إهداء الرواية
1 - جزيرة موريس
2 - الشيخ
3 - مدام دي لاتور
4 - مرغريت
5 - الحياة الطبيعية
6 - حياة الطفولة
7 - العزاء
8 - الاستعمار الأوروبي
9 - السعادة
Página desconocida
10 - العمل
11 - التاريخ
12 - مخدع فرجيني
13 - ليالي الشتاء
14 - آدم وحواء
15 - الخفقة الأولى
16 - الرسالة
17 - الوداع
18 - السفر
19 - أوروبا
Página desconocida
20 - الطبيعة
21 - الحديث
22 - السفينة
23 - العاصفة
24 - الكارثة
25 - أحزان بول
26 - الموت
27 - الإيمان
28 - النهاية
بول وفرجيني
Página desconocida
إهداء الرواية
1 - جزيرة موريس
2 - الشيخ
3 - مدام دي لاتور
4 - مرغريت
5 - الحياة الطبيعية
6 - حياة الطفولة
7 - العزاء
8 - الاستعمار الأوروبي
9 - السعادة
Página desconocida
10 - العمل
11 - التاريخ
12 - مخدع فرجيني
13 - ليالي الشتاء
14 - آدم وحواء
15 - الخفقة الأولى
16 - الرسالة
17 - الوداع
18 - السفر
19 - أوروبا
Página desconocida
20 - الطبيعة
21 - الحديث
22 - السفينة
23 - العاصفة
24 - الكارثة
25 - أحزان بول
26 - الموت
27 - الإيمان
28 - النهاية
بول وفرجيني
Página desconocida
الفضيلة
الفضيلة
تعريب
مصطفى لطفي المنفلوطي
إهداء الرواية
يعجبني من الفتى الشجاعة والإقدام، ومن الفتاة الأدب والحياء؛ لأن شجاعة الفتى ملاك أخلاقه كلها، ولأن حياء الفتاة جمالها الذي لا جمال لها سواه، فأنا أهدي هذه الرواية إلى فتيان مصر وفتياتها؛ ليستفيد كل من فريقيهما الصفة التي أحب أن أراها فيه؛ وليضعا حياتهما المستقبلة على أساس الفضيلة كما وضعها بول وفرجيني.
مصطفى لطفي المنفلوطي
ترجمة المؤلف
بقلم محمود خيرت
1
Página desconocida
في سنة 1852 احتفلت حكومة الجمهورية الفرنسية بإقامة تمثال من البرنز صنعه «دافيد الشهير» في أحد ميادين ثغر الهافر لرجل جليل عظيم الهيبة، تتألق ملامحه بالبشر والنور، وتفيض عيناه بالوداعة واللطف، وهو ممسك بإحدى يديه قرطاسا وبالأخرى قلما، وعند قدميه صبي وصبية عاريان يتصافحان تحت ظل شجرة من أشجار المناطق الحارة.
من هما ذانك الصبيان المتصافحان؟ وما معنى تلك الشجرة التي ليست من نبات هذه البلاد؟ وما عسى أن يكون ذلك الرجل الذي كتب له الحظ أن يكون محلا لعناية «دافيد» واهتمام الجمهورية؟
أرادت فرنسا بأسرها أن تخلد ذكرى رجل من أبنائها قضى حياته محبا للحرية واستقلال الرأي، وإن ناله بسببهما الأذى، منقبا عن الحكمة وهو يتفانى في تمجيدها، عاشقا للطبيعة وهو يتغنى بمحاسنها، ينسق قلمه القدير كل يوم للأدب إكليلا يانعا من أزاهير الجمال، وتسمو به نفسه الطاهرة الأبية إلى سماء الإنسانية للعمل على تخفيف ويلات البشر وآلامهم، فكان رجلا ذكيا عالي الهمة، حكيما، كبير النفس ، يعرف للطبيعة حقها وفضلها، كاتبا فذا جم الشعور، ملأت فراغ قلبه فيوض الرحمة بالبشر إلى حد يجعله في صف القديسين.
وما كان هذا الرجل بحاجة إلى أثر يخلده؛ وفي رأسه وقلمه ونفسه مثل تلك الآثار الخالدة يحيا بها على تعاقب السنين.
2
ولد برناردين دي سان بيير في التاسع عشر من شهر يناير سنة 1727 بالهافر، من أبوين كانا يدعيان اتصالهما بالنبيل أوستاش دي سان بيير، حتى إنه ولع من صغره بهذه النسبة فانتحل لنفسه لقب «شفالييه»، وأخذ يحلي صدره بأوسمة يصنعها بنفسه تتفق مع شرف هذا اللقب.
ولقد كان في صباه رقيق المشاعر، عصبي المزاج، كثير الجري وراء الخيال، حتى طمحت نفسه إلى تأسيس جمهورية واسعة من طائفة العاثرين البائسين؛ يكون هو واضع شريعتهم ومنظم حياتهم؛ ليضمن لهم سعادة العيش، فكان في هذا الخاطر مثل جان جاك، إلا أن هذا كان يرى أن يعود الناس إلى فطرتهم الأولى طاهرين من الأرجاس، خالصين من الأدران، فيعيشون عيشة صافية هنية في ظل شريعة الكون العامة التي سنها الخالق، أما برناردين فكان يرى أن يضع لهم نظاما جديدا يحارب به قسوة الحياة الحالية وويلاتها.
ولكنه كان لا يزال طفلا قليل الحول والحيلة، حتى إن أحد أعمامه - وكان قبطانا لسفينة تجارية - أخذه معه إلى جزر المارتينيك، ولكنه عاد منها مثقلا بالهموم وكراهية العيش، فسلمه أبوه لجزويت كاين.
وعند ذلك عادت تلك الفكرة السامية إلى رأسه الصغير لما كان يسمعه من أحاديث المبشرين عن رحلاتهم في البلاد المتوحشة، حتى تمنى لو أنه يقفو أثرهم فيهدي إلى سبيل السعادة فريقا من عباد الله الأشقياء الجاهلين.
على أن أباه عجل بنقله إلى مدرسة رووين، ثم إلى مدرسة الهندسة، ثم التحق بعد ذلك بالجيش، ولكنه كما ذكرنا كان عنيدا لا يسمع غير صوت نفسه وإن خرج في ذلك عن حدود الواجب، حتى إن رئيسه عقد مجلسا لتأديبه ثم أوقفه.
Página desconocida
ولقد أراد بعد ذلك أن يقصد مالطة لتلمس الرزق فيها، ولكنها كانت مهددة بإغارة من جانب الأتراك، فعاد أدراجه وأخذ يعيش من بعض دروس في الحساب يعطيها لمريديه.
وهكذا أحدق به الهم وعضه الفقر، والتوى عليه سبيل الهناء، ولم يجد عند أحد صدرا يسعه في محنته، ولا قلبا يحنو عليه في كربته، فاحتقر الحياة، وكره الناس، وآثر العزلة على البقاء في هذا العالم القاسي قائلا: «إن العزلة جبل عال تريني قمته الناس صغارا.»
على أنه لم يعدم صدرا آخر يفيض عليه من حنوه الأبدي الخالد، هو صدر الطبيعة، فاستنام إليها وأحبها وفني في عشقها.
ولقد حببها إليه أيضا أنه رأى ذات يوم عودا هزيلا من «الفراولة» نبت على حافة نافذته، فلما أخذ يتأمله قام في نفسه أن يصفه بكل دقائقه ويصف ما حوله من حشرات صغيرة وذباب، ولكن ذلك استعصى عليه وقد رأى تلك الحشرات تصغر شيئا فشيئا إلى حد أعجزه عن متابعتها، وعند ذلك أدرك مقام الطبيعة وعظمتها فهام بها.
وإن نفسا مثل نفس برناردين لا تعرف اليأس، فعزم على الهجرة من وطنه إلى غيره من بلاد الله، وهو مع ذلك لا يكرهه ولا يحقد عليه «لأن من أحب وطنه تغرب في سبيله» كما قال في ترجمة حياته.
وكانت فكرة إصلاح المجتمع قد اختمرت في رأسه، فسافر إلى روسيا لعله يجد عند ملكتها كاترين ما يساعده على إخراجها إلى نور الوجود على شواطئ بحر قزوين، ولكن سهمه طاش، فارتحل إلى فنلندا ثم إلى بولونيا فألمانيا فصحارى أمريكا العليا فمدغشقر، حتى انتهى به المطاف عند جزيرة «موريس» التي كتب عنها روايته، ولكنه في كل هذه الأدوار كان سوء الحظ حليفه، فاضطر إلى العودة لوطنه ثانيا وهو ينوء تحت حمل الأحزان والديون، ذاهبا إلى أن العيب لم يكن على النظم التي تشرع للناس، ولكن على نفس القائمين بها.
وكان في أسفاره لا يكاد يرفع طرفه عن الطبيعة التي طالما أحبها وشغف باكتناه أسرار جمالها، ولكنه كان يغلب عليه في تفهمها مزاجه الشعري، وهو يعتقد أن خواطره ليست هي التي تتجه إلى الطبيعة ولكنها هي التي توجه إليها آلاف الأشكال المختلفة الرائعة ، وهكذا كان يغرس على طول طريقه بذور خيالاته فيحظى من الطبيعة بكل ثمرة شهية وهو يرى في كل ذرة من ذراتها نفسا حية ناطقة، حتى صهره البحث وأنضجته التجربة، ولكن شقاء الحظ جرعه آخر ما في كأسه، فعاد - كما ذكرنا - وهو يقول في نفسه: لقد أصبح الناس لا يعرفون قدر الإحسان فكيف رفعتهم الأقدار؟ ولكن حسبي أن التجربة صيرتني هرما فأصبحت لا أطمع في غير الراحة.
نعم إنه أحس بعزمه قد وهن، وكأن الشاب الطامح إلى لقاء الحوادث ومجالدتها قد ذاب فيه وفني وهو مع ذلك لا يتجاوز الثلاثين من عمره، أضف إلى ذلك ما آلت إليه حاله من الفاقة والبؤس، ففكر في وضع كتاب عن تلك الجزر التي زارها وما شاهد فيها ودون في مذكراته عنها.
ولكن كتابه الذي كان يظن أنه وضع به أساس مجده لم يصادف إلا نجاحا قليلا؛ لأنه أفسد عليه قلوب الحكام؛ بما ذكره فيه من خلل إدارة المستعمرات وفساد نظامها، إلا أن هذا السفر قد أكسبه الاتصال بكتاب عصره وفلاسفته، فعرفوه وعرفهم، ولكنه لم يلبث أن أنكرهم؛ لأنه أدرك أنهم كغيرهم قوم لا يعرفون معنى العدل والحق اللذين كانا دعامة خلقه، حتى إنه قاطعهم وهجرهم؛ لأن ألم شوكة واحدة - كما كان يقول - تنسي المرء لذة مائة وردة يشمها؛ ولذلك عمد إلى ما دونه من أبحاثه في الطبيعة فجمعها في كتاب نشره على الناس على ما بها من التفكك وعدم الارتباط، ولكن هذا الكتاب الناقص، أو تلك الأطلال الدوارس - كما كان يسميها - كانت وحدة معنوية حية خيرا مائة مرة من أية وحدة علمية؛ لأنها تمثل جلال القدرة حاضرة دائما في الذهن، ماثلة للعين، حتى إن نجاحه كان فوق ما أمله فعرف الناس قدره وأحبوه.
وهكذا أمكنه أن يزحزح عن نفسه شيئا من أحمال شقائه، فابتاع منزلا صغيرا اختاره في طريق ضيق يسكنه الفقراء، حتى يشعر أنه بين أفراد عائلته الطبيعية، وعلى مقربة من حديقة الحيوانات، كي لا يحرم من متابعة أبحاثه.
