك أن استبقيت في هذا الميدان على التخصيص تلك المفاهيم القديمة في الغائية والغرضية، التي استبعدت من كل العلوم الأخرى.
ولقد كانت إعادة تأكيد خضوع البحث في الإنسان للاهوت على هذا النحو هي التي دفعت اسبينوزا إلى الثورة؛ إذ إنه كان يعتقد أن أفعال الإنسان خاضعة للحتمية الدقيقة، شأنها شأن أي شيء في الطبيعة. فمع اعتراف اسبينوزا بقدرة الإنسان على تصور أي هدف والسلوك في اتجاه ذلك الهدف، فإنه مع ذلك قد وضع للسلوك الإنساني قانونا عليا يربطنا ببقية العالم الطبيعي ربطا مباشرا. أما شعورنا بالحرية فما هو، باختصار، إلا وهم. وعلى أية حال فسوف نقول المزيد عن تفكير اسبينوزا بعد قليل. (2) الوضع الحالي للنزاع
لم تتوصل الفلسفة إلى النتائج الكاملة للمذهب الحتمي عند اسبينوزا إلا بعد ما يقرب من مائتي عام. وخلال هذه الفترة تطور العلم من حالة عدم الثقة بالنفس، التي كانت تميز عهد مراهقته، حتى اقترب من عهد نضجه الحالي، وكان هذا التطور دائما في اتجاه الحتمية الأكثر شمولا. فكل كشف يتم في معمل، وكل فرض يحقق، يعني أن جزءا آخر من العالم الطبيعي قد خضع لقوانين العلة والمعلول. وهكذا أخذت حدود الحتمية تتسع باطراد، وفي الوقت ذاته ازدادت باطراد أيضا ضرورة تحدي العلم لمركز الإنسان الفريد خارج حدود العلية. وأخيرا، استهل عهد هذا التحدي في نصف القرن الماضي، وعند مطلع القرن العشرين كان هذا التحدي قد بلغ من القوة حدا جعل الرأي المحافظ يقف موقف الدفاع.
ولكن من سوء الحظ أن محاولات توسيع نطاق الحتمية بحيث تمتد إلى المجال البشري قد أدت إلى زيادة في التوتر ونقصان في الموضوعية؛ ذلك لأن الناس يستطيعون مناقشة المسائلة المتعلقة بالنجوم بقدر كبير من التنزه، ولكنهم يجدون تحليل أفعالهم أمرا مختلفا كل الاختلاف. وقد كانت هناك صعوبة أخرى هي أن توسيع نطاق المفاهيم العلية الدقيقة بحيث تشمل الأمور البشرية، كان يتطلب تعديلا عميقا ودقيقا في المصطلح المستخدم في هذا الموضوع. وفي كثير من الحالات لم تكن هذه التعديلات تدرك عن وعي، فأدى ذلك أحيانا إلى التوسع في استخدام المفاهيم الآلية إلى حد الإفراط الشديد. ولذلك كان من الواجب علينا أن نعرف ألفاظنا الرئيسية ونستخدمها بأكبر قدر ممكن من الدقة والحذر.
الخلط بين الحتمية والقدرية : كان من العوامل الأخرى التي أدت إلى زيادة تعقيد النزاع الناشب حول الحتمية، عدم القدر على التمييز بين هذا الرأي وبين القدرية
Fatalism
منذ البداية. فخصوم الحتمية قلما كانوا يستطيعون أن يدركوا (أو أن يعترفوا على الأقل) أن هناك فارقا بين الموقفين، على حين أن الحتمي ذاته كان يشعر بأن الفارق بين الاثنين عميق. ولو شئنا الدقة لقلنا إن القدرية هي مذهب الحتمية المقدرة
كما أن المصطلح الشائع «الجبرية
» يصلح بدوره مرادفا، بشرط ألا تكون في أذهاننا فكرة معينة من أفكار المذهب اللاهوتي عند «كالفان». فالقدري يرى أن كل حادث في الكون مكتوب أو مقدر منذ البداية، وذلك من حيث وقت حدوثه وطريقة حدوثه معا. وليس ثمة وسيلة لتغيير هذا الاتجاه المقدر للحوادث، فعندما يأتي الوقت «سيحدث ما ينبغي أن يحدث». ويعبر أحيانا عن هذا القانون الصارم للقدر تعبيرا شعريا بالقول إن مصير المرء مكتوب في النجوم.
وترتبط القدرية تقليديا باتجاه أقرب إلى أن يكون شرقيا منه إلى أن يكون غربيا. ففي الفكر الإسلامي يعبر لفظ «القسمة» عن مذهب مشابه، وكثيرا ما يترجم اللفظ (ولكن بطريقة غير كاملة الدقة) بلفظ يعني «المكتوب». وقد عبر عمر الخيام عن هذا الاتجاه تعبيرا كلاسيكيا إذ قال:
لن يرجع المقدار فيما حكم
وحملك الهم يزيد الألم
ولو حزنت العمر لن ينمحي
ما خطه في اللوح مر القلم
1 ⋆
وينبغي أن نؤكد أن القدرية تنظر إلى المصير أو «العلة» على أنه شيء خارج تماما عن الكائن العضوي. فالكون، أو بمعنى أدق، القوى الهائلة للكون - هو الذي يحكم حياتنا. وطوال أعمارنا نتحرك ونحن في قبضة قوى لا سلطان لنا عليها. والموقف الوحيد الذي يمكننا اتخاذه إزاء ذلك هو موقف الاستسلام الشرقي التقليدي (وربما جاز لنا أن نستعين على ذلك بكأس عمر الخيام)، أو موقف عدم الانفعال وعدم الاكتراث الباطن الذي دعا إليه الرواقيون. أما القوى الكونية والنجوم التي تكتب فيها كل المصائر، فإن أي شيء يستطيع الإنسان أن يبعثه من داخله لا يقدر حيالها شيئا.
المذهب الآلي في الحتمية المقدرة : نشأ في العصور الحديثة، مع نهضة العلم في القرن التاسع عشر، اتجاه يمكن تسميته بالحتمية المقدرة العلمية أو الآلية. وكان عدد العلماء الذين دعوا صراحة إلى مثل هذا المذهب قليلا، حتى من بين دعاة الآلية المتطرفين، ولكن الكتاب الشعبيين كثيرا ما كانوا يرون أن التطورات التي تتم في المعمل تستتبعه حتما. فهم يزعمون أن هناك وقائع كثيرة تشير إلى هذا الاتجاه التشاؤمي، وقد توسع البعض في استخلاص تأثيرها المتراكم حتى كونوا منه نظرة كاملة إلى العالم. وهناك عوامل متعددة تزعم هذه القدرية العلمية أنها مرتكزة عليها، منها ما هو واقعي ومنا ما هو دخيل، أهمها:
2 (1) مبدأ بقاء الطاقة، الذي يبدو منطويا على القول إن الطاقة الذهنية ليست إلا جزءا من الطاقة الفيزيائية. ومن ثم فهي خاضعة لنفس قوانين العلة والمعلول التي تحكم العالم الفيزيائي. (2) المفاهيم الآلية وشبه الآلية في الكيمياء والبيولوجيا، التي ترد المادة الحية إلى تجمع معقد من العناصر الفيزيائية الكيموية الخاضعة لقوانين الفيزياء والكيمياء خضوعا تاما، وهذه العناصر ذاتها تجعل سلوك الحيوان بأسره لا يزيد إلا قليلا أن يكون تفاعلا بين قوى فيزيائية تظل آلية عمياء، حتى عندما تنظم في أنماط بشرية معقدة من السلوك الأخلاقي. (3) معرفتنا المتزايدة بمختلف الانتحاءات
Tropism ؛ أي بالميول الفطرية إلى الاستجابة على نحو محدد لمنبهات، كما هي الحال مثلا في حركة نباتات وحشرات وحيوانات معينة استجابة لمنبهات كالضوء أو العناصر الكيموية. (4) قوانين الوراثة، التي تجعل من أي كائن عضوي نتاجا لعوامل متوارثة لا شأن له باختيارها، ولكنها مع ذلك تؤثر طوال حياته تأثيرا دائما في تحديد اتجاه قراراته وتشكيل أنماط سلوكه. (5) إدراكنا المتزايد لأهمية العوامل الجغرافية والمناخية، في الحياة البشرية، وهذا يعني أن البيئة المادية التي يولد فيها المرء أو ينتقل إليها قد تؤثر في سلوكه (وبالتالي في شخصيته) على أنحاء لا مهرب منها. (6) الشواهد الهائلة العدد، التي يقدمها علم النفس الحديث، لا سيما مدارس التحليل النفسي، على أن قدرا كبيرا من السلوك البشري يخضع لدوافع لا شعورية، وأن معظم هذه الدوافع ذو طابع لا عقلي، بل لامنطقي. فجميع أنواع الأفعال الاضطرارية، كتلك التي تحدثها المخاوف المرضية وحالات الجنون والحصر، قد تكون أوضح أمثلة وجود دوافع لا شعورية تتحكم في مواقف سلوكية معينة. (7) وأخيرا، هناك شواهد من العلوم الاجتماعية، حيث نجد نظرية هائلة التأثير، هي نظرية الحتمية الاقتصادية، التي يعد فيها التاريخ صراعا تتنافس فيه الجماعات أو «الطبقات» الاجتماعية على المزايا الاقتصادية. هذه النظرية ترى أن كل المعايير الثقافية - من قيم دينية ومقاييس أخلاقية، وأمان معنوية، بل ومثل عليا جمالية - إنما هي تعبير عن هذا الصراع الطبقي ودليل يشير إلى الجانب (أي الطبقة) التي يكافح من أجلها الشخص الذي ينادي بهذه المعايير. وتضاف إلى هذا كله معلوماتنا الفلكية والجيولوجية، التي يكون الإنسان تبعا لها مخلوقا ضئيلا إلى حد لا متناه، في عالم ضخم إلى حد متناه، ولا يكون التاريخ البشري كله إلا حلقة قصيرة إلى أقصى حد يمر بها كوكب سحيق في القدم. كل هذه المجموعة من الوقائع والنتائج تجعل كثيرا من الأفراد في الوقت الحالي لا يختلفون في نظرتهم القدرية إلى الحياة عن أي شرقي يقول «بالقسمة». (3) الحتمية في مقابل اللاحتمية
هناك وجهتا نظر ممكنتان تقف كل منهما في مقابل القدرية الأخلاقية للتفكير الشرقي وفي مقابل الموقف شبه العلمي الذي وصفناه الآن. ففي الطرف القصي المعتاد للقدرية نجد اللاحتمية
Indeterminism
أو الاختيارية
Libertarianism ، وفيما بين الموقفين المتطرفين، نجد الحتمية
Dererminism
وقد دار الخلاف الرئيسي، بالنسبة إلى الفلسفة بوجه عام، والأخلاق بوجه خاص، بين وجهتي النظر الأخيرتين هاتين. فعلى الرغم من أهمية القدرية في التفكير الشرقي، وفي الكتابات المتحمسة التي كانت تظهر في الغرب من آن لآخر تعبيرا عن وجهة نظرها، فإن هذا المذهب لم تكن له أهمية كبيرة في المذاهب الفلسفية الغربية؛ لذلك سنقتصر في بقية مناقشتنا على الحديث عن التقابل بين الحتمية واللاحتمية.
اللاحتمية : اللاحتمية، كما أوضحنا منذ قليل، هي النقيض المباشر للقدرية. فاللاحتمي يرى أنه، مهما يكن من خضوع الأشياء المادية، وربما الكائنات العضوية الحيوانية، لقوانين العلة والمعلول، فإن الإنسان يظل متحررا من هذه القوانين في إرادته أو في قدرته على اتخاذ القرارات. إن أجسامنا - شأنها شأن كل موضوعات عالم الزمان والمكان - تخضع بالضرورة لقوانين آلية كقانون الجاذبية والقصور الذاتي والمقاومة ... إلخ. وفضلا عن ذلك فإن طبيعة وظائفنا الجسمية فيزيائية كيموية إلى حد بعيد، وهي خاضعة لكل قوانين الفيزياء والكيمياء. ولكن القائل باللاحتمية يؤكد أن القوانين الميكانيكية أو الفيزيائية الكيموية لا تسري على طبيعة الإنسان الأخلاقية والإرادية ولا تفسرها. فهذه الطبيعة الأخلاقية والإرادية لا تخضع للحتمية، وهي حرة بالمعنى الصحيح، ذلك لأنه حتى لو كانت لدينا معرفة شاملة بماضي الفرد وشخصيته وجميع العوامل المتعلقة بموقفه الراهن (كمعرفة المنبهات التي يستجيب لها مثلا) فسيظل من المستحيل التنبؤ بالاختيار الذي سيقوم به في أي موقف معين. وبعبارة أخرى، فليس جهلنا وحده هو الذي يجعلنا نصف سلوك الشخص بأنه «لا يمكن التنبؤ به». بل إن السلوك يظل أصلا بمنأى عن أي تكهن، لسبب بسيط هو أن الحوادث التي يمكن التنبؤ بها هي تلك التي يكون لها أساس علي فحسب، فإذا كنا جاهلين بالأساليب، أو لم تكن هناك أسباب بالمعنى المألوف لهذا اللفظ (كما في هذه الحالة)، فمن الواضح عندئذ أن التنبؤ يكون مضيعة للوقت لا طائل وراءها. ويرى مذهب اللاحتمية أن الفرد لا يستطيع فقط أن يختار بلا سبب؛ أي أن يتخذ قرارات لا صلة لها بقراراته السابقة أو بأي عامل في تجربته الماضية - بل إنه يستطيع أيضا أن يستهل اتجاهات سلوكية تمثل تجديدا أصيلا في نمط حياته. وهكذا ينطوي الموقف اللاحتمي على فكرتين رئيسيتين: عدم القابلية للتنبؤ، والجدة الأصيلة.
الحتمية : يمكن القول إن الموقف اللاحتمي مرادف لما وصفناه من قبل بأنه رأي الأغلبية في الحضارة الغريبة. والواقع أن فكرة «حرية الإرادة» هذه، التي قبلها معظم الفلاسفة وجميع اللاهوتيين تقريبا، هي التي أدت إلى ثورة رواد مذهب الحتمية من أمثال هوبز واسبينوزا. أما في أيامنا، فإن الخصم الفلسفي للاحتمية هو موقف أكثر اعتدالا إلى حد ما من آراء المكافحين الأوائل في القرن السابع عشر. هذا الشكل الحديث للحتمية يمثل محاولة لإدماج نظرتنا إلى الإنسان في النظام العملي للطبيعة، ولكنه يسعى إلى تحقيق ذلك دون إنكار للوقائع الواضحة لتجربتنا الباطنة. هذا الموقف الوسط الذي سنطلق عليه من الآن فصاعدا اسم «الحتمية فحسب» يرى أن القدرية على حق عندما تؤكد أن كل سلوك يرجع إلى منبهات، والتالي فإن له «علة» مباشرة. ولكنه يتفق من جهة أخرى مع اللاحتمية حين تؤكد أن الذات أكثر من أن تكون مجرد مركب من المنبهات والاستجابات، بل إن الحتمية لتعترف بأن الذات قد تمثل مركبا جديدا خلاقا، تتحدد أفعاله تبعا لطبيعته الخاصة، لا تبعا لقوى خارجية. هذه المدرسة التي تسير في هذا الطريق الوسط تتحدث كثيرا عن «الحتمية الذاتية»، وتعني بهذا اللفظ أن أفعالنا هي نتيجة شخصيتنا وعاداتنا، التي هي بدورها حصيلة كل قراراتنا وتجاربنا السابقة. والإنسان في نظر هؤلاء الحتميين المعتدلين، له حرية أخلاقية؛ ومن ثم فلديه مسئولية أخلاقية. وقراراته تنتمي إليه بالفعل؛ إذ إنها نابعة عن ذاته الكاملة. وبالاختصار، فقراراتنا تأتي من الداخل، غير أن ردود الأفعال السابقة للذات الباطنة إزاء العالم الخارجي، وقراراتها الماضية بشأنه، تعمل على تعديل هذه الذات الباطنة وتشكيلها إلى حد بعيد.
ونستطيع التعبير عن هذا الموقف الحتمي بطريقة أخرى، فنقول إن صاحب مذهب الحتمية في العصر الحديث يقبل تلك «القوى الخارجية» التي كانت مثبطة للقائل بمذهب القدرية، ويرى أن لها تأثيرا حقيقيا في تكوين الذات أو الشخصية. ومع ذلك، فإن هذه القوى، بمجرد ممارستها لهذا التأثير، تندمج في مركب جديد دائم التغيير، أو «شخصية»، تقوم منذ هذه اللحظة بالاستجابة بطريقة فريدة لمنبهات أو قوى خارجية أخرى. وهكذا فإن أفعالنا تكون صادرة عنا بمعنى خاص؛ إذ إن أية ذات أخرى لا تستجيب بنفس الطريقة؛ لأن أية ذات لم تمر بكل التجارب السابقة نفسها، ولم تتخذ كل القرارات السابقة ذاتها. وقد عبر تنيسون
Tennyson
عن ذلك بقوله. «أنا جزء من كل ما صادفت». فالذات هي مجموع كل الاستجابات والقرارات السابقة، المتعلقة «بكل ما صادفت». وهكذا، فعلى حين أن أفعالنا محددة ومحتومة، فإن هذه الحتمية إنما تجيء من طبيعة الذات أو شخصيتها، لا من القوى الخارجية. وفي هذه الحتمية الذاتية تنحصر حريتنا المعنوية والأخلاقية. (4) حجج كل من الجانبين
اقتصرنا حتى الآن على عرض موقف كل من الحتمية واللاحتمية بطريقة قطعية إلى حد ما. وعلينا الآن أن نبحث في الحجج الرئيسية التي يرتكز عليها كل فريق؛ لأن من الواضح أننا لا نستطيع الاختيار بطريقة واعية بين وجهتي النظر هاتين إلا عن طريق تقدير الأدلة التي يستند إليها كل منهما. ولما كانت اللاحتمية قد ظلت هي الرأي «الرسمي» للفكر الغربي، فسوف نبدأ بعرض حججها. وسيتضح لنا فيما بعد أن معظم الحجج الحتمية هي في حقيقتها ردود على حجج المذهب اللاحتمي؛ ولذا كان الأفضل هو الاستماع إلى الأصل أولا.
حجج اللاحتمية : للقائل باللاحتمية أربع حجج رئيسية، قد تكون كلها متساوية الأهمية. (1)
إن من أوضح حقائق حياتنا النزوعية، شعورنا بالحرية. فأيا كان القرار الذي نحاول اتخاذه، ومهما تكن صعوبة بلوغه، فإننا عندما نتخذ قرارنا أخيرا يكون لدينا شعور بأن الاختيار لم يتحكم فيه شيء سوى إرادتنا الخاصة. وقد تؤدي القوى الخارجية، أو العجز الشخصي، إلى قصر اختيارنا على بديلين فقط، كلاهما غير مرغوب فيه، ولكنا نشعر بأن القرار النهائي هو دائما عمل اختياري إرادي صادر عنا نحن. فنحن نوقن في هذه الحالة بأنه كان في استطاعتنا اختيار البديل الآخر بنفس السهولة وبنفس «الحرية». ويترتب على هذا الإحساس بالاختيار غير المحتوم، الشعور الحتمي «بالإلزام»، بل إن هذا الشعور بالإلزام هو في نظر كثير من اللاحتميين مثل «كانت»، دليل على الحرية أكثر إقناعا حتى من الحدس الذي نشعر فيه بأننا قد اتخذنا قرارا غير مسبب؛ إذ إن هذا الشعور بالإلزام، في رأيهم، لا يكون له أي معنى لو لم يكن الاختيار الأصيل ممكنا. فعبارة: «ينبغي لي» لا بد لها من شرط مفروض مقدما، هو: «أنا أستطيع». (2)
والحجة الثانية المؤيدة للاحتمية تتعلق بهذا الشعور بالإلزام. ذلك لأن حرية الإرادة شرط ضروري لكي يكون هناك معنى لأي تصور نكونه عن المسئولية الأخلاقية (أو حتى القانونية). وإنه لمن غير المنطقي أن نعد الشخص مسئولا عن فعل معين ما لم يكن هذا الفعل صادرا عنه؛ أي ما لم تكن لديه قدرة أصيلة على الاختيار بين أمور بديلة واتخاذ قرارات أخلاقية. فجميع الأحكام التي نصدرها عادة بشأن «صواب» السلوك أو «خطئه»، لا تفترض مقدما إرادة غير محكومة فسب، بل إنها تغدو ظالمة متجنية في أية ظروف أخرى غير تلك التي يفترضها اللاحتمي. (3)
والحجة التالية تترتب بدورها على السابقة. فاللاحتمية هي الرأي الوحيد المعقول - ليس فقط لأن تقويماتنا الخاصة بالاستحسان والاستهجان تعدو بلا معنى في ظل الموقف الحتمي، بل أيضا لأن كل القيم، وضمنها التفكير ذاته، تصبح بدورها بلا جدوى. ذلك لأنه لو كان كل ما يحدث نتيجة ضرورية لما حدث من قبل، بل لطبيعة الأشياء ذاتها، التي يمكن أن تكون على خلاف ما هي عليه. فعندئذ يكون من التعقيم أن نتحدث عن «أفكار» أو «مثل عليا» أو «مقاصد»، بل إنه يستحيل عندئذ تفسير العقل ذاته، ما دامت وظيفته الرئيسية هي التقويم والتمييز، فإذا كانت «كل الأشياء تحدث بالضرورة»، كما قال اسبينوزا وغيره من الحتميين، فعندئذ يكون النشاط العقلي عقيما، بل غير مفهوم. (4)
وأخيرا يرى اللاحتمي أنه لا يوجد وسط الحرية التامة والقدرية. فمحاولة التوفيق التي تقوم بها الحتمية مستحيلة لأنها غير مستقرة؛ إذ إنها ترتد آخر الأمر إلى الحل القدري، على الرغم من كل الجهود التي تبذلها لكي تتجنب هذه النتيجة. ذلك لأننا إذا استخلصنا من الموقف الحتمي كل نتائجه المنطقية، لوجدناه ينكر تلك الحرية التي يزعم أنه يجعلها ممكنة. إذ لو كانت الذات قبل كل شيء حصيلة لتجاربها؛ أي للقوى الخارجية التي تؤثر فيها - لكان من الواضح أن الاختيار في لحظة القرار الفعلي، سيكون نتيجة لهذه القوى، لا لإرادة غير محتومة كتلك التي يقتضيها فرض الحرية. وفضلا عن ذلك، فإذا كان الحتمي على حق، ألن يكون السؤال عن القوى التي تكون شخصيتنا متوقفة جزئيا على طبيعة الكائن العضوي التي نتوارثها؟ وهكذا يكون اختيارنا محدودا وخاضعا للتأثير بمعنى مزدوج: إذ نكون، من جانب، ما صنعته منا بيئتنا، ونكون من جانب آخر، ما أتينا به إلى العالم من مادة خام. فإذا أكد أي شخص بعد هذه الحقائق كلها أننا أحرار، فإنه بكل بساطة، لا يستخدم اللغة بطريقة استخدامها العادية؛ ذلك لأنه ما لم تكن الذات عالية، بمعنى كونها قادرة على الارتفاع فوق مستوى علاقة العلة والمعلول التي تقيد بقية الكون، لما كانت حرة. وما لم تكن إرادتنا مستقلة عن المنبهات، والوراثة، والتجارب السابقة؛ أي ما لم تكن قادرة في كل لحظة على القيام باختيار كان من الممكن دائما أن يأتي بصورة مخالفة - لكانت الحرية البشرية وهما ...
حجج مذهب الحتمية : يرى القائل بالمذهب الحتمي إنه يستطيع الرد على كل هذه الحجج وتقديم بعض الحجج المقنعة التي تؤيد موقفه الخاص. (1)
فالفرض الحتمي أولا يتفق مع مسلمة من أهم مسلمات العلم. هذه المسلمة ضرورية بصفة مطلقة بالنسبة إلى كل العلوم، بل إنه ليقال عادة إن البناء الكامل للعلم الحديث مرتكز على مفهوم العلية. ويذهب القائل بالمذهب الحتمي إلى أن أي مبدأ له مثل هذه الأهمية، وينتشر تطبيقه على مثل هذا النطاق الواسع، يمكن افتراض أنه يسري على جميع الظواهر - ليس فقط على تلك التي يدرسها العلم، وإنما على كل حوادث الكون. وباختصار، فالحتمية لا يمكنها قبول الرأي القائل إن الإرادة البشرية تقوم في فراغ خال من العلل، بل إن مبدأ العلية ذو نطاق شامل، ولا يمكن أن يعد الإنسان استثناء له. والواقع أن الكشف العلمي لا يكون ممكنا إلا لأن في استطاعة العالم أن يفترض عالما منظما عاقلا، يوجد فيه كل حادث بوصفه طرفا في علاقة علية.
3 (2)
وفضلا عن ذلك فإن علم النفس - وهو أقوى العلوم ارتباطا بمشكلات السلوك البشري - قد حقق كل ما أحرزه من تقدم بالارتكاز على مصادرة العلية. والأمر الأكثر من ذلك إقناعا هو أن علم النفس قد تمكن من تحليل فعل الاختيار، وكشف هذا التحليل عن أن الاختيار أو القرار يحدث دائما نتيجة لشروط معينة. فعندما تتوافر هذه الشروط، يحدث اختيار، وعندما تغيب، لا يكون هناك اختيار. وبالاختصار فإن كل القرارات إنما هي نتيجة لدوافع، والدافع الأقوى هو الذي تكون له الغلبة دائما.
4
وينتهي صاحب المذهب الحتمي من ذلك إلى قوله إنه لما كان التحليل النفساني عاجزا عن كشف أي مثال لاختيار لا دافع له (أي غير مسبب)، فلنا أن نقول إنه لا يوجد اختيار كهذا. (3)
كذلك يعتقد صاحب المذهب الحتمي أن موقفه هو أساس كل سلوك معقول. فكلما ازدادت معرفتنا لأي شخص وثوقا، استطعنا أن ندرك على نطاق أوسع أن من الممكن الوثوق بسلوكه والتنبؤ به في آن واحد. وفضلا عن ذلك فإن من الممكن، بوجه عام، الوثوق من سلوك الناس إلى حد معقول، كما يتضح من أن كل مجتمع مبني على الثقة المتبادلة بين أعضائه بعضهم وبعض. فنحن نتوقع من الناس أن يسلكوا بطرق معينة؛ لأننا اكتشفنا أن منبهات (أو عللا) معينة تؤدي إلى استجابات (أو معلولات) محددة. وعندما يخيب الناس أملنا يكون ذلك دائما استثناء من الطابع العام لسلوكهم. ولولا هذه النسبة الغالبة من القابلية المأمونة للتنبؤ، لما كان الاتصال الاجتماعي العادي عشوائيا تماما فحسب، بل لما وجدت علوم كعلم الاجتماع وعلم النفس. (4)
وأخيرا، فإن اللاحتمي على خطأ عندما يقول إن المسئولية الأخلاقية تفترض حرية كاملة للإرادة؛ إذ كيف يكون لنا الحق في أن نعد الشخص مسئولا عن أفعاله إذا كانت ناتجة عن قرار اعتباطي اتخذ في لحظة الاختيار؛ أعني قرارا لا صلة له بشخصيته أو عاداته أو تجاربه السابقة؟ إنه لا يمكن أن يمتدح عليها أو يلام، ويثاب أو يعاقب، إلا بقدر ما تكون قراراته صادرة عنه هو، ومرتبطة بذاته الكاملة ارتباطا لا ينفصم. وهكذا فإن الأخلاقية والتشريع الاجتماعي معا يفترضان الحتمية، من وجهة النظر العملية. فالتشريع الاجتماعي مثلا مبني على افتراض إمكان التحكم في السلوك البشري بالوسائل الصحيحة، إلا فلم كنا نسن القوانين لو لم نكن نفترض أنها ستؤثر في سلوك الناس؟ ولنضرب مثلا آخر: فما هو التعليم الرسمي، إن لم يكن عملية طويلة باهظة لتدريب الفرد (أو «تكييفه»، إذا شئنا استخدام هذا اللفظ الأثير لدى عالم النفس)، بحيث يستجيب بطرق مرغوب فيها لكثير من المنبهات التي لا بد أن تأتي إليه من التجربة اليومية، ولم نكرس للتعليم كل هذا الوقت والجهد إن لم نكن واثقين - بدرجة معقولة - من أن عملية التكيف هذه ستنجح؛ أي ما لم نكن متأكدين من أن في استطاعتنا إيجاد نمط سلوكي يكون له ثبات نسبي، ويكون من الممكن الاعتماد عليه؟ ولو كان في استطاعة الفرد، بعد سنوات من التحاقه بالمدارس، أن يدير ظهره للنمط الذي استحدث ويسلك بطريقة اعتباطية، وعلى نحو مستقل تماما عن الاستجابات التي تعلمها، فأي مبرر يكون للتعليم عندئذ؟
مشكلة المسئولية القانونية : هناك نقطة أخرى للخلاف بين الحتمية واللاحتمية، مترتبة على الحجج المتعددة التي قدمناها الآن. تلك هي مسألة المسئولية القانونية والعقوبة القانونية. فحجة اللاحتمية في هذا تسير دائما على نحو يقرب من هذا: إذا كان الإرادة محتومة فعندئذ لا يكون هناك مبرر للعقوبة القانونية؛ إذ إن المجرم، الذي تتحكم فيه قوى خارجية لا سلطان له عليها، أو عوامل وراثية تحددت قبل ميلاده، لا يستطيع أن يفعل غير ما فعل. ومن ثم، فأية عدالة يمكن أن تكون للعقوبة تبعا للرأي الحتمي؟
على أن أنصار مذهب الحتمية لا يجدون صعوبة في الرد على هذه الحجة. فهم يشيرون أولا إلى أن هذه الحجة اللاحتمية ترتكز على فهم عتيق عفى عليه الزمان لمعنى العقوبة القانونية؛ إذ هي تفترض أن الغرامة، والسجن، إلخ، لها مقصد انتقامي؛ أي إن المجتمع يلجأ إليها لكي يثأر من المجرم. على أن هذه الفكرة الهمجية لا مكان لها في فلسفة العقوبة الحديثة المستنيرة، التي تجعل للعقوبات مقصدين : (1) حماية المجتمع عن طريق الحد من خطورة مرتكب الجرم، لا سيما إذا كان من معتادي الإجرام، وهذا يعني عادة نوعا من الحبس. (2) إصلاح مرتكب الجرم عن طريق إعطائه مجموعة جديدة من الدوافع، قد تكون مثلا عليا اجتماعية أعلى قيمة، أو (إذا اتضح أنه غير قابل للتأثر بهذه المثل) عن طريق الخوف الناتج عن تجربته الراهنة مع القانون. وهذا الهدف الثاني للعقاب؛ أعني هدف «إعادة التكييف»، هو الذي يحتل أهمية متزايدة في فلسفة العقوبة الحديثة. ومن الواضح أن مثل هذا الهدف يفترض التسليم بالحتمية؛ إذ إن السلوك البشري يرجع إلى عوامل معينة هي دوافعه، والقانون يتدخل لتغيير دوافع المجرم. ولو كان هذا كله وقتا ضائعا أي لو كان اللاحتمي على حق، وكان في استطاعة المجرم أن يسلك بطريقة اعتباطية دون نظر إلى العوامل المتحكمة - فكيف نفسر عندئذ ارتفاع نسبة المجرمين السابقين الذين ينصلحون وتستقيم أحوالهم؟ (5) الاختيار بين الموقفين
لا بد للقارئ، كما هي الحال على الدوام، أن يزن حجج طرفي هذا النزاع الكبير ثم يتخذ قراره الخاص حول ادعاءاتهما. والواقع أنه لا مفر من الاختيار بين الطرفين، ما لم نكن راغبين في السير في طريق التطرف إلى حد القول بمذهب القدرية. على أن الأرجح أن هذه الطريقة في التخلص من الصعوبة لا تلقى قبولا لدى الكثيرين؛ ولذا فسوف ننظر إلى المشكلة الحقيقية على أنها مشكلة التقابل بين الحتمية واللاحتمية.
ونستطيع أن نختتم عرضنا للمشكلة الكاملة باقتراح نقاط متعددة يكشف عنها أي بحث محايد للموقف. وسوف تبدو بعض هذه الاعتبارات مؤيدة لأحد الطرفين، وبعضها الآخر مؤيدا للطرف الآخر. على أننا لا نهدف من عرض هذه النقاط إلى التأثير في القارئ بحيث ينحاز إلى هذا الجانب أو ذاك، وإنما نهدف إلى زيادة احتمال اختياره بين الطرفين على أساس معقول. (1) هل العلية شاملة بالضرورة؟
تبدو هذه المسألة الأولى مؤيدة للاحتمية. فالحجة الحتمية القائلة إن كل علم يرتكز على مبدأ العلية لا يمكن أن تكون حجة قاطعة، وذلك لأسباب متعددة. فمن الممكن جدا أن يكون الإنسان نوعا فريدا في العالم العضوي، وأن يؤدي عقله وقدرته على الاختيار العاقل إلى جعله استثناء في الطبيعة بالفعل. ولما كان من المعترف به أن الإنسان فريد في أمور متعددة، فليس لنا أن نستبعد مقدما إمكان أن يكون الإنسان قادرا على البدء في سلاسل جديدة من الأفعال عن طريق اتخاذ قرارات هي بالفعل غير خاضعة للحتمية. وثانيا فإن نجاح المبدأ الحتمي في العلوم لا يعني أن من الممكن امتداده على جميع الظواهر، ومن المؤكد أن هذه الحقيقة لا تضمن بأي حال إمكان امتداد المبدأ على هذا النحو. وفضلا عن ذلك فإن حياة الإنسان الإرادية، ولا سيما ما يتعلق منها بالاختيار الأخلاقي، قد تكون فئة مستقلة من الظواهر التي لا تحتاج لتفسيرها إلى مفاهيم أخرى غير العلية. وثالثا، فقد يكون المثالي على حق حين يؤكد أن قانون العلية من صنع العقل - لا بالمعنى الظاهر الذي يكون فيه صياغة ذهنية، بل بالمعنى الميتافيزيقي الذي تكون فيه العلية مطلبا يفرضه الكون على العقل. هذا الرأي، كما عرضه «كانت» مثلا، يقول بأن العلية هي إحدى صور الفكر أو مقوماته، فهي أحد القوالب أو الأطر التي ينبغي أن تصب فيها الظواهر الحسية إذا شاءت أن تكون «عالما» معقولا. وهكذا تصبح «العلة» ذاتية لا موضوعية. وإذا كانت العلة من صنع العقل، فمن الممكن عندئذ أن تكون عملياتنا الذهنية والإرادية خارجة عن قوانينها، ويكون في استطاعة العقل أن يفرض العلية على كل شيء آخر دون أن يفرضها على نفسه بالضرورة. ولذا كانت النتيجة التي ينبغي أن ننتهي إليها هي أنه، مهما تكن ضرورة مبدأ العلية للعالم في جهوده التي يبذلها لفهم العالم الطبيعي، فإن قابلية هذا المبدأ للانطباق على العالم الذهني والأخلاقي تظل مفتقرة إلى الدليل. (2) ما مدى صحة الشعور بالحرية؟
أما المسألة الثانية التي ينبغي أن نلاحظها قبل اتخاذ أي قرار بين الحتمية واللاحتمية. فتؤيد فرض الحتمية؛ ذلك لأن اللاحتمي يستغل شعورنا الذي لا ينكر بالحرية استغلالا زائدا عن الحد، ومن المؤكد أننا نكون عادة واثقين ، في لحظة الاختيار الفعلي، بأننا نستطيع لو شئنا أن نختار الحل الآخر بدلا من الحل الذي اخترناه. ومع ذلك فإن القائل بالحتمية يعتقد أن هذا الشعور الحدسي بوجود أطراف يمكننا الاختيار بينها بحرية هو شعور واهم. وهو على الأقل لا يثبت أن لدينا بالفعل إرادة غير مسببة. وأغلب الظن أن كل ما يدل عليه هذا الشعور بالحرية هو جهلنا بالأسباب المتحكمة في الاختيار بالفعل.
ولقد كان اسبينوزا هو الذي عبر عن مغالطة الحرية هذه تعبيرا كلاسيكيا؛ إذ قال: «إن الناس يولدون جاهلين بأسباب الأشياء، ولكن لديهم رغبة في البحث عن نفعهم الخاص، وهي رغبة يشعرون بها عن وعي. ويترتب على ذلك، أولا، أنهم يظنون أنفسهم أحرارا؛ لأنهم واعون برغباتهم وشهواتهم، ولكنهم، نظرا إلى جهلهم، لا يحملون بالتفكير في الأسباب التي أدت بهم إلى هذه الرغبات ... وهكذا يعتقد الطفل الرضيع أنه يبحث عن الثدي بإرادته الحرة، ويعتقد الصبي الغاضب أنه يرغب في الانتقام بإرادته الحرة، ويظن الجبان أنه يسعى إلى الهرب، ويتوهم السكير أنه يتحدث، بأمر حر صادر عن ذهنه، عن تلك الأمور التي كان يود في صحوه ألا يقول عنها شيئا. وعلى هذا النحو يظن المجنون، والثرثار، والصبي، ومن على شاكلتهم، أنهم يتحدثون بأمر حر صادر عن أذهانهم، مع أنهم في واقع الأمر لا يملكون القدرة التي يقفون بها في وجه النزوع الذي يدفعهم إلى الكلام، بحيث إن التجربة ذاتها، لا العقل وحده، تدلنا بوضوح على أن الناس يظنون أنفسهم أحرارا لمجرد كونهم واعين بسلوكهم الخاص، دون أن يعلموا شيئا عن الأسباب المتحكمة فيهم. كما أنها تدلنا على أن أوامر العقل ليست إلا الشهوات ذاتها، التي تختلف بالتالي باختلاف الحالة المزاجية للجسم.»
5
وفي موضع آخر يلجأ اسبينوزا إلى تشيبه الحجر الطائر في الهواء، الذي لو كان لديه وعي، لغدا على الثقة من أنه يتحرك بإرادته الحرة، نظرا إلى جهله بالقوى التي حركته.
وعلى الرغم من أن المرء لا يكاد يجد ما هو أفضل من كلمات اسبينوزا السابقة؛ ففي استطاعتنا أن نزيدها تأكيدا بالإشارة إلى كثرة الأدلة التي أثبت بها علم النفس الحديث هذه النقطة. فقد كانت نظرية اللاشعور موردا لا ينضب للأدلة المؤيدة للحتمية. والواقع أن التحليل النفسي هو، إلى حد بعيد، أسلوب لكشف الأسباب الخفية والدوافع المكبوتة التي تمارس تأثيرا فعالا في سلوك الفرد حتى حينما لا يكون شاعرا بها على الإطلاق. كذلك فإن علم النفس جعل الشخص العادي ذاته يدرك في الوقت الحالي مدى التأثير الخفي الملتوي الذي يمكن أن تمارسه الرغبة في التبرير على تفكيرنا وسلوكنا. ويعرف التبرير أحيانا بأنه البحث عن أسباب جيدة لأفعال رديئة - هي عادة أفعال أنانية نخجل منها بحق. ففي هذه العملية الذهنية التي نبرر بها تصرفاتنا، نحاول أن نجعل سلوكنا مقبولا لنا بالاهتداء إلى أسباب دفاعية لهذا السلوك، نستطيع أن نقنع عقولنا بأنها هي الأسباب الحقيقية. وقد نكون بالفعل جاهلين بدوافعنا، أو قد نكون خادعين لأنفسنا فحسب، غير أن علم النفس قد تمكن من كشف السبب الحقيقي لسلوكنا في حالات تبلغ من الكثرة حدا يجعل عبارة اسبينوزا، التي كانت تبدو في عصره مذهلة، تبدو اليوم أشبه ببديهية من بديهيات علم النفس. فنظرا إلى عدم رغبتنا في أن نكون أمناء مع أنفسنا فيما يتعلق بالأمور القبيحة، فإننا نسمي أفعالنا التي هي في أساسها أنانية أفعالا «قابلة للتبرير». ونظرا إلى جهلنا بالسبب الذي يجعلنا نسلك كما نسلك، فإنا نسمي أنفسنا «أحرارا».
تغير مفهوم «الإرادة» : هناك مسألة أخيرة تؤدي بطريق غير مباشر إلى دعم الموقف الحتمي، على الرغم من أنها حقيقة تاريخية، لا حجة فلسفية. تلك هي الحقيقة القائلة إن هناك معنيين مختلفين للفظ «الإرادة»، فهناك أولا المعنى التقليدي، المبني على النظرة إلى الذهن على أنه مجموعة من «الملكات». ونظرا إلى أن علم النفس الحديث لم يعد ينظر إلى الذهن على أنه مجموعة من الوسائط أو «الملكات» المستقلة، كالعقل، والإرادة ، والخيال، إلخ، فمن الواجب استبعاد هذا المعنى القديم للفظ «الإرادة» إذا شئنا أن تكون مناقشاتنا حوله دقيقة.
أما المعنى الحالي للفظ فيعبر عن النظرية الوظيفية للذهن، التي يقول بها علم النفس المعاصر، فلم تعد الإرادة تعد كيانا أو واسطة مستقلة، بل إن عالم النفس بفضل الكلام عن «الفعل الإرادي» الذي يراه وظيفة ترتبط بالكائن العضوي الكامل. ففي استطاعة الفرد، عن طريق عملية استبصار وتدبر، أن يبعث التآزر في رغباته والتكاسل في دوافعه، فتكون نتيجة هذا التآزر - بعد التوفيق بين الرغبات المتعارضة - فعلا، أو على الأقل قرارا يتحقق في فعل. هذا الفعل يمكن أن يسمى «فعلا إراديا»، ولكن من الواجب أن نضع نصب أعيننا تلك النظرة الوظيفية العضوية إلى الذهن عندما نصف فعلا كهذا بأنه ذو طابع إرادي.
ومن الواضح أن للنظرة العتيقة إلى الذهن من خلال مفهوم «الملكة» صلة وثيقة بالموقف اللاحتمي. فمن السهل القول بأن «الملكة» المستقلة أو «الوسيط» المستقل متحرر من القوانين العلية، ولكن من الصعب الادعاء بأن الكائن العضوي الكامل يؤدي وظائفه في فراغ من اللاتحدد، بل إن نفس تعريف الإرادة، في ظل الرأي القديم، بأنها «كيان مستقل»، ينطوي على حكم مسبق على الموضوع قبل أن تبدأ المناقشة. ولما لم يكن هناك تخصيص للطريقة التي تكون بها الإرادة مستقلة، فلا يكاد يكون من حقنا أن نلوم اللاحتمي على تفسيره لهذا الاستقلال بأنه استقلال «علي». أما اليوم فقد انقلبت الآية: فلما كان النشاط الإرادي يعد الآن جزءا لا يتجزأ من استجابتنا الكاملة للبيئة، فإنا لا نستطيع أن نلوم الحتمي على استخدامه هذه الحقيقة في دعم مركزه هو. وهكذا يقدم إلينا التاريخ الكامل للنزاع حول حرية الإرادة مثلا رائعا للعلاقات المتبادلة بين الفلسفة وبين المفاهيم العلمية الشائعة في أي عصر. ويبدو أن للعلم اليوم من التأثير في الفلسفة ما يفوق تأثيره فيها في أي وقت مضى، غير أن هذا ليس إلا انعكاسا للتأثير الهائل للعلم في جميع ميادين الفكر البشري. والواقع أن الفلسفة كانت دائما تستجيب للأفكار الجديدة والأيديولوجيات المتداولة حولها، وحتى في الحالات التي بدا فيها الفيلسوف منعزلا غاية ما يكون الانعزال في برجه العاجي، فإن «رياح الفكر» التي تهب عليه من الخارج كانت تؤثر حتما في تفكيره. والحق أننا لا نكاد نجد لذلك مثلا أفضل من النزاع الذي نحن بصدد مناقشته. (6) الدور الدائم الذي أسهم به كل رأي
المهام اللاحتمية : أيا كان الجانب الذي ننحاز إليه آخر الأمر في الجدال الدائر بين الحتمية واللاحتمية، فينبغي أن نعلم أن كل رأي قد قام بدور هام في تاريخ الفكر، وذلك إذ حافظ على تداول أفكار هامة معينة. فلا شك مثلا في أن أعظم دور قام به مذهب اللاحتمية هو اعتقاده الراسخ بأننا نحن الذين نصنع مصيرنا بأيدينا، جزئيا على الأقل؛ أي كما قال الشاعر:
أنا سيد مصيري
وربان سفينة نفسي
وقد يصف القدري هذا القول بأنه وهم بحت، كما أن من المؤكد أن أنصار مذهب الحتمية يصفونه بأنه نصف حقيقة فحسب. ومع ذلك فإنه اعتقاد أنقذ أشخاصا لا حصر لهم من اليأس، وربما من الانتحار. فإذا استطعت أن أومن، بوصفي لا حتميا، بأن السيادة الكاملة لقوانين العلة والمعلول تتوقف فجأة عندما تصل إلى مجال الحكم الشخصي والقرار الأخلاقي، فإني أكون عندئذ محصنا ضد بعض من أسوأ ضربات الحياة. ففي استطاعة هذا الاعتقاد أن يزودني بدرع داخلية يمكن أن تظل فيها نفسي أو شخصيتي المتكاملة (أي «الأنا الباطن»، كما تسميه إحدى مدارس الفكر الملهم) في سلام وهدوء مهما يحدث. وهكذا يتيح لي الإيمان اللاحتمي الاحتفاظ بيقين راسخ بأنني حتى لو لم أستطع التحكم في الظروف الخارجية، فسيظل في استطاعتي ألا أدع هذه الظروف تسيطر علي سيطرة كاملة. ذلك لأنني أستطيع أن أقاوم تحكمها في، وحتى عندما تبلغ الأمور أسوأ مداها، فسيظل في إمكاني وضع إرادتي في مقابل كل قوتها الهدامة، متحديا إياها أن تفعل أقصى ما تستطيع.
ولما كان قليل من اللاحتميين هم الذين يعترفون بأن هذا الإيمان الأساسي بقدرة الفرد على الانتصار داخليا على الظروف الخارجية هو كل ما تستطيع هذه المدرسة أن تقدمه، فأغلب الظن أنهم يتفقون جميعا على أن هذا هو أعظم نصيب تسهم به اللاحتمية. فمن الواضح أنها تتيح ملجأ يعصمنا من الهجوم، نستطيع أن نحتمي به دائما عندما تبدو الحياة ثقيلة الوطأة علينا، ويمكننا أن نستجمع فيه قوانا لمواجهة الحياة ثانية. وعلى ذلك فإن اللاحتمية تقدم إلينا الكثير، وذلك إذا نظرنا إلى الأمور بمنظار برجماتي. فإذا ما كنا نقدر وجهات النظر الأخلاقية المختلفة على أساس ما يمكنها الإسهام به في السعادة البشرية، فمن المؤكد أن اللاحتمية تحتل عندئذ مكانة رفيعة في القائمة. فهي مصدر إلهام دائم لأولئك الذين يمكنهم الإيمان بهذا الاعتقاد، بل إن أولئك الذين يخالفون هذا الإيمان مضطرون إلى الاعتراف بأن مذاهب قليلة أخرى هي التي تستطيع أن تفعل أكثر مما تفعله اللاحتمية لرفع الروح المعنوية للإنسان.
وعد الحتمية : أسهم الحتمي من جانبه بدور له قيمته الكبرى، وهو يعدنا بمزايا أعظم في المستقبل عندما تتحقق النتائج الكاملة للموقف الحتمي. فهو أولا قد فعل الكثير من أجل ربط الطبيعة البشرية ببقية العالم الطبيعي، وقد ساعد ذلك على تحقيق حلم طالما طاف بمخيلة الفيلسوف والعالم، وهو الوصول إلى معرفة موحدة تماما، تشمل تجربة الإنسان بأسرها وتفسرها. وقد أسهم الحتمي بنصيب آخر، هو تكوين صور أكثر علمية وواقعية للإنسان. ولقد كانت هذه الصورة، جزئيا، مخففة لغلواء الإنسان، بل كانت مخيبة لآماله؛ إذ إنها أثبتت أن الإنسان معتمد على بيئته في حياته العقلية، لا في حياته المادية وحدها. ولكن هذه الصورة كانت مثيرة وملهمة إلى حد أكبر؛ إذ إنها توحي بإمكانات هائلة للسعادة البشرية إذا أمكننا أن نعرف كيف نسيطر على بيئتنا سيطرة أفضل. وهنا يكمن أعظم وعد تقدمه إلينا الحتمية. فإذا كانت ذاتنا أو شخصيتنا، كما يرى الفرض الحتمي، حصيلة كل ما صادفناه، وكان له تأثير في الكائن العضوي المادي الذي ولدنا به، فإنه يترتب على ذلك أن يكون في وسعنا (عن طريق التعليم وتحسين السلالات) أن ننتج كائنات بشرية قريبة من أعلى المستويات. ذلك لأننا إذا استطعنا تكييف الفرد بحيث يستجيب لأمور معينة ويتخذ قرارات خاصة، فمن الواضح أننا نستطيع عندئذ أن نحقق سيطرة وفعالية اجتماعية أعظم - وبالتالي سعادة بشرية تفوق كل ما كنا نحلم به حتى اليوم.
