إهداء الرواية
1 - جزيرة موريس
2 - الشيخ
3 - مدام دي لاتور
4 - مرغريت
5 - الحياة الطبيعية
6 - حياة الطفولة
7 - العزاء
8 - الاستعمار الأوروبي
9 - السعادة
10 - العمل
11 - التاريخ
12 - مخدع فرجيني
13 - ليالي الشتاء
14 - آدم وحواء
15 - الخفقة الأولى
16 - الرسالة
17 - الوداع
18 - السفر
19 - أوروبا
20 - الطبيعة
21 - الحديث
22 - السفينة
23 - العاصفة
24 - الكارثة
25 - أحزان بول
26 - الموت
27 - الإيمان
28 - النهاية
بول وفرجيني
إهداء الرواية
1 - جزيرة موريس
2 - الشيخ
3 - مدام دي لاتور
4 - مرغريت
5 - الحياة الطبيعية
6 - حياة الطفولة
7 - العزاء
8 - الاستعمار الأوروبي
9 - السعادة
10 - العمل
11 - التاريخ
12 - مخدع فرجيني
13 - ليالي الشتاء
14 - آدم وحواء
15 - الخفقة الأولى
16 - الرسالة
17 - الوداع
18 - السفر
19 - أوروبا
20 - الطبيعة
21 - الحديث
22 - السفينة
23 - العاصفة
24 - الكارثة
25 - أحزان بول
26 - الموت
27 - الإيمان
28 - النهاية
بول وفرجيني
الفضيلة
الفضيلة
تعريب
مصطفى لطفي المنفلوطي
إهداء الرواية
يعجبني من الفتى الشجاعة والإقدام، ومن الفتاة الأدب والحياء؛ لأن شجاعة الفتى ملاك أخلاقه كلها، ولأن حياء الفتاة جمالها الذي لا جمال لها سواه، فأنا أهدي هذه الرواية إلى فتيان مصر وفتياتها؛ ليستفيد كل من فريقيهما الصفة التي أحب أن أراها فيه؛ وليضعا حياتهما المستقبلة على أساس الفضيلة كما وضعها بول وفرجيني.
مصطفى لطفي المنفلوطي
ترجمة المؤلف
بقلم محمود خيرت
1
في سنة 1852 احتفلت حكومة الجمهورية الفرنسية بإقامة تمثال من البرنز صنعه «دافيد الشهير» في أحد ميادين ثغر الهافر لرجل جليل عظيم الهيبة، تتألق ملامحه بالبشر والنور، وتفيض عيناه بالوداعة واللطف، وهو ممسك بإحدى يديه قرطاسا وبالأخرى قلما، وعند قدميه صبي وصبية عاريان يتصافحان تحت ظل شجرة من أشجار المناطق الحارة.
من هما ذانك الصبيان المتصافحان؟ وما معنى تلك الشجرة التي ليست من نبات هذه البلاد؟ وما عسى أن يكون ذلك الرجل الذي كتب له الحظ أن يكون محلا لعناية «دافيد» واهتمام الجمهورية؟
أرادت فرنسا بأسرها أن تخلد ذكرى رجل من أبنائها قضى حياته محبا للحرية واستقلال الرأي، وإن ناله بسببهما الأذى، منقبا عن الحكمة وهو يتفانى في تمجيدها، عاشقا للطبيعة وهو يتغنى بمحاسنها، ينسق قلمه القدير كل يوم للأدب إكليلا يانعا من أزاهير الجمال، وتسمو به نفسه الطاهرة الأبية إلى سماء الإنسانية للعمل على تخفيف ويلات البشر وآلامهم، فكان رجلا ذكيا عالي الهمة، حكيما، كبير النفس ، يعرف للطبيعة حقها وفضلها، كاتبا فذا جم الشعور، ملأت فراغ قلبه فيوض الرحمة بالبشر إلى حد يجعله في صف القديسين.
وما كان هذا الرجل بحاجة إلى أثر يخلده؛ وفي رأسه وقلمه ونفسه مثل تلك الآثار الخالدة يحيا بها على تعاقب السنين.
2
ولد برناردين دي سان بيير في التاسع عشر من شهر يناير سنة 1727 بالهافر، من أبوين كانا يدعيان اتصالهما بالنبيل أوستاش دي سان بيير، حتى إنه ولع من صغره بهذه النسبة فانتحل لنفسه لقب «شفالييه»، وأخذ يحلي صدره بأوسمة يصنعها بنفسه تتفق مع شرف هذا اللقب.
ولقد كان في صباه رقيق المشاعر، عصبي المزاج، كثير الجري وراء الخيال، حتى طمحت نفسه إلى تأسيس جمهورية واسعة من طائفة العاثرين البائسين؛ يكون هو واضع شريعتهم ومنظم حياتهم؛ ليضمن لهم سعادة العيش، فكان في هذا الخاطر مثل جان جاك، إلا أن هذا كان يرى أن يعود الناس إلى فطرتهم الأولى طاهرين من الأرجاس، خالصين من الأدران، فيعيشون عيشة صافية هنية في ظل شريعة الكون العامة التي سنها الخالق، أما برناردين فكان يرى أن يضع لهم نظاما جديدا يحارب به قسوة الحياة الحالية وويلاتها.
ولكنه كان لا يزال طفلا قليل الحول والحيلة، حتى إن أحد أعمامه - وكان قبطانا لسفينة تجارية - أخذه معه إلى جزر المارتينيك، ولكنه عاد منها مثقلا بالهموم وكراهية العيش، فسلمه أبوه لجزويت كاين.
وعند ذلك عادت تلك الفكرة السامية إلى رأسه الصغير لما كان يسمعه من أحاديث المبشرين عن رحلاتهم في البلاد المتوحشة، حتى تمنى لو أنه يقفو أثرهم فيهدي إلى سبيل السعادة فريقا من عباد الله الأشقياء الجاهلين.
على أن أباه عجل بنقله إلى مدرسة رووين، ثم إلى مدرسة الهندسة، ثم التحق بعد ذلك بالجيش، ولكنه كما ذكرنا كان عنيدا لا يسمع غير صوت نفسه وإن خرج في ذلك عن حدود الواجب، حتى إن رئيسه عقد مجلسا لتأديبه ثم أوقفه.
ولقد أراد بعد ذلك أن يقصد مالطة لتلمس الرزق فيها، ولكنها كانت مهددة بإغارة من جانب الأتراك، فعاد أدراجه وأخذ يعيش من بعض دروس في الحساب يعطيها لمريديه.
وهكذا أحدق به الهم وعضه الفقر، والتوى عليه سبيل الهناء، ولم يجد عند أحد صدرا يسعه في محنته، ولا قلبا يحنو عليه في كربته، فاحتقر الحياة، وكره الناس، وآثر العزلة على البقاء في هذا العالم القاسي قائلا: «إن العزلة جبل عال تريني قمته الناس صغارا.»
على أنه لم يعدم صدرا آخر يفيض عليه من حنوه الأبدي الخالد، هو صدر الطبيعة، فاستنام إليها وأحبها وفني في عشقها.
ولقد حببها إليه أيضا أنه رأى ذات يوم عودا هزيلا من «الفراولة» نبت على حافة نافذته، فلما أخذ يتأمله قام في نفسه أن يصفه بكل دقائقه ويصف ما حوله من حشرات صغيرة وذباب، ولكن ذلك استعصى عليه وقد رأى تلك الحشرات تصغر شيئا فشيئا إلى حد أعجزه عن متابعتها، وعند ذلك أدرك مقام الطبيعة وعظمتها فهام بها.
وإن نفسا مثل نفس برناردين لا تعرف اليأس، فعزم على الهجرة من وطنه إلى غيره من بلاد الله، وهو مع ذلك لا يكرهه ولا يحقد عليه «لأن من أحب وطنه تغرب في سبيله» كما قال في ترجمة حياته.
وكانت فكرة إصلاح المجتمع قد اختمرت في رأسه، فسافر إلى روسيا لعله يجد عند ملكتها كاترين ما يساعده على إخراجها إلى نور الوجود على شواطئ بحر قزوين، ولكن سهمه طاش، فارتحل إلى فنلندا ثم إلى بولونيا فألمانيا فصحارى أمريكا العليا فمدغشقر، حتى انتهى به المطاف عند جزيرة «موريس» التي كتب عنها روايته، ولكنه في كل هذه الأدوار كان سوء الحظ حليفه، فاضطر إلى العودة لوطنه ثانيا وهو ينوء تحت حمل الأحزان والديون، ذاهبا إلى أن العيب لم يكن على النظم التي تشرع للناس، ولكن على نفس القائمين بها.
وكان في أسفاره لا يكاد يرفع طرفه عن الطبيعة التي طالما أحبها وشغف باكتناه أسرار جمالها، ولكنه كان يغلب عليه في تفهمها مزاجه الشعري، وهو يعتقد أن خواطره ليست هي التي تتجه إلى الطبيعة ولكنها هي التي توجه إليها آلاف الأشكال المختلفة الرائعة ، وهكذا كان يغرس على طول طريقه بذور خيالاته فيحظى من الطبيعة بكل ثمرة شهية وهو يرى في كل ذرة من ذراتها نفسا حية ناطقة، حتى صهره البحث وأنضجته التجربة، ولكن شقاء الحظ جرعه آخر ما في كأسه، فعاد - كما ذكرنا - وهو يقول في نفسه: لقد أصبح الناس لا يعرفون قدر الإحسان فكيف رفعتهم الأقدار؟ ولكن حسبي أن التجربة صيرتني هرما فأصبحت لا أطمع في غير الراحة.
نعم إنه أحس بعزمه قد وهن، وكأن الشاب الطامح إلى لقاء الحوادث ومجالدتها قد ذاب فيه وفني وهو مع ذلك لا يتجاوز الثلاثين من عمره، أضف إلى ذلك ما آلت إليه حاله من الفاقة والبؤس، ففكر في وضع كتاب عن تلك الجزر التي زارها وما شاهد فيها ودون في مذكراته عنها.
ولكن كتابه الذي كان يظن أنه وضع به أساس مجده لم يصادف إلا نجاحا قليلا؛ لأنه أفسد عليه قلوب الحكام؛ بما ذكره فيه من خلل إدارة المستعمرات وفساد نظامها، إلا أن هذا السفر قد أكسبه الاتصال بكتاب عصره وفلاسفته، فعرفوه وعرفهم، ولكنه لم يلبث أن أنكرهم؛ لأنه أدرك أنهم كغيرهم قوم لا يعرفون معنى العدل والحق اللذين كانا دعامة خلقه، حتى إنه قاطعهم وهجرهم؛ لأن ألم شوكة واحدة - كما كان يقول - تنسي المرء لذة مائة وردة يشمها؛ ولذلك عمد إلى ما دونه من أبحاثه في الطبيعة فجمعها في كتاب نشره على الناس على ما بها من التفكك وعدم الارتباط، ولكن هذا الكتاب الناقص، أو تلك الأطلال الدوارس - كما كان يسميها - كانت وحدة معنوية حية خيرا مائة مرة من أية وحدة علمية؛ لأنها تمثل جلال القدرة حاضرة دائما في الذهن، ماثلة للعين، حتى إن نجاحه كان فوق ما أمله فعرف الناس قدره وأحبوه.
وهكذا أمكنه أن يزحزح عن نفسه شيئا من أحمال شقائه، فابتاع منزلا صغيرا اختاره في طريق ضيق يسكنه الفقراء، حتى يشعر أنه بين أفراد عائلته الطبيعية، وعلى مقربة من حديقة الحيوانات، كي لا يحرم من متابعة أبحاثه.
3
وقد كان من نتائج تلك التجاريب الطويلة الشاقة أن برناردين اعتقد أن سعادة الإنسان قائمة على سلوك سبيل الحياة تتطلبه الطبيعة والفضيلة، وأن الفضيلة العامة مهما بلغ من اتساعها فإن مكانها المكان الأول في نفس كل فرد؛ ولذلك عدل عن فكرة الجمهورية التي حاول إنشاءها، واقتصر على وصف حياة بعض الأسر المنزوية في ظلال الوحدة تتذوق طعم النعيم في حجر الطبيعة وعند بساطة الفضيلة.
وهكذا ظهر سفره الخالد «بول وفرجيني»، فهز أوتار المشاعر، وملك أزمة القلوب، وكان فجرا لليل الأدب، وتاجا على رءوس الأقلام، وشعلة صافية باردة فاض بها فؤاده الذي غمرته الفضيلة والصبر والرحمة، وكان لظهوره تأثير عظيم في جميع أنحاء فرنسا، فأبكى كل عين، وصعد كل زفرة، ولم تبق أسرة ولد لها ولد إلا سمته بول، أو ابنة إلا سمتها فرجيني.
وكان أكبر ما أثره في نفوس الناس من هذه الرواية أن حوادثها صحيحة ليس فيها من الخيال إلا النسق والترتيب، فقد قال مؤلفها في مقدمتها: «إني لم أتخيل قصة روائية أصور فيها حياة سعيدة تمتعت بها أسرة أوروبية في وسط ذلك الفقر، بل يمكنني أن أقول إن أشخاص هذه الرواية قد عاشوا حقيقة في تلك الأصقاع وتمتعوا بالسعادة التي وصفتها، وإن تاريخهم في مجمله صحيح شهد به كثير من سكان تلك الجزيرة، ولم أضف عليه إلا بعض جزئيات ليست بذات بال.»
وقد تنبأ بمبلغ تأثير روايته في النفوس قبل ظهورها فقال: «أردت عندما وضعت هذه الرواية أن أعرف مقدار تأثيرها في القراء على اختلاف درجاتهم ومراتبهم ومشاربهم وميولهم، فتلوتها على بعض السيدات الجميلات المتأنقات فبكين، ثم تلوتها على بعض الشيوخ المحافظين الرزينين فبكوا، فعلمت أني قد كتبتها للناس جميعا، وأرضاني هذا الحكم الصامت كل الرضى، على أن هذا السفر إذا كان قد هز عالم البيان إلى هذا الحد فإنه لم يكن ابن يومه، وإنما كان ثمرة مجهود بطيء حتى خرج للناس من ظلمات الفكر إلى قضاء الحقيقة وعليه ثوب ذلك الشاب القشيب، فهو كأنه ليس من عمله بل من عمل الطبيعة التي تضع بذورها في السكون وتنضجها في الظل، فإذا وافى اليوم الذي تظهر ثمرتها فيه أخذت بالألباب والأبصار.»
وكثيرا ما كان يسأله الناس كيف وضعه؟ وكيف انتهى منه؟ فيقول لهم: حسبكم أنه أعجبكم، فلا تضعوا بهذه الأسئلة غشاوة على أعينكم تحجب عنها لذة السرور الذي شعرت به، وإلا كان مثلكم كمثل الطفل يقع نظره على وردة فيذهب خاطره إلى محاولة الاهتداء لكيفية صنعها، وعند ذلك ينثرها ورقة ورقة حتى إذا بلغ غايته لا يرى أمامه شيئا.
على أن جمال الكتاب يجعل الحيارى من السائلين في حل من موقفهم هذا، فهم معذورون إذا تساءلوا عن زهرة هذا السفر القيم كيف نشأت، وعلى أية طريقة نبتت، وبماء أي خاطر متقد سقيت، وتحت أي مؤثر من مؤثرات النفس أيعنت ففاضت على الأجيال بالأريج والألوان والجمال.
ولكن عناصر مثل هذا العمل الكبير دفينة في نفس حياة الكاتب إذا صح أن كل مؤلف يتمثل في سطوره.
على أن برناردين إذا كان لم يخلق كاتبا فإن المشاهدة والتجربة والدرس هذبت قلمه وأنضجته، حتى إذا انقضت هزيلة بائسة طائرة في مهاب الحوادث وقد أحاطتها الأيام بإطار من الشيخوخة لم ير له بديلا منها إلا نفثات قلمه بين سطور هذا السفر الفياض؛ ولذلك قال عنه بعض قارئيه: «ليست هذه الرواية أثرا للكاتب، وإنما هي أثر خالد للغة الفرنسية.»
على أن الرواية وإن كانت لم تقم إلا على وصف الطبيعة الجافة الخشنة فإن القارئ لا يكاد ينتهي منها حتى يشعر بدبيب النشوة في مفاصله، لا لترتيب أشخاصها أو غرابة حوادثها، ولكن لقدرة برناردين على وصف أخلاق أهل القرى السهلة بعبارته الساحرة الجذابة، فهي التي أنطقت الطبيعة الجامدة، وجعلت من الكمال تمثالا حيا قدسيا خالدا، حتى إن بعض قرائه صاح وقد هزه الطرب: «إنني لا أرى هنا غير أكواخ بسيطة وأعواد خشنة، ولكنني أرى حولها وجوها ضاحكة مستبشرة، وقلوبا تسيل سعادة وهناء.» وحتى قال شاتوبريان: «إن السحر الذي يتشعع من سطور هذا الكتاب ليس غير عظمة تتلألأ في ثناياه تحكي تألق القمر فوق عزلة مزدانة بالزهور.»
ولقد كان ختام كفاح برناردين بعد ما حاربته الليالي وخاصمه الحظ أن عرف قدره أولئك الذين جهلوه حتى توجهت إليه عناية لويز السادس عشر، فقلده إدارة حديقة النباتات، ومتحف التاريخ الطبيعي، وإذا كانت الثورة قد أفقدته هذا المركز وسلبته تلك النعمة التي أصبح فيها، فإن «نابوليون بونابرت» شمله برعايته، وغمره بإحسانه، فأنساه مرارة الأيام الماضية، كما أنه قلده وسام الشرف، فلم يعد في حاجة إلى تلك الأوسمة الخيالية التي كان يحلم بها في صباه، وكان إذا قابله قال له: «متى تؤلف لنا يا برناردين رواية ثانية؟»
هذه هي رواية بول وفرجيني، وهذا هو كاتبها الذي كان يقول في أول أمره: «إن إنكار الناس لجميلي، والأحزان التي لا تفارقني، وضآلة مرتزقي وآمالي الضائعة، كل هذه المصائب تجمعت لتحاربني فأفسدت علي صحتي، وأزاغت صوابي، حتى إن كل ما يقع تحت بصري أصبحت أراه متحركا مضاعفا، كأنني أوديب الملك أرى شمسين»، فأصبح يقول: «هكذا بعد ما قاست سفينة حياتي من زعازع الحوادث أخذت تتقدم آمنة مطمئنة إلى بر السعادة.»
الفصل الأول
جزيرة موريس
هي إحدى الجزر الإفريقية الواقعة في المحيط الهندي على مقربة من جزيرة «مدغشقر»، وعلى مدى غير بعيد من جزائر «سيشيل»، وهي جزيرة قفراء بلقع إلا قليلا من السكان السود متفرقين في جبالها وغاباتها، يستعبدهم بضعة أفراد من المهاجرين الأوروبيين النازلين بينهم، ويسخرونهم في حراثة الأرض واستنباتها واستخراج معادنها واستنباط أمواهها وتقليم أشجارها، كما هو شأن المستعمرين الأوروبيين في جميع الأصقاع التي يعيشون فيها. •••
يرى المقبل على هذه الجزيرة شرقي الجبل القائم خلف عاصمتها «بورلويس» واديا مستطيلا، مسورا بسور طبيعي من الآكام والصخور، قد تراءت في وسطه أطلال كوخين دارسين لم يبق منهما إلا أنصاف جدرانهما، وبضعة جذوع ناخرة سوداء متناثرة حولهما، ويرى الأرض المحيطة بهما مختلفة الألوان، ما بين سوداء وخضراء وصفراء، مختلفة السطوح ما بين أنجاد وأغوار، وأحافير وأخاديد، ومتعرجات ومستدقات، إلى كثير من الجداول والغدران القائمة والمتداعية، كأنما يعيش فيها قبل اليوم قوم يتولون حرثها وزرعها وتقسيمها وتخطيطها، ثم ضربها الدهر بضرباته فرحل عنها ساكنوها أو رحلوا عن العالم بأجمعه.
ولم يكن لذلك الوادي - على اتساعه وانفراجه - إلا فجوة واحدة من ناحيته الشمالية، وعلى يساره ذلك الجبل العظيم الذي يسمونه جبل الاستكشاف؛ لأنهم كانوا يرقبون من قمته السفن القادمة إلى الجزيرة، وبسفحه تقع مدينة «بورلويس» قصبة الجزيرة ومقر حاكمها الفرنسي، وهي مدينة صغيرة نصف متحضرة، يتفرع من يمينها طريق لاحب عريض ينتهي بضاحية «بمبلوس»، وهناك الكنيسة المسماة بهذا الاسم قائمة بمماشيها المتدرجة المتصاعدة المحفوفة بأشجار الخيزران وسط أفيح فسيح، ثم الحرجات والآجام بعد ذلك منبسطة ممتدة إلى ساحل البحر، حيث يرى هنا خليج «تومبو»؛ أي: خليج القبر، وعلى يمينه رأس يسمى «كاب ماليرو»؛ أي: الرأس البائس، ثم الخضم الفسيح بعد ذلك تنتشر على صفحته عدة جزر صغيرة مقفرة كأنها السفن السابحة على سطح الماء، وأكبر ما فيها جزيرة «كوان دمير» تتهادى بينها كأنها البرج العظيم. •••
ولا يزال يسمع المقبل على ذلك الوادي حين يدنو منه عصف الرياح الضاربة في بطون الجبال وأحشاء الغابات وذوائب الأشجار، ودمدمة الأمواج المتوثبة على صخور الشاطئ وهضابه، حتى إذا وصل إلى مكان الكوخين انقطع عن سمعه كل شيء، فلا يحس إلا صدى ضعيفا لحفيف سعف النخل، ولا يسمع إلا وسوسة الأمطار المتساقطة برفق ولين على رءوس الصخور الملساء، فترسم على جوانبها المكسوة بالطحلب ألوان الطيف ثم تنحدر عنها متسلسلة إلى حيث تسقي أحواض الأزهار المهملة التي لا تمتد إليها يد، ولا يقتطفها مقتطف، ثم تفضي بعد ذلك إلى الغدران والأقنية فتمدها بالجم الكثير من أمواهها، وإلى خمائل الأشجار ولفائف الأعشاب، فتنسرب من أحشائها انسراب الأفاعي الرقطاء في بطون الرمال، ولا يرى بين يديه إلا هضابا شماء قد نبتت في سفوحها وعلى قممها وبين فروجها مجاميع الأشجار الباسقة التي تعابث أشعة الشمس أوراقها الخضراء المترعرعة، وتكسوها بما شاءت من ضروب الألون ذهبيها وفضيها، وأرجوانيها وناريها، ولا تنحدر إلى قاع الوادي وتتبسط في أرجائه إلا وقت الظهيرة، فإذا أدبر النهار وطفلت الشمس للإياب كان منظر الأصيل أبدع منظر رآه الرائي في جمال ألوانه، وانسجام ظلاله، ورقة أضوائه، وتلهب أفقه، وذهاب العين بين أرضه وسمائه في أبهى من الحلة السيراء والروضة الغناء، فإذا انحدرت الشمس إلى مغربها خيم السكون على كل شيء من ماء وهواء، وكوكب ونجم، واستحال المنظر إلى وحشة مخيفة كوحشة القبور، لا نأمة فيها ولا حركة، ولا بارق ولا خافق.
الفصل الثاني
الشيخ
كان يلذ لي كثيرا أن أختلف إلى هذا المكان الجميل صباح مساء، وأن أستريح إلى منظره الهادئ الساكن، فإني لجالس ذات يوم على صخرة من صخور العالية أقلب الطرف بين أرضه وسمائه، وأفكر في شأن هذين الكوخين الدارسين، وفيما تنطق به آياتهما من العظات والعبر، وآثارهما من الأحاديث والسير، إذ مر بي شيخ هرم من سكان تلك الجزيرة قد نيف على السبعين من عمره، يعتمد على عصا عجراء في يده، ويلبس سراويل واسعة وصدارا ريفيا بسيطا وقبعة عريضة من الخوص، كشأن سكان تلك الأصقاع، وله شعر أبيض مستطيل مسترسل على كتفيه، وقد تلألأ وجهه الأبيض النحيف الضارب إلى السمرة بذلك النور الساطع الذي يتلألأ دائما في وجوه الريفيين الأتقياء، نور البساطة والطهارة، والنبل والشرف.
فأنست به وبمنظره الجميل الأنيق، وبدأته بالتحية، فرفع رأسه إلي متوسما وألقى علي نظرة هادئة مطمئنة ثم رد تحيتي ردا جميلا، وكأنما شعر لي بمثل الذي شعرت له به من العطف والود، فأقبل نحوي باسما متهللا، وجلس على صخرة محاذية للصخرة التي أجلس عليها، وألقى عصاه تحت قدميه ووضع قبعته بجانبه، فأقبلت عليه وقلت له: لعلك تعيش في هذه الجزيرة يا سيدي منذ زمن طويل، قال: نعم، طويت فيها رداء شبابي، وهأنذا أطوي فيها رداء شيخوختي، وستبرد عظامي غدا تحت صخورها وجنادلها، قلت: هل لك أن تحدثني قليلا عن شأن هذين الكوخين الدارسين وعمن كان يسكنهما قبل أن تعبث بهما يد البلى، وتعصف بهما عواصف الدهر وأرزاؤه؟ فوجم قليلا وظل صامتا لا يقول شيئا وقد انتشرت على جبينه اللامع المتلألئ غمامة رقيقة من الهم والاكتئاب، ثم تنهد تنهدة طويلة اختلجت لها أعضاؤه وقال: نعم يا بني إن هذا الوادي الذي تراه اليوم خرابا يبابا لا يمر به المار إلا ليقف على ربوعه وأطلاله وقفة المتأمل المعتبر، كان منذ عشرين عاما روضة غناء يعيش فيها أقوام سعداء بأخلاقهم وفضائلهم، ما كان يخطر ببالهم ولا ببال من يراهم أن مصيرهم سيكون هذا المصير الذي تراه اليوم، وإن قصتهم لقصة غريبة مؤثرة تستثير الأشجان وتستذرف الدموع، إلا أن أبطالها ليسوا ملوكا ولا قادة، ولا من أصحاب القصور والدور، والحدائق والبساتين، والمسارح والملاعب، والوقائع العظيمة، والحوادث الجسيمة، كما هو شأن أبطال الراويات التي تقرءونها، بل كانوا قوما فقراء مغمورين تقتحمهم العيون، وتتخطاهم الأنظار، ومن كان هذا شأنهم لا يحفل بهم أحد من الناس، ولا يعنى بسماع شيء من أخبارهم وتواريخهم؛ لأن الناس لا يستطيعون أن يفهموا السعادة إلا من الطريق الذي ألفوه واعتادوه، فهم لا يصدقون أن قوما فقراء متقشفين يعيشون في أرض قفرة جرداء منقطعة عن العالم بأجمعه قد استطاعوا أن يكونوا سعداء من طريق الفضيلة والبساطة.
فأكبرت الرجل في نفسي وأعظمته، وعلمت أنه يحمل بين جنبيه نفسا كبيرة سامية تختلف صورتها عن صورة هذه الأسمال الحقيرة التي يلبسها، وقلت له: نعم يا سيدي إنني أعترف لك أننا - معشر الأوروبيين - لا نفهم من معنى السعادة إلا ذلك المعنى الذي تقوله، ولا نعجب بالقصة إلا إذا كان أبطالها أولئك الملوك الظلمة، والقواد السفاكين، ولكننا نستطيع أن نصغي في بعض الأحايين بلذة وسرور إلى أحاديث الفقراء والبائسين، ومهما بلغت القسوة بالقلب الإنساني وغمرت الشهوات شعوره ووجدانه، فلا بد أن تهب عليه من حين إلى حين نفحة من نفحات الفطرة الإلهية تنعشه وتوقظ شعوره، فيستطيع أن يعود إلى نفسه قليلا، وأن يفهم أن في العالم صنوفا من السعادة غير التي يعرفها ويألفها، وربما أكبرها وأعظمها وتمناها لنفسه، وود لو طال استمتاعه بها.
فقص علي قصتك يا سيدي، فما أنا لو علمت إلا رجل بائس مسكين، قد أخطأته السعادة حيث طلبها في المدن والحواضر بين الدور والقصور، فلعله يجدها في القفر الموحش بين الهضاب والصخور.
فوضع يده على جبينه المغضن كأنما هو يفتش في طياته عن بعض الذكريات القديمة، أو يستجمع ما تفرق من شواردها، وأنشأ يحدثني ويقول.