Página desconocida
3
وقد كان من نتائج تلك التجاريب الطويلة الشاقة أن برناردين اعتقد أن سعادة الإنسان قائمة على سلوك سبيل الحياة تتطلبه الطبيعة والفضيلة، وأن الفضيلة العامة مهما بلغ من اتساعها فإن مكانها المكان الأول في نفس كل فرد؛ ولذلك عدل عن فكرة الجمهورية التي حاول إنشاءها، واقتصر على وصف حياة بعض الأسر المنزوية في ظلال الوحدة تتذوق طعم النعيم في حجر الطبيعة وعند بساطة الفضيلة.
وهكذا ظهر سفره الخالد «بول وفرجيني»، فهز أوتار المشاعر، وملك أزمة القلوب، وكان فجرا لليل الأدب، وتاجا على رءوس الأقلام، وشعلة صافية باردة فاض بها فؤاده الذي غمرته الفضيلة والصبر والرحمة، وكان لظهوره تأثير عظيم في جميع أنحاء فرنسا، فأبكى كل عين، وصعد كل زفرة، ولم تبق أسرة ولد لها ولد إلا سمته بول، أو ابنة إلا سمتها فرجيني.
وكان أكبر ما أثره في نفوس الناس من هذه الرواية أن حوادثها صحيحة ليس فيها من الخيال إلا النسق والترتيب، فقد قال مؤلفها في مقدمتها: «إني لم أتخيل قصة روائية أصور فيها حياة سعيدة تمتعت بها أسرة أوروبية في وسط ذلك الفقر، بل يمكنني أن أقول إن أشخاص هذه الرواية قد عاشوا حقيقة في تلك الأصقاع وتمتعوا بالسعادة التي وصفتها، وإن تاريخهم في مجمله صحيح شهد به كثير من سكان تلك الجزيرة، ولم أضف عليه إلا بعض جزئيات ليست بذات بال.»
وقد تنبأ بمبلغ تأثير روايته في النفوس قبل ظهورها فقال: «أردت عندما وضعت هذه الرواية أن أعرف مقدار تأثيرها في القراء على اختلاف درجاتهم ومراتبهم ومشاربهم وميولهم، فتلوتها على بعض السيدات الجميلات المتأنقات فبكين، ثم تلوتها على بعض الشيوخ المحافظين الرزينين فبكوا، فعلمت أني قد كتبتها للناس جميعا، وأرضاني هذا الحكم الصامت كل الرضى، على أن هذا السفر إذا كان قد هز عالم البيان إلى هذا الحد فإنه لم يكن ابن يومه، وإنما كان ثمرة مجهود بطيء حتى خرج للناس من ظلمات الفكر إلى قضاء الحقيقة وعليه ثوب ذلك الشاب القشيب، فهو كأنه ليس من عمله بل من عمل الطبيعة التي تضع بذورها في السكون وتنضجها في الظل، فإذا وافى اليوم الذي تظهر ثمرتها فيه أخذت بالألباب والأبصار.»
وكثيرا ما كان يسأله الناس كيف وضعه؟ وكيف انتهى منه؟ فيقول لهم: حسبكم أنه أعجبكم، فلا تضعوا بهذه الأسئلة غشاوة على أعينكم تحجب عنها لذة السرور الذي شعرت به، وإلا كان مثلكم كمثل الطفل يقع نظره على وردة فيذهب خاطره إلى محاولة الاهتداء لكيفية صنعها، وعند ذلك ينثرها ورقة ورقة حتى إذا بلغ غايته لا يرى أمامه شيئا.
على أن جمال الكتاب يجعل الحيارى من السائلين في حل من موقفهم هذا، فهم معذورون إذا تساءلوا عن زهرة هذا السفر القيم كيف نشأت، وعلى أية طريقة نبتت، وبماء أي خاطر متقد سقيت، وتحت أي مؤثر من مؤثرات النفس أيعنت ففاضت على الأجيال بالأريج والألوان والجمال.
ولكن عناصر مثل هذا العمل الكبير دفينة في نفس حياة الكاتب إذا صح أن كل مؤلف يتمثل في سطوره.
على أن برناردين إذا كان لم يخلق كاتبا فإن المشاهدة والتجربة والدرس هذبت قلمه وأنضجته، حتى إذا انقضت هزيلة بائسة طائرة في مهاب الحوادث وقد أحاطتها الأيام بإطار من الشيخوخة لم ير له بديلا منها إلا نفثات قلمه بين سطور هذا السفر الفياض؛ ولذلك قال عنه بعض قارئيه: «ليست هذه الرواية أثرا للكاتب، وإنما هي أثر خالد للغة الفرنسية.»
على أن الرواية وإن كانت لم تقم إلا على وصف الطبيعة الجافة الخشنة فإن القارئ لا يكاد ينتهي منها حتى يشعر بدبيب النشوة في مفاصله، لا لترتيب أشخاصها أو غرابة حوادثها، ولكن لقدرة برناردين على وصف أخلاق أهل القرى السهلة بعبارته الساحرة الجذابة، فهي التي أنطقت الطبيعة الجامدة، وجعلت من الكمال تمثالا حيا قدسيا خالدا، حتى إن بعض قرائه صاح وقد هزه الطرب: «إنني لا أرى هنا غير أكواخ بسيطة وأعواد خشنة، ولكنني أرى حولها وجوها ضاحكة مستبشرة، وقلوبا تسيل سعادة وهناء.» وحتى قال شاتوبريان: «إن السحر الذي يتشعع من سطور هذا الكتاب ليس غير عظمة تتلألأ في ثناياه تحكي تألق القمر فوق عزلة مزدانة بالزهور.»
Página desconocida
ولقد كان ختام كفاح برناردين بعد ما حاربته الليالي وخاصمه الحظ أن عرف قدره أولئك الذين جهلوه حتى توجهت إليه عناية لويز السادس عشر، فقلده إدارة حديقة النباتات، ومتحف التاريخ الطبيعي، وإذا كانت الثورة قد أفقدته هذا المركز وسلبته تلك النعمة التي أصبح فيها، فإن «نابوليون بونابرت» شمله برعايته، وغمره بإحسانه، فأنساه مرارة الأيام الماضية، كما أنه قلده وسام الشرف، فلم يعد في حاجة إلى تلك الأوسمة الخيالية التي كان يحلم بها في صباه، وكان إذا قابله قال له: «متى تؤلف لنا يا برناردين رواية ثانية؟»
هذه هي رواية بول وفرجيني، وهذا هو كاتبها الذي كان يقول في أول أمره: «إن إنكار الناس لجميلي، والأحزان التي لا تفارقني، وضآلة مرتزقي وآمالي الضائعة، كل هذه المصائب تجمعت لتحاربني فأفسدت علي صحتي، وأزاغت صوابي، حتى إن كل ما يقع تحت بصري أصبحت أراه متحركا مضاعفا، كأنني أوديب الملك أرى شمسين»، فأصبح يقول: «هكذا بعد ما قاست سفينة حياتي من زعازع الحوادث أخذت تتقدم آمنة مطمئنة إلى بر السعادة.»
الفصل الأول
جزيرة موريس
هي إحدى الجزر الإفريقية الواقعة في المحيط الهندي على مقربة من جزيرة «مدغشقر»، وعلى مدى غير بعيد من جزائر «سيشيل»، وهي جزيرة قفراء بلقع إلا قليلا من السكان السود متفرقين في جبالها وغاباتها، يستعبدهم بضعة أفراد من المهاجرين الأوروبيين النازلين بينهم، ويسخرونهم في حراثة الأرض واستنباتها واستخراج معادنها واستنباط أمواهها وتقليم أشجارها، كما هو شأن المستعمرين الأوروبيين في جميع الأصقاع التي يعيشون فيها. •••
يرى المقبل على هذه الجزيرة شرقي الجبل القائم خلف عاصمتها «بورلويس» واديا مستطيلا، مسورا بسور طبيعي من الآكام والصخور، قد تراءت في وسطه أطلال كوخين دارسين لم يبق منهما إلا أنصاف جدرانهما، وبضعة جذوع ناخرة سوداء متناثرة حولهما، ويرى الأرض المحيطة بهما مختلفة الألوان، ما بين سوداء وخضراء وصفراء، مختلفة السطوح ما بين أنجاد وأغوار، وأحافير وأخاديد، ومتعرجات ومستدقات، إلى كثير من الجداول والغدران القائمة والمتداعية، كأنما يعيش فيها قبل اليوم قوم يتولون حرثها وزرعها وتقسيمها وتخطيطها، ثم ضربها الدهر بضرباته فرحل عنها ساكنوها أو رحلوا عن العالم بأجمعه.
ولم يكن لذلك الوادي - على اتساعه وانفراجه - إلا فجوة واحدة من ناحيته الشمالية، وعلى يساره ذلك الجبل العظيم الذي يسمونه جبل الاستكشاف؛ لأنهم كانوا يرقبون من قمته السفن القادمة إلى الجزيرة، وبسفحه تقع مدينة «بورلويس» قصبة الجزيرة ومقر حاكمها الفرنسي، وهي مدينة صغيرة نصف متحضرة، يتفرع من يمينها طريق لاحب عريض ينتهي بضاحية «بمبلوس»، وهناك الكنيسة المسماة بهذا الاسم قائمة بمماشيها المتدرجة المتصاعدة المحفوفة بأشجار الخيزران وسط أفيح فسيح، ثم الحرجات والآجام بعد ذلك منبسطة ممتدة إلى ساحل البحر، حيث يرى هنا خليج «تومبو»؛ أي: خليج القبر، وعلى يمينه رأس يسمى «كاب ماليرو»؛ أي: الرأس البائس، ثم الخضم الفسيح بعد ذلك تنتشر على صفحته عدة جزر صغيرة مقفرة كأنها السفن السابحة على سطح الماء، وأكبر ما فيها جزيرة «كوان دمير» تتهادى بينها كأنها البرج العظيم. •••
ولا يزال يسمع المقبل على ذلك الوادي حين يدنو منه عصف الرياح الضاربة في بطون الجبال وأحشاء الغابات وذوائب الأشجار، ودمدمة الأمواج المتوثبة على صخور الشاطئ وهضابه، حتى إذا وصل إلى مكان الكوخين انقطع عن سمعه كل شيء، فلا يحس إلا صدى ضعيفا لحفيف سعف النخل، ولا يسمع إلا وسوسة الأمطار المتساقطة برفق ولين على رءوس الصخور الملساء، فترسم على جوانبها المكسوة بالطحلب ألوان الطيف ثم تنحدر عنها متسلسلة إلى حيث تسقي أحواض الأزهار المهملة التي لا تمتد إليها يد، ولا يقتطفها مقتطف، ثم تفضي بعد ذلك إلى الغدران والأقنية فتمدها بالجم الكثير من أمواهها، وإلى خمائل الأشجار ولفائف الأعشاب، فتنسرب من أحشائها انسراب الأفاعي الرقطاء في بطون الرمال، ولا يرى بين يديه إلا هضابا شماء قد نبتت في سفوحها وعلى قممها وبين فروجها مجاميع الأشجار الباسقة التي تعابث أشعة الشمس أوراقها الخضراء المترعرعة، وتكسوها بما شاءت من ضروب الألون ذهبيها وفضيها، وأرجوانيها وناريها، ولا تنحدر إلى قاع الوادي وتتبسط في أرجائه إلا وقت الظهيرة، فإذا أدبر النهار وطفلت الشمس للإياب كان منظر الأصيل أبدع منظر رآه الرائي في جمال ألوانه، وانسجام ظلاله، ورقة أضوائه، وتلهب أفقه، وذهاب العين بين أرضه وسمائه في أبهى من الحلة السيراء والروضة الغناء، فإذا انحدرت الشمس إلى مغربها خيم السكون على كل شيء من ماء وهواء، وكوكب ونجم، واستحال المنظر إلى وحشة مخيفة كوحشة القبور، لا نأمة فيها ولا حركة، ولا بارق ولا خافق.