من وجهة أخرى فلو كان اللاحتمي على حق، وكان في استطاعة الإنسان أن يتخذ قرارات غير مسببة على الإطلاق، فعندئذ يكون التعليم والجهد الذي يبذل للتحكم في البيئة الاجتماعية، كما رأينا من قبل، مضيعة للوقت إلى حد بعيد. ولهذا السبب كان القائل بالحتمية يتهم خصمه بأنه أكثر قدرية من القدري الصريح. ذلك لأنه إذا كان في استطاعتنا في أية لحظة أن ننكر تاريخنا الفردي بأسره، ونسلك اعتباطا وكأننا قد ولدنا فجأة من جديد في عالم لا علية فيه. فمن الواضح عندئذ أننا لا نملك أية سيطرة على السلوك البشري. وإن مجتمعا يتألف من إرادات غير متحددة أصلا بأي شيء لا يكون إلا فوضى أخلاقية، بل إن العالم كما تصوره القدرية لينطوي على نظام يفوق ذلك الذي تصوره النظرة اللاحتمية إلى الأمور. (7) المشكلة في صلتها بالمثالية والطبيعية
اللاحتمية والمثالية : تبدو العلاقات بين الخلاف حول حرية الإرادة وبين التقابل الأوسع بين المذهبين المثالي والطبيعي أوضح من أن تحتاج إلى تحديد؛ ذلك لأن المثالية واللاحتمية كانتا مرتبطتين طوال تاريخ الفلسفة الغربية ارتباطا بلغ من الوثوق حدا أصبح معه الحديث عن أحدهما ينطوي ضمنا على الحديث عن الآخر. فمعظم المثاليين ينظرون إلى الحتمية على أنها فكرة لا يمكن تصورها حتى لو كانت حتمية معتدلة كتلك التي يقدمها المذهب في صورته المعاصرة. فإما أن يكون الإنسان حرا في حياته الذهنية والإرادية، وإما أن يكون عبدا تقيده أغلال القدرية بالمسار الآلي لعالم متخبط. وفي رأي الذهن المثالي أن الاختيار بين هذين الطرفين أمر لا مفر منه، فإما أن يكون الإنسان حرا بحق وإما أن يكون عبدا بالمعنى الكامل. أما صاحب المذهب الطبيعي فيرى، على العكس من ذلك، أنه لما كانت الطبيعة حدا أبعد وأقصى من الذهن، ولما كانت الطبيعة البشرية جزءا لا يتجزأ من النظام الطبيعي، فيترتب على ذلك منطقيا أن قوانين النظام الطبيعي تسري بالضرورة على الإنسان. ولا يوجد، من بين القوانين والمبادئ التي تحكم الطبيعة، ما هو أهم وأشد ضرورة من مبدأ العيلة.
والواقع أن الموقفين المتعارضين للمدرستين الميتافيزيقيتين الكبريين إزاء الحتمية يلزم منطقيا من مسلماتهما ومصادرتهما الخاصة. فبالنسبة إلى المثالية، التي تؤمن بأن الواقع روحي، يكون من المنطقي الاعتقاد بأن أوجه نشاطنا الذهني والإرادي قد تكون عالية على القوانين التي تحكم العالم غير الذهني أو خارجة عنها. وفضلا عن ذلك فإذا نظر إلى الواقع على أنه قوة خلاقة من نوع ما، فعندئذ يمكن أن ينظر إلى مثل هذه القوانين (أي قوانين العلة والمعلول مثلا) على أنها مخلوقة لكي تسري على العالم المادي على التخصيص. ومعنى ذلك أن تلك القوانين لا يقصد منها أن تسري على الذهن وأوجه نشاطه. وهذا موقف أشبه ما يكون بموقف المشرع الذي يضع قوانين لا تنطبق عليه هو نفسه.
الحتمية والمذهب الطبيعي : يوجه صاحب المذهب الطبيعي إلى المثالي، كعادته، تهمة ارتكاب جريمتين عقليتين: وضع العربة قبل الحصان، والإغراق في التفكير القائم على التمني. ففي رأي صاحب المذهب الطبيعي أن الأقرب إلى المنطق بالتأكيد هو الاعتقاد بأن الذهني قد انبثق من المادي، وبأن القوانين العامة التي تحكم الأصل تحكم الفرع أيضا. فهنا يكشف المثالي عن ميله المعتاد إلى جعل العالم مأمونا بالنسبة إلى القيم بأي ثمن، حتى لو كان معنى ذلك إغماض عينيه عن الوقائع وتجاهل النتائج الرئيسية للعلم. ويواصل صاحب المذهب الطبيعي كلامه قائلا إن من الواضح أن المذهب اللاحتمي، الأثير لدى المثالي، لا يهتم أساسا بالوقائع، وإنما يهمه تصوير العالم على أنه مشتل مصمم أحسن تصميم، تستطيع فيه أعز قيم الإنسان أن تنمو وتضمن ازدهارها الكامل. فينبغي أن يلاحظ مثلا أن الواقعة الفعلية الوحيدة التي يقدمها اللاحتمي تأييدا لموقفه هي الشعور بالحرية الذي نحس به عندما نتخذ قرارا. فإذا ما قارنا هذا الحدس الواحد بوقائع العلم التي لا حصر لها، ولا سيما كشوف علم النفس ، لبدت هذه «الواقعة» اللاحتمية الوحيدة منعزلة ضعيفة التأثير إلى حد بعيد. وينتهي صاحب المذهب الطبيعي من ذلك التساؤل: أيحق لنا أن نستغرب إذن حين نجد اللاحتمي يؤيد موقفه قبل كل شيء، على أساس ما ينبغي أن يكون عليه الموقف في عالم أخلاقي مرتكز حول القيم؛ أي على أساس ما يكون خيرا للإنسان؟
كلمة تلخيص : وهكذا يتحتم على مشكلة الحرية البشرية أن تنتهي كما تنتهي كل مشكلات الفلسفة: فلدينا إجابتان ممكنتان، كل منهما منطقية مقنعة، وكل منهما لها مزاياها العديدة، وعلينا أن نختار بينهما. ولا مفر لنا عند القيام بهذا الاختيار من أن نتأثر بنظرتنا العامة إلى العالم. ولكن ما الذي يتحكم في نظرتنا هذه إلى العالم؟ للإجابة عن هذا السؤال، ينبغي أن ندور في حلقة مفرغة: فاللاحتمي يقول إن اختيارنا لنظرتنا إلى العالم اعتباطي؛ إذ إن من الممكن القيام به على أسس أخلاقية وعقلية في فراغ لا سببية فيه. أما الحتمي فيقول إن اختيارنا لنظرتنا إلى الحياة هو أمر محدد لنا. وفي استطاعته أن يذكر عوامل متعددة تسهم في هذا التحديد الأساسي: منها عوامل ذهنية (كالتعليم والبيئة العقلية العامة، إلخ)، وعوامل مادية (كالصحة وتوازن الغدد)، وعوامل اجتماعية أو اقتصادية (كالجماعة الاقتصادية التي نولد فيها، ومقدار الشعور بالاستقرار الذي يمكننا الوصول إليه، إلخ). فنظرتنا إلى العالم، في رأي الحتمي، خاضعة لتحكم هذه العوامل الداخلية والخارجية مجتمعة، مثلما أن مسار الشهاب يتحدد تبعا للقوى المؤثرة فيه.
وسوف نعود في الفصل الأخير من هذا الكتاب إلى بحث هذا الموضوع العلمي الشائق، موضوع أصل تلك المواقف المتباينة من العالم والتجربة البشرية، كالمثالية والطبيعية. ومع ذلك فلا بد لنا، قبل محاولة القيام بتحليل نهائي، أن نواجه عدة مشكلات فلسفية رئيسية أخرى، بعضها يرتبط بعلم الأخلاق المعاصر ارتباطا وثيقا.
الفصل الخامس عشر
الأخلاق المعاصرة ومشكلاتها
كان المحور الرئيسي لتفكيرنا، في الفصول الثلاثة الخاصة بالأخلاق، والتي ختمناها منذ قليل، هو الأخلاق التقليدية أو الكلاسيكية. فالمصطلحات والمفاهيم والحجج قد توطدت كلها نتيجة لكثرة الاستعمال - فتلك هي الأدوات أو المقاييس التي ظل المفكرون الأخلاقيون يستخدمونها أجيالا عديدة، بل إن كثيرا من المفاهيم والخلافات ترجع إلى وقت سقراط وأفلاطون وأرسطو. والواقع أنه كان من المستحيل ، في مدخل عام إلى الفلسفة كهذا، أن نتجنب هذه النزعة التقليدية في التفكير الأخلاقي. ولقد كان من الممكن حتى عهد قريب القول بأنه لا يوجد فرع في الفلسفة تم استطلاعه وكشف معالمه كالأخلاق، ومن المؤكد أنه كان أقل الفروع تبشيرا بحدوث تطورات في المستقبل. وهكذا كان يبدو وكأن مختلف المدارس في ميدان الأخلاق قد حاربت بعضها بعضا حتى وصلت إلى مرحلة توقف - أو على الأقل نفدت ذخيرتها - دون أن يلوح في الأفق أي مصدر جديد لإمدادها بالمزيد منها. وعلى الرغم من أن مبحث القيم أو نظريتها العامة قد تطور تطورا ملحوظا خلال العصور الحديثة، مما أتاح أساسا نظريا أمتن للتأمل النظري الأخلاقي، فإن الأمور في ميدان الأخلاق ذاته بدت مستقرة تماما. وكل ما كان يمكن أن يقال في صف كل وجهة نظر كان قد قيل مرات متعددة على ألسنة الأجيال المتعاقبة من أنصار وجهة النظر هذه. وهكذا كان الملاحظ الذي يقوم باستعراض للأخلاق في مجموعها خلال العقد الأول أو العقدين الأولين من هذا القرن، خليقا بأن يكون في ذهنه انطباعا بأن هذا ميدان فكري ساكن نسبيا.
ومع ذلك ففي خلال ربع القرن الأخير أو نحو ذلك. تجددت حيوية الأخلاق على نحو ملحوظ. فقد توقف إلى حد بعيد ذلك التسكع القديم الهادئ في الدروب المطروقة للتفكير الأخلاقي، وعاد هذا الفرع من الفلسفة في الوقت الحالي إلى النشاط على نحو لا يقل عن نشاط أي فرع آخر في هذا الميدان. ولسنا نستطيع أن نحدد بدقة سبب يقظة الأخلاق من حالة الركود هذه، ومن الجائز أن عوامل متعددة قد تضافرت لتحقيق ذلك. وحين يستعرض المرء المؤلفات التي نشرت في هذا الموضوع خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، يبدو له أن هناك عاملين كان لهما تأثير خاص: أحدهما كان تأثيره تراكميا بطيئا، على حين أن الآخر كان انقلابيا مفاجئا . وبين هذين العاملين أتيح للمفكرين المعنيين بالنظرية الأخلاقية أن يقضوا في الآونة الأخيرة وقتا مليئا بالحيوية، وتفجرت خلافات جديدة في أرض الأخلاق بكثرة مثيرة.
هذان العاملان الرئيسيان اللذان أثرا في الأخلاق المعاصرة هما: (1) نمو العلوم الاجتماعية، ولا سيما علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا (2) والتجريبية المنطقية. ولو رجعنا بأنظارنا عدة عشرات من السنين، لوجدنا أن العامل الأول من هذين كان هو الأهم، أما بالنسبة إلى السنوات القلائل الأخيرة فقد كانت التجريبية المنطقية هي الأهم. وعلى أية حال فقد كان تأثير هذين العاملين معا من الأهمية بحيث أدى إلى تغيير كبير في ميدان الأخلاق بأسره. ومن سوء الحظ أن الخلاف الذي أثارته التجريبية المنطقية يحتدم الآن بشدة، وما زال الغبار كثيفا إلى حد لا نستطيع معه أن نذكر إلى أين تتجه المعركة. ومن ثم فإن أي عرض نحاول تقديمه قد يغدو بعد سنوات قلائل متخلفا عن ركب الزمان، ويقدم إلى الطلاب صورة مزيفة عن حدث هام في تاريخ الأخلاق؛ ولذا يبدو أن من الأفضل التركيز على التأثير الأوضح بكثير الذي مارسته العلوم الاجتماعية على الأخلاق المعاصرة. وعلى حين أن كثيرا من المشكلات التي أثارتها العلوم الاجتماعية لم يبت فيها بعد، من وجهة النظر الأخلاقية، فإن هذه المشكلات قد أصبحت الآن مبوبة ومعروضة بقدر من الدقة يتيح تقديم عرض متوازن لها؛ لذلك فسوف نكرس ما لدينا من حيز محدود لهذه المشكلات. (1) الأخلاق والعلوم الاجتماعية
كان من المحتم، بمجرد أن وصلت العلوم الاجتماعية إلى مكانتها العقلية الراهنة، أن يكون لها تأثير في التفكير الأخلاقي. فعلى عكس الفكرة السائدة بين الناس، والقائلة إن الفلاسفة (وضمنهم فلاسفة الأخلاق)، يسكنون أبراجا عاجية لا تربطها بالعالم الخارجي للحياة اليومية البشرية أدنى صلة، نجد أن التفلسف النظري في الأخلاق كان دائما وثيق الارتباط بالتفكير النظري والممارسة العملية المتعلقين بالميدان الاجتماعي المحيط به. بل لقد كان هذا التفلسف عادة مرتبطا ارتباطا وثيقا بالإطار الاجتماعي المباشر الذي يوجد فيه، ولو كان في التفكير النظري الأخلاقي ضعف عام واحد، فما ذلك إلا اتجاهه إلى أن يكون مجرد تبرير غير ظاهر أو «بطانة» عقلية صنعت بحيث يمكن أن تبنى عليها العادات الأخلاقية الرسمية أو المعترف بها في مجتمع معين وعصر معين. وبالاختصار فقد كانت الأخلاق، على وجه العموم، محلية أو إقليمية. ولم تكن معظم المذاهب الأخلاقية «شاملة» أو «أزلية» أو «مطلقة» أو «مثالية» كما تزعم عادة، وإنما كانت نسبية تبعا للحضارة والعصر التاريخي اللذين ظهرت فيهما. وفضلا عن ذلك كان الكثير منها ينتسب بوضوح إلى الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفيلسوف، أو التي ارتبط بها دون وعي.
ولو كان علينا أن نلخص التأثير العام للعلوم الاجتماعية في الأخلاق، لكان من الإنصاف أن نصفه بأنه زيادة في اتجاه الدقة والعمق، ونقص في الاتجاه المضاد، وهو اتجاه الإقليمية أو المحلية. هذه الدقة والعمق هي في الواقع مزيد من الوعي الذاتي والموضوعية؛ أي الإدراك المتزايد بأن الأخلاق تتعرض دائما للخطر الذي وصفناه من قبل، وهو أن تغدو مجرد أساس نظري للقواعد الأخلاقية المعمول بها في العصر الراهن. ومعنى ذلك أن المفكرين الأخلاقيين يبذلون جهدا مطردا لعبور مجالات المناخ الحضاري وتجاوز حدود القواعد الأخلاقية السائدة محليا، من أجل الوصول إلى الأسس الحقيقية للحكم الأخلاقي. وقد أصبحنا الآن أقوى شعورا مما كنا في أي وقت مضى بضرورة (وصعوبة) تحديد أساس نظام أخلاقي شامل بحق، بدلا من ذلك الذي ينطبق على المدنية الغربية وحدها، ويلائم المسيحيين دون غيرهم.
الأنثروبولوجيا الاجتماعية والأخلاق : من الجائز أن الأنثروبولوجيا الاجتماعية هي التي كان لها أكبر الأثر في هذا الصدد. ولقد أشرنا في فصل سابق إلى أن العالم الأنثروبولوجي لم يكن أول من اهتدى إلى أن العادات البشرية والمعايير الأخلاقية تتنوع إلى حد بعيد في شتى أرجاء العالم. ومع ذلك فقد كان أول من أماط اللثام عن كثير من الأسس الأيديولوجية التي تبرر هذه التنوعات. فقد كشفت لنا الأنثروبولوجيا عن مدى الاختلاف الجذري الذي يوجد بين بعض هذه الأيديولوجيات، بحيث لا يكون من المبالغة أن نقول إن أفراد جماعة حضارية معينة لا يعيشون في نفس العالم الذي يعيش فيه أفراد جماعة أخرى. فإذا قارنا مثلا بين فكرة حيوية الطبيعة، وهي الفكرة التي تضفي على الأشياء والقوى المادية عقلا وإرادة ، وبين النظرة العلمية التي تحرص على استبعاد هذه الأرواح من العالم المادي، لتبين لنا أن القائل بحيوية الطبيعة والعالم لا يتكلمان لغة واحدة بأي معنى حقيقي لهذا اللفظ. ويستنتج علماء الأنثروبولوجيا من ذلك أن من العبث لذلك أن نتوقع من الطرفين أن يتكلما لغة أخلاقية واحدة؛ ذلك لأن من حقنا أن نتساءل: أليس من الممكن، بل من المرجح، أن يكون عالما القيم اللذان يعيش فيهما القائل بحيوية الطبيعة والعالم متباينين بقدر ما تتباين نظرتاهما إلى العالم الطبيعي؟
ولقد أخذت تتزايد على الدوام، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر صعوبة مسايرة الأخلاق التقليدية - التي كانت تلتزم عادة بالبحث عن مذهب واحد، ثابت على مر الزمان، للقيم - للنتائج النسبية الواضحة التي ترتبت على الكشوف الأنثروبولوجية. فكلما ازدادت الوقائع الأنثروبولوجية تراكما، أصبحت مهمة تفسير ذلك التنوع الهائل للمعايير الأخلاقية على أساس مفهوم واحد للخير أصعب إلى حد يبعث على اليأس. حتى ظهر بوضوح في أوائل هذا القرن أن من الضروري النظر إلى المشكلة بأسرها من زاوية جديدة. وكان السؤال الذي يتعين البحث عن إجابة له هو في أساسه: هل يمكن أن تبنى الأخلاق، أو أية نظرية في القيمة، على العلم - ولا سيما العلم الطبيعي. أم أن عالم القيم مجال لا يستطيع المنهج العلمي أن يغزوه أو أن يسهم فيه بأي نصيب مفيد؟ وبالاختصار، فهل تكون تقويمات الإنسان وأحكامه المعيارية عالما متميزا تماما، لا صلة له ببقية تجربته؟
والواقع أن الموقف الذي أصبح يواجهه المفكرون الأخلاقيون كان شبيها بذلك الذي واجهه الدين منذ ظهور العلم، ولا سيما منذ فترة النمو الهائل للمعرفة العلمية خلال الأعوام المائة الأخيرة. فقد اضطر المفكرون الدينيون - وبخاصة أولئك الذين كانوا مسئولين عن اتخاذ القرارات العقيدية - إلى الاختيار بين أمرين؛ فهل ينبغي عليهم أن يظلوا يتقبلون هذه المعرفة الجديدة بمجرد الإعلان عنها، والتوفيق بينها وبين العقيدة الدينية على نحو ما، حتى ولو كان ذلك مقابل تخفيف هذه العقيدة إلى حد تصبح معه أوجه الشبه بينها وبين المذهب المسيحي كما عرفته الأجيال السابقة ضئيلة للغاية؟ أم أن من واجبهم، على العكس من ذلك، أن يتمسكوا بموقف الدين ويتجاهلوا الكشف العلمي، بل يفندوه؟ الواقع أن هذا الاختيار كان عسيرا بحق. وفي أمريكا سلكت الجماعات البروتستانتية المتحررة الطريق الأول، والجماعات المتمسكة بالعقيدة الأساسية
Fundamentalists
الطريق الثاني، غير أن ثمن كل اختيار كان باهظا إلى حد يصعب معه أحيانا على من يتأمل الأمور من الخارج أن يقرر أيهما كان يؤدي إلى خسارة في الهيبة والنزاهة العقلية أكبر مما يؤدي إليه الآخر.
وهكذا الحال في التفكير الأخلاقي في القرن الحالي؛ فهل يجب على الأخلاق ونظرية القيم أن تبذل جهدا مستمرا للانتفاع من المعرفة العملية، ولا سيما الأنثروبولوجيا وعلم النفس؟ أم أن عليها أن تتجاهل العلم على أساس أنه لا صلة له بمشكلتي «الخير» و«الحق»؟ إن أهم انقسام رئيسي في الأخلاق المعاصرة هو ذلك الذي يترتب على الإجابات المتعارضة عن هذا السؤال العظيم الأهمية. وعلى حين أن في علم الأخلاق المعاصر بالطبع مدارس متعددة، كما كانت الحال في الماضي، فإن هذه المدارس في عمومها تتبلور حول هذين القطبين الرئيسيين للتفكير الأخلاقي. ولو استطعنا أن نكون صورة واضحة عن هذا الاستقطاب الأساسي، لأمكننا تبديد كثير من الغموض والنزاع الناشب في هذا الميدان. (2) «مغالطة المذهب الطبيعي»
يمكن القول بأن ج. أ. مور، الفيلسوف الإنجليزي الذي أسهم بالكثير في فروع متعددة من الفلسفة المعاصرة، هو المفكر الذي يرجع إليه الفضل أكثر من غيره في إيضاح معالم هذا الخلاف. ففي كتابه «مبادئ علم الأخلاق
»، الذي هو دون شك الكتاب الذي أثار أكبر قدر من المناقشات في علم الأخلاق الحديث، يعرض الرأي القائل إن القيم الكامنة أو الباطنة تتميز بأنها (1) فريدة على نحو مطلق، (2) وغير قابلة للتعريف، (3) وتدرك بالحدس. ثم اتهم المفكرين الذين لا يقبلون هذه القيم على أنها فريدة غير قابلة للتعريف ومعروفة بالحدس «بمغالطة المذهب الطبيعي
Naturalistic Fallacy » ولقد ظل تأكيد هذه «المغالطة» ونفيها، طوال عشرات متعددة من السنين في الآونة الأخيرة هو المحور الذي تدور حوله الخلافات في علم الأخلاق، بحيث إن فهم هذه المغالطة يعد مدخلا معقولا إلى فهم الأخلاق المعاصرة.
طبيعة القيمة الكامنة : استخدمنا في عدة مواضع من الفصول السابقة اللفظ المنطقي «فريدا في نوعه» للتعبير عن شيء يكون فئة قائمة بذاتها، أعني شيئا لا يندرج تحت هذه الفئة أو تلك، ولا يمكن بأي حال تصنيفه تحت باب آخر. ويرى الموقف الأخلاقي الذي نبحثه الآن - الذي يمثله «مور»، أن أوضح مثال لما هو «فريد في نوعه» يوجد في عالم القيم. فهذه النظرية، في صميمها، تقول إن «القيمة» أو «الخيرية» فريدة بمعنى الكلمة، فهي ليست اسما آخر لشيء غيرها، «كاللذة» أو «السعادة». و«الخير» (حتى لو لم يؤخذ بمعنى شامل) متميز تماما عن كل ما يمكننا معرفته عداه. ونحن لا نسمي الأشياء «خيرة» لأنها تتصف بصفات معينة يمكن أن توجد أيضا في أشياء مفتقرة إلى الخيرية؛ أي إن الخيرية ليست مجموع صفات طبيعية أو وصفية، وليس ثمة وسيلة لاستخلاص الخيرية من صفات طبيعية بالتجريد أو التخليص. وهكذا نصل إلى أول تعبير محدد المعالم عن مغالطة المذهب الطبيعي التي سنعرفها بألفاظ مور ذاتها: «مغالطة المذهب الطبيعي هي القول بأن الخير لا يعني إلا فكرة بسيطة أو معقدة يمكن تعريفها على أساس صفات طبيعية».
1
ولقد كانت فكرة مغالطة المذهب الطبيعي ترتبط عادة بالاعتقاد بأن هناك انقساما ثنائيا دائما بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون؛ أي بين الواقع والقيمة، والمعياري والوصفي.
2
ويرى مور وأتباعه من خصوم المذهب الطبيعي أن هذه المغالطة تنشأ كلما حاولنا عبور الهوة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وبخاصة إذا حاولنا أن نستخلص الأخير من الأول. والمثل المألوف لهذه المحاولة هو القول بأن اللذة خير لأن كل الناس يسعون إليها، وبذلك نستمد القيمة من الواقع في هذه الحالة. أما خصم المذهب الطبيعي، أو الحدسي، فيتساءل دائما، كلما سمع استدلالا كهذا: «ما شأن هذا بالموضوع؟ هل يصبح خيرا لمجرد كون الناس يرغبون فيه - وفي هذه الحالة، كم يجب أن يكون عدد هؤلاء الناس؟ وما هي النسبة المئوية من الجنس البشري التي ينبغي أن تتفق في رغباتها قبل أن تصبح هذه الرغبات خيرا - أم أن من الممكن أن تعد رغبة شخص واحد، مهما تكن مضادة للمجتمع، خيرا؟»
لقد اقتبسنا من قبل سؤال اسبينوزا المشهور في هذه النقطة: هل نرغب في الأشياء لأنها خير في ذاتها، أم أننا نقتصر على تمجيد رغباتنا وتبريرها إذ نسمي موضوعها «خيرا»؟ لقد انحاز اسبينوزا إلى الرأي الثاني، كما فعل معاصره الإنجليزي «توماس هوبز»، الذي كتب يقول: «إن الإنسان يسمي «خيرا» كل ما هو موضوع لشهوته أو لرغبته». وقد اتفقت معظم أشكال المذهب الطبيعي في الأخلاق مع مفكري القرن السابع عشر هذين. غير أن الحدسيين من أمثال مور يختارون الرأي الأول على نحو قاطع. فالخيرية كامنة في بعض الموضوعات والمواقف، مثلما أن اللون الأصفر كامن في أشياء معينة. وفي استطاعتنا أن نمضي في التشبيه أبعد من ذلك: فكما أن اللون، من حيث هو تجربة، يستحيل تعريفه، ولا يمكن أن يعرف إلا بالمواجهة المباشرة لأشياء ملونة، فكذلك لا تعرف القيمة أو الخيرية إلا بالحدس، عن طريق كشفها في الموضوعات والمواقف. فمن المستحيل الاستدلال عليها أو المناقشة حولها. فالخيرية كامنة، وإذا كان هناك فرد معين يعجز عن إدراكها فلا بد أن نفترض أن هناك عمى أخلاقيا مثلما أن هناك عمى للألوان.
ولعل «دافيد هيوم» كان أول من أدرك أن المفكرين الأخلاقيين كثيرا ما يتحولون من الواقع إلى القيمة؛ أي مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون - في مرحلة معينة من مناقشتهم، وأن معظم أنصارهم كانوا يقبلون هذا التحول بسهولة دون نقد. والواقع أن تعليق هيوم على هذا الموضوع جدير بأن يقتبس بأكمله: «لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن أضيف إلى هذه الاستدلالات ملاحظة ربما تبين أن لها بعض الأهمية. ففي كل مذهب أخلاقي صادفته من قبل ، لاحظت دائما أن الكاتب يمضي بعض الوقت في الطريق المألوف للاستدلال، ويثبت وجود الله، أو يقوم بملاحظات عن أمور البشر، ولكني أندهش إذ أجد فجأة ، بدلا من الروابط المعتادة للقضايا، وهي «يكون» أو «لا يكون»، أن كل القضايا ترتبط بألفاظ «ينبغي» أو «لا ينبغي». هذا التغير لا يمكن إدراكه، ولكن له مع ذلك أهمية كبرى. ذلك لأنه لما كان لفظ «ينبغي» و«لا ينبغي» هذا يعبر عن علاقة جديدة أو تأكيد جديد معين، فمن الضروري أن يلاحظ ويفسر، وفي الوقت ذاته فمن الضروري تقديم سبب لما يبدو أمرا لا يتصور على الإطلاق، وهو كيفية استنباط هذه العلاقة من غيرها من العلاقات التي تختلف عنها كل الاختلاف. ولكن لما كان الكتاب لا يحتاطون على هذا النحو عادة، فسوف أوصي القراء بذلك وأنا على ثقة أن قدرا بسيطا من التنبه إلى هذا الأمر كفيل بهدم جميع المذاهب الفجة في الأخلاق، وجعلنا ندرك أن تمييز الرذيلة من الفضيلة لا يبنى فقط على علاقات الأشياء، ولا يدرك بالعقل».
3
وبعبارة أكثر إيجازا، فإن هيوم يقول إننا لا نستطيع استخلاص نتائج أخلاقية من مقدمات غير أخلاقية. ويمضي الحدسيون أبعد من ذلك بكثير، فيؤكدون أننا لا نستطيع تعريف المفاهيم الأخلاقية على أساس مفاهيم غير أخلاقية؛ ذلك لأن عالم الأخلاق أو القيمة منفصل تماما عن العالم غير الأخلاقي ولا يمكن أن يرد إليه، ما دامت الكيفيات الأخلاقية مختلفة في النوع كل الاختلاف عن الكيفيات غير الأخلاقية.
وهناك قائمة طويلة للأشياء التي ينكر الحدسيون أن القيمة يمكن أن ترد إليها على التخصيص، ولكن من المفيد أن نذكر بعضها؛ إذ إن من المحتمل أن يكون القارئ نفسه قد قام بعملية رد كهذه؛ ولذا يحسن به أن يتنبه إلى ما فعل. ولا شك أن إيراد قائمة «الرد» هذه سوف يقتضي الكلام عن كثير من المدارس المتنافسة في التفكير الأخلاقي، ولكن لما كنا قد ناقشنا من قبل عدة مدارس من هذه، فسوف يكون عرضنا لهذه المدارس موجزا.
القيمة ليست عملية طبيعية : ينكر المذهب الحدسي، كما هو واضح، إمكان إرجاع القيمة إلى عملية طبيعية أو ما يترتب عليها. ومن ثم فهو يرفض الأخلاق التطورية، التي ترى أن القيمة هي آخر الأمر كل ما يعين على البقاء أو يحقق مصلحة النوع.
بل إن الحدسيين يأبون أن يدرجوا صفات بشرية رفيعة، كالتعاون والتعاطف (التي يعتقد بعض التطوريين، ومنهم دارون، أنها نواتج للانتقاء الطبيعي)، ضمن القيم التي يعترفون بها إذا كان أساس قبولها هو أنها تساعد البشر. وليس معنى ذلك أن مفكرا مثل مور ينكر أن التعاطف والتعاون من ضمن القيم، وإنما هو ينكر أن تكون هاتان خيرا لأن لهما قيمة تفيد في حفظ النوع، أو لأنهما تخففان من مصاعب الحياة البشرية، أو لأنهما تستتبعان نتائج طيبة. ولنقل مرة أخرى إن هذه الصفات كامنة؛ أي إنها خير لأنها خير، لا لأي سبب يعد وسيلة لشيء آخر.
كذلك يرفض الموقف الحدسي بشدة الرأي القائل إن العمليات الاجتماعية، المتميزة عن عملية بيولوجية كالتطور، تتحكم على أي نحو في تحديد القيم. وهو يهاجم بوجه خاص النظريتين الأكثر شيوعا من بين النظريات القائلة بالعملية الاجتماعية، وهما الماركسية والبرجماتية، فالمذهب الماركسي مثلا يرى أن القيم الرئيسية في أي مجتمع هي إلى حد بعيد تعبير عن مصالح الطبقة ذات السيطرة الاجتماعية والاقتصادية على هذا المجتمع. ولذا لم تكن هناك قيم شاملة، ولا سيما في ميدان الأخلاق. ولا يمكن أن يكون هناك إلا «أخلاق بورجوازية» (وهو تعبير أثير لدى الماركسيين)، أو «أخلاق رأسمالية»، أو «قيم جماعية عمالية». وهذا يؤدي إلى جعل القيم نسبية تماما، وتصبح النظرية الحدسية القائلة بقيم كامنة تدركها كل الأذهان ممتنعة تماما. فأقصى ما يمكن أن تكونه الأخلاق هو أن تكون مشتركة بين كل أفراد الطبقة الواحدة فحسب، وهم الذين يشتركون أيضا في نفس المصالح الاقتصادية والسياسية.
القيمة لا تتوقف على الموافقة : ويعارض الموقف الحدسي بنفس القوة نظريات القيمة المتعددة التي تحاول التوحيد بين التقويم وبين الموافقة أو الاستحسان. هذه الآراء المرفوضة تتفق مع موقف اسبينوزا وهوبز في القول بأن تسمية هذه الشيء «خيرا» لا تعني إلا أننا (بوصفنا أفرادا أو مجتمعا) نوافق على هذا الشيء، ونجده «باعثا للذة» أو «مرغوبا» فيه أو «مرضيا» أو ما شاكل ذلك. ويرى الحدسي أن هذه الآراء المبنية على فكرة الموافقة أو الإقرار تكشف عن ماهية «مغالطة المذهب الطبيعي» ذاتها، ما دام من الواضح أنها تجعل ما هو كائن؛ أي ما يرغب فيه، مساويا لما ينبغي أن يكون؛ أي لما يطلب إلينا أي مذهب أخلاقي أن نسعى إليه.
ولعل أعنف نقد يوجهه الحدسي إلى النظريات التي تبني القيمة على الموافقة، هو أن هذه النظريات، آخر الأمر، تجعل القيمة ذاتية وشخصية تماما، وبذلك تسمح بحالة تقترب من الفوضى الأخلاقية؛ ذلك لأن من الواضح أن هذه النظريات تسمح لي بالموافقة على شيء ترفضه أنت. ولكن إذا لم يكن «الخير» يعني إلا الموافقة، فلا بد أنك ستصادف مواقف يوصف فيها الشيء الواحد بأنه «خير» و«شر» - مما يجعل هذين اللفظين خلوا من المعنى في نظر أي مذهب شامل للقيم. ويرى الحدسي أن ما نحتاج إليه هو معيار عام أو شامل للقيمة، ولكن الاختلاف الواضح بين الناس حول ما ينبغي الموافقة عليه يجعل نظريات الموافقة مستحيلة. وحتى لو اشترطنا موافقة المجتمع أو الجماعة فسيظل هناك الاختلافات بين الجماعات الاجتماعية، وبذا لا نقترب من المعيار العام أكثر كثيرا مما كنا عندما اتخذنا من موافقة الفرد مقياسا لنا.
القيمة لا تتوقف على الله أو الحقيقة الشاملة : لا بد أن يكون القارئ قد أدرك الآن أن المذهب الحدسي الأخلاقي يرتبط ارتباطا وثيقا بمذهب كانت في الأخلاق المطلقة، وكذلك بالمذاهب المثالية عامة (وربما بمذهب الألوهية المفارقة)؛ لذا قد يكون مما يدعو إلى الدهشة أن يعلم القارئ أن الحدسي، إلى جانب رفضه أية محاولة لبناء القيم على الطبيعة المادية أو الطبيعة البشرية، يحمل أيضا على الجهود التي تبذل لبناء القيمة على أي نوع من النظام الميتافيزيقي (كما تفعل المثالية) أو حتى وضعها في إطار لاهوتي (كما يفعل رجل الدين). وهو يحمل بوجه خاص على الرأي المميز لمذهب الألوهية، والقائل إن «الخير» أو «الحق» يتحددان بإرادة الله أو مشيئته. وعلى الرغم من أن الحدسي عادة لا يتوسع كثيرا في هذه المسألة، فإن تعاليم معظم أفراد هذه المدرسة تنطوي على القول بأن الله يقر أشياء معينة لأنها خير في ذاتها، مستقلة عن الطبيعة الإلهية. فخيريتها سابقة للألوهية، والله يمجد القيم ويسعى إلى تحقيقها لنفس السبب الذي نفعل نحن من أجله ذلك: أي لأنها كامنة ولا ترد إلى أي شيء أكثر أساسية منها. وليس الله هو الذي يصنع هذه القيم الكامنة، وإنما هو يستجيب لها استجابة الرضا فحسب، مثلما أفعل أنا وأنت، ولا يمكن أن يؤدي أي فعل للإرادة الإلهية إلى تغيير خيريتها.
والأمر كذلك بالنسبة إلى العلاقة بين «الخير» وبين «الواقع
Real » كما يتصور على أساس ميتافيزيقي. فالقيم لا تكون في نظر الحدسي «خيرا» لأنها تندمج في العقل المطلق أو الكلي، وإنما هي مستقلة واقعية في ذاتها. وإذا لم يكن هناك بد من بيان العلاقة بينهما، فلنقل إنها تساعد على تحديد طابع «الواقع الشامل»، لا العكس كما يعتقد معظم الميتافيزيقيين.
كيف تعرف القيم؟
هذا التأكيد المستمر لاستحالة إرجاع القيم الكامنة إلى أي شيء، طبيعيا كان أم فوق الطبيعي، فيما عدا الطابع الفريد لهذه القيم ذاتها، يؤدي بنا إلى هذه المشكلة الإبستمولوجية: كيف يمكن معرفة هذه القيم؟ أو بعبارة أعم، كيف يمكن معرفة أي شيء يكون فريدا تماما في نوعه، بحيث لا تنطبق عليه الألفاظ المنسوبة إلى بقية تجربتنا؟ ولو كانت القيم فريدة بحيث لا تلائمها الألفاظ الوصفية التي تستخدم عادة في تصنيف تجاربنا، فما الذي يمكننا أن نقوله عن هذه القيم، دون أن يكون من قبيل الخزعبلات الصوفية؟ وكيف نستطيع تبادل المعلومات المتعلقة بها، وكيف نربطها ببقية عناصر تجربتنا الشخصية؟ أو نتساءل، من وجهة النظر الإبستمولوجية: أليس أي رأي مثل رأي مور هذا موازيا للتجربة الصوفية لله، وهي التجربة التي لا توصف ولا تعبر عنها الألفاظ؟
الواقع أن المفكرين الذين يتخذون هذا الموقف لا يصفونه بأنه مذهب صوفي، ولكنهم في الوقت ذاته لا يتهربون من الوقائع الإبستمولوجية. فهم يعترفون بأن ما هو فريد لا يمكن أن يعرف إلا بالإدراك الحدسي المباشر . فهذه المعرفة مباشرة بالضرورة، لا مقالية أو لغوية
Discursive . وقد استخدمنا من قبل التشبيه الأثير لدى مور، وهي تجربة إدراك اللون: «فالأصفر» ليس شيئا يمكن وصفه أو معرفة بعملية استدلالية، وإنما هو يعرف مباشرة بالمواجهة، أو لا يعرف على الإطلاق. وهكذا الحال في «الخيرية» فإذا لم نعرفها مباشرة كلما واجهنا مواقف وموضوعات معينة، فلن نعرفها على الإطلاق. وليس في وسع أحد أن يقنعنا أو يجادلنا لكي يجعلنا نعترف بالخيرية؛ إذ إننا لو كنا ندركها فلن نحتاج إلى استدلال، أما لو لم نكن ندركها فلن يكون للاستدلال جدوى.
4 (3) المذهب الحدسي والإلزام
يذكر القارئ أن هناك مشكلتين كبريين تحتلان في البحث النظري للأخلاق مكانة رئيسية، وتتساويان في أهميتهما وتعقيدهما. هاتان المشكلتان تتعلقان بطبيعة الخير ومصدر الإلزام. وأغلب الظن أنه لم يكن هناك مفر، بعد أن شاع الاعتراف بالنظرية الحدسية في الخير، من أن تظهر نظرية موازية لها في الإلزام. ولقد كان أشهر المدافعين عن هذه النظرية مفكر إنجليزي آخر، ه. أ. برتشارد
H. A. Prichard . فقد نشر من سنوات طوال، في عام 1912م، مقالا من أكثر مقالات الأخلاق الحديثة إثارة للجدل تحت عنوان مشوق هو «هل ترتكز الفلسفة الأخلاقية على خطأ؟»
5
ويبدأ برتشارد بالاعتراف بفردانية الخير، بنفس لهجة «مور» القاطعة، ولكنه بعد ذلك ينكر أن يكون الخير هو العامل الوحيد في الأخلاق، أو أن يكون من الممكن استخلاص الواجب أو الإلزام من الخير. فكما ينكر الحدسيون إمكان استخلاص «ما هو خير» «مما هو موجود»، فكذلك ينكر برتشارد بدوره إمكان استخلاص الواجب من الخير. وكذلك لا يمكن استخلاص الإلزام من أي شيء آخر؛ فهو بدوره غير قابل للرد، مستقل بذاته، فريد في نوعه.
والواقع أننا نبدأ في إدراك مدى التغيير الجذري الذي يمثله موقف برتشارد عندما نتريث لحظة ونتأمل كيف أننا نبث بانتظام في نفوس الصغار من أفراد مجتمعنا الفكرة القائلة إنه ينبغي أو لا ينبغي لهم أن يفعلوا أشياء معينة؛ لأن هذه الأفعال (1) تساعد الآخرين أو تضرهم (2) تجعل الآخرين سعداء أو تعساء، (3) تجعلهم هم أنفسهم سعداء أو تعساء (4) تؤدي إلى استحسان المجتمع أو استهجانه، (5) تنطوي على إطاعة أو عصيان لأوامر الله، بل إن الأمر المطلق ذاته عند (كانت)، وإن يكن قريب الشبه ما نحن بصدده إلى حد بعيد. يبدو أقل تطرفا لأن «كانت» قد أوضح بعد ذلك أن خرق الأمر «افعل واجبك لأنه واجبك» ينطوي على تناقض منطقي، كما رأينا في الفصل الثالث عشر، بل إن برتشارد يخالف التراث على نحو أكثر تطرفا عندما ينكر أن الالتزام بأداء فعل يتوقف على خيرية شيء متضمن في الفعل - كإطاعة القانون مثلا. فالفعل يكون خيرا لأنه يؤدى بوصفه واجبا؛ أي إن سبب أداء الفعل هو الذي يمكن أن يجعله خيرا، لا نتائجه.
كذلك تعتمد نظرية الإلزام هذه على إحساس بالإلزام يتصف بأنه مباشر، غير متوقف على العقل، هو الذي يكشف لنا عن واجبنا. فإذا كنا واعين لكل الوقائع في موقف معين، فعندئذ ندرك الإلزام إدراكا كاملا مباشرا. ويشبه برتشارد هذا الفهم بفهم العلاقات الرياضية، ويرى أن الموقفين يتضامنان إدراكا لحقائق واضحة بذاتها. وكما يقول هو ذاته في المثل الذي يضربه، فإذا لم نكن واثقين أننا أتينا بالحل الصحيح لمسألة رياضية، فكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نحلها مرة أخرى. فليس في استطاعتنا أن نلجأ إلى مصدر خارج عن الرياضيات لكي نتأكد منه. وهكذا الحال في المواقف الأخلاقية المتعلقة بالواجب: فإذا لم نكن واثقين من أن هناك واجبا، فكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نعيد حل المسألة الأخلاقية - أرى أن نعيد النظر في الوقائع الأخلاقية.
ولا يستطيع برتشارد أن ينكر أن هناك أشخاصا يجدون صعوبة في إدراك الالتزامات، مثلما أن هناك أشخاصا يجدون أن من العسير عليهم فهم العلاقات الرياضية. ولكن، مثلما أننا عندما ندرك العلاقة آخر الأمر في الرياضيات، نعجب كيف غابت عنا من قبل، فإننا عندما ندرك الإلزام في النهاية قد نعجب كيف فاتنا من قبل - وكيف لا يزال يوجد من يعجزون عن رؤيته. وفي كلتا الحالتين تصبح الحقيقة مطلقة واضحة بذاتها، كما تصبح مكتفية بذاتها من حيث إن أي شيء من خارج الموقف لا يلزم لجعلها صحيحة.
المذهب الحدسي والعلوم الاجتماعية : من الواضح أن هذه المواقف الحدسية تمثل رد فعل على العلم الاجتماعي، وذلك على الأقل بالنسبة إلى ما قد يكون لهذا العلم من تأثير في مجال الأخلاق. ومن الواضح أيضا أنها تشكل رد فعل مماثل لرد فعل المتمسكين بأساسيات الدين (
Religious Fundamentalist ) على العلم الجيولوجي والبيولوجي؛ أعني أن رد فعلها هو الدحض والتفنيد. فالمذهب الحدسي في الأخلاق هو في أساسه رفض للتعامل مع العلوم الاجتماعية، بإنكار إمكان وجود أية صلة لعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والاقتصاد والعلوم السياسية والتاريخ بالأخلاق. وهكذا فإن الحدسي؛ إذ يرفض أن يدع الأخلاق «تتلوث» بمثل هذه المؤثرات، يحفظ «للخير» و«الواجب» نقاءهما. أما كونه يجعلهما عقيمين نتيجة لموقفه هذا أم لا، فتلك مسألة ما زالت موضوع مناقشة في الأوساط الأخلاقية. فمن الواضح إذن أن الموقف الحدسي مضاد للنسبية، وعلى الرغم من أن أنصاره يتجنبون عادة إدراج أنفسهم ضمن القائلين بمذهب المطلق، فإن خصومهم يجدون من اليسير أن يصفوهم بهذا الوصف.
خصوم المذهب الحدسي : على الرغم من أن المذهب الحدسي قد انتقد من مصادر متعددة، فلا جدال في أن أعنف معارضة له جاءت من تلك المدارس التي تحاول بالفعل أن تتلاقى مع العلوم الاجتماعية الدائمة التوسع، عن طريق استيعاب كشوفها ومواجهة نتائجها. ومن الواضح أن مثل هذه المدارس تعمل في جو عقلي مختلف تماما عن ذلك الذي يتنفس فيه الحدسيون. ويمكن القول باختصار أن هذه الفئة التي تعارض المذهب الحدسي تجمع بينها حقيقة واحدة. فكلها تنكر أن تكون «مغالطة المذهب الطبيعي» المزعومة مغالطة بالفعل، وتؤكد بدلا من ذلك أن القضايا الأخلاقية لا يمكن فقط أن تستمد من العالم الواقعي للطبيعة المادية والطبيعة البشرية، بل ينبغي أن تستمد من هذا العالم إذا شئنا أن يكون للأخلاق أي معنى أو أي مجال. وبالاختصار، فهي تنكر إمكان القيام بالتفكير الأخلاقي في فراع ثم تحويله إلى عالم الأمور البشرية. وهذا يعني أن هذه المدارس المؤمنة بالمذهب الطبيعي تفند صراحة الفكرة الأساسية في المذهب الحدسي، وهي فكرة الاستقلال الذاتي للقيم، وفردانيتها، واستحالة ردها إلى غيرها.
ولكن من سوء الحظ أن هذه المدارس، بعد أن اتحدت في معارضتها للمذهب الحدسي، قد سلكت طرقا متشعبة إلى حد بعيد. وهذا يزيد من صعوبة تقديمها إلى القارئ، بل يجعله مستحيلا في حدود كتاب كهذا. فلا بد من صفحات كثيرة لتقديم عرض معقول للمدارس الرئيسية التي تؤمن بالمذهب الطبيعي في الأخلاق، أما إذا شئنا تقديم عرض شامل لها، فسوف نحتاج إلى فصول كاملة. ذلك لأن كل مدرسة تبذل جهودها الخاصة لاستخلاص القيمة من الواقع، و«الخير» من «الموجود». وكثير من هذه المحاولات بارعة، بل إن بعضها رائع - وكلها تقريبا معقدة عسيرة، ولا بد من الاعتراف بأن أيا منها (أو حتى كلها مجتمعة) لم تفلح في تحويل الكثير من خصوم المذهب الطبيعي في الأخلاق إلى هذا المذهب.
والأجدر بنا، بدلا من أن نبعث الاضطراب في ذهن القارئ بتقديم موجزات لا بد أن تكون سريعة غير وافية لمدارس المذهب الطبيعي هذه، أن نلخص بعض الصعوبات التي تعترض أي مفكر لديه إحساس بالمسئولية، يحاول إدماج الأخلاق في العلوم الطبيعية. هذه الصعوبات هي نفسها بالطبع التي تقنع معظم الحدسيين بأن الأخلاق لا يمكن أن تستمد من العلم أو حتى أن ترتبط به، وتدفعهم إلى اتخاذ موقفهم المتطرف. وهذه كذلك هي المشكلات التي تؤدي إلى ظهور رد فعل ثالث ممكن، يتخذ على طريقته الخاصة موقفا لا يقل تطرفا من موقف المذهب الحدسي - هذا الاتجاه الثالث هو مذهب الشك الأخلاقي الذي ينكر إمكان قيام أية نظرية صحيحة في القيمة، أو إمكان الاهتداء إلى أي أساس منطقي للإلزام. ويرى الشكاك أن القيم كلها بلا استثناء، ليست نسبية فحسب، بل هي فردية وشخصية بالمعنى الدقيق، وهي أيضا اعتباطية في نهاية الأمر؛ إذ إنها ترتد إلى حكم أو اختيار لا عقلي، وقد يكون لا شعوريا.