الفصل الثالث
مدام دي لاتور
في عام 1726 قدم هذه الجزيرة فتى من «نورماندي» اسمه «مسيولاتور» ليطلب رزقه في هذه الجزيرة المقفرة بعد ما أعياه طلبه في فرنسا، وعجز عن أن يجد له فيها معينا حتى من أهله وذوي رحمه، وكانت تصحبه زوجته، وهي فتاة نبيلة، جميلة الصورة، كريمة الخلق، طيبة العنصر، أحبها وأحبته، وأراد أن يخطبها إلى قومها فأبوها عليه؛ لأنه كان فقيرا مقلا، ولأنهم كانوا من المدلين بأنفسهم وبوفرهم وثرائهم ومكانتهم في الهيئة الاجتماعية، فلم يكن مما يهون عليهم أن يصهروا إلى رجل ليس من أكفائهم ولا نظرائهم، فتزوجها سرا بدون مهر، وهاجر بها إلى هذه الجزيرة عله يجد سبيلا إلى العيش فيها، فتركها هنا وسافر إلى جزيرة «مدغشقر» ليبتاع منها طائفة من الزنوج يستعين بهم عند عودته على استصلاح بعض الأراضي المهجورة، فيقتات منها هو وزوجته، فلم يتح له الحظ الذي أراد؛ لأنه سافر إلى «مدغشقر» في الفصل الذي يوبأ فيه مناخها ويمتلئ فيه جوها بالحميات والرياح السامة القاتلة، فلم يلبث أن اشتكى شكاة ذهبت بحياته، وكان يحمل معه بعض الأثاث وشيئا من المال، فتناهبته الأيدي هناك، كما هو الشأن دائما في تراث الغرباء من الأوروبيين الذين يموتون بعيدا عن أوطانهم في تلك الجزر النائية.
فأصبحت امرأته من بعده أرملة مسكينة لا سند لها ولا عضد ولا من يعينها على أمرها إلا جارية زنجية كانت قد ابتاعتها عند حضورها ببعض دريهمات، ولم تكن تعتمد على ما يعتمد عليه أكثر المهاجرين المقيمين في هذه الجزيرة من عون الحاكم ومساعدته، أو الصلة ببعض أصحاب الجاه والنفوذ؛ لأنها كانت أجل في نفسها من ذلك، ولأنها لم يكن يعنيها بعد أن فقدت ذلك الزوج الكريم الذي كان موضع آمالها ووجهة حياتها أن تكون لها صلة مع أحد من الناس كائنا من كان.
فأكسبها يأسها هذا قوة وجلدا، وصحت عزيمتها على أن تعتمد في حياتها على نفسها، وأن تتخذ لها قطعة من الأرض تستصلحها بيدها هي وجاريتها علها تجد قوتها ومرتزقها.
والأرض في هذه الجزيرة على جدبها وإقفارها لا يعدم أن يجد فيها الإنسان بضع قطع خصبة صالحة للنماء والاستثمار، ولكنها كانت تريد العزلة والانفراد والفرار بنفسها عن أبصار الناس وأسماعهم، فتركت المواضع الخصبة الميثاء وأوغلت في المجاهل البعيدة تفتش عن قطعة أرض معتزلة في سفح جبل أو بطن غور أو وراء منقطع لا يطرقها طارق ولا يمر بها سابل حتى وصلت إلى هذا المكان الذي نحن فيه، فأعجبها منظره الهادئ المنفرد، وسكنت نفسها إليه سكون الطائر الغريب إلى العش المهجور، وكذلك شأن البائسين المنكوبين، يشعرون دائما بحاجتهم إلى الفرار بأنفسهم من ضوضاء العالم وجلبته إلى المعتزلات النائية القصية، والمواطن الخشنة الوعرة، كأنما يخيل إليهم أن صخورها وهضابها قلاع حصينة يعتصمون بها من كوارث الدهر وأرزائه، أو كأنما يتوهمون أن هدوءها وسكونها يسري إلى قلوبهم وأفئدتهم فيروح عنها بعض ما بها ويملؤها راحة وسكونا، إلا أن العناية الإلهية - التي تتولى حراسة الإنسان وتمده بلطفها وعنايتها من حيث لا يقدر ولا يحتسب، وترى له دائما خيرا مما يرى لنفسه؛ أبت أن تسلمها إلى وحشتها وكآبتها، فأتاحت لها صديقة كريمة تؤنس وحشتها، وتعينها على أمرها.
الفصل الرابع
مرغريت
كانت تعيش في هذه الأرض قبل عام واحد من حضور «مدام دي لاتور» امرأة صالحة كريمة رقيقة الحال اسمها «مرغريت»، وفدت إليها على أثر نكبة حلت بها في مسقط رأسها «بريتانيا»، وخلاصتها أن نبيلا من النبلاء الاصطلاحيين - أي الذين اصطلح الناس على تلقيبهم بهذا اللقب - نزل بلدتها للاصطياف بها فرآها فأحبها، وكانت فتاة غريرة ساذجة تصدق كل ما يقال لها، فصدقت ما حدثها به عن الحب والزواج، والسعادة والرغد، كأنما خيل إليها أن العظماء في أحاديثهم وعهودهم كما هم عظماء في مظاهرهم وأزيائهم، لا يخلفون إذا وعدوا، ولا ينكثون إذا عاهدوا، فاتصلت به اتصال الزوج بزوجها حينما وعدها أن يتزوج منها عند عودته إلى وطنه واستئذان أبويه.
وما هي إلا أيام قلائل حتى ملها واجتواها كما مل الكثيرات من أمثالها من قبلها، فرحل عنها فجأة أعظم ما كانت غبطة به وأملا فيه، وترك لها تحت وسادتها شيئا من المال خيل إليه أنه الثمن الذي يقوم لها بوفاء ما بذلت من عرضها وشرفها، فجن جنونها وهرعت إلى فرضة البحر التي علمت أنه سيسافر منها، فلم تر من سفينته الماخرة على سطح الدأماء إلا ما يرى الرائي من أعقاب النجم المغرب؛ فبكت ما شاء الله أن تفعل، ثم عادت إلى منزلها دامية العين قريحة القلب، ولم تلبث إلا قليلا حتى شعرت أنها تحمل جنينا في أحشائها، فأسقط في يدها وعلمت أنه قد استحال عليها البقاء بين أهلها وقومها بعد ما فقدت تلك الجوهرة الثمينة التي هي كل ما تملك العذراء في يدها، وكل ما تستطيع أن تقدمه مهرا لزوجها، فأزمعت الرحيل إلى إحدى المستعمرات النائية لتواري في قاعها السحيق سوأتها وعارها، فوفدت إلى هذه الجزيرة بعد عناء كثير، وعقبات كبيرة واستطاعت بمعونة بعض المحسنين الراحمين أن تبتاع لها خادما زنجيا يعينها على أمرها ويساعدها على حراثة الأرض التي أوت إليها واستخراج ثمراتها.
وعاشت هنا عيش الصالحات القانتات لا تعرف أحدا من الناس ولا يعرفها أحد سواي، وكانت تجلس دائما على هذه الصخرة العالية أمام كوخها ترضع ولدها وتنسج نسيجها، فلما وفدت هيلين «مدام دي لاتور» رأتها جالسة في مكانها الذي اعتادت الجلوس فيه، فعجبت لأمرها وأنست بمرآها أنسا عظيما؛ لأنها ما كانت تتصور قبل أن تراها أن في الناس إنسانا له حال تشبه حالها، فدنت منها وحيتها ثم جلست بجانبها وأخذت تسائلها عن شأنها، فقصت عليها مرغريت قصتها كما وقعت، وكشفت لها بشجاعة وإخلاص عن مكان المصرع الذي زلت فيه قدمها، ولم تكتمها من أمرها شيئا، ثم ختمت حديثها بقولها: إن الله لم يظلمني، ولم يقس علي فيما فعل، بل عاقبني على جريمتي التي اقترفتها عقابا عادلا شريفا، فله العتبى معطيا وسالبا، وله الحمد على نعمائه وبأسائه.
فرثت لها هيلين «مدام دي لاتور» وأوت إليها، وأعجبها منها إخلاصها وصراحتها، وقوة يقينها وإيمانها. فلم تر بدا من أن تمنحها من بنات قلبها مثل ما منحتها، فأفضت بسرها، وحدثتها حديثها من مبدئه إلى منتهاه. فقالت لها مرغريت: أما أنا يا سيدتي فقد لاقيت عقوبتي التي أستحقها بما أسرفت على نفسي، وفرطت في أمري، فما شأنك أنت وأنت فتاة صالحة شريفة لا ذنب لك ولا جريرة!
ثم دعتها إلى كوخها الحقير فلبت دعوتها ودخلت معها راضية مغتبطة وهي تقول: أحمدك اللهم، فقد وجدت لي في هذا المغترب النائي أختا لم أجد مثلها بين أهلي وقومي، وما أحسب إلا أن آلامي قد انتهت. •••
وكنت أسكن في ذلك الحين وراء هذا الجبل على بعد مرحلة ونصف من كوخ مرغريت، ولكنني كنت - على بعد ما بيني وبينها واعتراض هذه العقبات دوننا - متصلا بها، أزورها وأتفقد حالها، وأرعى لها ما يرعى الجار لجاره الملاصق، وتلك خلة لا توجد إلا في سكان القفار المهجورة، والمغتربات النائية، فلا الجبال الشامخة، ولا الصحارى الشاسعة، ولا الشقة البعيدة بقادرة على أن تفرق بينهم وتمنع اتصال بعضهم ببعض، كأنما هم يقطنون محلة واحدة، أو منزلا واحدا، أما في أوروبا فكثيرا ما يعيش الرجل بجانب الرجل لا يفصل بينه وبينه إلا جدار قائم، أو ممر ضيق، أو ظلة دانية، ثم هو لا يعرفه ولا يحييه، وربما أنكر وجهه وصورته، وهناك قلما يستطيع القادم الغريب أن ينزل ضيفا إلا عند نفسه في أخصب البلاد وأغناها، وأرغدها عيشا، وأصحلها حالا، وهنا يجد ساعة نزوله المنزل الرحب، والمناخ الكريم في كل دار وكوخ، سواء في ذلك فقراء الناس وأغنياؤهم، وسوقتهم وأشرافهم، كأن الناس حين يعودون إلى حياتهم الفطرية الأولى - حياة البساطة والسذاجة والعيش في الأجواء الحرة المطلقة - تعود لهم معها أخلاقهم الطبيعية الجميلة التي فطروا عليها: من كرم وسماحة، وجود وإيثار، وود وإخاء.
وبعد ، فلما سمعت أن جارتي قد نزلت بها ضيفة غريبة أتيت إليها أتفقد حالها، وأعينها على أمرها، فإذا أنا بين يدي فتاة جميلة رائعة، تحيط بوجهها المشرق المتلألئ هالة وضاءة من الشرف والنبل، تغشاها سحابة خفيفة من الهم والكآبة، ويتراءى في عينيها المتضعضعتين الذابلتين أثر الذل والانكسار الذي يراه الإنسان دائما في عيون الفتيات المنكسرات في ميدان الحياة.
وما هو إلا أن جلست إليها جلسة خفيفة حتى ألممت بشأنها كله، فأخذت أحدثها وصديقتها عن مستقبل حياتهما في هذه الجزيرة، وكيف تستطيعان أن تعيشا فيها سعيدتين هانئتين، فاقترحت عليهما أن تتخذا هذا الوادي مزرعة لهما تقتسمانها بينهما، ويعينهما على استصلاحها واستثمارها خادماهما الزنجيان، فأعجبهما مقترحي وعهدا إلي بتنفيذ ما أشرت به.
وكانت مساحة الوادي نحو عشرين فدانا، فقسمته قسمين، قسما أعلى، وقسما أدنى، أما الأول فيبتدئ من رءوس تلك الصخور العالية التي تكسوها السحب أرديتها الشفافة البيضاء، وتنبعث من خلالها أمواه نهر «اللاتينيه» وينتهي عند هذه الفجوة التي تراها أمامك، ويسمونها هنا «لامبرازير»؛ لأنها تشبه في شكلها فوهة المدفع. وتكثر في هذا القسم الصخور والوعور التي يتعذر السير فيها، إلا أنه كثير الأشجار والنخيل، حافل بالينابيع والغدران.
وأما الثاني فيبتدئ من هذا المكان منحدرا مع النهر الجاري بجانبه إلى نهاية الوادي، حيث ينحرف النهر بعد ذلك سائرا في رملة ميثاء بين جبلين شامخين إلى مصبه في البحر، وأرض هذا القسم سهلة لينة كثيرة الخضرة والأعشاب، إلا أن المستنقعات تكثر فيها في فصل الأمطار، وتكاد تتحجر تربتها أيام الجفاف، فتصبح كأنها أرض صخرية، فهما في الحقيقة قسمان متعادلان تتكافأ حسناتهما وسيئاتهما.
فلما فرغت من تهيئتهما اقترعت بين السيدتين عليهما، فكان القسم الأعلى نصيب هيلين «مدام دي لاتور»، والقسم الأدنى نصيب مرغريت، فرضيت كل منهما بنصيبها، إلا أنهما أبتا أن تفترقا في مسكنهما وعيشهما، فرأيت أن أنشئ لهما كوخين متجاورين تجدان فيهما من السعة والراحة لهما ولولديهما أكثر مما تجدان في الكوخ الواحد، وأن أجعل أحدهما في ذيل القسم الأول، وثانيهما في رأس القسم الثاني، فتسكن كل منهما أرضها، وكأنها تعيش مع صاحبتها في مسكن واحد، فأعجبتهما تلك الفكرة واغتبطتا بها، فاستعنت بالزنجيين على قطع الأحجار من الجبال، واجتلاب الأخشاب من الغابات، وصنع مواد البناء، وأنشأت لهما كوخين فسيحين يدور بهما سياج متين من الأغصان المتشابكة، وغرست حولهما خميلة من أشجار اللاتينية تظللهما وتقيهما وهج الشمس وغائلة المطر.
وهنا صمت الشيخ وأطرق، ثم رفع رأسه بعد قليل فإذا دمعة رقراقة تترجح في مقلتيه كلما حاولت أن تسيل أمسكها، واستمر في حديثه يقول: نعم بنيتهما وشيدتهما وأنشأت لهما السقوف والأبواب والكوى والنوافذ، وهأنذا أراهما الآن بين يدي ساقطين متهدمين، فلا أبواب ولا سقوف، ولا نوافذ ولا كوى، ولا قطان ولا سكان، وكأن الله - تعالى - أراد أن يستديم تلك الذكرى في نفسي فلا تبرح مخيلتي حتى تذهب معي إلى قبري، فأبقى على هذه البقايا الماثلة من جدرانهما وأحجارهما ليستثير مرآها شجني، ويهيج آلامي وأحزاني. أو كأن طوارق الحدثان التي لا تبالي أن تعصف بقصور الملوك وصروح الجبابرة وتذهب ببقاياها وآثارها إلى الأبد، قد وقفت وقفة الإجلال والإعظام أمام هذه الأكواخ الحقيرة المشعثة، فأبت أن تقضي عليها القضاء كله إجلالا لها، واحتراما لذكرى أصحابها الأوفياء المخلصين.
وبعد فلم أكد أفرغ من بناء الكوخين حتى شكت هيلين وجاءها المخاض فولدت طفلة جميلة كأنها النجم اللامع في سطوعه وإشراقه، وسألتني أن أكون «عرابها»، وأن أتولى تسميتها كما توليت تسمية ولد صديقتها، فأشرت على مرغريت أن تفعل؛ لأني أردت أن تكون لها أما ثانية، فسمتها «فرجيني»، وقالت لأمها سيهب الله ابنتك نعمة الفضيلة والعفة فتحيا حياة سعيدة هانئة، فإني ما فقدت السعادة إلا منذ اليوم الذي انحرفت فيه عن طريق الفضيلة.
الفصل الخامس
الحياة الطبيعية
نهضت هيلين من نفاسها بارئة نشطة، فأخذت هي وصديقتها مرغريت تعملان في أرضهما بمعونة الزنجي «دومينج»، وهو رجل كهل قد نيف على الخمسين من عمره، إلا أنه كان فتي الهمة والعزيمة، واسع الخبرة في شئون الزراعة الجبلية وأساليبها، فكان يغرس في كل أرض ما يناسبها من البذور والأغراس، ولا يفرق في ذلك بين القسمين ولا يمنح أحدهما من اهتمامه وعنايته أكثر مما يمنح الآخر، فزرع الذرة في التربة المتوسطة، والحنطة في الأرض الجيدة، والأرز في التربة السبخة، والقرع والقثاء وما أشبههما من النبات المتسلق حول الصخور وفوق رءوس الهضاب، وزرع البطاطا في التربة الجافة اليابسة، وشجيرات القطن في الربوات العالية، وقصب السكر في الأرض القوية المتينة، وغرس على ضفة النهر حول الكوخين أشجار الموز ذات الأوراق العريضة والأفياء الظليلة، ولم يفته أن يزرع لنفسه بضع شجيرات من التبغ يروح بتدخينها عن نفسه هموم دهره وآلامه.
وكان يذهب فوق ذلك إلى الغابات البعيدة والأحراش النائية لاحتطاب الحطب واجتلاب أخشاب الوقود، ويقضي جزءا عظيما من يومه في تمهيد الأرض وتذليلها، وتكسير الصخور ورصف الحصى، وإنشاء الممرات والمستدقات والجداول والأقنية، وكان يقوم بهذا العمل كله وحده راضيا مغتبطا لا أعينه عليه إلا بالرأي والإرشاد؛ لأنه كان يحب سيدتيه حبا جما، ويخلص لهما إخلاصا عظيما، وربما كان للغرام يد خفية في ذلك النشاط الغريب المنبعث في أنحاء نفسه - كما هو الشأن في أكثر حركات الناس وسكناتهم - فإنه كان مغتبطا كل الاغتباط بتلك الصلة التي نشأت بينه وبين الزنجية «ماري» في العمل، وبوده لو استحالت إلى صلة أخرى غيرها أدنى إلى نفسه وألصق بفؤاده، وقد تم له بعد عام واحد من اتصاله بها ما أراد، فقد سمحت له سيدتاه بالزواج منها، فبنى بها ليلة عيد ميلاد فرجيني، وسعد بجوارها سعادة لا تختلف في روحها وجوهرها عن السعادة التي يهنأ بها البيض المتمدينون.
وكانت ماري فتاة نشطة حاذقة، ذكية الذهن، صناع اليد، متحلية بكثير من الصفات الفاضلة. وقد استفادت في مسقط رأسها «مدغشقر» العلم ببعض الصنائع اليدوية التي يزاولها الناس هناك، فكانت تجيد صنع السلال من لحاء أشجار القصب، ونسج المآزر والمطارف من خيوط بعض الأشجار الليفية، وكانت تحسن القيام على خدمة المنزل ومنظرته وترتيب أثاثه وتربية الطيور الداجنة، ورعي الماشية، ومزاولة الطبخ والغسل، فإذا فرغت من عملها حملت ما فضل عن حاجة البيت من فاكهة وحبوب - ولم يكن بالشيء الكثير - إلى سوق المدينة فباعته فيها ثم عادت ببضعة دريهمات تعطيها لسيدتيها.
أي إن المزرعة كان يعيش فيها امرأتان وطفلان وخادمان، وكلب للحراسة، وعنزتان للبن، وبضع دجاجات للبيض، لا أكثر من ذلك ولا أقل.
وكان لا بد للسيدتين من أن تعملا عملا يعينهما على عيشهما ويروح عنهما سآمة الوحدة ومللها، فكانتا تغزلان بياض نهارهما، وأحيانا سواد ليلهما على ضوء القمر، فاستطاعتا أن تجدا رزقهما، ولكن مقترا مكدودا، فأكلتا الدخن والذرة، وشربتا الماء الرنق، ولبستا القمص البنغالية الخشنة التي يلبسها الإماء في هذه الجزيرة، ومشتا على الأرض حافيتين غير منتعلتين إلا في اليوم الذي كانتا تذهبان فيه إلى الكنيسة في حي «بمبلوس» لأداء الصلاة، وقلما كانتا تذهبان إلى «بورلويس» عاصمة الجزيرة إلا في الدرجة القصوى من الضرورة حياء من نفسيهما، وفرارا من أعين الساخرين والهازئين، فإن فعلتا نالهما من الألم والامتعاض ما ينغص عليهما يومهما، ويستثير كامن حزنهما وألمهما، ولا يزال هذا القلق يساورهما حتى تعودا إلى مزرعتهما فإذا أشرفتا عليها، ورأتا على بعد منظر خادميهما المخلصين وهما يهبطان إليهما من قمة الجبل ليساعداهما على صعوده وتسلقه، وشعرتا بنسيم الحرية العليل يهب عليهما ويمازج أنفاسهما، نسيتا في هذا المعتزل المنفرد كل ما لحقهما وآلم نفسيهما من خشونة الناس وقسوتهم، وفضولهم وكبريائهم، وكأنما قد نبتتا في هذه البقعة بين نخيلها وأشجارها، ولم تريا طول حياتهما بقعة سواها.
ولقد عشت في كل جو وبيئة، وخالطت جميع الطبقات والأجناس، وعاشرت الناس أخيارا وأشرارا، وأعلياء وأدنياء، وحضرت مواقف الحب بين المتحابين، والصداقة بين المتصادقين، فلم أر في حياتي منظرا أجمل ولا أبهج ولا أحلى في العين ولا أرفع في النفس من منظر الحب والصداقة بين هاتين السيدتين الكريمتين، حتى كان يخيل إلي أحيانا أن نفسيهما قد استحالت إلى نفس واحدة يحملها جسدان، وكنت إذا حدثت إحداهما شعرت كأني أحدث الأخرى معها، وإذا حدثتهما معا كنت كأني أحدث نفسا واحدة ذات صورة واحدة ولون واحد، فلقد وحدت بينهما الهموم والآلام، ومازجت بين نفسيهما الوحدة والعزلة، والفكرة والرأي، والحاجة والمصلحة، والذكرى المؤلمة والبؤس المشترك، فنطقت كل منهما بما نطقت به الأخرى، وشعرت، وفكرت فيه، وكأن الله تعالى إذ زوى عنهما الأرض الفسيحة ذات الطول والعرض، وحرمهما فيه نعمة العيش الهنيء، أبدلهما منها تلك الروضة الغناء من الحب والإخلاص؛ لتعيشا فيها ناعمتين هانئتين، لا تمر بسمائهما غنيمة، ولا ترجف بأرضهما رجفة.
فإن اضطرمت بين جوانحهما في بعض الأحايين نار أقوى من نار الصداقة وأشد منها لهيبا واستعارا؛ لا تلبث أن تهب عاصفة من دينهما وتقواهما فتلوي بها عن سبيلها، وتطير بها إلى العالم الثاني، كما تتطاير الشعلة الملتهبة في جو السماء إذا فقدت مادتها التي تغتذي بها على وجه الأرض.
وكان أعظم ما يؤنسهما ويروح عنهما ويمازج بين شعورهما وإحساسهما رؤية طفليهما الصغيرين بين أيديهما يمرحان ويلعبان ويعدوان ويطفران، وينامان في مهد واحد، ويستحمان في إناء واحد، ويطير كل منهما شوقا إلى صاحبه إذا فقد مكانه وغاب عنه وجهه، كأنهما أخوان شقيقان، بل توأمان متشابهان.
وكثيرا ما كانت ترضع إحداهما ولد الأخرى فتمنحه من عطفها وحنانها ما تمنح ولدها، حتى قالت هيلين مرة لمرغريت: «سيكون لكل منا ولدان، ولكل من ولدينا أمان.» وكان اجتماع ذينك الطفلين اليتيمين على ثدي واحد - بعد ما فجعهما الزمان بأسرتيهما وحرمهما حنان أبويهما وعطفهما - سببا في نموهما وترعرعهما، وسرورهما وغبطتهما، كالصنوين الباقيين من شجرتين قد عصفت الريح بهما وبأغصانهما، إذا لقح أحدهما بالآخر أورقا وأثمرا بأبهى وأجمل مما لو بقي كل منهما في مكانه. •••
وكان يلذ لأميهما كثيرا الحديث عنهما، وعن مستقبل حياتهما، وعن اتصالهما بعقدة الزواج متى بلغا أشدهما، وكأنما قد بقيت في زوايا قلبيهما بقية من ذلك الألم الماضي، ألم حرمانهما الهناء الزوجي الذي كانتا تتعللان به في مؤتنف حياتهما، فهما تتعللان عنه برؤية ولديهما متمتعين به. إلا أن حديثهما هذا كان ينتهي أحيانا ببكائهما ونشيجهما حينما تذكران أنهما قد أساءتا إلى نفسيهما بطموح إحداهما إلى منزلة في الحياة فوق منزلتها، ونزول الأخرى فيها إلى مقام دون مقامها، فعاقبتهما الطبيعة على تمردهما وشذوذهما بهذا العقاب المؤلم الشديد الذي تقاسيانه وتذوقان مرارته.
ولكنهما لا تلبثان أن تسمعا صوت طفليهما الصغيرين يبغمان في مهدهما ويتناغيان حتى تعودا إلى سكونهما واستقرارهما، وتشعرا ببرد العزاء يتدفق في صدريهما، خصوصا عندما تذكران أن الهناء الذي فاتهما في ماضيهما لن يفوت ولديهما في مستقبل أيامهما، وكانتا تقولان إنهما سيقضيان حياتهما بعيدين عن مفاسد المدنية وشرورها وتقاليدها العمياء وأوهامها الباطلة، فلا ينالهما من أذاها شيء.
الفصل السادس
حياة الطفولة
ولم أر فيما رأيت من عجائب الأشياء وغرائبها أغرب من تلك الصلة التي كانت بين هذين الساذجين الطاهرين، ولا أعجب من ذلك الامتزاج الذي كان بين روحيهما، فإذا شكا بول شكت فرجيني لشكاته، وإذا بكى لا يخفض عبرته ولا يسري حزنه إلا رؤيتها باسمة بين يديه، وكثيرا ما كانت تتألم بينها وبين نفسها لبعض الشئون فلا يدل على ألمها وحزنها إلا بكاؤه ونشيجه، فكانت إذا ألم بها ألم طوت عليه ضلوعها، وكاتمته نفسها، ضنا به أن تراه باكيا أو متألما.
وما جئت هنا مرة في شأن من الشئون إلا رأيتهما معا يحبوان، أو يدرجان، أو يتداعبان، أو يتماسكان، أو يستبقان إلى غاية، أو يتخاطفان لعبة، فلم يكن شيء من الأشياء بقادر على أن يفرق بينهما حتى ظلام الليل ووحشته، فقد كان لهما مهد واحد ينامان فيه معا عاريين كعادة الأطفال في هذه الجزيرة، وقد تلازما وتآخذا وتوسد كل منهما ذراع صاحبه كأنما يخشيان أن يفرق بينهما حادث من حوادث الدهر.
وكان أول ما نطقا به من الكلمات كلمتا الأخ والأخت، وهي كلمة جميلة جدا، ما خلق الله في الكلم أجمل ولا أحلى ولا أشرف معنى ولا أطرب نغمة منها، ويزيدها جمالا وحسنا صدورها من أفواه الأطفال الصغار، كأنهما عهد يأخذونه على أنفسهم منذ اليوم أن يكون كل منهما لصاحبه غدا، أو كأنها راية السلام البيضاء يرفعونها على رءوسهم ويلوحون بها في الآفاق.
ثم أخذت تلك العلاقة الطفلية البسيطة تستحيل مع الأيام إلى صداقة جدية، يشعر فيها كل منهما بحاجته إلى الآخر وإلى معونته ومساعدته، فبدآ يشتركان في خدمة المنزل ومناظرة شئونه، ومعاونة أميهما فيما هما بسبيله من طلب العيش ومعالجة القوت، كل فيما هيأته طبيعته له.
فلحقت فرجيني بالزنجية «ماري» تتعلم منها الطبخ والغسل والنسيج وإعداد المائدة وتهيئة الفراش وخياطة الملابس وصنع السلال، إلا أنها كانت تعنى بما يتعلق بأخيها بول قبل كل شيء، ولحق بول بدومينج يعينه بفأسه الصغيرة التي كانت لا تفارق عاتقه على فلح الأرض وحرثها، وتخطيطها وتقسيمها، وتحويل مياهها، وقلع حشائشها، وتسلق رباها، وتقليم أشجارها، فإذا عثر في طريقه بزهرة جميلة، أو فاكهة طيبة، أو طائر في عشه، أو حشرة في حفرتها، أو سمكة ملونة، أو محارة ظريفة، احتفظ بها في جيبه ليقدمها هدية لفرجيني حين يعود إليها.
وكانا على اختلاف شأنهما واستقلال كل منهما بعمله عن عمل صاحبه على اتصال دائم ببعضهما؛ فحيث وجدت فرجيني فقد وجد بول معها، أو على مقربة منها، أو منحدرا إليها، أو مشرفا عليها، أو هاتفا بها، ما من ذلك بد.
وأذكر أني كنت منحدرا ذات يوم من قمة الجبل، وكان الجو ماطرا مكفهرا، فرأيت فرجيني مقبلة نحو المنزل من أقصى الحديقة، وقد رفعت إزارها من خلفها وأسبلته على رأسها لتتقي به المطر المتساقط، فهرعت إليها لأساعدها على المسير، فلما دنوت منها رأيت أن ذلك الإزار الذي يضمها لا يضمها وحدها، بل يضم معها أخاها بول، فنظرا إلي ضاحكين متهللين كأنهما مغتبطان باهتدائهما إلى تلك الفكرة الجميلة التي استطاعا بها أن يلجئا من ذلك الغيث المنهمل إلى ظلة واحدة، فذكرني منظرهما هذا ومنظر رأسيهما الصغيرين المتلاصقين في ذلك الإزار بمنظر طفلي «ليدا»، وقد حفرا معا في محارة واحدة.