الفصل الثاني
الشيخ
Página desconocida
كان يلذ لي كثيرا أن أختلف إلى هذا المكان الجميل صباح مساء، وأن أستريح إلى منظره الهادئ الساكن، فإني لجالس ذات يوم على صخرة من صخور العالية أقلب الطرف بين أرضه وسمائه، وأفكر في شأن هذين الكوخين الدارسين، وفيما تنطق به آياتهما من العظات والعبر، وآثارهما من الأحاديث والسير، إذ مر بي شيخ هرم من سكان تلك الجزيرة قد نيف على السبعين من عمره، يعتمد على عصا عجراء في يده، ويلبس سراويل واسعة وصدارا ريفيا بسيطا وقبعة عريضة من الخوص، كشأن سكان تلك الأصقاع، وله شعر أبيض مستطيل مسترسل على كتفيه، وقد تلألأ وجهه الأبيض النحيف الضارب إلى السمرة بذلك النور الساطع الذي يتلألأ دائما في وجوه الريفيين الأتقياء، نور البساطة والطهارة، والنبل والشرف.
فأنست به وبمنظره الجميل الأنيق، وبدأته بالتحية، فرفع رأسه إلي متوسما وألقى علي نظرة هادئة مطمئنة ثم رد تحيتي ردا جميلا، وكأنما شعر لي بمثل الذي شعرت له به من العطف والود، فأقبل نحوي باسما متهللا، وجلس على صخرة محاذية للصخرة التي أجلس عليها، وألقى عصاه تحت قدميه ووضع قبعته بجانبه، فأقبلت عليه وقلت له: لعلك تعيش في هذه الجزيرة يا سيدي منذ زمن طويل، قال: نعم، طويت فيها رداء شبابي، وهأنذا أطوي فيها رداء شيخوختي، وستبرد عظامي غدا تحت صخورها وجنادلها، قلت: هل لك أن تحدثني قليلا عن شأن هذين الكوخين الدارسين وعمن كان يسكنهما قبل أن تعبث بهما يد البلى، وتعصف بهما عواصف الدهر وأرزاؤه؟ فوجم قليلا وظل صامتا لا يقول شيئا وقد انتشرت على جبينه اللامع المتلألئ غمامة رقيقة من الهم والاكتئاب، ثم تنهد تنهدة طويلة اختلجت لها أعضاؤه وقال: نعم يا بني إن هذا الوادي الذي تراه اليوم خرابا يبابا لا يمر به المار إلا ليقف على ربوعه وأطلاله وقفة المتأمل المعتبر، كان منذ عشرين عاما روضة غناء يعيش فيها أقوام سعداء بأخلاقهم وفضائلهم، ما كان يخطر ببالهم ولا ببال من يراهم أن مصيرهم سيكون هذا المصير الذي تراه اليوم، وإن قصتهم لقصة غريبة مؤثرة تستثير الأشجان وتستذرف الدموع، إلا أن أبطالها ليسوا ملوكا ولا قادة، ولا من أصحاب القصور والدور، والحدائق والبساتين، والمسارح والملاعب، والوقائع العظيمة، والحوادث الجسيمة، كما هو شأن أبطال الراويات التي تقرءونها، بل كانوا قوما فقراء مغمورين تقتحمهم العيون، وتتخطاهم الأنظار، ومن كان هذا شأنهم لا يحفل بهم أحد من الناس، ولا يعنى بسماع شيء من أخبارهم وتواريخهم؛ لأن الناس لا يستطيعون أن يفهموا السعادة إلا من الطريق الذي ألفوه واعتادوه، فهم لا يصدقون أن قوما فقراء متقشفين يعيشون في أرض قفرة جرداء منقطعة عن العالم بأجمعه قد استطاعوا أن يكونوا سعداء من طريق الفضيلة والبساطة.
فأكبرت الرجل في نفسي وأعظمته، وعلمت أنه يحمل بين جنبيه نفسا كبيرة سامية تختلف صورتها عن صورة هذه الأسمال الحقيرة التي يلبسها، وقلت له: نعم يا سيدي إنني أعترف لك أننا - معشر الأوروبيين - لا نفهم من معنى السعادة إلا ذلك المعنى الذي تقوله، ولا نعجب بالقصة إلا إذا كان أبطالها أولئك الملوك الظلمة، والقواد السفاكين، ولكننا نستطيع أن نصغي في بعض الأحايين بلذة وسرور إلى أحاديث الفقراء والبائسين، ومهما بلغت القسوة بالقلب الإنساني وغمرت الشهوات شعوره ووجدانه، فلا بد أن تهب عليه من حين إلى حين نفحة من نفحات الفطرة الإلهية تنعشه وتوقظ شعوره، فيستطيع أن يعود إلى نفسه قليلا، وأن يفهم أن في العالم صنوفا من السعادة غير التي يعرفها ويألفها، وربما أكبرها وأعظمها وتمناها لنفسه، وود لو طال استمتاعه بها.
فقص علي قصتك يا سيدي، فما أنا لو علمت إلا رجل بائس مسكين، قد أخطأته السعادة حيث طلبها في المدن والحواضر بين الدور والقصور، فلعله يجدها في القفر الموحش بين الهضاب والصخور.
فوضع يده على جبينه المغضن كأنما هو يفتش في طياته عن بعض الذكريات القديمة، أو يستجمع ما تفرق من شواردها، وأنشأ يحدثني ويقول.
الفصل الثالث
مدام دي لاتور
في عام 1726 قدم هذه الجزيرة فتى من «نورماندي» اسمه «مسيولاتور» ليطلب رزقه في هذه الجزيرة المقفرة بعد ما أعياه طلبه في فرنسا، وعجز عن أن يجد له فيها معينا حتى من أهله وذوي رحمه، وكانت تصحبه زوجته، وهي فتاة نبيلة، جميلة الصورة، كريمة الخلق، طيبة العنصر، أحبها وأحبته، وأراد أن يخطبها إلى قومها فأبوها عليه؛ لأنه كان فقيرا مقلا، ولأنهم كانوا من المدلين بأنفسهم وبوفرهم وثرائهم ومكانتهم في الهيئة الاجتماعية، فلم يكن مما يهون عليهم أن يصهروا إلى رجل ليس من أكفائهم ولا نظرائهم، فتزوجها سرا بدون مهر، وهاجر بها إلى هذه الجزيرة عله يجد سبيلا إلى العيش فيها، فتركها هنا وسافر إلى جزيرة «مدغشقر» ليبتاع منها طائفة من الزنوج يستعين بهم عند عودته على استصلاح بعض الأراضي المهجورة، فيقتات منها هو وزوجته، فلم يتح له الحظ الذي أراد؛ لأنه سافر إلى «مدغشقر» في الفصل الذي يوبأ فيه مناخها ويمتلئ فيه جوها بالحميات والرياح السامة القاتلة، فلم يلبث أن اشتكى شكاة ذهبت بحياته، وكان يحمل معه بعض الأثاث وشيئا من المال، فتناهبته الأيدي هناك، كما هو الشأن دائما في تراث الغرباء من الأوروبيين الذين يموتون بعيدا عن أوطانهم في تلك الجزر النائية.
فأصبحت امرأته من بعده أرملة مسكينة لا سند لها ولا عضد ولا من يعينها على أمرها إلا جارية زنجية كانت قد ابتاعتها عند حضورها ببعض دريهمات، ولم تكن تعتمد على ما يعتمد عليه أكثر المهاجرين المقيمين في هذه الجزيرة من عون الحاكم ومساعدته، أو الصلة ببعض أصحاب الجاه والنفوذ؛ لأنها كانت أجل في نفسها من ذلك، ولأنها لم يكن يعنيها بعد أن فقدت ذلك الزوج الكريم الذي كان موضع آمالها ووجهة حياتها أن تكون لها صلة مع أحد من الناس كائنا من كان.
فأكسبها يأسها هذا قوة وجلدا، وصحت عزيمتها على أن تعتمد في حياتها على نفسها، وأن تتخذ لها قطعة من الأرض تستصلحها بيدها هي وجاريتها علها تجد قوتها ومرتزقها.
Página desconocida
والأرض في هذه الجزيرة على جدبها وإقفارها لا يعدم أن يجد فيها الإنسان بضع قطع خصبة صالحة للنماء والاستثمار، ولكنها كانت تريد العزلة والانفراد والفرار بنفسها عن أبصار الناس وأسماعهم، فتركت المواضع الخصبة الميثاء وأوغلت في المجاهل البعيدة تفتش عن قطعة أرض معتزلة في سفح جبل أو بطن غور أو وراء منقطع لا يطرقها طارق ولا يمر بها سابل حتى وصلت إلى هذا المكان الذي نحن فيه، فأعجبها منظره الهادئ المنفرد، وسكنت نفسها إليه سكون الطائر الغريب إلى العش المهجور، وكذلك شأن البائسين المنكوبين، يشعرون دائما بحاجتهم إلى الفرار بأنفسهم من ضوضاء العالم وجلبته إلى المعتزلات النائية القصية، والمواطن الخشنة الوعرة، كأنما يخيل إليهم أن صخورها وهضابها قلاع حصينة يعتصمون بها من كوارث الدهر وأرزائه، أو كأنما يتوهمون أن هدوءها وسكونها يسري إلى قلوبهم وأفئدتهم فيروح عنها بعض ما بها ويملؤها راحة وسكونا، إلا أن العناية الإلهية - التي تتولى حراسة الإنسان وتمده بلطفها وعنايتها من حيث لا يقدر ولا يحتسب، وترى له دائما خيرا مما يرى لنفسه؛ أبت أن تسلمها إلى وحشتها وكآبتها، فأتاحت لها صديقة كريمة تؤنس وحشتها، وتعينها على أمرها.
الفصل الرابع
مرغريت
كانت تعيش في هذه الأرض قبل عام واحد من حضور «مدام دي لاتور» امرأة صالحة كريمة رقيقة الحال اسمها «مرغريت»، وفدت إليها على أثر نكبة حلت بها في مسقط رأسها «بريتانيا»، وخلاصتها أن نبيلا من النبلاء الاصطلاحيين - أي الذين اصطلح الناس على تلقيبهم بهذا اللقب - نزل بلدتها للاصطياف بها فرآها فأحبها، وكانت فتاة غريرة ساذجة تصدق كل ما يقال لها، فصدقت ما حدثها به عن الحب والزواج، والسعادة والرغد، كأنما خيل إليها أن العظماء في أحاديثهم وعهودهم كما هم عظماء في مظاهرهم وأزيائهم، لا يخلفون إذا وعدوا، ولا ينكثون إذا عاهدوا، فاتصلت به اتصال الزوج بزوجها حينما وعدها أن يتزوج منها عند عودته إلى وطنه واستئذان أبويه.