المواقف الثلاثة الممكنة : وهكذا فإننا عندما ندرس الأخلاق المعاصرة والعلوم الاجتماعية في مجموعها، نجد أن هناك ثلاثة مواقف رئيسية ممكنة إزاء هذه العلوم ومعرفتها المتراكمة. ففي الطرفين القصيين نجد المذهب الحدسي ومذهب الشك، كليهما ينكر أننا نستطيع استخلاص القيمة والإلزام من الواقع الاجتماعي أو الأنثربولوجي أو النفسي، ولكن بينما أحدهما يعود إلى الإدراك الحدسي للحقائق الأخلاقية الفريدة الواضحة بذاتها، فإن الآخر يظل يؤكد أن هذا مذهب يائس، صوفي، غيبي في أساسه، وأن المبررات التي يرتكز عليها أضعف حتى من تلك التي يبرر بها المذهب الطبيعي جهوده للتخلص من النزعة الذاتية والاعتباطية عن طريق استخلاص «القيمة» من «الواقع» و«الإلزام» من «العادات الاجتماعية». وهكذا فإن الشكاك ينظر إلى المذهب الطبيعي والمذهب الحدسي معا على أنهما غير صحيحين، وينكر إمكان كشف أية معرفة أخلاقية. أما صاحب المذهب الطبيعي، فهو إذ يرفض ما يرى أنه نزعة يأس في أحد الموقفين، واتجاه انهزامي في الموقف الآخر، يواصل مهمته العسيرة التي كثيرا ما تكون مثبطة للهمم - مهمة استخلاص القيم من عالم الطبيعة المادية والطبيعة البشرية، واثقا أنه سيتمكن بمضي الوقت من بناء مذاهب في القيمة على أسس من العلم مشابهة لمذهب المعرفة التي نستطيع الآن بناءها على هذه الأسس. (4) الصعوبات التي تواجه الأخلاق المعاصرة
فلننتقل الآن إلى الصعوبات التي لا مفر للعلم الاجتماعي من أن يثقل بها كاهل الأخلاق المعاصرة، وهي صعوبات تؤدي بأحد الأطراف إلى التراجع الصوفي، وبالآخر إلى الانهزام الشكي، وبالثالث إلى الإصرار العنيد. ولقد تكررت إشارتنا من قبل إلى النتائج النسبية التي يبدو أنها تتولد حتما عن التراكم الهائل للبيانات والوقائع الأنثروبولوجية التي أصبحت الآن في متناول أيدينا، بحيث لا نحتاج الآن إلى أن نضيف الكثير إلى ما قلناه في هذا الموضوع؛ ذلك لأن التنوعات في المعايير البشرية ونظم القيم تبدو في نظر علماء الأنثروبولوجيا لا نهائية العدد، ولا جدال في أنه يندر أن نجد مشتغلا في هذا الميدان يؤمن بوجود عناصر مطلقة في الأخلاق والقيم، مستقلة عن إطارها الحضاري. ويرى علماء الأنثروبولوجيا عادة أن أقصى ما يمكننا أن نفعله هو أن نكتشف قيما مشتركة محدودة مصدرها وجود عنصر أساسي مشترك لا يرد إلى غيره في الطبيعة البشرية، وهو عنصر لا يمكن أن تقضي عليه الاختلافات الحضارية؛ ومن ثم فإن هؤلاء العلماء الاجتماعيين يبدون أحيانا استعدادهم للاعتراف على حذر بإمكان وجود مشاعر اجتماعية مشتركة بين الناس جميعا، تسمح بوضع إطار أخلاقي عام غير محدد المعالم، ومع ذلك ينبغي أن يلاحظ أن علماء الأنثروبولوجيا ينظرون إلى هذا الإطار على أنه شيء لو أمكن أن يتحقق، لما كان مستمدا إلا من الطبيعة البشرية. وهكذا فإنهم يقدمون بذلك عونا لأصحاب المذهب الطبيعي في الأخلاق، لا للحدسيين؛ إذ إن إمكان استخلاص الأخلاق من الطبيعة البشرية على هذا النحو ينطوي، كما هو واضح. على «مغالطة» المذهب الطبيعي ...
على أن أهم الصعوبات المؤدية إلى الشك تأتي اليوم من جانب علم الاجتماع وعلم النفس، لا من جانب الأنثروبولوجيا. فهذا الأخير قد خلق إشكالات للمفكرين الأخلاقيين في القرن التاسع عشر، أما في هذا القرن فإن علم النفس وعلم الاجتماع هما اللذان يسببان إشكالات أصعب للمفكرين النظريين في ميدان الأخلاق. والواقع أن هذين العلمين الاجتماعيين بعينهما يتضافران أساسا على إيجاد عقبة كأداء أمام الأخلاق المنهجية والبحث العقلي في النظم الأخلاقية. هذه العقبة هي اقتناع كل علماء النفس، ومعظم علماء الاجتماع - وهو اقتناع تؤيده أدلة دائمة التزايد - بأن الإنسان حيوان لا عقلي يفتقر سلوكه، حتى في الحالات التي يبدو فيها أخلاقيا ومراعيا للقيم تماما، إلى أي منطق أو تعقل. ويضيف عالم الاجتماع إلى هذا الاقتناع أدلته على أن الإنسان هو إلى حد بعيد نتاج للتكيف الاجتماعي، الذي يكون في كثير من الأحيان فعالا إلى درجة تؤدي إلى تشويه الأحكام الأخلاقية إلى حد يغدو فيه أي ادعاء بأن هذه الأحكام موضوعية أو صحيحة ادعاء يثير السخرية.
6
ومع ذلك فلنستمع إلى ما يقوله ثلاثة من رواد العلوم الاجتماعية، كان لتأثيرهم معا دور كبير في إعطاء علمهم طابعه المعاصر.
علم الاجتماع ونزعة الشك في الأخلاق : هناك اثنان من علماء الاجتماع اشتهرا بوجه خاص بوصفهما متحدثين باسم نزعة الشك الأخلاقية، وعلى حين أن بعض زملائهما يعدون وجهة نظرهما متطرفة، فليس ثمة شك في أنها كانت قوية التأثير. ففي أوائل هذا القرن، وضع العالم الأمريكي وليام جراهام سمنر نظريته في العادات الشعبية
Folkawys ، التي أرجعت الأحكام الأخلاقية إلى مظاهر لا عقلية في أساسها، لقوى اجتماعية هي ذاتها غير عقلية. ويعني «سمنر» بتعبير
Folkways
العادات الشائعة في أية جماعة اجتماعية وهذه قد تتفاوت ما بين وضع أزرار لا فائدة منها في أكمام سترة الرجال، إلى الحظر القانوني لزواج المحارم. هذه العادات مستقلة عن أفكارنا عنها، ولا تسير حسب قواعد معقولة، وهي لا تتفق إلا مع المزاج أو الموقف العام لزمانها ومكانها الخاص
7
ولها ما يمكن أن يعد حياة خاصة بها: ذلك لأن «سمنر» يرى أنها تولد، ويتقدم بها العمر، وتموت ولا يمكن أن تؤثر فيها بوضوح إلا قوى قليلة (منها التعليم).
وعندما يعتقد أفراد مجتمع معين أن هذه العادات تسهم في تقدم المجتمع، فقد يسمونها «سننا
Meres » (وهو اللفظ الذي اشتقت منه كلمة الأخلاق في اللغات الأوروبية)، غير أن هذه السنن ذاتها ليست أخلاقية بمعنى كونها عقلية وموضوعية. ذلك لأنها لا تتولد عن مثل عليا، وإنما عن قوى اجتماعية خارجية. وليس ما تعده تقويمات أخلاقية سوى تعبيرات عن عادات اجتماعية بالغة الأثر، أو تبريرات لها، وهي عادات نألفها إلى حد أنها تبدو لنا أكثر من مجرد عادات، وتصبح لها بسهولة مكانة القوانين الأخلاقية المطلقة، والأوامر الإلهية، وما شابه ذلك. ويسدد «سمنر» ضربة أخيرة إلى ادعاءات المعقولية والموضوعية والشمول من جانب المذاهب الأخلاقية، فيؤكد أن الفلسفة والأخلاق النظرية تستمدان معا من العادات الشعبية. فليس في وسعهما أن تفلتا من الحدود التي يفرضها عليهما أصلهما، أكثر مما يستطيع الإنسان أن يحمل نفسه من أربطة حذائه. بل إن العالم الاجتماعي ذاته ليس أكثر تحررا من هذا القيد، فهو بدوره خاضع لتلك الحدود التي تفرضها العادات الشعبية لعصره وحضارته.
وبالاختصار، فإن المفكر الأخلاقي، حتى عندما يحاول بناء مذهبه على أسس من العلم، فهو لا يعبر إلا عن رغبة عندما يصوغ نظرية إيجابية في القيمة (وهذا الحكم يصبح أكثر انطباقا عليه عندما يتجاهل هذا الأساس العلمي كما يفعل المذهب الحدسي). والأرجح من ذلك بكثير أنه إنما يبرر الأخلاق السائدة أو المعترف بها في عصره. ولما كانت هذه الأخلاق مهما كان من سموها، لا تعدو أن تكون تعبيرا عن السنن الاجتماعية أو العادات الشعبية ذات الوجهة الاجتماعية فإن أرفع المذاهب الأخلاقية الشاملة وأكثرها معقولية إنما هو في أساسه خدعة وقور، من حيث إنه يدعي لنفسه ما لا يمكن على الإطلاق أن يكونه أي مذهب عقلي بحكم طبيعة الوقائع الاجتماعية ذاتها.
وهناك عالم أشهر في أوساط علم الاجتماع الدولية، هو العالم الإيطالي المعاصر «فلفريدو باريتو»، الذي ربما كان كتابه المؤلف من أربعة مجلدات: «الذهن والمجتمع» أقوى المؤلفات تأثيرا من بين كل ما نشر في هذا الميدان في القرن الحالي. وهناك حقيقة تهم الفلاسفة والمناطقة بوجه خاص، هي أن باريتو قد تأثر بقوة بالتجريبية المنطقية - ولعل كتابه أفضل مثال لتفكير عالم اجتماعي يدور في إطار ذلك الموقف الإبستمولوجي الذي عرضناه في الفصل الحادي عشر، فهو يشترط أن تكون جميع النظريات والعبارات قابلة للتحقيق في التجربة. وكثيرا ما يقول عندما يناقش النظريات الأخلاقية الكلاسيكية: «من المستحيل تصور الطريقة التي يمكن بها تحقيق قضية من هذا النوع في التجربة». وهكذا فإن قدرا كبيرا من شكه في الأخلاق والبحث النظري الاجتماعي يتسم بطابع التجريبية المنطقية، لا بطابع علم الاجتماع كما هي الحال عند «سمنر».
ومن الممكن التعبير عن بعض أفكار باريتو الرئيسية تعبيرا مركزا في فقرة أو اثنتين. فهو يرى أن تركيب المجتمع ينطوي على عنصرين رئيسيين، كلاهما لامنطقي ولا عقلي. فهناك أولا البواقي
Residues
الأكثر أساسية: وتلك هي المقاصد التي تكمن من وراء جميع أفعالنا، والتي يعد الكثير منها غريزيا. هذه المقاصد تظل ثابتة نسبيا في الفرد، وإن كان من الممكن أن يطرأ عليها تغير تدريجي خلال فترة من الزمن. وهناك عناصر أخرى أقل أساسية، ولكنها أكثر وعيا من الأولى، هي المشتقات
Derivations
وتعد هذه تعبيرا صريحا عن البواقي، ويتألف معظمها من الحجج التي نستخدمها في الدفاع عن هذه البواقي الكامنة أو في تبريرها. وليس للمشتقات، شأنها شأن جميع التبريرات، أو الأسباب التي نأتي بها لتبرير ما نريد القيام به (أو ما قمنا به فعلا)، إلا قيمة منطقية ضئيلة، أو ليست لها قيمة على الإطلاق. ويصف باريتو معظمها بأنها براهين لفظية، إن لم تكن سفسطات فارغة.
وتعد معظم أحكامنا الأخلاقية (من أمثال: «هذا خير» و«ذاك شر») مشتقات؛ أي تبريرات للرغبات، تتفاوت درجة إحكامها. وهي بوصفها مشتقات، ليس لها تأثير كبير في البواقي التي تزينها أو تبررها، فليس للمثل العليا الأخلاقية إلا تأثير ضئيل في المجتمع أو الفرد، وإن كانت قد ترغمه على بذلك جهد كبير لكي يضفي على سلوكه مظهر الاتفاق مع الأخلاق المعترف بها. ولا يتردد باريتو في وصف معظم النظريات والأحكام الأخلاقية بأنها ضرب من النفاق، على الرغم من أنه لا يدعي أن هذا يكون في العادة نفاقا شعوريا.
وأخيرا يبدو باريتو قريبا كل القرب من كارل ماركس عندما يصف الطريقة التي يسهل بها على النظريات الأخلاقية أن تخدم مصالح الطبقة الحاكمة التي تسعى إلى الاحتفاظ بالسلطة واستغلالها. فهو يرى أن نسبة كبيرة من النظريات الأخلاقية تعبيرا عن رغباتنا ومصالحنا الأساسية، فليس من المستغرب أن تكشف هذه الأحكام في كثير من الأحيان عن العاطفة أكثر من المنطق، وعن التبرير أكثر من العقل. كذلك فإنه لما كانت المعايير الأخلاقية لجماعة أو طبقة تعبر كذلك عن مصالح الجماعة ورغباتها، فمن المحتم أن تكون هذه المعايير كذلك بعيدة كل البعد عن الطابع المنطقي أو الموضوعي، مهما تكن الصورة المنطقية المزعومة التي تتخذها.
لذلك فليس لنا أن ندهش إذ نجد باريتو يمتدح ماكيافيلي، الذي كان يسعى على الدوام إلى وصف أفعال الشر على ما هي عليه بالفعل، لا كما ادعوا أو ظنوا أنها عليه. وليس لنا أن ندهش من أن باريتو يبدو لبعض الناس ساخرا بالقيم، ولا سيما إذا كان هؤلاء الناس أنفسهم يتصفون بأي قدر من الحساسية العقلية. ولكن سواء أكان عالم الاجتماع الإيطالي هذا ساخرا بالقيم، أم كان شخصا واقعيا فحسب، فمن المؤكد أنه كان مصدرا هاما من مصادر نزعة الشك الأخلاقية المعاصرة.
علم النفس ونزعة الشك الأخلاقية : هناك علماء نفس كثيرون، ومدارس كثيرة في علم النفس، أسهموا جميعا في بث روح الشك الفعلي في إمكان قيام أي مذهب أخلاقي صحيح، ولكن من المؤكد أن فرويد وحركة التحليل النفسي التي كان هو مؤسسها كان لهما الدور الأكبر في هذا الصدد، بل إنه ليس من المبالغة أن نقول إنه حتى لو لم تكن توجد مصادر أخرى في ميدان علم النفس عملت على تغذية هذا الشك، فإن تأثير فرويد كان في ذاته كافيا لإحداث هذه النتيجة ذاتها تقريبا، ولجعل أكثر المفكرين النظريين الأخلاقيين ثقة يتساءل عما إذا كان يضيع وقته سدى عندما يحاول بناء الأخلاق على أساس عقلي.
ولقد أصبحت نظرية فرويد في حياة الإنسان العقلية معروفة الآن إلى حد يكفينا معه أن نقدم موجزا بسيطا لها فحسب. فهو يرى أن ما نسميه بالوعي أو الشعور؛ أي العقل الواعي، ليس إلا جزءا من الحياة النفسية الكاملة لدى كل فرد. فهناك الذهن اللاشعوري، الذي هو أكبر بكثير في مضمونه، وأقوى أثرا بكثير في تحديد سلوكنا. هذا الطابق السفلي، المليء بالأوحال، الذي يقوم عليه بنياننا الذهني، هو مقر الغرائز وشتى أنواع الرغبات، والذكريات التي كبتت على نحو أشد من أن يسمح لها بدخول مجال الوعي. ويحتوي هذا اللاشعور على ثلاثة عناصر أو قوى لا يفعل الذهن الواعي شيئا سوى تلبية أوامرها، بل إن الوعي ليس إلا جهازا آليا بلا إرادة خاصة به، فهو مجرد واجهة أو متحدث بلسان «الثلاثة الكبار» الذين يعملون من وراء الستار.
8
هؤلاء القادرون على كل شيء هم ال: هي
Id ، والأنا
Ego ، والأنا الأعلى
Superego . «فالهي» لها مطالب لا تشبع، وهي أنانية ولا أخلاقية تماما، والكلمة الوحيدة التي تعرفها هي «أريد»، وهي تجسد كل الرغبات العمياء والشهوات المحرمة. وفي مقابل هذه نجد الأنا الأعلى، الذي نسمي مظهره الواعي باسم «الضمير» وينظر فرويد إلى الأنا الأعلى على أنه صوت المجتمع في صيغته العامة، وبخاصة كما يتمثل في العصور التي نذكرها عن الآباء والمعلمين الذين بلوا جهودا كبيرة لكي يهذبونا في سنوات عمرنا الأولى. هذا الأنا الأعلى مستبد، ومتمسك بما يجب أن يكون، وهو يفرض علينا، بطريقته الخاصة، مطالب لا تقل عن تلك التي تفرضها «الهي». فهو يعارض آليا مطالب «الهي»، وخاصة أقوى مطالبها وأكثرها إلحاحا، كتلك المتعلقة بالإشباع الجنسي الذي لا تقيده حدود. أما الأنا فهو الوسيط الأعظم. فهو يسعى إلى اتخاذ موقف وسط بين القوتين الطاغيتين، الرغبة والضمير. ولو قلنا إن هذه المهمة عسيرة، لكان في هذا تخفيف كبير لحقيقة الموقف. ففي بعض الأحيان يصل إلى الوعي من هذه الحرب الدائرة ومن محاولة التوفيق الاضطرارية قدر يكفينا لندرك مدى شدتها، ولكن الذي يحدث في معظم الأحيان هو أن المعركة تدور من وراء أبواب تظل موصدة بإحكام بتأثير ما يسميه فرويد «بالرقيب» وهو عنصر رابع في حياتنا النفسية المضطربة. فالرقيب لا يسمح بدخول الوعي إلا لتلك الرغبات (وللقوى المضادة التي تكبتها) التي لا تستثير سخط معاييرنا الأخلاقية. غير أن هذه مجموعة منسقة مختارة من الرغبات، أما الجزء الأكبر من الرغبات فهو أكثر إباحية، ولا أخلاقية، وأنانية، وقسوة، من أن يسمح له الرقيب بالمرور، ولكن تأثيرها مع ذلك يظل قائما.
وأهم نقطة أتى بها فرويد فيما يتعلق بنزعة الشك الأخلاقية هي أن سلوكنا الواعي، العقلي، الأخلاقي، يتحكم فيه اللاشعور و«الثلاثة الكبار» المتصارعون فيه. ولما كانت هذه القوى كلها لا عقلية ولا أخلاقية تماما، فكيف يمكن ألا يكون سلوكنا لا عقليا، غير متأثر بالأحكام الأخلاقية؟ ذلك لأن الأنا الأعلى ذاته، الذي يبدو أخلاقيا، لا يقل عماء عن «الهي»؛ لأنه لا بد أن يعبر عن مضمونه المتراكم من التحريمات والتهديدات والعقوبات الأبوية، ومظاهر الاستهجان والنواهي الاجتماعية، والتحذيرات الدينية، وما شابهها - وكلها أمور لا عقلية وتعسفية. وفضلا عن ذلك فمن الممكن أن يكون الأنا الأعلى قاسيا جبارا إلى حد لا يتصور، فيعذب الشخص الذي عصى أوامره عن طريق «عقدة ذنب»، أو «عصاب قلق» أو غيرها من العقوبات التي تدوم إلى الأبد، والتي أحكم وضعها بحيث تجعل السعادة مستحيلة.
يرى علماء النفس أن أفكارنا «العقلية» المؤدية إلى حكم أخلاقي «موضوعي»، أو إلى وضع مذهب أخلاقي، ليست إلا واجهة تخفي القوى الحقيقة التي تحركنا؛ أعني الرغبات اللاشعورية، وأجهزة الدفاع وأساليب التوفيق والحلول الوسطى. فنحن نخدع لأن الأنا يبدو عقليا، غير أن هذا راجع إلى أن الرقيب الدائم اليقظة لا يسمح إلا للجوانب الأفضل للحياة النفسية بأن تظهر على عتبة الوعي. والواقع أن أكثر الناس معقولية وأخلاقية يظلون في أساسهم مجرد دمى تحركها قوى عمياء بدأنا بالجهد نعترف بوجودها.
وعلى حين أن التحليل النفسي، بوصفه ضربا من ضروب العلاج، قد حقق أعظم نتائجه في الحالات التي تعمل فيها قوى لا عقلية واضحة - كحالات الحصر والمخاوف (الفوبيا) والمرض العقلي - فإن المحللين يؤكدون أن الأفراد الأسوياء المتكيفين تكيفا سليما، تحركهم نفس الدوافع اللاشعورية التي تحرك الأشخاص العصابيين. وكل ما في الأمر أن ذلك الشخص الذي نسميه سويا هو شخص كان من حسن حظه أن مداولات «الثلاثة الكبار» فيه أقرب إلى المتوسط أو إلى ما يقره المجتمع أو إلى النمط الفعال للسلوك من الشخص العصابي. غير أن هذه مجرد مصادفة سعيدة، وليست دليلا على مزيد من المعقولية أو الأخلاقية من جانبه.
وينتهي فرويد، فيما يتعلق بأحكامنا التقويمية الصريحة، إلى نتائج مشابهة لتلك التي انتهى إليها «باريتو»: فليست الأحكام إلا تعبيرات عن ضميرنا، الذي لا يمكن الاعتماد عليه بوصفه مرشدا للسعادة البشرية أكثر مما يمكن الاعتماد على الرغبة، لسبب بسيط هو أن جذور الضمير لا تقل انفعالية ولامعقولية عن رغباتنا ذاتها. ومن هنا فإن أحكام الناس التقويمية هي على أحسن الفروض، مجرد «محاولات يدعم بها الناس أوهامهم بالحجج والمناقشات»
9
حسب تعبير فرويد ذاته. وهو يعترف بأن الأخلاق إنما هي دفاع المدنية ضد العدوان، ولكنه يؤكد أن الأخلاق «يمكن أن تسبب من الشقاء قدر ما يسببه العدوان نفسه»
10
وبالاختصار فإن الأخلاق، من حيث إنها مصدر للسعادة البشرية، «ليس لديها ما تقدمه هنا فيما عدا الرضا النرجسي الذي يرجع إلى اعتقاد المرء بأنه أفضل من الآخرين».
11
أي إن اعتقاد الإنسان بأن من الممكن توجيه السلوك البشري والتحكم فيه بالأخلاق العقلية ليس إلا واحدا من أوهامه الكبرى.
أين نحن إذن؟ يمكن القول إننا حتى لو أقللنا من قدر أفكار «سمنر» و«باريتو» و«فرويد» على أساس أنها أنصاف حقائق مبالغ فيها، فإن النصف الباقي يظل يشكل كتلة هائلة تعترض مباشرة طريق التفكير الأخلاقي المعاصر. وهكذا نستطيع أن ندرك الآن السبب الذي جعل بعض المفكرين يتراجعون إلى اتخاذ الموقف الحدسي، وهم يهتفون: «مغالطة المذهب الطبيعي! ...» وكأنها سبة. كذلك نستطيع أن ندرك السبب الذي جعل غيرهم ينسحبون إلى نزعة الشك وهم يصيحون: «لا أمل! لا أمل!» ... ولكن قد يكون من العسير أن ندرك ما الذي يدعو صاحب المذهب الطبيعي في الأخلاق إلى أن يغرق في خضم تلك المجموعة الهائلة من المعطيات الاجتماعية النفسية محاولا إيجاد أساس سليم لأحكام القيم.
ولو سألنا أصحاب المذهب الطبيعي الأخلاقي هؤلاء، الذين هم حقا أناس يتصفون بقوة العزيمة، عن هذا الموضوع، لكان ردهم: «أين هو الشيء الآخر الذي نستطيع أن نجد فيه أساسا متينا لنظريتنا في القيم؟ وأن نستطيع أن نأمل في إيجاد مكان لها، بعد رفض المذهب فوق الطبيعي القائل بأن للقيم أساسا سماويا، والرأي الحدسي القائل إنها فريدة في نوعها، واضحة بذاتها، لا ترتبط بالطبيعة أو بالتجربة البشرية بأسرها؟ من الواضح أن الطبيعة (وضمنها الإنسان ذاته) هي المصدر الوحيد الباقي. ولما كانت معرفتنا بالطبيعة تأتي من العلم، وأفضل معرفة لنا بالطبيعة البشرية تأتي من العلم الاجتماعي، فلا بد لنا من التحالف مع هذين المصدرين.»
وكم كان يسرنا أن نترك لدى الطالب إحساسا يقينيا بأن أصحاب المذهب الطبيعي في الأخلاق يسيرون بخطوات جبارة في المهمة التي أخذوها على عاتقهم وهي تشييد بناء للقيم على أساس من الواقع. ولكن من سوء الحظ أن أي انطباع مرض كهذا لا بد أن يكون مضللا. بل إن المتشبثين من أصحاب المذهب الطبيعي في الأخلاق يعلنون أن تقدما قد حدث في هذا الاتجاه، فقد مهدت الأرض على الأقل، وقيست أبعاد المشكلة. فإذا تذكرنا أن المفكرين الرواد من أمثال سمنر وباريتو وفرويد لم يكشفوا عن ضخامة المشكلة إلا منذ عهد قريب، لوجب علينا أن نعترف عندئذ بأن تمهيد الأرض من حولها ليس بالأمر اليسير.
فهل يعني ذلك كله أن التفكير الأخلاقي المنهجي في أيامنا هذه مضطرب منقسم على نفسه؟ من الواضح أنه يعني هذا بالفعل. وهل يعني أيضا أن المستقبل في علم الأخلاق غير مشجع، بل ميئوس منه؟ إننا عندما نرجع بأنظارنا إلى التاريخ الطويل للتفكير النظري الأخلاقي، لكي نرى كم من الأزمات استطاع هذا التفكير أن يجتازها، لن نعود نصف الموقف الراهن بأنه ميئوس منه، والأفضل أن نصفه بأنه يدعو إلى التروي، وينطوي على تحد، ولكنه ليس مثبطا للهمم. وخلال ذلك، فحتى يجيء الوقت الذي يتسنى فيه للمفكرين الأخلاقيين أن يلموا الشتات ويبدءوا عملهم مرة أخرى على أساس جديد، فقد تكون مهمتنا، بوصفنا أبناء وبنات للقرن العشرين العاصف المضطرب، أن نتعلم كيف نعيش في ظل اللايقين، ونبني حياتنا على الاحتمالات بدلا من القيم المطلقة التي كان يدعيها أجدادنا. ولا يبدو أن لنا، من وجهة نظر الأخلاق؛ أي مخرج آخر، إلا أن نقبل المذهب الحدسي أو المذهب فوق الطبيعي.
الفصل السادس عشر
علم الجمال: ربيب الفلسفة
قد يجد الدارسون الجدد للفلسفة صعوبة في تصور الطريقة التي يمكن أن يندمج بها علم الجمال وفلسفة الفن داخل الإطار العام للفلسفة. ومن أسباب هذه الصعوبة أن معظم الطلاب أقل اهتماما بمشكلات الفن والجمال، وربما أقل معرفة بها، مما هم ببعض المشكلات الأخرى في الفلسفة، كالمشكلات المتعلقة بعلم الأخلاق وبالأخلاق العملية. وينبغي لنا أن نعترف بأن هذا الفرع الذي سندرسه الآن، يحتاج إلى تجربة متخصصة تفوق ما يتسنى لبعض القراء اكتسابه. ولقد أشرنا من قبل إلى أن للمشكلات الأخلاقية طابعا لا يمكن التخلص منه؛ إذ إن من الضروري أن يمارس البشر جميعا ، في كل ساعة من ساعات يومهم تقريبا، ملكة الاختيار لديهم بطريقة تنطوي على نتائج أخلاقية. أما ميدان علم الجمال، فعلى حين أنه مجال متعلق بالقيم، شأنه شأن الأخلاق، وفيه فرص ممكنة للاختيار لا تقل عما توجد في الأخلاق، فإن أناسا قليلين هم الذين نظموا حياتهم بحيث يجدون ممارسة هذا الاختيار الجمالي أمرا لا مفر منه. ففي استطاعة المرء أن يعيش حياة كاملة دون أن يصدر أكثر من حفنة من الأحكام الجمالية، ومن المؤكد أن هناك أناسا كثيرين يعيشون راضين تماما فيما يمكن أن يعد فراغا جماليا.
ومع ذلك فمن المستحيل، كما ذكرنا في فصل سابق، أن يفكر المرء تفكيرا عميقا في أي ميدان دون أن يواجه أولا مشكلات عقلية عامة. ثم يصادف بعد ذلك مسائل لها قطعا طابع فلسفي. وليس ميدان الفن والجمال استثناء من هذا الحكم العام. فعلى الرغم من أن البقاء خارج هذا الميدان أسهل من تجنب مجال الأخلاق، فإننا مجرد أن تطأ أقدامنا الميدان الفني أو الجمالي، نتعرض في أية لحظة للتعثر في حقل ألغام فلسفي شديد الانفجار.
على أن هذا الميدان ربما كان هو الذي شهد أكثر المحاولات إلحاحا لتجنب المشكلات الفلسفية النهائية (وقد يكون ذلك موقفا دفاعيا بالنسبة إلى أي شخص ما عدا المفكر الميتافيزيقي)، بل لتجنب أشد المشكلات الجمالية وضوحا. وقد كانت محاولات التهرب هذه متفاوتة أشد التفاوت، ما بين موقف عقيم يقول فيه المرء: «لست أعرف أي شيء عن الفن، ولكني أعرف ما أفضله». وموقف جمالي فوضوي صريح، يصف فيه ناقد تأثر
Impressionistic
مثل «أناتول فرانس» نشاطه النقدي الخاص وصفا دقيقا بأنه «يروي قصة مغامرات روحه مع الأعمال الفنية الكبرى». على أن هذا الرأي الأخير في النقد لا يعبر عن نفس القدر من السذاجة العقلية الذي يعبر عنه موقف: «إنني أعرف ما أفضله»؛ ذلك لأن الناقد، بإشارته إلى «الأعمال الفنية الكبرى»، قد اعترف ضمنا بمعيار للتقويم خارج نطاق تفضيله الشخصي الخاص. صحيح أن مغامراته شخصية دون شك، ولكنه لا يزعم أن الحكم على العمل الفني بأنه «عمل كبير» هو تقويم شخصي كذلك. فهو إذن يفترض ضمنا نوعا من المعيار النقدي، وهذا يستتبع منطقيا مجال التأمل الجمالي بأسره. وهكذا، فبينما معظم الناس لا يشعرون بضرورة عملية تحتم عليهم بحث مشكلات الفن وعلم الجمال، فإن أولئك الذين يودون التبصر في حياة الذهن وعالم النشاط العقلي يجدون أن بحث هذا الميدان ملزم لهم منطقيا على نحو لا يقل عن سائر فروع الفلسفة. (1) حداثة عهد علم الجمال
علم الجمال هو أصغر أبناء الفلسفة؛ إذ إنه احتفل منذ عهد قريب جدا بعيد ميلاده المائتين بوصفه فردا معترفا به في الأسرة الفلسفية. فقبل أواسط القرن الثامن عشر، كان كثير من المفكرين يشيرون إلى مشكلة الفن وطبيعة الجمال، ولكن القليلين جدا منهم هم الذين تعمقوا بالفعل في المسائل الأساسية. وكان أفلاطون قد أثار أسئلة حول طبيعة الفن وعلاقته بالأخلاق، كما تضمن كتاب الشعر لأرسطو نظرية من أوسع النظريات تأثيرا في الفن التراجيدي. ومع ذلك فإن الوعي الجمالي، كما نفهمه اليوم، لم يكن له وجود تقريبا في ذلك الوقت، كما يشهد بذلك كل لفظ في نظرية أفلاطون.
1
بل إن قدرا كبيرا من التفكير الحديث في هذا الموضوع، في أوائل عهد هذا التفكير عند الفلاسفة مثل «باومجارتنر
Baumgartner » (الذي أعطى علم الجمال اسمه) كان محدودا مبدئيا إلى حد بعيد. ومن هنا فإن علم الجمال، في معناه الجديد الزاخر، ما زال دراسة حديثة العهد جدا.
ونظرا إلى حداثة عهد علم الجمال، فليس من المستغرب أن نجد هذا الميدان أقل تنظيما وترتيبا من الفروع الأخرى للفلسفة. كذلك ينبغي ألا ندهش إذ نجد اختلافا في استخدام المصطلحات ونصادف من آن لآخر خلطا في المسائل الأساسية. والواقع أن قدرا من هذا الخلط يرجع إلى أسباب غير حداثة عهد الموضوع؛ ذلك لأن أي مذهب فلسفي تام، مجهز تجهيزا كاملا، كان يشتمل تقليديا على بحث في الفن والجمال. ولقد أدى ذلك في بعض الأحيان إلى نتائج سيئة؛ إذ نجم عنه بعض البحث النظري غير المدقق، وبعض الكتابات التي تتسم بالغموض والتخبط غير العادي. وفي بعض الأحيان لم يكن لدى الفيلسوف إلا اهتمام حقيقي ضئيل بعلم الجمال، وكان تقديره للفن أقل حتى من هذا القدر. كذلك نجم عن هذا السعي وراء الاكتمال ضرر آخر؛ إذ كان يعني في بعض الأحيان أن الأفكار الجمالية لا تجد ما ترتكز عليه بذاتها، وإنما يتعين عليها أن تدخل في إطار مذاهب ميتافيزيقية صيغت من قبل. وهكذا كان علم الجمال في كثير من الأحيان ربيبا للفلسفة، وكان أحيانا يدرج ضمن أفراد الأسرة لمجرد الشعور بالواجب، لا بدافع أي إحساس حقيقي بالحب الأبوي.
بعض الدلائل على النضج المتزايد : من حسن الحظ أنه قد ظهرت خلال نصف القرن الأخير دلائل على تزايد الحكمة في هذا الموضوع. ويبدو أن هذا التحسن في مركز علم الجمال يرجع إلى أمرين، أولهما سلبي، فمعظم الفلاسفة اليوم أقل طموحا في تكوين مذهب فكري شامل مما كان أسلافهم، وهم على استعداد لإغفال تلك الأجزاء من الفلسفة، التي لا يهتم بها المفكر اهتماما أصيلا، أو التي لا يشعر بأنه على استعداد كاف لبحثها. وهناك سبب آخر أوضح ظهورا، لتزايد أهمية البحث النظري الجمالي في الوقت الراهن، هو التغير الذي طرأ على المزاج الفلسفي في الآونة الأخيرة. فحتى عهد قريب، كالجزء الأخير من القرن التاسع عشر مثلا، كان الطابع الغالب على الفلسفة هو الطابع العقلي. فقد كانت الفلسفة مبنية على المنطق إلى حد بعيد - لا بمعنى أنها كانت تستخدم المنطق أداة عقلية، بل بمعنى أنها كانت تنبعث مباشرة عن العمليات المنطقية وتتخذ طابع هذا النشاط العقلي الصرف. «فالعقل
Reason »، كان هو الأداة الرئيسية للنشاط الفلسفي. وباستثناء شوبنهور وقليل من المفكرين أصحاب المذهب الإرادي، الأقل منه شأنا، فإن الفلاسفة لم يجعلوا للمشاعر أو الانفعالات مكانة كبيرة في مذاهبهم، بل إن معظم المفكرين منذ عهد أفلاطون فصاعدا كانوا يتجهون إلى الحط من شأن المشاعر والإقلال من قيمتها بوصفها وسائل للكشف عن طبيعة الواقع. ذلك لأن الحواس والمشاعر والانفعالات (وهي ألفاظ كانت تستخدم في معظم الكتابات الفلسفية بمعنى مترادف تقريبا ) كانت تعد إما عاجزة عن كشف الواقع، وإما عقبات إيجابية في وجه هذا الكشف. وقد بدا أن الكثير من المثاليين، ولا سيما أولئك الذين كانوا أساسا من أصحاب الاتجاهات العقلية، يأبون أن يعترفوا للحواس والانفعالات بأية أهمية، حتى فيما يتعلق بإدراك الجمال.
غير أن ظهور الفلسفات ذات النزعة الإرادية، ولا سيما البرجماتية، مقترنا بالمزاج التجريبي العام للفكر المعاصر، قد أرغم المفكرين على إعادة النظر في دور الانفعال في عملياتنا المعرفية. وهذا بدوره قد شجع على صياغة نظريات فلسفية تعترف بالأهمية الفائقة لمشاعر الإنسان ورغباته، حتى بالنسبة إلى عملياتنا المنطقية وأعمالنا العقلية. وهكذا استعيض عن التفكير الجمالي ذي الاتجاه العقلي الجاف، الذي كان في كثير من الأحيان مبنيا على أسس فنية هزيلة، والذي عرف في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر (مع استثناء واضح هو شوبنهور مرة أخرى)، بتأملات جمالية تكشف في كثير من الأحيان عن إلمام واسع جدا بالفنون، بالإضافة إلى تجربة جمالية شخصية غنية متعمقة إلى حد يفوق كل ما كان يتصوره مفكر مثل كانت.
2
وقد يكون من العسير أن نقنع الطلاب الذين ليس لديهم إلا إلمام محدود بالفنون، أو لا يستجيبون للجمال في أية صورة إلا استجابة محدودة، بأن للتفكير الجمالي من الأهمية ما يبرر الكلام عنه في مدخل عام إلى الفلسفة (كهذا الكتاب). ومع ذلك فإن أي قارئ توصل إلى إدراك وجود التجربة الجمالية وإمكاناتها الهائلة، سيجد في الصفحات التالية على الأقل بعض المفاهيم والتفرقات التي قد تلقي ضوءا على هذه التجربة، من حيث ما تكونه في ذاتها، ومن حيث علاقاتها ببقية أوجه النشاط العقلية والروحية للإنسان. (2) مشكلات علم الجمال
لعل عدم إيضاح المفاهيم المستخدمة في علم الجمال هو أهم أسباب الخلط الذي يشيع في التفكير الجمالي على نطاق واسع. فلا توجد في هذا الميدان إلا مصطلحات أساسية قليلة العدد، ومع ذلك يبدو أن هذه الحقيقة ذاتها قد شجعت على استخدام هذه المصطلحات بطريقة فيها خلط وغموض. فالمصطلحات التقليدية الرئيسية في علم الجمال كانت ثلاثة ، أضيف إليها مصطلح رابع في الآونة الأخيرة. أما المصطلحات التقليدية فكانت بسيطة مألوفة إلى حد الإملال، وهي: الجمال، والفن، والطبيعة. ومع ذلك فإن الجزء الأكبر من الجدل الدائر في ميدان علم الجمال قد تركز حول طبيعة هذه المعاني الثلاثة ومكانتها، سواء في ذاتها أو في علاقة كل منها بالأخرى. وقد أدى إدخال مصطلح التعبير في العصر الحديث إلى إثراء المشكلة إلى حد بعيد، وتعقيدها كثيرا في نفس الوقت، بحيث أصبح هذا المفهوم الجديد محور الجدل في الوقت الراهن. وعلى الرغم من أن مجال علم الجمال بأسره يمر في الوقت الحالي بحالة من السيولة، فقد بدأت تظهر وسط هذا التدفق الشامل جزر ممكنة معينة، وهناك من الأسباب ما يبرر الاعتقاد بأن هذا الموضوع قد يحقق في وقت قريب مزيدا من الوضوح، وتصبح له مكانة أعظم في عالم العقل.
ما الجمال؟ إذا قفزنا بجرأة في قلب الدوامة الصاخبة، لبدا لنا أن أعظم قدر من الخلط كان يتركز دائما حول لفظي «الفن» و«الجمال». ولهذا الخلط أسباب متعددة. فإذا ما نظرنا إلى الجمال في ذاته، بغض النظر عن كونه يتبدى في الطبيعة أم في الفن، لواجهتنا أولا مشكلة تقديم تعريف مرض لهذا اللفظ. وترتبط مشكلة مكانة الجمال ارتباطا وثيقا بالمشكلة السابقة المتعلقة بطبيعته. فهل الجمال ذاتي أو موضوعي؟ وهل هو يكمن في الموضوع، أم أنه لا يوجد إلا في ذهن المشاهد؟ وإذا اتخذنا موقفا وسطا وقلنا إن الجمال ينشأ من نوع من الجمع بين العاملين الموضوعي والذاتي، ففي أي نوع من الجمع يظهر؟ وإذ قررنا أن الجمال موضوعي، فما علاقته بالواقع ككل؟ وما مكانة الجمال في الكون؟ ومن جهة أخرى فإذا نظرنا إلى الجمال على أنه ذاتي، فهل هو يكشف أي شيء عن طبيعة الواقع الخارجي، أم أنه لا أهمية له إلا من حيث هو يكشف عن الطبيعة البشرية؟
وعندما نبحث، بصورة أخص، في الجمال من حيث علاقته بالطبيعة والفن كل على حدة، نجد أنفسنا إزاء مشكلات أشد من هذه تعقيدا. فهل الجمال الذي يخلقه الفنان من نفس نوع الجمال الموجود في الطبيعة - وهل يؤدي عنصر الغرضية؛ أعني كون الجمال الفني يخطط ويبعث إلى الوجود عن قصد وعمد، إلى إيجاد فارق يؤدي إلى إدراج نوعي الجمال ضمن فئتين مستقلتين؟ إن جميع النقاد والفنانين والباحثين الجماليين تقريبا متفقون على أن الجمال الفني معبر إلى حد يستحيل أن يبلغه الجمال الطبيعي، وليس من شك على الإطلاق في أن الجمال الفني أشد تعقيدا. وما هو بالضبط دور الجمال في الفن؟ لقد كان من المسلم به دون أي شك تقريبا، حتى عهد قريب، أن أي عمل فني ينبغي قبل كل شيء أن يكون جميلا وكان معظم المفكرين الجماليين في الماضي يرون أن خلق الجمال هو الهدف الأول للفنان. وما زالت عامة الناس تؤمن بذلك، كما يتضح أن أكثر الانتقادات التي يوجهها الأشخاص العاديون إلى الفن المعاصر شيوعا هو أن الأعمال التي يبدعها ليست جميلة بالقياس إلى أعمال «أساطين الفن القدماء» - وهي عبارة تعني في هذه الحالة عادة أي فنان أنتج قبل عام 1890م. (3) مشكلات الفن
إذا نظرنا إلى الفن بأعين المفكر الجمالي التحليلية، لوجدنا أنفسنا على التو إزاء مشكلات مثل: ما هدف الفن؟ هل ينبغي أن يحاكي الطبيعة؟ وإن كان الأمر كذلك، فما هي أوجه الطبيعة لاتي ينبغي أن يحاكيها - ما دامت أية محاكاة كاملة تكاد تكون مستحيلة؟ وهل يجب على الفن أن يضفي على الطبيعة صبغة مثالية، أو أن يقتصر في تصويره على الأقل على الأوجه الأكثر مثالية للعالم الطبيعي؟ أم أن من الواجب أن نتخلى عن نظرية المحاكاة برمتها، ونقول إن الفن تعبير عن استجاباتنا للطبيعة؟ وإن كان الأمر كذلك، فأية استجابات نعني؟ أهي استجابات الفنان الشديد الحساسة، أم تلك التي يمارسها الناس جميعا، بغض النظر عن تعليمهم أو خبرتهم أو ذكائهم أو حساسيتهم؟
وماذا نقول عن العلاقة بين الفن والأخلاق؟
لقد تفاوتت وجهات النظر في هذه المشكلة إلى حد بعيد، بل إننا حتى في الوقت الحالي، حين أصبحت الأخلاق أكثر تحررا في عمومها مما كانت عليه طوال أجيال عديدة، ما زلنا نجد اتجاهات تتباعد إلى حد يوحي باستحالة الوصول إلى اتفاق في الرأي. فهل ينبغي الحكم على موضوع أي عمل فني بنفس المعايير الأخلاقية التي نستخدمها في الحكم على هذا الفعل أو الموقف (الذي يمثله هذا الموضوع) لو حدث في الحياة الواقعية؟ أم أن للفنان الحرية في معالجة أي موضوع بالطريقة التي يراها مناسبة؟ وهل يقف العمل الفني في فراغ أخلاقي، أم أن هناك نوعا من «الأخلاقية العليا»، توصف بأنها أكثر تحررا، وربما تعمقا، من أية أخلاق اجتماعية مألوفة، يتعين على الفن الخلاق أن يراعيها؟
الفن والتعليم : هناك مشكلة أخرى تقف إلى جوار هذا الخلاف الحاد: هي مشكلة العلاقة بين الفن والتعليم. هذه المشكلة الجديدة، حين تكون متعلقة بالتعليم الأخلاقي، تعود بنا إلى المشكلة السابقة، غير أنها تمتد عادة بحيث تشمل علاقات الفن بكل نوع من أنواع التعليم. وقد سبق لأفلاطون، وهو أول مفكر جمالي هام، أن ناقش هذا الموضوع مناقشة تفصيلية، وما زالت النتائج التي انتهى إليها تجد قبولا لدى كثير من ذوي النزعات المحافظة أو الاتجاهات المثالية. فهل يكون من المأمون أن نعرض الأذهان الفتية، السهلة التأثر، لتلك الحوادث التي تتصف بالعاطفة المشبوبة، وباللاأخلاقية أحيانا، والتي تصورها كثير من الأعمال الفنية، وبخاصة في الوقت الذي تكون فيه تلك الأذهان مفتقرة إلى النضج الكفيل بأن يجعلها تشعر بالفارق بين هذه الأفعال حين تحدث في الحياة الواقعية وبين التصوير الفني لها؟ هذا السؤال يؤدي بنا إلى مشكلة الرقابة في الفن - وهي مشكلة ربما كانت ملحة في وقتنا الحالي أكثر مما كان في أي وقت مضى، بعد ظهور وسائل الإعلام الجماهيرية كالإذاعة والتليفزيون والسينما.
ما مدى أهمية الموضوع في الفن : وماذا نقول عن استخدام الفن لأغراض الدعاية، أو حتى ما يسمى بالدعاية ذات القصد النبيل، كما نجد في حالة الدين أو في الأعمال التي ترمي إلى تحريك مشاعر التعاطف مع المضطهدين اجتماعيا أو المظلومين اقتصاديا؟ وإذا قدر لهذا النوع من الفن أن يبلغ حد العظمة (ويكاد إجماع النقاد ينعقد على أنه كثيرا ما يبلغ هذا الحد) فهل تتحقق هذه العظمة بسبب مضمونه الدعائي، أم على الرغم منه، أم على نحو مستقل عن هذا المضمون؟ وإذ قررنا أن هذا المضمون الفكري لا تربطه بروعة العمل الفني أو ضآلة قيمته إلا صلة واهية، أو لا تربطه بهما صلة على الإطلاق، فإن هذا يؤدي بنا منطقيا إلى مشكلة يتميز بها الفكر الجمالي المعاصر على التخصيص، وهي: ما أهمية موضوع أي عمل فني في تقديرنا له بوصفه تجربة جمالية؟ وهل ينبغي أن يكون الهدف الأول للفنان هو أن يروي لنا قصة، أو يعيد بعث ارتباطاتنا النفسية، أو ينبهنا إلى موعظة، أو يحرك فينا دوافع الشفقة أو السلوك الاجتماعي؟ أم أن هدفه الأول - إذا انتقلنا إلى الطرف الآخر المضاد - ينبغي أن يكون خلق الجمال لذاته؟ أعني هل هو يقتصر على أن يحاول خلق تنظيم معقد من التراكيب السطحية والعلاقات الشكلية الكاملة التحقق، التي لا يكون لها «معنى»، ولا تعبر إلا عن زخرف جمالي وعن قيم شكلية غنية؟
مشكلات أخرى في هذا الميدان : على أن هذه المشكلات الصعبة، على الرغم من تعددها ومن كل ما تثيره من الجدل، لا تشكل المجال الكامل لعلم الجمال. فنحن لم نذكر شيئا عن المشكلات التكنيكية التي يثيرها كل فن من الفنون على حدة، ولم نشر إلى التمييز (الفعلي أو المفترض) بين الفنون «الجميلة» والفنون «التطبيقية». كذلك فإن إية قائمة كاملة للمشكلات الكبرى عي علم الجمال ينبغي أن تشتمل على التقابل بين الفنون المكانية (وهي التصوير والنحت والعمارة، إلخ) وبين الفنون التي ينطوي عرضها على عنصر الزمان (كالموسيقى والشعر والدراما والرقص). وربما كان أهم ما أغفلناه هو تلك المشكلات التي يحاول علم النفس حلها عن طريق التحليل العلمي للتجربة الجمالية وملاحظة الأذهان الخلاقة وهي تمارس عملها. ومع ذلك، فلما كانت هذه الدراسة لا تعدو أن تكون فصلا واحدا ضمن مدخل عام إلى الفلسفة، فينبغي أن نكتفي بتخصيص بقية المكان المخصص لنا لعرض بعض الأفكار المتعلقة بمشكلتين من المشكلات التي أثرناها من قبل. ولعل كل ما نأمل في تحقيقه في مثل هذه المقدمة الموجزة هو إيضاح المصطلحات الرئيسية والحديث عن بعض التفرقات الأساسية في الميدان الجمالي. (4) مكانة القيم الجمالية
فلنبدأ ببحث مشكلة الموضوعية الجمالية - أو بعبارة أدق، المكانة الوجودية للقيم الجمالية. فحتى عهد قريب نسبيا كان من المسلم به عموما، ودون جدل كثير، أن اللذات التي يجلبها الموضوع الجمالي شاملة. فكان يفترض أن جميع المشاهدين يجدون نفس الكمية ونفس النوع من اللذة تقريبا عند تأمل العمل الفني أو الشيء الطبيعي الجميل. ولكن هذا الافتراض قد أصبح يواجه تحديا مستمرا في الآونة الأخيرة، بعد زيادة القدرة النقدية وقوة الاتجاه النسبي في الفكر الحديث، حتى إن المفكر الذي يؤمن بأن القيم الجمالية وجود موضوعي أصبح يتخذ اليوم موقف الدفاع.
3
ولكن في استطاعة القائل بموضوعية القيم أن يقدم حججا قوية تؤيد رأيه القائل إن بعض أنواع التجربة الجمالية على الأقل مشتركة بين الناس جميعا، وإن اللذات التي تنشأ عن هذه التجارب تمثل بالتالي قيما موضوعية.