وكانت حياتهما بسيطة ساذجة؛ لأن ذهنهما كان بسيطا ساذجا خاليا من مشاغل الحياة المركبة وهمومها، فلا يفكران في شأن غير شأنهما، ولا يسبحان في محيط غير محيطهما، ولا ينتقلان بذهنهما من الحاضر إلى الماضي أو المستقبل، ولا تترامى أبصارهما إلى ما وراء الأفق المحيط بهما، كأنهما يظنان أن العالم ينتهي حيث تنتهي جزيرتهما.
ولقد أراحهما من عناء البحث والتفكير جهلهما وأميتهما وبعدهما عن هموم العلم ومشاغله، فلم يقدر لهما أن يسهرا ليلهما منكبين على المذاكرة والمدارسة حتى يغلبهما النوم فيناما في مكانهما، ولم يذرفا الدموع الغزار يوما من أيامهما أمام معضلة من معضلات العلم، أو مشكلة من مشكلاته، حتى تتقرح أجفانهما، ولم يثر غيظهما وحنقهما عجزهما عن التغلب على خصومهما في ميدان المجادلة والمناظرة حتى تنشق مرارتهما غيظا وحنقا، وما شعرا في ساعة من ساعات حياتهما بحاجتهما إلى أن يعرفا غير ما يعرفان؛ لأنهما يعلمان أنهما ما خلقا إلا ليعيشا سعيدين هانئين. وها هي ذي السعادة تظللهما بأجنحتها البيضاء، وتتدفق بحرا زاخرا تحت أقدامهما، وإلا ليؤديا واجب الحب والإخلاص لذينك الشخصين الكريمين عليهما، وها هما ذان يقومان لهما بهذا الواجب بأفضل ما يقوم به عبد لسيده، بل عابد لمعبوده.
فما بهما من حاجة إلى من يعلمهما أن الكذب حرام؛ لأنهما لا يكذبان، ولا أن السرقة جريمة؛ لأن جميع ما يقع تحت متناول أيديهما ملك مشترك للجميع، ليس أحد أولى به من الآخر، ولا أن الجشع رذيلة؛ لأن ما يشتمل عليه كوخهما بسيط محدود لا يحتمل جشعا ولا نهما، ولا أن البر بالوالدين واجب؛ لأنهما كانا يعبدان أميهما عبادة هي فوق البر والإحسان، ولا أن الصلاة فريضة؛ لأنهما وإن لم يذهبا إلى الكنيسة إلا قليلا فقد كانا يصليان في كل أرض، وفي كل جو، في البيت والمزرعة، والقمة والرابية، والسهل والجبل، وفي بكور الأيام وأصائلها، وأوائل الليالي وأواخرها. •••
وكذلك أشرقت حياتهما الأولى إشراق الفجر المنير في صفحة الأفق مبشرا بيوم صحو جميل، وأخذت تمر بهما الأيام عذبة صافية جريان الغدير المترقرق على بياض الحصباء، سواء ليلها ونهارها، وصبحها ومساؤها.
وكان من شأن فرجيني أن تستيقظ صباح كل يوم مبكرة والطير لم يفارق وكره، فتحمل جرتها وتذهب بها إلى نبع صاف كان على بعد مرحلة من المزرعة فتستقي منه ثم تعود فتجلس لتهيئة طعام الإفطار، حتى إذا برزت الشمس من خدرها وأخذت تنفض بيدها غبار الظلام عن وجه الأرض، وتمسح جبين الطبيعة المكتئب بريشة أشعتها الذهبية، أقبلت مرغريت من كوخها هي وولدها فتبادلوا جميعا تحية الصباح ثم اصطفوا لأداء الصلاة، وبسطو أيديهم إلى السماء ضارعين إلى الله - تعالى - أن يكلأهم بعين رعايته، ويبسط عليهم جناح رحمته، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشدا. فإذا انتهوا من صلاتهم خرجوا خارج الكوخ لتناول الطعام على مائدة جميلة من العشب الأخضر تحت ظلة دانية من الأغصان المتشابكة، تتساقط عليهم قطع النور من فجواتها كأنها النثار الفضي اللامع.
فكان أثر ذلك الغذاء الطبيعي البسيط تحت هذه السماء الصافية، وفوق تلك الأرض الندية المخضلة عظيما في نمو الولدين وترعرعهما، ونضرة وجوههما، وحلاوة ملامحهما، فلم تبلغ فرجيني الثانية عشرة من عمرها حتى استقام عودها، واعتدل قوامها، وتهدل شعرها الأصفر اللامع على كتفيها كأنما قد نسج من خيوط الشمس، وأضاءت عيناها الزرقاوان بنور سماوي غريب كأنه قبس من النور الإلهي، فإن ابتسمت ابتسمتا معها كأنهما ثغران ضاحكان، وإن قطبت سبحتا وحدهما في جو السماء حتى تلتقي زرقتهما بزرقتها.
أما بول فقد كانت قامته أطول قليلا من قامة فرجيني، ونظره أحد من نظرها، وأنفه أكثر شمما من أنفها، ولونه أقرب إلى السمرة من لونها؛ أي إن ملامحه كانت تذهب مذهب الرجولة في تكونها واستدارتها، وكانت تنبعث من عينيه نار من القوة والنشاط تكاد تلتهب التهابا لولا تلك الأهداب الندية الحافة بهما.
وكان لا يزال ثائرا مهتاجا، ما يهدأ ولا يسكن حتى تقبل عليه فرجيني وتجلس بجانبه، فإذا هو الطفل الصغير بساطة وسذاجة ووداعة ولطفا.
وكثيرا ما كانا يجلسان معا صامتين هادئين ساعات طوالا على ضفة نهر، أو حافة ينبوع، أو ربوة عالية، أو قمة مشرفة، وقد اضطجع كل منهما بجانب الآخر ومد قدميه العاريتين، فكأنهما تمثال رخامي عتيق من تماثيل أولاد «بينوب»، وكأن حياتهما حياة الملائكة الأبرار في عالمها العلوي، لا تشعر بحاجتها إلى الحروف والكلمات في التعبير عن شعورها وإحساسها.
ولم يتكلمان وقد قامت لهما نظراتهما المتمازجة وابتساماتهما المتماوجة مقام الألسنة في نطقها وإفصاحها، ولم يكن حبهما حبا صناعيا ولا متكلفا فيحتاجا إلى استدامته واستبقائه وتأريث ناره في قلبيهما بالملق والدهان، والتدليل والترفيه، وخلابة الألفاظ وسحر البيان، لا، بل لو سئل أحدهما عن الحب وتعريفه وصفاته لما استطاع أن يجيب بشيء؛ لأنه لا يفهم من الحب سوى أنه في حاجة إلى بقاء صاحبه بجانبه لا يفارقه، ولا يغيب عن وجهه، لا يزيد على ذلك ولا ينقص شيئا، ولقد استقر هذا الشعور في نفسيهما وملك عليهما حواسهما وخوالجهما، فلم يفكرا في تشخيصه وتحديده، واستعراض صوره وألوانه، فكان أشبه شيء بالإيمان في قلوب العجائز، والإلهام في أنفس الحيوان، والعبقرية في أذهان الخاملين المغمورين، فهما ينعمان بحب هادئ لطيف لا جلبة فيه ولا ضوضاء ولا تجاذب ولا تآخذ، ولا شكوى ولا عتاب، ولا سهر ولا قلق، ولا خوف من الطوارق، ولا خشية من الفواجئ.
غير أن هيلين - وقد رأت فتاتها تنمو وتترعرع ويتلألأ وجهها بتلك المحاسن الباهرة - بدأت تفكر في أمرها وأمر مستقبلها، وتقول في نفسها: ماذا يكون مصير هذه الفتاة المسكينة غدا إن عدت علي عوادي الدهر، وفرقت المنية بيني وبينها، وخلفتها وحدها هنا في هذه القفرة المجدبة بين هذه الخلائق الغريبة وحيدة منقطعة لا سند لها ولا معين؟
وكانت لها في فرنسا عمة مثرية ثراء واسعا، إلا أنها كانت امرأة متكبرة تياهة شديدة الذهاب بنفسها، مدلة بجاهها ونفوذها متشددة في آرائها وأفكارها، فنقمت عليها أشد النقمة لاتصالها بذلك الفتى الفقير الذي اختارته زوجا لها، واعتبرت حادثتها هذه نكبة من أعظم النكبات التي حلت بها وبأسرتها، فأبت أن تغفر لها زلتها بدموعها وآلامها، وضراعتها ومناشدتها، فسافرت وقد آلت على نفسها ألا تلجأ إليها في شأن من شئون حياتها ما تردد لها نفس على وجه الأرض، أما الآن وقد أصبحت أما يعنيها من أمر فتاتها ما يعني الأمهات من أمر فتياتهن، فلم تر بدا من أن تحمل نفسها على ذلك المكروه الذي عافته برهة من الزمان، فكتبت إلى تلك العمة القاسية كتابا طويلا أفضت إليها فيه بخواطر نفسها، ووساوس قلبها، وقصت عليها قصة حضورها إلى هذه الجزيرة، وما كان من وفاة زوجها على أثر حضورها وحياتها الشقية التي تحياها الآن من بعده وحيدة منقطعة لا ناصر لها ولا معين، وظلت تحدثها حديثا طويلا عن ابنتها وما تخشاه عليها في مستقبل حياتها إن نشب بها ظفر جارح من أظفار الدهر، وفرقت المنية بينها وبينها، ثم قالت لها في ختام كتابها: «إن كنت ترين أنني لا أزال مذنبة بعد ذلك، وأن تلك الدموع السخية التي رويت بها ثرى الأرض اثني عشر عاما لا تكفي لمحو زلتي من صحيفة أعمالي: فارحمي هذه الفتاة المسكينة من أجلها لا من أجلي فهي حفيدة أخيك، وغصن دوحتك، والبقية الباقية من أسرتك.»
لبثت تنتظر ردا على كتابها فلم يأتها، فأتبعته بآخر، ثم بآخر، وضرعت في ذلك ضراعة لم يكن مثلها مما يهون على مثلها لولا عاطفة الأمومة ورحمتها، حتى كانت سنة 1738 - أي بعد قدومها هنا باثني عشر عاما وبعد مرور ثلاث سنوات على قدوم مسيو «دي لابوردونيه» حاكما على الجزيرة - إذ علمت أن ذلك الرجل يسأل عنها ليسلمها كتابا ورد عليها من عمتها، فاستطيرت فرحا وسرورا، وعلمت أن أيام شقائها قد انتهت، وأن الله قد رحمها ورثى لبؤسها وشقائها، وهرعت إلى «بورلويس» لمقابلته، فدخلت عليه في ذلك الثوب البنغالي الخشن الذي اعتادت أن تلبسه في بيتها غير حافلة بشيء إلا بتلك السعادة التي ستقدمها عما قليل لابنتها، فاستقبلها الرجل استقبالا جافا خشنا، وهي المرأة الشريفة الطاهرة التي تغضي العيون بين يديها إجلالا وإكبارا، والبائسة المسكينة التي تهابها النفوس مرثاة لها ومرحمة لبؤسها وشقائها، ولم يزد على أن أومأ إليها برأسه إيماءة خفيفة، ثم تقدم نحوها بعظمة وكبرياء وأعطاها كتابها، فاختطفته من يده وأنشأت تقرؤه بلهفة وسرور، إلا أنها لم تقرأ منه بضعة أسطر حتى امتقع لونها، وارتعشت يدها، وترنحت في مكانها ترنج الشارب الثمل، فقد كتبت إليها عمتها تؤنبها وتقرعها تقريعا مؤلما مهينا، وتشمت بها وبمصيرها، وتقول لها هذا جزاء تمردك وعصيانك وخروجك عن أهلك وقومك، وانقيادك إلى شهوتك البهيمة واسترسالك فيها استرسالا دفع بك إلى أحضان ذلك الفتى الوضيع المهين الذي لا يليق به أن يحل سيور حذائك، حتى جلبت على نفسك وعلى أهلك العار الذي لا يمحى، ولقد أحسنت كل الإحسان بمغادرتك هذه البلاد وفرارك إلى تلك الجزيرة النائية المنقطعة لتدفني فيها نفسك وعارك إلى الأبد، وما موت زوجك، وولادة ابنتك، وشقاء عيشك، والوساوس التي تعتلج في صدرك خوفا على فتاتك وعلى مستقبلها، إلا عقوبة أنزلها الله بك ليمحص عنك ذونبك ويمهد لك سبيل غفران سيئاتك، فاصبري لها ولا تجزعي حتى يقضي الله قضاءه فيك.
ثم أنشأت تدل عليها بنفسها وتفاخرها بعفتها وطهارتها وترفعها وإبائها، وأنها قضت أيام حياتها عانسا متبتلة ما تزلق بها شهوتها في هوة من تلك الهوى التي تزلق فيها أقدام النساء الجاهلات، ولا تسلم قيادها إلى رجل من الرجال - كائنا من كان - ضنا بحريتها أن تعبث بها أيدي المطامع والأهواء.
وكانت كاذبة فيما تقول، فهي امرأة دميمة شوهاء، غريبة الأخلاق والأطوار، ليس لها من المزايا إلا ثروتها الطائلة، وجاهها الواسع، ومكانتها من البلاط الملكي، وكان كبرياؤها الكاذب يأبى عيها إلا أن تتزوج من رجل من ذوي البيوتات العظيمة والألقاب الضخمة، وليس بين هؤلاء جميعا من يرضى أن يبيعها نفسه بيعا مهما بلغ من رقة الحال، وشظف العيش، ولم يزل هذا شأنها حتى تجاوزت سن الزواج وضاعت بين سخافتها وكبريائها.
ثم ختمت كتابها بقولها: «لا بد لك أن تعملي لنفسك، فقد علمت أنك في جزيرة صالحة للعمل والاستثمار، وأن جميع المهاجرين الذين يؤمونها يعودون منها بالثروة الطائلة والربح الكثير، على أنني قد كتبت إلى مسيو دي لابوردونيه حاكم الجزيرة أوصيه بك خيرا، فاعتمدي عليه وعلى معونته ولا تكتبي إلي بعد اليوم.»
وكانت صادقة في كلمتها هذه، فإنها كتبت إلى ذلك الرجل كتابا توصيه بها فيه، إلا أنها ملأته بذمها وثلبها، والاستطالة عليها في عرضها وشرفها، كأنها تلتمس لنفسها عذرا عنده في قسوتها عليها، وعنفها بها، وضنها عليها بالمعونة والمساعدة.
فكان من أثر ذلك في نفسه أن ازدراها واحتقرها، وتجهم لها حين رآها، ثم ودعها بمثل ما استقبلها به، لم يسألها عن شأن من شئونها، ولم يمنحها غير وعود كاذبة كان ينطق بها بلهجة جافة خشنة مملوءة ضجرا ومللا، فكأنما أوصته بقتلها والقضاء عليها.
الفصل السابع
العزاء
عادت هيلين إلى المزرعة ونفسها تسيل لوعة وأسى، فما بلغت كوخها حتى ألقت بالكتاب على المنضدة وتهافتت على سريرها باكية منتحبة، فهرعت إليها صديقتها تسألها ما شأنها، فأشارت إلى الكتاب وقالت ها هي ذي خلاصة حياتي من أولها إلى آخرها. ولم تكن مرغريت تحسن القراءة فأتتها بالكتاب فأنشأت تقرؤه عليها وفؤادها يتمزق لوعة وأسى، فقاطعتها مرغريت وأقبلت عليها تقول لها: متى تخلى الله عنا يا هيلين فنلجأ إلى الناس في شئوننا، ونعتمد عليهم في رزقنا، ونحن أغنياء عنهم بما هيأ الله لنا من القوت في هذه الجنة الصغيرة التي نعيش فيها، فما فينا من يشكو جوعا أو عطشا، ولا من يمشي عاريا أو حافيا، ولا من يبيت مغتما أو محزونا، فروحي عن نفسك، فالله أرحم بك وبنا من الأقارب والأصدقاء، ثم عجزت عن امتلاك نفسها ومتابعة حديثها، فاختنق صوتها بالبكاء فتهافتت هيلين على عنقها وضمتها إلى نفسها وظلت تقول لها: آه يا صديقتي! آه يا صديقتي!
وكانت فرجيني واقفة بجانبهما، فأثر في نفسها هذا المنظر المحزن، فاستعبرت باكية، وظلت تتناول يد أمها مرة ويد مرغريت أخرى فتقبلهما وتبللهما بدموعها، وتقول لهما: أرجو ألا يكون ذلك من أجلي! فبكى لبكائها الزنجيان، وكانا واقفين عند الباب واشتد نحيبهما ونشيجهما، أما بول فقد عصفت في رأسه عاصفة الغضب وظل يضرب الأرض بقدميه ويشير بيديه متهددا متوعدا لا يعلم من يهدد ولا من يتوعد، ولا على أي رأس من الرءوس يرسل صاعقة غضبه؛ لأنه لم يفهم مما كان شيئا، فكان هذا المأتم الغريب في تلك الساعة الرهيبة مظهرا من مظاهر الإخلاص والولاء بين قوم جمعتهم جامعة البؤس والشقاء، ووحدت بين قلوبهم الهموم والآلآم، وما اجتمعت القلوب على شيء هو أجمع لشملها وأوثق لرباطها من اجتماعها حول مواقف الهموم والأحزان، فسري عن هيلين قليلا، وضمت بول وفرجيني إلى صدرها وقالت لهما: إنكما وإن كنتما يا ولدي سبب أحزاني وآلامي ولكن الشقاء لم يأتني منكما. فلم يفهما شيئا مما تقول، ولكنهما علما أنها قد هدأت وسكنت، وأنها تبتسم لهما، فاعتنقاها وقبلاها.
وما لبثوا جميعا أن عادوا إلى سرورهم وغبطتهم، ولعبهم ومرحهم.
وكانت تلك الحادثة أشبه شيء بسحابة اعترضت وجه الشمس ساعة ثم اضمحلت.
الفصل الثامن
الاستعمار الأوروبي
مضت على ذلك أيام والولدان ينموان في جوهما نمو النبات المحيط بهما، وينمو معهما طيب أخلاقهما وحسن سجاياهما، فبينا فرجيني جالسة في الكوخ ذات يوم تهيئ طعام الإفطار لأسرتها كعادتها، والشمس لا تزال في خدرها، وأماها قد ذهبتا مع دومينج لأداء صلاة الأحد في كنيسة «بمبلموس» وبول في الحديقة يشذب بعض أشجارها، وماري وراء الكوخ تشتغل ببعض شئونها، إذ دخلت عليها زنجية مسكينة آبقة كأنها الهيكل العظمي نحولا وهزالا، ليس عليها من الثياب إلا خرقة بالية تدور بحقويها فجثت على ركبتيها بين يديها باكية منتحبة وأنشأت تقول لها: الرحمة يا سيدتي فإني أكاد أموت جوعا، وقد مر بي يومان وأنا أجوب هذه الأحراش والغابات أتوارى مرة وأظهر أخرى، وأقتات كل ما هو فوق التراب؛ مخافة أن تقع علي عيون بعض الفضوليين من الصيادين فيعيدوني إلى سيدي، والموت أهون علي من أن أعود إليه، فهو رجل قاس غليظ لا يزال يجلدني ويمزق لحمي بسوطه كلما بدا له أن يفعل ذلك.
ثم كشفت ثوبها عن جسمها وأشارت إلى مواضع الضرب منه فإذا خطوط حمراء ملتهبة لا يستطيع نظر الناظر أن يثبت أمامها لحظة واحدة، ثم قالت: ولقد حدثت نفسي كثيرا بالانتحار فما كان يمنعني منه إلا الخوف والجزع، ثم سمعت الناس يحدثون عنكم حديثا حسنا، ويقولون إنكم وإن كنتم من هذا الجنس الأبيض المخيف ولكنكم قوم محسنون راحمون، فأضرع إليك يا سيدتي أن ترحميني وتعودي علي بلقمة أتبلغ بها، وأن تحولي بيني وبين الشقاء! وهنا اشتد بكاؤها ونحيبها فأوت لها فرجيني ورقت لها رقة شديدة، ونهضت إلى الطعام الذي كانت أعدته لأسرتها فأتتها به، فالتهمته في لحظات قليلة، وأخذ وجهها يتطلق فرحا وسرورا، فقالت لها فرجيني: أتحبين أن أذهب معك إلى سيدك وأشفع لك عنده عله يعفو عنك ويرحمك ويكون لك في مستقبله خيرا منه في ماضيه؟ وما أحسبه إلا فاعلا حين يرى بؤسك وشقاءك ومنظر جسمك المعذب المقروح؟ فشكرت لها الجارية فضلها ورحمتها وقالت لها: سأتبعك يا سيدتي حيث شئت، فأنت ينبوع الرحمة والإحسان.
فهتفت فرجيني ببول فحضر، فحدثته حديث الجارية والرأي الذي رأته لها، فوافقها على رأيها واقترح عليها أن يرافقها في رحلتها، ثم سارا معا والجارية تتقدمهما وتخترق بهما الغابات والأجمات في ممرات مستدقة غامضة تعرفها. وكانت تعترضهما في مسيرهما بعض هضبات عالية كانا يجدان مشقة عظمى في تسلقها حتى أشرفا وقت الظهيرة على ضفة النهر الأسود حيث مقام الرجل، فانحدرا إليه، وهناك شاهدا بنية عظيمة فخمة تحيط بها حدائق غناء، وأدواح ملتفة، ومزارع منبسطة، وعبيد كثيرون منتشرون في كل مكان يحرثون ويحصدون، ويحفرون وينقبون، ويخوضون الأوحال، ويحملون الأثقال، ويقطعون الصخور، ولمحا صاحب المزرعة يتمشى بينهم مشية الخيلاء و«غليونه» في فمه ينفث منه الدخان، وبيده عصا خيزران طويلة، وهو رجل طويل القامة، مهزول الجسم، غائر العينين؛ مقرون الحاجبين، أخضر اللون، مقطب الجبين، كأنما قد جثمت روحه الشريرة بين عينيه واستعدت للوثوب على كل من يدنو منها، فارتاعت فرجيني لمنظره المرعب المخيف، إلا أنها لم تجد بدا من التقدم.
فشمت نحوه خائفة مضطربة تعتمد على يد بول والجارية من خلفهما تتبعهما حتى بلغته، فجثت بين يديه وأخذت تضرع إليه أن يعفو عن جاريته المسكينة ويرحمها، وتناشده الله والكتاب في ذلك، فلم يكترث في مبدأ أمره لمنظر فتى وفتاة فقيرين زريين في ملبسهما وهيأتهما، إلا أنه لما وقع نظره على فرجيني ورأى منظرها البديع الجذاب، وشعرها الأصفر الذهبي المسترسل على ظهرها، وتلك العصابة الزرقاء التي تدور بجبينها الأبيض المشرق، ورأى ماء الحياء يترقرق في وجهها ترقرق الطل في ورقات الورد، وسمع صوتها الرخيم المتهدج كأنه ينبعث من آلة موسيقية شجية، بهت وشده وأخرج غليونه من فمه، وابتسم ابتسامة نكراء، وتقدم نحوها قليلا وألقى عليها نظرة فاجرة مريبة، وقال لها: قد عفوت عنها أيتها الفتاة الجميلة، لا من أجل الله ولا من أجل الكتاب بل من أجلك أنت ...
فأشارت فرجيني إلى الجارية أن تتقدم لتشكر لسيدها نعمته وفضله، ثم انكفأت راجعة تركض ركوض الهارب وبول يتبعها حتى ارتقيا الجبل الصغير الذي هبطا منه، وجلسا تحت دوحة من أدواحه يستريحان، وكان التعب قد نال منهما منالا عظيما، فقد قطعا في ذلك اليوم خمسة فراسخ في أرض صخرية وعرة لا يستريحان فيها ولا يهدآن، ولا يتبلغان بطعام ولا شراب، فقال بول لفرجيني ها قد مال ميزان النهار وبيننا وبين مزرعتنا مفازة منكرة لا أحسب أننا نستطيع قطعها قبل الغروب. وليس في هذه البطحاء المحيطة بنا شجرة واحدة ذات ثمر صالح نطعمه أو ننقع ظمأنا بعصارته، وأنت ظامئة جائعة لا طاقة لك بالصبر على أكثر مما صبرت، فخير لنا أن نعود إلى مزرعة مولى الجارية ونطلب إليه أن يمدنا بشيء من الطعام والشراب، وما أحسبه ضانا علينا بهما.
فوجمت فرجيني وقالت: لا يا بول، إن هذا الرجل قد ملأ قلبي خوفا ورعبا، وما أحب أن أرى وجهه مرة أخرى، واذكر تلك الكلمة التي كانت تقولها لنا أمي دائما: «إن خبز الأشرار يملأ الفم حصى»، فلنمض في سبيلنا، وما أحسب أن الله يخذلنا أو يتخلى عنا.
قال: وما العمل، والشقة بعيدة، والمنال وعر، والأرض قاحلة جدباء لا ماء فيها ولا ثمر ولا شيء مما يتبلغ به المتبلغ، أو يتعلل به الظامئ.
قالت: إن الله الذي يسمع زقزقة العصفور الصغير في عشه فيرسل إليه الحبة التي تقوته والقطرة التي ترويه سيسمع دعاءنا ويرد لهفتنا، وما ذلك عليه بعزيز.
ثم سارا في طريقهما، فما أبعدا إلا قليلا حتى سمعا خرير ماء على البعد، فانتعشا وصاحا بصوت واحد: «إن ها هنا ماء»، وتبعا الصوت حتى وصلا إلى صخرة عظيمة عالية يتفجر من صدوعها ماء زلال رقراق كأنه ذوب البلور في شفوفه ولمعانه، فشربا منه حتى ارتويا، ووجدا من حوله بعض الأعشاب التافهة فأصابا منها قليلا ثم جلسا في مكانهما.
وإنهما لكذلك إذ لمحا على البعد نخلة سامقة من نخيل الجوز، والجوز أنواع كثيرة متعددة، وهذا النوع منها دقيق مستطيل لا يزيد حجم ساقه عن حجم ساق الإنسان إلا قليلا، وربما ذهب في الهواء ستين قدما أو أكثر، وله في شعفاته لفائف ضخمة متراكمة أشبه بلفائف الكرنب، تحمل في جوفها طلعا أبيض ناصعا، حلو الطعم، جيد الغذاء.
فابتهجا بها إذ رأياها، وهرعا إليها، وكانا بين أن يصعداها - وهو ما لا سبيل إليه - أو يقطعاها - وهو ما تعيا به قوتهما - عقبة كئود؛ لأن جذعها على رقته ونحافته مؤلف من خيوط ليفية متداخلة متينة النسيج، سميكة القشرة، تعيا بها الفئوس القاطعة، فلم يبق أمامهما إلا أن يحرقاها فتهوى بين أيديهما فيظفرا بثمرها، ولم يكن لديهما نار ولا شيء مما تقتدح به النار، وليس في تلك المدرة جميعها - على كثرة صخورها وأحجارها، واختلاف صورها وأشكالها - حجر من أحجار الاقتداح، ففتقت الحاجة لبول حيلة من أغرب الحيل وأبدعها، وقديما فتقت الحاجات حيل الرجال، واستثارت دفائن ذكائهم وفطنتهم، وما انتفع العالم في جميع شئونه وأحواله بمثل ما تفتقه الحاجات والضرورات، ولا نبتت أغراس المعارف والعلوم والمستكشفات والمخترعات إلا في تربة الفقر والإقلال، فعمد إلى ظر رقيق الأطراف مما يقوم لدى سكان تلك الأصقاع مقام المدى في منفعتها وجدواها، فبرى به طرف غصن يابس متين حتى صيره كالسهم، ثم عمد إلى غصن آخر من نوع غير نوعه فثقبه ثقبا دقيقا بحد ذلك الحجر نفسه ثم أدخل طرف الغصن الأول في ثقب الغصن الثاني بعدما شد عليه بقدمه وظل يديره بكلتا يديه بسرعة عظيمة، فما هي إلا لحظات حتى التهب الغصنان وانبعث منهما دخان وشرر، فجمع بضعة أعواد يابسة وأوراق جافة وألقاها على النار فاشتعلت، فأدناها من ساق النخلة فنشبت بها ولم تلبث إلا قليلا حتى هوت بين يديه هوي الكوكب الناري من سمائه، فأخذ يفض اللفافات عن طلعها الأبيض النضير، وجلس هو وفرجيني يشتويان ويأكلان ألذ طعام وأهنأه حتى اكتفيا، ومرت بهما ساعة سرور وغبطة نسيا فيها بؤسهما وشقاءهما، ثم ما لبثا أن جمعا شتات نفسهما وأخذا يتمثلان حيرتهما وضلالهما، وبعد الشقة بينهما وبين أرضهما، ويذكران قلق أميهما عليهما، وجزعهما لغيابهما، ويقولان في نفسهما: لا بد أن تكون الظنون قد ذهبت بهما مذاهب سيئة في شأنهما حينما عادتا من الكنيسة إلى المزرعة فلم تجداهما، ولم تعرفا الوجه الذي ذهبا فيه.