وما هي إلا أيام قلائل حتى ملها واجتواها كما مل الكثيرات من أمثالها من قبلها، فرحل عنها فجأة أعظم ما كانت غبطة به وأملا فيه، وترك لها تحت وسادتها شيئا من المال خيل إليه أنه الثمن الذي يقوم لها بوفاء ما بذلت من عرضها وشرفها، فجن جنونها وهرعت إلى فرضة البحر التي علمت أنه سيسافر منها، فلم تر من سفينته الماخرة على سطح الدأماء إلا ما يرى الرائي من أعقاب النجم المغرب؛ فبكت ما شاء الله أن تفعل، ثم عادت إلى منزلها دامية العين قريحة القلب، ولم تلبث إلا قليلا حتى شعرت أنها تحمل جنينا في أحشائها، فأسقط في يدها وعلمت أنه قد استحال عليها البقاء بين أهلها وقومها بعد ما فقدت تلك الجوهرة الثمينة التي هي كل ما تملك العذراء في يدها، وكل ما تستطيع أن تقدمه مهرا لزوجها، فأزمعت الرحيل إلى إحدى المستعمرات النائية لتواري في قاعها السحيق سوأتها وعارها، فوفدت إلى هذه الجزيرة بعد عناء كثير، وعقبات كبيرة واستطاعت بمعونة بعض المحسنين الراحمين أن تبتاع لها خادما زنجيا يعينها على أمرها ويساعدها على حراثة الأرض التي أوت إليها واستخراج ثمراتها.
وعاشت هنا عيش الصالحات القانتات لا تعرف أحدا من الناس ولا يعرفها أحد سواي، وكانت تجلس دائما على هذه الصخرة العالية أمام كوخها ترضع ولدها وتنسج نسيجها، فلما وفدت هيلين «مدام دي لاتور» رأتها جالسة في مكانها الذي اعتادت الجلوس فيه، فعجبت لأمرها وأنست بمرآها أنسا عظيما؛ لأنها ما كانت تتصور قبل أن تراها أن في الناس إنسانا له حال تشبه حالها، فدنت منها وحيتها ثم جلست بجانبها وأخذت تسائلها عن شأنها، فقصت عليها مرغريت قصتها كما وقعت، وكشفت لها بشجاعة وإخلاص عن مكان المصرع الذي زلت فيه قدمها، ولم تكتمها من أمرها شيئا، ثم ختمت حديثها بقولها: إن الله لم يظلمني، ولم يقس علي فيما فعل، بل عاقبني على جريمتي التي اقترفتها عقابا عادلا شريفا، فله العتبى معطيا وسالبا، وله الحمد على نعمائه وبأسائه.
فرثت لها هيلين «مدام دي لاتور» وأوت إليها، وأعجبها منها إخلاصها وصراحتها، وقوة يقينها وإيمانها. فلم تر بدا من أن تمنحها من بنات قلبها مثل ما منحتها، فأفضت بسرها، وحدثتها حديثها من مبدئه إلى منتهاه. فقالت لها مرغريت: أما أنا يا سيدتي فقد لاقيت عقوبتي التي أستحقها بما أسرفت على نفسي، وفرطت في أمري، فما شأنك أنت وأنت فتاة صالحة شريفة لا ذنب لك ولا جريرة!
ثم دعتها إلى كوخها الحقير فلبت دعوتها ودخلت معها راضية مغتبطة وهي تقول: أحمدك اللهم، فقد وجدت لي في هذا المغترب النائي أختا لم أجد مثلها بين أهلي وقومي، وما أحسب إلا أن آلامي قد انتهت. •••
وكنت أسكن في ذلك الحين وراء هذا الجبل على بعد مرحلة ونصف من كوخ مرغريت، ولكنني كنت - على بعد ما بيني وبينها واعتراض هذه العقبات دوننا - متصلا بها، أزورها وأتفقد حالها، وأرعى لها ما يرعى الجار لجاره الملاصق، وتلك خلة لا توجد إلا في سكان القفار المهجورة، والمغتربات النائية، فلا الجبال الشامخة، ولا الصحارى الشاسعة، ولا الشقة البعيدة بقادرة على أن تفرق بينهم وتمنع اتصال بعضهم ببعض، كأنما هم يقطنون محلة واحدة، أو منزلا واحدا، أما في أوروبا فكثيرا ما يعيش الرجل بجانب الرجل لا يفصل بينه وبينه إلا جدار قائم، أو ممر ضيق، أو ظلة دانية، ثم هو لا يعرفه ولا يحييه، وربما أنكر وجهه وصورته، وهناك قلما يستطيع القادم الغريب أن ينزل ضيفا إلا عند نفسه في أخصب البلاد وأغناها، وأرغدها عيشا، وأصحلها حالا، وهنا يجد ساعة نزوله المنزل الرحب، والمناخ الكريم في كل دار وكوخ، سواء في ذلك فقراء الناس وأغنياؤهم، وسوقتهم وأشرافهم، كأن الناس حين يعودون إلى حياتهم الفطرية الأولى - حياة البساطة والسذاجة والعيش في الأجواء الحرة المطلقة - تعود لهم معها أخلاقهم الطبيعية الجميلة التي فطروا عليها: من كرم وسماحة، وجود وإيثار، وود وإخاء.
وبعد ، فلما سمعت أن جارتي قد نزلت بها ضيفة غريبة أتيت إليها أتفقد حالها، وأعينها على أمرها، فإذا أنا بين يدي فتاة جميلة رائعة، تحيط بوجهها المشرق المتلألئ هالة وضاءة من الشرف والنبل، تغشاها سحابة خفيفة من الهم والكآبة، ويتراءى في عينيها المتضعضعتين الذابلتين أثر الذل والانكسار الذي يراه الإنسان دائما في عيون الفتيات المنكسرات في ميدان الحياة.
Página desconocida
وما هو إلا أن جلست إليها جلسة خفيفة حتى ألممت بشأنها كله، فأخذت أحدثها وصديقتها عن مستقبل حياتهما في هذه الجزيرة، وكيف تستطيعان أن تعيشا فيها سعيدتين هانئتين، فاقترحت عليهما أن تتخذا هذا الوادي مزرعة لهما تقتسمانها بينهما، ويعينهما على استصلاحها واستثمارها خادماهما الزنجيان، فأعجبهما مقترحي وعهدا إلي بتنفيذ ما أشرت به.
وكانت مساحة الوادي نحو عشرين فدانا، فقسمته قسمين، قسما أعلى، وقسما أدنى، أما الأول فيبتدئ من رءوس تلك الصخور العالية التي تكسوها السحب أرديتها الشفافة البيضاء، وتنبعث من خلالها أمواه نهر «اللاتينيه» وينتهي عند هذه الفجوة التي تراها أمامك، ويسمونها هنا «لامبرازير»؛ لأنها تشبه في شكلها فوهة المدفع. وتكثر في هذا القسم الصخور والوعور التي يتعذر السير فيها، إلا أنه كثير الأشجار والنخيل، حافل بالينابيع والغدران.
وأما الثاني فيبتدئ من هذا المكان منحدرا مع النهر الجاري بجانبه إلى نهاية الوادي، حيث ينحرف النهر بعد ذلك سائرا في رملة ميثاء بين جبلين شامخين إلى مصبه في البحر، وأرض هذا القسم سهلة لينة كثيرة الخضرة والأعشاب، إلا أن المستنقعات تكثر فيها في فصل الأمطار، وتكاد تتحجر تربتها أيام الجفاف، فتصبح كأنها أرض صخرية، فهما في الحقيقة قسمان متعادلان تتكافأ حسناتهما وسيئاتهما.
فلما فرغت من تهيئتهما اقترعت بين السيدتين عليهما، فكان القسم الأعلى نصيب هيلين «مدام دي لاتور»، والقسم الأدنى نصيب مرغريت، فرضيت كل منهما بنصيبها، إلا أنهما أبتا أن تفترقا في مسكنهما وعيشهما، فرأيت أن أنشئ لهما كوخين متجاورين تجدان فيهما من السعة والراحة لهما ولولديهما أكثر مما تجدان في الكوخ الواحد، وأن أجعل أحدهما في ذيل القسم الأول، وثانيهما في رأس القسم الثاني، فتسكن كل منهما أرضها، وكأنها تعيش مع صاحبتها في مسكن واحد، فأعجبتهما تلك الفكرة واغتبطتا بها، فاستعنت بالزنجيين على قطع الأحجار من الجبال، واجتلاب الأخشاب من الغابات، وصنع مواد البناء، وأنشأت لهما كوخين فسيحين يدور بهما سياج متين من الأغصان المتشابكة، وغرست حولهما خميلة من أشجار اللاتينية تظللهما وتقيهما وهج الشمس وغائلة المطر.
وهنا صمت الشيخ وأطرق، ثم رفع رأسه بعد قليل فإذا دمعة رقراقة تترجح في مقلتيه كلما حاولت أن تسيل أمسكها، واستمر في حديثه يقول: نعم بنيتهما وشيدتهما وأنشأت لهما السقوف والأبواب والكوى والنوافذ، وهأنذا أراهما الآن بين يدي ساقطين متهدمين، فلا أبواب ولا سقوف، ولا نوافذ ولا كوى، ولا قطان ولا سكان، وكأن الله - تعالى - أراد أن يستديم تلك الذكرى في نفسي فلا تبرح مخيلتي حتى تذهب معي إلى قبري، فأبقى على هذه البقايا الماثلة من جدرانهما وأحجارهما ليستثير مرآها شجني، ويهيج آلامي وأحزاني. أو كأن طوارق الحدثان التي لا تبالي أن تعصف بقصور الملوك وصروح الجبابرة وتذهب ببقاياها وآثارها إلى الأبد، قد وقفت وقفة الإجلال والإعظام أمام هذه الأكواخ الحقيرة المشعثة، فأبت أن تقضي عليها القضاء كله إجلالا لها، واحتراما لذكرى أصحابها الأوفياء المخلصين.
وبعد فلم أكد أفرغ من بناء الكوخين حتى شكت هيلين وجاءها المخاض فولدت طفلة جميلة كأنها النجم اللامع في سطوعه وإشراقه، وسألتني أن أكون «عرابها»، وأن أتولى تسميتها كما توليت تسمية ولد صديقتها، فأشرت على مرغريت أن تفعل؛ لأني أردت أن تكون لها أما ثانية، فسمتها «فرجيني»، وقالت لأمها سيهب الله ابنتك نعمة الفضيلة والعفة فتحيا حياة سعيدة هانئة، فإني ما فقدت السعادة إلا منذ اليوم الذي انحرفت فيه عن طريق الفضيلة.
الفصل الخامس
الحياة الطبيعية
نهضت هيلين من نفاسها بارئة نشطة، فأخذت هي وصديقتها مرغريت تعملان في أرضهما بمعونة الزنجي «دومينج»، وهو رجل كهل قد نيف على الخمسين من عمره، إلا أنه كان فتي الهمة والعزيمة، واسع الخبرة في شئون الزراعة الجبلية وأساليبها، فكان يغرس في كل أرض ما يناسبها من البذور والأغراس، ولا يفرق في ذلك بين القسمين ولا يمنح أحدهما من اهتمامه وعنايته أكثر مما يمنح الآخر، فزرع الذرة في التربة المتوسطة، والحنطة في الأرض الجيدة، والأرز في التربة السبخة، والقرع والقثاء وما أشبههما من النبات المتسلق حول الصخور وفوق رءوس الهضاب، وزرع البطاطا في التربة الجافة اليابسة، وشجيرات القطن في الربوات العالية، وقصب السكر في الأرض القوية المتينة، وغرس على ضفة النهر حول الكوخين أشجار الموز ذات الأوراق العريضة والأفياء الظليلة، ولم يفته أن يزرع لنفسه بضع شجيرات من التبغ يروح بتدخينها عن نفسه هموم دهره وآلامه.