أنواع ثلاثة من القيمة الجمالية : يبني القائل بموضوعية القيم موقفه عادة على تمييزات معينة يعتقد أن المدرسة الذاتية في القيم تتجاهلها أو تقلل من قيمتها. هذه التمييزات تؤدي إلى تقسيم ميدان القيمة الجمالية إلى ثلاثة أنواع، وهذه الأنواع مستقلة بعضها عن بعض، وكل منها يؤدي إلى استجابة من نوع خاص لدى المشاهد. ويمكن تقسيم القيم الناتجة عن هذه الاستجابات المختلفة إلى حسية، وشكلية، وترابطية. (1)
القيم الحسية : القيم الحسية هي تلك التي تنشأ عن إدراك ألوان أو أشكال أو أصوات معينة، على نحو مستقل عن التنظيم الشكلي الذي تتجسد فيه هذه العناصر، وعن الفكرة أو «المعنى» الذي يفترض أن العمل الفني يعبر عنه. مثال ذلك أن السطح المصقول للرخام والجرانيت وبعض أنواع الخشب وكثيرا من المعادن، يجتذب مباشرة حاستي الإبصار واللمس لدينا. وكثير من الألوان تبعث لذة حتى لو كانت تبدو بقعا منفصلة. ويؤدي اللون النغمي لآلات موسيقية معينة، وكذلك عدد من الأصوات التي تسمع في الطبيعة ، إلى إعطائنا لذة سمعية مستقلة تماما عن اللحن، أو الهارموني، أو الإيقاع الذي تتجسد فيه هذه الأصوات. (2)
القيم الشكلية : القيم الشكلية عادة أقل وضوحا من نظائرها الحسية، ويكاد يكون من المؤكد أنها أعقد منها. وهي تنشأ من اللذة التي يجدها الذهن في إدراك جميع أنواع العلاقات. وقد تكون هذه علاقات هوية، أو تشابه، أو مماثلة، أو تضاد ... إلخ. وقد تقع هذه العلاقات بين العمل الكامل وبين أجزائه، أو بين بعض الأجزاء وبعض، أو بين كليات (Wholes)
فنية مختلفة من أنواع شتى. وهكذا نجد في العمارة أن واجهة المبنى تمثل علاقات شكلية متعددة، كنسبة ارتفاع المبنى إلى عرضه، والحجم النسبي للأبواب والنوافذ وشكلها، والتضاد بين المساحات التي تنار بقوة، وتلك التي توجد في الظل. وفي التصوير، توجد تلك العلاقات الواضحة في التشابه والتضاد والاستجابة التجاوبية بين الأقواس أو المنحنيات وبين الزوايا، أو بين مختلف الأشكال الهندسية في التكوين الكامل. وفضلا عن ذلك نجد كل إمكانيات العلاقات الكامنة في اللون، وهذه لا تشتمل فقط على التقابل بين الأصباغ والدرجات اللونية، بل تشتمل أيضا على التعارض بين الألوان الباردة المنكمشة (الأزرق والأخضر مثلا) وبين الألوان الحارة العدوانية (الأحمر والأرجواني مثلا). وفي الموسيقى يمكننا أن نستغل علاقات السلم، والمقام، واللون الصوتي، والارتفاع والانخفاض، والإيقاع والحجم الصوتي، فضلا عن التقابل الأوسع مدى بين الموضوع والموضوع المقابل في «الفوجة»
Fugue
أو بين الموضوعين (Themes)
الرئيسيين في قالب السوناتا. ولكل من الفنون الأخرى إمكانيات غنية أخرى في العلاقات، ونخص منها بالذكر إمكانيات الشعر. فالقيم الشكلية تنشأ كلما أدرك الذهن هذه العلاقات، حتى لو كان إدراكه هذا مبهما، ووجد فيها لذة أو دلالة. (3)
القيم الارتباطية : القيم الارتباطية (وتسمى أيضا بالقيم اللفظية، أو التصويرية، أو الأدبية، أو الرمزية، أو قيم المضمون) هي تلك التي تضفي على الموضوعات الجمالية معنى يمكن التعبير عنه بالكلمات، وتصبح مرتبطة بالموضوعات لأنها تذكر المشاهد أو السامع بأشياء أو أفكار أو حوادث توجد (أو كانت توجد) خارج المجال الجمالي. وهكذا فإن صورة رجل يضحك، تعبر عن المرح أو الطرب؛ لأن هذا هو المعنى المرتبط بالضحك في الحياة اليومية، على حين أن قطعة موسيقية معينة قد تطربنا لأن لها ارتباطا وثيقا بمناسبة سعيدة معينة في الماضي.
وينبغي أن نشير إلى تمييز آخر داخل فئة القيم الارتباطية، تنقسم فيه هذه القيم إلى أولية وثانوية.
4
فالارتباطات الأولية هي تلك التي يفترض أنها تسري على الناس جميعا، كالعلاقة التي أشرنا إليها منذ قليل بين الضحك والمرح. أما الارتباطات الثانوية فهي فردية وشخصية بالمعنى الدقيق، كالذكريات السعيدة المرتبطة بمصنف موسيقي معين.
ما مدى موضوعية هذه الأنواع الثلاثة من القيم؟
تختف هذه الأنواع المتباينة من القيم الجمالية اختلافا كبيرا في موضوعيتها، فاللذات الحسية تبدو ذات جاذبية تعم النوع بأكمله قطعا، على افتراض أن الفرد ليس فيه عيب عقلي أو حسي (كأن يكون مصابا بعمى الألوان أو الصمم). وهكذا فإن القيم الجمالية التي تنشأ من استغلال المادة ذاتها ينبغي أن يعترف لها بمكانة موضوعية. أما بالنسبة إلى القيم الشكلية فإن الموقف أعقد. فمن المعترف به أن كثيرا من القيم الشكلية تبلغ من الخفاء والدقة حدا قد يقتضي معه إدراكها خبرة، بل تدريبا منظما. ومع ذلك فلما كان الملاحظون الأسوياء يستطيعون الوصول إلى إدراكها بالمرانة، فمن العسير أن نرى كيف يمكن أن تعد أقل شمولا (وبالتالي أقل موضوعية) من تلك التي تنشأ عن اللذة الحسية.
5
أما عندما نصل إلى فئة القيم الارتباطية فإن الموقف يتغير، فعلى حين أن هناك ارتباطات معينة هي دون شك مشتركة بين النوع بأسره، فإن عددها أقل مما يفترضه معظم الناس. وربما كان أقل من أن تكون له أهمية في علم الجمال. فكثير من الاستجابات التي كانت من قبل تعد «غريزية» أو «طبيعية»، قد ثبت أنها مكتسبة، وكثير من الاستجابات التي كانت تعد من قبل عامة شاملة، قد اتضح أنها مجرد «أنماط حضارية»، منتشرة على نطاق واسع داخل جماعة حضارية معينة، ولكنها ليست عامة شاملة على الإطلاق. وحسبنا أن نضرب مثلين لارتباطات شاملة مزعومة، يبينان مدى خطر التأكيد القطعي بشأن شمول أية استجابة كهذه. فنحن ننظر مثلا إلى المقام الصغير (Minor)
في الموسيقى على أنه يعبر بطبيعته عن أحوال نفسية جادة أو كئيبة أو استبطانية، ولا سيما بالنسبة إلى المقام الكبير
Major . ومع ذلك فقد كان لليونانيين القدامى رأي عكسي تماما: فالمقام الكبير هو الذي كان حزينا، كئيبا، بل مخنثا عندهم، على حين أن المقام المماثل لمقامنا الرئيسي الصغير كان في نظرهم رجوليا عدوانيا مرحا واثقا بنفسه. وإذا شئنا مثلا آخر، فلنتساءل: ماذا نقول عن تلك الحقيقة المعروفة من أن الحداد يرمز له في أرجاء شاسعة من الشرق باللون الأبيض؟
وعلى ذلك ينبغي أن نستنتج أن الترابطات الأولية ذاتها كثيرا ما تكون مصادر غير موثوق منها للقيمة الأخلاقية، على الرغم من أن هناك رموزا معينة قد يصبح لها في جماعات حضارية أو «مدنيات» خاصة تأثير ارتباطي يكاد يكون شاملا، فالصليب، في حدود المسيحية، هو مثال واضح، والمطرقة والمنجل
6 ⋆
قد يكونان في أيامنا هذه رمزا عاما كذلك. أما بالنسبة إلى الارتباطات الثانوية، فلا نكاد نكون بحاجة إلى القول إنها في عمومها شخصية؛ وبالتالي ذاتية تماما.
العنصر الشخصي : تمثل أية تجربة جمالية فردية لأي شخص مزيجا من ثلاثة أنواع من اللذة أو الإشباع. فالمشاهد العادي غير الخبير يبدي أكبر قدر من الاهتمام، كما رأينا من قبل، بالمضمون الارتباطي، وقدر أقل منه بالحسي، وأقل قدر من الجميع بالقيمة الشكلية. أما الفنان فيكاد يكون من المؤكد أنه إذا تأمل نفس العمل الفني فسوف يعكس هذا الترتيب، كما يفعل معظم النقاد الفنيين، فسوف ينظر إلى العناصر الحسية أو الشكلية على أنها أهم بكثير من العنصر الارتباطي، وقد تكون القيمة الكاملة للعمل الفني - في عالم الفن المعاصر على الأقل - منحصرة في الجمع بين هذين العنصرين. ومع ذلك فإن النقطة الرئيسية في مناقشتنا ليست هي السؤال عن «أفضل» الأنواع الثلاثة من القيم الجمالية أو «أكثرها مشروعية»، وإنما نحن نبحث في هذه الحقيقة البسيطة، ألا وهي أن الجزء الأكبر من التجربة الفنية يمثل مزيجا كهذا. ولما كانت نسب كل نوع من القيم تتفاوت تبعا لكل مشاهد - من لحظة إلى أخرى في المشاهد الواحد - فإن القيمة الكاملة لكل تجربة ينبغي أن تكون متباينة، شخصية؛ وبالتالي ذاتية.
ومن الممكن أن يكون الأفراد متسقين مع أنفسهم إلى حد معقول فيما يعزونه إلى أنواع القيم الثلاثة من أهمية نسبية، وقد يتعلمون أن يعملوا حسابا للأحوال النفسية المتغيرة، وللأهواء الشخصية العابرة، كما ينبغي أن يفعل الناقد - كما أن من الممكن أيضا أن يصل شخصان أو أكثر، عن طريق الجمع بين مرانة مماثلة، وخبرة مماثلة، ومزاج مماثل، إلى اتخاذ مزيج شبه متماثل من هذه القيم معيارا شخصيا للدلالة الجمالية أو الامتياز الفني في نظرهم. ومع ذلك فإن الأهمية النسبية لكل نوع من القيم تمثل في آخر الأمر اختيارا ليس شخصيا فحسب، بل هو فريد في نوعه؛ لذلك يبدو من المنطقي أن ننتهي من مناقشتنا هذه إلى أن عالم التجربة الجمالية ليس أصلح مكان للبحث عن القيمة الموضوعية.
7
وبطبيعة الحال فإن هناك أمورا كثيرة أخرى تقال عن الخلاف بين الذاتية والموضوعية، ولكن ليس هذا موضع الكلام عنها. ويكفي، بالنسبة إلى غرضنا الحالي، أن تكون التمييزات التي أشرنا إليها الآن قد أعطت القارئ فكرة معينة عن تعقد المشكلات الجمالية والمناهج التحليلية التي تستخدم في معالجتها. (5) مقارنة بين القيم الجمالية في الفن والطبيعة
في وسعنا أن نفيد من نفس هذه التمييزات التي تفرق بين مختلف أنواع التجربة الجمالية، في بحثنا للمشكلة الكبرى الأخرى في هذا الميدان، وهي المشكلة الخاصة بالصلة بين «الفن» و«الطبيعة». ولقد كانت الصيغة التي عبر بها التفكير الجمالي الأقدم عهدا عن هذه المشكلة هي صيغة التقابل بين «الجمال في الطبيعة» وبين «الجمال في الفن»، ولكن الاتجاه الحديث إلى توسيع نطاق الفن والاستطيقا معا بحيث يتجاوزان كثيرا نطاق مفهوم «الجمال» التقليدي، يدفعنا إلى بحث العلاقة بين الجمال والطبيعة في أعم صورها .
الفن بوصفه محاكاة للطبيعة : لعل أوسع الآراء عن وظيفة الفن وغايته انتشارا، وأكثرها دواما، هو النظرية المسماة بنظرية «المحاكاة». ولهذه النظرية صورتان؛ الأولى: تمثل التفكير الجمالي الكلاسيكي والوسيط، وكانت ترى في الفن مجرد نسخة من الطبيعة، ولا أكثر ولا أقل. ومن أشهر أمثلة هذه النظرية، آراء أفلاطون، وإن كانت هذه الآراء القديمة في الموضوع، لم تقل إلا القليل عن أوجه الطبيعة التي ينبغي محاكاتها. على أن التفكير النظري الجمالي في عصر النهضة والعصر الكلاسيكي المحدث في القرن السابع عشر، قد هذب هذا الموقف الساذج إلى حد ما، وأدى هذا التهذيب إلى ظهور النوع الثاني من نظرية المحاكاة، الذي لا يزال يؤيده كثير من الأشخاص غير المتخصصين، ومن المفكرين ذوي النزعات المثالية في الوقت الراهن. ويذهب هذا الرأي المعدل بدوره إلى أن وظيفة الفن هي محاكاة العالم الطبيعي، ولكن هذه المحاكاة ينبغي أن تنصب على أوجه معينة منه؛ أعني الأوجه الأكثر مثالية. وتحفل النظريات الفنية في القرنين السادس عشر والسابع عشر بنصائح إلى الفنان عن محاكاة الطبيعة والفنانين القدامى معا. وبطبيعة الحال فقد كان المفهوم ضمنا في كل الأحوال هو أن هذين الاثنين كانا متشابهين (بالنسبة إلى كل الأغراض العملية) إلى حد أنهما كانا تقريبا في هوية تامة. ولكن رجال عصر النهضة أدركوا أن الجزء الأكبر من الفن الكلاسيكي كان مثاليا بصورة واضحة. ولذا كان من الضروري، لكي يحققوا الاتساق لمعيارهم المزدوج الخاص «بالطبيعة» و«الفن القديم»، أن يقولوا بوجوب الاقتصار على محاكاة الأوجه الجميلة، النبيلة، البطولية، المثالية للطبيعة. ولقد كانت وجهة نظر عصر النهضة هذه هي التي ورثناها، وما زال عامة الجمهور، وكذلك الناقد المحافظ، يرون أن الغرض الأساسي للفن هو خلق صور محاكية جميلة للطبيعة الجميلة.
الجمال في مقابل التعبير : على أن التفكير الجمالي قد أصبح، منذ القرن الثامن عشر، أقوى شعورا بالعنصر التعبيري في الفن.
8
وكان من أسباب هذا التغير في الاتجاه، اتساع نطاق معرفة الأعمال اليونانية الأصيلة، التي هي في عمومها أكثر «تعبيرية» (وهي قطعا أقل تجردا «وجمالا» باردا) من نسخها الرومانية. وقد أثار هذا الوعي المتزايد بالتعبير عدة مشكلات عقلية جديدة، أهمها كيفية التوفيق بين شرط الجمال بوصفه القيمة العليا، وبين مطلب القدرة التعبيرية الجديد. والواقع أن الحلول النظرية لهذه المشكلة تؤلف جزءا كبيرا من الكتابات التي ظهرت في علم الجمال خلال الفترة الواقعة بين عام 1760م و1830م، وخاصة في ألمانيا. بل إننا ما زلنا حتى اليوم نستمع في بعض الأوساط الجمالية إلى جدل يدور حول أولوية الجمال أو التعبير. ولقد كانت النتيجة العقلية الشكلية للمعارك الأولى التي دارت حول هذه المسألة هي وضع «المقولات» الجمالية: كالجميل، والجليل
Sublime
والتراجيدي (أو الأسيان
Comic ) والكوميدي (أو الهزلي
Tragic )، والمميز
Characteristic ، والعجيب. وكان سبب وضع هذه المقولات هو محاولة تقديم وصف أدق لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين الجمال والعناصر الأكثر تعبيرية في الفن. ومن هنا كان من المسلم به عادة أن المقولات الخمس الأخيرة المذكورة من قبل تقف في مقابل الأولى، وإن كان من الممكن تآلفها مع «الجميل» بدرجات متفاوتة - فالجليل مثلا يتحد مع الجميل نحو أكثر طبيعية مما يتحد مع الهزلي.
وما دامت نظرية المحاكاة العامة كانت هي التي تسود الإنتاج الفني والتفكير الجمالي معا، فإن المسألة الوحيدة الحقيقية المتعلقة بالصلة بين الفن والطبيعة كانت: أي أوجه الطبيعة ينبغي محاكاته؟ غير أن زيادة الاهتمام بالتعبير - حتى لو كان يعني التضحية بالجمال - قد استوجبت قيام الحاجة إلى صيغة جديدة تعبر عن هذه العلاقة، وقد كرس جزء كبير من الفكر الجمالي في الآونة الأخيرة لمحاولة وضع هذه الصيغة.
القيمة الجمالية في الطبيعة : من الجائز أن نتائج هذا الاهتمام المتزايد بالتعبير أكثر ثورية مما أدركه أي مفكر في القرنين الثامن عشر أو التاسع عشر. ذلك لأن التغير كان ينطوي، بصورة ضمنية على الأقل، على سؤال عميق عظيم الأهمية، هو: هل الطبيعة معبرة بحق؟ وإذا كانت كذلك، فما الذي تعبر عنه؟ فإذا ما أعدنا صياغة هذا السؤال على أساس تقسيمنا الثلاثي السابق لأنواع اللذة أو الإرضاء الفني، لأصبح كما يلي: ما هي القيم الجمالية التي توجد في الطبيعة، وما علاقتها بنظائرها في الفن؟ (1)
القيم الحسية : لا جدال في أن الطبيعة زاخرة بأمثلة اللذة أو الإرضاء على المستوى الأول، وهو المستوى الحسي، المستمد من إدراك التركيبات المادية والألوان والأصوات. إلخ. فتركيب ورقة زهرة، أو شاطئ مغطى بالطحالب، أو قطعة من الجرانيت المصقول كالزجاج، ولون الأشياء التي لا حصر لها في الطبيعة، وخصائص أصوات بعض الطيور وغيرها من الأصوات الطبيعية، كهزيم الريح خلال أشجار الصنوبر - كل هذه الأمثلة تقف أندادا لنظائرها الفنية من حيث القيم الحسية. ومن المعترف به أن تنوع اللذات الحسية التي تقدمها الطبيعة أضيق نطاقا مما يقدمه الفن (مثال ذلك أن الفن يستخدم أنواعا متعددة من السطوح المصقولة، على حين أنه لا يوجد في الحالة الطبيعية إلا القليل منها) غير أن تلك الأمثلة التي توجد في العالم الطبيعي قد تكون مصادر للذة الجمالية لا تقل تأثيرا عن نظائرها في الفن على الإطلاق. (2)
القيم الشكلية : أما على مستوى القيم الشكلية، وهي التي وصفناها بأنها هي القيم الناشئة عن إدراك شتى أنواع العلاقات، فأنا نجد نطاق الطبيعة محدودا بالقياس إلى الفن. ولكن هناك مع ذلك أمثلة طبيعية أصيلة كثيرة، ولا سيما في المجال البصري: فالزخارف التي تصنعها نتف الجليد والبلورات، والأزهار، والقواقع، والخطوط المتعرجة التي تحدثها الرياح والمياه في الرمال، والتركيب التماثلي لبعض الأشجار ولكل أشكال الحياة الحيوانية تقريبا - كل هذه تقدم أمثلة واضحة للقيم الشكلية. ومع ذلك فإن قليلا من التحليل كفيل بأن يبين لنا مدى بساطة هذه العلاقة الشكلية الطبيعية وتكرارها بالقياس إلى ما نجده في الفن. مثال ذلك أن التماثل الذي يظهر في الطبيعة على نطاق واسع يكاد يقتصر في كل الأحوال على التماثل الكامل، الذي يكون فيه نصفا الشيء متناظرين بكل دقة. فليس في وسع الطبيعة أن تقدم إلينا إلا القليل جدا من أنواع التوازن التي يقدمها الفن، والتي تتصف بالتعمق، والامتلاء، والإرضاء المتكرر. فالتوازن في الأشكال الطبيعية يعني في كل الأحوال تقريبا التماثل البسيط وحده، وهو التماثل الذي ندركه على الفور، ونمله بسرعة، على حين أن التوازن الذي يتمثل في كل من الفنون يمكن أن يكون مصدرا لسرور دائم ولكشف لا يكاد ينضب معينه. وأقصى ما يمكن أن تصل إليه القيم الشكلية الموجودة في الطبيعة هو أن ترتفع إلى مستوى لا يتجاوز أبدا مستوى «الأرابيسك» والزخارف التجريدية البسيطة، كتلك التي توجد في ورق الحائط والقوالب المعمارية، على حين أن معظم الأشكال أو الصورة الطبيعية أدنى مستوى بكثير من تلك الأشكال الفنية البسيطة ذاتها. ولا جدال في أن الطبيعة عاجزة عن أن تقدم شيئا يعادل في تعقده تلك التكاملات الشكلية التي تتحقق في التصوير، والشعر، والعمارة، والموسيقى.
هذا القصور الشكلي للطبيعة كثيرا ما يلخص بالقول إن الطبيعة تفتقر، من وجهة النظر الجمالية، إلى التنظيم والوحدة. فالجمال الطبيعي قلما يكون له «بداية، وسط، ونهاية»، على حين أن ما نسميه «بالذروة» لا يكاد يكون معروفا في العالم الطبيعي. وأية مركزية قد نصادفها إنما هي عادة مؤقتة، كما يحدث عندما يتعين علينا أن نتأمل منظرا طبيعيا من موضع معين بالذات لكي يبدو بديعا. وتبدو الطبيعة فقيرة بوجه خاص في القيم الجمالية عندما نقارنها بالفنون الزمنية. فلا توجد إلا ظواهر طبيعية نادرة، كالعواصف، توحي على أي نحو بالتعاقب الذي نجده في سيمفونية أو دراما، والذي يبدأ بالتمهيد، ويليه العرض الموسع، والذروة والخاتمة. ونستطيع أن نجد تشابها غامضا بين تفتح الزهرة وذبولها، شأنه شأن أية عملية عضوية ذات طابع متدرج، وبين تقديم العمل الفني في الزمان، أما أقرب حالات الطبيعة شبها، وهي تدرج الحياة البشرية ونموها، فإنها، رغم احتمال كونها أعقد من أي شيء في الفن، هي قطعا أقل توحدا وتنظيما وتكاملا من الأعمال الخلاقة الكبرى. (3)
القيم الارتباطية : وأخيرا، ماذا نقول عن القيم الارتباطية في الطبيعة؟ إلى أي شيء ترمز الطبيعة - وما الذي «تعنيه» الطبيعة؟ عند هذه النقطة نقترب من لب مشكلة التعبير في الطبيعة، ويكون لزاما علينا أن نبحث في الأهمية النسبية للجمال الطبيعي والفني.
إننا لا نحتاج إلى تفكير كثير لكي نكشف أن ما نقرره بشأن «معنى» الطبيعة أو ما ترمز إليه، لا بد أن يتوقف آخر الأمر على نظرتنا الشاملة إلى العالم. فالمثالي والمتدين معا، على سبيل المثال، يجدان الطبيعة معبرة عن «الذهن الشامل» أو «المطلق» أو «الله»، بحيث إننا لو نظرنا إلى الأمر في ضوء مشكلتنا الجمالية لقلنا إن الطبيعة تمثل في هذه الحالة الإنتاج الخلاق للفنان الإلهي. فالنظام الطبيعي بأكمله يمثل مظهرا «للفكرة» في قالب مادي. ولقد كان المفكرون المثاليون يميلون بوجه خاص إلى وصف الطبيعة بأنها عرض «للفكرة» في صورة حسية على حين أن أنواع التفكير الديني الأقل تمسكا بالنزعة العقلية كانت تكتفي بأن تسمى الطبيعة الجميلة «صنعة اليد الإلهية» أو «فن الله»، وهو الفن الذي يفترض أن الله خلقه ليكون منه متعة وآية لمن يرضى عنهم من عباده.
أما صاحب النزعة الطبيعية في الفلسفة، فلا يمكن في نظره أن يكون للجمال الطبيعي مثل هذا المضمون الرمزي؛ إذ يكاد يكون من المؤكد أن علم الجمال، عند المذهب الطبيعي، يرى أن كل ما نجده في الطبيعة من معنى وقدرة تعبيرية؛ أي من القيم الارتباطية، إنما هو أمثلة للمغالطة الوجدانية؛ أعني الميل العام لدى الناس إلى صبغ العالم الطبيعي بصفة حية أو بشرية عن طريق إسقاط مشاعرهم على موضوعها وحوادثها، كما هي الحال عندما نتحدث عن أسماء «غاضبة» أو بحر «يتوعدنا» أو نسيم «يداعبنا». فمن السهل أن تؤدي ألفة الناس الطويلة مع الطبيعة إلى الوقوع في هذه التشبيهات المتخلقة من الاتجاه البدائي إلى القول بحيوية الطبيعة، وهو الاتجاه الذي كان يضفي فيما مضى على كل صخرة وتل وشجرة روحا وإرادة خاصة بها. وإنه لمن العسير على المرء أحيانا أن يدرك أنه لو كانت نظرة المذهب الطبيعي إلى العالم صحيحة، لما كان أي معنى تعبيري يوجد في الطبيعة - حتى الطبيعة الفائقة الجمال - إلا ما «قرأناه» نحن أنفسنا في بيئتنا.
وهناك بالطبع بعض الارتباطات الرمزية الموجودة في الطبيعة، والتي تتصف بأنها عامة شاملة، بغض النظر عن اتجاهنا الميتافيزيقي. ففي تجربة الناس جميعا في كل مكان، نجد أن الشمس تدفئ، والظل ينعش، والمطر يبلل، والنار تحرق. مثل هذه الاستجابات البشرية الأساسية لبيئتنا الطبيعية تمثل ارتباطات حقيقية، ويكاد يكون من المؤكد أن لها قدرا من الموضوعية يفوق ما لأية محاكاة لها في الفن. ومن هنا ينبغي أن نستنتج أن الطبيعة تنطوي بالفعل على بعض القيم الارتباطية الموضوعية ذات الطابع الجمالي، على الرغم من أن هذه نفسها تعدل، على الأرجح، تعديلا غير ظاهر نتيجة لتفضيلاتنا الفردية والميتافيزيقية.
9
وبطبيعة الحال فإن هذه الارتباطات أولية، ومن الواضح أن أية ارتباطات ثانوية نكونها مع الأشياء الطبيعية (كرائحة نوع معين من الزهر أو تغريد طائر معين) لا تختلف في طابعها الشخصي الذاتي عن نظائرها في مجال الفن.
هل العنصر الشخصي هام في الطبيعة بدورها؟
ما زال أمامنا سؤال أخير ينبغي أن نجيب عليه في هذه المقارنة بين الإمكانيات الجمالية للفن والطبيعة. فهل يقوم من يلاحظ الجمال الطبيعي بنفس عملية المزج الشخصي بين ثلاثة أنواع من القيمة، التي أشرنا إليها في حالة من يلاحظ الفن؟ من الواضح أنه يفعل ذلك حقا، ولا يقل عن ذلك وضوحا أن هذا المزيج يتفاوت حسب تجربة الشخص ومرانه ومزاجه، فضلا عن حالاته النفسية المتغيرة. ومع ذلك فهناك، في حالة الطبيعة، احتمال آخر قد يكون هاما، ولا سيما بالنسبة إلى الفترات الزمنية الطويلة؛ ذلك لأن الفرد قد يتغير أثناء نضجه، كأن ينتقل من المذهب المثالي إلى المذهب الطبيعي، أو بالعكس. ويكاد يكون من المؤكد أن هذا التحول في الاستقطاب الميتافيزيقي يترتب عليه تغير في «المعنى» الذي يجده في الطبيعة، وبخاصة الطبيعة الجميلة (وهي التي تهمنا الآن). وبإضافة هذا العامل المتغير الجديد إلى العناصر التي تكون مزيجنا الشخصي من القيم الجمالية، نجد أن الصورة النهائية الناتجة عن هذا الاندماج أكثر ذاتية على نحو قاطع، في حالة الجمال الطبيعي، مما هي في حالة الفن.
ولنلخص مقارنتنا بين ميداني التجربة الجمالية، فنقول إن الطبيعة والفن يقدمان إلى المشاهد، كما رأينا، نفس الأنواع الثلاثة من القيمة الجمالية. وفضلا عن ذلك فقد لاحظنا أن اثنين من هذه الأنواع، وهما الحسي والشكلي، يبدوان موضوعيين في كلا المجالين، على حين أن القيم الارتباطية هي مزج من الذاتية والموضوعية، أو ذات مكانة وجودية مشكوك فيها. ومن هنا فإن الفارق الرئيسي بين الميدانين، من حيث قيمتهما الجمالية، إنما يكمن في أن القيم الموجودة في الفن أشد تنوعا وتعقدا وامتلاء بكثير، وخاصة في علاقاتها الشكلية وقدرتها التعبيرية.
فارق أخير : وهناك اختلاف أخير بين الفن والطبيعة بوصفها مصدرا للقيمة الجمالية، يتعلق بمسألة القصد التعبيري؛ ذلك لأن كل فن، كما رأينا من قبل، ينتج بقصد أن يكون تعبيريا، حتى لو لم يكن يعبر إلا عن قيم حسية وشكلية، كما هي الحال في كثير من الأعمال الفنية المعاصرة. والواقع أن معظم الملاحظين والمستمعين غير المدققين خليقون بأن يخطئوا فهم المقصد الحقيقي للفنان؛ إذ إنهم يفترضون عادة أنه يهتم أساسا بتوصيل القيم الارتباطية والمعاني اللفظية، ولكننا لا نكون على خطأ إذا قلنا إن مقصده ينطوي على قدر من الدلالة التعبيرية. وعلى الرغم من أننا قد نخطئ معرفة طابع هذا المقصد، فإن حقيقة وجود مقصد يمكن أن تفترض دائما في حالة العمل الفني. أما في الموضوعات أو المناظر الطبيعية فإننا لا نستطيع أن نأخذ المقصد قضية مسلمة. فقد يؤدي بنا ولاؤنا الفلسفي أو اللاهوتي إلى افتراض وجود قدر كبير من المضمون التعبيري في الجمال الطبيعي، وحتى لو تجنبنا ذلك، فهناك دائما خطر وقوعنا في المغالطة الوجدانية عندما نكون إزاء الطبيعة. وهكذا يبدو من المعقول أن نستنتج أن في استطاعة الفنون لا أن تقدم إلينا قيما جمالية أغنى وأعمق مما تقدمه الطبيعة فحسب، بل أن تقدم أيضا عالما يقل فيه احتمال وقوف التحيزات الميتافيزيقية والمغالطات الإبستمولوجية حائلا بيننا وبين الواقع الجمالي.
ونحن لا نستطيع أن ننكر أن هناك أشخاصا كثيرين يجدون في الطبيعة لذة جمالية أعظم مما يجدونه في الفن، وذلك نتيجة لمزاجهم الخاص أو افتقارهم إلى التجربة الفنية. كذلك لا يمكننا أن نقول إن موضوعا فنيا من الدرجة الثالثة ينطوي على قيمة جمالية تزيد على ما يتضمنه مثل من الدرجة الأولى للجمال الطبيعي، لا سيما إذا كان العمل الفني الضعيف المستوى محاكاة لمثال رائع من أمثلة الجمال في الطبيعة. ومع ذلك فإن مما له دلالته أن الأشخاص الذين كانت لهم تجربة واسعة في ميدان الظواهر الجمالية معا، والذين كرسوا للنقد وللتقويم وقتا طويلا وتفكيرا كثيرا، يرون عادة أن مجال الفن يتيح لذات لا يمكن أن توجد في الطبيعة، مهما يكن من جمال الطبيعة أو جلالها في بعض الأحيان. وهكذا فإن الخلط الشائع بين «علم الجمال» وبين «فلسفة الفن»، وإن يكن أمرا مؤسفا من الناحية العقلية، له بعض المبرر؛ لأن الفن هو المقر الرئيسي للقيمة الجمالية. (6) فلسفات أخرى في الفن
في هذه المقارنة الموجزة بين القيم الجمالية التي يخلقها الفن وتلك التي تكتشف في الطبيعة، بدا أننا نفكر على أساس نظرية المحاكاة في الفن، التي أشرنا إليها في هذا الفصل من قبل. ولقد كان ذلك أمرا لا مفر منه؛ إذ يبدو أن أية مقارنة بين الطبيعة والفن تنطوي ضمنا على القول بأن الأخير يحاكي الأولى على نحو ما. وإنه لمن العسير على معظم الأشخاص غير المتخصصين أن يتصوروا الفن، ولا سيما في وسائط التصوير والنحت، إلا على أنه تصويري أو مقلد. وهذه الصعوبة تفسر إلى حد بعيد الثغرة الواسعة التي تفصل بين النقد الفني المحترف وبين التقويمات الشعبية للفن. فالفنانون والنقاد يأخذون عادة فلسفة للفن؛ أي بنظرية تتعلق بهدف الفن أو وظيفته - تختلف عن نظرية المحاكاة التي يفضلها الشخص العادي. ومن ثم فإن المحترف يقبل على العمل الفني وفي ذهنه توقعات وشروط مختلفة بشأن ما ينبغي أن يفعله الفنان بما لديه من مواد.
فلنلق نظرة، في ختام هذا المدخل الموجز إلى عالم الجمال، على الفلسفات الرئيسية التي لا تقول بالمحاكاة في الفن؛ إذ يكاد يكون من المؤكد أن الناقد يستعين بواحدة أو أكثر من هذه الفلسفات ويتخذ منها نقطة ارتكاز عندما يقوم بمهمته في التقويم. والأرجح أنه، بوصفه قاضيا محترفا في الفن ، سيختلف عن الشخص العادي اختلافا ملحوظا في ناحية أخرى: فسوف يدرك أن هناك نظريات فنية عديدة، ويكاد يكون من المؤكد أنه سيعرف تلك التي يأخذ بها ويحكم على أساسها ، أما الشخص العادي يكون على الأرجح غير شاعر بوجود فلسفات فنية عديدة، ومن الأمور شبه المؤكدة أنه لا يدرك أنه يأخذ بنظرية معينة من هذه النظريات.
وأغلب الظن أن الناقد يقدر، والفنان يخلق، في أيامنا هذه، في إطار نظرية شكلية تؤكد القيم الجمالية الشكلية التي أشرنا إليها من قبل. ولا بد أن يتم هذا التأكيد على حساب القيم الارتباطية، ولا سيما القيم ذات النوع الأدبي أو الحاكي
Story-telling .
10
والواقع أن معظم النقاد المعاصرين يصدرون أحكامهم على أساس القيم الشكلية وحدها، على حين أن الشخص العادي، الذي يغفل القيم الشكلية عادة، ولا يتأثر بالأوجه الحسية لأي فن إلا تأثرا وقتيا، يستجيب على أساس وظائف الفن المحاكية أو الحاكية. ولما كان الشخص المحترف والشخص العادي يبحثان عن أشياء مختلفة في الفنون، فليس من المستغرب أن نجدهما يكتشفان فيها أشياء مختلفة.
الفن بوصفه تعبيرا انفعاليا : هناك مدرسة كبرى ثالثة من المدارس الفنية (بعد مدرسة المحاكاة والمدرسة الشكلية) تلقى بين الأشخاص العاديين إقبالا أشد مما تلقاه بين المحترفين المعاصرين، على الرغم من أن الفنانين والنقاد بدورهم كانوا يفضلونها منذ قرن من الزمان. والواقع أن المفكرين النظريين في الفن، في القرن التاسع عشر، قد نجحوا في إقناع أنفسهم والجمهور بأن الفن ينبغي أن يكون قبل كل شيء تعبيرا عن انفعال (لا نسخة واضحة للطبيعة أو تجسيدا لقيم شكلية) إلى حد أن جزءا كبيرا من الجمهور العام ما زال يميل إلى النظر إلى مختلف الفنون على أنها وسائط لتوصيل الانفعالات. ويشيع النظر إلى الموسيقى بوجه خاص على هذا النحو، كما أن فلسفة الفن التي يأخذ بها الشخص العادي فيما يتعلق بالفنون البصرية هي عادة مزيج غير محدد المعالم من نظريتي المحاكاة والتعبير الانفعالي - مع الاتجاه دائما إلى تجاهل القيم الشكلية بنفس القدر الذي يؤكدها به الشخص المحترف.
الفن بوصفه مؤثرا اجتماعيا : أما آخر الفلسفات الكبرى في الفن فهي فلسفة يصعب وصفها وإدراجها تحت اسم معين؛ إذ إنها تشمل آراء متباينة يوجد بينها تشابه، ولكن لا توجد بينها هوية. ومن الممكن تسميتها بنظرية التأثير الاجتماعي، أو النظرية التعليمية، أو نظرية الدعاية، وربما النظرية الأخلاقية. ولقد سبق لنا أن أشرنا إلى هذا الرأي في هذا الفصل، عندما تحدثنا عن الفن والتعليم، وذكرنا أن المتحدث الرئيسي باسم هذه النظرية هو أفلاطون. وفي استطاعتنا، دون أن نحاول تقديم تعريف محدد لهذه الفلسفة، أن نكون على ثقة أن الأشخاص الذين يؤمنون بها ينادون بأي مبدأ من المبادئ الآتية أو يمارسونه: (1) الرقابة على الفن، (2) استبعاد ضروب معينة من الفن على أساس أنها «ذات تأثير على المجتمع» أو «منحلة» - كما هي الحال مثلا في حملة التطهير التي شنها هتلر على الفن «المنحل» والفنانين المنحلين وطردهم فيها من الدول النازية، (3) تقويم الفنون على أساس مضمونها الديني أو أيديولوجيتها السياسية، (4) استخدام الفن في بث معايير أخلاقية وتعاليم اجتماعية معينة في نفوس النشء، بدلا من تنمية قدرتها على تذوق الفن أو حساسيتهم الجمالية العامة.
هذه الفلسفة التي تتخذ من الفن وسيلة للمنفعة الاجتماعية تستعين بنظرية المحاكاة والنظرية التعبيرية كشريكين غير متفرغين لها. وأسباب ذلك واضحة: فإذا كنت تستخدم الفن في التحكم أو التأثير، فلا بد عندئذ من استغلال إمكانياته في المحاكاة استغلالا كاملا. ولا بد لك من تصوير أفراح أولئك الذين وصلوا إلى الخلاص أو التحرر الاجتماعي، أو تصوير أطماع من يعارضونهم وجشعهم. وبالاختصار، فلا بد لك من تصوير مواقف إنسانية معينة (حقيقية أو متخيلة) بطريقة تبلغ من الواقعية أو القدرة على التعبير حدا يكفي للحض على العمل الاجتماعي. ومن الواضح كذلك أنه سيتعين عليك عندئذ أن تنتفع من إمكانيات الفن الهائلة في توصيل الانفعالات؛ إذ إنه ليس أقدر من الانفعال الثائر على دفع الإنسان إلى العمل، وقليل من الأشياء هي التي يمكنها إثارة الانفعال في الجماهير العريضة بنفس السهولة التي يثيرها بها كتاب أو مسرحية أو فيلم سينمائي أو أغنية أو صورة تستهدف هذا الغرض ذاته. والواقع أن النظرية الشكلية في الفن هي وحدها التي تأبى أن تجند لمساعدة فلسفة التأثير الاجتماعي. ذلك لأنه إذا كان هدفك الرئيسي هو التأثير الاجتماعي، فإن القيم الناشئة عن إدراك العلاقات الشكلية لن يكاد يكون لها قيمة، بل إنها قد تكون عقبة من واقع الأمر، ما دامت قد تصرف نظر المشاهد أو السامع عن الهدف التأثيري الرئيسي للعمل الفني.
لذلك لم يكن من المستغرب أن يكون أنصار فكرة التأثير الاجتماعي وأنصار الشكلية خصوما، بل أعداء صريحين في بعض الأحيان
11 . أما النظريتان الرئيسيتان الأخريان فلا تستبعد كل منهما الأخرى على هذا النحو، وإن كان من السهل أن تصبحا كذلك في حالات معينة. فأنصار التصوير غير الموضوعي (أي التجريدي) مثلا، إذا ما مضوا في رأيهم إلى حد التطرف، فأكدوا أن مثل هذا الفن هو وحده الذي يمكن أن يكون له معنى في نظر الأذهان الحديثة، فإنهم يتمسكون، كما هو واضح، بالموقف الشكلي إلى حد استبعاد كل المواقف الأخرى. على أن هذا النوع من استبعاد كل المواقف الأخرى نادر؛ إذ إن معظم النقاد، وكذلك أغلبية المبدعين في الفنون، يخففون من غلواء شكليتهم عن طريق نوع من الاعتراف بوجود قيم لمحاكاة الطبيعة وللتعبير عن الانفعالات معا. وما دامت القيم الشكلية هي التي تظل لها المكانة الأولى، فإنهم على استعداد لإثراء هذه القيم عن طريق تكملتها بالنوعين الآخرين من القيم الجمالية بطريقة حكيمة، على أن تكون لهذه القيم الأخيرة مكانة ثانوية.
12
كلمة تحذير : يحسن بنا، ونحن نختم هذه الدراسة الموجزة لعلم الجمال، أن نحذر القارئ من الاعتقاد بأن الاطلاع على هذا الفصل الواحد قد أعطاه فكرة عن «كل ما يتناوله علم الجمال». ففي كتاب كهذا، نحاول تقديم مدخل أول إلى الفلسفة في مجموعها ينبغي أن يقتصر عرض أي فرع من فروع الفلسفة على فصل واحد أو فصلين. ولا بد أن يترتب على ضيق الحيز إلى هذا الحد الشديد، معالجة كل فرع بطريقة غاية في الإيجاز. ومع ذلك فلما كانت الميتافيزيقا ونظرية المعرفة والمنطق والأخلاق قد اندرجت ضمن الفلسفة بوصفها وحدات منظمة طوال فترة أطول كثيرا من علم الجمال، فقد أتيح لنا أن نعرض تلك الفروع الأخرى بطريقة أوفى بكثير. والواقع أن حداثة عهد علم الجمال، وعدم استقرار وضعه الراهن، يحول دون الاتفاق على كنه المشكلات الرئيسية في هذا الميدان. ومن ثم يكاد يكون من المحتم أن يشعر كثير من المفكرين بأن المشكلتين اللتين اخترناهما على أنهما هما الأهم - وأعني بهما موضوعية القيم والإمكانيات الجمالية النسبية لكل من الفن والطبيعة - أقل أهمية من مشكلات معينة أخرى. ومع ذلك فيكفي لتحقيق غرضنا، كما قلنا في هذا الفصل من قبل، أن يكون القارئ قد اكتسب مزيدا من التبصر في طبيعة علم الجمال والمناهج التي تعالج بها مشكلات هذا الميدان. فإذا ما أضيف إلى ذلك كسب آخر، هو أن القراء الذين بدءوا قراءة هذا الفصل وهم يشكون في قيمة التفكير النظري الجمالي أو صحته، قد أصبحوا بعد قراءته أقل تشككا، فإن كتابة هذا الفصل وقراءته تكونان قد حققتا هدفهما بما فيه الكفاية.
الفصل السابع عشر
الخلود: في أي شيء آمل؟
الحق أن مشكلة الخلود تتغلغل في حياتنا الشخصية وفي معتقداتنا الباطنة إلى حد عميق. فمن الجائز أن هذه، من بين جميع المسائل التي تعالجها الفلسفة، هي المشكلة التي ننتظر الإجابة عنها باهتمام يفوق اهتمامنا بكل ما عداها. ذلك لأن أي مذهب فلسفي، في نظر الكثيرين، لا بد أن يتوقف نجاحه أو إخفاقه على الإجابة التي يقدمها بشأن هذا الموضوع الذي تنعقد عليه آمال البشر ... على أن هذا الموقف ينطوي على خلط مضلل بين الفلسفة والدين. وعلى أية حال، فسواء أكان توقع تحقيق هذا المطلب من الفيلسوف أمرا مشروعا أم لم يكن، فإن هذا التوقع أمر لا مفر منه. ومن هنا فلا مفر أيضا من أن تحاول مختلف المذاهب الفلسفية تقديم إجابات عنه.
وهنا أيضا ينبغي أن نبدأ بتحليل المسائل المتضمنة في هذا السؤال الذي يبدو بسيطا: «هل تبقى الشخصية الإنسانية بعد الموت؟» ذلك لأن من الواجب أن ندرك أن لفظ «الخلود» وحده كانت له في تاريخ الفكر البشري عدة معان متباينة، ومن الواضح أن أية إجابة عن السؤال: «أهناك خلود؟» ستكون متوقفة على المعنى الذي نستخدم به اللفظ. كذلك ينبغي أن ندرك أن التفكير في هذا الموضوع على أساس أمانينا ورغباتنا لا يمكن أن تسفر عنه أية إجابة فلسفية عن هذا السؤال. قد تكون الإجابة المتأثرة بمثل هذا التفكير مشروعة في أوساط معينة، ولكنها لا تكاد تجد لها مكانا في أي بحث ميتافيزيقي جاد. فإذا انتهينا، بوصفنا فلاسفة، إلى أن الخلود البشري حقيقة، أو على الأقل أمر مرجح، فينبغي أن تكون النتيجة مبنية على أساس أمتن من مجرد كونها أمرا مرغوبا فيه.
لذلك سنبدأ تحليلنا ببحث مختلف معاني لفظ «الخلود»؛ إذ إن موضوع الخلود من أكثر الموضوعات التي تشيع مناقشتها تعرضا للاختلاف في فهم مصطلحاته الرئيسية باختلاف الأطراف المشتركة في مناقشته. وقد يكون من الإسراف أن نأمل في الوصول إلى تعريف نهائي للفظ الخلود، يرضي جميع القراء، ولكن من الممكن، ومن الضروري، الالتجاء إلى تعريفات مؤقتة نستعين بها في المناقشة. وأقل ما يمكننا أن نفعله هو أن نختصر عدد المعاني الممكنة للفظ، بحيث لا نستبقي منها إلا ما يمكن تبريره على أسس عقلية. ومن شأن هذا الاختصار أن يلقي بعض الضوء على تلك المشكلة التي هي على أحسن الفروض، مشكلة يشيع فيها الخلط. (1) أنواع الخلود المختلفة (1)
الخلود البيولوجي : توجد على الأقل ثلاثة أنواع مختلفة من التجربة تندرج تحت هذا اللفظ الواحد، لفظ «الخلود». فهناك أولا الخلود البيولوجي الذي يبلغ من الوضوح حدا لا يكاد يكون معه موضوعا للخلاف. وكل ما يعنيه هذا النوع هو أننا نبقى بعد موتنا في أشخاص أبنائنا وأبناء أحفادنا، خلال الأجيال المختلفة. ولا ينطوي هذا القول باستمرار النوع عادة على أي نوع من البقاء الشخصي؛ ولذا فقد يكون الأجدر أن يطلق عليه اسم «الاستمرار» بدلا من «البقاء». والواقع أن أولئك الذين يؤكدون هذا الاستمرار لا يدعون للبشرية أي شيء لا يسري على كل أشكال الحياة بدورها. فالإنسان ليس أكثر أو أقل خلودا من سائر أفراد المملكة الحيوانية، إذ إن الجميع، إذ يسلمون مشعل الحياة، إنما يسلمون شيئا من أنفسهم. ومع ذلك فإن أحدا منهم لا يسلم هذه الفردانية التي تجعل هذا الكلب هو «فيدو» بالذات، أو هذا الشخص بعينه هو «علي». ولما كان هذا الرأي في الخلود يقتصر على استخدام المفاهيم البيولوجية، فإنه يؤكد أن كل كائن عضو حي ليس إلا مستودعا مؤقتا لبذور الحياة، وما حياة الفرد إلا وديعة. تسلم عند وفاته لأبنائه وبناته. (2)
الخلود الاجتماعي : وهناك نوع ثان من الخلود، لا يكاد يختلف في وضوحه واستحالة الشك فيه عن بقاء النوع، وهو البقاء الاجتماعي. ففي هذه الحالة يكون البقاء هو استمرار وجودنا بعد الموت في ذكريات أسرتنا وأصدقائنا. هذا الرأي يؤكد أن الأفراد الذين يقدمون للمجتمع أكبر الخدمات، هم الذين يقدر لهم بقاء اجتماعي أطول. وهكذا ينطوي هذا الموقف على نوع من العدالة البسيطة: فبقاؤنا يتوقف على مقدار جدارتنا، أي على كوننا قد أسهمنا في المجتمع بنصيب يستحق أن تخلد ذكراه بعد موتنا. وفي كل حالة من الحالات يظل كل ما فعلناه من خير ورحمة باقيا بعد حياتنا، وسوف يعمل من انتفعوا من إرادتنا الخيرة على حفظ ذكرانا عطرة، والإشادة ببركاتنا. فأولئك الذين عاشوا حياة عظيمة مفيدة يصبحون آليا أفرادا فيما أسماه جورج إليوت «جماعة الإنشاء الخفية»:
بنفسي أن ألحق بجماعة الإنشاء الخفية
لأولئك الموتى الخالدين الذين يعيشون ثانية
في نفوس أصبحت أفضل بفضل وجودهم ...