ثم نهضا من مكانهما وأخذا يدوران بأنظارهما يمنة ويسرة ليتعرفا الطريق التي أتيا منها فأضلاها، فسقط في أيديهما ولم يعرفا كيف يعودان، وكان بول أهدأ من فرجيني روعا وأثبت جأشا، فظل يعللها ويهدئ روعها ويقول لها إن كوخنا يكون دائما في مثل هذه الساعة تحت قرص الشمس، فإذا نحن اتجهنا جهة الشرق لا نحيد عنه يمنة ولا يسرة، ثم إذا صعدنا هذا الجبل المثلث الرأس الذي نراه أمامنا لا نلبث أن نجد أنفسنا في مزرعتنا.
وأخذا يسيران في الوجهة التي توهماها، فمرا بغابات كثيرة، وأدواح ملتفة، وهضاب عالية، وأنهار جارية، لم يطأ السائحون لها أرضا حتى اليوم، وظلا على ذلك ساعتين حتى اعترض طريقهما نهر واسع يتدفق ماؤه تدفقا، فذعرت فرجيني لمنظره ومنظر الصخور السوداء الجاثمة في مجراه، واستحال عليها أن تضع قدمها فيه، فلم ينشب بول أن حملها على ظهره وخاض بها الماء لا يحفل بتياره المتدفق، ولا بصخوره المتزلقة، وظل يقول لها وهو سائر بها: لا تخشي شيئا يا أختاه، فإني جلد قوي لا يعجزني حمل شيء من الأشياء كيفما كان شأنه، وأشعر أني أزداد قوة وجلدا حين أكون معك، وأستطيع أن أقول لك إن نفسي كانت تحدثني بشر عظيم لذلك الرجل مولى الجارية حينما ظننت أنه احتقرك وازدراك فلم يحفل بك ولا برجائك، ولو أنه فعل لبطشت به بطشة لا أبالي بعواقبها.
فاضطربت فرجيني وقالت له: ولكنك لا تفعل يا بول إلا إذا أردت أن تكون غلاما شريرا، دع الأشرار يا صديقي وشأنهم، لا تهجهم، ولا تعترض طريقهم، عسى أن يموت شرهم في صدورهم حينما لا يجد له مضربا ولا منتدحا، ثم تنهدت ورفعت رأسها إلى السماء وقالت: آه يا رب! لم لم تجعل طريق الخير سهلا لينا كطريق الشر؟
ولم يزل سائرا بها حتى بلغ الضفة الأخرى، وأراد أن يستمر في سبيله حاملا إياها على ظهره حتى يصعد بها الجبل المثلث الرأس اعتزازا بقوته وبأسه، فألحت عليه ألا يفعل، فأنزلها.
واستمرا سائرين في أرض وعرة كأداء كاطراد السيف تحفى فيها النعال، وتدمى الأقدام، وكانت فرجيني قد نسيت نعلها في كوخها حينما ورد عليها من أمر تلك الزنجية المسكينة ما أذهلها وطار بلبها، فأضر بها الجهد، وأدمى قدميها المسير، فلم تزل تتحامل على نفسها حتى وصلت إلى جدول ماء جار، فترامت على ضفته وأخذت تنضح قدميها بمائه، ثم مدت يدها إلى شجرة فرعاء حانية عليها فاقتطعت بعض أعوادها وأوراقها ونسجت منها لنفسها ما يشبه النعل فانتعلته فهدأ بعض ما بها، وأقبلت على بول تقول له: ها هي ذي الشمس قد أشرفت على المغيب، ولا تزال الشقة بيننا وبين المزرعة بعيدة جدا، وقد نال مني التعب، ولم يبق لي جلد على المسير، فاتركني وحدي هنا واذهب إلى المزرعة لتخبر أهلنا خبرنا فيطمئنوا علينا، وابعثوا إلي من قبلكم من يحملني إليكم، فأبى بول مستعظما الأمر، وقال: الموت أهون علي من أن أتركك وحدك في هذا المكان الموحش المقفر، فسأبقى معك ما بقيت، فإن أظلنا الليل قطعت لك نخلة من نخيل الجوز فأطعمتك ثمرها كما فعلت الغداة ثم نسجت لك من أعوادها وأغصانها مهادا لينا تنامين عليه وأنا ساهر بجانبك حتى الصباح.
فأذعنت لرأيه، وكانت قد شعرت بشيء من الراحة بعد ما خصفت قدميها بتلك الأعواد المخضلة، فقامت تعتمد بيمناها على فرع قطعته من تلك الشجرة، وبيسراها على كتف بول حتى بلغا غابة كثيفة قد أحاط بها من جميع أقطارها كثير من الأدواح الباسقة الملتفة، فدخلاها، وما أمعنا فيها إلا قليلا حتى احتجب عنهما وجه الشمس وراء تلك الهضاب الشامخة والأدواح العالية، وغاب عن عينيهما الجبل المثلث الرأس، وكان علمهما الذي يهتديان به، فإذا هما في مضلة بهماء لا يريان فيها غير الصخور العالية، والهضاب المشرفة، والأشجار المتشابكة، والمسالك المتشابهة، والأعماق المتغلغلة، فذعر بول ذعرا شديدا، ووقف في مكانه حائرا ذاهلا لا يدري ماذا يأخذ وماذا يدع؟ ثم اندفع يعدو ها هنا وها هنا هائما مخبولا عله يجد طريقا أو مسلكا، أو دليلا يهديه الطريق، فلم يجد، فتسلق شجرة عالية ووقف بين فرعين من فروعها وظل يدور بنظره حوله ليرى موضع الجبل المثلث الرأس، أو يرى قرص الشمس في منحدرها إلى مغربها، فلم ير غير ذوائب الأشجار العالية تتلألأ على أوراقها الخضراء أشعة الشمس الذهبية قبل انحدارها إلى الغروب، وغير الظلال الممتدة التي يرسلها الليل طلائع لجيوشه الزاحفة المتدفقة، وكانت الريح قد هدأت وخفت صوتها، شأنها ساعة الغروب، وساد السكون على كل شيء، فأصبحت الغابة كأنها كوكب من كواكب السماء، السابحة في أجواز الفضاء، لا يدب فيها حيوان، ولا يخطر إنسان، فملك الخوف قلب بول وجن جنونه، وأخذ يصيح بأعلى صوته لا يدري من يحدث ومن ينادي، الغوث، النجدة، النجدة، إلي أيها الناس لتنقذوا فرجيني البائسة المسكينة، فلم يجبه غير الصدى المتردد.
ولم يزل يكرر هذا النداء والصدى يردد صوته حتى خيل إليه أن صوته قد أصبح صدى من تلك الأصداء، فنزل من مكانه خائرا متضعضعا، ليس وراء ما به من الهم غاية، ثم وقف وأجال نظره في الفضاء فلم ير ماء ولا ثمرا، ولا نخيلا ولا شجرا، ولا كنا ولا مأوى، ولا شيئا مما يقتات به المقتات، أو يتعلل به المتعلل، فصرخ صرخة عظيمة، وتهافت على الأرض باكيا منتحبا، فذعرت فرجيني حين رأته على تلك الحال وهرعت إليه وضمته إلى نفسها وظلت تقول له : لا تبك يا بول، فإن بكاءك يقتلني هما وكمدا، واغفر لي جريمتي التي أجرمتها إليك، فلولاي لما قاسيت هذا البلاء الذي تقاسيه الآن، ولقد كان خيرا لي ألا أقدم على عمل من أعمال الخير أو الشر إلا بعد استشارة أمي، ثم قالت له: دع البكاء والنحيب ولنتوجه إلى الله تعالى بالضراعة والابتهال عسى أن يفرج كربتنا، ويجعل لنا من أمرنا مخرجا.
وجثيا يصليان صلاة طويلة استغرقت شعورهما ووجدانهما، وذهبت نفساهما فيها حيث تذهب نفوس القانتين المتبتلين في مواقف خشوعهم وابتهالهم، وكانت الشمس قد انحدرت إلى مغربها ولم يبق منها في حاشية الأفق إلا كما يبقى على صفحة البحر الهادئ من آثار السفينة الماخرة، فلبثا على ذلك هنيهة ثم استفاقا على صوت كلب ينبح نباحا شديدا، فصاح بول: إنه كلب أحد الصيادين الذين يرصدون الأيائل في أعماق هذه الغابات ليطلقوا عليها كلابهم فتعقرها، ثم اشتد نباح الكلب وأخذ يدنو منهما شيئا فشيئا، فارتعدت فرجيني وقالت: يخيل إلي يا بول أني أسمع صوت كلبنا «فيديل» لا، بل هو بعينه، وما ارتبت فيه قط.
وما أتمت كلمتها حتى كان الكلب «فيديل» تحت أقدامهما يتمسح بهما ويجاذبهما أثوابهما، ويكاد - لو استطاع - أن يبكي فرحا بهما، ثم ما لبثا أن رأيا الزنجي دومينج مقبلا عليهما، فازداد سرورهما واغتباطهما، وما وقع نظر الرجل عليهما حتى هرع إليهما وجثا تحت أقدامهما باكيا مستعبرا، وظل يقول لهما: لقد مر بأميكما اليوم يا ولدي يوم ما مر بهما مثله مذ نزلا هذه الأرض حتى اليوم، ولقد كان جزعهما عظيما جدا حينما عادتا من الكنيسة فلم تجداكما، ولم تعرفا أي سبيل سلكتما، ولا أي أرض اشتملت عليكما، ولم تستطع ماري أن تقول لهما شيئا؛ لأنها كانت مشتغلة ببعض الشئون وراء الكوخ في الساعة التي خرجتما فيها فلم تركما، وقد فتشنا عنكما في كل مكان وسألنا عنكما كل غاد ورائح فلم نجد من يدلنا عليكما، فرأيت أن أستعين بالكلب «فيديل» على تتبع آثاركما، فأحضرت له بعض أثوابكما وألقيتها بين يديه فاشتمها ، وكأنه علم ما يراد منه، فألصق خيشومه بالأرض وانبعث في الطريق التي سرتما فيها، فعل الدليل الحاذق، فتبعته أخترق الغابات والأجمات، وأتسلق الصخور والهضاب، وأجتاز الجداول والأنهار، وأشعر بجميع ما شعرتما به من المتاعب والآلام، حتى بلغنا ضيعة الرجل الأوروبي على شاطئ النهر الأسود، وهنالك حدثني بعض الذين عرفتهم من عبيده وأجرائه أنكما حضرتما إليه لتسألاه العفو عن زنجية مسكينة كانت قد أبقت منه وخافت الرجوع إليه، فوعدكما بالعفو عنها، ثم ما لبثتما أن عدتما أدراجكما قبل أن تعلما ما تم في شأنها.
فاضطربت فرجيني وقالت: وماذا تم في شأنها؟ ألم يعف الرجل عنها؟ فابتسم دومينج وقال: نعم عفا عن قتلها وإزهاق روحها، أما ما دون ذلك فلا، فإنه ما لبث على إثر ذهابكما أن أمر بشدها إلى بعض الأشجار عارية، وظل يجلدها بسوطه حتى تناثر لحمها، وتدفق دمها، ثم تركها مكانها تتأوه آهات تستبكي العيون وتذيب الأكباد، وقد رأيتها بعيني فلم أستطع البقاء أمامها لحظة واحدة.
وما أتم كلمته حتى صعقت فرجيني وهتفت بكلمتها التي كانت ترددها دائما: آه رب، لم لم تجعل طريق الخير سهلا لينا كطريق الشر؟!
ثم عاد الزنجي إلى حديثه يقول: ثم انكفأ «فيديل» راجعا فتبعته فسار قليلا على شاطئ النهر الأسود، ثم صعد الجبل الصغير المشرف عليه فصعدت وراءه حتى قادني إلى عين ماء جارية رأيت على مقربة منها نخلة من نخيل الجوز ساقطة محترقة لا يزال ينبعث دخانها وبقايا طلع مشوي متناثر حولها، فعلمت أنكما عجتما بهذا المكان، وأن الجوع قد نال منكما منالا عظيما فتجشمتما في طلب الطعام هذا العناء الكثير، ثم قادني الكلب بعد ذلك إلى هنا كما تريان، ونحن الآن على مقربة من الجبل المثلث الرأس، وبيننا وبين المزرعة أربعة فراسخ، وقد أرسلت لكما سيدتاي هذا الطعام فكلاه وخذا لنفسكما راحتها وسكونها، ثم نرى بعد ذلك كيف نعود، وأخرج لهما طعاما كثيرا، وأثمارا متنوعة، وركوة ماء قراح، وشيئا من شراب الليمون المحلى بالسكر، وجلسوا جميعا يأكلون ويشربون فرحين مغتبطين، لولا ما كان ينغص على فرجيني أحيانا من ذكرى تلك الزنجية المسكينة المعذبة، حتى فرغوا من الطعام وتهيئوا للمسير، فإذا بول وفرجيني ضعيفان متضعضعان لا يستطيعان الانتقال خطوة واحدة لما نالهما من الأين والإعياء.
فوقف دومينج وقفة الحائر المضطرب لا يدري ماذا يصنع: أيحملهما على عاتقه، وهو ما لا طاقة له به، أم يقضي الليل بجانبهما، ووراءهما أماهما تنتظرانهما انتظار الظامئ الهيمان علالة الماء البارد؟ أم يرجع إلى المزرعة وحده ليعود منها بمن يساعده على حملهما؟ وكيف له بتركهما وحدهما في هذه القفرة الموحشة التي لا يعلم إلا الله ماذا تضم بين أقطارها من مخاوف وأهوال، فتنفس تنفسة طويلة وأنشأ يقول: أسفي على تلك الأيام المواضي حين كنت أحملكما فيها يا ولدي على ذراع واحدة ما أشكو ولا أتبرم، أما اليوم فقد وهن عظمي، وضعفت منتي، وتقاربت خطاي، ولم يبق لي من الحياة إلا هذه الخطوات البطيئات التي أخطوها إلى قبري!
وإنه لكذلك إذ لمح أشباحا سوداء تنحدر إليه من قمة الجبل كأنها قطع الليل، فراعه منظرها، ثم تبينها فإذا قوم من الزنوج السود الآبقين من ظلم مواليهم البيض في شعاب الجبال ومخارمها، وكانوا قد سمعوا وهم في مكمنهم حديثه مع الولدين ورأوا حيرته في أمرهما فجاءوا لمساعدته، وقال زعيمهم: إن هذين الأبيضين الصغيرين من أطيب الناس قلبا، وأشرفهم نفسا، وأدناهم رحمة فقد جشما اليوم نفسهما عناء عظيما في سبيل مساعدة زنجية مسكينة كان قد بلغ بها الشقاء والبلاء مبلغهما، فرحماها وأويا إليها وذهبا بها إلى سيدها ليشفعا لها عنده ويسألاه العفو عنها والمرحمة بها، وقد رأيناهما صباح اليوم وهما سائران معها إلى شاطئ النهر الأسود، فشكرنا لهما في أنفسنا فضلهما ونعمتهما، وعجبنا كيف استطاع ذلك الإهاب الأبيض الدميم أن يضم بين أقطاره قلبا غير أسود، وقد سمعنا الآن حوارك معهما، وعلمنا أنهما في حاجة إلى من يحملهما إلى مزرعتهما، فجئنا لنتولى ذلك بأنفسنا مكافأة لهما على نعمتهما التي أسدياها إلى تلك الطريدة المسكينة.
ثم أشار إلى أصحابه فاقتطعوا في لحظات قليلة بضعة أعواد من بعض الأشجار العاتية وصنعوا منها ما يشبه المحفة، فصعد إليها بول وفرجيني، وحملها أربعة منهم على عواتقهم، ومشى الباقون أمامهم ينيرون الطريق بمشاعلهم، ويغنون أغانيهم الخاصة كأنما قد نسوا جميع همومهم وآلامهم التي يعالجونها في أنفسهم، حتى وصلوا عند منتصف الليل إلى المزرعة.
وكانت هيلين ومرغريت تنتظران ولديهما منذ غروب الشمس عند سفح الجبل وقد نصبتا حولهما على أبعاد مختلفة بعض المشاعل الكبيرة لتريا على ضوئها وجوه القادمين، فما لمحتا المحفة على بعد حتى طارتا إليها وضمتا ولديهما إلى صدريهما باكيتين منتحبتين، فبكى الولدان لبكائهما، وبكى الجميع لبكائهم، والتفتت هيلين إلى ابنتها وقالت لها: أين كنتما أيها الولدان الشقيان؟ ومن أذنكما بالذهاب وحدكما في هذه الفلاة الموحشة؟ فجثت فرجيني بين يدي أمها وقالت لها: العفو يا أماه، فقد جاءتني اليوم زنجية مسكينة آبقة من سيدها تتضور جوعا، وتسيل نفسها هما وكمدا، فسألتني أن أطعمها وأسقيها، وأن أنقذها من بؤسها وبلائها، فقدمت لها ما شاءت من الطعام والشراب، ثم حرت في أمرها بعد ذلك، فلم أر خيرا لها من أن أصحبها إلى سيدها وأسأله العفو عنها والمرحمة بها، وأبى بول إلا أن يصحبني، فذهبنا إلى شاطئ النهر الأسود، فلما فرغنا من شأننا وأردنا الرجوع ضللنا الطريق، وظللنا حائرين ساعات طوالا حتى وافانا دومينج، وكان التعب قد نال منا منالا عظيما فعجزنا عن المسير، فتقدم هؤلاء السود الطيبون لمساعدتنا، وصنعوا لنا هذه المحفة وحملونا عليها رحمة بنا، ووفاء بذلك المعروف القليل الذي بذلناه لمواطنتهم المسكينة، وكذلك يجزي الله المحسنين خيرا بما فعلوا.
فضمتها أمها إلى صدرها وقالت: قد عفوت عنكما يا ولدي، وأدعو الله ألا يحرمكما نعمة العطف على البائسين والمنكوبين. ثم عادوا جميعا إلى أكواخهم فرحين مغتبطين وقدموا للزنوج كثيرا من الطعام والشراب، فشكروا لهم فضلهم وانصرفوا.
الفصل التاسع
السعادة
وهنا تنفس الشيخ الصعداء ثم، أستطيع أن أقول لك يا بني: إن السعادة ينبوع يتفجر من القلب لا غيث يهطل من السماء، وإن النفس الكريمة الراضية البريئة من أدران الرذائل وأقذارها، ومطامع الحياة وشهواتها، سعيدة حيثما حلت وأنى وجدت: في القصر وفي الكوخ، في المدينة وفي القرية، في الأنس وفي الوحشة، في المجتمع وفي العزلة، بين القصور والدور، وبين الآكام والصخور، فمن أراد السعادة فلا يسأل عنها المال والنشب، والفضة والذهب، والقصور والبساتين، والأرواح والرياحين، بل يسأل عنها نفسه التي بين جنبيه، فهي ينبوع سعادته وهنائه إن شاء، ومصدر شقائه وبلائه إن أراد، وما هذه الابتسامات التي نراها تتلألأ في أفواه الفقراء والمساكين، والمحزونين والمتألمين؛ لأنهم سعداء في عيشهم، بل لأنهم سعداء في أنفسهم، وما هذه الزفرات التي نسمعها تتصاعد من صدور الأغنياء والأثرياء، وأصحاب العظمة والجاه، لأنهم أشقياء في عيشهم؛ بل لأنهم أشقياء في أنفسهم، وما كدر صفاء النفوس وأزعج سكونها وقرارها، وسلبها راحتها وهناءها مثل عاطفة البغض، ولا أنار صفحتها وجلا ظلمتها مثل عاطفة الحب، فأشقى الناس جميعا المبغضون الذين يضمرون الشر للعالم، فيجزيهم العالم شرا بشر، وأسعدهم جميعا المحبون الذين يحبون الناس ويمنحونهم ودهم وصفاءهم، فيمنحهم الناس من بنات قلوبهم مثل ما منحوهم.
وكذلك استطاعت تلك الأسرة الفقيرة المسكينة أن تكون سعيدة هانئة على فقرها وإقلالها وجعجعة المصائب بها، فقد كانت تحمل بين جنوبها نفوسا طاهرة شريفة لا تضمر حقدا، ولا تعرف غلا، فأحبت القريب والبعيد، والمحسن والمسيء، وعطفت على الناس جميعا، من تمت إليه بصلة، ومن لا تمت إليه بشيء.
ولم تحقد على الناس أو تضمر لهم في نفسها شرا، وما لها إلى الناس حاجة، ولا رأي لها في مطالبتهم بشيء مما في أيديهم من مال أو جاه، أو قوة أو سلطان، فقد قنعت من عيشها بما قسم الله لها، ولم تطلب مزيدا، ورضيت من حياتها بهذه العلالة القليلة التي تتعلل بها، فأراحت نفسها من هموم المطامع ومتاعبها.
وكانت أحاديثها التي تجري بينها أحاديث طاهرة بريئة لا تطغى فيها الألسنة ولا الأفكار، ولا تتناول شأنا من شئون الناس - خاصها أو عامها - والغيبة رسول الشر بين البشر، بل هي أس الشرور جميعها، قديمها وحديثها ؛ لأن المرء إذا اعتقد من طريقها الشر في صديقه أو عشيره وملكته فكرة سوء الظن به أبغضه واجتواه، وحذره واتقاه، وكان لا بد له من إحدى اثنتين: إما أن يصارحه ببغضه، فتصبح حياته معه حياة نكدة لا نهاية لهمومها وآلامها؛ أو يماذقه ويداوره، فيصبح رجلا منافقا كذابا، وخير له من هذا وذاك ألا يسمع عن الناس خيرا ولا شرا.
نعم إنها لم تكن تعتمد في حديثها على العلم والتاريخ كما يعتمد الناس في مجتمعاتهم، ولا كانت محاضراتها حافلة بالشواهد والأمثال والعظات والعبر، والمقارنات والموازنات، ولكنها كانت لذيذة شهية، رقيقة مستملحة؛ لأنها كانت تستمد جمالها ورونقها من كتاب الطبيعة المفتوح أمامها، وكتاب الطبيعة هو الكتاب المشرق المنير الذي لا يقبل تأويلا، ولا يحتاج إلى تفسير، والذي يرى فيه قارئه الحياة كما خلقها الله، فلا حاجة به إلى من يدله عليه، أو يرشده إليه.
وما هي إلا أيام قلائل حتى انتشر لتلك الأسرة الكريمة - بين سكان تلك الجزيرة - ذكر عطر، فأخذ الناس يتحدثون بأدبها ولطفها، ومروءتها وكرمها، وأياديها الظاهرة والخفية، ورحمتها الخاصة والعامة وإن لم يعرفوا لها اسما ولا لقبا، فإذا سأل سائل من السابلة أو الطارئين: من هم؟ كان جواب المجيب: إنهم قوم طيبون وكفى، كشجرات البنفسج المختبئة بين لفائف الأدغال ينشق الناس طيبها، ويحمدون عرفها، وإن لم يعرفوا مكانها.
الفصل العاشر
العمل
وكان بول وهو في الثالثة عشرة من عمره كأنه في الخامسة عشرة قوة ونشاطا، وهمة وعزيمة، وذكاء وفطنة، فكان لا يمل العمل نهاره ولا ليله، ولا يتلهى عنه بما يتلهى به أمثاله من الغلمان في مثل هذه السن، وكأنما كان يشعر في نفسه أنه مسئول عن هذه القفرة الموحشة أن يحيلها إلى جنة فيحاء من جنان الأرض، فلا بد له أن يعمل حتى يصل إلى الغابة التي يريدها، وكان لا يعمل قبل أن يفكر، ولا يفكر إلا تفكيرا صحيحا مستقيما، وقد وهبه الله قريحة وقادة، وذهنا خصبا، وذوقا سليما، ومخيلة قوية قادرة على جمع شوارد الأشياء والتأليف بين متنافراتها، فرسم في ذهنه صورة بديعة لذلك الوادي الجميل كما يفعل المهندس الماهر، وأخذ نفسه بالعمل لإبرازها وتحقيقها فلم يخطئ ولم يضطرب، ولم يلجأ إلى الاستشارة إلا في القليل النادر مما يستعصي مثله على أمثاله، فكان لا يراه الرائي إلا غاديا أو رائحا، أو مصعدا أو منحدرا، أو متسلقا شجرة، أو مكبا على قناة، أو حاملا غرسا أو خائضا نهرا، ودومينج وراءه يعينه على ما يعجز عنه من حمل الأثقال وتحويل المياه ونقل الأغراس، فأنشأ الحظائر المختلفة للحنطة والشعير، والدخن والذرة، والقطن والقصب، تزخر كل حظيرة بما فيها من ماء وثمر، وغرس أشجار الليمون والبرتقال والتمر الهندي ونخيل البلح والجوز، وألوانا من الأزهار والأنوار تتألق في أغصانها تألق الأحجار الكريمة في التيجان المرصعة.
وأجرى المياه حول تلك الأغراس وفي خلالها بنظام دقيق كأنما قد خطها بالبركار، وزرع الأكمات والروابي المشرفة على الوادي من جميع نواحيه، فتراءت لعين الناظر كأنها قباب لطاف، أو أهرام صغار مكسوة برقاق الخز والديباج على اختلاف أصباغها وألوانها، ولم يترك بقعة جدبة ولا أرضا صلبة إلا هز تربتها وأحيا مواتها، فاستحالت إلى روضة أنف تتدفق ثمارا وأزهارا، وتسيل عيونا وغدرانا، وأعجب ما كان يعجب له الناظر في هذه الروضة الزاهرة منظر المياه المتدفقة من أعالي الجبال تنثر الخصب حولها نثرا، وتدور بالربى والهضاب قلائد وعقودا، وبالخمائل والأشجار أوشحة ومناطق، وتتلوى في سيرها وتدفعها تلوي الحيات المذعورة الهائمة على وجهها، حتى إذا انتهت إلى السفح مشت برفق وهدوء تتبسط في مذاهبها ومناحيها، ثم تتلاقى أطرافها فتكون بركا صغيرة مستديرة تحف بها الأعشاب المخضرة كما تحف بالعيون أهدابها، فإذا انعكست على تلك البرك زرقة السماء خيل إليك أنها المرايا الصافيات في أطرها أو أحجار الفيروز في خواتمها، ولما كانت الأرض في تلك الدائرة متدرجة غير مستوية، فقد راعى أن يغرس الأدواح الباسقة في البقاع المنخفضة، والأشجار المتوسطة في الأماكن المتوسطة، والشجيرات القصيرة في المشارف العالية، فاستوت رءوس الأشجار في علوها وارتفاعها كأنما قد قرضت ذوائبها بمقراض، أو كأنما غرسها غارسها في بطحاء مستوية.
وكان يعمد إلى الهضاب العالية ذات الجباه البارزة فيغرس بين يديها الأشجار العظيمة المورقة، فتتلاقى ذؤابة الشجر بذؤابة الهضبة؛ فتتكون منهما قبة جوفاء تشرف على مجلس رطب ظليل كانوا يفيئون إليه من حر الهاجرة، فإذا هم في روضة يانعة من رياض الجنة تزخر أشجارها، وترن أطيارها، وترف ظلالها، وتتهادى نسائمها، وأجمل من هذا وذاك أنه غرس صفين متقابلين من الأشجار الوحشية الضخمة يمتدان على مدى بعيد، فتألف منهما دهليز ضيق مستطيل لا تنفذ إليه أشعة الشمس، ولا تكاد تصل إليه أضواء النهار، فإذا دخله الداخل خيل إليه أنه يسير في نفق مظلم تحت الأرض، وشعر بوحشة غريبة أشبه بتلك الوحشة التي يشعر بها سكان السراديب في سراديبهم، أو عملة المناجم في أعماق مناجمهم.
في أحضان ذلك الوادي الجميل، وفي ذمة تلك الجنة الزاهرة وبين أعطاف تلك الدائرة الواسعة المخضرة من الربى والهضاب كان يعيش هؤلاء القوم في أكواخهم البسيطة عيشا سعيدا هانئا، متمتعين بما لا يتمتع به الأثرياء في قصورهم وبساتينهم، والسعداء في جناتهم وعيونهم، فإذا انقضى النهار وأوت الشمس إلى خدرها صعدوا إلى صخرة عظيمة تشرف على ذلك الوادي جميعه فيتجلى أمامهم منظره العام بعيونه وغدرانه، وأعشابه وأشجاره، وخمائله وكرومه، ومروجه وحرجاته، وظلاله وأضوائه، فإذا ألقوا بأنظارهم في جو السماء المائج فوق رءوسهم بأضوائه وأنواره خيل إليهم أنهم بين سماءين متقابلتين، سماء تنبت الكواكب والنجوم، وأخرى تنبت الأزهار والأنوار، أو روضتين مترائيتين، تتألق في إحداهما الزنابق البيضاء على ديباجة زرقاء، وفي أخراهما الورود الحمراء على قطيفة خضراء.