وكان يذهب فوق ذلك إلى الغابات البعيدة والأحراش النائية لاحتطاب الحطب واجتلاب أخشاب الوقود، ويقضي جزءا عظيما من يومه في تمهيد الأرض وتذليلها، وتكسير الصخور ورصف الحصى، وإنشاء الممرات والمستدقات والجداول والأقنية، وكان يقوم بهذا العمل كله وحده راضيا مغتبطا لا أعينه عليه إلا بالرأي والإرشاد؛ لأنه كان يحب سيدتيه حبا جما، ويخلص لهما إخلاصا عظيما، وربما كان للغرام يد خفية في ذلك النشاط الغريب المنبعث في أنحاء نفسه - كما هو الشأن في أكثر حركات الناس وسكناتهم - فإنه كان مغتبطا كل الاغتباط بتلك الصلة التي نشأت بينه وبين الزنجية «ماري» في العمل، وبوده لو استحالت إلى صلة أخرى غيرها أدنى إلى نفسه وألصق بفؤاده، وقد تم له بعد عام واحد من اتصاله بها ما أراد، فقد سمحت له سيدتاه بالزواج منها، فبنى بها ليلة عيد ميلاد فرجيني، وسعد بجوارها سعادة لا تختلف في روحها وجوهرها عن السعادة التي يهنأ بها البيض المتمدينون.
Página desconocida
وكانت ماري فتاة نشطة حاذقة، ذكية الذهن، صناع اليد، متحلية بكثير من الصفات الفاضلة. وقد استفادت في مسقط رأسها «مدغشقر» العلم ببعض الصنائع اليدوية التي يزاولها الناس هناك، فكانت تجيد صنع السلال من لحاء أشجار القصب، ونسج المآزر والمطارف من خيوط بعض الأشجار الليفية، وكانت تحسن القيام على خدمة المنزل ومنظرته وترتيب أثاثه وتربية الطيور الداجنة، ورعي الماشية، ومزاولة الطبخ والغسل، فإذا فرغت من عملها حملت ما فضل عن حاجة البيت من فاكهة وحبوب - ولم يكن بالشيء الكثير - إلى سوق المدينة فباعته فيها ثم عادت ببضعة دريهمات تعطيها لسيدتيها.
أي إن المزرعة كان يعيش فيها امرأتان وطفلان وخادمان، وكلب للحراسة، وعنزتان للبن، وبضع دجاجات للبيض، لا أكثر من ذلك ولا أقل.
وكان لا بد للسيدتين من أن تعملا عملا يعينهما على عيشهما ويروح عنهما سآمة الوحدة ومللها، فكانتا تغزلان بياض نهارهما، وأحيانا سواد ليلهما على ضوء القمر، فاستطاعتا أن تجدا رزقهما، ولكن مقترا مكدودا، فأكلتا الدخن والذرة، وشربتا الماء الرنق، ولبستا القمص البنغالية الخشنة التي يلبسها الإماء في هذه الجزيرة، ومشتا على الأرض حافيتين غير منتعلتين إلا في اليوم الذي كانتا تذهبان فيه إلى الكنيسة في حي «بمبلوس» لأداء الصلاة، وقلما كانتا تذهبان إلى «بورلويس» عاصمة الجزيرة إلا في الدرجة القصوى من الضرورة حياء من نفسيهما، وفرارا من أعين الساخرين والهازئين، فإن فعلتا نالهما من الألم والامتعاض ما ينغص عليهما يومهما، ويستثير كامن حزنهما وألمهما، ولا يزال هذا القلق يساورهما حتى تعودا إلى مزرعتهما فإذا أشرفتا عليها، ورأتا على بعد منظر خادميهما المخلصين وهما يهبطان إليهما من قمة الجبل ليساعداهما على صعوده وتسلقه، وشعرتا بنسيم الحرية العليل يهب عليهما ويمازج أنفاسهما، نسيتا في هذا المعتزل المنفرد كل ما لحقهما وآلم نفسيهما من خشونة الناس وقسوتهم، وفضولهم وكبريائهم، وكأنما قد نبتتا في هذه البقعة بين نخيلها وأشجارها، ولم تريا طول حياتهما بقعة سواها.
ولقد عشت في كل جو وبيئة، وخالطت جميع الطبقات والأجناس، وعاشرت الناس أخيارا وأشرارا، وأعلياء وأدنياء، وحضرت مواقف الحب بين المتحابين، والصداقة بين المتصادقين، فلم أر في حياتي منظرا أجمل ولا أبهج ولا أحلى في العين ولا أرفع في النفس من منظر الحب والصداقة بين هاتين السيدتين الكريمتين، حتى كان يخيل إلي أحيانا أن نفسيهما قد استحالت إلى نفس واحدة يحملها جسدان، وكنت إذا حدثت إحداهما شعرت كأني أحدث الأخرى معها، وإذا حدثتهما معا كنت كأني أحدث نفسا واحدة ذات صورة واحدة ولون واحد، فلقد وحدت بينهما الهموم والآلام، ومازجت بين نفسيهما الوحدة والعزلة، والفكرة والرأي، والحاجة والمصلحة، والذكرى المؤلمة والبؤس المشترك، فنطقت كل منهما بما نطقت به الأخرى، وشعرت، وفكرت فيه، وكأن الله تعالى إذ زوى عنهما الأرض الفسيحة ذات الطول والعرض، وحرمهما فيه نعمة العيش الهنيء، أبدلهما منها تلك الروضة الغناء من الحب والإخلاص؛ لتعيشا فيها ناعمتين هانئتين، لا تمر بسمائهما غنيمة، ولا ترجف بأرضهما رجفة.
فإن اضطرمت بين جوانحهما في بعض الأحايين نار أقوى من نار الصداقة وأشد منها لهيبا واستعارا؛ لا تلبث أن تهب عاصفة من دينهما وتقواهما فتلوي بها عن سبيلها، وتطير بها إلى العالم الثاني، كما تتطاير الشعلة الملتهبة في جو السماء إذا فقدت مادتها التي تغتذي بها على وجه الأرض.
وكان أعظم ما يؤنسهما ويروح عنهما ويمازج بين شعورهما وإحساسهما رؤية طفليهما الصغيرين بين أيديهما يمرحان ويلعبان ويعدوان ويطفران، وينامان في مهد واحد، ويستحمان في إناء واحد، ويطير كل منهما شوقا إلى صاحبه إذا فقد مكانه وغاب عنه وجهه، كأنهما أخوان شقيقان، بل توأمان متشابهان.
وكثيرا ما كانت ترضع إحداهما ولد الأخرى فتمنحه من عطفها وحنانها ما تمنح ولدها، حتى قالت هيلين مرة لمرغريت: «سيكون لكل منا ولدان، ولكل من ولدينا أمان.» وكان اجتماع ذينك الطفلين اليتيمين على ثدي واحد - بعد ما فجعهما الزمان بأسرتيهما وحرمهما حنان أبويهما وعطفهما - سببا في نموهما وترعرعهما، وسرورهما وغبطتهما، كالصنوين الباقيين من شجرتين قد عصفت الريح بهما وبأغصانهما، إذا لقح أحدهما بالآخر أورقا وأثمرا بأبهى وأجمل مما لو بقي كل منهما في مكانه. •••
وكان يلذ لأميهما كثيرا الحديث عنهما، وعن مستقبل حياتهما، وعن اتصالهما بعقدة الزواج متى بلغا أشدهما، وكأنما قد بقيت في زوايا قلبيهما بقية من ذلك الألم الماضي، ألم حرمانهما الهناء الزوجي الذي كانتا تتعللان به في مؤتنف حياتهما، فهما تتعللان عنه برؤية ولديهما متمتعين به. إلا أن حديثهما هذا كان ينتهي أحيانا ببكائهما ونشيجهما حينما تذكران أنهما قد أساءتا إلى نفسيهما بطموح إحداهما إلى منزلة في الحياة فوق منزلتها، ونزول الأخرى فيها إلى مقام دون مقامها، فعاقبتهما الطبيعة على تمردهما وشذوذهما بهذا العقاب المؤلم الشديد الذي تقاسيانه وتذوقان مرارته.
ولكنهما لا تلبثان أن تسمعا صوت طفليهما الصغيرين يبغمان في مهدهما ويتناغيان حتى تعودا إلى سكونهما واستقرارهما، وتشعرا ببرد العزاء يتدفق في صدريهما، خصوصا عندما تذكران أن الهناء الذي فاتهما في ماضيهما لن يفوت ولديهما في مستقبل أيامهما، وكانتا تقولان إنهما سيقضيان حياتهما بعيدين عن مفاسد المدنية وشرورها وتقاليدها العمياء وأوهامها الباطلة، فلا ينالهما من أذاها شيء.
الفصل السادس
Página desconocida
حياة الطفولة
ولم أر فيما رأيت من عجائب الأشياء وغرائبها أغرب من تلك الصلة التي كانت بين هذين الساذجين الطاهرين، ولا أعجب من ذلك الامتزاج الذي كان بين روحيهما، فإذا شكا بول شكت فرجيني لشكاته، وإذا بكى لا يخفض عبرته ولا يسري حزنه إلا رؤيتها باسمة بين يديه، وكثيرا ما كانت تتألم بينها وبين نفسها لبعض الشئون فلا يدل على ألمها وحزنها إلا بكاؤه ونشيجه، فكانت إذا ألم بها ألم طوت عليه ضلوعها، وكاتمته نفسها، ضنا به أن تراه باكيا أو متألما.
وما جئت هنا مرة في شأن من الشئون إلا رأيتهما معا يحبوان، أو يدرجان، أو يتداعبان، أو يتماسكان، أو يستبقان إلى غاية، أو يتخاطفان لعبة، فلم يكن شيء من الأشياء بقادر على أن يفرق بينهما حتى ظلام الليل ووحشته، فقد كان لهما مهد واحد ينامان فيه معا عاريين كعادة الأطفال في هذه الجزيرة، وقد تلازما وتآخذا وتوسد كل منهما ذراع صاحبه كأنما يخشيان أن يفرق بينهما حادث من حوادث الدهر.
وكان أول ما نطقا به من الكلمات كلمتا الأخ والأخت، وهي كلمة جميلة جدا، ما خلق الله في الكلم أجمل ولا أحلى ولا أشرف معنى ولا أطرب نغمة منها، ويزيدها جمالا وحسنا صدورها من أفواه الأطفال الصغار، كأنهما عهد يأخذونه على أنفسهم منذ اليوم أن يكون كل منهما لصاحبه غدا، أو كأنها راية السلام البيضاء يرفعونها على رءوسهم ويلوحون بها في الآفاق.
ثم أخذت تلك العلاقة الطفلية البسيطة تستحيل مع الأيام إلى صداقة جدية، يشعر فيها كل منهما بحاجته إلى الآخر وإلى معونته ومساعدته، فبدآ يشتركان في خدمة المنزل ومناظرة شئونه، ومعاونة أميهما فيما هما بسبيله من طلب العيش ومعالجة القوت، كل فيما هيأته طبيعته له.
فلحقت فرجيني بالزنجية «ماري» تتعلم منها الطبخ والغسل والنسيج وإعداد المائدة وتهيئة الفراش وخياطة الملابس وصنع السلال، إلا أنها كانت تعنى بما يتعلق بأخيها بول قبل كل شيء، ولحق بول بدومينج يعينه بفأسه الصغيرة التي كانت لا تفارق عاتقه على فلح الأرض وحرثها، وتخطيطها وتقسيمها، وتحويل مياهها، وقلع حشائشها، وتسلق رباها، وتقليم أشجارها، فإذا عثر في طريقه بزهرة جميلة، أو فاكهة طيبة، أو طائر في عشه، أو حشرة في حفرتها، أو سمكة ملونة، أو محارة ظريفة، احتفظ بها في جيبه ليقدمها هدية لفرجيني حين يعود إليها.