لكي أنشد أنغاما لا يغيب صوتها عن العالم. (3)
الخلود الأخلاقي : هناك نوع فرعي من هذا الخلود الاجتماعي، يجتذب بقوة الشخصيات المتدينة المتحررة في العصر الحديث، وهي الشخصيات التي تجد أن من المستحيل الإيمان بجنة فيها ما تشتهيه الأنفس، ولكنها تجد أن من الأصعب الاعتقاد بأن الحياة التي تنقضي في كفاح من أجل الأخلاق، وفي سعي إلى تحقيق الخير الاجتماعي، لا يمكن أن تكون نهايتها الوحيدة سوى القبر. هذا الرأي يمكن تسميته بالخلود الأخلاقي. وهو ينطوي عادة على ثنائية أخلاقية، تعد فيها الحياة صراعا لا ينقطع بين قوى الخير وقوى الشر. في هذه المعركة القديمة العهد يكون الفرد أشبه بجندي قد لا يستطيع كسب الحرب بجهوده الخاصة وحدها، ولكنه يستطيع أن يقاتل بشجاعة، وربما استولى على قطعة صغيرة من الأرض بعد أن يهزم بعض الأعداء، وهناك تشبيه آخر، أثير لدى المدافعين عن وجهة النظر هذه، هو تشبيه الوجود الإنساني بالبحر الذي ينحت الشاطئ بلا انقطاع. فكل موجة جديدة، تتكون في لحظة من المحيط الشاسع، تقوم بالهجوم، وتنحت قطعة صغيرة من الأرض، أو تزعزع حجرا صغيرا من موضعه، ثم يعود البحر الذي أتت منه إلى ابتلاعها. وبالمثل يظهر الكائن البشري بوصفه فردا في بحر الإنسانية الواسع، ويقوم في شجاعة بهجومه القصير على كتلة الشر التي تتداعى ببطء، ثم يغوص ثانية في الجنس الذي أتى منه. وفي هذه العودة يتخلى عن فرديته وهويته الشخصية، ولكن قطعة الشر الصغيرة التي أزالها تظل نصبا تذكاريا دائما يخلد ذكراه ويشيد - بجهوده. وهكذا فإنه، على الرغم من ضياع شخصيته، لم يعش حياته عبثا، فحياته قد اكتسبت، بفضل هذا النصيب الذي أسهمت به، مكانة وغاية تنأى بها عن العقم وترتفع بها إلى مستوى إنساني بالمعنى الصحيح، له مغزاه ودلالته الباقية. (2) الموقف التقليدي
لسنا بحاجة إلى القول بأن القلائل فقط هم الذين تكون في أذهانهم أمثال هذه المفاهيم السابقة عندما يستخدمون لفظ «الخلود». فالكلمة تعني عادة، في استعمالها العادي، بقاء شخصيا بعد الموت على نحو ما، وحالة يستمر فيها وجودنا الفردي بوصفنا شخصية فريدة. فالإيمان بالخلود يعني في نظر معظم الناس إيمانا بأنهم سوف يستمرون في الحياة بعد الموت بوصفهم أفرادا متميزين، ستكون لهم آمال وأفعال كريمة مشابهة إلى حد بعيد لما كان لهم وهم أحياء في هذه الدنيا. وأولئك الذين يؤمنون على هذا النحو يرون أن ذلك الشكل الهزيل من أشكال الخلود، كالخلود البيولوجي أو الاجتماعي أو الأخلاقي، لا يكاد يستحق التفكير فيه. وما لم يكن وجودنا بعد الموت وجودا تظل فيه الفردية والشخصية باقية، وينطوي على استمرار في الغاية والمسعى، فإن هذا الوجود لن يكون بقاء بأي معنى معقول. أي إن الفكرتين الرئيسيتين في هذا الصدد هما الهوية والاستمرار. وما لم يتم الاحتفاظ بهما معا، فإن معظم الأشخاص يشعرون بأنه لا يوجد خلود حقيقي. ومن المؤكد أن لفظ الخلود كما ظل الناس يستخدمونه عادة، كان ينطوي ضمنا على الهوية والاستمرار، وعندما عبر الشعراء وأصحاب الرؤى الصوفية في كل العصور عن هذا الحلم الأزلي للبشرية، فقد كان حديثهم على الدوام منصبا على البقاء الشخصي.
ونظرا إلى أن المعنى التاريخي والشعبي للفظ «الخلود» كان ينطوي على فكرة البقاء الشخصي، فإن الفيلسوف يقصر تحليله عادة على هذا الرأي. فهو يتساءل مع سائر البشر: هل الناس يبقون بعد الموت؟ وفي أي الظروف يكون بقاؤهم لو كانوا يبقون بالفعل؟ فمثلا، ما العلاقة بين البقاء وبين سلوك الفرد قبل الموت؟ وهل يتوقف البقاء دائما على كون الفرد قد عاش في هذه الدنيا حياة أخلاقية، أم أن أخلاقية حياتنا الدنيوية لا تتحكم إلا في نوع البقاء الذي سيكون لنا؟ أم أن من الممكن أن تكون الحياة بعد الموت مستقلة عن الاعتبارات الأخلاقية، بحيث يظل الخير والشرير معا باقيين في حالة واحدة؟
العلاقة بين البقاء وبين الأخلاق : كانت هناك - كما هو متوقع - إجابات لا حصر لها عن هذه الأسئلة العويصة. والواقع أن المذاهب كانت من الكثرة ومن التنوع بحيث إن أي تصنيف يغدو مستحيلا. ومع ذلك ففي استطاعتنا أن نصدر بعض الأحكام العامة الصحيحة فيما يتعلق بالفكر الغربي. فقد كان هناك أولا، منذ الفترة اليونانية المتأخرة، اتجاه إلى النظر إلى أفعال معينة، أو معتقدات معينة، أو أنماط معينة للسلوك، على أنها شرط ضروري لبقاء الشخص بعد الموت. وبعبارة أخرى فقد كان يعتقد أن الحالة التي يظل فيها الفرد باقيا، وربا مجرد البقاء على إطلاقه، تتوقف إما على ما يؤمن به الشخص، وإما على نوع الحياة التي يعيشها، أو كليهما معا. ولا جدال في أن التأثير القوي للمسيحية واضح في هذه الحالة. ذلك لأن الكنيسة كانت ترى على الدوام أن قبول تعاليم لاهوتية معينة، بالإضافة إلى السلوك في الحياة وفقا للوصايا العشر، هو شرط لا بد منه للخلاص. ولا شك أن مفكرين قلائل في العالم الغربي هم الذين تمكنوا من أن يضعوا مذهبا إيجابيا في الخلود لا يظهر فيه تأثير هذا التراث، بل إنه ما زال في حكم المستحيل حتى اليوم، بعد أن فقد الإيمان اللاهوتي كثيرا من سيطرته على أذهان الناس، أن نجد مذهبا معاصرا في الخلود يقول ببقاء الناس جميعا في حالة واحدة، بغض النظر عن مكانتهم الأخلاقية. وهكذا فإن الغرب قد تشكل بالتفكير المسيحي إلى حد أن الخلود الذي لا يرتبط بالأخلاق يكاد يكون أمرا يستحيل تصوره. فإذا لم يكن العالم الآخر مكانا يثاب فيه الأبرار ويعاقب الأشرار، أو تؤتي فيه الحياة الأخلاقية أكلها، فإنه يغدو بالنسبة إلى معظمنا في حكم العدم.
الاتجاه اليوناني : كثيرا ما يشعر الدارس المبتدئ للفلسفة بأنه قد صدم إذ يعلم أن اليونانيين القدماء لم تكن لديهم فكرة واضحة عن الحياة الأخرى بوصفها شيئا نستحقه بعد كفاح أخلاقي. فمعظم الطلاب اليوم يستطيعون أن يفهموا أن مفهوم البقاء عند اليونانيين لم تكن له صلة بإيمان الفرد، ولكن من الصعب عليهم أن يفهموا أن الوجود بعد الموت لم تكن له بدوره علاقة وثيقة بسلوك المرء. وحتى لو لم تكن فكرة «الجنة» و«النار» قد أصبحت هي محور نظرتنا إلى هذه الأمور، فإنه تصور حياة أخرى تكون للناس فيها مكانة نسبية مماثلة للمكانة التي كانوا عليها قبل الموت تبدو لنا فكرة غير منطقية. ولكن الاعتراض الوحيد على ذلك هو اعتراض تاريخي: فقد كانت هذه الفكرة تبدو في نظر اليونانيين منطقية تماما. على أن هذا الموقف، سواء أكان منطقيا أم لم يكن، يبدو في نظر معظمنا غير أخلاقي. فمثل هذا الرأي يثير مشاعرنا الخلقية؛ إذ إننا نفضل أن نجرب حظنا في عالم يتوقف البقاء فيه - على نحو ما - على جدارتنا بالبقاء. ونحن نشعر بأننا إذا شئنا أن يكون للخلد أي معنى على الإطلاق، فلا بد أولا أن يكون له معنى أخلاقي.
والأرجح أنه لو قدر لمفكر يوناني قديم أن يعرف اتجاهنا الحديث هذا، لوصفه بأنه اتجاه غير ناضج أخلاقيا - وهو ما ينتهي إليه الشكاك المحدثون بدورهم؛ ذلك لأن هذا الموقف ينطوي ضمنا على السؤال الآتي: «لم نكون فضلاء إذا كان الخلود من نصيب الأخيار والأشرار معا؟» وهو سؤال يوحي بدوره بأن كل سلوك فاضل ينبغي أن يكون الدافع إليه هو الأمل في ثواب أو مكافأة. على أن الشخص الناضج أخلاقيا - على ما يقولون - إنما يفعل ما يفعل لأنه حق، لا بوصفه قسطا يدفعه مقدما لدخول الجنة، أو رشوة لتجنب الفناء. ومع ذلك فإن معظم الناس يرون أن الحياة الأخرى، أيا كانت صورتها، ينبغي أن تكون وجودا يبرر الحياة الأرضية ويكملها. وينبغي أن تكون حالة تتحقق فيها الأماني الأخلاقية. فلا بد أن يكون ذلك عالما يتوج فيه السعي وراء الخير بالنجاح، ويكتمل فيه تحقيق حياة الإنسان الأخلاقية. فالخلود لا ينبغي أن يقتصر على كونه استمرارا لحياتنا، وإنما ينبغي أيضا أن يكون اكتمالا لها وبلوغا بها إلى غايتها. (3) التضاد بين الموقفين المثالي والطبيعي
من الواضح أن الشروط التي يفترض أنها تتوافر في الخلود، والتي تعبر عنها كلمة «ينبغي» أو «لا بد»، في العبارات السابقة، لا تكون واجبة إلا إذا كان الكون تجسدا لقيم أخلاقية أو حريصا عليها؛ أي بالاختصار، إذا كان يفي بشروط المفكر المثالي فيما ينبغي أن يكون عليه الكون لكي يكون «خيرا». فمن الجلي أنه إذا كان نظام العالم أخلاقيا، فلا بد من نوع من الحياة الأخرى من أجل مواصلة تحقيق القيم الخلقية وحفظها بصورة دائمة؛ ذلك لأن من الأمور التي نلمسها جميعا أن أمانينا الأخلاقية نادرا ما تتحقق هنا، في هذه الحياة؛ ففي كثير من الأحيان «يموت الطيبون صغارا»، وحتى عندما لا يموتون، نجد أن كثيرا من الأخيار يحيون حياة شاقة عسيرة على حين أن الأشرار يفلحون في حياتهم غالبا، وحتى عندما لا يفلحون، فيبدو في كثير من الأحيان أنهم يستمتعون بحياتهم أكثر مما يستمتع بها كثير من القديسين، وهناك لحظات لا حصر لها في حياة أي شخص، تبدو فيها الظروف مخيبة لأنبل مقاصدنا، ويتحول الفعل الذي بدأ بنية طيبة، أمام أعيننا ذاتها، إلى فعل من معدن أخس. فلا يمكن منطقيا أن نتصور الكون نظاما أخلاقيا إلا إذا افترضنا عهدا للعدالة النهائية، تجنى فيه آخر الثمار التي كان من المفروض أن تجنى من نوايانا الطيبة.
ومن الطريف أن نلاحظ، عند هذه النقطة، أن أشخاصا كثيرين ممن لا يؤمنون ببقاء الشخصية بعد الموت، يرون مع ذلك أن الكون حريص على تحقيق القيم وحفظها؛ أي إنه يعمل في اتجاه الخير. هذا الرأي يمثل امتدادا للرأي الاجتماعي في الخلود، الذي ناقشناه من قبل. وعلى الرغم من أن القائلين بهذا الرأي لا يحددون بدقة كيف يمكن متابعة النصيب الذي يسهم به كل منا في الخير، والاحتفاظ به على المستوى الكوني، فإنهم جميعا متفقون على أن القيم هي أنفس ما في الكون، وعلى أن الكون منظم بحيث يضمن تحقيقها واستمرارها، بغض النظر عما يحدث لنا بوصفنا أفرادا.
وينبغي أن يلاحظ أن فكرة بقاء القيم هذه تنطوي على أكثر من مجرد احتفاظ المجتمع بالنصيب الذي يسهم به كل فرد. ففي استطاعتنا أن نتصور المجتمع وقد أدار ظهره للقيم التي أضنى الجنس البشري نفسه في تحقيقها، كما حدث في العهود المظلمة في أوائل العصر الأوروبي الوسيط، غير أن المذهب الذي نحدد بصدده يرى أن جوانب الخير هذه لا يقضى عليها في هذه الحالة، وإنما ترجأ فحسب، إما لكي تعود إلى الظهور في تاريخ تال (كما حدث بعد العصور المظلمة)، وإما لكي يحتفظ بها بوصفها إسهاما دائما في مجموع الخير الموجود في الكون.
هذا الرأي، وكذلك الرأي السابق القائل إن الخلود ازدهار للقيم الخلقية، يعدان تعبيرين مميزين عن الميتافيزيقا المثالية. فكلا الرأيين يفترض ضمنا حقيقة نهائية، إما أن تكونه هي ذاتها الخير، وإما تفترض الخير بوصفه العنصر الرئيسي المكون لها، وكلاهما يفترض نظاما للعالم هو قطعا أخلاقي، لا آلي. وينطوي كل من المذهبين ضمنا على القول بعالم ملائم للإنسان ولكل ما هو رفيع في طبيعته البشرية، وكلاهما يضمن تحقق هذا العنصر الرفيع وحفظه على الدوام.
ولا نكاد نجد أنفسنا بحاجة إلى القول بأن أية ميتافيزيقا تؤمن بالمذهب الطبيعي لا بد أن تقضي على مثل هذه الآراء من أساسها. فصاحب المذهب الطبيعي لا يحتاج إلى افتراض الخلود من أجل إكمال مذهبه منطقيا أو أخلاقيا. فلما كان يؤمن بأن الكون غير مكترث بالقيم البشرية، وبأنه لا توجد علاقة ضرورية بين الواقع والخير؛ أي بين ما يوجد وما نود أن يوجد - فإنه لا يستطيع الالتزام بتلك الشروط التي يقول المثالي إن الخلود يفي بها منطقيا. ولما كان الذهن البشري هو الشيء الوحيد الذي يعبأ بتحقيق القيم في العالم الذي يقول به المذهب الطبيعي، فكيف يمكن أن يقال إن النضال الأخلاقي لا تكون له قيمته إلا بالنسبة إلى البقاء بعد الموت؟ وبعبارة أخرى، فالمثالي يرى أنه إن لم يكن هناك وجود بعد الموت لإتمام المسعى الأخلاقي، فلن يمكن أن تكون للقيم الأخلاقية دلالة كونية. وهذا ما يرد عليه صاحب المذهب الطبيعي بقوله: «بالضبط! فكل هذا الحديث الطنان عن القيم الكونية إنما هو محاولة من الإنسان لإضفاء أهمية على رغباته وأمانيه الخاصة. إن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن الاعتقاد بأن الكون يرى الأشياء كما نراها، ويحلم كما نحلم، ويستهدف غايات كغاياتنا، ومثلا عليا هي مثلنا، وهو أمر يبعث الراحة في نفوسنا، بل يرضي غرورنا. ومن المؤكد أن الأمور لو كانت كذلك، لكان هذا شيئا رائعا بحق». غير أن صاحب المذهب الطبيعي يذكرنا، كما يفعل دائما بأن كون هذا الموقف أمرا مرغوبا فيه هو أمر لا صلة له على الإطلاق بحقيقته، وبأن منطقيته لا علاقة لها بواقعيته، وبالاختصار، فإن هذه المحاولة المثالية لإلحاق الأماني البشرية بقطار الكون ليست إلا تشبيها بالإنسان، ولكن بصورة مهذبة.
موقف المذهب الطبيعي : هل يعني ذلك كله أن المذهب الطبيعي لا يؤمن بالخلود؟ إننا إذا كنا نعني بهذا اللفظ أي شيء أكثر من استمرار النوع أو البقاء في المجتمع، فإنه يلزم منطقيا عن وقف المذهب الطبيعي استحالة أن يكون هناك خلود كهذا. أي إنه، مثلما أن منطق المذهب المثالي يرغم صاحبه على الاعتراف بأن هناك على الأرجح بقاء للشخص بعد الموت، فإن المنطق الذي ينطوي عليه موقف المذهب الطبيعي يدفعه إلى الشك في أي احتمال كهذا، وربما إلى إنكاره تماما. صحيح أن صاحب المذهب الطبيعي لا يملك ما يجزم به في هذه المسألة على نحو قاطع، وهو عادة يتخذ موقفا لاأدريا أكثر منه قطعيا توكيديا. ولكن من الواضح مع ذلك أنه، وإن لم يكن يستطيع إنكار البقاء بعد الموت بأي قدر من اليقين، فإن منطق مذهبه بأسره من شأنه أن يجعل الإيمان بالخلود غير ضروري وغير منطقي. والأمر هنا مماثل لما كنا عليه عند بحثنا في مشكلة وجود الله. ففي كلتا المسألتين لا يوجد دليل تجريبي أو برهان عقلي، بل إن الأساس الوحيد للإيمان هو نوع من المنطق الأخلاقي، كما اعترف «كانت» وكثير غيره من الفلاسفة المحدثين صراحة. فقد بدا لهم أن إنكار وجود الله وخلود النفس يؤدي إلى إنكار وجود نظام أخلاقي موضوعي أو مطلق في الكون. هذه النتيجة، التي اعترفت بها المدرستان الكبريان المتنافستان من مدارس الفكر الفلسفي، تلقى قبولا فوريا عند صاحب المذهب الطبيعي، وتدمج في نظرته إلى العالم. أما المثالي فلا يتصور هذه الفكرة. والواقع أن من العسير أن نرى كيف يستطيع المثالي أن يقبلها دون أن يعرض بناء الفكر المثالي بأسره للخطر. (4) الأمل الأكبر للمثالية
لما كان المثالي هو الذي يأخذ على عاتقه مهمة إثبات بقاء الشخصية بعد الموت، فإن من العدل أن نختم مناقشتنا للخلود بتلخيص لاستدلاله ينطوي على تعاطف معه. ولسنا بحاجة إلى ترديد الحجة الأخلاقية؛ إذ إننا انتهينا لتونا من عرضنا لها. ولكن ما نود أن نوجه إليه اهتمامنا هنا هو الحجة الميتافيزيقية الأنطولوجية؛ إذ يبدو أن كثيرا من المثاليين ينظرون إلى هذه الحجة، على أنها أقوى حتى من الدليل الأخلاقي. ولنذكر أن الفكرة الأساسية العامة للميتافيزيقا المثالية هي الاعتقاد بأن الواقع النهائي ذو طبيعة ذهنية أو روحية، وأن النظام الموضوعي للوجود المادي؛ أي العالم الطبيعي - له حقيقة ثانوية أو مشتقة. ولنعد مرة أخرى إلى اقتباس عبارة من هوكنج، هي التي يقول فيها إن المثالية ترى أن الاكتفاء الذاتي البادي للطبيعة إنما هو وهم، فالطبيعة تعتمد في وجودها على شيء أبعد منها، أو وراءها، أو فوقها. هذا الشيء هو «الذهن» بمعناه الشامل. وكما رأينا في الفصل الثالث، فإن المثالية الذاتية (عند باركلي) والمثالية الموضوعية (عند هيجل) لا تتفقان تماما في طريقتيهما في إرجاع الوجود إلى الذهن. غير أن جميع أنواع التفكير المثالي تتفق، على الأرجح، على أن المادة، وعالم الموضوعات الفيزيائية بأسره، يستمد معناه ووجوده آخر الأمر، من عالم فوق الحسي، هو عالم الذهن أو الأفكار (المثل) ومن ثم فإن جميع مدارس المثالية تنكر أولوية المادة، وإنما تعطي كل الأولوية؛ أعني الأولوية المنطقية والأنطولوجية والزمنية - لنظام مادي في الوجود.
والنتائج التي تترتب على هذا الرأي بالنسبة إلى موضوع الخلود واضحة. فإذا كانت الأولوية «للذهن»، أو «الفكر»، أو «الروح»، أو «العقل»، وإذا كان العالم يستمد معناه (ووجوده آخر الأمر) من هذا المصدر غير الفيزيائي، فمن الواضح أننا، بوصفنا أذهانا أو أرواحا أو شخصيات، يمكن أن نوجد بمعزل عن أجسامنا العضوية. ذلك لأن الذهن (في الأنطولوجيا المثالية) يمكن منطقيا أن يوجد بمعزل عن الجسم، ما دام ينتمي إلى نظام للوجود أكثر أولية وأكثر «حقيقة». أما العكس فليس ممكنا، فقد يستمر وجود الجسم مؤقتا بمعزل عن الذهن أو النفس التي كان الجسم يئويها حتى عهد قريب، ولكنه لا يمكن أن يوجد، ولو بصفة مؤقتة، مستقلا عن كل ذهن؛ أي مستقلا عن «الذهن الإلهي» أو «المطلق». وهكذا يرى المثالي أن بقاء الشخصية بعد الموت أو بعد زوال الجسم المادي ليس ممكنا فحسب، بل هو مرجح. والحق أن منطق المثالية يجعل هذا البقاء أمرا يكاد يكون مؤكدا . فإذا كان أساس وجود الأجسام، كما رأينا في الفصل الثالث، هو أن تكون جسرا تتصل بواسطته الأذهان فيما بينها، فمن الممكن أن نتصور أن توجد هذه الأذهان ذاتها مستقلة عن أي كائن عضوي مادي. أي إننا ما إن نفترض أولوية الذهن أو الروح فلن يعود هناك شيء يحول دون الخلود. فلو سلمنا بهذه المصادرة الأساسية للمثالية، فإن بقاء الشخصية الإنسانية بعد الموت يكون أكثر من مجرد فكرة معقولة؛ إذ يغدو احتمالا مرجحا رائعا. (5) مشكلة الإيمان النهائي
بأي شيء يمكننا أن نؤمن إذن؟
إن المسألة تبدو الآن واضحة: ففي إمكاننا أن نؤمن بأي شيء لا يوجد دليل تجريبي يؤدي إلى استبعاده، ويكون في الوقت ذاته متمشيا مع موقفنا الفلسفي الأساسي. ومن هنا فإنه لا توجد مشكلة أخرى من المشكلات التي تتناولها الفلسفة، يظهر فيها الشقاق بين المذهبين الطبيعي والمثالي بنفس القدر من الوضوح الذي يظهر به في موضوعي الله والخلود. ذلك لأننا لما كنا في حالة هذين الموضوعين نعالج مشكلات لا توجد بشأنها إلا أدلة تجريبية ضئيلة، أو لا توجد أدلة على الإطلاق، فليس هناك اعتقاد ينبغي استبعاده بصفة قاطعة لأسباب تجريبية. وبالطبع لا يوجد اعتقاد يقبل بوضوح بناء على هذه الأسباب؛ لذلك فإن نظرتنا الفلسفية العامة إلى العالم هي التي ستتحكم بالضرورة، آخر الأمر، فيما نؤمن به، ما لم نكن بالطبع غير متسقين في تفكيرنا بحيث نتمسك بمعتقدات متناقضة. أما إذا افترضنا أن معتقداتنا متسقة، فإن آرائنا في تلك المشكلات القصوى، كمشكلة وجود الله وبقاء الشخص بعد الموت، ستكون هي الآراء التي تنسجم مع مذهبنا الفلسفي في مجموعه. فنحن سنؤمن عندئذ بما يمكننا أن نؤمن به في إطار هذا المذهب. أو بعبارة أدق، فنحن سنأخذ بأية معتقدات تلزم لإتمام مذهبنا وجعله كله مذهبا تسوده وحدة جامعة. وهنا نجد المثالي والطبيعي يفترقان أشد ما يكون الافتراق - أعني افتراقا لا رجعة فيه. إذ يتعين على كل منهما، لكي يجعل نظرته إلى العالم متسقة وكاملة، أن يتابع نتائج مصادراته الأساسية حتى نهايتها المنطقية ، بحيث إن كل خطوة يخطوها تزيده ابتعادا عن خصمه الفلسفي. (1)
بالنسبة إلى المثالي : يرى المثالي، الذي يعطي الأولوية للجانب الفكري من الوجود، ويجعل عالم الروح هو الأساس النهائي، أنه «لا شيء مستحيل التحقيق من أماني الإنسان العليا».
1
وعلى حين أنه قد لا يكون هناك، على الأرجح، أفراد كثيرون في هذه المدرسة يؤمنون «ببعث الجسم ودوام الحياة أبدا» بالمعنى اللاهوتي التقليدي، فإن أغلبية منهم تقبل فكرة وجود نوع معين من البقاء بعد الموت، ولا سيما إذا كان ذلك بقاء للعناصر الأكثر معقولية وأخلاقية في طبيعة الإنسان. وهنا نجد، كما نجد في مسائل كثيرة أخرى، أن الموقف والاتجاه العام للمثالي متعاطف بقوة مع موقف الدين واتجاهه. وعلى الرغم من أن عقل المثالي قد يكون أقوى في نزعته النقدية من عقول معظم رجال الدين (وهو قطعا أقوى في نزعته التحليلية) فإنه يقبل لنفسه راضيا أن يقوم بدور التابع لهم. وكل ما في الأمر أن المثالي يتحدث عادة عن «المطلق» بدلا من «الله»، وعن «حفظ القيم» بدلا من «الجنة أو النعيم»، فيكون الفارق الرئيسي بين الفيلسوف المثالي وبين رجل الدين هو في تأكيد الأول للأوجه النظرية لهذه المشكلات القصوى، في مقابل تأكيد الثاني لأوجهها العملية. (2)
بالنسبة إلى فيلسوف المذهب الطبيعي : فما هو موقف فيلسوف المذهب الطبيعي إذن؟ لما كانت الإجابات التي يقدمها هذا الفيلسوف عن هذه المشكلات تتعارض بصورة مباشرة مع آمال الإنسان وأمانيه، فمن العسير عرض الردود التي يأتي بها بطريقة تروق لكثير من القراء. والحق أنه، أيا ما كان المصدر الذي تقع على عاتقه مهمة الإتيان ببراهين (أو بينات) منطقية أو تجريبي، فإن البينة الانفعالية تقع قطعا على صاحب المذهب الطبيعي؛ إذ يبدو رده في نظر معظم الناس أقسى وأصلب وأكثر «واقعية» من اللازم. ذلك لأن الموقف السائد بين الناس هو تقريبا الموقف الآتي: لما كنا لا نستطيع إثبات إجاباتنا على أي نحو، ولما كان لنا بالتالي الحق في الإيمان بأية وجهة نظر، فمن المؤكد أن الأفضل هو الأخذ بالرأي الذي يتيح لنا مزيدا من الطمأنينة ويجعل الحياة أجدر أن تعاش - ومن الواضح أن هذا هو الرأي المثالي.
وسوف نقول المزيد عن هذا الموقف بعد قليل، ولكن يحسن بنا أولا أن نقدم عرضا موجزا لموقف المذهب الطبيعي؛ إذ إننا لن نستطيع أن نحكم بمدى إمكان الأخذ بهذا الموقف إلا بعد أن نفهمه فهما دقيقا.
وينبغي أن نذكر أنه، على الرغم من استعداد فيلسوف المذهب الطبيعي للانتظار حتى يبت العلم في مشكلة «المادة
Stuff » النهائية التي يصنع منها الكون، فإنه واثق أن الطبيعة العامة لنظام العالم هي طبيعة فيزيائية. وهو لا يعني بذلك ضرورة أن الكون «ليس إلا آلة هائلة»، وإنما يعني أن عملياته هي عمليات فيزيائية، وقواه قوى فيزيائية، وقوانينه قوانين فيزيائية. والنتيجة التي تترتب على ذلك هي أنه لا يمكن أن يوجد إلا نظام أو نمط واحد للوجود - أو بعبارة أخرى أن كل ما يوجد أو يؤدي وظيفته إنما هو جزء من نظام الطبيعة. وهذا يؤدي صراحة إلى استبعاد أي شيء فوق الطبيعة، أو أي شيء عال، من فئة الوجود الموضوعي، فالنظام الفيزيائي أو الطبيعي يضم في داخله كل ما هو موجود.
إنجازات العلم : يرى فيلسوف المذهب الطبيعي، شأنه شأن العالم الذي يستمد منه الجزء الأكبر من معلوماته والاتجاه العام لتفكيره، أن العمليات الفيزيائية والقوانين التي تسري عليها كافية لتعليل جميع الظواهر. أما الحالات التي تكون المبادئ المتضمنة فيها غير معروفة بعد، فإن فيلسوف المذهب الطبيعي يفترض أنها عندما تكتشف سيتضح أنها فيزيائية و«طبيعية»، مثلها مثل تلك المبادئ التي أثبتها العلم من قبل. ونظرا إلى التوسع المطرد للتفسيرات الطبيعية في ميدان تلو الآخر من ميادين التجربة البشرية، فلا بد أن يكون المرء على قدر كبير من العناد لكي يستطيع تحدي هذا الافتراض، وهكذا فإن كثيرا من الظواهر التي كانت تعد من قبل غامضة، بل خارقة للطبيعة، أصبحت تخضع للتحليل العلمي، بحيث إن الشخص الذي ينادي بأن بعض الظواهر الخاصة لا يمكن أن تخضع للتفسير العلمي على أسس فيزيائية لا بد أن يقع على عاتقه عبء ثقيل من الإتيان بالبينة على ما يقول. فلما كان فيلسوف المذهب الطبيعي يسلم بأن لكل الظواهر مكانا في الطبيعة، فإنه لا يستطيع - منطقيا - أن يعترف باستثناءات من هذا النظام الشامل للأشياء وللعمليات جميعا.
ومن بين هذه العمليات الطبيعية، نجد للعمليات التي تدرسها مختلف العلوم البيولوجية (وضمنها علم النفس) مكانة هامة في أي بحث عقلي في موضوع الخلود. ذلك لأن عالم البيولوجيا بدوره قد فرض سيطرة القوانين الفيزيائية الكيموية والتفسيرات الطبيعية على ميدان البيولوجيا بأسره تقريبا. وفي عهد أقرب قام علم النفس بتوسيع هذه السيطرة بحيث تمتد إلى ذلك الميدان الذي ظل طويلا يعد قلعة يتحصن فيها كل ما هو عال وخارق للطبيعة، وأعني به ميدان الشخصية الإنسانية أو «النفس». ولم يكتشف علم البيولوجيا أو علم النفس، كما تنبأ العالم وفيلسوف المذهب الطبيعي بجرأة منذ عهد بعيد، أية ظواهر تتناقض مع مصادرات المذهب الطبيعي، وإنما أيدت الكشوف، واحدا تلو الآخر، النظرية العلمية الأساسية القائلة بوجود علاقات علية يمكن التعبير عنها كميا، حتى أصبح من الممكن أن نأمل أن يجيء اليوم الذي يتمكن فيه علم النفس من تقديم تفسيرات لكل سلوك بشري تكون مبنية على أساس المذهب الطبيعي.
ومن أهم التعميمات التي صاغها عالم البيولوجيا، التعميم الآتي: لا توجد حياة بمعزل عن كائن عضوي، ولا يوجد ذهن، أو فكر، أو وعي بمعزل عن بناء فيزيائي عصبي من نوع ما. وبعبارة أبسط، فإن علم البيولوجيا يقول إنه لا يستطيع الاهتداء إلى مثال لحياة غير عضوية، أو لذهن بلا جسم. ويعبر علم النفس عن هذه الفكرة ذاتها بقوله إن كل تغير نفسي، وكل حادث ذهني هو، بقدر ما يستطيع هذا العلم أن يكتشف، إما مسبوق وإما مصحوب بتغيرات عصبية (أي فيزيائية)، وهذه الأخيرة تفترض بالطبع وجود بناء أو تركيب عصبي. ولما كان عالم النفس عاجزا عن الاهتداء إلى أي استثناء لهذا الأساس العصبي للنشاط الذهني، فقد كان من المنطقي أن يتوسع في هذا الحكم بحيث يجعل منه إحدى مصادرات علمه . هذه المصادرة يمكن التعبير عنها كما يلي: كل حادث نفساني يفترض مقدما حادثا عصبيا في صورة تغيرات في الطاقة داخل مجموعات الخلايا العصبية، ويعتمد على هذا الحادث العصبي على الأرجح. وعلى الرغم من أن عالم النفس يشعر بالحرج عندما يحاول الخارجون عن ميدانه أن يطلقوا عليه اسم «المادي»، فليس من الصعب أن نفهم أن مصادرته الأساسية هذه يمكن أن تفسر تفسيرا ماديا، كما يمكننا أن نفهم السبب الذي يجعل المدارس الفلسفية ذات الاتجاه الواقعي الصلب تهيب في كثير من الأحيان بعالم النفس بوصفه شاهدا خبيرا، لكي يؤيد على كره منه موقفها المعادي للمثالية والروحية.
النظرة الوظيفية : ينبغي أن نلاحظ أن تعميمات العلوم البيولوجية هذه تتمشى مع الأسلوب المتبع لدى معظم العلماء، الذين يأخذون بالنظرة الوظيفية إلى الظواهر كلما كان ذلك ممكنا. ومعنى ذلك، فيما يتعلق بالحياة والذهن، النظر إلى الظواهر البيولوجية بطريقة غير جوهرية. وبعبارة أبسط، فهو يعني أن الحياة والذهن معا يعدان «وظائف للكائنات العضوية»، لا كيانات في ذاتها. فليست «الحياة»، بالنسبة إلى عالم البيولوجيا، إلا لفظا مريحا للتعبير عن جموع عمليات معينة في التمثيل الغذائي والتكيف والتكاثر، لا جوهرا أو مادة تدخل الكائن العضوي عند مولده وتخرج منه عند مماته. وقد يفيد في تقريب هذه الفكرة إلى الأذهان أن نضرب لها مثلا من ميدان الميكانيكا. فالفيزيائي يعرف الحركة بأنها وظيفة للأجسام، تمثل بذلا للطاقة، وهي ليست كيانا أو جوهرا في ذاته. ولو كانت الحركة مجرد بذل للطاقة فإن هذه الطاقة عندما تتبدد كلها بالاحتكاك، لا يعود الشيء يؤدي وظيفته بوصفه شيئا متحركا؛ أي إنه يتوقف. فأين ذهبت الحركة؟ إذا كنا نعني «بالحركة» بذلا للطاقة، فإنها قد تبددت في صورة طاقة. أما إذا كنا نعني بالحركة مادة أو جوهرا كان حاضرا في الشيء، «فإنها» لم تذهب إلى أي مكان، «لأنها» لم تكن موجودة أبدا. ولنضرب لذلك مثلا أبسط، هو ذلك اللغز القديم الذي يتسلى به الأطفال: أين يذهب «حجرك» عندما تقف؟ والجواب بالطبع هو أنه لا يذهب إلى أي مكان؛ لأن «الحجر» ليس كيانا أو جزءا من جسمك له وجود مستقل، كأنفك مثلا، وإنما هو علاقة بين أجزاء معينة من جسمك عندما تكون في مواقع محددة، بالنسبة إلى بعضها وإلى المستويين الرأسي والأفقي.
النظرة الوظيفية في مقابل النظرة الجوهرية : عندما يحدث، أثناء قيادة المرء سيارته بسرعة، أن تصطدم إحدى الحشرات فجأة بزجاج السيارة الأمامي وتتحطم الحشرة على الزجاج، فمن الطبيعي أن نتساءل: أين ذهبت هذه الحياة الضئيلة؟ ذلك لأن التحول من كائن عضوي كامل يقوم بوظائفه كلها، إلى مجرد بقعة من المادة، يبلغ من الضخامة حدا يصعب معه على المرء ألا يقول بأن «شيئا» معينا، أو «مادة»، أو (جوهرا) قد اختفى. وعندما يقتل أمامنا إنسان بطريقة عنيفة وفورية مشابهة، يكون هذا الاعتقاد أقوى حتى مما سبق. ومع ذلك فإننا حين نعود بأذهاننا إلى النظرة الوظيفية التي يقول بها عالم البيولوجيا، نتذكر أن «الحياة» ليست إلا القدرة على القيام بعمليات معينة، أو مجموعة هذه العمليات - وأعني بها عمليات التكاثر والتعويض الذاتي والتكيف مع البيئة. فعندما يدمر البناء العضوي لأسباب طبيعية (كتقدم السن مثلا) أو نتيجة للإصابة في حادث، فمن الواضح أنه لا يعود يؤدي وظيفته عندئذ؛ أي إنه لا يعود «حيا». فأين ذهبت «الحياة»؟ إننا إذا استخدمنا اللفظ بالمعنى الوظيفي الذي يستخدمه به العلم، لقلنا إن «الحياة» لم «تذهب» إلى أين مكان. فالقدرة الوظيفية لم تعد موجودة، ولكن ذلك لا يعني أنها «ذهبت» إلى أي مكان، مثلما أن اختفاء «حجرك» عندما تقف لا يعني أنه ذهب إلى أي مكان. وبعبارة أخرى، فإننا بمجرد أن نحرر تفكيرنا من النظرة الجوهرية إلى الحياة، فإن قدرا كبيرا من السر والعلو الذي ينسب عادة إلى ظاهرة الموت يختفي فورا.
مثل هذا يصدق على «الذهن» أو «الوعي» أو «الشخصية». فإذا كانت لدينا نظرة جوهرية إلى الشخصية، كان من الطبيعي أن نشعر بأن من الضروري تعليل اختفائها عند الموت، وكان من المنطقي تماما أن نتساءل عما حدث لها، ونضطر إلى افتراض سماء، أو عالم آخر من نوع ما بوصفه مقرا لحياتها الأخرى المفترضة. أما إذا أخذنا بالرأي الوظيفي في الذهن، كما يقول به علم النفس المعاصر، فإن مثل هذا الافتراض لا يغدو غير ضروري فحسب ، بل يصبح غير منطقي. ذلك لأننا إذا نظرنا إلى «الذهن» على أنه مجرد اسم مريح لمجموع قدرات الفرد وخبراته - أو بعبارة أدق، لردود أفعاله العصبية الحالية الممكنة - فلن يكون في اختفاء هذا «الذهن» عند الموت أية مشكلة بالنسبة إلينا؛ إذ إن القدرة على رد الفعل، التي تتألف من طاقة عصبية كامنة، قد طرأ عليها تغير لا يزيد في غموضه على أي تغير للطاقة في الطبيعة. وماذا نقول عن ردود الأفعال العصبية المتراكمة، التي نسميها «أنماطا للعادات» و«ذكريات»؟ إنها لما كانت تمثل تغيرا دائما أو شبه دائم في التركيب العصبي، فلا بد أن تختفي هذه التغيرات بدورها بتحلل هذا الجهاز العصبي المعين، أو حدوث تغير في تركيبه الجزئي. وبعبارة أخرى فإن السؤال: «أين ذهب الذهن أو الشخصية؟» يغدو مشابها للسؤال: «أين يذهب شكل النبات أو تركيبه عندما يذوي ويتحلل؟» ذلك لأن «شكل» النبات و«تركيب» الذهن إنما هما تنظيم، وتنظيم فحسب. وهكذا يعود علم النفس الحديث إلى رأي أرسطو في هذا الصدد: فالذهن هو صورة الكائن العضوي (أو وظيفته، كما نفضل نحن أن نسميه)، وهو بوجه خاص وظيفة المخ والجهاز العصبي المركزي. فإذا تعرضت هذه الوظيفة، نتيجة للتحلل أو لحادث أو صدمة، إلى خلل مدمر، أو توقفت تماما، كانت هذه نهاية «الذهن» أو «الشخصية».
التعارض الأساسي بين الرأيين : من الواضح أن رأي المذهب الطبيعي، بما ينطوي عليه من تأكيد لفناء الجسم والذهن في وقت واحد، يبنى على مصادرة مضادة للمثالية، هي أن النظام الفيزيائي له الأولوية. والأهم من ذلك بالنسبة إلى المشكلة التي نحن بصددها، هو أن فيلسوف المذهب الطبيعي يرى الذهن معتمدا تماما على التركيب الفيزيائي (والتركيب العصيب على الأخص) للجسم. وبعبارة أخرى، فليس الجسم مجرد مقر «لنفس» مستقلة، أو أداة لها، وإنما الأمر على عكس ذلك: فالذهن لا يعتمد على الكائن العضوي الفيزيائي في وجوده فحسب، بل إنه هو ذاته لا يعدو أن يكون أداء هذا الكائن العضوي لوظائفه، ولا سيما حين يكون هذا الأداء مصحوبا بالوعي. أما المثالية فقد رأينا أنها تؤمن بأن للذهن مكانة وقيمة وأهمية أعظم بكثير مما يمكن أن يكون للجسم. كما رأينا أن المثالي يرى في الجسم خادما أو أداة للذهن الذي يسكنه مؤقتا. وهكذا يتضح التعارض الأساسي بين وجهتي النظر؛ ذلك لأن كلا منهما؛ إذ تبدأ بمصادراتها الخاصة، لا يمكنها إلا أن تصل إلى نتائج يقينية. فإذا كانت للذهن الأولوية في نظام العالم، وكان الوعي والطابع الفردي والشخصية هي أهم عناصر هذا النظام، فمن المنطقي أن نقول إن الذهن يمكن، بل يجب أن يبقى بعد الموت. أما إذا كانت الأولوية للعالم الفيزيائي أو المادي، وكان الذهن تطورا للمادة معتمدا عليها في وجوده كل الاعتماد، فمن المنطقي، بنفس المقدار، أن نقول عندئذ أن وعينا الفردي لا يمكن أن يظل باقيا بعد موت الكائن العضوي الفيزيائي. (6) أسس الإيمان
بماذا نستطيع أن نؤمن؟
من الواضح، فيما يتعلق بالله، والخلود، وغير ذلك من الأسئلة القصوى التي تحير الإنسان، أن موقفنا في هذه الحالة هو نفس الموقف الذي يتكرر دائما كلما كنا بصدد الإيمان؛ إذ إن ما يمكننا أن نؤمن به، سواء أكان متعلقا بالله أم بالطبيعة النهائية لأي شيء في التجربة البشرية، لا بد أن يتوقف على نوع الكون الذي نؤمن به. فإذا قبلنا الكون كما تصوره الميتافيزيقا المثالية، فعندئذ نستطيع أن نؤمن بأمور عديدة يستحيل علينا بالضرورة أن نؤمن بها لو كنا نرفض هذه النظرة إلى العالم. فقبول المذهب المثالي يؤثر حتما في منظورنا؛ إذ إننا حين ننظر إلى الكون بأعين المثالي، نرى لكل شيء دلالة وقيمة أخلاقية، ونرى «الغاية» كامنة في كل شيء، و«العقل» مسيطرا على كل شيء وكأنه يشرف على إخراج هذا المنظر الهائل. أما بالنسبة إلى فيلسوف المذهب الطبيعي، فإن الأمور تبدو مختلفة كل الاختلاف: فليس ثمة «معنى» أو «غاية» كامنة، وكل ما تكتسبه الأشياء والحوادث من معنى تضيفه عليها ردود أفعالنا تجاهها، ومواقفنا منها.
لم لا نؤمن؟
عند هذه النقطة من أية مناقشة بشأن الإيمان يثار عادة سؤال آخر. لما كانت النظرة المثالية تجعل العالم يبدو مكانا للعيش أحب إلى نفوسنا، وتضفي على المصير الإنساني مغزى كونيا، فلم لا يأخذ كل إنسان (حتى صاحب المذهب الطبيعي ذاته) بهذا الرأي؟ لسنا بحاجة إلى القول بأن المثالي أو رجل الدين هو الذي يثير هذا السؤال عادة، ولكن هذا لا يستطيع بالضرورة بطلان التساؤل ذاته. فإذا سلمنا بأن موجه السؤال لا يقتصر على أن يسألنا بسذاجة «لم لا يؤمن كل شخص كما أفعل» فإن التساؤل يكون أمرا طبيعيا؛ ففيه يعترف بأن المثالية أقدر من المذهب الطبيعي على مواجهة مطالب الرأس والقلب معا. ذلك لأن المثالي لديه من الطمأنينة والراحة ما لا يمكن أن يعرفه من يؤمن بالمذهب الطبيعي. وهكذا يكاد يبدو أن من العناد والمكابرة أن يرفض أحد هذه الطمأنينة التي تبعث السكينة في النفس.
وكما قال الكثيرون، فإن الإيمان لا يكلف شيئا، فلم لا نؤمن؟
وهنا أيضا نجد أن وليم جيمس قد يكون هو الذي عبر عن هذا الاتجاه أوضح وأشهر تعبير. ذلك لأن مقاله المشهور «إرادة الاعتقاد» إنما هو عرض برجماتي طويل موسع لهذا السؤال ذاته: إذا كان الأكثر إرضاء أن نؤمن بالله والخلود، فلم لا نؤمن؟ وقد وضع الفيلسوف الفرنسي «بليز باسكال
Blaise Pascal » الذي عاش في القرن السابع عشر، ما أصبح يعرف باسم «رهان باسكال»، ويعترف جيمس بأنه إنما يقتصر على التوسع فيه. فلنبدأ بكلمات باسكال ذاتها:
نستطيع أن نقول: «إما أن يكون الله موجودا وإما ألا يكون». ولكن إلى أي جانب ننحاز؟ إن العقل لا يستطيع أن يعيننا. فهناك هوة لا قرار لها بين المخلوق والخالق. فعلى أيهما تراهن؟ إن الأمر أشبه بقطعة نقود قد تظهر فيها صورة أو كتابة. فليس ثمة سبب لتأكيد أحد الاحتمالين على حساب الآخر. ولن تستطيع أن تقدم حججا تؤيد هذا دون ذاك.
وقد يقال إننا إذا لم نكن نعرف هذا ولا ذاك، فإن المسلك الصحيح هو ألا نراهن على الإطلاق. غير أن المراهنة أمر لا مفر منه، فهي شيء لا يتوقف على إرادتك. إنها عملية أصبحت مندمجا فيها بالفعل. فماذا ستختار؟
فلننظر في الأمر: إنك لما كنت مضطرا إلى الاختيار، فإن عقلك لن يشعر بإهانة إذا اختار أحد الأمرين أو الآخر. فتلك نقطة واضحة. ولكن ماذا نقول عن سعادتك؟ لنقارن الكسب والخسارة في حالة المراهنة على أن الله موجود بالفعل. إنك إذا راهنت على أنه موجود، وكان موجودا فأنت الرابح. ولو راهنت على أنه موجود ولم يكن موجودا فلن تخسر شيئا. فإذا كسبت، ربحت كل شيء، وإذا خسرت لم تخسر شيئا. فلتراهن إذن بلا تردد على أنه موجود بالفعل.
2
ويتفق جيمس مع باسكال على أن العقل لا يستطيع الوصول إلى رأي قاطع في مسألة الله والخلود. ولكنه لا يكتفي بأن يستدل على وجود الله من حاجتنا إليه، كما فعل باسكال قبل أن يقترح «رهانه» بوصفه حجة إضافية لأولئك الذين كانت حاجتهم إلى الله أقل إلحاحا من حاجته هو. وبدلا من ذلك يقول جيمس بفكرة أخرى اشتهرت بفضل بسكال: «إن للقلب أسبابه التي لا يعرفها العقل».
ويدافع جيمس عن حق ما يسميه «بطبيعتنا الوجدانية» وعن مطالبها، التي تعادل تقريبا ما يسميه علم النفس المعاصر بحاجتنا العاطفية. غير أن جيمس لا يكتفي بالقول بأن للناس جميعا مطالب عاطفية فضلا عن العقلية. فهو يقول إن كل القرارات والأحكام الحيوية، حتى عندما تبدو عقلية إلى أبعد حد، وقائمة على أساس منطقي، هي في الواقع ضروب من الاختيار العاطفي الذي تقوم به «طبيعتنا الوجدانية». فلنضرب لذلك مثلا بذلك الاعتقاد المشهور لدى العالم أو الفيلسوف، وأعني به الاعتقاد بأن الحقيقة هي القيمة العليا، وبأن النتائج التي يصل إليها العقل أو الذكاء مفضلة دائما على ما تتجه إليه رغباتنا. ولكن جيمس يتساءل: «ماذا نقول عن تلك المواقف التي يكون لبعضها أهمية كبرى بالنسبة إلى السعادة البشرية، والتي لا يستطيع العقل فيها أن يكتشف أية حقيقة»؟ لنتأمل مشكلتنا الراهنة، وهي وجود الله والخلود. فلا العلم ولا المنطق بقادرين على أن يقدما إلينا إجابات قاطعة، وإذا لم يكن لدينا مفر من الاعتماد عليها فسوف نكون - وسنظل دائما - في ظلام.
فماذا نفعل إذن؟ إن الشكاك، أو اللاأدري، يقول: «توقف عن الحكم ولا تختر شيئا، ولا تثبت أو تنف»، بل إن ذوي الأذهان الأكثر صلابة قد يذهبون إلى حد تأكيد أن من الواجب ألا نؤمن بأي شيء يمكن أن نشك فيه. فهم قد يطلبون إلينا ألا نؤمن أبدا على أساس أدلة غير كافية، بل ويذهبون إلى أن من اللاأخلاقية أن نفعل ذلك. وقد اقتبس جيمس نصا من كليفورد
Clifford ، الذي كان في أيامه شكاكا معروفا، يقول فيه حول هذا الموضوع:
إن الإيمان يفقد قداسته إذا ما تعلق بعبارات لا دليل عليها ولم توضع موضع التساؤل، لمجرد رائحة المؤمن ولذته الشخصية ... فلو قبل الإيمان على أساس أدلة غير كافية، فإن اللذة تكون لذة مختلسة، حتى لو كان الإيمان صحيحا. وهي خاطئة لأنها مختلسة تتحدى واجبنا تجاه البشر. فهذا الواجب يقضي علينا بأن نحذر هذه الاعتقادات كما نحذر الوباء الذي قد يسيطر في وقت قريب على جسمنا ثم ينتشر منه إلى بقية المدينة. وإنه لمن الخطأ دائما، وفي كل مكان، ولكل شخص، أن يؤمن بأي شيء على أساس أدلة غير كافية.