الفصل الحادي عشر
التاريخ
وكانوا يسمون هذه الصخرة «اكتشاف الصداقة»؛ لأن بول غرس في قمتها شجرة دقيقة من شجر الأثل، ورفع في أعلاها منديلا أبيض يشبه العلم، وناطه بخيوط مختلفة تسترسل في أسفل الشجرة، فإذا لمحني مقبلا على البعد شد الخيط فانتشر المنديل واضطرب في الهواء، وكان ذلك إعلانا للأسرة بقدومي، كما يرفع العلم على قمة الجبل إعلانا بقدوم سفينة إلى الشاطئ.
وكذلك كان شأنهم دائما في تسمية الأماكن والبقاع والجذوع والأشجار التي يحبونها بأسماء لطيفة يرمون بها إلى غرض خاص، ويسجلون بها فكرة معينة، فكان يخيل إلي أنهم يلقون عليها أشعة أرواحهم النورانية السامية فتدب فيها حياة جديدة فوق حياتها الأولى، فأطلقوا اسم «ميدان الاتفاق» على بساط من العشب الأخضر مسور ببضع شجيرات متسقات من أشجار البرتقال كان بول وفرجيني يرقصان عليه معا في ضوء القمر، وأطلقوا اسم «الدموع الممسوحة» على شجرة عتيقة جلست تحتها هيلين ومرغريت لأول عهدهما باللقاء، وأخذت كل منهما تقص على صاحبتها قصتها وتبثها أحزانها وآلامها، فتضمها الأخرى إلى نفسها وتعزيها عن همها وتمسح لها دموعها، وسموا حقلا من القمح باسم «نورماندي» مسقط رأس هيلين، وآخر من الأرز باسم «بريتانيا» مسقط رأس مرغريت، إلى كثير من أمثال تلك الذكريات القديمة، كأنما أرادوا وقد هجروا بلادهم إلى الأبد، وحالت الحوائل بينهم وبينها أن يستصحبوها معهم تصورا وخيالا بعد ما فقدوها سكنا وموطنا ليأنسوا بها بعض الأنس، ويلطفوا من حرارة شوقهم إليها.
وأغرب من ذلك أن الزنجيين «ماري ودومينج» لم يكن قلبهما خاليا من ذلك الشعور الطيب الشريف، شعور الوفاء للوطن الأول والحنين إليه، فأطلقوا اسم «أنغولا» و«فول بوانت» على بعض حقول الدخن ومنابت القرع، شغفا بأوطانهما وعهود صباهما، وضنا بذكراها أن تزول.
وكانت تعجبني من هؤلاء القوم كثيرا تلك الروح الأثرية الغالبة على شعورهم ووجدانهم؛ لأني أعتقد أنها هي بعينها روح الوفاء والإخلاص، وأن من لا خير فيه لماضيه فلا خير فيه لحاضره ومستقبله.
وما زلت مذ نشأت لا أوثر منظرا من مناظر الحياة ولا مشهدا من مشاهد الحسن والجمال على منظر أثر قديم أعثر به في سفرة من أسفاري في بادية منقطعة أو صحراء شاسعة، فأقف بين يديه ساعة من نهار وأرى في نؤيه وأحجاره وصخوره المبعثرة وأعمدته المتناثرة ونقوشه المحفورة على بقايا جدرانه صورة أولئك القوم البائدين الذين كانوا يسكنونه ويعمرون عرصاته ومغانيه، وكأني أسمع في صفير رياحه وعزيف جناته وغيلانه صائحا يصيح بي: لقد كان يعيش في هذا المكان عالم مثل عالمكم، يشعرون كما تشعرون، ويفكرون كما تفكرون، ويؤملون في الحياة الطيبة الهانئة كما تؤملون، وهم وإن ذهبوا بأجسامهم، وخلا وجه الأرض من سميرهم وأنيسهم، فهم باقون بينكم بأرواحهم وآثارهم، وما أنتم يا أبناءهم وأحفادهم وحملة أسرار حياتهم إلا أرواحهم وآثارهم التي بقيت على الأرض من بعدهم.
هنالك أشعر أنني قد انتقلت من حاضري إلى ماضي، وأنني أعيش في تلك العصور القديمة بين آبائي وأجدادي، أحدثهم، وأفضي إليهم بذات نفسي ويفضون إلي بذوات نفوسهم، فأقضي على ذلك ساعة من الزمان، ثم أذهب لشأني وقد فاضت نفسي شعورا بأن النفس الإنسانية خالدة باقية لا تنال منها عاديات الزمان، ولا تعبث بصورتها الأيام والأعواد.
ومنت لذلك شديد الشغف بحفر الكلمات أو نقشها على كل ما يقع عليه نظري من الجذوع والأشجار، والصخور والأحجار، وكل ما أمر به في طريقي مما أحبه وأرضاه، وأتمنى له الخلود والبقاء، كأنني كنت أريد أن أمد الأجيال المقبلة بالذكريات العظيمة، كما أمدتنا الأجيال الماضية بذكرياتها وعهودها، فحفرت على ساق شجرة العلم كلمة «هوارس» اللاتيني: «وقاك الله شر العاصفة ولا عبثت بك إلا أيدي النسائم.» وعلى جذع شجرة كان بول يجلس تحتها أحيانا؛ ليشاهد منظر البحر الهائج قول الآخر: «ما أعظم سعادتك لأنك لا تعرف إلها غير إله النبات!» وعلى باب كوخ هيلين؛ وكان هو مجتمع الأسرة ومنتداها هذه الكلمة: «هنا ضمير صالح ونفس لا تعرف الخداع.»
وكانت فرجيني تستثقل أمثال هذه الكلمات وتراها غامضة ومتكلفة، وقالت لي مرة: حبذا لو أنك كتبت على شجرة العلم: «ثابت دائما برغم اضطرابه» بدلا من كلمتك التي كتبتها. فأجبتها: ذلك إنما يقال في موقف الحث على الفضيلة، فاحمر وجهها خجلا وصمتت.
ذلك كان شأن هذا الوادي فيما مضى، أما اليوم فقد عفا فيه كل شيء، ودرس كل أثر، ولم يبق من تلك الرسوم الماضية إلا كما يبقى من الوشم في ظاهر اليد. وأصبحت أعيش في هذا المكان كأنني أعيش بين خرائب أثينا أو أطلال منف، وما مضى على تاريخها أكثر من عشرين عاما.
الفصل الثاني عشر
مخدع فرجيني
ولم أر فيما رأيت من المناظر الجميلة والمشاهد الفاتنة المؤثرة منظرا أبدع ولا أجمل ولا أعلق بالقلوب ولا أشهى إلى النفوس من منظر ذلك المكان الذي كانوا يسمونه «مخدع فرجيني»، وهو كهف صغير منحوت في أصل الصخرة الكبرى، كأنه مضجع النائم يتفجر بين يديه نبع غزير صاف، تحف به نخلتان من نخيل الجوز كانت مرغريت قد بذرت بذرة إحداهما منذ أربعة عشر عاما يوم ولادة ولدها بول، وبذرت هيلين بذرة أخرى منذ ثلاثة عشر عاما يوم ولادة ابنتها فرجيني، فنبتتا مع الولدين وسميتا باسميهما. وما ذهبتا مذهبهما في جو السماء حتى تداني سعفهما واشتبكا كأنهما تتعانقان، وكانت نخلة بول أطول قليلا من نخلة فرجيني؛ لأن بول كان أسن من فرجيني بعام واحد وأطول قامة منها.
وربما كان هذا المكان هو المكان الوحيد الذي تركوه للطبيعة تذهب في شأنه حيث شاءت من مذاهبها دون أن يتناولوه بتهذيب ولا تنسيق، فنبتت من حوله في طريق المياه المنبسطة بضع شجيرات مختلفة الألوان والأشكال، والأحجام والأطوال، ما بين ضخم الجذوع ودقيقها، ومنتشر الفروع ومجتمعها، وضارب في أعماق الأرض، وذاهب في جو السماء، فاختلفت ثمراتها وزهراتها، وطعومها ومذاقاتها، وروائحها ونفحاتها، ودب بعضها إلى ظهر تلك الصخرة المشرفة فنشر عليها غلالة رقيقة من أزهاره ورياحينه، ثم انحدر عنها خيوطا دقيقة ناعمة ترفرف في الهواء كما ترفرف شعور الحسناء على ضفاف الماء.
ولم يكن شيء من الأشياء أحب إلى فرجيني وأشهى إلى نفسها من أن تأوي في أوقات راحتها وفراغها إلى هذا المكان الجميل لتمتع نظرها بمرأى تلك المياه الثلجية البيضاء المتفجرة من ذلك النبع الغزير، ومرأى تينك النخلتين البديعتين المتعانقتين على ضفته، ومنظر تلك المروج الخضراء المنبسطة من حوله؛ وكانوا لذلك يسمونه «مخدع فرجيني».
وكانت تستصحب معها كلما ذهبت إليه غنيماتها وأعنزها، فتتركها ترعى بين يديها، ويعجبها أن ترى واحدة منها قد وثبت إلى ظهر الصخرة ووقفت على مؤخر أطرافها واشرأبت بعنقها لتتناول بفمها بعض الأغصان فتقضمها قضما ، فكأنما معلقة في الهواء، أو كأنها تمثال ماثل في الفضاء.
وربما أخذت معها ملابسها وملابس الأسرة فغسلتها على حافة النبع، أو جلست ناحية تحتلب ألبان ماشيتها، ثم تمخضها.
وكان بول يختلف إلى هذا المكان من حين إلى حين كلما أمكنته الفرصة، فيجلس إلى فرجيني جلسة هانئة سعيدة يغتبطان فيها بتلك العزلة الهادئة الساكنة، وذلك المنظر الساحر البديع.
وكان أعظم ما يروقهما ويستثير سرورهما وغبطتهما منظر الطيور البحرية وهي مقبلة من شاطئ البحر الهندي مع الظلام زمرا زمرا، ترسم في صفحة السماء خطوطا مستقيمة ومتعرجة، ودوائر تامة وناقصة، وتغرد أغاريدها المختلفة الألحان والنغمات، حتى تنزل بهذا المعتزل الساكن الظليل لتقضي فيه سواد ليلها، فإذا انقضت دولة الظلام ونشر الفجر رايته البيضاء في آفاق السماء؛ طارت مع أشعته وأضوائه وذهبت من مذاهبها حيث تشاء، وكأن بول قد عز عليه ألا تتمتع فرجيني بذلك المنظر البديع الرائق في جميع أوقاتها، فأخذ ينقل إلى الأشجار المحيطة بهذا المكان من الغابات القريبة فراخ الطير في أعشاشها فتتبعها أمهاتها، وما هي إلا أيام قلائل حتى اتخذت لها في هذا الروض الأريض موطنا جديدا تروح إليه وتغدو، فأنست بها فرجيني أنسا عظيما، وعطفت عليها عطف الأم الرءوم على صغارها، فكانت تطعمها وتسقيها، وتحمل لها في حجرها حبوب القمح والذرة فتنثرها بين يديها، فإذا رأتها الطيور مقبلة من بعيد تطايرت إليها من أوكارها وأعشاشها صادحة مترنمة، وحامت فوق رأسها تلتقط الحب من يديها مرة، ومن الأرض أخرى، فيكون منظرها في اختلاف ألوانها وتمعجها واضطراب حركاتها أشبه شيء بمنظر الثوب المفوف قد عبثت أشعة الشمس بخيوطه الحريرية، فماج بعضه في بعض، فتظل فرجيني لاهية بهذا المنظر الجميل مفتتنة به، وبول مغتبط باغتباطها، راض عن نفسه برضاها، حتى يعودا معا ساعة الغروب إلى كوخهما.
وهنا تنفس الشيخ الصعداء وألقى أمامه نظرة بعيدة جامدة كأنما ينظر إلى شبح مقبل عليه، فألقيت نظري حيث ألقى نظره فإذا هو محدق في تلك البقعة التي سماها «مخدع فرجيني»، وأخذ يهمهم كأنما يحدث في نفسه ويقول: أيها الولدان العزيزان، إن أنس شيئا فإنني لا أنسى أيامكما العذبة الجميلة التي ملأتما فيها حياتي سرورا وغبطة، وكنتما لي صديقين حميمين، ما أنكر منكما ولا تنكران مني شيئا، ولا أنكما كنتما أبر الناس، وأحدبهم علي، حتى أصبحت أشعر أنني أعيش بجانبكما في أسرتي بين أهلي وقومي، وأن أيام صباي قد عادت لي بوجهها الطلق النضير، فسلام عليكما حيث كنتما، وسلام على عهدكما البائد الدارس: عهد الصلاح والبر، والفضيلة والشرف، والحب والوفاء.
الفصل الثالث عشر
ليالي الشتاء
وكان إذا جاء الشتاء وسالت الأجواء بردا وقرا، وأوت الطيور إلى أوكارها، والوحوش إلى أحجارها، قضوا داخل أكواخهم ليالي سمر جميلة يجتمعون فيها حول منضدتهم العارية على ضوء مصباح ضئيل يلقي أشعته الصفراء الخفافة على ما نيط بجدران الكوخ من معاول وفئوس وقواطع ومناشير، وما كدس في أركانه من حقائب وجوالق وقرب وزوايا، فتتراءى كأنها الأشباح الجاثمة، أو الوحوش الرابضة، فيتحدث بول عن حقوله وأغراسه، وغلاته وثمراته، وأحواضه ومستنبتاته، وما نضج من أزهاره وما لم ينضج، وما نقل منها إلى الظل وما أبقى تحت أشعة الشمس، وعن الكروم وعناقيدها، والقمح وسنابله، والذرة وأعوادها، وتحدثهم فرجيني عن عصارة القصب، ومنقوع الشعير، وشراب الليمون، وأمثال ذلك من الأشربة التي تعلمت من أمها صنعها وإجادتها واعتادت أن تقدمها لأسرتها صباح كل يوم ومساءه.
وقد تحدثهم أحيانا عن حديقتها الصغيرة، فتظل تصف لهم نبعها المتفجر الثجاج، ونخلتيها الباسقتين المتعانقتين، وما نبت حولهما من ألوان الزهر وصنوف العشب، وما يختلف إلى خمائلها وأشجارها من أسراب الطير وجماعاتها ليلها ونهارها صادحة مترنمة كأنها فرقة موسيقية تتحد نغماتها وتختلف رناتها، وتقص عليهم مرغريت بعض القصص الغريبة المملوءة هولا ورعبا، كقصة السائح المسكين الذي ضل به طريقه في إحدى الليالي الداجية المدلهمة في بعض غابات بريتانيا الموحشة، فخرج عليه بعض اللصوص من مكمنهم فسلبوه ماله وراحلته، ثم خافوا جريرتهم فقتلوه وألقوه في أحشاء الغابة. أو قصة السفينة التي عصفت بها الريح في بحر الشمال وأحاط بها الموج من كل جانب ، وأخذت عليها جميع السبل فغرقت وغرق معها ركابها، ولم يبق من آثارها إلا بضعة ألواح ألقاها الموج على جوانب بعض الصخور الناتئة. فيتأثر بول وفرجيني لسماع أمثال هذه القصص تأثرا شديدا، وينفجر في قلبيهما ينبوع صاف من الرقة والرحمة بهؤلاء البائسين المنكوبين، ويتمنيان بكل ما تملك أيديهما أن لو وفقا في يوم من أيام حياتهما إلى هداية سائح ضال عن طريقه، أو إنقاذ غريق من مخالب الموت.
وكثيرا ما كانت تقرأ عليهم هيلين شيئا من قصص «العهد القديم»، وبعض آيات من «العهد الجديد»، فيسمعها الآخرون ساكنين خاشعين، تسيل نفوسهم أسى وعيونهم أدمعا، إلا أنهم ما كانوا يحفلون كثيرا بتفهم مضامينها، واكتناه أسرارها، كأنما يشعرون في أنفسهم أنهم أغنياء عن هذا كله بما وهبهم الله من إيمان فطري بسيط لا يحتاج إلى تفسير ولا توضيح، ومن يقين راسخ في أعماق قلوبهم يثلج صدورهم ويملأ فضاء نفوسهم راحة وسكينة، حتى كان يخيل إليهم أحيانا أن الفضاء الذي بين أيديهم إنما هو معبد مقدس يصلون لله في أية بقعة من بقاعه شاءوا، ويرون الله في أي مطلع من مطالعه أرادوا، وكأن الطبيعة بين أيديهم إنجيل مفتوح تقوم فيه الآيات المنظورة مقام الآيات المتلوة، والبراهين الحسية مقام البراهين التوفيقية المقروءة، وهل الرحمة الإلهية إلا تلك الثمرات التي نبتت لهم في أرض مقفرة مجدبة لا ينبت مثلها غير الجهد والشقاء؟ وهل القدرة الربانية إلا تلك الجنة الأرضية الزاهرة التي اختلفت أوضاعها وأشكالها وطعومها وروائحها، وقد سقيت بماء واحد وأشرقت عليها شمس واحدة؟ وهل العناية الصمدانية إلا ذلك التوفيق الغريب الذي ضم بعضهم إلى بعض على بعد ديارهم واختلاف مواطنهم؟ فتكونت منهم أسرة واحدة متحابة متآلفة، يغنيها اجتماعها واتفاقها عن الأهل والوطن، والمال والنشب.
وكانت تجري بينهم الأحاديث، والطبيعة خارج الكوخ هائجة صاخبة، تجلجل رعودها، وتعصف رياحها، وتتدفق سيولها، وتصخب أمواجها، فيحمدون الله - تعالى - على أن كفاهم شرورها وويلاتها، ومنحهم هذا الملجأ الأمين الذي يفزعون إليه من كوارثها وأرزائها، ثم لا تلبث السنة أن تخالط أجفانهم ، فينسلوا إلى مضاجعهم ويناموا فيها نوما هادئا ساكنا لا قلق فيه ولا اضطراب، ولئن كان صحيحا ما يقولون من أن لكل امرئ في الحياة يومين: يوم بؤس، ويوم نعيم، فلقد كان لهؤلاء القوم من دون الناس جميعا يوم واحد لا يرون فيه غير وجه النعيم، ولا تطلع عليهم شمسه إلا بما يحبون ويرتضون.
وكان الدهر يأبى عليهم أحيانا إلا أن يجري حكمه فيهم كما يجريه على الناس جميعا، فيأذن لبعض غيومه القاتمة أن تلم بسمائهم الصافية فتغشي صفحتها، وتكدر صفاءها، فإذا نزلت بأحدهم نازلة مرض أو هم رأيت الباقين قد أحاطوا به وبسطوا عليه جناح عطفهم ورحمتهم، وكأنما قد أصيبوا من دونه بالذي أصيب به، ولا يزالون يلاطفونه ويداورونه حتى ينتزعوا الهم من بين جنبيه انتزاعا، فإذا هو بارئ سليم كأن لم يشك قبل اليوم هما ولا ألما.
وكانوا يذهبون أيام الآحاد لأداء الصلاة في كنيسة «بامبلموس» ذات القبة العالية التي تراها هناك في وسط ذلك السهل الفسيح مشاة على أقدامهم، لا يشكون تعبا ولا نصبا، فإذا وصلوا إليها رأوا كثيرا من الأثرياء وأرباب النعمة مقبلين في هوادجهم المحمولة على أعناق عبيدهم في رونق بديع يملأ العين بهجة والقلب روعة، فلا يحفلون بهم ولا يكترثون، ولا يحسدونهم على ما آتاهم الله من نعمة، بل كانوا يتجنبون جهدهم أن يخالطوهم أو يجيبوا داعي مودتهم؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن القوي لا يمنح الضعيف وده ومحبته إلا ليبتاع منه ماء وجهه وكرامة نفسه، ولا يبذل له القليل من بره ومعروفه إلا ليستعبده ويستأسره ويملك عليه زمام حياته، وهم لا يريدون أن يبذلوا من ذلك شيئا، كما أنهم كانوا يتجنبون جهدهم مخالطة الهمج والرعاع وأسقاط الناس وأشرارهم، ضنا بنفوسهم أن يسري إليها من طريق المخالطة الساقطة ما يشوه جمالها، ويغشي لألاءها، فاتهمهم الناس بالضعف مرة، وبالكبرياء أخرى ومضوا معهم على ذلك عهدا طويلا حتى عرفوهم حق المعرفة، واستشفوا سريرة نفوسهم، فعلموا أنهم أشرف من هذا وذاك، فإنهم ما كانوا يضنون بأنفسهم أن يقفوا الوقفات الطوال مع من يعترض طريقهم من الناس فيسألهم حاجة من الحاج، أو يستعين بهم على كارثة من كوارث الدهر، أو يدعوهم إلى زيارة مريض، أو مساعدة منكوب، ولا يأبون أن يدخلوا الأكواخ القذرة الوبيئة لزيارة المرضى ومواساتهم، وتفقد حالة المنكوبين والبائسين.
فإذا دخلوا على مريض جلسوا حوله طويلا، وعللوه كثيرا وحاطوه بعطفهم وعنايتهم، فتقدم له مرغريت الدواء وفرجيني الابتسامات، وهيلين التعزية، وبول النصائح الطبية، فكانوا يعالجون في آن واحد نفسه وجسده، ثم يعودون وقد خالطت نفوسهم عاطفتان مختلفتان، عاطفة الحزن على أولئك المعذبين المتألمين، وعاطفة الغبطة بما وفقهم الله إليه من تسرية همومهم، وتهوين آلامهم.
وكان منزلي على مقربة من تلك الكنيسة ليس بينها وبينه إلا طريق واحد يمتد بجانب الجبل صعدا حتى يصل إليه، فإذا قضوا حاجتهم من مواساة البائس وتعليل المريض وتعزية المنكوب سلكوا تلك الطريق إلى منزلي ليقضوا عندي بقية يومهم، فكنت أعد لهم الغداء على شاطئ جدول صغير تحت ظلة دانية من شجر الموز، وكان غداؤنا بسيطا جدا لا يزيد على ما يقذفه إلينا البحر من أسماكه، وما يساقطه علينا الشجر من أثماره، وما نظفر به في فضاء الجو من سارح أو بارح، وربما ضممنا إليه شيئا من التوابل والأفاويه المركبة من الأعشاب الهندية الحارة، فإذا قضينا غداءنا جلسنا للراحة فوق هضبة عظيمة على شاطئ البحر لنمتع أنظارنا برؤية أمواجه وهي مقبلة علينا يتلو بعضها بعضا حتى تتكسر تحت أقدامنا، ثم تتبسط قليلا على ذلك الشاطئ الرملي الفسيح، ثم تتلاشى كأنها لم تكن، وكان بول إذا رآها مقبلة فر من بين يديها كأنها طريدها الذي تطلبه، وربما تلكأ في جريه عمدا حتى تدركه فإذا هو مكفن في كفن صاف من نسيجها الأبيض، فتصرخ فرجيني حين تراه على هذه الحالة صرخة عالية كأن الأمر قد بلغ عندها مبلغ الجد، أو كأنها ترى من وراء حجب الغيب منظرا مخيفا يروعها ويزعجها، فتظل تقول بينها وبين نفسها: يخيل إلي وأنا أنظر إلى هذا البحر المائج المصطخب أنني أرى بين كل موجتين قبرا محفورا، ثم لا تلبث أن تعود إلى نفسها، وتثوب إلى رشدها، وتستأنف سرورها ومرحها، فيدعوها بول إلى الرقص معه فيرقصان معا على بساط الرمل الأصفر تلك الرقصة الزنجية البسيطة التي لا هجر فيها ولا يشوبها عار ولا إثم، ثم يغنيان بعض قطع جميلة لا أزال أذكر منها حتى اليوم قطعة «البحر الزاخر» التي يثني فيها قائلها على الحياة الهادئة البسيطة فوق ظهر اليبس، ويذم الحياة القلقة المضطربة على سطح الماء، وينعي نعيا كثيرا على أولئك الذين يدفعهم شرههم وطمعهم إلى ركوب البحر واحتمال مخاطره وكوارثه طلبا للثراء الواسع والمال الكثير، بدلا من بقائهم في أوطانهم بين أهلهم وعشيرتهم، والقناعة بما قسم الله لهم من الرزق.
وكان يخطر لفرجيني أحيانا أن تمثل بعض الروايات القصيرة التي سمعتها من أمها فتظهر على مسرح الشاطئ الرملي حاملة جرتها على رأسها، كأنها ذاهبة إلى بعض الآبار للاستقاء، حتى إذا بلغت مكان البئر وقف دومينج وماري ومرغريت في طريقها كأنهم رعاة مدين يحولان بين ابنة شعيب وبين البئر، فيلمحها بول على البعد فيسرع لنجدتها، ويحمل على الرعاة حملة شديدة حتى يمزقهم كل ممزق كما فعل موسى، ثم يضع لها فوق رأسها طاقة جميلة من الزهر الأحمر ليضع الجرة فوقها، فكأنه يكللها بإكليل الزواج، فأقوم أنا بتمثيل دور «شعيب» وأزوج ابنتي «صفورة» من الفتى «موسى».
وأحيانا كانت تمثل دور البائسة «راعوث» حينما عادت إلى بلدها بعد غياب طويل، فترى نفسها غريبة منقطعة لا أهل لها ولا رحم، فتظل سائرة في طريقها مطرقة الرأس ساهمة الوجه حتى تلمح جماعة الصيادين، وكان يمثلهم دومينج وماري ومرغريت يحصدون في مزرعتهم، فتتبع خطواتهم وتلتقط بعض السنابل الساقطة لتتبلغ بها، فيراها بول وهو يمثل دور «بوعز» أحد نبلاء المدينة، فتدركه رقة لها، فيتقدم نحوها ويسألها عن شأنها، فترتعد بين يديه وتجيبه على أسئلته بصوت خافت متهدج، فتذرف عيناه الدموع رحمة بها ومرثاة لها، ويأخذ بيدها حتى يقف بها أمام شيوخ المدينة في منتداهم ويعلن زواجه منها برغم فقرها وإقلالها.
وهنا تذكر هيلين حياتها الأولى، وأنها كانت أشبه شيء بحياة تلك الفتاة الإسرائيلية المسكينة، وأنها لقيت من أهلها وجفائهم وغلظتهم مثل ما لقيت، وكابدت من آلام الحياة وهمومها مثل ما كابدت، فتبكي بكاء طويلا.
ثم لا تلبث أن تصل بخيالها إلى النهاية الطيبة التي ختمت بها تلك الرواية، فتهدأ نفسها قليلا، وتتفاءل خيرا لابنتها أن يكون مصيرها هذا المصير السعيد.
وجملة القول أننا كنا نتمتع في ذلك اليوم بجميع ما يتمتع به السعداء في منتدياتهم ومجتمعاتهم ومعاهد أنسهم ولهوهم من أكل وقصف، ورقص، وتمثيل، ولعب ومزاح، لا فرق بيننا وبينهم، إلا أننا لا نزخرف المسرح الذي نتنقل عليه بالصور الكاذبة للبحر والشاطئ، والصحراء والسماء، والكواكب والنجوم، والنبات والعشب، وهدير الأمواج وزيف الرياح، ودمدمة الرعود كما يزخرفون، فكل ذلك حاضر بين أيدينا حقيقة لا خيالا.
ولا نزال هكذا حتى تدنو ساعة الأصيل، ويقف قرص الشمس وقفة الوداع على قمة الجبل متوهجا كاللهب الأحمر، فيظل ينثر ذراته الذهبية في عرض الفضاء، وتظل قطع الأنوار تتساقط من بين فجوات الأغصان كأنها الدنانير المبعثرة، وتستحيل أوراق الزهر في سكون ذلك الجو وهدوئه إلى أحجار جامدة من الزمرد والياقوت، والماس والفيروزج، ويخيل للناظر إلى الجذوع الماثلة كأنها بقايا بركان قديم كان قد غمرها في سالف العهد ثم انحسر عنها، فإذا هي أعمدة صدئة من البرنز القاتم، ثم لا يلبث الظلام أن يمتد وينبسط فإذا الفضاء سكون ووحشة، وإذا البحر خشية وجلال، وإذا الطير حائمة على أوكارها تفر إليها من وحشة الظلام وهوله، وإذا كل شيء صامت جامد إلا ما كان من جرجرة الآذي تصل إلى آذاننا من حين إلى حين كأنها الزئير المنبعث من حلوق الوحوش الضارية، فنجمد أمام هذا المنظر الرهيب ساعة ذاهلين مستغرقين، وكأننا قد انتقلنا إلى عالم آخر من عوالم الملأ الأعلى حافل بعجائب المنظورات وغرائب المشاهدات، ثم نعود إلى أنفسنا فيودع بعضنا بعضا، ثم نفترق إلى أكواخنا.