وكانا على اختلاف شأنهما واستقلال كل منهما بعمله عن عمل صاحبه على اتصال دائم ببعضهما؛ فحيث وجدت فرجيني فقد وجد بول معها، أو على مقربة منها، أو منحدرا إليها، أو مشرفا عليها، أو هاتفا بها، ما من ذلك بد.
وأذكر أني كنت منحدرا ذات يوم من قمة الجبل، وكان الجو ماطرا مكفهرا، فرأيت فرجيني مقبلة نحو المنزل من أقصى الحديقة، وقد رفعت إزارها من خلفها وأسبلته على رأسها لتتقي به المطر المتساقط، فهرعت إليها لأساعدها على المسير، فلما دنوت منها رأيت أن ذلك الإزار الذي يضمها لا يضمها وحدها، بل يضم معها أخاها بول، فنظرا إلي ضاحكين متهللين كأنهما مغتبطان باهتدائهما إلى تلك الفكرة الجميلة التي استطاعا بها أن يلجئا من ذلك الغيث المنهمل إلى ظلة واحدة، فذكرني منظرهما هذا ومنظر رأسيهما الصغيرين المتلاصقين في ذلك الإزار بمنظر طفلي «ليدا»، وقد حفرا معا في محارة واحدة.
وكانت حياتهما بسيطة ساذجة؛ لأن ذهنهما كان بسيطا ساذجا خاليا من مشاغل الحياة المركبة وهمومها، فلا يفكران في شأن غير شأنهما، ولا يسبحان في محيط غير محيطهما، ولا ينتقلان بذهنهما من الحاضر إلى الماضي أو المستقبل، ولا تترامى أبصارهما إلى ما وراء الأفق المحيط بهما، كأنهما يظنان أن العالم ينتهي حيث تنتهي جزيرتهما.
ولقد أراحهما من عناء البحث والتفكير جهلهما وأميتهما وبعدهما عن هموم العلم ومشاغله، فلم يقدر لهما أن يسهرا ليلهما منكبين على المذاكرة والمدارسة حتى يغلبهما النوم فيناما في مكانهما، ولم يذرفا الدموع الغزار يوما من أيامهما أمام معضلة من معضلات العلم، أو مشكلة من مشكلاته، حتى تتقرح أجفانهما، ولم يثر غيظهما وحنقهما عجزهما عن التغلب على خصومهما في ميدان المجادلة والمناظرة حتى تنشق مرارتهما غيظا وحنقا، وما شعرا في ساعة من ساعات حياتهما بحاجتهما إلى أن يعرفا غير ما يعرفان؛ لأنهما يعلمان أنهما ما خلقا إلا ليعيشا سعيدين هانئين. وها هي ذي السعادة تظللهما بأجنحتها البيضاء، وتتدفق بحرا زاخرا تحت أقدامهما، وإلا ليؤديا واجب الحب والإخلاص لذينك الشخصين الكريمين عليهما، وها هما ذان يقومان لهما بهذا الواجب بأفضل ما يقوم به عبد لسيده، بل عابد لمعبوده.
Página desconocida
فما بهما من حاجة إلى من يعلمهما أن الكذب حرام؛ لأنهما لا يكذبان، ولا أن السرقة جريمة؛ لأن جميع ما يقع تحت متناول أيديهما ملك مشترك للجميع، ليس أحد أولى به من الآخر، ولا أن الجشع رذيلة؛ لأن ما يشتمل عليه كوخهما بسيط محدود لا يحتمل جشعا ولا نهما، ولا أن البر بالوالدين واجب؛ لأنهما كانا يعبدان أميهما عبادة هي فوق البر والإحسان، ولا أن الصلاة فريضة؛ لأنهما وإن لم يذهبا إلى الكنيسة إلا قليلا فقد كانا يصليان في كل أرض، وفي كل جو، في البيت والمزرعة، والقمة والرابية، والسهل والجبل، وفي بكور الأيام وأصائلها، وأوائل الليالي وأواخرها. •••
وكذلك أشرقت حياتهما الأولى إشراق الفجر المنير في صفحة الأفق مبشرا بيوم صحو جميل، وأخذت تمر بهما الأيام عذبة صافية جريان الغدير المترقرق على بياض الحصباء، سواء ليلها ونهارها، وصبحها ومساؤها.
وكان من شأن فرجيني أن تستيقظ صباح كل يوم مبكرة والطير لم يفارق وكره، فتحمل جرتها وتذهب بها إلى نبع صاف كان على بعد مرحلة من المزرعة فتستقي منه ثم تعود فتجلس لتهيئة طعام الإفطار، حتى إذا برزت الشمس من خدرها وأخذت تنفض بيدها غبار الظلام عن وجه الأرض، وتمسح جبين الطبيعة المكتئب بريشة أشعتها الذهبية، أقبلت مرغريت من كوخها هي وولدها فتبادلوا جميعا تحية الصباح ثم اصطفوا لأداء الصلاة، وبسطو أيديهم إلى السماء ضارعين إلى الله - تعالى - أن يكلأهم بعين رعايته، ويبسط عليهم جناح رحمته، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشدا. فإذا انتهوا من صلاتهم خرجوا خارج الكوخ لتناول الطعام على مائدة جميلة من العشب الأخضر تحت ظلة دانية من الأغصان المتشابكة، تتساقط عليهم قطع النور من فجواتها كأنها النثار الفضي اللامع.
فكان أثر ذلك الغذاء الطبيعي البسيط تحت هذه السماء الصافية، وفوق تلك الأرض الندية المخضلة عظيما في نمو الولدين وترعرعهما، ونضرة وجوههما، وحلاوة ملامحهما، فلم تبلغ فرجيني الثانية عشرة من عمرها حتى استقام عودها، واعتدل قوامها، وتهدل شعرها الأصفر اللامع على كتفيها كأنما قد نسج من خيوط الشمس، وأضاءت عيناها الزرقاوان بنور سماوي غريب كأنه قبس من النور الإلهي، فإن ابتسمت ابتسمتا معها كأنهما ثغران ضاحكان، وإن قطبت سبحتا وحدهما في جو السماء حتى تلتقي زرقتهما بزرقتها.
أما بول فقد كانت قامته أطول قليلا من قامة فرجيني، ونظره أحد من نظرها، وأنفه أكثر شمما من أنفها، ولونه أقرب إلى السمرة من لونها؛ أي إن ملامحه كانت تذهب مذهب الرجولة في تكونها واستدارتها، وكانت تنبعث من عينيه نار من القوة والنشاط تكاد تلتهب التهابا لولا تلك الأهداب الندية الحافة بهما.
وكان لا يزال ثائرا مهتاجا، ما يهدأ ولا يسكن حتى تقبل عليه فرجيني وتجلس بجانبه، فإذا هو الطفل الصغير بساطة وسذاجة ووداعة ولطفا.
وكثيرا ما كانا يجلسان معا صامتين هادئين ساعات طوالا على ضفة نهر، أو حافة ينبوع، أو ربوة عالية، أو قمة مشرفة، وقد اضطجع كل منهما بجانب الآخر ومد قدميه العاريتين، فكأنهما تمثال رخامي عتيق من تماثيل أولاد «بينوب»، وكأن حياتهما حياة الملائكة الأبرار في عالمها العلوي، لا تشعر بحاجتها إلى الحروف والكلمات في التعبير عن شعورها وإحساسها.
ولم يتكلمان وقد قامت لهما نظراتهما المتمازجة وابتساماتهما المتماوجة مقام الألسنة في نطقها وإفصاحها، ولم يكن حبهما حبا صناعيا ولا متكلفا فيحتاجا إلى استدامته واستبقائه وتأريث ناره في قلبيهما بالملق والدهان، والتدليل والترفيه، وخلابة الألفاظ وسحر البيان، لا، بل لو سئل أحدهما عن الحب وتعريفه وصفاته لما استطاع أن يجيب بشيء؛ لأنه لا يفهم من الحب سوى أنه في حاجة إلى بقاء صاحبه بجانبه لا يفارقه، ولا يغيب عن وجهه، لا يزيد على ذلك ولا ينقص شيئا، ولقد استقر هذا الشعور في نفسيهما وملك عليهما حواسهما وخوالجهما، فلم يفكرا في تشخيصه وتحديده، واستعراض صوره وألوانه، فكان أشبه شيء بالإيمان في قلوب العجائز، والإلهام في أنفس الحيوان، والعبقرية في أذهان الخاملين المغمورين، فهما ينعمان بحب هادئ لطيف لا جلبة فيه ولا ضوضاء ولا تجاذب ولا تآخذ، ولا شكوى ولا عتاب، ولا سهر ولا قلق، ولا خوف من الطوارق، ولا خشية من الفواجئ.
غير أن هيلين - وقد رأت فتاتها تنمو وتترعرع ويتلألأ وجهها بتلك المحاسن الباهرة - بدأت تفكر في أمرها وأمر مستقبلها، وتقول في نفسها: ماذا يكون مصير هذه الفتاة المسكينة غدا إن عدت علي عوادي الدهر، وفرقت المنية بيني وبينها، وخلفتها وحدها هنا في هذه القفرة المجدبة بين هذه الخلائق الغريبة وحيدة منقطعة لا سند لها ولا معين؟
وكانت لها في فرنسا عمة مثرية ثراء واسعا، إلا أنها كانت امرأة متكبرة تياهة شديدة الذهاب بنفسها، مدلة بجاهها ونفوذها متشددة في آرائها وأفكارها، فنقمت عليها أشد النقمة لاتصالها بذلك الفتى الفقير الذي اختارته زوجا لها، واعتبرت حادثتها هذه نكبة من أعظم النكبات التي حلت بها وبأسرتها، فأبت أن تغفر لها زلتها بدموعها وآلامها، وضراعتها ومناشدتها، فسافرت وقد آلت على نفسها ألا تلجأ إليها في شأن من شئون حياتها ما تردد لها نفس على وجه الأرض، أما الآن وقد أصبحت أما يعنيها من أمر فتاتها ما يعني الأمهات من أمر فتياتهن، فلم تر بدا من أن تحمل نفسها على ذلك المكروه الذي عافته برهة من الزمان، فكتبت إلى تلك العمة القاسية كتابا طويلا أفضت إليها فيه بخواطر نفسها، ووساوس قلبها، وقصت عليها قصة حضورها إلى هذه الجزيرة، وما كان من وفاة زوجها على أثر حضورها وحياتها الشقية التي تحياها الآن من بعده وحيدة منقطعة لا ناصر لها ولا معين، وظلت تحدثها حديثا طويلا عن ابنتها وما تخشاه عليها في مستقبل حياتها إن نشب بها ظفر جارح من أظفار الدهر، وفرقت المنية بينها وبينها، ثم قالت لها في ختام كتابها: «إن كنت ترين أنني لا أزال مذنبة بعد ذلك، وأن تلك الدموع السخية التي رويت بها ثرى الأرض اثني عشر عاما لا تكفي لمحو زلتي من صحيفة أعمالي: فارحمي هذه الفتاة المسكينة من أجلها لا من أجلي فهي حفيدة أخيك، وغصن دوحتك، والبقية الباقية من أسرتك.»