3
غير أن جيمس يتساءل بذكاء: أليست وجهة النظر هذه عند شكاك كبير مثل كليفورد، موقفا وجدانيا إلى أبعد حد، مبنيا على اختيار عاطفي؟ إن ما يقوله الشخص الذي يتخذ هذا الموقف حقيقة هو أنه يفضل أن يخاطر بفقدان شيء طيب؛ إذ يرفض الإيمان بما قد يكون صحيحا، على أن يخاطر بالإيمان بشيء قد لا يكون صحيحا.
ويعتقد جيمس أن الشكاك اللاأدري يخاف من أن يخدعه الأمل إلى حد أنه يسرع إلى الطرف المقابل فيخدعه الخوف. وهذا في رأي جيمس أمر ممتنع: فإذا كان علينا أن نختار بين المخاطرتين، فإنه يتساءل: على أي أساس يختار المرء المخاطرة التي لا نكسب فيها شيئا، ونخسر كل شيء، بدلا من تلك التي لا نخسر منها شيئا وقد نجني كسبا كبيرا؟ وهذا يعود بنا مرة أخرى إلى رهان بسكال، أو بلغة جيمس المميزة:
إن كان ها هنا خداع وهناك خداع، فما الذي يثبت أن الخداع عن طريق الأمل أسوأ إلى هذا الحد من الخداع عن طريق الخوف؟ إنني واحد من الناس الذين لا يجدون دليلا على ذلك، وأنا أرفض ببساطة أن أساير الشكاك في اختياره في الحالة التي يكون فيها الأمر الذي أراهن من أجله هاما في نظري إلى الحد الذي يجعل لي الحق في اختيار نوع المخاطرة الذي أفضله.
4
وهكذا فإن الدائرة التي سرنا فيها تكتمل : فهناك مخاطرة كلما قمنا باختيار على أساس أدلة غير كافية. ولكنا قد نضطر في كثير من الأحيان، أثناء حياتنا، إلى خوض هذه المخاطر، ومن المؤكد أن اتخاذ قرار بشأن الله والخلود، هو أكبر أمثلة هذا الاختيار الذي لا مفر منه. وليس هناك آخر الأمر سوى مزاجنا أو حاجتنا الشخصية لكي نقرر أي نوع من الخداع - خداع الأمل أم خداع الخوف - نفضل أن نخاطر به. وهكذا ينتهى المثالي أو المؤمن بالألوهية إلى التساؤل: لم لا نؤمن، ما دام الإيمان لن يكلف شيئا، وقد يجلب لنا منافع جمة من حيث طمأنينة النفس في هذه الحياة والسعادة بعد موتنا؟
دفاع المذهب الطبيعي : يبدو رد فيلسوف المذهب الطبيعي عادة، في نظر المثالي، مماثلا لموقفه الأصلي في بعده عن الفهم. فهو يجيب بقوله: «إنني لا أقبل الإيمان لأني لا أستطيع. فأنت على خطأ تماما عندما تقول إن مثل هذه الطمأنينة لا تكلف شيئا فهي قد تكلفني أعز ما أملك، وهو نزاهتي العقلية». وينبغي أن يلاحظ على الفور أن هذا الرد لا يقصد به أبدا أن يكون تلميحا متعلقا بأمانة المثالي العقلية، وإنما هو مجرد تعبير عن أن صاحب المذهب الطبيعي ذاته لا يستطيع أن يأخذ بهذا الاعتقاد إلا بثمن باهظ كهذا.
وقد يقال إن النظرتين إلى العالم قد تكونان معا - كما اتفقنا من قبل - متساويتين فيما يتعلق بمنطقهما. فإن كان هذا صحيحا، فكيف يكون الأخذ بالمذهب المثالي محتاجا إلى صرامة ذهنية أقل بأي مقدار؟ ويفسر صاحب المذهب الطبيعي موقفه بقوله : «إنني لا أشير إلى منطق خصمي عندما أتحدث عن النزاهة العقلية، وإنما أشير فقط إلى المصادرات التي يشيد عليها بناؤها المنطقي. فهذه المسلمات الأساسية هي التي لا يمكنني أن أقبلها؛ إذ لا يوجد لها مبرر في تجربتي ولا فيما أعتقد أنه إجماع الشواهد التجريبية في عمومها. أما إذا كان المثالي يرغب في قبول هذه المسلمات، أو يتعين عليه قبولها لكي يجد في العالم بيئة مريحة للحياة البشرية، فهذا شأنه. ولعله قد مر بتجارب شخصية أدت به إلى الاعتقاد بأن الحقيقة النهائية روحية، أو تبرر اتخاذه من هذا الاعتقاد مصادرة كبرى في مذهبه. فإن استطاع أن يفعل ذلك، فهنيئا له ما يفعل، أما أنا شخصيا فلا أستطيع.»
من أين تأتي هذه الفوارق؟
من الواضح أننا إذا سرنا في هذه المناقشة أية خطوة أبعد من ذلك، فسيؤدي بنا ذلك حتما إلى خوض غمار دراسة مفصلة في سيكولوجية الإيمان أو الاعتقاد. ومع ذلك فليس في وسعنا أن نختم هذه المناقشة دون أن نقول كلمة أخيرة. فهذه النقطة بالذات ترتبط بمشكلة من أكثر المشكلات المحيرة في التجربة البشرية، وأعني بها: كيف يمر شخصان بنفس التجربة وتكون لهما استجابتان متعارضتان عليها؟ لقد سبق أن أثرنا هذا السؤال عند نهاية الفصل الرابع، وها نحن أولاء نعود إليه. والرد المعتاد لهذا السؤال هو: «إن ذلك يرجع إلى الاختلاف في التكوين الذي ترتكز عليه التجربة المشتركة عند كل منهما». ولكننا لاحظنا وجود اختلافات شديدة التباين في استجابات أشخاص من نفس العمر، ولهم نفس التكوين العام، كما هي الحال مثلا في أفراد أسرة واحدة متماسكة أو بين «أصدقاء العمر». وهذا يؤدي بنا إلى الشعور بأن تلك الإجابة كانت مبسطة أكثر مما ينبغي. فعندما يلاحظ المرء مسلك شقيقين تكون له صلة وثيقة بهما، مثلا، ويرى إلى أي حد يجد أحدهما مضامين مثالية في كل ما يحدث، على حين أن استجابة الآخر تسير بنفس الضرورة المحتومة في اتجاه المذهب الطبيعي - فعندئذ يجد المرء نفسه مضطرا إلى البحث عن أغوار أعمق للمشكلة .
والرد الوحيد الذي يمكن أن يواجه أي اختبار علمي هو القائل إن هذا التباين يرجع جزئيا إلى فارق فردي في الوراثة والاستعداد؛ أعني فوارق في تركيب الأعصاب وحساسية الحواس ووظائف الغدد، بل والهضم ذاته. وتسمى الحصيلة النفسية لوظائفنا العصبية والغددية الأساسية عادة باسم «المزاج»، وهو لفظ يشيع استخدامه في وصف الاستعداد أو الميل الأصلي للفرد من الناحية النفسية والجسمية. ومن ثم ففي إمكاننا أن نعيد صياغة سؤالنا السابق من جديد، بحيث يصبح: إلى أي مدى تؤدي الفوارق المزاجية إلى اختلافات في وجهة النظر الفلسفية؟ وهل المعركة بين أنصار المذهبين المثالي والطبيعي «مسألة غدد فقط» كما يقول التعبير الشائع؟
مشكلة المزاج : ربما كان ويليم جيمس هو المسئول عن المحاولة الحديثة للربط بين المزاج والميتافيزيقا. ولقد سبق لنا أن أشرنا إلى التقابل المشهور الذي وضعه بين المثالي «الرقيق الذهن» وبين الطبيعي الصارم الذهن.
5
وقد أعرب الشاعر الإنجليزي «كولردج» منذ حوالي قرن ونصف، عن فكرة مشابهة لهذه إلى حد بعيد حين وصف الناس جميعا بأنهم إما أفلاطونيون وإما أرسططاليون. وفي أيامنا هذه أدى ظهور النظرية الغددية في الشخصية، إلى اتساع نطاق الرأي القائل إن نظرة المرء إلى العالم ترتبط بوظائفه العضوية ارتباطا وثيقا. ولما كان المذهب الطبيعي يؤكد أولوية العالم الفيزيائي، فإنه لا يجد في هذه النظرية - كما هو متوقع؛ أي شيء غير منطقي (وهو قطعا لا يجد فيها أي شيء يصدمه). فهو لا يشعر بأي حرج عندما يقول شخص عنه أنه يؤمن بمذهبه، وبالمصادرات الأصلية التي بنى عليها المذهب بوجه خاص، نتيجة لاتزان معين في الغدد - أو على الأرجح، لعدم اتزان فيها، بل إن القائل بالمذهب الطبيعي يرى أن أفضل تفسير لتحيزنا الأصلي لمصادرات معينة هو وجود تفضيل مزاجي متأصل فينا. وقد يذهب به الأمر إلى حد القول بأن هذا هو التفسير الوحيد الممكن.
أما المثالي فأمر مختلف؛ ذلك لأن أية نظرية فيزيائية في الشخصية تثيره بما فيه الكفاية، أما تطبيق هذا الرأي على الفلسفة فهو في نظره أمر لا يحتمل. والواقع أن قليلا من النظريات هو الذي يستثير المثالي إلى النضال بقدر ما تستثيره هذه النظرية. ومن المعروف أن صاحب المذهب الطبيعي يتهم المثالي أحيانا بأنه ينظر إلى كل الآراء باستثناء آرائه هو، على أنها ليست باطلة فحسب، بل شريرة. وهذه مبالغة دون شك. ولكنها تقترب من الحقيقة في حالة النظرية الراهنة المتعلقة بالمصادر التي يستمد منها المزاج الفلسفي. ذلك لأنه لو أمكن إثبات هذه النظرية تجريبيا، لتعرض معها بناء الميتافيزيقا المثالية بأسره لخطر ماحق. فلو ثبت أن أشخاصا لديهم اتزان غددي معين يميلون إلى الانجذاب نحو قطب رئيسي معين من قطبي التفكير دون الآخر. فماذا يصبح مصير المصادرة الأساسية القائلة بأولوية «الذهن» أو «الفكر» في الكون؟ وإذا كان ما نفكر فيه يتحدد على أساس ما نأكله أو على أساس طريقة عمل الغدة النخامية، فمن الواضح عندئذ أن الأولوية «للمادة» أو العالم الفيزيائي. ومهما تكن المثالية منطقية أو عميقة المغزى أو ملهمة، فإن تحقيق نظرية المزاج هذه يترك الفلسفة المثالية معلقة في الهواء بلا دعامة دون أن يبرر وجودها شيء إلا نوع من الجاذبية الجمالية.
وهكذا نكون قد أتممنا دورة كاملة: فما نؤمن به عن الله والخلود يبدو متوقفا على ما يمكننا أن نؤمن به عن طبيعة العالم بوجه عام - وهذا بدوره يبدو متوقفا على ما يمكننا أن نؤمن به بشأن مصادر الإيمان ذاته أو العوامل المتحكمة فيه.
ولا بد أن يؤدي الدور الواضح في هذه النتيجة إلى القول بأنها ليست مرضية على الوجه الأكمل. ولكن من الصعب أن نصل إلى أي استنتاج آخر يمكن أن يكون ممكنا في إطار معرفتنا الراهنة. فنحن آخر الأمر، نؤمن بما نستطيع أن نؤمن به، غير أن هذا بدوره يتوقف على عوامل تبلغ من الكثرة ومن التباين من فرد إلى فرد حدا يجعل لكل ذهن إمكانات الإيمان خاصة به وحده.
الفصل الثامن عشر
النزعة الإنسانية والوجودية
توجد فلسفتان، من بين الفلسفات الشائعة في أيامنا هذه، تحتلان مركزا خاصا، وتقف كل منها على الحد الفاصل بين المذاهب الفلسفية بمعناها الفني وبين «فلسفة الحياة» الشعبية، وكل منهما وجدت من الكتاب و«المثقفين» اهتماما يفوق ما وجدته من الفلاسفة المحترفين. ولكل من الفلسفتين نظريات ميتافيزيقية مجردة، وذلك على الأقل بصورة ضمنية، ولكن كلا منهما لا تكاد تعرف إلا على أساس أحكامها الأخلاقية وآرائها العينية في الموقف الإنساني فحسب. وتبدو كلتا الفلسفتين حديثة إلى حد يلفت الأنظار بحق (رغم أن لكل منهما جذورها التي تمتد إلى قرن وربما أكثر من قرن فيما مضى). ذلك لأن كلا منهما تعبر عن أحوال واتجاهات لا يمكن أن تسمى إلا «معاصرة».
ويكاد يكون من المؤكد أن كل طالب قد سمع عن هاتين الفلسفتين. فإذا كانت أية مصطلحات فلسفية قد ترامت إلى سمعه قبل أن يبدأ دراسته المنظمة لهذا الميدان، فالأرجح أن «الإنسانية» و«الوجودية» من أول المصطلحات التي اكتسبها. ومن الجائز أن الشعبية التي نالتها هاتان المدرستان ترجع إلى إعجاب الكتاب، ولا سيما كتاب القصة والمسرح، بهما، أكثر مما ترجع إلى أية أهمية خاصة لهما في المجال العقلي. ولكن، بغض النظر عما إذا كان التاريخ سيحكم على هاتين الفلسفتين بأنهما عميقتان، أم سيكتفي بتأكيد أنهما فلسفتان روجتهما الدعاية الذكية فحسب، فإن تأثيرهما خلال الثلث الأوسط من القرن العشرين سيظل قويا إلى حد بعيد. ولن يكون من الممكن تحديد العلاقة بين الإنسانية والوجودية بدقة إلا بعد بحث كل منهما على حدة. وسوف نبدأ بأقدمهما، وهي النزعة الإنسانية.
النزعة الإنسانية في عصر النهضة : كان للفظ «النزعة الإنسانية
Humanism » تاريخ طويل، تغيرت خلاله معانيه كثيرا، شأنه شأن معظم الألفاظ التي تظل تستخدم طويلا. ولقد برزت بوجه خاص أهمية ثلاثة من هذه المعاني: أقدمها معنى أدبي ثقافي، نشأ في ظل حركة النقد الأدبي والدراسة الثقافية للأدب، التي ارتبطت بعصر النهضة الأوربية. وهنا كان معنى اللفظ هو الأفكار والكتابات التي ظهرت في القرن السادس عشر على الأخص، والتي كان موضوعها الأول هو الإنسان؛ أي اهتمامات الإنسان وأوجه نشاطه في هذا العالم، ولا سيما أوجه نشاطه العقلية والجمالية. ولقد كان الإنسان المثالي، في نظر هؤلاء الكتاب الأوائل، هو الفرد المكتمل التكوين، الذي تحققت كل قدرته إلى أقصى حد. أي إن فلسفة تحقيق الذات كانت هي السائدة حينئذ.
ولقد كان قدر كبير من طريقة الحياة والتفكير في عصر النهضة، كما هو معروف، رد فعل واعيا على المثل العليا الزاهدة في العصور الوسطى. فلم يعد إنسان عصر النهضة على استعداد للتضحية بقدر كبير من إنسانيته في سبيل ثواب العالم الآخر، وأصبح الرهبان والراهبات (الذين كان يفترض من قبل أنهم يقومون بتضحيات كبيرة في هذا الصدد)، موضوعا للسخرية والازدراء بين كثير من كتاب ذلك العصر ومفكريه. ولقد أدت عودة ظهور الاهتمام بكثير من مواد الحضارة الكلاسيكية، واكتشافها من جديد، إلى شعور رجال القرنين الخامس عشر والسادس عشر شعورا قويا بما يمكن أن تكون عليه الإنسانية في أحسن أحوالها. وكان العقل في عصر النهضة ينظر إلى الحياة اليونانية والرومانية على أنها النتاج المثالي لتطور النزعة الإنسانية، ويشعر باليأس من إمكان بلوغ هذه القمم مرة أخرى. غير أن إدراك رجال عصر النهضة لتعلق الإنسان الكلاسيكي الشديد بهذا العالم الحاضر، وعزوفه عن العالم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، شجعهم على محاولة السعي إلى تحقيق القدرات البشرية على نحو أكمل مما كان يحدث في العصور الوسطى.
فالمعنى الأول والأقدم للفظ «النزعة الإنسانية» هو ذلك الذي يعبر عن تلك المحاولة التي بذلت في ميدان الأدب والنقد الأدبي. كذلك فإن هذه الحركة التي ظهرت في عصر النهضة قد وضعت على الأساس الاشتقاقي للفظ؛ أعني التركيز الدائم على الإنسان، وحياته في هذه الدنيا، والإمكانات الرائعة لهذه الحياة. وينبغي أن يلاحظ أن هذه النزعة الإنسانية الأصلية لم تكن ترفض الدين بوصفه أحد العناصر المكونة للحياة الخيرة، وإنما هي قد نبذت على وجه التحديد، الرهبنة والتعصب وكل محاولات إعطاء القيم الدينية المكانة العليا، لا سيما إذا كانت المكانة العليا تعني التضحية بأي جزء من الماهية الأساسية للإنسان. (1) المعاني الحديثة «النزعة الإنسانية»
أما المعاني الرئيسية الأخرى «للنزعة الإنسانية» فلها أصل أحدث عهدا ، إذ إنها وضعت، إلى حد بعيد، خلال القرن الحالي. ويعد كل من هذه المعاني تأكيدا لجانب معين من المعنى الشامل للفظ. فهناك مثلا نوع من الفلسفة البرجماتية وضعه أكبر البرجماتيين الإنجليز، وهو ف. ك. س. شيلر أطلق عليه اسم «النزعة الإنسانية» على وجه التحديد. ويتلخص موقف شيلر الأساسي في تلك الجملة المشهورة التي اقتبسها من بروتاجوراس، المفكر المعاصر لسقراط وأفلاطون: «الإنسان مقياس الأشياء جميعا». ومع ذلك فلما كان اهتمام شيلر الرئيسي منصبا على مجال المنطق ونظرية المعرفة، لا على مجال الأخلاق، فقد كان من الطبيعي أن يؤكد المعايير البرجماتية والإنسانية «للحقيقة» و«الصواب»، أكثر مما يؤكد معايير «الخير». وكان يعتقد، بوجه عام، أن أي حديث عن الحقائق المطلقة أو العالية أو الأولية هو حديث عقيم. فنحن نعرف ما نعرف نتيجة لتجربتنا الإنسانية البحتة، نظرا إلى أن هذه التجربة تتغير من جيل إلى جيل، فلا بد أن نتوقع تغير معرفتنا وحقائقنا بدورها.
وعلى الرغم من أن شيلر قد وضع مذهبه في الأعوام الأولى من القرن العشرين، قبل أن تصل التجريبية المنطقية الحديثة إلى مرحلة نموها الحالية، فمن السهل أن ندرك وجود علاقات معينة بين هذه النزعة الإنسانية الإنجليزية وبين التفكير الوضعي الحديث الذي ناقشناه في الفصل الحادي عشر. مثال ذلك أن المدرستين تتفقان على أنه لا توجد وسيلة يستطيع بها الإنسان تجاوز تجربته من أجل اكتساب معرفة عن حقيقة مزعومة تعلو على التجربة. ومن هنا فإن أي حديث عن «حقائق أزلية» أو «مطلقة» لا يعدو أن يكون لغوا ... صحيح أن في استطاعتنا أن نحلم بهذه الماهيات غير القابلة للمعرفة، وقد نود لو كان في إمكاننا إثبات وجودها. ولكن لما كان من المستحيل إثبات هذا الوجود - لأن إثباته لا يكون إلا عن طريق التجربة، وليس ثمة وسيلة ممكنة للخروج عن التجربة من أجل الاهتداء إلى ما يوجد «خارج التجربة - فإن أية عبارة تزعم أنها تعبر عن حقيقة فوق التجريبية، أو غير بشرية، هي عبارة لا معنى لها. ذلك لأن الإنسان - كما لا يمل شيلر تذكيرنا - هو «مقياس الأشياء جميعا»: مقياس ما هو موجود، على أنه موجود، وما هو غير موجود على أنه غير موجود». فالتجربة الإنسانية هي وحدها التي تستطيع أن تنبئنا بما هو موجود وما هو غير موجود، ولا يمكن أن نستمد من أي مصدر غيرها معرفة بشأن حقيقة التجربة الفعلية أو طبيعتها. وهكذا فإن الوضعية الحديثة، وكذلك المذهب الذي يمكن تسميته «بالنزعة الإنسانية الإبستمولوجية»، تتخذ من المبدأ السابق أول حقيقة أساسية بسيطة لحياتنا الذهنية، وهما معا متفقان في الحملة على ذلك العدد الهائل من المدارس الفلسفية، واللاهوتية التي تنكر هذه الحقيقة البسيطة. (2) النزعة الإنسانية الدينية
هناك نوع آخر من النزعة الإنسانية أشهر بكثير من النوع السابق، كما أنه أثار حوله قطعا مزيدا من الجدل، هو ذلك الذي يعرف عادة باسم «النزعة الإنسانية الدينية». ومن سوء الحظ أن هذا اللفظ بدوره ينطوي على خلط غير قليل؛ إذ إن نفس الأشخاص الذين يسمون أنفسهم بالإنسانيين الدينيين ليسوا متفقين حول ما يعنيه هذا الاصطلاح. وكل ما يتفق عليه هؤلاء جميعا هو معارضتهم للمذاهب المسيحية ذات الاتجاه السلفي التقليدي الكلفيني الأشد تمسكا. فالإنسانيون يعارضون بوجه خاص الاهتمام الذي تبديه هذه الطوائف بالخطيئة الأولى، وانحطاط الإنسان وعجزه بدون المعونة الإلهية. ولكن الإنسانيين الدينيين، بعد تفنيدهم لهذه المذاهب المتطرفة التي تؤكد الكمال المطلق لله والنقص المطلق للإنسان، قلما يتفقون على مضمون العقيدة التي يدعون إليها.
وأخطر الصعوبات التي تواجه هؤلاء المفكرين تنشأ من تعريف لفظي «الدين» و«الله»، بل من مفهومي هذين اللفظين. فلقد حاول جميع هؤلاء الإنسانيين الدينيين تقريبا تخفيف العنصر الخارق للطبيعة في الدين، بل إن بعضهم حذف تماما كل ما هو خارق للطبيعة. وكان معنى ذلك بطبيعة الحال إعادة تعريف لفظ «الدين» إذ إن الدين، والقول بما هو خارق للطبيعة، لا ينفصلان بالنسبة إلى العالم الغربي. وفي بعض الحالات اقترن حذف هذا العنصر الخارق للطبيعة، أو الإقلال من أهميته، إلى استغناء مناظر عن فكرة الله، ولكنه أدى في حالات أخرى إلى إعادة تعريف هذا اللفظ. ومع ذلك فمن الواجب أن نعترف بأن إعادة التعريف هذه بلغت في كثير من الأحيان حدا جذريا أدى إلى الاستغناء عن فكرة الله بطريقة مستترة غير مباشرة، بدلا من أن يكون ذلك بطريقة صريحة مباشرة.
تعريف «الله» : يميل الإنسانيون الدينيون إلى تعريف الله من خلال المثل العليا الإنسانية والمبادئ الاجتماعية وحدها. وقد جمع «كورليس لامونت» وهو مؤلف أمريكي مشهور بكتاباته عن النزعة الإنسانية نماذج لتعريفات الألوهية ذات الاتجاه الاجتماعي هذه، وفي اعتقادي أن خير ما يمكنني عمله هو اقتباس بعض التعريفات من هذا المصدر.
1
مثال ذلك أن ديورانت دريك يقول: «إن الله هو الذات الشاملة في كل منا، وهو إرادتنا الخيرة ومثاليتنا والعقل الذي يجمعنا معا ويدفعنا إلى الأمام بقوة داخلية قاهرة نحو تلك الحياة المثلى التي نصبو إليها حين نكون في أحسن أحوالنا». ويصف جيسي ه. هولمز الله بأنه العنصر الداخلي الموحد، الذي يدفعنا نحو الوحدة في عالم من الإخاء. ويقول هنري نلسون ويمان، الذي اشتهر خاصة بمحاولاته تعريف الله على أسس إنسانية: «إن الله هو التفاعل المتبادل بين الأفراد، والجماعات، والعصور، وهو التفاعل الذي يولد أعظم قدر ممكن من الخير المتبادل ويساعد على تحقيقه.»
ولسنا بحاجة إلى القول إنه، مهما يكن سمو هذه المفاهيم الخاصة بالله، فإنها قطعا لا تكاد تشترك في شيء مع التعريفات التقليدية للألوهية. مثال ذلك أنه لا توجد صلة بينها وبين المفاهيم المختلفة لله، التي نوقشت في الفصل الذي عرضنا فيه من قبل مذهب الألوهية المفارقة، بل إن من العسير في الواقع أن نتصور كيف يتسنى للقائل بالنزعة الإنسانية، مهما يكن حسن نيتهما، أن يتجنبها الغموض والخلط إذا ما حاولا أن يتفاهما عقليا حول موضوع الألوهية في عمومه. وليس معنى ذلك أن أصحاب مذهب الألوهية المفارقة «على صواب» وأن الإنسانيين «على خطأ» في مفاهيمهم، بل إن قصدنا الوحيد هو أن نذكر الإنسانيين بأن عبء البينة اللغوية إنما يقع عليهم إذا ما اختاروا الاحتفاظ بلفظ ظل طوال قرون عديدة يحمل معنى عاما واحدا ، مع تأكيدهم ضرورة استخدام هذا اللفظ بحيث يؤدي معنى مختلفا. إن لكل متحدث أو كاتب الحق في تعريف ألفاظه كما يشاء، غير أن الإنسانيين الدينيين كثيرا ما يتهمون بأنهم يطلبون من قرائهم أو سامعيهم أكثر مما ينبغي عندما يستخدمون معنى تقليديا بمعنى غير تقليدي على الإطلاق، ثم يتوقعون من القارئ أن يقوم بالتعديل اللغوي المناسب في كل مرة يظهر فيها اللفظ.
تعريف «الدين» : ينطوي مفهوم «الدين» عند النزعة الإنسانية على كثير من المشكلات المماثلة، المتعلقة بالمعنى اللغوي. ذلك لأن بعض الإنسانيين حين أكدوا أن الدين مسألة اتجاه أو موقف، لا مسألة مضمون، قد أدرجوا ظواهر كالشيوعية، بل كالإلحاد ذاته، ضمن «الأديان». وقد أحسن «لامونت» التعبير عن هذه المسألة؛ إذ قال: «إن بعض هذه التعريفات المعادة تنسب ضمنا اسم الدين إلى أية دعوة منظمة تنظيما اجتماعيا، تنجح في كسب ولاء الناس وعواطفهم. وعلى هذا الأساس تصبح كرة القدم، ونقابات العمال، والأحزاب السياسية، والجيوش، بل وجمعيات الشعر أيضا - تصبح هذه ضروبا من النشاط الديني».
2
وبالاختصار، فإن الإنسانيين الدينيين قد سعوا إلى الاحتفاظ بمفهوم «الدين» لكي يدل على كل نشاط ينطوي على مبادئ رفيعة، وله اتجاه اجتماعي، بغض النظر عن وجود أي عنصر عال أو خارق للطبيعة فيه أو عدم وجوده. ولهذا التعديل ميزة واضحة، هي أنهم يستطيعون بفضله النظر إلى أوجه نشاطهم في ميدان النزعة الإنسانية ذاتها على أنها «دينية»، ويمكنهم أن يؤكدوا للعالم أن للإنسانيين، كما لمعظم الناس دينا. ولكن فيه عيبا واضحا هو أنه يولد الخلط والاضطراب، ما دامت النزعة العلوية - في شكل من أشكالها - كانت على الدوام أساسية للدين، في العالم الغربي على الأقل.
ولعل أشهر وثيقة صورت عن النزعة الإنسانية الأمريكية هي «البيان الإنساني
Humanist Manifesto » المشهور الذي وضع عام 1933م، ووقعه كثير من المثقفين والزعماء الدينيين ذوي الاتجاه المتحرر. وقد حاولت هذه الوثيقة الرائعة الصغيرة، من خلال ما ورد فيها من أقوال، أن تدرج أنواعا فرعية متعددة من النزعة الإنسانية تحت فئة عامة واحدة، ولذا فقد أدرجت فيها النزعة الإنسانية الدينية بطبيعة الحال. ولكن لما كانت مجموعة الموقعين قد اشتملت على عدد من اللاأدريين المعروفين، فلم يكن هناك مفر من اتخاذ موقف وسط. وكانت النتيجة تعريفا للدين لن تكون دهشة المتدينين إزاءه - على الأرجح - أقل من دهشة غير المتدينين في وقت نشره. فالتعريف يقول: «إن قوام الدين هو تلك الأفعال والغايات والتجارب ذات الدلالة الإنسانية».
والواقع، كما أشار نقاد النزعة الإنسانية الدينية، أن من الصعب أن نرى شيئا لا يدخل ضمن نطاق هذا التعريف، ما دامت لمعظم أوجه النشاط الإنسانية دلالة إنسانية. ومن المؤكد أن هذا التعريف يشمل الفن، والتعليم، والخدمة الاجتماعية، والسياسية، والنشاط النقابي، والتشريع، والعلم، وما شابهها. غير أن كل من يسعى إلى أن يكون تفاهمه العقلي مع الآخرين دقيقا، قد اكتشف أن أي تعريف يشتمل على كل شيء لا يكون له معنى. وعلى ذلك فإن معظم الناس لا يفهمون من التعريف، في هذه الحالة بعينها، إلا القليل.
وينبغي أن نعترف بأن النزعة الإنسانية الدينية قد أخذت على عاتقها مهمة تكاد تكون مستحيلة؛ ولذا ينبغي أن نتعاطف معها عندما يبدو أنها تواجه صعوبات. فهي تحاول الإتيان برأي في الحياة البشرية ومصير الإنسان يسير في اتجاه مضاد لمذهب الألوهية المفارقة المسيحي في كل نقطة تقريبا. ولكن لما كان ذهب الألوهية المسيحي هذا هو ذاته ما يعنيه معظم الناس في أوروبا وأمريكا «بالدين»؛ فإن من المستحيل على معظمنا أن نغير طريقة فهمنا للمعاني في كل مرة نستمع فيها إلى كلمة «الدين». على أن هذا هو بعينه ما تطلب إلينا النزعة الإنسانية الدينية القيام به. فهي تستخدم لفظ «الدين» و«الديني» بتوسع كبير، تماما كما تفعل مع لفظ «الله»، و«الإلهي». ومع ذلك فهي تتوقع منا أن نقوم بعملية تحويل ذهنية في كل مرة يظهر فيها اللفظ، وهو قطعا عمل أشق من أن يؤديه معظمنا بسهولة وهم يقرءون أو يسمعون.
وبالاختصار، فإن الإنساني الديني يحاول تشييد دين يظل الجزء الأكبر من مضمون الدين التقليدي خارج عنه. وهو يؤمن بالله - ويعني بذلك مجموع كل الأماني الاجتماعية للجنس البشري، والقوى الفكرية التي تعمل في التاريخ. وهو يؤمن بالخلود - بمعنى حفظ المجتمع للدور الذي أسهم به كل فرد في التقدم الإنساني. والأهم من ذلك كله أنه يؤمن بالإنسان، ولا سيما غايات الإنسان وإنجازاته المثالية. فكل ما يسهم في تحقيق سعادة البشر إلهي، وكل أوجه النشاط التي تعمل على بلوغ البشرية أعلى درجات التقدم والتطور هي أوجه نشاط دينية. هذه هي الدعوة المقدسة كما تراها النزعة الإنسانية الدينية المعاصرة. (3) النزعة الإنسانية الطبيعية
أما الفرع الرئيسي الأخير الذي سنعرض له بالبحث، من بين فروع النزعة الإنسانية، فلعل أفضل تسمية له هي النزعة الإنسانية الطبيعية وإن كان لفظ النزعة الإنسانية العلمية أوسع انتشارا. وكما توحي كلتا التسميتين، فإن لهذه الفلسفة صلة وثيقة بالمذهب الطبيعي الفلسفي، الذي درسناه دراسة مفصلة في الفصل الرابع، وبالنظرة العلمية إلى العالم في عمومها. بل إن من الدقة أن ننظر إلى هذا النوع من النزعة الإنسانية على أنه هو النظرية الأخلاقية، أو فلسفة القيم، التي تستخلص من المذهب الطبيعي بأكبر قدر من الإحكام المنطقي. ولو أطلقنا عليها اسم المذهب «الطبيعي التطبيقي»، لما كان في ذلك خروج على النزعة الإنسانية ولا على المذهب الطبيعي.
ولا جدال في أن أبرز تعاليم النزعة الإنسانية الطبيعية هو تفنيدها القاطع لكل أشكال العلو على الطبيعة. وترى هذه الفلسفة، بدلا من ذلك، أنه لا يوجد إلا نظام واحد للوجود - هو العالم الطبيعي - وأن الإنسان كائن طبيعي فحسب، ليس لسعادته ورخائه من مصدر سوى جهوده الخاصة التي لا يعتمد فيها على شيء. وكما سبق لنا أن رأينا في الفصل الخاص بالمذهب الطبيعي، فإن هذا المذهب ينظر إلى الكون على أنه سوى أو غير مكترث بالبشر، وكذلك بالحياة بجميع أشكالها. فالطبيعة لا تمدنا إلا بما يمكننا أن نسميه بالمواد الخام التي نستطيع أن نشيد على أساسها حياة مرضية لنا وربما لذريتنا. غير أن الطبيعة لا تضمن لنا شيئا. فنحن مستقلون، معتمدون على أنفسنا، في بيئة لا تضع خططا، ولا تعرف تفضيلات أخلاقية، ولا تعد أحدا بشيء.
كذلك يرفض الإنسان الطبيعي، بنفس اللهجة القاطعة، ما يسميه «بأوهام الخلود». فهو يعتقد أن «هذه الحياة هي كل شيء، وهي كافية». وهو لا ينكر أن معظم الناس يتوقون إلى البقاء؛ ومن هنا فلا بد أن يعد شعورهم هذا أمرا طبيعيا. ولكن هذا أمر لا علاقة له بإمكان البقاء؛ أي إننا لا نستطيع أن نستدل من وجود هذا الحنين لدى الناس، على أن من الضروري إرضاء شعورهم هذا. ومع ذلك فإن الاهتمام الحقيقي للقائل بهذا النوع النزعة الإنسانية، لا ينصب على النتائج السلبية لهذه الفكرة الرئيسية، وإنما على إثبات أن هذه الحياة ذاتها يمكن أن تكون مرضية إلى حد يكفي لجعل توقع الموت أمرا مقبولا من الوجهة النفسية. أما كونه ينجح في مهمته هذه أم لا، فذلك بالطبع قرار يتوقف على مقدار صلابة ذهن قارئه - أو سامعه - أو رقته. فالطبيعيون والماديون وأمثالهم لا يجدون صعوبة في قبول حجج صاحب النزعة الإنسانية في هذه المسألة، غير أن هناك بالطبع مدارس أخرى تخالفه بكل قوة. ويرى صاحب النزعة الإنسانية الطبيعية أن كل الجهود العديدة التي تبذل لإثبات وجود الله أو الخلود تنطوي على تفكير مبني على التمني، ويرى في هذا كله دليلا على افتقار كل من يبذل هذه الجهود إلى النضج الانفعالي والعقلي.
وهكذا نستطيع أن ندرك، حتى من هذا العرض الموجز للنزعة الإنسانية الطبيعية، أن مهمتها الرئيسية هي أن تستخلص صراحة بعض النتائج الضمنية الموجودة في النظرة العامة للمذهب الطبيعي إلى العالم، كما عرضناها من قبل. ومع ذلك فإن النزعة الإنسانية تعرض بتوسع بعض النتائج الضمنية الأقل وضوحا (وربما الأقل سلبية) للمذهب الطبيعي. ولما كانت هذه النتائج هي التي تضفي على النزعة الإنسانية طابعها المعاصر المميز، فلا بد لنا من بحثها بشيء من التفصيل. (4) المجتمع المثالي عند النزعة الإنسانية
يحسن بنا في هذا الموضع أن نستمع مرة أخرى إلى «لامونت» وهو يقدم عرضا موجزا للنزعة الإنسانية الطبيعية:
إن النزعة الإنسانية هي وجهة النظر القائلة بأن الإنسان لا يحيا إلا حياة واحدة، وأن عليه أن يستغلها بقدر استطاعته في العمل الخلاق وتحصيل السعادة، وأن السعادة البشرية تبرر نفسها بنفسها، ولا تحتاج إلى ضمان أو دعامة من مصادر عالية على الطبيعة، وأن العالي على الطبيعة، الذي يتصور عادة في شكل آلهة سماوية أو جنات مقيمة، ليس موجودا على أية حال، وأن البشر يستطيعون، باستخدام عقولهم الخاصة والتضافر معا بحرية، أن يشيدوا صرحا من السلام والجمال على هذه الأرض.
وصحيح أن أي شعب لم يقترب بعد من بناء المجتمع المثالي. ومع ذلك فإن النزعة الإنسانية تؤكد أن عقل الإنسان وجهوده الخاصة هما أفضل أمل لديه، بل هما أمله الوحيد، وأن رفض الإنسان الاعتراف بهذا الأمر من الأسباب الرئيسية لإخفاقه طوال التاريخ. والواقع أن الناس يشعرون، في عصور الاضطراب والانحلال، كعصرنا الحالي، بأن هناك ما يغريهم على الهرب إلى عالم تعويضي من صنع خيالهم، أو التماس العزاء فيما يعلو على الطبيعة. غير النزعة الإنسانية تقف بكل حزم ضد هذا الاتجاه، الذي يعبر عن الانهزامية ويشجع عليها في الوقت ذاته. ففلسفة النزعة الإنسانية تسعى على الدوام إلى تذكير الناس بأن مقرهم الوحيد هو هذه الحياة الدنيا. فلا جدوى من بحثنا في غيرها عن السعادة وتحقيق الذات؛ إذ ليس ثمة مكان غيرها نقصده. ولا بد لنا نحن البشر من أن نجد مصيرنا وأرضنا الموعودة في عالمنا هذا الذي نعيش فيه، وإلا فلن نجدهما على الإطلاق.
3
النزعة الإنسانية والضوابط الاجتماعية : وثانيا، فإن المجتمع الذي يحيا بالنزعة الإنسانية الطبيعية لا بد أن يضع لأخلاقه أسسا أخرى غير تلك الأسس التي ظلت الأخلاق ترتكز عليها طوال قرون عديدة - وأعني بها «إرادة الله» و«الأوامر الإلهية». ولا جدال في أن هذا سيكون تحولا جذريا؛ لأن هناك اعتقادا شائعا على أوسع نطاق، حتى بين اللاأدريين والملحدين، بأن الإيمان بالله ضروري لمعظم الناس حتى يظلوا أخلاقيين شاعرين بالمسئولية الاجتماعية. هذا الإيمان تعبر عنه الكلمة المشهورة التي اقتبسناها من قبل: «لو لم يكن الله موجودا لكان من الضروري اختراعه»، كما تعبر عنه الملاحظة التي أبداها إيرل «شافتسبري
Shaftesbury »، والتي اكتسبت شهرة بعد استعمال دزرائيلي وغيره لها: «لكل العقلاء من الناس نفس العقيدة (أي الشك أو الإلحاد)، غير أن العقلاء لا يصرحون بذلك أبدا». ونتائج هذه العبارات واضحة كل الوضوح: «فلا بأس من أن أعيش أنا وغيري من المثقفين بدون معتقدات دينية؛ لأننا أناس أذكياء لدينا إرادة خيرة، لا نحتاج إلى وعد بالجنة أو وعيد بالنار لكي نكون فضلاء. غير أن رجل الشارع أشبه بالدابة الساذجة التي ينبغي توجيهها لخيرها الخاص، عن طريق تقديم مثل هذه الإغراءات لها أو تهديدها بهذا العذاب. إننا نحن الصفوة نستطيع أن نعيش دون جزاءات خارقة للطبيعة، ولكن الفطنة تحتم علينا الاحتفاظ بها كيما نستطيع أن نضمن حسن سلوك أغلبية البشر.»
على أن المجتمع المبني على أساس النزعة الإنسانية يرفض هذا المعيار العقلي المزدوج، ويشجع بدلا من ذلك جميع أفراده على أن يعيشوا بمعيار واحد، هو معيار تقدم الإنسان في هذا العالم الراهن. فأخلاق النزعة الإنسانية تبني قيمها بأسرها على طبيعة الإنسان ومنطق العلاقات الإنسانية. والجزاءات الوحيدة فيها اجتماعية وقانونية؛ أي إن المقاطعة الاجتماعية والعقوبات القانونية هي الأدوات الوحيدة التي تستخدم لحفظ النظام. غير أن الإنسانيين يعتقدون أن من الممكن تحقيق التعاون الودي بين كل أفراد المجتمع بتعليمهم كيف أن مصلحتهم الشخصية ترتبط ارتباطا لا ينفصم بتطبيق هذه القوانين الاجتماعية والتشريعية.
ولقد تبين لي، في تجربتي الخاصة، أن الإنسانيين - حتى أكثرهم تفاؤلا وتحمسا - قلما يستهينون بمثل هذا البرنامج التعليمي. كذلك فإنهم يدركون ضخامة الصعوبات التي ينطوي عليها التحول من مذهبنا الأخلاقي الحالي، المبني على فكرة العلو على الطبيعة، إلى مذهب يتخلص من أية دعامات علوية. ولكن الإنساني يؤمن بأن هذا أمر يمكن تحقيقه، ويرى أن من الواجب تحقيقه إذا ما أراد الناس أن يحيوا بوصفهم أفرادا أحرارا ناضجين. فوضع أسس مثل هذه الثقافة الأخلاقية هدف رئيسي لكل «الثورات» الإنسانية المقترحة، وهذا أمر لا يصعب علينا أن ندرك سببه. فنظرا إلى أن مذهب الألوهية المفارقة المسيحي، في صوره المتعددة، كان أوضح الدعامات الاجتماعية في المجتمع الغربي، فمن المعترف به أن اقتراح نزع هذه الدعامة والاستعاضة عنها بمادة بناء جديدة بدون ملاط، هو تغيير جذري. ويعتقد صاحب النزعة الإنسانية أن لديه مثل هذه المادة الجديدة، التي يطلق عليها أسماء متباينة مثل «التعليم» و«الثقافة الأخلاقية» و«التكييف الاجتماعي» وما إلى ذلك. أما خصوم النزعة الإنسانية فأقل ما يقال عنهم هو أنهم يشكون في هذا الادعاء، وهم يفضلون أن يولوا ثقتهم للدعامة القديمة؛ أعني فكرة العلو على الطبيعة.
النزعة الإنسانية والعلم : والنتيجة الهامة الثالثة التي تنطوي عليها الفلسفة الإنسانية ضمنا أقرب إلى الطابع العقلي منها إلى الطابع الأخلاقي. فإذا كانت في هذا العالم هي كل ما نملك، فإن أهم معارفنا هي معرفة هذا العالم والطريقة التي يسير عليها. ولما كان أفضل المصادر الموثوق بها لهذه المعرفة هو البحث العلمي، فإنه يترتب على ذلك أن العلم يمدنا بأهم المعارف من وجهة النظر الإنسانية. ومن هنا لم يكن من المستغرب أن نجد أصحاب النزعة الإنسانية يبدون للعلم أعظم الاحترام، أو أن نجدهم يدعون إلى التوسع في المنهج العلمي بحيث يمتد إلى كل مجال ممكن من مجالات التجربة. ولعلوم الإنسان (أي العلوم الاجتماعية) أهمية خاصة بالنسبة إلى النزعة الإنسانية, ويؤكد أصحاب هذه النزعة أن من الواجب إنهاض هذه العلوم على أسرع نحو ممكن.
وينبغي أن نذكر أن المذهب الطبيعي في الفلسفة يبدي مثل هذا الاهتمام بالعلم. ولا شك أن هذا الاهتمام المشترك يكشف عن الصلة الوثيقة بين النزعة الإنسانية والمذهب الطبيعي. بل إن هذه النقطة بعينها هي التي تندمج فيها المدرستان: «فالمنهج العلمي» (وعبادة هذا المنهج) هو المدخل المفتوح على مصراعيه دائما، الذي يستطيع الطبيعيون والإنسانيون من خلاله أن يتبادلوا الاتصال، بل أن ينتقلوا بسهولة من مدرسة إلى أخرى. والواقع أن سهولة الانتقال بين الموقفين في هذا الاتجاه وذاك، دون اشتراط جوازات سفر، تسهم بدور كبير في دعم الفكرة الشائعة، القائلة إن النزعة الإنسانية ما هي إلا «مذهب طبيعي تطبيقي».
على أن أنصار المذهب الطبيعي يفضلون أن يحكم على نظرتهم العقلية إلى العالم بمعزل عن أية تطبيقات لها صلة بالنزعة الإنسانية، لا سيما وأن أصحاب النزعة الإنسانية لا يقومون جميعا بهذه التطبيقات بطريقة واحدة، بل إننا نجد عادة أن حرص الإنسانيين على ادعاء الارتباط بالمذهب الطبيعي أعظم من حرص الطبيعيين على الارتباط بالنزعة الإنسانية؛ ذلك لأن الطبيعيين يجدون الإنسانيين في بعض الأحيان سذجا أو حالمين. كما أن الطبيعيين قد أبدوا في بعض الأحيان سخطهم على ادعاءات الإنسانيين بأن المذهب الطبيعي ينطوي ضمنا على برنامج اجتماعي معين، أو يؤيد حزبا سياسيا معينا، أو يستتبع إصلاحات اقتصادية محددة. ولكن الذي حدث على وجه الموم هو أن المدرستين قد تفاهمتا إلى حد يدعو إلى الدهشة، رغم أن الاهتمامات الأساسية عند كل منهما متباينة. فاهتمام المذهب الطبيعي يظل نظريا أو عقليا، على حين أن النزعة الإنسانية تركز اهتمامها على الميدان الأخلاقي إلى حد بعيد؛ وبالتالي فهي أساسا عملية لا نظرية.
النزعة الإنسانية، والمذهب الطبيعي، والمثالية : هذه النتائج المتعددة التي تنطوي عليها النزعة الإنسانية توضح الفارق بين نظرة الذهن الصارم ونظرة الذهن الرقيق إلى العالم، بل إنها تؤكد هذا التضاد أكثر مما تؤكده الفوارق المناظرة بين المذهب الطبيعي والمثالية، وهي الفوارق التي أبدينا اهتماما بها في الفصول السابقة. فالمذهب الطبيعي، مثلا، يتوقف عند نظرة شاملة إلى العالم تتميز بأنها مضادة لفكرة العلو على الطبيعة، وهو لا ينتقل بعد ذلك إلى بحث السؤال الشائع بين الناس: «هل يمكننا أن نجعل هذه النظرة إلى العالم مرضية على أي نحو؟» ذلك لأنه يرى هذا السؤال عادة بعيد الصلة عن الموضوع. والأرجح أن يكون رد فعله على نحو يقرب من الآتي: «إن المسألة ليست هي كون وجهة نظري مرضية أم لا، وإنما كونها صحيحة أم لا. فإن كانت صحيحة، فإن على الناس أن يتعلموا كيف يعيشون بها، بغض النظر عن كونها ترضيهم أو تسرهم أو تتملق مشاعرهم.» أما المدارس المعارضة لها، كالمثالية، فهي تأخذ مسألة «الإرضاء» عادة مأخذ الجد الشديد، وحتى حين لا تذكر صراحة أن مطلب الإرضاء هو مطلب من حقنا أن نشترطه في أية نظرة إلى العالم، فإن انتقاداتها لموقف المذهب الطبيعي تدل على أن «الإرضاء» هدف أساسي لموقفهما الخاص. ذلك لأن اعتراضاتها على المادية، والمذهب الطبيعي، واللاأدرية، تتركز عادة فيما تعتقده من أن هذه الآراء «لا تحتمل» أو «منفرة»، أو «كئيبة»، أو «مقبضة»، لا في أي ضعف منطقي قد تكون هذه المذاهب منطوية عليه.
ومع ذلك فإن النزعة الإنسانية تختلف عن الموقف المثالي، وكذلك عن المذهب الطبيعي في عدم اكتراثه يكون وجهة نظره مرضية أم غير مرضية. ذلك لأن صاحب النزعة الإنسانية يرى أن الحياة في عالم غير مكترث ليست فقط كل ما يمكن أن يتاح للإنسان وهو ما تتفق فيه مع المذهب الطبيعي، بل ينتقل إلى القول إن هذه الحياة كافية. «فمن الممكن أن تكون الحياة جميلة - بلا أصل أو دعامة أو مصير ينتمي إلى عالم ما فوق الطبيعة». هذه هي الفكرة الأساسية في النزعة الإنسانية الطبيعية. غير أن صاحب هذه النزعة يدرك أن الحياة لا يمكن أن تكون جميلة إلا إذا حدثت أولا إعادة توجيه أساسية في اتجاهات مجتمعنا بأسره وفي الأسس الأخلاقية التي يرتكز عليها. ومن ثم فإن معظم جهوده العملية تستهدف تحقيق إعادة التوجيه هذه. (5) الوجودية
ينظر الكثيرون إلى الوجودية، وهي من أكثر الحركات إثارة للفكر في السنوات الأخيرة، على أنها مذهب تربطه أواصر قرابة متينة بالنزعة الإنسانية الطبيعية، وإن لم يكن الإنسانيون كلهم، ولا الوجوديون كلهم، سعداء بأواصر القرابة التي تنسب إليهما. ومن المؤكد أن بين الحركتين عناصر مشتركة كثيرة، ولا سيما في نظر نقادهما. ولعله لن يكون من المغالاة أن نصف الوجودية بأنها نزعة إنسانية متطرفة، أو نزعة إنسانية نسير فيها حتى أبعد نتائجها. ومع ذلك فإن تغيرات عميقة تطرأ على طابع الفلسفة في عملية السير هذه؛ ذلك لأن النزعة الإنسانية في أساسها متفائلة في نظرتها إلى الموقف الإنساني ومصير الإنسان، على حين أن الوجودية متشائمة أساسا، لا يسمح فيها إلا لشعاع خافت من الأمل أن يضيء وسط الظلام الذي يغلب عليها.