الفصل الرابع عشر
آدم وحواء
نشأ بول وفرجيني في هذه الجنة الأرضية منشأ أبوينا الأولين في جنتهما السماوية، فكان بول مثال آدم، له قامة الرجل وشطاطه، وبساطة الطفل وسذاجته، وكانت فرجيني مثال حواء، لها جمال الأنوثة وحلاوتها، ودعة النفس وعذوبتها. وكانا يعيشان في معتزلهما هذا حرين مطلقين، لا يسيطر عليها مسيطر من تلك القيود التي تسيطر على عقول الناشئين وضمائرهم في تلك البلاد التي يسمونها بلاد الحرية والطلاقة، ولا تسجنهما العلوم والمعارف في سجنهما الضيق المظلم الذي يحول بينهما وبين التبسط والاضطراب في فضاء الكون كما يشاءان.
ولم تكن لديهما ساعة لمعرفة أوقات الليل والنهار، ولا تقويم لمعرفة الفصول والأعوام، ولم يتلقيا درسا واحدا في علم الهيئة ونظام الكواكب والنجوم، ولكن الطبيعة استطاعت أن تمنحهما من نفسها ما تمنح العلوم والمعارف أمثالها، فاستعانا بالأشعة والظلال على معرفة الأوقات، وبنضج النبات وظهور الأثمار وتلون الأزهار على معرفة الفصول، وبعدد ما غرسا من الأشجار على عدد ما مر بهما من السنين والأعوام، فكانا يقولان «قد حان وقت الغداء» إذا انقبضت ظلال أشجار الموز وتضاءلت تحتها، و«قرب الليل» إذا التفت أوراق التمر هندي على أثمارها، وكانا إذا وعدا أحدا بزيارة جعلا ميعادها ظهور قصب السكر أو نضج أثمار النارنج، وإذا سئلت فرجيني عن عمرها أجابت: قد أثمرت الكروم مذ ولدت أربع عشرة مرة، وأشجار البرتقال ثمانية وعشرين، وإذا سئل بول بكم يكبر فرجيني؟ أجاب بمقدار ما بين النخلتين الماثلتين على حافة النبع، كأن حياتهما متصلة بحياة النبات، أو كأنهما إلهان من آلهة الحقول التي تعيش بينها وترعاها.
فكانا لا يعرفان تاريخا غير تاريخهما، ولا يطالعان مصورا غير مصور جزيرتهما، ولا يقرآن كتابا غير كتاب الطبيعة المفتوح أمامهما، ولا يفهمان فلسفة غير أن عمل الخير سعادة، وعمل الشر شقاء، ولا يحفظان آية غير آية التفويض إلى الله - تعالى - في كل ما يأخذان وما يدعان.
وكانا إذا خلوا بنفسيهما جرت بينهما أحاديث بسيطة ساذجة لا يتكلفان فيها ولا يتعملان، ولا يحاولان أن يضعا حجابا بين ما يدور في سريرتيهما، وما ينطق به لساناهما.
ولقد سمعتهما مرة يتحدثان من حيث لا يشعران بمكاني وكان بول قد عاد من عمله ساعة الغروب، فرمى بفأسه وحقيبته إلى الأرض وجلس إلى فرجيني يقول لها: إني لأراك يا فرجيني وأنا تعب مكدود ما أكاد أتماسك، فأنسى تعبي وشقائي، وكأنني لم أحمل في يومي فأسا، ولم أفلح أرضا، وربما وقع نظري عليك وأنا على قمة الجبل وأنت في سفحه فيخيل إلي أنك وردة بين الورود النابتة حولك، إلا أنك أنضر منها حسنا، وأطيب أريجا، فإذا غبت عن ناظري وراء أكمة من الأكمات أو تحت ظلة من الظلل استطعت أن أعرف المكان الذي أنت فيه؛ لأنني أشعر أن موجة من النور تحيط بك حيثما ذهبت وأني حللت، فإذا برق لي شعاعها علمت أين تحلين من بطن الوادي، فلا أحتاج للسؤال عنك، فإذا رأيتك وأنت عائدة إلى المنزل خيل إلي - لجمال مشيتك ورشاقة حركاتك - كأنك قطاة تنتقل على بساط الخضرة، وأنك موشكة أن تستقلي بجناحيك في جو السماء.
إنك كل شيء لي يا فرجيني، إنك حياتي التي لا أستطيع أن أعيش بدونها، بل لا أستطيع فراقها لحظة واحدة، إن زرقة عينيك أصفى من زرقة السماء، وإن نضارة وجهك أجمل من نضارة الربيع، وإن ماء الحسن الذي يجول في أديمك لهو الكوثر الذي يصفه الكتاب المقدس فيما يصف من بدائع الجنان.
أسمع صوتك الذي هو أشبه شيء بصوت الطائر الغرد فيخفق قلبي خفقان أجنحة ذلك الطائر، وأضع يدي في يدك فتنبعث في جسمي رعشة شديدة كرعشة الخائف المذعور وما أنا بخائف ولا مذعور.
أتذكرين يا فرجيني يوم حملتك على ظهري واجتزت بك ذلك النهر المتدفق ونحن عائدان من زيارة ذلك الرجل الشرير؟
لقد كنت في ذلك الوقت تعبا واهنا، ولكنني ما شعرت بملامسة جسمك لجسمي حتى خيل إلي أنني قد استحلت إلى طائر خفاق الجناحين، ولو أنك اقترحت علي في تلك الساعة أن أطير بك في آفاق السماء لفعلت. لا أستطيع أن أفهم ما هذا الذي يؤثر علي منك يا فرجيني! فإنني لا أخافك ولا أخشاك ، بل أحبك وآنس بك، فلم أضطرب حين أراك؟ ولم أرتعد حين يلمس جسمي جسمك؟!
إنك لا تستطيعين أن تحبيني كما تحبني أمي، أو تعطفي علي عطفها، أو تقاسميني همومي وآلامي مقاسمتها، ولكنني أشعر أن الذي أضمره لك من الحب والعطف فوق الذي أضمره لها، ولقد عدت الآن من المزرعة وكان أمامي الطريقان: طريقي إلى الكوخ فلم أنتبه إليه، وطريقي إليك؛ فجئتك بدون أن أشعر بما أفعل، أو أعرف لذلك سببا.
ما أحسب إلا أن حادثة الجارية الآبقة كانت هي السبب في ذلك، فإن أنس لا أنسى صورة ذلك الألم الشديد الذي ارتسم على وجهك يوم جاءت تلك البائسة المسكينة تحت قدميك وقصت عليك قصتها، ولا تلك الدموع الغزار التي ذرفتها رحمة بها وإشفاقا عليها، ثم ما خاطرت به بعد ذلك من راحة نفسك وهدوئها في سبيلها.
إنك طيبة القلب يا فرجيني، إنك تحبين الخير للخير لا تطلبين عليه جزاء ولا أجرا، إنك تتألمين لمصاب المساكين والبائسين أكثر مما يتألم الناس جميعا، فأنا أحبك أكثر مما أحب جميع الناس.
تعالي إلى جانبي وخذي هذا الغصن الأخضر الذي قطعته لك الساعة من شجرة الليمون الكبرى وضعيه حين تنامين تحت سريرك، فإنه يملأ لك فضاء الكوخ عطرا وشذى، وخذي هذا القرص من العسل، فقد عثرت به في جوف صخرة عالية في قمة الجبل، وسيكون فطورنا في الصباح شهيا جميلا.
تعالي إلي يا فرجيني وضعي رأسك الجميل على فخذي لأشعر بالراحة من جميع متاعبي وآلامي، وتحدثي إلي قليلا، فحديثك غذاء نفسي وراحة ضميري.
فتخرج منديلها من جيبها وتمسح له عرق جبينه ثم تضطجع وتضع رأسها على فخده، وتظل تقول له: أترى يا بول منظر هذه الأشعة الصفراء الساقطة على رءوس الصخور وذوائب الأشجار، ومنظر ذلك الشفق الأحمر الممتد على حافة الأفق، وتلك اللآلئ اللامعة الجميلة المنتثرة على سطح الماء؟!
إنها جميلة جدا، ولكنها لا تستطيع أن تبعث السرور إلى نفسي كما يبعثه جلوسي بجانبك، وامتزاج أنفاسي بأنفاسك.
إنني أحب والدتي حبا جما، ولكنني أحبها أكثر من كل وقت في الساعة التي أراها تحنو عليك فيها، وتضمك إلى نفسها وتدعوك: يا ولدي، وربما غفرت لها إغضاءها عني أحيانا ولكنني لا أستطيع أن أغفر لها إغضاءها عنك.
قالت فرجيني: إنك تتساءل في نفسك يا بول: لم تحبني أكثر من كل شيء في العالم؟ أما أنا فإنني أحبك هذا الحب نفسه، ولكنني لا أسائل نفسي عن سبب ذلك؛ لأني أعلم أن الطائرين اللذين ينشآن في منشأ واحد وجو واحد يتعاطفان ويتآلفان، حتى ما يكاد يصبر أحدهما عن صاحبه لحظة واحدة ... انظر إليهما، ها هما يتصايحان ويتهاتفان على بعد ما بينهما، كأن كلا منهما يقول لصاحبه: تعال إلي جانبي ولا تفارقني، فإنني لا أستطيع أن أجد لذة الحياة بعيدا عنك.
كذلك نحن يا بول نشأنا في منشأ واحد، ورضعنا ثديا واحدا، ونمنا في مهد واحد، وابتردنا في حوض واحد، فأصبحنا شخصا واحدا، فإذا افترقنا ساعة ظل كل منا يهتف بصاحبه ويناجيه، أنت بمزمارك على قمة الجبل، وأنا بأنشودتي في سفحه، كما يفعل ذانك الطائران المتناجيان على أفنانهما حتى نلتقي.
تقول إنك أحببتني منذ ذلك اليوم الذي رأيتني فيه أعطف على تلك الجارية المسكينة، وأنا أقول لك إنني أحببتك من ذلك اليوم نفسه، فإنني لا أستطيع أن أنسى أنك أوشكت أن تخاطر بنفسك في سبيلي حينما عزمت على مقاتلة ذلك الرجل الشرير من أجلي، بل خاطرت بها فعلا حينما حملتني على ظهرك وأنت تعب مكدود، واجتزت بي ذلك النهر الزاخر المتدفق لا تعلم أتصل إلى ضفته أم تسقط دون ذلك؟
إنني أجثو كل يوم بين يدي ربي أسأله الرحمة لأمي وأمك وماري ودومينج، حتى إذا مر ذكرك على لساني ارتعشت شفتاي وشعرت كأنني أرتشف على الظمأ جرعة باردة ما خلق الله أهنأ ولا أطيب منها.
لم تتسلق الصخور من أجلي يا بول؟ ولم تجشم نفسك هذا العناء الشديد فوق عنائك الذي تكابده طول يومك؟ إنني لا أفكر في شيء وأنت غائب عني سوى أن تعود إلي سالما موفورا، فإذا رأيتك كنت أنت الهدية الثمينة التي تقدمها إلي، وتستحق من أجلها شكري وحمدي.
الفصل الخامس عشر
الخفقة الأولى
ما لفرجيني حزينة مكتئبة لا تضيء الابتسامات ثغرها كما كانت تضيئه من قبل؟!
ما لها واجمة صفراء تمشي مطرقة وتجلس واهنة، وكأن هما من هموم الحياة الثقال يملأ ما بين جانحتيها ولا هم هناك ولا حزن؟! ما لها تلجأ إلى الخلوات والمعتزلات وتتجنب جهدها أن تخالط الناس حتى أسرتها وقومها، وحتى صديقها الوحيد الذي هو أعز عليها من نفسها التي بين جنبيها؟!
ما لهذه الخضرة الزاهية البديعة، ولتلك السماء الصافية المتلألئة، ولذلك المنظر البديع الجذاب، منظر الشمس في طلوعها وغروبها، والطير في غدوها ورواحها لا يروقها ولا يستثير سرورها وبهجتها، ولا يسري عنها همومها وآلامها كما كان شأنها قبل اليوم؟!
ذلك لأن قلبها خفق الخفقة الأولى، والحب إذا خالط قلب الفتاة لأول عهدها به نقلها من حياة السرور والبهجة إلى حياة الهموم والأكدار.
نعم قد تحولت الصداقة في قلب فرجيني إلى حب، وللحب شأن غير شأن الصداقة، وحال غير حالها، وشعور وإحساس غير شعورها وإحساسها، وكما أن المرأة الفارغة تشعر بتغير في جميع حالاتها الجسمية إذا بدأت بذرة الجنين تنمو في أحشائها، كذلك الفتاة الخالية تشعر بتغير في جميع حالاتها النفسية إذا أحست بدبيب الحب في قلبها، وربما كان هذا الشعور هو دليلها الوحيد على أنها قد أحبت قبل أن تعرف ما الحب وما الغرام؟
لقد كانت فرجيني تجهل في مبدأ أمرها حقيقة الحال التي طرأت عليها ولا تفهم منها شيئا سوى أنها قلقة مستوحشة، لا تأنس بالناس أنسها الأول، ولا تجد في الجلوس إلى أسرتها ولا في الذهاب إلى «مخدعها» الراحة التي كانت تجدها من قبل، فكانت تهيم على وجهها في القفار والغابات وضفاف الأنهار وقمم الجبال، ما تكاد تستقر في مكان واحد، فإذا وقع نظرها على بول في بعض غدواتها أو روحاتها طارت إليه فرحا وسرورا، وبسطت إليه يدها لتعانقه، فإذا دانته انقلبت فجأة من سرور إلى حزن ووقفت في مكانها جامدة جمود الدمية في محرابها يتلهب وجهها حمرة، ويرفض جبينها عرقا، فيعجب بول لشأنها، ويظل يقول لها: إن الخضرة اليوم زاهية جدا، وإن الشمس ساطعة متلألئة تضيء كل شيء حتى الأنفاق والأغوار، وكل ما في الوجود ضاحك مستبشر ما عداك يا فرجيني، فهل لك أن تحدثيني ما الذي ألم بك؟ وما هذه الغبرة القاتمة التي تلبس أديم وجهك؟ ثم ينقض عليها ليضمها إلى صدره كعادته فتملس من يديه إملاسا، وتركض هاربة إلى أمها لتضع رأسها في حجرها، فيظل بول واقفا مكانه يعجب لأمرها عجبا شديدا، لا لأن الذي يضمر لها من الحب أقل من الذي تضمر له، ولا لأن نفسه خالية من الهم الذي يخالط نفسها، ولكن المرأة ضعيفة خائرة لا تملك من الصبر والجلد بين أيدي النكبات النفسية التي تنزل بها ما يملك الرجل، فإذا أحبت لأول عهدها بالحب وكانت شريفة فاضلة خرج بها الحب إلى حالة أشبه بالجنون والخبل، وما هي بجنون ولا خبل، ولكنها حيرة النفس وضلالها.
ولم يزل هذا شأنها حتى جاء شهر ديسمبر، وهو الشهر الذي تشتد فيه حرارة الشمس في تلك المنطقة اشتدادا عظيما، وتظل تصب عليها أشعتها عمودية كأنها السهام المنبعثة من أقواسها، وتنقطع عنها ريح الجنوب التي تعتادها طول العام، وتهب عليها بدلا منها أعاصير شديدة تزلزل أرضها زلزالا، وتطير بما شاءت من معالمها ومجاهلها، وتشقق ما أرادت من أطرافها وأنحائها، فيثور الغبار ملتفا في جو السماء ثم يجمد في مكانه ما يتزحزح ولا يتحلحل كأنه العمد المنتصبة، وتصبح سفوح الجبال وجوانب الهضاب كأنها أتن مشتعلة تنفث أوارها من حولها، فتلتهب الأجواء حتى ما يستطيع متنفس أن يتنفس إلا زفيرا، ولا مستنشق أن يستنشق إلا شواظا ولهيبا، وحتى ما يجد المبترد ضحضاح ماء في غدير من الغدر أو خليج من الخلجان يبترد فيه، ويزحزح عن عاتقه ذلك القميص الناري اللاصق به، وتتساقط الماشية في ظلال الأشجار وفي سفوح الجبال واهنة متضعضعة، مادة ألسنتها إلى السماء كأنها أيد مبسوطة بالدعاء إلى الله - تعالى - أن يجود عليها بقطرة تبل غلتها، وتطفئ لاعجها، وكأن ثغاءها وعجيجها وصفير الرياح السافيات من حولها، وطنين البعوض الحائم عليها مناحة قائمة على هذه الطبيعة الميتة، فإذا أقبل الليل عجزت يده الباردة الندية أن يخفف شيئا من لهيب ذلك الأتون المستعر، وظهر القمر في أفق السماء أحمر كامدا كأنه الوجه المخضب بالدم، يمشي في طريقه متثاقلا متظالعا كأنما هو يسبح في لجة عميقة من السحب المحيطة به.
في ليلة من تلك الليالي الداجية السوداء عجزت فرجيني عن أن تأخذ لنفسها راحتها في مضجعها وعجز الكرى عن أن يلم بأجفانها، فثارت من مكانها متململة وأخذت سمتها إلى مخدعها عساها أن تجد فيه ما يروح عن نفسها، وكان القمر لا يزال يرسل ذلك النذر القليل من أشعته الكامدة، فأزعجها أنها لم تجد من جدولها المترع المتدفق إلا خيطا دقيقا يلمع في ضوء تلك الأشعة الباهتة كأنه ثعبان ممدود يتقلب على حرة سوداء، ثم مشت إلى حوضها الصغير الذي اعتادت أن تستحم فيه فلم تجد فيه إلا ضحضاحا من الماء ما كاد يغمر جسمها فخلعت ملابسها ونزلته، فاستطاعت أن تجد قليلا من الراحة، وكان أول ما مر بخاطرها في تلك الساعة بعد أن عادت إليها نفسها ذكرى تلك الأيام الماضية التي كانت تستحم فيها مع بول وهما طفلان صغيران في هذا الحوض الصغير، وذكرت كيف كانا يقضيان الساعات الطوال على ضفافه عاريين يرقصان ويمرحان، ويعتليان الهضاب والربى، ويتسلقان النخيل والأشجار ليقطعا أغصانها أو يجنيا ثمارها، ثم ألقت رأسها على صدرها فرأت بين ثدييها وفوق ذراعيها العاريين ظل النخلتين المسماتين باسمها واسم بول، وقد طالت عثاكيلهما، وانتشرت سعفاتهما، وكبر جوزهما، ولصقت كل منهما بالأخرى لصوقا شديدا، فأثار ذلك المنظر في نفسها شعورا غريبا لم تستطع أن تفهمه ولا أن تفهم ما الذي يقلقها منه، فلم تطق البقاء في مكانها لحظة واحدة، فنهضت إلى ثوبها فأسبلته على جسمها، واندفعت راكضة إلى كوخها، وأيقظت أمها من منامها واضطجعت بجانبها، وأخذت بيدها وظلت تضغط عليها ضغطا شديدا كأنما تريد أن تبثها ألمها وتفضي إليها بسرها فلا تستطيع، وتحاول أن تنطق باسم بول فيحتبس لسانها في فمها، ثم لا يلبث ذلك السعير المتأجج في صدرها أن يستحيل إلى زفير فشهيق فبكاء، فتذرف من دموعها ما شاء الله أن تذرف حتى يهدأ ما بها، وأمها صامتة ساكتة تفهم كل شيء ولا تقول شيئا، سوى أن ترفع نظرها إلى السماء سائلة الله تعالى بنظراتها السابحة في ذلك الفضاء أن يمنح ابنتها الهدوء والسكينة، وأن يقيها العثرات والزلات.
ولم يزل الحر آخذا في اشتداده حتى استثار من مياه البحر أبخرة عظيمة ما زالت تتكاثف وتتجمع حتى انعقدت في سماء الجزيرة ظلة سوداء، فاحتجب قرص الشمس، وتلفعت الجبال والهضاب والربى والآكام بأردية بيضاء من الضباب، فما تكاد تقع عين الناظر على منظر مستبين، ثم ما لبث الرعد أن قصف قصفا شديدا دوت به أرجاء الجبال، وأخذ البرق يرسل شرارته الحمراء في خلال السحب الكثيفة المتراكمة، فأنار بعضا منها وعجز عن بعض، ثم انفجرت السماء عن أمطار غزار سالت بها الأودية والقيعان، وسحبت فيها الربى والهضاب، وما هي إلا لحظات قليلة حتى أصبح ذلك الحوض الواسع بحرا عجابا يعب عبابه وتصطخب أمواجه، واختفى كل شيء من هواديه وأعلامه، وأطمه وذراه، ولم يبق طافيا منه على سطح الماء إلا تلك الربوة العالية التي يرفرف فوقها العلم الأبيض، علم الاستكشاف، فكان منظرها في وسط ذلك البحر العجاج منظر السفينة المضطربة في أيدي الأمواج الثائرة، فصعدت إليها تلك الأسرة المسكينة تنتظر قضاء الله فيها وفي زروعها وضروعها.
وظلت الحال على ذلك عدة ساعات، ثم هدأت العاصفة، ورقت السحب، واستطاعت الشمس أن ترسل من خلالها بعض الأشعة البيضاء في أنحاء الفضاء، وأخذ بول ودومينج يفتحان للمياه المتراكمة شعابا ممتدة في أطراف الحوض تنحدر منها إلى البحر، حتى لم يبق منها بعد ساعة إلا ما ركد في الحفائر والأغوار، والبطون والوهاد، فذعر بول وفرجيني لمنظر الأشجار الساقطة والجذوع المتهافتة، والأغصان المتناثرة، والأزهار المبعثرة، كأنهم يشهدون أطلالا بالية قد عصفت بها وبساكنيها أيدي الحدثان، وعوادي الزمان.
وخطر لفرجيني أن تذهب لزيارة حديقتها لترى ما فعلت تلك الحوادث بها، فعرض عليها بول أن يصحبها فسارا معا حتى أشرفا عليها، فإذا هي قفر يباب لا شجر ولا ثمر، ولا طيور ولا أعشاش ولا جداول ولا غدران، إلا ما كان من تلك البلابل الضاوية الواقعة على ذوائب بعض الأشجار ترعد بردا، وتغرد تغريدا شجيا هو بالأنين والبكاء أشبه منه بالترجيع والغناء.
فأطرقت فرجيني إطراقة طويلة ثم رفعت رأسها والتفتت إلى بول وقالت له: لقد ضاعت كل آمالي في الأرض يا أخي، فلم يبق لي إلا أملي في السماء! لقد غرست تلك الجنة الزاهرة، وأجريت في خلالها الجداول والغدران. وأنشأت في أنحائها ما شئت من الحظائر لماشيتي، والأعشاش لطيوري، وكانت أنسي وراحتي، وملجأ همومي وأحزاني.
وها هي ذي أيدي الحدثان قد عصفت بها، وعفت رسومها ومعالمها، ومحت سطورها من كتاب الدهر كأن لم تغن بالأمس، فلم يبق لي ما آنس به في هذا العالم ولا ما أسكن إليه، فلأطلب لنفسي سعادة غير هذه السعادة، في عالم غير هذا العالم لا تعصف به العواصف، ولا تجتاحه السيول، ولا تنال منه أيدي الصروف والغير.
فاضطرب بول عند سماع هذه الكلمات وسرت في جسمه رعدة شديدة ملكت ما بين أقطاره، فصمت هنيهة ثم التفت إليها وقال لها: هوني عليك الأمر يا فرجيني، فكما يعرض الموت على الحياة تعرض الحياة على الموت، وأعدك وعدا صادقا أن كل شيء سيعود إلى ما كان عليه، وسترين عما قليل خمائلك وأشجارك ومياهك وظلالك وأطيارك وأعشاشك عائدة إلى شأنها الأول، فيعود لك أنسك واغتباطك وسرورك وابتهاجك، فرفعت طرفها إلى السماء وظلت على ذلك ساعة كأنما تحاول أن تطير بروحها إلى ذلك الملأ الأعلى، ثم وضعت يدها على عاتقه وقالت له: أتدري ما هو خير من هذا كله يا بول؟ قال: لا، قالت: إن لسميك «بول» الرسول عندي منزلة لا تعدلها منزلة أخرى، وقد رأيت له صورة عندك تحتفظ بها في أطواء ثيابك، فرجائي إليك أن تهديني إياها، قال: لا أحب إلي من ذلك.
وانطلق يعدو إلى كوخه عدو الظليم ليأتي بها، وهي صورة أثرية قديمة كانت تحملها مرغريت في قلادتها منذ زمن بعيد، فلما ولدت ولدها بول ورأت في ملامح وجهه ما يشبه ملامح ذلك القديس العظيم سمته باسمه، وناطت تلك القلادة بعنقه كتميمة تحفظه من عاديات الدهر، وغوائل الأيام، ولم يزل حاملا إياها حتى كبر وأينع، فاحتفظ بها في صندوقه بين ملابسه كأعز شيء لديه، حتى سمع فرجيني تقترح عليه أن يهديها إياها، فلم يكن شيء من الأشياء أحب إليه من أن يفعل راضيا مغتبطا، وما هي إلا ساعة حتى عاد بها طائرا فرحا فقدمها إليها، فسرت بها سرورا عظيما، وجرى ماء البشر في وجهها طلقا غدقا، وقالت له: ستبقى هذه الصورة تذكارك الدائم عندي ما حييت، ولن تفارق عنقي أبدا حتى الساعة الأخيرة من ساعات حياتي، ولن أنسى أبد الدهر أنك قد أهديت إلي الشيء الوحيد الذي تملكه، فحنا عليها وهم أن يحتضنها إلى صدره فأفلتت من يده برفق وركضت هاربة إلى حجر أمها كعادتها.
فوقف بول في مكانه حائرا مكتئبا مذهوبا به كل مذهب، تعبث بعقله الوساوس والأوهام.
ولقد طال هذا الأمر بينهما وأصبحت حياتهما حياة غريبة مضطربة لا عهد لهما بمثلها من قبل، فخلت مرغريت يوما من الأيام بهيلين وقالت لها: لم لا نزوج بول من فرجيني فقد بدآ يشقيان في عيشهما، وأخاف أن يمتد بهما الأمر إلى ما هو أعظم شرا من ذلك، وعندي أنه متى تكلمت الطبيعة وجب الإصغاء إليها والإذعان لها، وما شقي الناس هذا الشقاء الذي نراهم يعالجونه كل يوم إلا لأنهم تمردوا على الطبيعة وخلعوا طاعتها، وسولت لهم نفوسهم السير في طريق غير طريقها. فقالت هيلين: إن الولدين لا يزالان صغيرين وفقيرين، فماذا يكون شأنهما غدا إن قسم لهما أن يلدا أولادا كثارا في قفرة مثل هذه القفرة لا يعين المرء فيها على العيش غير المال؟ إننا كابدنا أعظم ما يكابد امرؤ في العالم من عناء وشقاء في سبيل تربيتهما وتغذيتهما، فمن لهما - وهما ضعيفان ساذجان وقد رحلنا عنهما إلى عالمنا الآخر الذي ينتظرنا ورحل معنا دومينج وماري - بقوة تعينهما على أمرهما وأمر حياتهما العائلية المستقبلة، إن الزمان قد دار دورته، وقد أصبحت أشعر منذ أعوام بآلام شداد تخالط كل جزء من أجزاء جسمي، وأرى أنني أسير حثيثا في تلك الطريق التي يسير فيها الذاهبون إلى حفائرهم، وأن ليس بيني وبينها إلا خطوات قليلة، وقد أصبح دومينج شيخا هرما لا يكاد يحمل عبء نفسه، وأصبحت ماري على مقربة من ذلك، فلا يبقى لهما مساعد ولا معين.
والرأي الذي أراه أن نباعد بينهما، فنرسل بول إلى بعض أصقاع الهند ليتجر فيها بما يتجر به الأوروبيون المنتشرون في تلك البلاد، عله يتلهى عن فرجيني بشواغله وأعماله، وربما عاد عليه من ذلك ما يعينه على أمرها وأمره غدا.
ثم اتفقتا على أن تستشيراني في هذا الأمر، فأشرت عليهما بما رأتا، وقلت لهما: إن في هذه الجزيرة وفي ما حولها من الجزر كثيرا من السلع التي تنفق نفاقا عظيما في الأسواق الهندية، كالقطن والآبنوس والأصباغ وما إليها، فإذا سافر بول بها فباعها هناك ثم عاد ببعض السلع الهندية الغريبة فباعها هنا وطال مرانه على ذلك واعتياده رجوت له في مستقبل حياته خيرا كثيرا.
