ما هذه الدموع التي تذرفها يا بني ليلك ونهارك ما تهدأ ولا تفتر؟ وما هذا الحزن الذي تحمله بين أحناء ضلوعك لا يتفرج عنك بوجه من الوجوه، ولا حيلة من الحيل؟ ومتى كان الموت نكبة من النكبات العظام التي يهلك المرء في سبيلها جزعا، وتتساقط نفسه من دونها حسرات؟ وهل هو إلا الانتقال من منزل إلى منزل، والتحول من موطن إلى موطن، وربما كان الذي ننتقل إليه خيرا من الذي ننتقل منه؟ ومن أين لك أن الله - تعالى - لم يرد بصاحبتك خيرا حين استأثر بها واختار لها ما عنده، وأنه ما نقلها من هذه الدار إلى تلك الدار إلا لينقذها من شقاء علم أنها ستكابده فيها وستلاقي منه آلاما جساما؟ وهل يمكن أن يكون لها مصير إن قدر لها البقاء في هذه الحياة غير هذا المصير بعد ما تجهم لها الدهر، وحارت بها السبل وانتهى أمرها مع عمتها بما انتهى إليه من سوء الحال، وخيبة الأمل، وبعد ما قضي عليها أن تقضي بقية أيام حياتها في هذه القفرة المجدبة المحرقة التي لا ماء فيها ولا ثمر؟
وهل كنت تؤثر أن تراها شقية معذبة بين يديك تفلح الأرض، وتكسر الصخر، وتخوض الوحل، وتتسلق الأشجار، وتعبر الأنهار؛ لتعينك وتعين أطفالها المستقبليين على العيش بعد ما ألفت النعمة والرغد والعيش الهنيء في قصر عمتها عدة أعوام لا ترى فيها صخرا ولا حجرا، ولا رملا ولا مدرا؟ ولم لا يهنئك ويفرحك ويملأ قلبك غبطة وسرورا أن تعلم أنها الآن سعيدة في عيشها، هانئة بمصيرها، مغتبطة بما وفقت إليه من قدومها على ربها طاهرة نقية لم تلوث صحيفتها برشاشة واحدة من ذلك الرشاش الكثير الذي تلوث به صحائف الفتيات، مجزية أحسن الجزاء على موقفها الشريف العظيم، موقف العزة والأنفة والصبر والاحتمال الذي وقفته في ساعتها الأخيرة؟ ومن هو أولى منك - وأنت صديقها وحبيبها وألصق الناس بها - بالسرور لسرورها، والغبطة لغبطتها، والابتهاج بمصيرها السعيد الذي صارت إليه؟ وأنا أجلك كل الإجلال عن أن يكون حبك إياها حبا ماديا يزعجه افتراق الأجسام، ويكدر صفوه اختلاف الموطن والمقام.
ولو أنك عدت إلى نفسك قليلا لعلمت أنها لم تفارقك، ولم تنأ عنك، وأنها جالسة إليك تحدثك وتسمع حديثك، ولا شك عندي في أنها عاتبة عليك أشد العتب في هذه العجاجة السوداء من الحزن التي تثيرها على أثرها كأنها ذاهبة إلى دار الجحيم تستقبل أنواع العذاب وألوان الآلام، أو كأن كل الذي كان يعنيك منها شهواتك ولذائذك، فلما فاتتك بكيتها كما يبكي الطفل لعبته النافقة، وكأنني أسمعها تهتف بك قائلة: «لا تبك علي يا بول فإنني سعيدة ناعمة متمتعة برحمة ربي ورضوانه، متقلبة في أعطاف نعمته التي أسبغها علي مكافأة لي على صبري واحتمالي، وما استقبلت به هموم حياتي وآلامها من سكينة وجلد، فاصبر كما صبرت، واحتمل من آلام الحياة ما احتملت، يحسن الله جزاءك، ويجزل أجرك، ويرفعك إلى المنزلة التي رفعني إليها، فنعش معا في سعادة دائمة ليست سعادة الدنيا بالإضافة إليها إلا وهما من الأوهام، أو حلما من الأحلام.»
فلم يزد على أن رفع رأسه إلي وقال: ما دامت الحياة شقاء وعذابا، وما دام الموت سعادة وهناءة، وما دامت فرجيني تنتظرني في علياء سمائها لأعيش بجانبها العيش الذي أرجوه وآمله، ولا أوثر عليه عيشا سواه، فلا خير في الحياة من بعدها، وما أشوقني إلى الموت الذي يدنيني منها!