4
إن الوجودي يتساءل هذا السؤال الأساسي : «بما أن الله غير موجود، فما الذي يترتب على ذلك؟ وما هي نتائجه الكاملة؟» غير أن الأساس الذي ترتكز عليه الوجودية أكثر من مجرد إنكار وجود الله؛ إذ يضاف إلى ذلك إنكار لكل غاية ومنطق وخطة ومعنى في الكون. كما يرى الوجودي أن الحياة البشرية بلا غاية أو معنى. ولنقل - مستخدمين الأوصاف الأثيرة لدى الوجودي - إن الوجودي عارض، لا معقول وكل الكائنات البشرية لا ضرورة لها ولا حكمة من وجودها - ناهيك بأن من الممكن الاستغناء والاستعاضة عنها. غير أن هذه ألفاظ عامة غامضة إلى حد ما، فلنتأمل المعنى الذي ينسبه إليها الوجوديون، وكيف يؤدي إلى الربط بينه وبين النزعة الإنسانية.
عندما يقول صاحب النزعة الإنسانية الطبيعية : «الإنسان مقياس الأشياء جميعا»، فإنه يتحدث عن الإنسان بوصفه نوعا، لا عن الناس بوصفهم أفرادا. وعندما يقول: «إننا وجدنا في عالم غير مكترث»، فإنه يعني أيضا الجنس البشري في عمومه، وهو يضيف إلى ذلك على الفور الفكرة الإيجابية المتفائلة القائلة إن الناس من حيث هم أفراد ليسوا وحدهم، وإنما هم بطبيعتهم كائنات اجتماعية قادرة على المشاركة مع أقرانهم من البشر والتعاون معهم من أجل تحقيق مصالحهم الفردية ومصالح الجنس البشري بأكمله. فصاحب النزعة الإنسانية يرى في وحدة الجنس البشري المنعزلة قوة دينامية يمكن استغلالها في نشر مزيد من الوعي الاجتماعي وروح المساعدة المتبادلة بين الأفراد. وهو على هذا النحو يحول ما يرى معظم الناس أنه جانب مؤسف من جوانب الموقف الإنساني، أعني عزلة الإنسان في الكون، إلى مصدر ممكن للخير البشري.
غير أن الوجودي يرى أن عبارة «الإنسان مقياس الأشياء» (التي هي في نظره عبارة فيها طنطنة وتفاهة) لا تعني قطعا الجنس البشري بأكمله. فمن المبادئ الرئيسية في الوجودية ، القول إن الفرد وحده هو مقياس الأشياء جميعا، ولا سيما كل القيم. فالحياة عملية متصلة من اتخاذ القرارات، وكل قرار هو في آخر الأمر شخصي وفردي. وإن كلا منا ليختار حياته، إن جاز هذا التعبير، بتلك السلسلة التي لا تنقطع من القرارات التي يتخذها يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة، بل دقيقة بعد دقيقة. فكل يختار ما يود أن يركز انتباهه عليه، وأن ينفق دخله فيه، وأن يكرس له وقته وجهوده. وما حياة الإنسان إلا مشروع، وكل منا مهندس ذاته وبناؤها.
المسئولية تقع على عاتقنا وحدنا : تؤكد الوجودية أنه لا مهرب من المسئولية الفردية الكاملة. فقد نخدع أنفسنا بالاعتقاد أننا نستطيع تجنب هذه المسئولية التامة عن طريق محاولة إلقاء عبء الاختيار على أكتاف شخص آخر أو نظام آخر؛ إذ أننا قد ننضم إلى كنيسة متسلطة أو حركة سياسية تقتضي إطاعة تامة لأوامرها، ولكن هذا لا يعفينا من المسئولية. فنحن نختار الكنيسة أو الحزب، أو الزعيم أو البطل الذي نتبعه، وهو اختيار مستمر، يقوم في كل لحظة. ففي استطاعتنا دائما أن نترك الكنيسة أو الحزب، أو أن نختار إطاعة سلطة جديدة من نوع ما. وحتى لو كنا قد ولدنا مؤمنين بدين معين، أو في مجتمع معين يشترط الانصياع التام لأوامره، فسوف تظل مسألة البقاء على ولائنا لهذه العقيدة أو المجتمع اختيارا خاصا بنا، يتجدد في كل لحظة. فليس لنا مهرب من المسئولية: ذلك لأن الاختيار هو اختيارنا، وهو اختيارنا وحدنا.
وهكذا يتضح لنا على الفور أن الوجودية تناقض المذهب الحتمي في صيغته المألوفة. كذلك فإنها تناقض القدرية، والاعتقاد بالمصير المكتوب، وكل ما شابه ذلك من المذاهب التي تجعل القوى الخارجية التي ترغم الإنسان مسئولة عن كل ما يتخذه من قرارات. كذلك فإن الوجودية لا تتفق إلا إلى حد ضئيل جدا مع نظريات التحيل النفسي التي تصور الإنسان بأنه مجموعة من العقد والأفعال المنعكسة المكيفة (الشرطية
Conditioned Reflexes )، التي تتكون خلال سنوات نشأة الفرد، والتي تتحكم في دوافعه إلى حد بعيد. وبالاختصار، فإن الوجودية تؤمن بأن للإنسان حرية - حرية كاملة، بل «حرية مخيفة». وترى هذه المدرسة أن الإنسان لا يكون أصيلا؛ أي إنسانا حقيقيا - إلا إذا كان شاعرا بهذه المسئولية الكاملة، وبكل ما تنطوي عليه من نتائج.
الوجود يسبق الماهية : يتضمن لفظ «الوجودية» تأكيدا لهذه الفكرة ذاتها. فهو مستمد من تضاد ضمني مع النظرة الغربية إلى الطبيعة البشرية، وهي النظرة التي ظهرت في القرن الثامن عشر،
5 ⋆
ونقلها إلى العصر الحاضر عدد لا حصر له من الفلاسفة والشعراء واللاهوتيين والروائيين وكتاب المسرح. هذه النظرة التقليدية ترى أن هناك طبيعة بشرية أساسية، تتمثل في كل فرد، وتقرر الحد الأقصى لما يمكنه أن يحققه، والحد الأدنى لما يمكنه أن ينحدر إيله. وهكذا كان المفروض أن «ماهية» الإنسان شيء لا تستطيع البيئة أو الاختيار الفردي أن يغيره إلا قليلا. ولما كانت هذه الماهية تعد فطرية، فقد كانت موجودة بالقوة عند الميلاد، وتتحقق كاملة خلال حياته البالغة.
وتعتقد الوجودية أن الإنسان ليست له «ماهية» بهذا المعنى الذي تكون فيه شيئا يسبق الوجود الفردي. فليس ثمة شيء اسمه «الإنسان بوجه عام» أو «الجنس البشري» بالمعنى التجريدي. وبالاختصار، فليس ثمة إنسان أفلاطوني، وإنما هناك فقط «أناس»؛ أعني أفرادا يوجدون في زمن محدد وموقع معين من التاريخ، يأتون إلى العالم دون أن يحملوا أية «ماهية»، واقعية أو ممكنة. فأهم الأفكار الأساسية في الفلسفة الوجودية بأسرها هي ببساطة الفكرة الآتية: الوجود يسبق الماهية، لا العكس، كما هي الحال في النظرية التقليدية في الإنسان، كما عرضناها منذ قليل. فنحن نصنع ماهيتنا الخاصة - كل منا بطريقة فردية، ودون أن يشترك مع غيره في شيء - ونحن نصنعها في كل لحظة من لحظات حياتنا. وهذا يفسر العبارة الوجودية القائلة إننا لا نكسب «ماهية» حتى لحظة موتنا، عندما لا يكون علينا القيام بمزيد من الاختيار، ويكون «المشروع» قد تم. وعلى ذلك فإن عمرا كاملا من الوجود يسبق اكتساب «ماهية». وحتى عندما نكون قد أتممنا المشروع بالموت، واكتسبنا هذه الماهية، فإن هذه الماهية تظل مع ذلك فردية، بل متفردة لا نظير لها. فالطابع الذي حققناه، والشخصية التي نميناها، والتاريخ الفردي الذي صنعناه عن طريق المرور بأحداث معينة خلال حياتنا - كل هذه أمور شخصية وفردية تماما. ومن المحال أن تصبح جزءا من «ماهية الجنس البشري»، حتى بعد الموت.
ويعترف الوجودي بأن التحقيق الكامل لهذه الحرية، والشعور بمسئوليتنا الكاملة عن كل اختيار نقوم به، يبعث في نفوس معظم الناس ضيقا وقلقا شديدا. غير أن الشخص الأصيل لا يستطيع الهروب من هذا «القلق الأخلاقي» ولو كان هناك علاج نفسي تدعو إليه الوجودية، لكان هذا العلاج معينا للفرد على أن يعيش مع القلق، لا على البحث عن وسائل للقضاء عليه؛ ذلك لأن القلق يغدو أمرا لا مهرب منه، حالما ندرك نتائج اختيارنا إدراكا تاما. على أن هذا «القلق الأخلاقي» ليس هو الهم أو الانشغال المعتاد الذي يخشى فيه الأشخاص المخلصون أو ذوو الضمائر الحية من أن يرتكبوا «خطأ»، وإنما هو شيء أعمق وأبعث على الخوف بكثير؛ فهو الشعور الدائم بأن كل اختيار له دلالته وأهميته، وبأن ذلك لا يقتصر على الاختيار الأخلاقي المألوف فحسب. ذلك لأن كل اختيار يحمل في طياته مسئوليتنا الشخصية الكاملة، وبذلك يصبح كل اختيار جزءا من تاريخنا «وماهيتنا» الدائمة.
وتزيد الوجودية من حدة هذا التوتر، ومن «القلق الأخلاقي»، حين تصور الكون بأنه عرضي تماما، وذلك بالنسبة إلى تجاربنا المنعزلة. ويترتب على ذلك أن تكون الحياة لا معقولة بالضرورة، ويكون وجود كل فرد أمرا لا تحكمه أية ضرورة. وهذا يعود بنا مرة أخرى إلى ألفاظنا الضخمة الغامضة، ولكنا أصبحنا الآن أكثر استعدادا لتحليلها بطريقة مفهومة. وسوف نكرس بقية مناقشتنا في موضوع الوجودية لهذا التحليل.
الوجود عارض : يتعين على كل فرد، أو أسرة، أو منظمة، تنفق على أساس ميزانية محددة مقدما لعدة شهور، أن تخصص نسبة مئوية من دخلها المتوقع «لاعتمادات الطوارئ». وهذا اعترافات بأن أدق تخطيط لا يمكنه التنبؤ بحاجات المستقبل تنبؤا دقيقا. فلا بد أن يكون هناك احتياطي مخصص للمواقف غير المتوقعة أو غير المنتظرة أو الطارئة، التي تنشأ حتما في حياة الكائنات العضوية والمنظمات. هذه المواقف هي «الظروف العارضة».
وعندما يقول الوجودي إن «كل وجود عارض»، فإنه لا ينكر إمكان الاعتماد على قوانين الطبيعة، أو إمكان التنبؤ والتحكم العلمي. فقد تكون الطبيعة مماثلة في حتميتها وانتظامها للصورة التي صورها بها العلم في القرن التاسع عشر، أو قد يكون اللاتحدد كامنا في ماهيتها، كما يبدو أن الفيزياء المعاصرة تقول. غير أن هذا أمر لا شأن للوجودي به. وإنما المهم بالنسبة إلى الناس - وكذلك بالنسبة إلى كل الكائنات الحية - هو هذه الحقيقة الأساسية، وأعني أنه بالنسبة إلى تاريخ حياتهم الفردية، يكون العالم عارضا تماما. فمن الممكن أن يحدث أي شيء لأي شخص. وبغض النظر عن مدى ما قد تصير إليه القدرة التنبؤية في المستقبل، فإن هذا الموقف الأساسي لن يتغير. إن من الممكن أن يكون العلم دقيقا كل الدقة بالنسبة إلى الاحتمالات العامة (الطبيعية والاجتماعية معا). فهو يستطيع أن يقول مثلا إن الشخص الذي يقود سيارته بسرعة ثمانين ميلا في الساعة، والذي يرتكب حادثا، يكون احتمال موته في الحادث أكبر من مرات احتمال موته لو كان يقود سيارته بسرعة ثلاثين ميلا في الساعة، أو يستطيع أن يقول إن السائق الذي يتجاوز على الدوام السرعة المصرح بها بنسبة خمسين في المائة يكون احتمال ارتكابه حادثا أقوى من احتمال ارتكاب غير المسرعين له. ولكن العلم لا يستطيع أن ينبئنا بشيء عن احتمال ارتكاب السائق الفرد؛ أي الإنسان الفعلي، لا «السائق المسرع» بالمعنى العام - للحوادث، أو عن العمر المتوقع له. فالسائقون المتمهلون يرتكبون بدورهم حوادث، بل يلقون مصرعهم فيها. صحيح أن الاحتمال في الحالة الأخيرة أقل، غير أن الإمكان قائم. ومن الممكن أن يحدث أي شيء لأي شخص، بل إن الشخص الذي لا يقود سيارة يمكن أن يقتل في أول مرة يركب فيها سيارة.
فتاريخ الحياة في نظر الوجودي ليس إلا سلسلة من الأحداث العارضة؛ ذلك لأن الناس الذي نقابلهم، ونصادفهم، ونحبهم أو نحاربهم، كل هؤلاء نلتقي بهم مصادفة. وكثيرا ما يحاول المحبون إقناع أنفسهم بأن القدر هو الذي دبر التقاءهم - «فالزيجات تصنع في السماء» - غير أن هذا وهم. فالناس قد ينتقلون إلى بيت معين في حين معين ويجدون فيه السعادة أو الشقاء ، ولو كانت المصادفة قد جلبتهم إلى الشارع المجاور، وأحاطتهم بجيران آخرين وأشخاص آخرين يمكن أن يكونوا أصدقاء أو أحباء لهم، لكان من الجوائز أن تتحول سعادتهم أو شقاؤهم إلى عكسها.
وتمضي الوجودية في هذه الفكرة حتى نهايتها المريرة؛ ففي منظر في إحدى روايات سارتر، يجلس البطل في حديقة، وفجأة يدرك الطابع العرضي الكامل للموقف: أعني وجوده في الحديقة في هذه اللحظة بعينها، وشكل جذر الشجرة البارز من حفرة في الأرض بالقرب منه، بل كونه حيا في هذا العصر بالذات. فقد كان من الممكن بنفس السهولة أن تكون الأحداث قد وضعته في مكان آخر في تلك اللحظة، وأن يكون للجذر شكل آخر أو يكون قد نما بحيث لا يظهر في الأرض عند حفرها. أما كون البطل حيا في هذه اللحظة، بدلا من أن يكون حيا في قرن ماض أو مقبل، فهو أكثر الحوادث عرضية، بل إن كونه قد ولد - وكون هذا الحيوان المنوي الخاص قد أخصب هذه البويضة المعينة - إنما هو حادث وقع بالمصادفة المطلقة. ولماذا ولد في بلد معين، مع أن أبويه كان من الممكن أن يعيشا في أي مكان آخر؟ ولماذا نجا من كل أخطار الحياة لكي يصل إلى سن النضج، ونجا من كل أخطار الحرب التي مات فيها عدد كبير من معاصريه؟
إن في استطاعة أشخاص كثيرين أن يقنعوا أنفسهم بأن كل هذا الطابع العرضي في تاريخ حياة الفرد ليس إلا أمرا ظاهريا فحسب؛ فهم يعتقدون أن هناك غاية أو منطقا أو تدبيرا خفيا يحول بين الأشياء وبين أن تصبح «مجرد حوادث عارضة». غير أن الوجودية ترفض تماما كل هذه «الأوهام»، وتستخدم أقسى النعوت في وصف أولئك الذين يؤمنون بهذه «القصص الخرافية» أو ينادون بها. وأقصى ما يمكننا أن نقوله (أو يقوله ملاحظ خارجي) هو أن هذا الشيء أو ذاك حدث لنا لأننا قررنا أن نفعل هذا أو ذاك. ولكن ما الذي جعلنا نقرر أن نفعل هذا أو ذاك، في الوقت الذي كان هناك فيه إمكان متساو لتقريرنا أن نفعل شيئا آخر كان من الممكن ألا يترتب عليه هذا الحادث أو ذاك؟ إن صاحب مذهب الألوهية المفارقة قد يقول إن تلك هي «المشيئة الإلهية»، وقد يقول القدري «إنه كان مكتوبا» أو «كان في اللوح»، أو «في النجوم». بل إن صاحب المذهب الحتمي، رغم كل معارضته لمذهب الألوهية في أمور شتى، يستطيع أن يقول إن الحادث كان جزءا من سلسلة غير منقطعة (أو غير قابلة للانقطاع) من علاقة العلة والمعلول التي تتسلسل في الزمان تسلسلا راجعا لا نهائيا. غير أن الوجودي يرفض كل هذه بوصفها تفسيرات مزيفة. فهو، وإن لم يكن يؤله «المصادفة» أو «الاتفاق»، يرى أنها هي الصفة الأساسية المميزة لكل وجود.
الحياة لا معقولة : لعل العبارة الوجودية القائلة إن «الحياة لا معقولة» (أو من قبيل العبث
Absurd ) هي المبدأ الوجودي العام الذي يقابل بالنفور من أكبر عدد من الناس. ومع ذلك فإننا إذا قبلنا الفكرة السابقة القائلة إن كل وجود عارض، فإن من الصعب أن ندرك كيف يمكننا تجنب الاعتراف بلامعقولية الحياة. ولكن ينبغي أن نذكر مع ذلك أن المعنى الدقيق للفظ «العبث أو اللامعقول
Absurdity » هو «غير متسق مع الحقيقة»، أو «لامنطقي»، أو «ممتنع». فصفة اللامعقولية في الأصل حكم منطقي، وليست لفظا مطاطا يدل على ما هو «أحمق»، أو «متوحش»، أو «مكروه اجتماعيا»، أو «معوج أخلاقيا»، وإن كان اللفظ في استخدامه الدارج ينطوي في كثير من الأحيان على بعض هذه المعاني الأخيرة أو كلها، أو يعني «ما لا أحبه أو أوافق عليه» فحسب. أما الوجودي فيستخدم هذا اللفظ أساسا فيم معناه المنطقي الأصلي. فإذا سلمنا بأن الكون عارض تماما بمعنى أن أي شيء يمكن أن يحدث فيه للشخص، فعندئذ يكون من العبث أو اللامعقول (أي من التناقض أو اللامنطقي) أن نستمر في الاعتقاد والسلوك كما لو كانت للحياة أية غاية أو خطة أو نظام عام. ففي عالم تظل فيه الحوادث، بقدر ما تؤثر في حياتنا الفردية، عشوائية لا يمكن التنبؤ بها، نعيش بالضرورة دائما على حافة هاوية من اللايقين. ومن ثم فليس هناك شعور بالأمان إذا اعتمدنا على الطبيعة، أو الكون، لكي ترتب الحوادث في نظام يزيد من سعادتنا أو يشكل نمطا منطقيا.
وهنا أيضا نجد أن التقابل بين الوجودية وبين مذهب الألوهية المفارقة. يلقي ضوءا على الموضوع. ذلك لأن الألوهيين (ومعظم المثاليين) يرون أن هناك غاية أو خطة شاملة، تضم حياتنا الفردية والحوادث التي تؤثر فيها. وهذه المدارس نادرا ما تدعي أن تلك الخطة معروفة لنا، ولا سيما في تفاصيلها اليومية، ولكنها تؤكد أن هناك بالفعل خطة. وهناك حجج متعددة تساق لإثبات وجود مثل هذا التدبير الكوني، غير أن أهم هذه الحجج وأهمها هي أنه لا بد أن تكون هناك خطة، وإلا لكان الكون بلا معنى ولكانت حياة الفرد عبئا. ويرد الوجودي على ذلك بقوله: «يسرني أننا متفقان، فما لم تكن هناك خطة وغاية، لكان الكون بلا معنى ولكانت حياتنا عبثا. ولكن نظرا إلى عدم وجود أدلة تثبت أن هذه الخطة «الضرورية» موجودة، فلا بد لي من أن أستنتج أن الحياة عبث. وكل من يصل إلى النتيجة المخالفة إنما يسلك على أساس إيمان أعمى لا دافع له سوى التفكير المبني على التمني.»
مخرج الوجودية: الالتزام : أشرنا من قبل إلى أن الوجودية ليست تشاؤمية أو انهزامية تماما، وسوف نختم كلامنا عنها بعرض موجز لطريق الخلاص كما تتصوره هذه المدرسة. فالوجودية أولا لا تهاجم إلا المذهب الذي يفترض في الكون والحياة البشرية تدبيرا كليا أو شاملا أو موضوعيا. وهي لا تنكر بحال إمكان وضع الأفراد، رجالا ونساء، لأهداف فردية واهتدائهم إلى غايات ذاتية في الحياة. والكلمة التي يدور حولها محور التفكير هنا هي كلمة «ذاتية». فمذهبا الألوهية المفارقة، والمثالية، يريان أن هناك خطة موضوعية، حتى لو لم يكن في استطاعتنا كشفها؛ أي إن التدبير موجود بنفس المعنى الذي يكون فيه العالم الفيزياء موجودا. أما الوجودية فترى أن القيم كلها ليست شخصية وفردية خالصة فحسب (كما رأينا من قبل) بل إن كل الخطط والغايات تتصف بدورها بهذه الصفة. على ذلك فلا يمكننا أن نجعل للحياة معنى إلا إذا أمكننا أن نجد، بأنفسنا وفي أنفسنا، معنى ورضا في أعمال أو أهداف معينة. وهذا يعني الالتزام بأمور معينة، وهذا الالتزام هو الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش.
إن الالتزام هو أي اهتمام أو مشروع نكرس له أنفسنا بكل ما لدينا. واللفظ الذي يستخدمه الوجوديون الفرنسيون للدلالة على الشخص الملتزم هو:
Un Home Engagée ، وهو لفظ تكون له دلالته إذا ترجم حرفيا. ففي هذه الترجمة الحرفية يكون معناه «الشخص الذي أعلن خطبته»؛ أي الذي قام بأكبر التزام، وهو التعهد بالزواج لامرأة. ويعتقد الوجوديون أن الحياة ينبغي أن تشتمل على التزامات كثيرة تكون مصحوبة بانفعال وحماسة لا تقل عما يقترن به هذا الالتزام عادة. ومع ذلك فإن هذه الالتزامات الأخرى، على خلاف الالتزام المثالي بالزواج، لا يتعين أن تكون ثابتة طويلة المدى. فمن الممكن أن تتغير، هي بالفعل تتغير خلال حياة معظم الناس. ذلك لأن الأمور التي نكرس لها أنفسنا، ونبدي بها أشد الاهتمام في موسم معين أو فترة معينة في حياتنا، تحل محلها غيرها، غير أن الثبات ليس العامل الرئيسي الذي يتحكم في أهميتها في حياتنا الشخصية، بل إن شدتها ونطاقها في حياتنا في الوقت الذي تكون فيه باقية، هي التي تؤدي إلى إضفاء معنى على حياتنا التي قد تكون - لولا ذلك - بلا معنى. ولكن، فلنقل مرة أخرى إن هذا الشعور بوجود معنى هو شعور ذاتي محض. فمن أفدح الأوهام أن نتصور أن الكون معني بالتزاماتنا وبما تجلبه لنا من الرضا. كما أن هناك وهما قد لا يقل عن ذلك فداحة، هو الاعتقاد بأن «المجتمع» أو «الناس» معنيون بهذه الأمور بدورهم. فالوجودية ترى أننا في هذه المسألة، كما في سائر المسائل الأخرى، يقف كل منا وحيدا. قد يكون هناك أفراد آخرون يشاطروننا نفس المشروع ويعملون لنفس الأهداف، ولكن إذا توقف نشاطنا (أو حتى توقفت حياتنا) لضم الباقون صفوفهم، واستمرت الحياة في طريقها. وبهذا المعنى يكون كل منا غير ضروري، ومن الممكن الاستغناء عنه. وكما تشير الشخصيات في كتابات سارتر في أحيان كثيرة، فإن الفرد عندما يموت، تظل قطارات «المترو» مزدحمة، والمطاعم مليئة، والرءوس تكاد تنفجر من فرط اهتمامها بالمشكلة التافهة. بل إن الحرب الواسعة النطاق، التي تقتل الملايين، تترك العالم ولما يتغير إلا قليلا: فسرعان ما يتكاثر السكان بحيث يعوضون النقص وزيادة، وتظل الحياة مستمرة في طريقها «لا إلى مكان»؛ أي بمعنى أنها لا تتجه إلى هدف محدد.
6
الموقف الإنساني : من الواضح أن الوجودي ليست لديه أية فكرة مغرورة عن الأهمية الكونية للجنس البشري، بل إنه ربما كانت لديه أدنى فكرة صاغها أي مذهب فلسفي عن أهمية الإنسان هذه. ولكن هناك أمرا له أهميته الكبرى في هذا الصدد، وهو أن هذا الحط من مركز الإنسان في الكون لا يقلل بحال من الأهمية الذاتية لقرارات كل فرد والتزاماته والمشاعر التي ترضيه. وفي وسعنا أن نلخص القضية الرئيسية للوجودية المعاصرة بشأن الموقف الإنساني بنفس العبارات التي استخدمت في تلخيص وجهة نظر واحد من مؤسسي الوجودية المسيحية، وهو باسكال: «ما أنا؟ أنا في نظر الكون، لا شيء، وفي نظر نفسي، كل شيء!» فما يصنعه الفرد بحياته، بعد أن يدرك هذه الحقيقة العظيمة الأهمية، الخاصة بوجوده الخاص، هو الأمر الحاسم. فإن كان وجوديا إلحاديا، فإنه لن يضيع وقته في محاولة إثبات أن الكون يهتم به فعلا، بل سيقوم بالتزاماته ويبدأ مشروعاته وهو يدرك كل الإدراك أن حوله عالما لا متناهيا في الزمان والمكان، غير مكترث بوجوده أو بسعادته. أي إنه، بالاختصار، سيسير وحيدا في طريقه.
إن القائل بمذهب الألوهية المفارقة، حين يتأمل موقف الإنسان في الكون الواسع، ينتهي إلى: «أننا وحدنا، لولا الله»، والمثالي يقول: «إننا وحدنا، لولا أننا أذهان متناهية تشارك في أفكار العقل اللامتناهي». ويقول صاحب النزعة الإنسانية: «إننا وحدنا، لولا صحبة الطبيعة ورفاقنا من الناس». أما الوجودي فيؤكد: «إننا وحدنا وكفى». وفيما يتعلق بمصدر القيم، يقول صاحب مذهب الألوهية المفارقة «إن «الخير» هو ما ينسجم مع إرادة الله». وترى المثالية أن «الخير» هو ما يتسق مع تفكير العقل المطلق. وتعتقد النزعة الإنسانية أن «الخير» يعني أي شيء يحقق السعادة البشرية. أما الوجودية فترى أن «الخير» هو كل ما يجده الفرد خيرا، أو يجعله خيرا، بفضل اهتمامه به أو ولائه له. وقد اقتبسنا من قبل نصا «لهوبز»، كتب في القرن السابع عشر حول هذا الموضوع، قال فيه: «إن كل ما يكون موضوعا لشهوة أي شخص أو رغبته. يسميه ذلك الشخص من جانبه خيرا.» ومع ذلك فإن النظرية الوجودية في القيمة تمضي أبعد حتى من هذا، فتذهب إلى أن ما يسميه الإنسان «خيرا»، وما هو خير، هما شيء واحد. فكل تقويم إنما هو أمر شخصي؛ لأنه نتيجة تاريخ فردي لا نظير له، وتعبير عن مشروع حياة فردية.
ومن الواضح أن الوجودية المعاصرة، من حيث هي نظرية في القيمة، ثورية مجددة. فعلى نفس النحو الذي تعمل فيه التجريبية المنطقية، باتجاهها المعادي للميتافيزيقا، على هدم الجزء الأكبر من الفلسفة التقليدية، نجد أن الوجودية تهدم معظم المذاهب الأخلاقية التقليدية. وبينما الأخلاق التقليدية كانت تنشد معايير شاملة للقيمة والسلوك، فإن الوجودية تنكر صراحة وجود أية معايير كهذه. وبينما الأخلاق التقليدية قد أيدت إلى حد بعيد. عن قصد أو دون قصد، معايير السلوك المتعارف عليها، والسلوك الاجتماعي المقبول فإن الوجودية قد تعمدت مهاجمة معظم هذه المعايير ذاتها. وعلى حين أن التقليديين كانوا في صف الملائكة، إن جاز هذا التعبير، وأن الإنسانيين كانوا في صف الإنسان في حالاته المثلى، فإن الوجودية كانت في صف الناس - بكل ما فيهم من نواحي ضعف وقوة فردية، ومن حكمة وغباء، وأفعال خيرة وأفعال شريرة. أما أن الوجودية، حين نبذت الفكرة المعتادة التي تقول بطبيعة بشرية مثلى، ومعايير مثلى للسلوك، قد حطت من قدر الإنسان أم أنها استحدثت أول نظام نزيه للقيم بالمعنى الصحيح، فتلك مسألة ينبغي أن نترك البت فيها لكل قارئ ولحكم التاريخ. (6) كلمة الختام
يشعر كاتب الفلسفة أو معلمها دائما بوطأة المسئولية عندما يصل بقرائه أو طلابه إلى النقطة التي يريدها ثم يتركهم فجأة في ليل الفلسفة مودعا إياهم بقوله: «حسنا، من الآن فصاعدا أصبحتم مستقلين. وداعا، وحظا سعيدا!» ومع ذلك يبدو أنه لا مفر من هذا الافتراق؛ إذ إن على كل إنسان، آخر الأمر، أن يقرر، بنفسه ولنفسه فقط، ما الذي يمكنه أن يؤمن به - بل ما الذي ينبغي أن يؤمن به إن شاء أن يشعر في حياته بأي نوع من الرضا. فليس ثمة بديل فلسفي لاتخاذ هذا القرار الذي هو أهم القرارات جميعا. قد نرجئ اتخاذ هذا القرار إلى حين، بل قد نسعى إلى تجنبه تماما عن طريق اتباع سلطة معينة، ولكننا سواء سلكنا هذا الطريق أم ذاك، فلن نستطيع، كما رأينا عند مناقشتنا لنظرية المعرفة، أن نتجنب المشكلة تجنبا دائما. حتى لو لم نعرب عن إيماننا بكل هذه الألفاظ، فلا بد أن نسلك كما لو كنا نقول بصحة أشياء معينة، ولا بد أن تنطوي أفعالنا على اعتقاد معين، سواء أكنا نصرح به أم لم نكن. ولو سعينا إلى التهرب من مسئولية تفكيرنا الميتافيزيقي باتباع سلطة معينة، لألقيت على عاتقنا مسئولية جديدة هي أن نقرر أي السلطات نتبع، وإلى أي مدى نتبعها. على أن شتى أنواع التهرب هذه لا جدوى منها، فتحديدنا للمعتقدات النهائية التي نأخذ بها ينطوي على نتائج فلسفية ضمنية واضحة: ذلك لأن كلا منا - سواء أدرك ذلك أم لم يدركه - يتخذ قراراته الخاصة بشأن طبيعة الحقيقة النهائية ونوع العالم الذي نؤمن بأننا نعيش فيه. ولذا فإن رأس الحكمة إنما هو أن نتخذ هذه القرارات بأعقل صورة ممكنة، حتى تكون نظرتنا الفردية إلى العالم أصح وأنجح وأبقى ما يمكن أن تكون. ذلك لأننا، كما قال أرسطو منذ وقت بعيد، وكما أكدنا نحن عندما بدأنا رحلتنا الفلسفية هذه معا، سواء أردنا أن نتفلسف أم لم نرد، فلا بد لنا من التفلسف. وإن مجرد انتمائنا إلى الجنس البشري ليلقي على أكتافنا هذا العبء، والمسألة الوحيدة هي مدى إنجاحنا أو إخفاقنا في تحمله.
قائمة المصطلحات
كانت المصادر الرئيسية التي استعنا بها عند إعداد هذه القائمة هي «قاموس الفلسفة وعلم النفس» لبولدوين:
Baldwin’s “Dictionary of Philosophy and Psychology” ، وقاموس الفلسفة لرونز
Runes “Dictionary of Philosopy” ، ومعجم لالاند الفلسفي
Lalande’s “Vocabularie do la
وليس المقصود من قائمة المصطلحات أن تكون شاملة. فالألفاظ المعرفة هي في الغالب تلك التي تظهر في متن الكتاب، ولكنا أضفنا عددا من المصطلحات الأخرى إكمالا للقائمة، وحتى يكون في ذلك ما يعين الطالب الذي يقف حائرا إزاء المصطلح الفني المستخدم في الكتب التي يكمل بها قراءاته.
Absolute
المطلق:
ما هو غير نسبي. ويستخدم هذا اللفظ في الفلسفة ليدل على ما هو كامل وتام ومستقل تماما، وما هو نهائي غير مشروط على الإطلاق. وهو يدل، في معناه الأكثر شيوعا، على ما هو بلا تحفظ، أو بلا قيد أو شرط («كالحقيقة المطلقة» مثلا). وقد يعني المطلق المبدأ أو التفسير النهائي، وأساس العالم أو العلة الأولى، أو الذات الشاملة التي يمر كل شيء بتجربتها، وتدرك الكون بوصفه موضوعها الكلي.
Actualism
الفعلية:
الرأي الذي يرتبط باسم هيوم، والقائل إن الذهن ليس كيانا موحدا مستقلا، وإنما هو مجرد تعاقب لتجارب أو حالات واعية. فليس ثمة رابطة روحية من الوحدة تجمع هذه التجارب أو الحالات معا وإنما هي ترتبط اتفاقا حسب قوانين التداعي، ولكن النتيجة ذات جوهرية. وهذا المذهب يقال في مقابل النظرة الجوهرية إلى الذهن، وهي أقدم منه وأوسع انتشارا بكثير.
Agnosticism
اللاأدرية:
المذهب القائل إنه ليس من الممكن بلوغ معرفة عن موضوع، هو الله عادة. ويشيع الخلط بينه وبين مذهب الشك
Skepticism (في نظرية المعرفة) والإلحاد
Atheism (في اللاهوت). وقد نحت «توماس هكسلي» هذا المصطلح ليدل على جهل متواضع وحالة من إرجاء الحكم فيما يتعلق بالمشكلات النهائية أو القصوى.
A Posteriori
البعدي أو اللاحقي:
المعرفة أو الاستدلال المستمد من التجربة أو المبني عليها. والاستدلال البعدي في المنطق مرادف للاستقراء
Induction . والكلمة تقال في مقابل القبلي أو الأولي
A
.
Appearance
المظهر:
معناه الدقيق هو أي شيء يعرض لذات مدركة أو يلاحظ بواسطتها. وهو يستخدم عادة في الفلسفة للدلالة على الوجه الحسي للأشياء، في مقابل ما عليه بالفعل. وهذا يجعل المظهر مرادفا للظاهرة
، التي تقابل الشيء في ذاته
Noumenon . وفي بعض المذاهب المثالية يعد المظهر درجة من درجات الحقيقة أو الواقع، أو جزءا أو وجها غير كامل له.
A Priori
القبلي أو الأولي:
المعرفة التي لها أسبقية منطقية على التجربة أو الاستدلال المبني على مثل هذه المعرفة. وبالتالي، المعرفة الفطرية (والتي يترتب على ذلك أن تكون شاملة) في مقابل تلك التي تستمد من الحواس. والاستدلال القبلي أو الأولي مرادف - بشيء من التجاوز - للاستنباط
Deduction . ويقال هذا المصطلح في مقابل البعدي أو اللاحقي
A
.
Archetype
النمط النموذجي:
النمط أو النموذج الأصلي، الذي تعد فئة معينة للأشياء نسخا منه ولهذا المصطلح أهمية رئيسية في المذهب الأفلاطوني حيث تكون الصور نماذج مثلى للموضوعات الأرضية.
Atheism
الإلحاد:
يستخدم للدلالة إما على إنكار وجود أي إله وإما على إنكار وجود إله مشخص (أو مفارق). والمعنى الأول أكثر شيوعا بكثير في التفكير الشعبي. وكثيرا ما يخلط بين هذا اللفظ وبين «اللاأدرية»، أو حتى «مذهب الشك».
Atomism
المذهب الذري:
هو الرأي القائل إن الواقع يتألف من جزئيات أو كيانات منفصلة لا تنقسم. وقد تكون هذه مادية أو روحية، على الرغم من أن الرأي الأول كان أكثر شيوعا من الوجهة التاريخية بكثير. عندما تكون هذه الجزئيات مادية، تعد عادة دقيقة إلى أبعد حد، لا متناهية في العدد.
Authoritarianism
مذهب السلطة:
الرأي القائل إن المصدر النهائي، والأفضل، للمعرفة، هو سلطة من نوع ما. وقد تكون هذه السلطة نظاما (كالكنيسة)، أو نصا (كالكتاب المقدس)، أو قانونا أخلاقيا أو مدنيا، أو شخصا.
Axiology
مبحث القيم:
الدراسة المنهجية للقيمة، أي النظرية المتعلقة بما هو خير أو مرغوب فيه. وفي الفلسفة، تفترض معظم المناقشات في الأخلاق وعلم الجمال نظرية معينة في القيم. وتوجد في هذا الصدد مسائل ذات أهمية خاصة، هي المتعلقة بمعايير القيمة وطبيعتها، على الرغم من أن المفكر الميتافيزيقي يبدي عادة اهتماما أكبر بتحديد مركز القيمة في الكون.
Behaviorism
المذهب السلوكي:
المذهب القائل إن علم النفس ينبغي أن يبنى على الملاحظة الموضوعية للسلوك، لا على الدراسة الذاتية «للحالات الشعورية» (كما هي الحال في علم النفس الاستبطاني). وتعرف هذه المدرسة لفظ «السلوك» تعريفا متسعا بحيث يشتمل على كل الأفعال التي يمكن ملاحظتها، والتي تتفاوت ما بين النشاط الجسمي العنيف واللغة الشديدة التجريد.
Being
الوجود:
كل ما هو موجود أو يمكن أن يوجد أو كل ما يتصف بالواقعية. وهو يعني في المنطق أعم الفئات، التي تشمل كل ما عداها.
Cartesian
الديكارتي:
نسبة إلى رينيه ديكارت (1596-1650م) وأتباعه. والمقصود بالمذهب الديكارتي عادة، ثنائيته الميتافيزيقية، بما فيها من تقسيم للعالم إلى مجالين هما: «الفكرة»، و«الامتداد» (أو المادة).
Categorical Imperative
الأمر المطلق:
المصطلح الأساسي في تفكير كانت الأخلاقي ويدل على القانون الأخلاقي الأعلى. وهو غير مشروط، لا يقبل استثناءات، ومطلق؛ لأنه لا يكون بأية حال نسبيا تبعا لغاية أخرى غيره.
Category
مقولة:
تعني، في المصطلح الفلسفي الخاص، إحدى الأحوال النهائية للوجود (أو فئاته أو شروطه). وتعني عند «كانت» إحدى الصور الأساسية للفهم. وهي تدل، بمعنى أعم، على فئة من أكبر الفئات الأساسية أو الشاملة التي يمكن أن ترد إليها الموضوعات أو التجارب. كما تدل على تصنيف أساسي داخل المعرفة.
Causality
العلية أو السببية:
علاقة العلة والمعلول (السبب والنتيجة) ومبدأ العلية (أو المبدأ العلي) هو المسلمة الأساسية القائلة إن أي شيء لا يمكن أن يحدث دون علة، أو أن أي حادث في الكون تحكمه علاقة العلة والمعلول.
Cognition
المعرفة:
فعل المعرفة أو الإدراك. والصفة
Cognitive (أي المعرفي) تستخدم في الفلسفة على نطاق واسع لعدم وجود صيغة الصفة في الكلمة الإنجليزية التي تعبر عن المعرفة (
Knowledge ) - فعندما يدخل موضوع في علاقة «معرفية» يصبح معروفا أو مدركا.
Coherence
الترابط (أو نظرية الحقيقة بوصفها ترابطا):
الرأي القائل إن حقيقة أية عبارة (أو قضية أو حكم) تتحدد بترابطه مع بقية أحكامنا. وهكذا فإن «الحقيقة» تكون نسقا تام التكامل، وينبغي أن تختبر العبارة على أساس اتساقها مع هذا النظام الشامل. والنظرية الرئيسية التي تنافسها هي نظرية التطابق
Correspondence .
Common Sense
الموقف الطبيعي:
هو مجموعة الحقائق والآراء التي يفترض أنها تنتمي إلى الناس جميعا نتيجة لتجربة إنسانية شاملة - فالنار تحرق، والماء يبلل، والأشياء التي لا ترتكز على غيرها تقع، وما إلى ذلك وهذه المعرفة تقال في مقابل المعرفة المنهجية للعلم، وتعاليم مدارس فكرية معينة.
Concept
مفهوم أو تصور:
فكرة عامة عن أية فئة من الموضوعات. واللفظ مرادف للمعنى الكلي
Universal ، ويرتبط ارتباطا وثيقا بعملية التعميم
Generalization . وهو يقال في مقابل المدرك الحسي
ويدل أي اسم مشترك على تصور أو مفهوم.
Cosmological Argument
الحجة الكسمولوجية:
هي محاولة إثبات وجود الله عن طريق مبدأ العلية. فكل العلل تفترض عللا سابقة، ولكن السلسلة ينبغي أن تتوقف عند حد. ولا بد أن يكون ذلك شيئا ليس له في ذاته علة؛ وبالتالي أزليا؛ أي الله. وهي بالاختصار الحجة القائلة إن الكون يحتاج إلى علة.
Cosmology
الكسمولوجيا:
فرع الفلسفة الذي يدرس أصل الكون في مجموعه وتركيبه. وهي تقابل الأنطولوجيا
Ontology
التي تهدف إلى كشف طبيعة الوجود بما هو كذلك. وكثيرا ما يخلط بينها وبين «البحث في منشأ الكون
Cosmogony »، وهو رأي (تصويري عادة) في خلق الكون أو العالم.
Cynicism
المذهب الكلبي:
موقف سلبي من كل القيم أو معظمها. وافتقار إلى الإيمان بوجود دوافع نزيهة، وشك تام في صحة المثل العليا الإنسانية أو في فعاليتها. يقال في مقابل «المثالية الأخلاقية
Ethical Idealism ».
Deduction
الاستنباط:
عملية الاستدلال التي تستخلص فيها النتائج من مقدمات نسلم بها. وتكون المقدمات عادة أعم من النتيجة؛ ولذا يشيع تعريف الاستنباط بأنه الاستدلال الذي ينتقل من الكل إلى الجزء، أو من العام إلى الخاص. ويتسم الاستدلال الرياضي وعمليات المنطق الصوري (أو الأرسططالي) بالطابع الاستنباطي. والاستنباط ضد الاستقراء
Induction .
Deism
مذهب الألوهية الطبيعية:
المذهب القائل إن الله خالق الكون والمشرع له، ولكنه ليس أكثر من ذلك. فهو ليس مصدر الخير، ولا يمكن أن يوصف بأنه موجود أخلاقي. وفضلا عن ذلك فليست له صلة مباشرة بالعالم، وإنما هو أساسا أشبه «بمالك الأرض المتغيب». ولذا فلا يمكن أن يكون هناك اتصال بين الإنسان والله، بحيث لا يكون هناك جدوى من الصلاة والعبادة. ويدل هذا اللفظ، تاريخيا، على مذهب كان شائعا في إنجلترا وفرنسا في القرن الثامن عشر، حين حاول أنصار هذا المذهب إقامة عقيدة على أساس طبيعي، بالاستغناء عن الوحي والتعاليم المنزلية.
Determinism
الحتمية:
الرأي القائل إن كل حادث في الكون يتوقف تماما على علته أو علله، ويحدد بها؛ أي بأن مبدأ العلية شامل. وهو بمعنى أكثر تحديدا، المذهب القائل إن السلوك الإنساني (وضمنه كل الأحكام والقرارات التي نتخذها) يتحدد عن طريق سوابق فيزيائية أو نفسانية هي علله. ويقال هذا المذهب في مقابل اللاحتمية
Indeterminism (أي الاعتقاد بالحرية الكاملة للإرادة) وينبغي تمييزه من القدرية
Fatalism (وهي الاعتقاد بأن كل الحوادث مقدرة أو مكتوبة مقدما؛ وبالتالي فهي محتومة بغض النظر عما نبذله من جهود للحيلولة دون وقوعها).
Dialectic
الديالكتيك (الجدل):
في الاستعمال المعاصر: الاختبار النقدي للمبادئ والمفاهيم من أجل تحديد معناها والفروض التي ترتكز عليها ونتائجها الضمنية. ومن سوء الحظ أن لهذا اللفظ عدة معان متخصصة لا تكاد تربطها صلة، ولا سيما كما يستخدمه أفلاطون وكانت وهيجل وماركس. «والديالكتيك» في الاستعمال الشائع هو الاستدلال وعرض الحجج أو المجادلة.
Dichotomy
القسمة الثنائية:
في المنطق، تقسيم أية فئة إلى فئتين فرعيتين متناقضتين (أي تستبعد كل منهما الأخرى)، كتقسيم الكائنات إلى حية وغير حية. وللفظ معنى فضفاض، يدل على أي تقسيم أساسي، يفهم منه ضمنا، في العادة، أن التفرقة تمثل وجها هاما من أوجه طبيعة الأشياء.
Double-Aspect Theory
نظرية الوجهين:
المذهب (الذي يرتبط تقليديا باسبينوزا) القائل إن المادي والذهني (أو بعبارة أخص، الجسم والذهن) ليسا إلا وجهين متقابلين «لجوهر» نهائي واحد. ويعرف هذا المذهب في علم النفس باسم «مذهب التوازي النفسي الفيزيائي
»، على حين أنه في الميتافيزيقا يعرف في كثير من الأحيان باسم «الواحدية المحايدة
Neutral Monism » في مقابل الواحدية الروحية عند المذهب الروحي
Spiritualism
والواحدية المادية في المذهب المادي
Materialism .
Dualism
الثنائية:
أية وجهة نظر أو مذهب يرجع ميدانه إلى مبدأين نهائيين مستقلين، لا يمكن رد أحدهما إلى الآخر. ومن الضروري التمييز بين الثنائية الميتافيزيقية أو الأنطولوجية، التي تقسم الواقع إلى «ذهن» و«مادة» (أو فكر وامتداد) وبين الثنائية الإبستمولوجية (المعرفية) التي يكون التقسيم الثنائي الأساسي فيها بين الموضوع الواقعي وبين الصورة الماثلة للذهن (أي المعطى الحسي أو «فكرة» الموضوع).
Egocentric Predicament
مأزق التمركز حول الذات:
تعبير استخدمه ر. ب. بيري
R. B. Perry
ليعبر به عن المأزق الإبستمولوجي للذهن، الذي يجد أن من المستحيل عليه الخروج عن دائرة إحساساته وأفكاره الخاصة لكي يعرف العالم الخارجي مباشرة. ويرى المثاليون الذاتيون، مثل باركلي، أن هذا الموقف يدل على طبيعة العالم الواقعي؛ ولذا يرون أن «وجود الشيء هو كونه مدركا
Esse est Percipi ». أما الواقعي فينظر إلى هذا الموقف على أنه مجرد مأزق عقلي يدعو إلى الأسف، وهو مأزق له خطورته من الوجهة الإبستمولوجية، ولكن ليست له نتائج أنطولوجية.
Elan Vital
الدفعة أو السورة الحيوية:
تعبير استخدامه برجسون ليدل على مصدر التطور في المجال البيولوجي. وهو يدل، بمعنى واسع، على الحافز البيولوجي الذي يتبدى في كل نشاط عضوي.
Emegence
الانبثاق:
تدل، بمعنى واسع، على المذهب القائل إن «الحياة» و«الذهن» قد صدرا معا عن المادة غير العضوية. وتدل نظرية التطور الانبثاقي
Emergent Evolution
أن الحياة تمثل صفة جديدة انبثقت من غير الحي نتيجة لوصول هذا الأخير إلى مستوى معين من التنظيم العضوي. ويقول مذهب «انبثاق الذهن
Emergent Mentalism » بنفس الرأي فيما يتعلق بالذهن: فعندما يبلغ المبدأ غير الذهني مستوى جديدا من التعقيد (أي حين يصبح له مخ وجهاز عصبي راقيان)، يظهر الذهن أو الوعي. ويعرف مذهب الانبثاق العام أيضا باسم «نظرية المستويات
Theory of Levels ».
Empiricism
التجريبية:
هي المذهب الإبستمولوجي القائل إن المصدر الصحيح الوحيد للمعرفة هو التجربة. وتؤكد التجريبية الرأي القائل بأن المعرفة لا يمكن أن تتجاوز التجربة؛ ولذا كانت تقابل المذهب القبلي أو الأولي
A Priorism
بكل صوره، ولا سيما ادعاءات المذهب العقلي
Rationalism
بأن الذهن يستطيع أن يكشف حقائق «فطرية» أو تعلو على التجربة بطريقة ما.
Entelechy
الكمال:
يعني عند أرسطو واقعية الشيء الفعلية، في مقابل وجوده بالقوة؛ أي بما فيه من ماهية كامنة، أو في بعض السياقات، بما له من وظيفة أساسية. فالنفس هي «كمال» الجسم، مثلما أن الإبصار «كمال» العين (أرسطو). ويستخدم بعض أنصار المذهب الحيوي، في العصر الحديث، هذا اللفظ للدلالة على ذلك الشيء الحيوي اللامادي (الذي يسمى أيضا بالعنصر شبه النفسي
) الذي يميز العمليات الحية من العمليات غير العضوية.