فعهدتا إلي أن أفاتحه في هذا الشأن، فخلوت به ذات يوم وأنشأت أحدثه حديثا طويلا عن التجارة وفضائلها ومزاياها، وعن الضرب في آفاق الأرض وثمراته وفوائده، ثم أفضيت إليه بذلك المقترح، فأصغى إليه وهو صامت واجم لا يقول شيئا حتى انتهيت من حديثي، فرفع رأسه إلي وقال: وهل يوجد عمل أعظم ثمرة وأعود فائدة من عمل الفلاح، الذي يقوم بزراعة حقل من الحقول لا يعطيه إلا القليل من جهده وأقل من القليل من ماله فيعود عليه منه ضعف ما بذل له خمسين أو ستين مرة؟ ومتى كانت البحار يا سيدي وطاء لينا أخاطر فيه بنفسي لأربح شيئا أستطيع أن أربحه من بيع ما فضل عن حاجتنا من حبوب وأثمار في أسواق هذه الجزيرة وما حولها من الجزر؟ وأية حاجة بنا إلى المال الكثير ونحن والحمد لله في سعة من العيش لا نشكو جوعا ولا ظمأ، ولا ضيقا ولا ضجرا، ولا نطلب لأنفسنا منزلة في الحياة فوق المنزلة التي نحن فيها؟ ولا أكتمك يا سيدي أنني أخاف المال وأخشاه خشية شديدة، وأقشعر من ذكره كلما سمعت به، وأعتقد أننا لا نزال سعداء في هذه الحياة ما دمنا بعيدين عنه وعن التفكير فيه، فإن قدر لنا يوما أن نشقى فيها فإنما شقاؤنا يكون على يده وبشؤم طالعه، فلنتمتع بالسعادة التي قسم الله لنا، ولا نجني على أنفسنا بالتكلف والمحاولة وركوب الطريق الهوجاء التي لا نعرفها ولا نعرف غايتها ولا منتهاها، والله أعلم بنا منا، وأحنى علينا من آبائنا وأمهاتنا.
فوقفت بين يدي هذه الكلمات الحكيمة المملوءة شرفا وفضيلة موقف الجمود والصمت، لا أستطيع أن أقول له شيئا، ولا أن أنكر عليه أمرا، ولا أن أفضي إليه بسر ذلك المقترح الذي اقترحته عليه، ضنا به أن يهلك يأسا وجزعا.
الفصل السادس عشر
الرسالة
وهنا وصلت سفينة من فرنسا تحمل كتابا لهيلين من عمتها تقول لها فيه: إنها ندمت على ما كان منها في الماضي من قسوتها عليها ونبوها بها واطراحها إياها، وأنها قد بلغت السن التي تحتاج فيها إلى قلب رحيم من قلوب أهلها أو ذوي رحمها يخفق بجانبها؛ لأنها تعيش في بلد لا أهل لها فيه ولا رحم، فهي تقترح عليها أن تحضر إليها بنفسها، فإن حال دون ذلك حائل أرسلت إليها ابنتها بدلا منها لتكون بجانبها في ساعتها الأخيرة، وقالت لها: إنها قد عزمت على أن توصي لفرجيني بجميع ثروتها من بعدها.
فوقع ذلك الكتاب من نفوسهم جميعا موقع الدهشة والعجب، وكأنما قد نزلت بهم كارثة من أعظم كوارث الدهر، فقد تمثل لهم أن هيلين ستفارقهم وينقطع أنسها عنهم، وأن ذلك الوادي سيقفر منها ومن فواضلها وأياديها بعد ما عمرته أعواما طوالا، فوجمت مرغريت، وأطرقت فرجيني، وجمد بول في مكانه جمود الصنم، واستعبر دومينج وماري، ومرت بهم على ذلك ساعة لم تمر بهم مثلها مذ وطئت أقدامهم هذه الأرض حتى اليوم، ثم التفتت هيلين إلى مرغريت باسمة وقالت لها: هدئي روعك يا صديقتي فإنني لا أفارقك أبدا، وما أحسبني مستطيعة ذلك لو أردته، فقد سعدت بك برهة من الزمان لا أستطيع أن أنساها أو أنسى يدك البيضاء فيها، ثم أقبلت عليهم جميعا وقالت لهم: كونوا مطمئنين يا أولادي، فسأبقى معكم حتى أموت بينكم وأدفن في التربة التي تعيشون فيها، ولقد جرح الدهر قلبي فيما مضى جرحا داميا فكنتم أنتم أطباءه وأساته وما زلتم به تنفون عنه غثاثته وتنضحونه بالبارد العذب من ودكم وإخلاصكم، وعطفكم ورحمتكم، حتى التأم أو كاد، فلن أكفر بنعمتكم أبدا، ولن أجازيكم على إحسانكم شر الجزاء، ولئن كانت قد بقيت في أعماق قلبي بقية من ذلك الشجن القديم، والذكرى المؤلمة، فذلك ما لا يد لكم فيه، ولا حيلة لكم في أمره، ولا توجد قوة في العالم - سواء أعشت في هذا الكوخ الحقير أو في ذلك القصر العظيم - تستطيع أن تشفيني من دائي، إلا أن يمد الله إلى يد معونته ورحمته.
فما سمعوا منها ذلك حتى استطيروا فرحا وسرورا، وداروا بها يقبلونها ويعتنقونها، ويهنئونها بوفائها وإخلاصها، فلله ما أشرفهم وأكرم نفوسهم، إن الثروة الطائلة التي يقتتل عليها الناس اقتتالا وينحر بعضهم بعضا في سبيلها، تعرض نفسها عليهم عرضا فيأبونها، ويطيرون فرحا بالخلاص منها.
وإنهم لكذلك إذ سمعوا ضوضاء خارج الكوخ وأصواتا غريبة، فدخل عليهم دومينج وأخبرهم أن سيدا عظيما يركب مركبا فارها ووراءه عبيد كثيرون يقصد هذا الكوخ، وما أتم كلمته حتى دخل ذلك السيد العظيم، فإذا هو حاكم الجزيرة المسيو «لابوردينيه»، فنهضوا له إجلالا وإعظاما، وحيوه بتحية الحاكمين، وقدمت له مرغريت كرسيا من القش فجلس عليه، وقدمت له هيلين شراب الأرز في إناء بسيط من القرع فتناوله مغالبا نفسه على كتمان ما شعر به من التقزز حينما شربه، ثم دار بعينيه في أنحاء الكوخ، فعجب لحقارته ورثاثته، وبساطة ما يشتمل عليه من الآنية والأثاث، وبدأ حديثه بمعاتبة هيلين في انقطاعها عن زيارته تلك المدة الطويلة، وأنها لم تلجأ إليه في ساعات شدتها وبؤسها ليمدها بالمعونة التي تحتاج إليها، وكان بول واقفا بجانب الباب يسمع حديثه ويلقي عليه نظرة شزراء، وكأنما قد ألهم ما يدور في نفسه، وما قدم من أجله، فتقدم نحوه خطوة وقال له: إنك لست بصادق فيما تقول يا سيدي؛ لأن أمي ذهبت إليك في بيتك منذ أعوام فازدريتها واحتقرتها، ولم تأذن لها أن تجلس على كرسي بين يديك، ولقد أراد الله بها خيرا إذ كفاها مئونة حمل منتك أو منة أحد من الناس غيرك. فالتفت الحاكم إلى هيلين وقال لها: ألك ولد أيضا يا سيدتي؟ قالت: لا، ولكنه ولد صديقتي مرغريت وهو يسميني أمه؛ لأنه ربي مع فرجيني في مهد واحد، ورضع معها ثديا واحدا، وأحبها حبا لا يحبه الأخ أخاه. فنظر إليه الحاكم وقال له: ادن مني يا ولدي، فدنا منه، فمسح بيده على رأسه، وقال له: إنك لا تزال صغيرا يا بني، فإذا بلغت مبلغ الرجال وفهمت ضرورات الحياة وأحكامها أدركت مبلغ شقاء هؤلاء القوم الذين تسمونهم حكاما، وعلمت أن أعظم ما يشقون به في حياتهم أنهم ليسوا أحرارا في إجراء العدالة بين الناس، وإراحة الحقوق على أهلها، وتحري الصدق فيما يقولون، والفضيلة فيما يفعلون.
فتناول بول يده وهزها هزا شديدا وقال له: أشكر لك صدقك وصراحتك يا سيدي، وإن كنت قد أسأت إلينا فيما مضى، وأظن أني أستطيع أن أتخذك صديقا لي منذ اليوم، فابتسم الحاكم وقال: ولي الشرف العظيم بذلك يا ولدي.
ثم أشار إلى هيلين أنه يريد محادثتها على انفراد، فأشارت إليهم جميعا فانصرفوا، فأقبل عليها يقول لها: لا بد أن تكوني قد قرأت الكتاب الذي أرسلته إليك عمتك اليوم، وقد جاءني منها كتاب في البريد نفسه تطلب إلي فيه أن أزورك، وأبذل كل ما أملك من الجهد في حملك على السفر إليها، أو إرسال ابنتك فرجيني بدلا منك، وأرى أن ترسلي إليها ابنتك، فهي فتاة ناشئة فتية ذات نضرة وجمال، وليس من الرأي أن تدفني مثل هذه الحياة الغضة الندية في مثل هذه التربة القاحلة المحرقة، والحياة السعيدة هنالك تنتظرها وتمد ذراعيها لاستقبالها، وإني وإن كنت أعلم أني أطلب إليك ما يشق عليك ويفت في عضدك، ولكني أعلم أيضا أنك أرحم بابنتك وأحنى قلبا عليها من أن تحولي بينها وبين تلك السعادة التي تنتظرها هناك من أجل متعة نفسك برؤيتها جالسة بين يديك، وأعتقد أنك لا ترين بأسا من التضحية بشيء من عواطفك النفسية في سبيل راحتها وسعادتها وهناءة عيشها طول أيام حياتها، ولقد كتب إلي وزير المستعمرات أن أعنى بهذه المسألة عناية كبرى، وألا أدعها تفلت من يدي ما وجدت إلى ذلك سبيلا، ومعني ذلك عنده أن آخذك بالشدة في هذا الأمر، وأكرهك منه على ما لا تحبين، ولكنني لم أحفل بكلامه ولم أكترث له، بل جئت إليك بنفسي لأعرض عليك الأمر عرضا، لا لألزمك به إلزاما، وإني أكل إليك وإلى رحمتك وشفقتك وتعقلك ورزانتك مستقبل هذه الفتاة المسكينة، فاختاري لها ما يجب أن تختاره الأم الرءوم لابنتها، على أن صلتها بك لن تنقطع في مستقبل الأيام، وستسمعين غدا من أحاديث هناءتها ورغدها ورفاهيتها ونعمتها ما ينير لك ظلمة الوحشة التي تشعرين بها بعد فراقها، على أنها ربما عادت إليك بعد قليل من الأيام، فإن عمتك - على ما أعلم - في الدور الأخير من أدوار حياتها، وهي هامة اليوم أو غد.
فقالت له هيلين: إنني ما تمنيت على الله في حياتي شيئا سوى أن أرى ابنتي سعيدة في حياتها، هانئة بعيشها، إلا أنني لا أحب أن أفتات عليها في أمر من أمورها، فلا بد لي من أن آخذها بالرفق واللين حتى تذعن لما أريد، وأرجو أن يعيني الله على ذلك، وأظن أني أستطيع أن أفضي إليك بالأمر غدا أو بعد غد قال: أرجو أن تعجلي بقدر ما تستطيعين، فالسفينة موشكة على السفر، ولا أحسبها باقية عندنا أكثر من ثلاثة أيام، ولا أعلم متى تعود بعد ذلك.
ثم نهض قائما وأخرج من جيبه كيسا كبيرا مملوءا بالقطع الذهبية ووضعه على المائدة وقال: هذه هدية عمتك إليك لتستعيني بها على شأنك وشأن فرجيني. وودعها ومضى.
الفصل السابع عشر
الوداع
لم يثقل هذا الأمر كثيرا على نفس هيلين، بل صادف هوى من قلبها، ولم تكن كاذبة في قولها للحاكم إنها لا تتمنى على الله في حياتها شيئا سوى أن ترى ابنتها سعيدة في حياتها، هانئة بعيشها، إلا أنها لا تحب أن تفتات عليها في أمرها، فإن الحاكم لم يتجاوز عتبة باب الكوخ حتى دعت إليها ابنتها وخلت بها، وأنشأت تحدثها حديثا طويلا قالت لها فيه: إنني أصبحت يا بنيتي امرأة عليلة منهوكة، لا قوة لي ولا عزيمة، وما مرغريت بأحسن حالا مني، وقد صار دومينج وماري شيخين ضعيفين، والشيخوخة أسرع إلى سكان هذه المناطق الحارة منها إلى سكان المناطق الأخرى، وبول لا يزال فتى غريرا عاجزا عن أن يستقل بنفسه فيما يعالج من شئونه، فماذا يكون حالكما غدا لو أنكما أصبحتما تحملان وحدكما عبء هذه الحياة الثقيلة على عاتقكما، وكيف يهون عليكما أن تريا أولادكما الصغار غدا بائسين أشقياء لا يملكون لأنفسهم ولا تملكان لهم نفعا ولا ضرا؟ وقد مثلت لنفسي بين أن تعيشي بجانبي فأراك فقيرة معوزة تشقين ليلك ونهارك في جمع قوتك كما تشقى الأجيرة العاملة، وبين أن تفارقيني بضعة أعوام أسمع في أثنائها على البعد من أنباء سعادتك وهناءتك ونعمتك ورغدك ما يثلج صدري ويذهب بوحشة نفسي، فوجدت أني أستطيع احتمال الثانية، وأعجز عن احتمال الأولى، فسافري يا بنيتي، وكوني غدا عكاز شيخوختي وعماد حياتي، ومعينتي على دهري.
فرفعت فرجيني رأسها إليها فإذا دمعة رقراقة تتلألأ في عينيها، ونطقت بتلك الكلمة التي عجزت عن أن تنطق بها قبل اليوم فقالت: «وكيف لي بترك بول يا أماه؟!»
قالت: «إنما أطلب إليك السفر من أجل بول، لا من أجل غيره، فهو غلام مسكين يبذل من راحته وقوته في سبيل العمل ما أحسب أنه قاتله وذاهب بحياته إن طال عليه أمره، فارحميه وأشفقي عليه وأنقذيه من بؤسه وبلائه، ولقد آثرت أن أحتمل كل مكروه في سبيل ذلك حتى الموت ضنا بك وبسعادتك، فكوني مثلي وفارقيه رحمة به وإبقاء عليه، وليكن حبك إياه عظيما مجيدا كحبي إياك، ولن يعظم الحب ولن يمجد إلا إذا بني على أساس من التضحية والبذل.»
قالت: ألم تقولي لي يا أماه قبل اليوم إن للكون إلها يتولى شأنه ويرعاه؟ وقد رعانا وتولى شأننا بالأمس، فلم يتخلى عنا غدا؟
ألم تقولي لي إننا ما خلقنا إلا للعمل، وإن العمل هو ينبوع الحياة ومادتها التي لا تفنى؛ فلم تطلبين إلي اليوم أن أعتمد في حياتي على غيره، وألتمس الرزق من سبيل غير سبيله؟
دعيني أعش بجانبك يا أماه، وبجانب بول ومرغريت ودومينج وماري، وعلى مقربة من شويهاتي وأعنزي، وطيوري وعصافيري، وبين أحضان هذا الوادي الجميل الذي أنست به وأحببته وألفت ليله ونهاره، وكواكبه ونجومه، وأشعته وظلاله، فإنني لا أستطيع أن أعيش بين قوم لا أعرفهم ولا أفهمهم، ولا أحسبني أحمدهم إن عرفتهم وفهمتهم.
دعيني أعش مما قسم الله لي من الرزق، ولقد رزقني الجم الكثير الذي لا أطلب فوقه مزيدا، ولا أبتغي به بدلا ...
لقد عشت في هذا الوادي خمسة عشر عاما ما شكوت ولا تألمت، ولا بت ليلة جائعة أو ظامئة أو ساخطة أو ناقمة، فلم تطلبين إلي أن أترك ما لا يريبني إلى ما يريبني، وأن أبيع هذا الحاضر المعروف بذلك الغائب المجهول؟ إن نفسي لتحدثني بشر عظيم في هذه السفرة التي تدعونني إليها، وما أزعم لنفسي علم ما في الغيب، ولكنني أشعر بخوف شديد لا أعرف له سببا، وحسبي أن أعلم ألا سبيل لي إلى الوصول إلى ذلك العالم الثاني إلا إذا ركبت تلك المطية الوعرة التي يسمونها البحر حتى تسيل نفسي رهبة وجزعا.
فأطرقت هيلين صامتة ولم تستطع أن تقول شيئا؛ لأنها وإن كانت من أشهى الأشياء إليها أن ترى ابنتها بعيدة عن بول في تلك الأيام، وأن تراها آخذة بحظها من تلك السعادة التي تنتظرها هناك، إلا أنها رحمتها وأشفقت عليها فلم تستطع أن تجادلها فيما تقول.
ثم قالت بعد قليل: إنني لا أحب أن أشق عليك يا بنيتي في شأن من شئونك الخاصة بك، فاختاري لنفسك الحياة التي تحبينها وتؤثرينها، غير أني أضرع إليك في أمر أرجو ألا يثقل عليك. قالت: وما هو؟ قالت: أن تكتمي سرك الذي تعالجينه بين جنبيك، فلا تبوحي به لأحد من الناس كائنا من كان حتى لبول نفسه، وأن تجعلي الفضيلة والطهارة والشرف والعفة رائدك في كل ما تقولين وما تفعلين، وأن تأخذي نفسك بالأناة والرفق في جميع خطواتك وتصرفاتك اتقاء العثرة والزلة، وأن تجعلي نصب عينيك دائما أن الرجل لا يحترم إلا المرأة التي تضن بنفسها عليه، ولا يحتقر مثل المرأة التي تبذل نفسها له، أي إنه يحب المرأة الفاضلة أكثر مما يحب المرأة الجميلة، بل لا يعرف للمرأة جمالا غير جمال الأدب والعفة، وإن زعم في نفسه غير ذلك. قالت: ذلك ما أعرفه يا أماه، ولا أعرف شيئا سواه.
وما أتى المساء حتى وفد إلى الكوخ كاهن الجزيرة، وهو رجل من أولئك الدهاة الماكرين الذين تستعين بهم الحكومات الاستعمارية على غزو القلوب الضعيفة وحيازتها بلا سفك دم، ولا إنفاق مال، والذين يكونون دائما في حاشية حكام المستعمرات ليعينوهم على ما هم آخذون بسبيله من الفتح والغزو، وكان هذا الكاهن يختلف إلى هذه الأسرة من حين إلى حين ليرشدها ويباركها، فلما رأوه قادما إليهم ظنوا أنه إنما جاء لزيارتهم كعادته التي اعتادها، فأحسنوا استقباله وتحيته. ورأت هيلين أن تكاشفه بذلك الأمر الذي كان يشغلها، فكاشفته به، فلم يلبث أن قضى فيه قضاء مبرما، وأعلن أن الله يأمر هيلين بالبقاء في الجزيرة ويأمر فرجيني بالسفر إلى فرنسا، وأنهما إن لم تفعلا فقد خالفتا إرادة الله وباءتا بسخطه وغضبه. فذعرت فرجيني ذعرا شديدا، ولم تجد بدا من الخضوع والإذعان، فانصرف الكاهن عائدا إلى قصر الحاكم ليرفع إليه ما تم من الأمر على يده.
وما أصبح الصباح حتى علم سكان الجزيرة أن تلك الأسرة الفقيرة الخاملة التي تسكن ذلك الوادي المقفر الموحش قد أمطرتها السماء فضة وذهبا، فوفد إليه الوافدون من كل مكان ما بين مستمنح يطلب حاجة، ومستعين يطلب معونة، وتاجر يعرض سلعة، فأعطت السائل، وأعانت المسترفد، وابتاعت من الأنسجة والشفوف وصنوف الديباج والخز وأنواع الأثاث والرياش ما يزيد عن حاجتها، وما يضيق به كوخها، وخلع جميع أفرادها أسمالهم القديمة البالية وقمصهم البنغالية الخشنة، وارتدوا ملابس جديدة بديعة الشكل والهندام، ولبست فرجيني ثوبا حريريا أزرق مطرزا بالقصب، واعتصبت بعصابة وردية زاهية، ولصق ثوبها بجسمها فمثله تمثيلا بديعا، ووصفه وصفا دقيقا، وبول يرى كل هذا ولا يفهم منه شيئا؛ لأن أحدا منهم لم يجرؤ أن يكاشفه بالأمر إلا أن يظن ظنا، فعظم حزنه واكتئابه، وساورته الوساوس والهموم، فرحمته أمه مما به، وكانت تمسك في نفسها شيئا من العتب على صديقتها هيلين في رضاها بسفر ابنتها، وتضحيتها بابنها في سبيلها، فدعته إليها وخلت به وقالت له: لم تعلل نفسك يا بني بالآمال الكاذبة، والأماني الضائعة، ولم تتطلع إلى ما تقصر عنه يدك ويضيق به ذرعك؟ ولقد آن أن أكشف لك حقيقة أمرك الذي كتمته عنك زمنا طويلا لتعلم من أنت؟ ولتقدر آمالك على مقدار حقيقتك، لا على مقدار تصورك، فاعلم أن أمك امرأة فلاحة وضيعة لا حسب لها ولا نسب، وأن قدرا من الأقدار الجارية بين الناس قد نزل بها في صباها فحاد بها عن طريق الشرف والاستقامة، فحملت بك من سفاح، أي إنك لا أب لك يعرفه الناس ولا لقب لك غير لقب أمك، فلا تقس نفسك بفرجيني، فهي فتاة شريفة نبيلة من أسرة كريمة مشهورة، ولها عمة مثرية كانت قد أغفلت أمرها حقبة من الزمان لأمر ما ثم ذكرتها اليوم فأرسلت في طلبها لتعيش معها في باريس متمتعة بثروتها الطائلة، حتى إذا ذهبت لسبيلها ورثت عنها هذه الثروة من بعدها، فلا تطمع في أن تتصل بها يوما من الأيام إلا أن تكون فلتة من فلتات الدهر، أو أعجوبة من أعاجيب الأيام، وأرح نفسك من هموم الأماني ومتاعبها، والله أولى بك وبي من كل مخلوق.
واعلم يا بني أنني لم أقترف هذا الجرم الذي ذكرته لك وأنا أعلم أني آثمة أو مذنبة، ولكنه قضاء الله قد جرى بما لا حيلة لي ولا لأحد من الناس في أمره، فاغفر لي خطيئتي إن كنت ترى أنني مخطئة أو أنني الجالبة لك هذا الشقاء الذي تكابده في حياتك.
ثم أسلمت رأسها إلى ركبتيها وبكت بكاء طويلا.
فحنا عليها بول وطوق عنقها بيديه وقال لها: لا تبك يا أماه، فما أنت بائسة ولا شقية ما دمت معك، أما هفوتك التي تتحدثين عنها فما أحسب إلا أن الله قد غفر لك؛ لأنك قد كفرت عنها بدموعك وآلامك وشقائك الذي كابدته زمنا طويلا، وكوني على ثقة من أنك أجل في عيني وأكبر في نفسي من أن أعد عليك أمثال هذه الهفوات والعثرات، وأنني لا يعنيني أكان أبي معلوما أم مجهولا، شريفا أم وضيعا؛ لأنني ما فكرت يوما من الأيام أن أفخر به أو أعتمد في حياتي عليه، أما تلك التي حدثتني عنها فسأحمل نفسي على نسيانها وسلوتها، وأرجو أن يعينني الله على ذلك، ولقد شعرت قبل اليوم بانقباضها عني وتجهمها لي، ولا بد أن تكون قد وقفت من بضعة أشهر على هذا السر الذي أطلعتني عليه اليوم فازدرتني واحتقرتني، ونفضت يدها مني إلى الأبد، والأمر لله وحده.
ثم نهض قائما وقد ظن أنه قد شفي مما به، فتنفس نفس الراحة ومضى لسبيله.
غير أنه لم يبعد إلا قليلا حتى شعر بوخزة في قلبه، فلم يهتم بها، ثم تتابعت الوخزات، فخيل إليه أن قلبه يرفرف بين أضلاعه رفرفة الطائر بأجنحته، وأنه يحاول أن ينبعث من مكانه ويطير في أجواز الفضاء، فصرخ صرخة عظيمة وظل يهتف: آه يا فرجيني! آه يا فرجيني! حتى وصل إلى صخرة عالية على شاطئ البحر فتهافت عليها، وأسلم رأسه إلى ركبتيه، وذهبت به نفسه مذاهب لا يعلمها إلا الله.
وظل على ذلك ساعة حتى انحدر قرص الشمس إلى مغربه وبدأ كوكب الليل يخطر في جو السماء محفوفا بحاشية من سحبه وغيومه، فلا يكاد يلمحه اللامح من خلالها إلا كما يلمح وجه الحسناء من وراء خمارها، ثم أخذ يرسل أشعته الباهتة الخضراء على ما تحته من صخور وهضاب، ورمال وتلال، فأضاءتها وأضاءت فيما أضاءته ذلك الشبح الضئيل الجاثم على تلك الصخرة المنفردة.
وإنه لكذلك إذ شعر بيد قد وضعت على عاتقه وبأحرى ترفع رأسه، فانتبه فإذا فرجيني واقفة أمامه ودموعها تترقرق في عينيها، فذعر إذ رآها وظل ينظر إليها نظرا حائرا مضطربا، فقالت له: ما بقاؤك هنا وحدك في هذا المكان يا بول؟! فقال لها: لقد حدثوني عنك أنك مسافرة بعد يومين أو ثلاثة، وأنك ذاهبة لتفتشي لك عن أخ آخر غيري يصلح لك وتصلحين له؛ لأنك عرفت أنك فتاة شريفة سرية لا يجمل بك أن تتصلي بفتى وضيع مسكين مثلي، فأحزنني ذلك حزنا عظيما، وكنت أظن أنني أستطيع أن أحمل نفسي على الصبر عنك واليأس منك، فعجزت، فلم أر بدا من أن أروح عن نفسي ببضع قطرات من الدمع أذرفها في هذا المكان الخالي.
ثم أشار إليها أن تجلس بجانبه، وأقبل عليها، وظل يقول لها: إلى أين تريدين أن تذهبي يا فرجيني؟ وأي أرض تلك الأرض التي اخترتها وآثرتها على أرضك التي نشأت فيها، وألفت ماءها وهواءها، وظلالها وأفياءها، وخضراءها وغبراءها؟ وأي قلب ذلك القلب الذي رأيت أنه يحمل لك في سويدائه من الحب والعطف أكثر مما يحمل لك قلب أمك فاستبدلته به وسكنت إليه من دونه؟
لمن تتركين تلك المرأة المسكينة وأنت أنس وحشتها، وسمير وحدتها، وعماد حياتها، وكل أملها ورجائها في هذا العالم؟
كيف تستطيع أن تهنأ بنومها حينما تمد يدها في ظلام الليل وسكونه إلى مضجعك فلا تراك بجانبها؟ وكيف تستقبل وجه النهار إذا فتحت عينيها في الصباح فلا تقعان على وجهك المشرق الجميل؟ أو تجد لذة الطعام والشراب إذا جلست إلى المائدة فلا تراك بين الجالسين إليها؟ أو تصغى إلى أصوات الطبيعة المترنمة وصوتك لا يجلجل بينها، ولا تنبعث رنته بين رناتها؟
وكيف لي بتعزيتها وتعزية أمي عن همومهما وأحزانهما إذا دخلت إليهما فرأيتهما باكيتين منتحبتين تسألان عنك الليل والنهار، والأصائل والأسحار، والظباء السانحة، والطيور البارحة، فلا تسمعان ملبيا ولا مجيبا، ولا تقبلان عزاء ولا سلوى؟
وصمت هنيهة ثم قال وعيناه مخضلتان بالدموع: وما أصنع أنا من بعدك أيتها الغادرة القاسية إذا ظللت أفتش عنك في كوخك ومخدعك، وتحت ظلال الأشجار، وعلى ضفاف الأنهار، وفي جميع الأماكن التي أعلم أنك تأوين إليها، لأجلس إليك ساعة أتمتع فيها بلذة حديثك، وحلاوة سمرك، فلا أراك في واحد منها؟ ومن لي بمن يستقبلني حينما أعود من المزرعة تعبا لاغبا فيبتسم لي تلك الابتسامة العذبة الجميلة التي تذهب بجميع أوجاعي وآلامي؟ ومن ذا الذي يصحبني في هدوء الليل وسكونه إلى شاطئ البحر وقد بسط القمر أشعته على أمواجه المنبسطة، وصبغها بلونه الفضي الجميل، فيجلس بجانبي على رملة من رماله الميثاء فيسمعني تلك الأناشيد الساحرة الخالبة التي تستغرق شعوري ووجداني، وتملك علي مداركي وعواطفي، ويخيل إلي حين أسمعها أنها هابطة من الملأ الأعلى، وأنها نغمات الحور الحسان في فراديس الجنان؟
إنني لا أستطيع أن أعيش من بعدك يا فرجيني، ولا أستطيع أن أسألك أن تستصحبيني معك في سفرك، فأنت أجل من ذلك شأنا وأعظم خطرا، ولقد أفضت إلي أمي اليوم بسر حياتك وسر حياتي، فعلمت أنك فتاة شريفة جدا، وأنني فتى وضيع جدا، لا أصلح أن أكون أخا لك، بل لا أصلح أن أكون عشيرك وجليسك، وإنما أسألك أن تأذني لي بركوب السفينة التي تركبينها لأكون ملاحا من ملاحيها، أو خادما من خدمها، فأراك على البعد، فأجد في رؤيتك راحتي وسلوتي، وأعدك وعدا صادقا لا أغدر فيه ولا أحنث أنني لا أجالسك ولا أدنو منك، ولا أتصل بك بوجه من الوجوه إلا إذا عرض لك خطر من الأخطار، فإنني أبذل لك في تلك الساعة جميع ما تملك يدي، وما تملك يدي غير حياتي، فأبذلها لك طيب النفس عنها.