وهنا علمت ألا حيلة لي فيما قضى الله وقدره، وأن الفتى قد نفض يده من هذه الحياة إلى الأبد، وألا يد في العالم تستطيع أن تديره إلى وجهة غير الوجهة التي يسير فيها غير يد الله، فقمت وقام، ولا أسف في الدنيا أعظم من أسفي عليه، ولا فجيعة أكبر من فجيعتي فيه.
الفصل السابع والعشرون
الإيمان
جزى الله الإيمان عنا خيرا، فلولاه لثقلت على عواتقنا هذه الهموم التي نعالجها، ولولاه لعجزنا عن أن نتنفس نفس الراحة الذي يعيننا على المسير في صحراء هذه الحياة القاحلة، فهو النجم الخافق الذي يلمع من حين إلى حين في سماء الليلة المظلمة المدلهمة فينير أرجاءها، وهو الدوحة الفينانة التي يلجأ إليها المسافر من حرور الصحراء وسمومها فيجد في ظلالها راحته وسكونه، وهو الجرعة الباردة التي يظفر بها الظامئ الهيمان فينقع بها غلته، ويفثأ لوعته، وهو المطرة الشاملة التي تنزل بالأرض القاحلة فتهتز تربتها، وتحيي مواتها وتبعث في صميمها القوة والحياة، وهل كنا نستطيع أن نبقى لحظة واحدة في هذه الدار التي لا نفلت فيها من هم إلا إلى هم، ولا نفزع من رزء إلا إلى رزء، لولا يقيننا أن هذه الطريق الشائكة التي نسير فيها إنما هي سبيلنا الوحيد الذي يفضي بنا إلى النعيم المقيم الذي أعده الله في جواره للصابرين من عباده؟ وهل كان في استطاعة مريضنا الذي يئس من الشفاء، وفقيرنا الذي عجز عن القوت، وثاكلنا التي فقدت واحدها من حيث لا ترجو سواه، أن يحتفظوا بعقولهم سليمة، ومداركهم صحيحة، وعزائمهم متماسكة، لولا أنهم يعلمون أن حياتهم لا تنقضي بانقضاء أنفاسهم على ظهر الأرض، وأن هناك حياة أخرى في عالم غير هذا العالم، لا سقم فيها ولا مرض، ولا بؤس ولا شقاء؟
لذلك استطاعت هيلين ومرغريت في أواخر أيامهما أن تحتفظا بسكونهما وهدوئهما أمام هذه الحوادث المؤلمة التي تفض أصلاد الصفا، وتذيب لفائف القلوب، فكنت إذا دخلت عليهما رأيتهما في فراش مرضهما صابرتين محتملتين كأنهما لا تعالجان في أعماق قلوبهما أشد الآلام النفسية وأهوالها، فإذا نظرتا نظرتا إلى السماء، وإذا نطقتا نطقتا باسم الله وسألتاه العفو عنهما والرحمة بهما، ثم لا تلبث أعينهما أن تتلألأ بنور الأمل والرجاء، كأنما قد وقع في نفسهما أن الله قد استجاب دعاءهما، وتقبل قربانهما، ووعدهما المثوبة العظيمة في دار نعمته وجزائه.
ولقد دخلت صباح يوم على مرغريت للحظة التي استيقظت فيها من نومها فقصت علي أنها رأت فرجيني في منامها تسبح في غمرة من النور، وقد لبست قميصا أبيض فضفاضا كأنما قد نسج من خيوط الشمس، ولم تزل تهبط من أوجها رويدا حتى أصبحت في حرم الأرض، فمدت يدها إلى بول فأخذت به من ضبعيه وطارت في جو السماء فتشبثت بردائه فطرت وراءه، ولا أعلم كيف طرت، ثم نظرت تحتي فإذا هيلين طائرة ورائي، وإذا ماري ودومينج طائران وراءها، ثم دخلت على هيلين في كوخها في الساعة نفسها فقصت علي هذه الرؤيا بعينها؛ فعجبت لذلك أشد العجب! وأيقنت أن الله قد اصطفى هؤلاء القوم لنفسه، وأنزلهم منازل الأبرار الصالحين، وأنهم وإن كانوا لا يزالون على قيد الحياة فقد لحقو بالعالم الآخر، وأصبحوا ملائكة بين ملائكته المقربين.
Página desconocida