Epicureanism
الأبيقورية:
نوع معتدل ومتعمق من مذهب اللذة
Hedonism
كان يدعو إليه أبيقور (342-270ق.م.) وهو يدعو إلى السعي وراء لذات الصداقة والذهن، لا لذات الجسم؛ إذ إن الأخيرة أعنف، وبالتالي أصعب قيادا. والخير الأسمى عند الأبيقوري هو «طمأنينة النفس»
Ataraxia
لا اللذة الإيجابية. ومن هنا فإن من الممكن وصف هذا المذهب بأنه في أساسه «مذهب لذة سلبي» (
Negative Hedonism ).
Epiphenomenalism
مذهب الظاهرة الثانوية:
مذهب في العلاقة بين الذهن والجسم، يعد فيه الذهن نتاجا ثانويا أو نتيجة عارضة لعمليات المخ. وهذا ينطوي على القول بأن كل نشاط ذهني هو في أساسه تغير فيزيائي، وبأن الوعي ليس له تأثير سببي في العالم الفيزيائي.
Epistemology
نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا):
فرع من الفلسفة يدرس طبيعة المعرفة ومصادرها وإمكاناتها وحدودها.
Essence
الماهية:
الطبيعة الضرورية للشيء، في مقابل صفاته غير الضرورية أو أعراضه، منظورا إليها على نحو مستقل عن «وجوده» الفعلي. وهي في معناها الشائع تدل على ما يجعل الشيء على ما هو عليه.
Esthetics
علم الجمال:
معناه التقليدي، دراسة الجمال في الفن والطبيعة. والاستعمال الحديث ينطوي على أكثر من ذلك بكثير، كطبيعة التجربة الجمالية، وأنماط التعبير الفني، و«سيكولوجية الفن» (وتعني عملية الإبداع أو التذوق أو كليهما معا)، وما شابه ذلك من الموضوعات.
Ethics
علم الأخلاق:
فرع من الفلسفة يدرس طبيعة الخير والحق والإلزام والمثل الأعلى للسلوك البشري. وهو بهذا الوصف يعد أيضا فرعا «للأكسيولوجيا»؛ أي الدراسة النظرية للقيمة.
Eudaemonism
مذهب السعادة:
استخدم أرسطو لفظ
Eudaemonia (الذي يترجم عادة بالسعادة) للتعبير عن أسمى خير للإنسان، الذي كان في رأي أرسطو ينحصر في الممارسة الإيجابية للقدرات البشرية وفقا للعقل. وقد اتجه التفكير الأخلاقي بعد أرسطو إلى جعل «مذهب السعادة» مرادفا عمليا «لمذهب اللذة»، وإن كان في ذلك خروج واضح عن تعاليم أرسطو.
Evil
الشر (مشكلة الشر):
هي مشكلة كيفية تفسير وجود الشر في عالم يفترض أن ما خلقه أو ما يحكمه عقل أو ذهن أو غاية أو قوة أخرى (بالمعنى الشامل)، (وهذه المشكلة ثقيلة الوطأة على كل المذاهب المثالية). وتكون هذه المشكلة أكثر حدة في معظم أشكال مذهب الألوهية المفارقة؛ إذ إن الألوهية تعد عادة لا نهائية في القدرة والحكمة الخيرية - وكلها صفات تبدو متناقضة مع استمرار وجود الشر في العالم.
Existentialism
الوجودية:
فلسفة معاصرة (أخلاقية في المحل الأول) ترى أنه لا توجد ماهية أساسية للطبيعة البشرية يشترك فيها الناس جميعا، بل إن كل فرد يخلق ماهيته الخاصة أو شخصيته طوال حياته، عن طريق اختياره لاهتماماته وأفعاله. وهكذا فإن «الوجود» يسبق «الماهية»؛ إذ إن الأخيرة لا تكتمل إلا بعد انتهاء الحياة وسلسلة الاختيار اللامتناهية فيها بالموت.
Experience
التجربة:
من أهم وأغمض المصطلحات الفلسفية. وهي تعني، في استعمالها العام؛ أي شيء يمارس أو يمر بنا، ولا سيما إذا كانت العملية تتضمن وعيا. كذلك يدل هذا اللفظ على أعلى أو أشمل فئة، وهي الفئة التي ينبغي أن ينتمي إليها كل شيء قبل أن تتسنى الإشارة إليه على أي نحو. أما أي تعريف آخر أدق، فلا بد أن ينطوي على نظرة ميتافيزيقية أو موقف نظري، فالواقعي مثلا يعرف «التجربة» على أساس لا يقبله المثالي، والعكس بالعكس.
Fatalism
القدرية:
رأي يشيع في التفكير الشرقي أكثر مما يشيع في التفكير الغربي، يقول إن الحوادث محددة أو مكتوبة مقدما من حيث وقت حدوثها ومكانها وطريقة وقوعها. ويطبق هذا الرأي بوجه خاص على الأمور البشرية، ولا سيما وقت موت الإنسان.
Formalism
المذهب الشكلي:
اسم يستعمل للدلالة على مذهبين أخلاقيين مختلفين ولكن بينهما علاقة: (أ) الرأي القائل إن المبدأ الأساسي لتحديد الواجب شكلي بحت - ويتمثل هذا الرأي عند كانت، (ب) والرأي القائل إن صواب أي فعل أو خطأه يمكن أن يتحدد بحدس مباشر، دون نظر إلى النتائج، ودون مساعدة من العقل النظري - والأدق أن يطلق عليه اسم المذهب الحدسي
Intuitionism . وينطوي هذا المذهب على القول بوجود «ملكة» أو عضو يعطينا هذه البصيرة المباشرة، ويعرف عادة بأنه الضمير.
Free-Will
حرية الإرادة:
والأدق أن يسمى هذا المصطلح في الإنجليزية
Freedom of the Will - وهو المذهب القائل إن إرادة الإنسان أو قدرته على الاختيار مستقلة عن كل الظروف السابقة أيا كانت؛ أي إن إرادة الإنسان تتحرر من مبدأ العلية الذي يسري على بقية الكون. وهذا اللفظ مرادف للاحتمية
Indeterminism ، ويقابل كلا من الحتمية
Determinism
والقدرية
Fatalism
وتتركز حرية الإرادة حول صحة الموقف اللاحتمي.
God
الله:
في الفلسفة، الموجود الأعلى أو النهائي، وربما كان الفارق الأساسي بين الرأيين الميتافيزيقي واللاهوتي في الألوهية راجعا إلى أن الفلاسفة لا يمكنهم أن يسلموا بالوجود الإلهي على أساس سلطة أو وحي. وعلى حين أن كثيرا من المذاهب الميتافيزيقية تبلغ قمتها في الله (أو تشتمل عليه على الأقل) فإنها تبرهن على وجوده بالعقل، ولا تجعله عقيدة من عقائد الإيمان.
Good
الخير:
ما له قيمة أو جدارة من أي نوع. ويبنى مفهوم الخير، في مبحث القيم، على التمييز بين ما له قيمة في ذاته (أي الخير الكامن
Intrinsic ) وما لا تكون له قيمة إلا بوصفه وسيلة لهدف أو غاية (أي الخير الظاهر
Extrinsic
أو الوسيلي
Instrumental ).
Hedonic Calculus
حساب اللذات:
رأى جيريمي بنتام، القائل إننا نستطيع تحديد أهداف السلوك عن طريق الموازنة بين اللذة الناتجة عنه وبين الألم المترتب عليه. فإذا غلبت اللذة كان الفعل خيرا، وإذا رجحت كفة الألم كان شرا.
Hedonism
مذهب اللذة:
المذهب القائل إن الخير الأقصى (وبالتالي معيار كل قيمة) هو اللذة: ومن الشائع التمييز بين مذهب اللذة الأخلاقي، الذي يرى أن اللذة وحدها هي التي لها قيمة نهائية إيجابية، وبين مذهب اللذة النفسي؛ أي الاعتقاد بأن دافع كل سلوك (إنساني وحيواني) هو السعي وراء اللذة أو تجنب الألم.
Humanism
النزعة الإنسانية:
لهذا اللفظ معان تبلغ من التعدد حدا يجعل من المستحيل إيجاد تعريف واحد له. غير أن هناك عنصرا مشتركا بين كل هذه المعاني، هو الاهتمام بما فيه صالح الإنسان والتركيز عليه، ولا سيما من حيث الحياة في هذه الدنيا. وفي المصطلح الفلسفي الفني، استخدم ف. ك. س. شيلر
F. C. S. Schiller
هذا اللفظ لوصف النوع الخاص به من البرجماتية.
Hylozoism
مذهب حيوية المادة:
المذهب القائل إن الطبيعة حية أو أن للمادة خصائص روحية. وقد انتشر هذا الرأي في الفكر اليوناني القديم، ولكنه لا يدل على مذهب إيجابي بقدر ما يدل على عدم القدرة على إدراك ذلك التقسيم الذي نعده من أهم التقسيمات الثنائية في التجربة، هو تقسيم الطبيعة إلى حية وغير حية.
Idealism
المثالية:
يدل هذا اللفظ، فنيا، على أي مذهب يرد الوجود كله إلى الذهن أو الفكر. وقد يكون ذلك ذهنا أو تفكيرا فرديا أو مطلقا («كالمطلق» عند هيجل) أو كثرة من الأذهان (كالمثالية التعددية عند باركلي). ويدل هذا اللفظ، بمعنى أوسع، على أي مذهب أو وجهة نظر تصاغ على أساس المثل الأعلى، وتؤكد الجوانب الذهنية أو الروحية للتجربة. وهو يقال مقابل الواقعية
Realism ، أو معنى أوسع، المذهب الطبيعي
Naturalism .
Ideology
الأيديولوجية:
أية مجموعة من الأفكار العامة، ولا سيما في المجال الاجتماعي أو الاقتصادي السياسي. ويدل اللفظ عادة في استعماله الراهن على نظرة متماسكة إلى العالم، يأخذ به المرء لا شعوريا، مثلما يتحدث الماركسي عن «الأيديولوجية البورجوازية». ويستخدم هذا اللفظ أحيانا بمعنى مجموعة من المثل العليا أو المعايير غير المجدية، التي تقابل الأسباب ذات التأثير الفعلي (وهي عادة أسباب اقتصادية).
Immanence
الحلول:
الرأي الميتافيزيقي واللاهوتي القائل إن الله موجود حال لا يوجد بمعزل عن الكون (أو خارجه). وهكذا تكون بين الله والعالم هوية، ويشتركان في الأزلية على الأرجح. وهذا اللفظ مرادف لمصطلح شمول الألوهية
، ولمذهب العلو
Transcendence .
Indeterminism
اللاحتمية:
مرادفة لحرية الإرادة.
1 ⋆
وهي المذهب القائل إن أرادة الإنسان أو قدرته على الاختيار مستقلة عن أي نوع من التحديد؛ وبالتالي فهي تمارس في فراغ غير علي. وهي تقابل الحتمية.
Induction
الاستقراء:
العملية الاستدلالية التي تتكون فيها التعميمات أو القوانين أو المبادئ على أساس ملاحظة حالات جزئية. ويشيع إطلاق هذا اللفظ على الاستدلال الذي ينتقل من الجزء إلى الكل، أو من الخاص إلى العام. وعلى ذلك الجزء الأكبر من المعرفة البشرية ذو طابع استقرائي أو تجريبي، ما دام يتألف من تعميمات نجريها على تجربتنا الحسية. واللفظ يقال في مقابل الاستنباط
Deduction .
Instrumentalism
الوسيلية:
فرع للبرجماتية يرتبط باسم جون ديوي. وأفضل طريقة لفهم اللفظ هي أن ننظر إليه على أنه مذهب إجرائي
Operationalism
في نظرية المعرفة، تعد فيه الألفاظ والتصورات والأفكار «أدوات» أو «وسائل» لتحويل موقف غير محدد إلى موقف محدد. وهكذا فإن الحقيقة لا توجد إلا عندما تكون قابلة للاستعمال بوصفها وسيلة تفيد آخر الأمر في زيادة سعادة الفرد أو المجتمع.
Interactionism
مذهب التأثير المتبادل:
رأي واسع الانتشار في العلاقة بين الذهن والسجم، صاغه ديكارت، وما زال يقول به كثير من المفكرين. ويغلب على هذا الرأي الطابع الثنائي، وهو يفترض تأثيرا عليا متبادلا فيما بين الجسمي والذهني.
Intuition
الحدس:
الإدراك أو الفهم المباشر أو الفوري. والمذهب الحدسي
Intuitionism
في نظرية المعرفة هو القائل إن الشعور المباشر (أي الذي يتم بلا توسط، ودون تفكير نظري أو تعبير لغوي) هو أفضل مصدر للمعرفة. ويرتبط هذا المذهب عادة بالنظرية القائلة إن لدى الإنسان «ملكة مستقلة»، ليست ذات طابع حسي ولا عقلي، لديها القدرة على فهم «الحقيقة» أو «الواقع» مباشرة. وبالمثل يرتكز «المذهب الحدسي الأخلاقي» على النظرية القائلة إن للإنسان ملكة خاصة (تحدد عادة بأنها الضمير) تستطيع إصدار أحكام أخلاقية مطلقة. والمذهب الحدسي يكون عادة عنصرا أساسيا من النزعة المطلقة
Absolutism
والنزعة الشكلية
Formalism
في الأخلاق.
Logic
المنطق:
يعني، اصطلاحا، ذلك الفرع من الفلسفة الذي يدرس قوانين الاستدلال الصحيح. ومعناه الشائع هو «فن» الاستدلال. وينقسم المنطق تقليدا إلى (1) منطق صوري أو أرسططالي، (2) ومنطق استقرائي أو مناهج البحث العلمي. والمعنى الأول هو الذي يكون مقصودا في العادة عندما يستخدم اللفظ في اللغة الفلسفية العامة.
Logical Empiricism
التجريبية المنطقية:
مذهب في نظرية المعرفة، له تأثير عظيم الأهمية، يذهب إلى أن تحديد المعنى هو المشكلة الأساسية في كل لغة فلسفية. ولا تعترف هذه المدرسة إلا بنوعين من المعنى، النوع الواقعي والنوع الصوري، فالأول يتقرر بالتحقيق الحسي، والثاني بقواعد المنطق والنظم اللغوي. أما العبارات التي لا يمكن تحقيقها بإحدى هاتين الطريقتين فهي عبارات لا معنى لها أو «لغو
Nonsense ». وتشمل هذه العبارات كل القضايا الميتافيزيقية؛ أعني أية عبارة تتعلق بطابع الواقع بوجه عام، أو من حيث هو كل - ولذا كانت الانتقادات التي وجهتها حركة التجريبية المنطقية لقدر كبير من الفلسفة التقليدية انتقادات شديدة. وهي ترتبط بالوضعية، وتسمى أحيانا بالوضعية المنطقية
Logical Positivism .
Macrocosm (and Microcosm)
العالم الأكبر (والعالم الأصغر):
الكون بأكمله، أو «العالم الكبير»، في مقابل جزء من الكل يعد معبرا عن الكل أو رمزا له. هذا الأخير ، وهو العالم المصغر، هو عادة الإنسان، الذي يفترض أن تعقده الداخلي مشابه للنظام الخارج للطبيعة. واللفظان دائما متضايفان.
Materialism
المادية:
الرأي القائل إن كل شيء في الكون، وضمنه الحياة والذهن، يمكن أن يرد إلى المادة والحركة ويفسر من خلالهما. وهكذا فإن المادة والحركة هما وحدهما اللتان لهما وجود أو حقيقة نهائية. وهذا يعني أن كل العمليات والخواص الذهنية لها أصل فيزيائي، ووجودها يتوقف تماما على المادة. وعلى ذلك فإن الحوادث الواعية، شأنها شأن جميع الظواهر الأخرى، ترد إلى تحولات في ذرات مادة أو تغيير ترتيبها في المكان. وعلى الرغم من وجود تداخل بين المصطلحات الثلاثة: المادية، والآلية
Mechanism ، ومذهب الظواهر الثانوية
Epiphenomenalism ، فمن الواجب تمييز المادية عن كل من الأخيرين.
Matter
المادة:
المادة، بوصفها مقولة من أهم مقولات التجربة وأكثرها أساسية، هي مصطلح يصعب تعريفه. وأهم خصائصها «الامتداد» وعدم القابلية للاختراق، وإن كانت «الكتلة»، و«الوزن» و«الدوام»، وبعض الصفات الأخرى، لا تكاد تقل أهمية بالنسبة إلى مفهوم فكرة المادة عن الصفتين السابقتين. وينظر إلى المادة أيضا على أنها هي العلة الخارجة عن الذهن للتجربة الحسية. غير أن موقفنا الفلسفي العام هو الذي يحدد ما إذا كنا سننسب إلى المادة مكانة المظهر، أو سننظر إليها على أنها الحقيقة الوحيدة.
Mechanism
الآلية:
هي بالمعنى الواسع، الرأي القائل إن جميع الظواهر يمكن تعليلها بمبادئ ميكانيكية؛ أي بقوانين المادة والحركة. وهي، بمعنى أضيق، المذهب القائل إن العمليات العضوية امتداد لغير العضوية؛ ومن هنا فإن من الممكن تفسير السلوك الحي بطريقة آلية، بحيث يكون علم البيولوجيا امتداد للفيزياء والكيمياء. وهذا يؤدي إلى وضع المذهب الآلي في البيولوجيا في مقابل المذهب الحيوي
Vitalism .
Meliorism
مذهب التحسن:
لفظ وضعه جورج إليوت للتعبير عن رأي وسط بين التفاؤل والتشاؤم. فالعالم، وفقا لهذا الرأي، ليس خيرا ولا شرا، وإنما هو قابل للتغير في أي من الاتجاهين. وهكذا فإن من الممكن زيادة الخير، وذلك عن طريق جهود البشر أساسا. وينطوي اللفظ، كما يستخدم عادة، على القول بأن مثل هذا التحسن المستمر جزء أساسي من العملية التطورية .
Metaphysics
الميتافيزيقية (ما بعد الطبيعة):
تدل، بمعناها الواسع، على البحث أو الدراسة المتعلقة بالوجود بما هو كذلك، في مقابل دراسة الوجود في صورة معينة من صوره (كالعلم الفيزيائي مثلا). ويستخدم اللفظ أحيانا بمعنى ضيق مرادفا للأنطولوجيا، غير أن الأكثر شيوعا هو استخدامه بحيث يشتمل على الأنطولوجيا وعلى الكسمولوجيا معا. ويستخدم اللفظ بمعنى أقل تخصصا، ليدل على دراسة الحقيقة النهائية، ومن هنا كانت تمثل المبحث الأساسي للفلسفة التقليدية.
Methodolgy
مناهج البحث العلمي:
معناها المتخصص هو ذلك الفرع من المنطق، الذي يقوم بتحليل منظم للمبادئ والعمليات التي ينبغي أن توجه البحث في ميدان معين. ويدل اللفظ، في معنى أكثر اتساعا، على الوسيلة التي ننظم بها نشاطنا أو نواصله في أي ميدان معين، على الرغم من أنه قد لا يكون من الصحيح استخدام اللفظ بهذا المعنى الواسع إلا في مجالات البحث العقلي فحسب.
Mind
الذهن:
من المقولات النهائية للتجربة، ويستخدم عموما في مقابل المادة. وقد يدل اللفظ على: (1) الذات الفردية أو الوعي الفردي، (2) مجموع التجربة النفسية، (3) العنصر الواعي في الكون، (4) المعاني الثلاثة السابقة معا. ويستخدم اللفظ في المثالية الواحدية بمعناه الشامل، بحيث يدل على الحقيقة النهائية.
Monad
الموناد (الذرة الروحية):
يستمد هذا اللفظ من الرأي القائل إن الكون مؤلف من وحدات أولية من نوع ما. ومع ذلك فهذه الوحدات ليست مادية (كما هي الحال في المذهب الذري المعتاد) وإنما هي ميتافيزيقية، أو جسمية وروحية معا (كما في بعض المذاهب). وقد أصبح اللفظ يرتبط خاصة بتفكير ليبنتس، الذي يقول في كتابه (المونادولوجيا
Monadology ) بوجود عدد لا متناه من الموجودات التي تسير في طريق تطورها الخاص وفقا لقانون باطن، بحيث تكون كل منها مستقلة تماما عن الأخرى، ولكن يكون بينها انسجام مقدر. وفي رأي ليبنتس أن الذرات ليس لها امتداد، ولا شكل، ولا تقبل الانقسام أو الاختراق.
Monism
الواحدية :
موقف ميتافيزيقي يرى أن الواقع مظهر لمبدأ أو جوهر واحد. وقد يكون هذا المبدأ الواحد نفسيا وروحيا (كما في المثالية) أو ماديا (كما في المادية)، أو محايدا (كالواحدية المحايدة عند اسبينوزا). والواحدية الإبستمولوجية هي المذهب القائل إن الموضوع وفكرته شيء واحد. وهي تقال في مقابل مذهب آخر أكثر منها شيوعا بكثير، هو الثنائية الإبستمولوجية، التي ترى أن الموضوع وفكرته كيانان منفصلان عدديا، ومختلفان عادة في الكيف.
Mysticism
التصوف:
المذهب القائل إن الحقيقة النهائية تبلغ عن طريق الحدس لا عن طريق العقل أو التجربة الحسية المعتادة. وينظر الصوفي عادة إلى الحدس على أنه أداة أو وسيلة مستقلة للاتصال تمدنا بمعرفة مباشرة، في مقابل المعرفة التي يتوسط فيها الحس أو العقل. وعلى الرغم من التفاوت الكبير في سياق التجارب الصوفية، فإنها تنطوي عادة على شعور طاغ بحضور الله أو الاتصال المباشر به، وإن كان الموجود الذي يتم الاتصال به قد يكون هو «الواحد» الذي يجل عن التعبير، لا الإله المشخص الذي تقول به معظم مذاهب الألوهية.
Naturalism
المذهب الطبيعي:
الرأي الميتافيزيقي القائل إن الكون مكتف بذاته، دون علة خارجة عن الطبيعة أو إشراف من الخارج، وأن من الممكن تفسير الكون بطريقة طبيعية خالصة. وأكثر مظاهر هذا المذهب تطرفا هو اعتقاده بأن الحياة والذهن ليسا استثناءين من النظام الطبيعي، وإنما هما جزء لا يتجزأ منه. وهذا يعني أن قيم الإنسان وأفكاره هي حصيلة التطور؛ وبالتالي فهي مجرد تعبير عن حاجات النوع الإنساني في هذا العالم الذي نعيش فيه.
Nominalism
المذهب الاسمي:
هو الرأي (الذي يرجع أصله إلى العصور الوسطى) القائل إن الأشياء الفردية وحدها هي التي لها حقيقة موضوعية، وأن التصورات والكليات ليست إلا «أسماء» (Nomina)
وعلى ذلك فليس للتصورات وجود خارج الذهن. وهذا المذهب يقابل الواقعية الأفلاطونية أو واقعية العصور الوسطى، التي تنظر إلى الكليات أو الألفاظ المعبرة عن فئات على أن لها وجودا موضوعيا. (ملحوظة:
ينبغي عدم الخلط بين واقعية العصور الوسطى وبين الواقعية الحديثة، التي تقف في نواح متعددة موقفا مضادا لها تماما).
Normative
معياري :
ما يكون معيارا أو مثلا أعلى تنظيميا (أو يرتبط به). وهكذا فإن الحكم المعياري يعبر عن تفضيل أو تقويم، في مقابل الحكم المعرفي أو المعبر عن أمر واقع. وعلى ذلك فإن «الكتاب على المنضدة» ليس حكما معياريا، على حين أن «هذا كتاب جيد» هو حكم من هذا النوع.
Noumenon
الشيء في ذاته:
لفظ استخدمه كانت، ولكنه يستخدم الآن بوجه عام في الفلسفة، للتعبير عن «الشيء في ذاته» في مقابل «الظاهرية
» أو المظهر الذي يبدو عليه الشيء للحواس. وقد رأى كانت أن الأشياء في ذاتها لا يمكن أن تعرف، ما دامت المعطيات الحسية لا تنقل إلينا إلا مظهر الأشياء.
Objective
موضوعي:
ما يوجد خارج الذهن، مستقلا عن الإدراك الحسي، ومستقلا (عادة) عن وجود ذات واعية. ويدل اللفظ بمعنى أعم على ما يوجد في عالم التجربة المعتادة، ويمكن بالتالي لكل الملاحظين إدراكه. وهو يقابل «الذاتي
Subjective ».
Occasionalism
المذهب الفرصي:
شكل متطرف من أشكال «مذهب التوازي
»، له طابع لاهوتي أكثر منه فلسفي، ويرى أن الذهن والجسم لا يؤثر أحدهما في الآخر تأثيرا مباشرا، ولكن كل حادث في المجال الذهني أو الجسمي هو «فرصة» أو «مناسبة» لكي يتدخل الله في إحداث تغير مناظر في المجال الآخر.
Ontological Argument
الحجة الأنطولوجية:
أكثر البراهين معقولية من بين تلك البراهين المسماة «بالأدلة الفعلية» على وجود الله. وتقول هذه الحجة إن وجود الله يلزم حتما من تصور الألوهية ذاته. ففكرة الله هي أكمل موجود، ولو لم يوجد هذا الموجود، لكانت هناك أشياء أخرى أكمل منه (لأنها موجودة). وللحجة صيغ متباينة، تشيع منها الصيغة الخاصة «بالموجود الأكثر حقيقة
Ens Realissimum »، الذي ينبغي أن يوجد لكي يكون هو الأكثر حقيقة. وكان أول من صاغها هو أنسلم
Anselm (حوالي 1100) ثم استخدمها كثير من اللاهوتيين والفلاسفة، ولا سيما دنس سكوت
Duns Scotus
وديكارت، وليبنتس، في صورة معدلة. وكان الهجوم الذي شنه «كانت» عليها هو أقوى هجوم وجه إليها.
Ontology
الأنطولوجية:
لفظ يستخدم أحيانا بمعنى مرادف للميتافيزيقا، ولكنه يدل في صورة أدق على ذلك الفرع من الميتافيزيقا الذي يدرس «الوجود» في أكثر صورة تجريدا. فما طبيعة الوجود بما هو وجود؟ وما معنى أن يكون الشيء موجودا؟
مذهب شمول النفس:
الرأي القائل إن الطبيعة كلها، وضمنها المادة، ذات طابع نفسي، أو خصائص نفسية. وأشهر صور هذا الرأي هو مذهب المونادولوجيا (الذرات الروحية) عند ليبنتس، الذي يقول إن الطبيعة تتألف من مراكز للإدراك مشابهة للذهن البشري. ويمثل هذا المذهب إحياء حديثا لمذهب حيوية المادة القديم، وهو شكل من أشكال المثالية.
مذهب شمول الألوهية (وحدة الوجود):
هو المذهب القائل إن الله والكون لا يتميزان. فهو إذن مرادف لمذهب الحلول
Immanence ، ويقابل مذهب العلو
Transcendence
في طبيعة الألوهية. وكانت الكنيسة تنظر دائما إلى مذهب شمول الألوهية على أنه تجديف، وقد أحرق أشهر القائلين بهذا المذهب، وهو جوردانو برونو
Giordano Bruno
بسبب رأيه هذا (1600).
مذهب التوازي (بين النفس والجسم): : نظرية في العلاقة بين الذهن والجسم، ترى أن هناك تناظرا بين كل واحد من الحوادث النفسية وكل واحد من التغيرات الجسمية؛ أي إن كل حادث في أحد المجالين يقترن بتغير يحدث في نفس الوقت في المجال الآخر. وتنكر هذه النظرية عادة أي ارتباط سببي بين السلسلتين المتوازيتين، وإن كانت تعترف بالعلية في داخل كل من السلسلتين. ويرتبط هذا المذهب ارتباطا وثيقا بمذهب الواحدية المحايدة ونظرية الوجهين (كما عند اسبينوزا مثلا).
قانون الاقتصاد في الفكر:
مصادرة أساسية في التفكير العلمي، مؤداها أن من الواجب عدم تعديد العناصر التفسيرية أكثر مما تقضي به الضرورة؛ أي إن أبسط تفسير كاف هو الذي يعد صحيحا. وهكذا فإن العلم لا يسمح إلا باتخاذ العدد الذي لا يمكن الاستغناء عنه من المسلمات في تفسير أية ظاهرة، ويفضل دائما في حالة تساوي فرضين في كل شيء، الفرض الأبسط فيهما. وينطوي القانون ضمنا على القول بأن في الطبيعة مبدأ البساطة - «الطبيعة دائما تستخدم أبسط الوسائل الممكنة». ويسمى هذا المبدأ أيضا «مقص (أو سكين) أوكام
Occam’s Razor »، تبعا لاسم وليام الأوكامي
William of Occam
الذي صاغ هذا المبدأ لأول مرة في القرن الرابع عشر.
مذهب الكمال:
مذهب أخلاقي، يطلق عليه في كثير من الأحيان اسم «مذهب الكمال المثالي»، يرى أن أسمى خير ينحصر في بلوغ الكمال. ويحدد هذا الكمال أحيانا بأنه هو الكمال الأخلاقي أو الفضيلة الكاملة ولكن معناه الأكثر شيوعا هو الوصول إلى أعلى تحقيق ممكن لقدراتنا وإمكاناتنا، أو على الأقل لأعلى هذه القدرات وأقربها إلى طبيعة الإنسان. ويفضل كثير من المفكرين الأخلاقيين في الوقت الحاضر استخدام اسم «تحقيق الذات
Self-Realization » للتعبير عن هذا المذهب.
الظاهرة:
ما يبدو للوعي أو يمكن أن يدرك، وهو مظهر الشيء، في مقابل «الشيء في ذاته
Nounmenon ». وعلى ذلك فإن الظواهر، كما يدرسها العلم، هي الأشياء كما هي بالنسبة إلى الإنسان، لا كما هي في ذاتها.
المذهب التعددي:
الرأي القائل إن الواقع مؤلف من كثرة من الجواهر أو الكيانات المتميزة المستقلة النهائية. وهو يدل، في معناه المتخصص، على أية نظرة إلى العالم تفترض أكثر من مبدأين نهائيين. ومع ذلك فقد كانت المذاهب التعددية تقول عادة بكثرة من المبادئ الحقيقية، وهي عادة مبادئ لا متناهية في العدد. وقد تكون هذه المبادئ مادية (كما هي الحال عند الذريين)، أو روحية (كما هي الحال عند ليبنتس) أو محايدة (كما هي الحال عند هربارت
Herbart ).
الوضعية:
الرأي الذي عبر عنه كونت
Comte
لأول مرة تعبيرا منظما حوالي 1840، والقائل إن المعرفة اليقينية هي معرفة الظواهر، ولا سيما تلك التي يتيحها العلم. وينطوي المذهب عادة على إنكار إمكان جود معرفة نهائية؛ أي معرفة تتجاوز التجربة - ولا سيما فيما يتعلق بالعلل النهائية. وتدل الوضعية، في معناها الواسع، على تأكيد الوقائع العلمية، في مقابل التأملات النظرية الميتافيزيقية.
مصادرة:
عبارة غير قابلة لأن يبرهن عليها، تتخذ أساسا لاستدلال استنباطي. وللفعل «يصادر» معنى أوسع إلى حد ما، في كثير من الأحيان؛ فهو يعبر عن القول بشيء ينبغي افتراضه أو التسليم به من أجل إثبات شيء آخر. واللفظ يعد في بعض الأحيان مرادفا للبديهية
Axiom
وإن كان أفضل استخدام له هو ذلك الذي يكون فيه أضيق في نطاقه وأقل وضوحا ذاتيا من هذه الأخيرة.
البرجماتية:
حركة فلسفية قريبة العهد ترتبط خاصة بأسماء وليم جيمس، وجون ديوي، وف. ك. س . شيلر. وعلى الرغم من أن الأفراد المختلفين لهذه المدرسة قد أكدوا مشكلات مختلفة، فإنهم جميعا يتفقون في معارضة أي نوع من مذهب المطلق، ولا سيما المثالية المطلقة. وترتكز البرجماتية، عموما على النقاط الآتية: (1) أن معاني الأفكار كلها إنما تكون في نتائجنا العملية، (2) أن وظيفة الفكر هي أن يكون أداة للتكيف ومرشدا للسلوك «ديوي»، (3) أن المعيار الأول للحقيقة هو النتائج العملية لاعتقادنا. ولقد كان العنصر الذي ترجع إليه الأهمية الكبرى البرجماتية هو نشاطها النقدي التحليلي، لا صيغها الميتافيزيقية.
الانسجام المقدر:
لفظ استخدمه ليبنتس لتفسير العلاقة بين الذهن والجسم، أو بمعنى أدق، بين الذرات الروحية التي يقول بها مذهبه. وترتبط هذه الذرات بواسطة انسجام أو تزامن قدرة الله منذ الأزل، بحيث إن التغيرات في أحد المجالين توازيها تغيرات في المجال الآخر، دون أية علاقة سببية.
Rationalism
المذهب العقلي:
مذهب إبستمولوجي في المحل الأول، يقول إن المعرفة والحقيقة ينبغي أن تختبرا آخر الأمر بالوسائل العقلية والاستنباطية، لا بالوسائل الحسية. وينظر العقليون إلى «العقل» عادة على أنه مصدر مستقل للمعرفة، لا يعتمد على التجربة في شيء. ويقال هذا اللفظ في مقابل «المذهب التجريبي
Empiricism ».
Realism
الواقعية:
لهذا اللفظ عدة معان منفصلة. فالواقعية الإبستمولوجية هي الرأي القائل (1) إن للتصورات أو الكليات وجودا موضوعيا أو خارجا عن الذهن (وهي تسمى عادة بالواقعية «الأفلاطونية» أو واقعية «العصور الوسطى»)، أو (2) أن في استطاعتنا أن تكون لنا معرفة مباشرة أو صحيحة بالعالم الخارجي عن طريق التجربة الحسية. أما الواقعية الميتافيزيقية فهي الرأي الذي ينكر إمكان إرجاع الكون إلى «الذهن» أو «الفكر». وهذا يعني أن للكون وجودا مستقلا أو «واقعيا»، لا يتوقف على الإدراك أو الوعي. ويقال هذا اللفظ في مقابل «المثالية».
Relativism
النسبية:
الرأي القائل إنه لا توجد حقيقة موضوعية أو مطلقة أو نهائية، وأن الحقيقة دائما نسبية تبعا للمكان أو الزمان أو الجماعة أو الفرد والأكثر من ذلك شيوعا بكثير مذهب النسبية الأخلاقية، الذي يرى أن «الخيرية» أو «الفضيلة» تختلف من عصر إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى ... إلخ. ويقال هذا اللفظ في مقابل المذهب المطلق
Absolutism .
Self
الذات:
تدل، في معناها العام، على الأنا الذي يمر بالتجارب ونظرا إلى تطور علم النفس، فقد أصبح هناك اتجاه متزايد إلى استخدام اللفظ مرادفا للشخصية كما يراها الملاحظون الآخرون. ولقد كان للفظ الذات، من الوجهة التاريخية، معنى ميتافيزيقي في كثير من الأحيان؛ فهي مبدأ الوحدة الكامن من وراء التجربة الذاتية؛ وبالتالي فهي في كثير من المذاهب المثالية أهم ما في الكون.
Self-Determinism
الحتمية الذاتية (التحدد الذاتي):
موقف وسط بين الحتمية
Determinism
واللاحتمية
Indeterminism . ويرى أنصار الحتمية الذاتية أن أفعالنا تتحدد بالفعل، ولكن ليس عن طريق قوى أو ظروف خارجية من أي نوع، بل إن طبيعة الذات (التي يقصد منها عادة عناصرها النفسية وحدها) هي التي تتحكم في عمليات الاختيار التي تقوم بها، وتعد «سببية الذات الروحية الدائمة» هذه ضمانا لحريتنا الأخلاقية الأساسية.
Self-Evidence
الوضوح الذاتي:
صفة كون الشيء واضحا للذهن دون حاجة إلى إثبات أو برهان. وهي تقال على أية عبارة تتضح صحتها فورا بمجرد النظر فيها.
Self Realization (مذهب) تحقيق الذات:
المذهب الأخلاقي القائل إن أسمى خير للإنسان يكمن في تحقيق قدراته وإمكاناته إلى أقصى حد. ويتخذ هذا المذهب أحيانا اسم «مذهب الكمال
» فيؤكد الملكات البشرية العليا، على حين أن هناك مفكرين آخرين (ولا سيما أرسطو) قد أكدوا أهمية تنمية ما هو فريد في الإنسان، وبخاصة قدرته على تنظيم أوجه نشاطه وفقا للعقل. ويسمى هذا المذهب أحيانا باسم مذهب السعادة
Eudaimonism
ومذهب التحقق
Energism .
2 ⋆
Skepticism
مذهب الشك:
موقف إبستمولوجي يعتقد فيه أن الذهن البشري لا يستطيع بلوغ معرفة يقينية أو مطلقة، أو أنه لا يتمكن، حتى لو استطاع بلوغها، من الاعتراف بيقينيتها. وقد لا ينطبق إنكار المعرفة المطلقة هذا إلا على ميادين أو موضوعات معينة فحسب (كالله أو الخلود أو طبيعة الذات أو الحقيقة النهائية، إلخ)، وقد يتسع بحيث يشمل كل الموضوعات. وينبغي التمييز بدقة بين هذا اللفظ وبين المذهب الكلبي
Cynicism
وهناك تردف فضفاض بين مذهب الشك وبين اللاأدرية
Agnosticism
فيما عدا أن الثاني أقرب إلى أن يكون اعترافا بالجهل، لا شكا في إمكان المعرفة . وفضلا عن ذلك فإن اللاأدرية تستخدم في كثير من الأحيان بالنسبة إلى معرفة الله فحسب.
Solipsism
مذهب الذات الوحيدة:
هو أكثر صور المثالية الذاتية تطرفا. وهو يرى أن الذهن لا يستطيع أن يعرف إلا تجاربه الخاصة؛ وبالتالي لا يستطيع إثبات الوجود الموضوعي لأي شيء خارج عن الذهن. وعندما يطبق هذا المذهب على الميتافيزيقا، يقول إنه لا توجد إلا ذاتي وحدها (أي ذهني وحده) وإدراكاتها وحالاتها الواعية. فكل الأشياء المادية، فضلا عن كل الأشخاص الآخرين، يتوقف وجودها على وعيي.
Spiritualism
المذهب الروحي:
يعني، في الفلسفة، لمذهب الميتافيزيقي القائل إن الواقع النهائي روح، أو ذهن، أو عقل، واحد أو كثير. ويستخدم هذا اللفظ مرادفا فضفاضا للمثالية، ولكن الأدق أن يستخدم للتعبير عن تلك الصورة المتطرفة للتفكير المثالي، التي تذهب إلى أنه لا وجود إلا للروح. ويقال هذا اللفظ في مقابل المذهب المادي
Materialism .
Stoicism
الرواقية:
من أعظم المذاهب الأخلاقية في العالم القديم (ولا سيما العالم الروماني). وأهم تعاليمها (1) سعي المرء إلى السعادة داخل ذاته عن طريق المران على عدم الانفعال أو الاستقلال عن العالم الخارجي. (2) العيش «وفقا للطبيعة»، وهو يعني اتباع العقل (بوصفه المبدأ الأعلى في الطبيعة البشرية) وإطاعة قانون «اللوجوس» أو العقل الكوني الشامل لكل شيء. وهكذا تصبح الحياة وفقا لهذين المبدأين أسمى واجب للإنسان.
Subjective
الذاتي:
ما يتعلق بالعمليات الذهنية للفرد، أو ينشأ عنها، في مقابل ما يوجد في البيئة الخارجية. وهو يقابل الموضوعي
Objective ، كما أنه مرادف فضفاض للشخصي («في المشاعر والقيم» إلخ) والاستبطاني (في المناهج والدراسات، إلخ).
Subsistence
الدوام:
يدل هذا اللفظ، كما يستخدم في الفلسفة الحديثة، على نوع الوجود الذي يتسم بأنه ليس ذهنيا ولا ماديا، والذي يفترض أنه صفة للماهيات والكليات والقضايا المنطقية، وكذلك القدم (بالنسبة إلى بعض المفكرين). هذا الدوام يقابل الوجود الفعلي
Existence
الذي تتصف به الأشياء العينية.
Substance
الجوهر:
الطبيعة أو الحقيقة الأساسية التي تكمن من وراء خصائص أي شيء ويستخدم اللفظ عادة بالمعنى الشامل، ليدل على ما نتصوره موجودا في ذاته وبذاته؛ أي العلة الدائمة التي توجد من وراء الظواهر. وعلى ذلك فإن الجوهر هو ما تحل عليه التغيرات، وإن لم يكن هو ذاته تغيرا أو تعديدا لأي شيء آخر.
Summum Bonum
الخير الأسمى:
هو الهدف النظري النهائي للسلوك البشري، وله في ذاته أعلى قيمة كامنة، كما أنه يعد غاية كل القرارات والأفعال أو سببها. وهناك عدة صفات رشحت لشغل مكانة هذا المثل الأخلاقي الأعلى، منها السعادة واللذة والفضيلة وأداء الواجب وتحقيق الذات والقوة وغيرها.
Supernaturalism
المذهب فوق الطبيعي:
في الفلسفة، المذهب القائل إن الكون من خلق مصدر خارجي أو قوة تحكمه. وهذه القوة هي عادة الله، الذي يعلو على خلقه، والذي هو صانع كل وجود، ومصدر كل قيمة. وهذا المذهب يقابل المذهب الطبيعي
Naturalism ، ولا سيما في موقفه الذي يقول فيه إن من الممكن تفسير وجود الكون وعملياته بالقوى الطبيعية وحدها.
Syllogism
القياس:
صورة من صور الاستدلال الاستنباطي، تتضمن قضيتين (يطلق عليهما اسم «المقدمتين») ترتبطان معا بحيث تلزم عنهما قضية ثالثة (النتيجة). والمثل التقليدي له.
كل إنسان فان
سقراط إنسان
إذن سقراط فان
Synoptic
جامع:
ما يقدم نظرة عامة إلى الكل، وجميع أجزائه، بحيث نتأمل الكل في مجموعه والأجزاء في علاقاتها الضرورية بعضها ببعض، وبالكل.
Teleological Argument
الحجة الغائية:
من «الأدلة» العقلية على وجود الله. وهي تعرف أيضا باسم حجة القصد والتدبير
Argument from Design
وتذهب إلى أن الكون في مجموعه يكشف عن مظاهر للخضوع لغايات، مما يدل بدوره على وجود قصد واع، أو عقل خلاق. هذه الحجة التي كانت أثيرة لدى اللاهوتيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، قد اختفت من مجال الفلسفة تقريبا، نتيجة لفكرة الانتقاء الطبيعي في نظرية التطور عند داروين.
Teleology
الغائية:
مذهب العلل الغائية، الذي يرى أن الكون تنظمه غايات ومقاصد. وعلى ذلك فمن الواجب تفسير الحوادث، لا على أساس سوابقها (أي «العلل الفاعلية») وإنما على أساس نتائجها (أي «العلل الغائية»). ويدل هذا اللفظ، في استعماله الأكثر شيوعا، على الرأي القائل إن لكل شيء يوجد أو يحدث غاية؛ وبالتالي أن من الواجب تفسيره في صلته بالمستقبل، لا بالماضي. هذا المذهب يقابل مباشرة «المذهب الآلي». الذي يسعى إلى تفسير كل الظواهر على أساس الحوادث السابقة فحسب.
Theism
مذهب الألوهية (المفارقة):
هو، بأوسع معانيه، الاعتقاد بوجود إله أو آلهة؛ ومن هنا كان هو النقيض المنطقي للإلحاد
Atheism
الذي ينكر هذا الوجود. وهو بمعنى أدق، المذهب القائل إن الله واحد، مشخص، لا متناه، يجمع بين العلو (في ماهيته) والحلول (في حضوره وفاعليته). وينطوي مفهوم هذا المذهب عادة على القول بالأزلية، والقدرة الشاملة، والعلم المحيط، والخير الأسمى، والحضور في كل مكان. كذلك كان هذا المفهوم يتضمن عادة فكرة الله بوصفه خالق الكون ومركزه الأخلاقي. فإذا أضفنا إلى هذه الخصائص، القدرة على سماع الدعاء والصلاة وإجابتهما، كان مفهوم الألوهية هذا مفردا للمعنى التقليدي لله في المسيحية. والمفهوم بمعناه هذا، مضاد لمذهب الألوهية الطبيعية
Deism
ومذهب الألوهية الشاملة
.
Theology
اللاهوت:
الدراسة المنظمة لله: من حيث وجوده وطبيعته وقدراته وقوانينه وعلاقاته، وخاصة بالإنسان والعالم. وتشتمل هذه الدراسة في كثير من الأحيان على تحليل لأسس معرفتنا بالله وحدودها، وفي هذه الحالة قد يكون التفكير النظري فيها أقرب إلى الطابع الفلسفي منه إلى الطابع اللاهوتي بالمعنى الدقيق. وقد تكون هذه الدراسة نظرية بحتة، لا تربطها صلة ضرورية بالدين، ولكن هذا أمر غير مألوف.
Transcendent
العالي:
ما يوجد وراء التجربة؛ وبالتالي فلا يمكن معرفته. وقد استخدم هذا اللفظ عند «كانت» بوجه خاص. وينطبق اللفظ عامة على جميع المذاهب الفكرية التي ترى أن هناك صورا ومبادئ أولية تنظم التجربة.
3 ⋆
ويستخدم اللفظ، في معنى أكثر تداولا بين الناس، ليدل على نفس ما يدل عليه المتعالي
Transcendental ؛ أي ما هو «خارج عن هذا العالم». وهو في اللاهوت يدل على المذهب القائل إن الله خارج عن الطبيعة؛ ومن ثم فهو يقابل لفظ «الحال»
Immanent .
Tychism
مذهب الاتفاق:
هو المذهب القائل إن المصادفة أو الاتفاق له وجود موضوعي، ويقوم بدور فعال في العملية الكونية، وبذلك لا تكون «المصادفة» مجرد اسم يعبر عن جهلنا بالأسباب، وإنما تكون وجودا واقعيا.
Utilitarianism
مذهب المنفعة:
هو المذهب القائل إن الغاية المثلى للسلوك البشري ينبغي أن يكون أعظم قدر من الخير لأكبر عدد من الناس ... مع تعريف «الخير» على أساس اللذة أو السعادة. وتعد وجهة النظر هذه، التي كان أشهر من عبر عنها جيريمي بنتام وجيمس مل وابنه جون ستيورات مل، مذهبا في اللذة يتصف أساسا بأنه ذو طابع اجتماعي (في مقابل مذهب اللذة الأناني). وهذا المذهب يقابل المذهب الحدسي
Intuitionism
أو الشكلي
Formalism .
Validity
الصحة والصواب:
صفة لما يمكن استخلاصه بطريقة مشروعة من المقدمات بالاستدلال المنطقي. وعلى ذلك فالنتيجة الصحيحة أو الصائبة هي تلك التي يستدل عليها من مقدمات سابقة. ومن الواجب التمييز بين الصحة أو الصواب وبين الحقيقة (أو بتعبير أدق، الحقيقة المطابقة للواقع).
Value
القيمة:
هي بمعنى واسع ما يجعل أي شيء جديرا بأن يمتلك أو يتحقق. وقد ثارت خلافات عديدة حول مصدر القيمة ومكانتها، وكذلك علاقتها بالسلوك البشري، مما جعل هذا اللفظ من أشد ألفاظ الفلسفة غموضا. ومع ذلك يبدو أن جميع المدارس تتفق على أن من الممكن تقسيم القيم إلى «كامنة» و«وسيلية»، وعلى أن أحكام القيم ينبغي أن تتميز عن أحكام الواقع (مثلما يتميز الحكم «هذا الكتاب جيد» عن الحكم «هذا الكتاب فوق المنضدة»). ولعل أعظم الخلافات هو ذلك الذي يتركز حول مسألة ما إذا كانت القيم موضوعية أو ذاتية، مطلقة أو نسبية.
Vitalism
المذهب الحيوي:
هو المذهب البيولوجي القائل إن العمليات العضوية لا تقبل التفسير على أساس الفيزياء والكيمياء، بل لا يمكن تفسيرها إلا بافتراض كيان أو جوهر غير قابل للمعرفة، ولا مادي، يسمى بالجوهر شبه النفسي
، أو الكمال
Entelechy
أو الدفعة الحيوية
Élan Vital
أو «المبدأ الحيوي
Vital Principle » واللفظ يقابل المذهب الآلي
Mechanism .
Weltanschaung (Weltansicht)
النظرة إلى العالم:
رأي أو نظرة شاملة إلى العالم. وهو لفظ ألماني شاعري إلى حد ما، يدل إما على مذهب محدد في الفلسفة، وإما على موقف لا شعوري إلى حد ما، من الحياة والعالم - «كالنظرة الأفلاطونية إلى العالم»، أو «نظرة العصر الوسيط إلى العالم» مثلا.
World
العالم:
في الفلسفة، مجال للوجود أو للتجربة. وينطوي اللفظ عادة على القول بوجود كل موحد نسبيا، يشتمل على ذاته، كقولنا مثلا: «عالم الطبيعة» أو «عالم الموسيقى» أو «عالم الأحلام» ... إلخ . وينبغي عدم الخلط بين اللفظ وبين الدنيا أو الأرض - وهي الكوكب الذي نعيش فيه. وكثيرا ما يدل لفظ «العالم» على مجموع بيئتنا، أو حتى على الكون كله منظورا إليه على أنه موضوع للتجربة. ويتمثل هذا المعنى الأخير في عبارة: «الإنسان يسعى إلى فهم عالمه».
Página desconocida