Página desconocida
لبثت تنتظر ردا على كتابها فلم يأتها، فأتبعته بآخر، ثم بآخر، وضرعت في ذلك ضراعة لم يكن مثلها مما يهون على مثلها لولا عاطفة الأمومة ورحمتها، حتى كانت سنة 1738 - أي بعد قدومها هنا باثني عشر عاما وبعد مرور ثلاث سنوات على قدوم مسيو «دي لابوردونيه» حاكما على الجزيرة - إذ علمت أن ذلك الرجل يسأل عنها ليسلمها كتابا ورد عليها من عمتها، فاستطيرت فرحا وسرورا، وعلمت أن أيام شقائها قد انتهت، وأن الله قد رحمها ورثى لبؤسها وشقائها، وهرعت إلى «بورلويس» لمقابلته، فدخلت عليه في ذلك الثوب البنغالي الخشن الذي اعتادت أن تلبسه في بيتها غير حافلة بشيء إلا بتلك السعادة التي ستقدمها عما قليل لابنتها، فاستقبلها الرجل استقبالا جافا خشنا، وهي المرأة الشريفة الطاهرة التي تغضي العيون بين يديها إجلالا وإكبارا، والبائسة المسكينة التي تهابها النفوس مرثاة لها ومرحمة لبؤسها وشقائها، ولم يزد على أن أومأ إليها برأسه إيماءة خفيفة، ثم تقدم نحوها بعظمة وكبرياء وأعطاها كتابها، فاختطفته من يده وأنشأت تقرؤه بلهفة وسرور، إلا أنها لم تقرأ منه بضعة أسطر حتى امتقع لونها، وارتعشت يدها، وترنحت في مكانها ترنج الشارب الثمل، فقد كتبت إليها عمتها تؤنبها وتقرعها تقريعا مؤلما مهينا، وتشمت بها وبمصيرها، وتقول لها هذا جزاء تمردك وعصيانك وخروجك عن أهلك وقومك، وانقيادك إلى شهوتك البهيمة واسترسالك فيها استرسالا دفع بك إلى أحضان ذلك الفتى الوضيع المهين الذي لا يليق به أن يحل سيور حذائك، حتى جلبت على نفسك وعلى أهلك العار الذي لا يمحى، ولقد أحسنت كل الإحسان بمغادرتك هذه البلاد وفرارك إلى تلك الجزيرة النائية المنقطعة لتدفني فيها نفسك وعارك إلى الأبد، وما موت زوجك، وولادة ابنتك، وشقاء عيشك، والوساوس التي تعتلج في صدرك خوفا على فتاتك وعلى مستقبلها، إلا عقوبة أنزلها الله بك ليمحص عنك ذونبك ويمهد لك سبيل غفران سيئاتك، فاصبري لها ولا تجزعي حتى يقضي الله قضاءه فيك.
ثم أنشأت تدل عليها بنفسها وتفاخرها بعفتها وطهارتها وترفعها وإبائها، وأنها قضت أيام حياتها عانسا متبتلة ما تزلق بها شهوتها في هوة من تلك الهوى التي تزلق فيها أقدام النساء الجاهلات، ولا تسلم قيادها إلى رجل من الرجال - كائنا من كان - ضنا بحريتها أن تعبث بها أيدي المطامع والأهواء.
وكانت كاذبة فيما تقول، فهي امرأة دميمة شوهاء، غريبة الأخلاق والأطوار، ليس لها من المزايا إلا ثروتها الطائلة، وجاهها الواسع، ومكانتها من البلاط الملكي، وكان كبرياؤها الكاذب يأبى عيها إلا أن تتزوج من رجل من ذوي البيوتات العظيمة والألقاب الضخمة، وليس بين هؤلاء جميعا من يرضى أن يبيعها نفسه بيعا مهما بلغ من رقة الحال، وشظف العيش، ولم يزل هذا شأنها حتى تجاوزت سن الزواج وضاعت بين سخافتها وكبريائها.
ثم ختمت كتابها بقولها: «لا بد لك أن تعملي لنفسك، فقد علمت أنك في جزيرة صالحة للعمل والاستثمار، وأن جميع المهاجرين الذين يؤمونها يعودون منها بالثروة الطائلة والربح الكثير، على أنني قد كتبت إلى مسيو دي لابوردونيه حاكم الجزيرة أوصيه بك خيرا، فاعتمدي عليه وعلى معونته ولا تكتبي إلي بعد اليوم.»
وكانت صادقة في كلمتها هذه، فإنها كتبت إلى ذلك الرجل كتابا توصيه بها فيه، إلا أنها ملأته بذمها وثلبها، والاستطالة عليها في عرضها وشرفها، كأنها تلتمس لنفسها عذرا عنده في قسوتها عليها، وعنفها بها، وضنها عليها بالمعونة والمساعدة.
فكان من أثر ذلك في نفسه أن ازدراها واحتقرها، وتجهم لها حين رآها، ثم ودعها بمثل ما استقبلها به، لم يسألها عن شأن من شئونها، ولم يمنحها غير وعود كاذبة كان ينطق بها بلهجة جافة خشنة مملوءة ضجرا ومللا، فكأنما أوصته بقتلها والقضاء عليها.
الفصل السابع
العزاء
عادت هيلين إلى المزرعة ونفسها تسيل لوعة وأسى، فما بلغت كوخها حتى ألقت بالكتاب على المنضدة وتهافتت على سريرها باكية منتحبة، فهرعت إليها صديقتها تسألها ما شأنها، فأشارت إلى الكتاب وقالت ها هي ذي خلاصة حياتي من أولها إلى آخرها. ولم تكن مرغريت تحسن القراءة فأتتها بالكتاب فأنشأت تقرؤه عليها وفؤادها يتمزق لوعة وأسى، فقاطعتها مرغريت وأقبلت عليها تقول لها: متى تخلى الله عنا يا هيلين فنلجأ إلى الناس في شئوننا، ونعتمد عليهم في رزقنا، ونحن أغنياء عنهم بما هيأ الله لنا من القوت في هذه الجنة الصغيرة التي نعيش فيها، فما فينا من يشكو جوعا أو عطشا، ولا من يمشي عاريا أو حافيا، ولا من يبيت مغتما أو محزونا، فروحي عن نفسك، فالله أرحم بك وبنا من الأقارب والأصدقاء، ثم عجزت عن امتلاك نفسها ومتابعة حديثها، فاختنق صوتها بالبكاء فتهافتت هيلين على عنقها وضمتها إلى نفسها وظلت تقول لها: آه يا صديقتي! آه يا صديقتي!
وكانت فرجيني واقفة بجانبهما، فأثر في نفسها هذا المنظر المحزن، فاستعبرت باكية، وظلت تتناول يد أمها مرة ويد مرغريت أخرى فتقبلهما وتبللهما بدموعها، وتقول لهما: أرجو ألا يكون ذلك من أجلي! فبكى لبكائها الزنجيان، وكانا واقفين عند الباب واشتد نحيبهما ونشيجهما، أما بول فقد عصفت في رأسه عاصفة الغضب وظل يضرب الأرض بقدميه ويشير بيديه متهددا متوعدا لا يعلم من يهدد ولا من يتوعد، ولا على أي رأس من الرءوس يرسل صاعقة غضبه؛ لأنه لم يفهم مما كان شيئا، فكان هذا المأتم الغريب في تلك الساعة الرهيبة مظهرا من مظاهر الإخلاص والولاء بين قوم جمعتهم جامعة البؤس والشقاء، ووحدت بين قلوبهم الهموم والآلآم، وما اجتمعت القلوب على شيء هو أجمع لشملها وأوثق لرباطها من اجتماعها حول مواقف الهموم والأحزان، فسري عن هيلين قليلا، وضمت بول وفرجيني إلى صدرها وقالت لهما: إنكما وإن كنتما يا ولدي سبب أحزاني وآلامي ولكن الشقاء لم يأتني منكما. فلم يفهما شيئا مما تقول، ولكنهما علما أنها قد هدأت وسكنت، وأنها تبتسم لهما، فاعتنقاها وقبلاها.
Página desconocida
وما لبثوا جميعا أن عادوا إلى سرورهم وغبطتهم، ولعبهم ومرحهم.
وكانت تلك الحادثة أشبه شيء بسحابة اعترضت وجه الشمس ساعة ثم اضمحلت.
الفصل الثامن
الاستعمار الأوروبي
مضت على ذلك أيام والولدان ينموان في جوهما نمو النبات المحيط بهما، وينمو معهما طيب أخلاقهما وحسن سجاياهما، فبينا فرجيني جالسة في الكوخ ذات يوم تهيئ طعام الإفطار لأسرتها كعادتها، والشمس لا تزال في خدرها، وأماها قد ذهبتا مع دومينج لأداء صلاة الأحد في كنيسة «بمبلموس» وبول في الحديقة يشذب بعض أشجارها، وماري وراء الكوخ تشتغل ببعض شئونها، إذ دخلت عليها زنجية مسكينة آبقة كأنها الهيكل العظمي نحولا وهزالا، ليس عليها من الثياب إلا خرقة بالية تدور بحقويها فجثت على ركبتيها بين يديها باكية منتحبة وأنشأت تقول لها: الرحمة يا سيدتي فإني أكاد أموت جوعا، وقد مر بي يومان وأنا أجوب هذه الأحراش والغابات أتوارى مرة وأظهر أخرى، وأقتات كل ما هو فوق التراب؛ مخافة أن تقع علي عيون بعض الفضوليين من الصيادين فيعيدوني إلى سيدي، والموت أهون علي من أن أعود إليه، فهو رجل قاس غليظ لا يزال يجلدني ويمزق لحمي بسوطه كلما بدا له أن يفعل ذلك.
ثم كشفت ثوبها عن جسمها وأشارت إلى مواضع الضرب منه فإذا خطوط حمراء ملتهبة لا يستطيع نظر الناظر أن يثبت أمامها لحظة واحدة، ثم قالت: ولقد حدثت نفسي كثيرا بالانتحار فما كان يمنعني منه إلا الخوف والجزع، ثم سمعت الناس يحدثون عنكم حديثا حسنا، ويقولون إنكم وإن كنتم من هذا الجنس الأبيض المخيف ولكنكم قوم محسنون راحمون، فأضرع إليك يا سيدتي أن ترحميني وتعودي علي بلقمة أتبلغ بها، وأن تحولي بيني وبين الشقاء! وهنا اشتد بكاؤها ونحيبها فأوت لها فرجيني ورقت لها رقة شديدة، ونهضت إلى الطعام الذي كانت أعدته لأسرتها فأتتها به، فالتهمته في لحظات قليلة، وأخذ وجهها يتطلق فرحا وسرورا، فقالت لها فرجيني: أتحبين أن أذهب معك إلى سيدك وأشفع لك عنده عله يعفو عنك ويرحمك ويكون لك في مستقبله خيرا منه في ماضيه؟ وما أحسبه إلا فاعلا حين يرى بؤسك وشقاءك ومنظر جسمك المعذب المقروح؟ فشكرت لها الجارية فضلها ورحمتها وقالت لها: سأتبعك يا سيدتي حيث شئت، فأنت ينبوع الرحمة والإحسان.
فهتفت فرجيني ببول فحضر، فحدثته حديث الجارية والرأي الذي رأته لها، فوافقها على رأيها واقترح عليها أن يرافقها في رحلتها، ثم سارا معا والجارية تتقدمهما وتخترق بهما الغابات والأجمات في ممرات مستدقة غامضة تعرفها. وكانت تعترضهما في مسيرهما بعض هضبات عالية كانا يجدان مشقة عظمى في تسلقها حتى أشرفا وقت الظهيرة على ضفة النهر الأسود حيث مقام الرجل، فانحدرا إليه، وهناك شاهدا بنية عظيمة فخمة تحيط بها حدائق غناء، وأدواح ملتفة، ومزارع منبسطة، وعبيد كثيرون منتشرون في كل مكان يحرثون ويحصدون، ويحفرون وينقبون، ويخوضون الأوحال، ويحملون الأثقال، ويقطعون الصخور، ولمحا صاحب المزرعة يتمشى بينهم مشية الخيلاء و«غليونه» في فمه ينفث منه الدخان، وبيده عصا خيزران طويلة، وهو رجل طويل القامة، مهزول الجسم، غائر العينين؛ مقرون الحاجبين، أخضر اللون، مقطب الجبين، كأنما قد جثمت روحه الشريرة بين عينيه واستعدت للوثوب على كل من يدنو منها، فارتاعت فرجيني لمنظره المرعب المخيف، إلا أنها لم تجد بدا من التقدم.
فشمت نحوه خائفة مضطربة تعتمد على يد بول والجارية من خلفهما تتبعهما حتى بلغته، فجثت بين يديه وأخذت تضرع إليه أن يعفو عن جاريته المسكينة ويرحمها، وتناشده الله والكتاب في ذلك، فلم يكترث في مبدأ أمره لمنظر فتى وفتاة فقيرين زريين في ملبسهما وهيأتهما، إلا أنه لما وقع نظره على فرجيني ورأى منظرها البديع الجذاب، وشعرها الأصفر الذهبي المسترسل على ظهرها، وتلك العصابة الزرقاء التي تدور بجبينها الأبيض المشرق، ورأى ماء الحياء يترقرق في وجهها ترقرق الطل في ورقات الورد، وسمع صوتها الرخيم المتهدج كأنه ينبعث من آلة موسيقية شجية، بهت وشده وأخرج غليونه من فمه، وابتسم ابتسامة نكراء، وتقدم نحوها قليلا وألقى عليها نظرة فاجرة مريبة، وقال لها: قد عفوت عنها أيتها الفتاة الجميلة، لا من أجل الله ولا من أجل الكتاب بل من أجلك أنت ...
فأشارت فرجيني إلى الجارية أن تتقدم لتشكر لسيدها نعمته وفضله، ثم انكفأت راجعة تركض ركوض الهارب وبول يتبعها حتى ارتقيا الجبل الصغير الذي هبطا منه، وجلسا تحت دوحة من أدواحه يستريحان، وكان التعب قد نال منهما منالا عظيما، فقد قطعا في ذلك اليوم خمسة فراسخ في أرض صخرية وعرة لا يستريحان فيها ولا يهدآن، ولا يتبلغان بطعام ولا شراب، فقال بول لفرجيني ها قد مال ميزان النهار وبيننا وبين مزرعتنا مفازة منكرة لا أحسب أننا نستطيع قطعها قبل الغروب. وليس في هذه البطحاء المحيطة بنا شجرة واحدة ذات ثمر صالح نطعمه أو ننقع ظمأنا بعصارته، وأنت ظامئة جائعة لا طاقة لك بالصبر على أكثر مما صبرت، فخير لنا أن نعود إلى مزرعة مولى الجارية ونطلب إليه أن يمدنا بشيء من الطعام والشراب، وما أحسبه ضانا علينا بهما.
فوجمت فرجيني وقالت: لا يا بول، إن هذا الرجل قد ملأ قلبي خوفا ورعبا، وما أحب أن أرى وجهه مرة أخرى، واذكر تلك الكلمة التي كانت تقولها لنا أمي دائما: «إن خبز الأشرار يملأ الفم حصى»، فلنمض في سبيلنا، وما أحسب أن الله يخذلنا أو يتخلى عنا.
Página desconocida
قال: وما العمل، والشقة بعيدة، والمنال وعر، والأرض قاحلة جدباء لا ماء فيها ولا ثمر ولا شيء مما يتبلغ به المتبلغ، أو يتعلل به الظامئ.
قالت: إن الله الذي يسمع زقزقة العصفور الصغير في عشه فيرسل إليه الحبة التي تقوته والقطرة التي ترويه سيسمع دعاءنا ويرد لهفتنا، وما ذلك عليه بعزيز.
ثم سارا في طريقهما، فما أبعدا إلا قليلا حتى سمعا خرير ماء على البعد، فانتعشا وصاحا بصوت واحد: «إن ها هنا ماء»، وتبعا الصوت حتى وصلا إلى صخرة عظيمة عالية يتفجر من صدوعها ماء زلال رقراق كأنه ذوب البلور في شفوفه ولمعانه، فشربا منه حتى ارتويا، ووجدا من حوله بعض الأعشاب التافهة فأصابا منها قليلا ثم جلسا في مكانهما.
وإنهما لكذلك إذ لمحا على البعد نخلة سامقة من نخيل الجوز، والجوز أنواع كثيرة متعددة، وهذا النوع منها دقيق مستطيل لا يزيد حجم ساقه عن حجم ساق الإنسان إلا قليلا، وربما ذهب في الهواء ستين قدما أو أكثر، وله في شعفاته لفائف ضخمة متراكمة أشبه بلفائف الكرنب، تحمل في جوفها طلعا أبيض ناصعا، حلو الطعم، جيد الغذاء.
فابتهجا بها إذ رأياها، وهرعا إليها، وكانا بين أن يصعداها - وهو ما لا سبيل إليه - أو يقطعاها - وهو ما تعيا به قوتهما - عقبة كئود؛ لأن جذعها على رقته ونحافته مؤلف من خيوط ليفية متداخلة متينة النسيج، سميكة القشرة، تعيا بها الفئوس القاطعة، فلم يبق أمامهما إلا أن يحرقاها فتهوى بين أيديهما فيظفرا بثمرها، ولم يكن لديهما نار ولا شيء مما تقتدح به النار، وليس في تلك المدرة جميعها - على كثرة صخورها وأحجارها، واختلاف صورها وأشكالها - حجر من أحجار الاقتداح، ففتقت الحاجة لبول حيلة من أغرب الحيل وأبدعها، وقديما فتقت الحاجات حيل الرجال، واستثارت دفائن ذكائهم وفطنتهم، وما انتفع العالم في جميع شئونه وأحواله بمثل ما تفتقه الحاجات والضرورات، ولا نبتت أغراس المعارف والعلوم والمستكشفات والمخترعات إلا في تربة الفقر والإقلال، فعمد إلى ظر رقيق الأطراف مما يقوم لدى سكان تلك الأصقاع مقام المدى في منفعتها وجدواها، فبرى به طرف غصن يابس متين حتى صيره كالسهم، ثم عمد إلى غصن آخر من نوع غير نوعه فثقبه ثقبا دقيقا بحد ذلك الحجر نفسه ثم أدخل طرف الغصن الأول في ثقب الغصن الثاني بعدما شد عليه بقدمه وظل يديره بكلتا يديه بسرعة عظيمة، فما هي إلا لحظات حتى التهب الغصنان وانبعث منهما دخان وشرر، فجمع بضعة أعواد يابسة وأوراق جافة وألقاها على النار فاشتعلت، فأدناها من ساق النخلة فنشبت بها ولم تلبث إلا قليلا حتى هوت بين يديه هوي الكوكب الناري من سمائه، فأخذ يفض اللفافات عن طلعها الأبيض النضير، وجلس هو وفرجيني يشتويان ويأكلان ألذ طعام وأهنأه حتى اكتفيا، ومرت بهما ساعة سرور وغبطة نسيا فيها بؤسهما وشقاءهما، ثم ما لبثا أن جمعا شتات نفسهما وأخذا يتمثلان حيرتهما وضلالهما، وبعد الشقة بينهما وبين أرضهما، ويذكران قلق أميهما عليهما، وجزعهما لغيابهما، ويقولان في نفسهما: لا بد أن تكون الظنون قد ذهبت بهما مذاهب سيئة في شأنهما حينما عادتا من الكنيسة إلى المزرعة فلم تجداهما، ولم تعرفا الوجه الذي ذهبا فيه.
ثم نهضا من مكانهما وأخذا يدوران بأنظارهما يمنة ويسرة ليتعرفا الطريق التي أتيا منها فأضلاها، فسقط في أيديهما ولم يعرفا كيف يعودان، وكان بول أهدأ من فرجيني روعا وأثبت جأشا، فظل يعللها ويهدئ روعها ويقول لها إن كوخنا يكون دائما في مثل هذه الساعة تحت قرص الشمس، فإذا نحن اتجهنا جهة الشرق لا نحيد عنه يمنة ولا يسرة، ثم إذا صعدنا هذا الجبل المثلث الرأس الذي نراه أمامنا لا نلبث أن نجد أنفسنا في مزرعتنا.
وأخذا يسيران في الوجهة التي توهماها، فمرا بغابات كثيرة، وأدواح ملتفة، وهضاب عالية، وأنهار جارية، لم يطأ السائحون لها أرضا حتى اليوم، وظلا على ذلك ساعتين حتى اعترض طريقهما نهر واسع يتدفق ماؤه تدفقا، فذعرت فرجيني لمنظره ومنظر الصخور السوداء الجاثمة في مجراه، واستحال عليها أن تضع قدمها فيه، فلم ينشب بول أن حملها على ظهره وخاض بها الماء لا يحفل بتياره المتدفق، ولا بصخوره المتزلقة، وظل يقول لها وهو سائر بها: لا تخشي شيئا يا أختاه، فإني جلد قوي لا يعجزني حمل شيء من الأشياء كيفما كان شأنه، وأشعر أني أزداد قوة وجلدا حين أكون معك، وأستطيع أن أقول لك إن نفسي كانت تحدثني بشر عظيم لذلك الرجل مولى الجارية حينما ظننت أنه احتقرك وازدراك فلم يحفل بك ولا برجائك، ولو أنه فعل لبطشت به بطشة لا أبالي بعواقبها.
فاضطربت فرجيني وقالت له: ولكنك لا تفعل يا بول إلا إذا أردت أن تكون غلاما شريرا، دع الأشرار يا صديقي وشأنهم، لا تهجهم، ولا تعترض طريقهم، عسى أن يموت شرهم في صدورهم حينما لا يجد له مضربا ولا منتدحا، ثم تنهدت ورفعت رأسها إلى السماء وقالت: آه يا رب! لم لم تجعل طريق الخير سهلا لينا كطريق الشر؟
ولم يزل سائرا بها حتى بلغ الضفة الأخرى، وأراد أن يستمر في سبيله حاملا إياها على ظهره حتى يصعد بها الجبل المثلث الرأس اعتزازا بقوته وبأسه، فألحت عليه ألا يفعل، فأنزلها.
واستمرا سائرين في أرض وعرة كأداء كاطراد السيف تحفى فيها النعال، وتدمى الأقدام، وكانت فرجيني قد نسيت نعلها في كوخها حينما ورد عليها من أمر تلك الزنجية المسكينة ما أذهلها وطار بلبها، فأضر بها الجهد، وأدمى قدميها المسير، فلم تزل تتحامل على نفسها حتى وصلت إلى جدول ماء جار، فترامت على ضفته وأخذت تنضح قدميها بمائه، ثم مدت يدها إلى شجرة فرعاء حانية عليها فاقتطعت بعض أعوادها وأوراقها ونسجت منها لنفسها ما يشبه النعل فانتعلته فهدأ بعض ما بها، وأقبلت على بول تقول له: ها هي ذي الشمس قد أشرفت على المغيب، ولا تزال الشقة بيننا وبين المزرعة بعيدة جدا، وقد نال مني التعب، ولم يبق لي جلد على المسير، فاتركني وحدي هنا واذهب إلى المزرعة لتخبر أهلنا خبرنا فيطمئنوا علينا، وابعثوا إلي من قبلكم من يحملني إليكم، فأبى بول مستعظما الأمر، وقال: الموت أهون علي من أن أتركك وحدك في هذا المكان الموحش المقفر، فسأبقى معك ما بقيت، فإن أظلنا الليل قطعت لك نخلة من نخيل الجوز فأطعمتك ثمرها كما فعلت الغداة ثم نسجت لك من أعوادها وأغصانها مهادا لينا تنامين عليه وأنا ساهر بجانبك حتى الصباح.
Página desconocida