ما الذي طرأ عليك يا فرجيني؟ وما الذي نال من نفسك هذا المنال كله حتى استحالت حالتك إلى حالة أخرى أكاد أنكرها ولا أعرفها؟
كنت تخافين البحر أشد الخوف، وتجزعين لرؤية عواصفه وأنوائه جزع الأطفال الصغار، وتعجبين كل العجب للذين يخاطرون بأنفسهم في ركوبه، فإذا أنت مزمعة أن تعبريه، وأن تلبثي بين أمواجه الثائرة تسعين يوما كاملة.
كنت تتألمين أشد الألم لفراق أمك يوما واحدا، فها أنت تريدين أن تفارقيها طويلا لا يعلم مداه إلا الله تعالى، ومالك حيث تذهبين من الأرض أم سواها.
كنت تقولين لي: إنني لا أجد لذة الحياة بعيدة عنك، فها أنت تجدينها بعيدة عني جدا بين أقوام لا تعرفينهم، ولا تمتين إليهم بصلة من الصلات، أو سبب من الأسباب.
لقد شعرت بهذا الطارئ الجديد الذي طرأ على نفسك مذ رأيتك تلبسين هذا الثوب الضيق اللاصق بجسمك، وعهدي بك أنك تضيقين ذرعا بالريح العاصفة إذا مدت يدها إليك وحاولت أن تعبث بذيل ردائك، أو تدور بقميصك حول جسمك، ولا أدري ماذا يكون شأنك غدا إذا فارقت هذه القفرة الموحشة إلى ذلك العالم المزدحم الهائل الذي يتدفق حرية واستهتارا، ويسيل نعمة ورغدا؟
نعم إنك قد مللتني يا فرجيني، ومللت الحياة بجانبي، وأصبحت تشعرين بالحاجة إلى المال الذي لا أستطيع تقديمه لك، وإلى العيش الرغد الذي تقصر يدي عنه، فلا ألومك ولا أعتب عليك، ولكنني أسألك هل أنت على ثقة من أن المال هو السبيل الوحيد إلى السعادة التي تنشدينها؟ وإنك تكونين في ذلك الفناء الواسع أسعد منك في هذه الزاوية الضيقة؟ إنني أخاف أن تكوني مخطئة فيما تظنين.
إنني لا آسى على نفسي يا فرجيني، فقد عرفت من أنا وعرفت من أنت، وأصبحت لا أمل لي في أن أعيش في دائرة أوسع من الدائرة التي خلقت لها، ولكنني أضن بك على الدهر وأرزائه أن يمتد إليك ظفر من أظفاره الجارحة فأهلك على أثرك هما وكمدا، فإما أن تعدلي عن السفر، أو تأذني لي بالسفر معك، فإنني لا أستطيع أن أحول بين قلبي وبين القلق عليك ما دمت غائبة عني، فإن أبيتهما فودعيني منذ الساعة الوداع الأخير، فلا أمل لي في الحياة من بعدك!
فلم تستقبله إلا بدموعها تتحدر على خديها تحدر حبات العقد وهي سلكه فانتثر، وأنشأت تقول له: إنني إنما أسافر من أجلك يا بول لا من أجل نفسي؛ لأنني أصبحت أشفق عليك الإشفاق كله من هذا الشقاء الذي تكابده في سبيلي وسبيل هذه الأسرة المسكينة، وطالما بكيتك بيني وبين نفسي كلما رأيتك صاعدا شرفا، أو عابرا نهرا، أو سالكا وعرا، أو حاملا ثقلا، حذرا عليك أن تزل بك قدمك في هوة من الهوى فتهلك فأهلك على أثرك، فأنا إن فارقتك فإنما أفارقك بجسمي لا بنفسي لأعود إليك بعد قليل من الأيام بالراحة الطويلة من الآم هذه الحياة ومتاعبها، ولنستطيع أن نتمتع غدا في هذا المعتزل الساكن الجميل متعة لا يكدرها علينا مكدر حتى الموت.
ورجائي إليك، ألا تعود مرة أخرى إلى ذلك الحديث المزعج الذي حدثتنيه الساعة، فإنما نحن توءم، نشأنا معا، ودرجنا معا، وشربنا الحياة من كأس واحدة، وسلكنا سبيلها من طريق واحدة، هذا هو نسبنا، وهذا هو حسبنا، لا نعرف غيره، ولا نفهم شيئا سواه، وإني قائلة لك كلمة ما كان يمنعني من أن أقولها لك قبل اليوم إلا الخجل والحياء: لو أن الدنيا عرضت علي بحذافيرها على أن أبتاعها بشوكة تشاكها ولحظة تتألم فيها، لأبيتها غير آسفة ولا نادمة.
على أنني لا ذنب لي فيما كان، فقد أمرتني أمي بالسفر ولا أستطيع أن أخالف لها أمرا، وأبلغني الكاهن أن تلك إرادة الله ومشيئته، ولا قبل لي بالخروج عن إرادته، وبعد فهأنذا بين يديك فمر في بما تشاء من أمرك أطعك وأذعن إليك غير مبالية بشيء بعدك، فكل ما في الحياة هين علي إلا أن أراك جازعا أو متألما.
فصاح بول صيحة الفرح والسرور وقال: سافري يا فرجيني، وسأسافر معك لأقيك بنفسي عاديات الدهر وطوارق الحدثان، فإن حيينا حيينا معا، وإن هلكنا هلكنا معا، ثم دنا منها وضمها إلى صدره فشعر بالراحة التي يشعر بها الملقي عصاه بعد سفر طويل.
وكنا نفتش عنهما في تلك الساعة أنا وهيلين ومرغريت ولا نعرف لهما مكانا، حتى سمعنا صيحة بول حين صاح فقصدنا إليه، فما وقع نظره علينا حتى انتفض من مكانه ومشى إلينا، ثم التفت إلى هيلين وألقى عليها نظرة ما ألقى عليها مثلها قبل اليوم، وقال لها بنغمة الهازئ الساخر: نعمت الأم أنت يا سيدتي، ونعم ما تسدينه إلى ولديك الكريمين عليك من نعمة سابغة ويد بيضاء، إذ تريدين أن تفرقي بينهما، وتمزقي شمل حياتيهما، وتعذبي قلبيهما الناشئين الضعيفين بصنوف العذاب وألوان الآلام، وأنت تعلمين أنهما متحابان متآلفان، لا يستطيع أحدهما أن يصبر عن صاحبه لحظة واحدة، وأن افتراقهما هو القضاء عليهما معا.
لقد كنت يا سيدتي أزهد الناس في المال، وأشدهم نقمة عليه، وزراية وزهدا فيه، فما الذي بدا لك في شأنه حتى أصبحت تخاطرين بولديك العزيزين عليك في سبيله؟ بل تخاطرين بكرامتك وعزة نفسك؟ لأنك تريدين أن ترسلي ابنتك إلى تلك الأرض التي أهانتك واحتقرتك، وأبت أن تسمح لك بالبقاء فيها، والعيش تحت سمائها، عقابا لك على هفوة صغيرة ما كان مثلها جديرا بمثل هذا العقاب المؤلم الشديد.
نعم إنها ابنتك وأنت صاحبة الشأن فيها، ما ينازعك في ذلك منازع، ولكنني أنا أيضا أخوها وصديقها وعشيرها، فصلتي بها عظيمة جدا لا تفترق عن صلتك إلا قليلا، ولئن فرق بيني وبينها النسب فلقد جمعنا الحب والإخاء، والود والوفاء، والولادة في مهد واحد، والرضاع من ثدي واحد، وبكائي عليها إن مسها ألم، وبكاؤها علي إن نالني وصب، ومخاطرة كل منا بنفسه في سبيل صاحبه حتى يستنقذ حياته من يدي أجله أو يهلك دون ذلك، واشتركنا معا في الخير والشر، والنعيم والبؤس، والجوع والشبع، والري والظمأ، وخوض الأنهار، واجتياز القفار، وتسلق الجبال، ومقاساة الأهوال ، فكيف لي بالصبر على فراقها أو لها بالصبر على فراقي؟
أبعديها عني ما شئت، ولكنني سأتبعها وأترسم آثارها حيثما حلت من الأرض، فإن أبيتم إلا أن تقفوا في وجهي وتحولوا بيني وبين ركوب السفينة التي تحملها؛ خضت البحر وراءها خوضا، لا أبالي بالمخاطر التي تعترضني في طريقي، فإن قدرت لي النجاة فذاك، أو لا، فحسبي منها أنها تلقي علي في الساعة الأخيرة من ساعات حياتي نظرة من نظراتها، وأن تذرف في سبيلي دمعة من مدامعها، فيكون شخصها آخر ما أرى من الأشياء، وصوتها آخر ما أسمع من الأصوات.
فاستعبرت هيلين وقالت: وماذا يكون حالنا من بعدك يا بول؟
قال: هل تظنون أنني أبقى من بعدها إنسانا تستطيعون أن تنتفعوا بي في شأن من شئونكم؟ أو أن يبقى لي من الفهم والإدراك ما يعينني على مأرب من مآرب هذه الحياة؟ إنها فكري وعقلي، وتصوري وإدراكي، وقوتي وعزيمتي، وحياتي من مبدئها إلى منتهاها، فإن أردتم أن تفقدوني إلى الأبد فأبعدوها عني، وودعوني الوداع الأخير قبل أن تودعوها.
ثم اختنق صوته بالبكاء وحاول أن يذرف دمعة واحدة يروح بها عن نفسه فلم يستطع، فارتعد جسمه، واستحال لونه، وشاعت نظراته، ولمعت عيناه، ولبس وجهه أغرب صورة لبسها في حياته، وظل يهذي ويقول: أيتها المرأة القاسية! لا متعك الله برؤية ابنتك بعد اليوم، ولا أعادها البحر إليك إلا جثة باردة طافية على أمواجه، ولا وقعت عيناك عليها إلا محمولة على الأيدي إلى مقرها الأخير، ولتكن ذكراها مبعث ألم دائم لك لا يفارقك حتى الموت.
ثم دار على نفسه دورة سريعة وسقط مغشيا عليه، فبكت هيلين ومرغريت، وبكيت أنا أيضا على جفاف دمعتي ونضوب مادة حياتي؛ لأنني أصبحت والدا لهذا الولد المسكين، وأي والد لا يستطيع أن يملك نفسه ومدامعه أمام دموع ولده المنهلة بين يديه، وظللت أقول في نفسي: ويل لك أيتها القارة المشؤمة، لا خلاص منك ولا نجاة من يدك أبد الدهر، فقد فرت منك تلك الأسرة المسكينة، ولجأت إلى أقصى مكان يمكن أن تناله يد في العالم، فما زلت بها ترسلين وراءها عقاربك واحدة بعد أخرى حتى أزعجتها من مستقرها، واستطعت بحفنة واحدة من الدنانير أن تفسدي عليها حياتها وتبددي ما اجتمع من أمرها، وأن تعيديها إلى حبائلك المنصوبة التي ظنت أنها قد أفلتت منها أبد الدهر، فوا شقاءك ووا شقاء العالم بك!
وهنا تقدمت نحوه فرجيني تمشي بخطوات خفيفة مختلسة حتى جلست إلى جانبه، وقد تلألأ وجهها بنور سماوي غريب، لا يشبه نور القمر، ولا نور الشمس، ولا نور أي كوكب من كواكب الأرض والسماء، بل هو مبعث ذاته، ومنبع نفسه وأكبت على أذنه تقول له: سواء بقيت هنا يا بول أو رحلت فإني أقسم لك بدموعي ودموعك، وآلامي وآلامك، وبما قدر لنا أن نلقاه في حياتنا من شقاء ولوعة أنني أكون لك ما حييت، ولا أكون لأحد غيرك، أقسم لك على ذلك بين يدي أمي وأمك، وبين يدي هذا الشيخ الصالح الجليل، فهم شهودي على ما أقول، والله من ورائهم محيط.
فكأنما صبت على جسمه سجلا من الزلال البارد، فانتفض ورأرأ بمقلتيه واستوى جالسا، وظل يدور بنظره حوله ثم أسلبت عيناه الدموع في هدوء وسكون، فاحتضنته أمه إلى صدرها، وبكت حتى امتزجت دموعه بدموعها، فهمست هيلين في أذني: إن الموقف مؤلم جدا، ولا صبر لي على مشاهدته، فتقدمت نحو بول وجذبت يده، وقلت له: هيا بنا يا ولدي إلى المنزل، وقد انتصف الليل، فمشى معي صامتا لا يقول شيئا ولا يلوي على شيء مما وراءه، حتى بلغنا مفترق الطريقين: طريقي إلى كوخي، وطريقه إلى كوخه، فقلت له: هل لك أن تترك أهلك الليلة يستريحون من آلامهم ومتاعبهم، وتذهب معي إلى كوخي لتبيت عندي ثم تعود في الصباح؟ وكن على ثقة أن فرجيني لا تسافر بعد اليوم، فقد عزمت غدا أن أكلم الحاكم في أمرها، والحاكم لا يرد لي رجاء، وما أحسب إلا أن الأمر سينتهي على ما تحب وترضى. فأسلم لي يده، فقدته كما تقاد السائمة البلهاء حتى وصلنا إلى المنزل . فقضى ليلته قلقا مروعا لا يذوق النوم إلا لماما حتى أصبح الصباح.
الفصل الثامن عشر
السفر
وهنا صمت الشيخ وأطرق برأسه، فدنوت منه وقلت له: ما بك يا سيدي؟ قال لي: إن هذه الذكرى تهيجني وتبعث شجوني وأحزاني، ولا أرى لك يا ولدي فائدة من ذكرها، فالحياة كما تعلم ذات لونين: أبيض وأسود، وأنتم معشر المتمدينين لا تحبون منها إلا لونها الأبيض، فلا أريد أن أنحرف بك إلى ما لا تحب من لونيها. قلت: قل يا سيدي فنحن أبناء الدموع والآلام، وسلائل البؤس والشقاء، وما لنا أن نبرأ من أصولنا وأعراقنا، أو نذهب في حياتنا مذهبا غير مذهب آبائنا وأجدادنا، وهل يطهر معدن النفس من أخلاطه وشوائبه وينقيه من أدرانه وأكداره غير تلك الألسن النارية التي تنبعث من صدور المتألمين وقلوب المحزونين؟ على أننا لا بد لنا أن نفهم الحياة كما خلقت خيرها وشرها، سعودها ونحوسها، ولا بد لنا حين ننظر إلى نصف الكرة الذي يقابل وجه الشمس أن نعلم أن نصفها الآخر مظلم قاتم، وأننا ونحن في ضوء النهار سيدور الفلك دورته فنصبح في ظلمة الليل البهيم.
فرفع رأسه واستمر في حديثه يقول: جاء الصباح فنهض بول من مضجعه القلق المضطرب ومشى في طريقه إلى كوخه، ومشيت وراءه أرقبه على البعد من حيث لا يشعر بمكاني، فلم يزل سائرا حتى لمح الخادمة «ماري» واقفة على رأس هضبة عالية تنظر جهة البحر، فذعر إذ رآها، وناداها: أين فرجيني يا ماري؟ فأطرقت برأسها وبكت، فجن جنونه، وعلم بما كان، وهرع إلى شاطئ البحر يعدو عدو الظليم؛ فلم ير أمامه على سطح الماء شيئا، وحدثه الناس هناك أن السفينة قد أقلعت قبيل الفجر، وأنها قد تجاوزت مدى البصر فلا سبيل إلى رؤيتها، فكر راجعا حتى وصل إلى ذلك الجبل العظيم الذي يسمونه جبل الاستكشاف، فارتقاه بأسرع من لمح البصر على وعورته وتشعب مسالكه حتى بلغ قمته العليا، وضرب الفضاء بنظره، لم ير في عرض البحر إلا نقطة سوداء صغيرة تتلاشى شيئا فشيئا ، فعلم أنها السفينة التي تحمل فرجيني، فاستمر نظره عالقا بها لا يفارقها حتى غابت عن عينيه، فظل واقفا حيث هو، ينظر حيث ينظر، كأنما يظن أنها لا تزال باقية في مكانها، وظل على ذلك ساعة حتى نشأت أمام عينيه سحابة سوداء حجبت عنه كل شيء، فلوى رأسه وانفجر باكيا، وأنشأ يعج عجيجا محزنا يرن في أجواف الغابات والأدغال، وتردد صداه أكناف الجبال، فصعدت درجات من الجبل حتى كنت منه بحيث يسمع صوتي، وظللت أناديه وأضرع إليه أن ينزل، فلم يفعل إلا بعد لأي، فتناولت يده وذهبت به إلى كوخه، فبكت أماه إذ رأتاه، وكانت صورته قد استحالت إلى أغرب صورة لبسها في حياته، وكأن بؤس الحياة جميعه قد تجمع واتخذ له مكانا بين حاجبيه، فظل ساعة صامتا لا يقول شيئا سوى أن يدور بطرفه ها هنا وها هنا كالذاهل المختبل، ثم أخذ يتكلم كأنما يحدث نفسه ويقول: لم لم ينبئوني بالساعة التي تسافر فيها لأقضي حق وداعها قبل أن تفارقني؟ إنهم لو فعلوا لما زدت شيئا على أن أدنو منها وأقبلها قبلة الوداع، ثم أقول لها: إن كنت تذكرين يا فرجيني أني أسأت إليك يوما من الأيام أو بدرت مني بادرة آلمتك وجرحت نفسك فاغفري لي ذنبي قبل أن تفارقيني، وإن كنت عزمت على أن تجعلي فراقك هذا الفراق الأخير الذي لا لقاء بعده، وأن تتخذي لك في المكان الذي تذهبين إليه أخا آخر غيري تمنحينه من عطفك وودك مثل ما كنت تمنحينني فأنت في حل من ذلك، وهنيئا لك ما تختارين وما تؤثرين، فلا تكن ذكراي سببا في تنغيص عيشك المقبل، وتكدير حياتك الجديدة، ثم أنصرف بعد ذلك لشأني، وقد هدأت نفسي وبرد غليلي، ولكنهم لم يشفقوا علي ولم يرحموني؛ لأنني ولد مسكين لا شأن لي في الحياة، بل لا مكان لي بين الأمكنة التي يجلس فيها ذوو الأصول والأنساب.
فدنت منه هيلين - وما بين القلوب قلب أكثر من قلبها لوعة وأسى - وتناولت يده وقالت له: كن رجلا يا بني كما كنت طول أيام حياتك، واعلم أننا ما كنا نعرف الساعة التي تسافر فيها فرجيني، فقد طرق بابنا بعد عودتنا إلى الكوخ وفي هدوء الليل وسكونه حاكم الجزيرة ووراءه أعوانه وجنوده وقال لنا: إن الريح قد اعتدلت، والسفينة على وشك السفر، فلتستعد الفتاة، فأبت فرجيني أن تسافر قبل أن تراك، وظلت تهتف باسمك وتناجيك وتبكي بكاء مرا، فلم يجد الحاكم بدا من أن يأمر رجاله بحملها، فاحتملوها إلى هودج كانوا قد أعدوه لها وساروا بها إلى شاطئ البحر وهي لا تنفك عن ذكرك والبكاء عليك، حتى أقلعت السفينة.
فرفع بول إليها نظره يردده بينها وبين أمه، ثم قال لهما: فتشا لكما الآن عن ولد غيري يدعوكما بأمه، ويحمل عنكما همومكما وآلامكما، فقدتماني إلى الأبد، ثم انفتل من مكانه مسرعا وخرج هائما على وجهه يمر بكل مكان كانت تجلس فيه فرجيني فيجلس فيه، وبكل شجرة كانت تستظل بظلها فيقف تحتها، وبكل جدول كانت تنام على ضفته فينام مكانها، وأخذ يخاطب الماشية التي يجدها في طريقه كأنها تعقل عنه ما يقول لها: مسكينة أنت أيتها السائمة الضعيفة، من ذا الذي يرحمك ويعطف عليك بعد صاحبتك، ويقول للطيور التي تغرد في أعشاشها: لا تنتظري بعد اليوم من يحمل إليك الطعام في حجره، والماء في يده، فقد سافرت فرجيني، ورأى الكلب «فيديل» سائرا في طريقه يسوف الترب ويشتمه، كأنما يفتش عن شيء ضاع منه، فقال له: فتش ما شئت فإنك لن تراها بعد اليوم، ورأى عنزا تتبعه حيث سار، فالتفت إليها وقال لها: أنا سائر وحدي، وليست فرجيني معي، فانصرفي لشأنك.
ولم يزل هذا شأنه حتى بلغ الصخرة التي جلس عليها معها ليلة الأمس، فارتقاها ورمى بنظره في الفضاء؛ حتى استقر في المكان الذي شاهد فيه تلك النقطة السوداء من البحر في الصباح، فلم يزل نظره عالقا به كأنما يظن أن السفينة لا تزال باقية فيه، وظل على ذلك ساعات طوالا.
وكنا نتبعه على البعد من حيث لا يشعر بمكاننا، ونترقب مذاهبه ومراميه ، ونرثي له مما به، وقد أصبحنا ولا شأن لنا غير رعايته وملاطفته، وتهوين خطبه عليه، وتسرية همومه وأحزانه، ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، حتى استطعنا بعد لأي أن نعود به إلى الكوخ، واستطاع هو بعد مرور يومين كاملين لم يذق فيهما طعاما ولا شرابا أن يصيب شيئا من الطعام، فكان إذا جلس على المائدة خيل إليه أن فرجيني لا تزال بجانبه، فظل يحادثها ويلاطفها كما كان يفعل من قبل، ويضع بين يديها أصناف الطعام التي يعلم أنها تحبها، ثم لا يلبث أن ينتبه لنفسه فيطرق برأسه خجلا وحياء، وتظل عيناه تنهملان بالدموع ثم ينهض من مكانه وينصرف لشأنه.
وكان لا يعجبه من الأحاديث مثل الحديث عنها، ولا يطربه خطاب مثل خطاب هيلين حين تناديه: يا زوج ابنتي، أو يا صهري العزيز، فاستطاع الهدوء أن يجد شيئا فشيئا إلى نفسه سبيلا، فأخذ يجمع آثار فرجيني من جميع أماكنها ومظانها، فجمع طاقة من الزهر كان قد أهداها إليها قبل سفرها بيوم واحد، وعصابة حمراء كانت تعتصب بها في أيام الأعياد، وكأس الشاي التي كانت تشرب بها، وزجاجة العطر التي كانت تحفظها في صندوقها، ومشط الآبنوس الذي كانت تمشط به غدائرها، وأمثال ذلك من الأدوات والآنية؛ ووضعها في مكان واحد سماه «متحف فرجيني»، فكان يختلف إليها من حين إلى حين ليلثمها ويقبلها ويضمها إلى صدره كأنما هو يضم صاحبتها.
وما هي إلا أيام قلائل حتى عادت له تلك الروح العظيمة الشريفة التي كانت تملأ ما بين جنبيه، روح الرجولة والهمة والعزة والأنفة، فعز عليه أن يرى أميه وهما ضعيفتان منهوكتان تختلفان إلى المزرعة لمناظرتها والقيام عليها؛ فأخذ يحمل عنهما ذلك العبء شيئا فشيئا حتى استقل به، فعاد له جده ونشاطه، وأصبح العمل ملهاته الوحيدة التي يلجأ إليها من همومه وأحزانه، ويعتصم بها من وساوسه وبلابله.
وكان يأنس بي في ذلك الحين أنسا عظيما، ويقضي معي جميع أوقات فراغه؛ لأنني كنت أعزيه وأهون عليه همومه وآلامه، لا بالدموع والبكاء، كما كانت تفعل أماه، بل بالحديث والسمر، وسرد القصص، وضرب الأمثال، واستخراج العبر والعظات من مشاهد الكون ومناظره، فاقترح علي يوما من الأيام أن أعلمه الكتابة والقراءة، ولعله كان يضمر في نفسه أن يعرف السبيل إلى مراسلة فرجيني، فأعجبني مقترحه هذا، وأخذت أعلمه ما أراد، وأقسم لك يا ولدي أنني ما رأيت في حياتي ذهنا أحد ولا أمضى، ولا فطرة أقوم ولا أسلم من ذهن هذا الغلام وفطرته.
فقد استطاع بعد بضعة أشهر لا تزيد على تسعة أو عشرة أن يقرأ فصلا طويلا من كتاب أدبي بسيط، وأن يكتب مسودة رسالة لفرجيني.
وما هو إلا عام وبعض عام حتى طلب إلي أن أعلمه فن الفلاحة، ولعله أراد أن يصل من طريقه إلى الثروة الواسعة إرضاء لفرجيني، وعلم تقويم البلدان ليعرف النقطة التي تحلها فرجيني من سطح الأرض، وعلم التاريخ ليعرف شيئا من شئون أولئك القوم الذين تعاشرهم فرجيني، فعلمته من ذلك ما يستطيع أن يقوم به مثلي، ولم يلبث إلا قليلا حتى استطاع أن يستقل بنفسه في دراسته تلك العلوم وغيرها مما بدا له أن يعرفه ويزاوله، فأصبح يشعر بلذة عظيمة ما كان يشعر بمثلها من قبل، وسمت نفسه إلى درجة عالية من الفهم والإدراك لم يسمح الدهر بمثلها لفتى في مثل سنه، وفي مثل الزمن الذي قضاه في الدراسة، وأصبح ينظر إلى الحياة وشئونها نظر الفيلسوف الحكيم، ففهمها على حقيقتها، واستشف الكثير من بواطنها وخفاياها، وعرف الفروق الدقيقة بين الخير والشر، والصلاح والفساد، والإساءة والإحسان، فلم يشتبه عليه مسلك من المسالك، ولا سبيل من السبل؛ وكان السبب في ذلك أنه تعلم العلم لا ليتخذه آلة يتوصل بها إلى غرض من أغراض الحياة، أو مطمع من مطامعها، ولا ليتجمل به بين الناس كما يفعل أولئك الفاخرون المغرورون الذين يعتبرون العلم حلية من الحلي يفاخرون بها كما يفاخرون بأثوابهم القشيبة، وجواهرهم الثمينة، وقصورهم الشامخة، ومراكبهم الفارهة، بل ليفهم الحياة على حقيقتها ويراها كما خلقها الله لا كما عبثت بها يد الإنسان، فكان له ما أراد.
وكذلك استطاع الحب أن يخلق من هذا الغلام الهمجي المتوحش إنسانا كاملا، مستنير الذهن، مستوي العقل، فياض الشعور والإحساس، واستطاعت شمسه المشرقة أن ترسل أشعتها الوضاءة إلى أعماق ذلك القلب المظلم القاتم، فتنير جوانبه، وتبدد ظلماءه، واستطاعت شعلته الملتهبة أن تطهر بنارها تلك النفس الصدئة المتبلدة، وتستخلصها من أخلاطها وشوائبها، فإذا هي سبيكة صافية من الذهب تتوهج توجها وتلتمع التماعا، إلا أنه لم يمض على ذلك زمن طويل حتى بدأ يمل التاريخ لكثرة ما يشتمل عليه من وصف المجازر البشرية، والمصارع الإنسانية، الآخذ بعضها بأعناق بعض، ومن تلك الجداول المستطيلة الحافلة برذائل الملوك والأمراء، وفظائع الأشراف والنبلاء، وما سودوا به صحائف حياتهم وحياة العالم أجمع من عار وشنار، كما مل تقويم البلدان لكثرة ما يحتويه من أسماء الأمكنة والبقاع، والجبال والتلال، والأنهار والنهيرات التي لا نهاية لها، ولا فائدة منها، وشغف الشغف كله بالأدب شعرا ونثرا، وقصصا وروايات، وأمالي ومحاضرات؛ لأنه خلاصة العقل البشري، وزبدته الأخيرة التي تمخض عنها، ولأنه المرآة الصافية التي تتراءى فيه صور الحياة على حقيقتها، ومشاعر النفوس بكل ما تشتمل عليه من حب وبغض، وسرور وألم، وطمع ويأس، وارتياح وانقباض، وكان خير ما يعجبه من الشعر شعر «هومير»، ومن النثر قصة «تليماك»؛ لأنها تصور حياة الفطرة والبساطة، وتمثل المشاعر النفسية بدقائقها وأجزائها، وترسم مزالق الشهوات التي تزل فيها أقدام البشر من فجر التاريخ حتى اليوم، فإذا جلس لقراءتها ووصل إلى قصة أنتيوت وأوخاريس، خيل إليه أن فرجيني مثال الأولى في إبائها وعزتها، ومثال الأخرى في رقتها وعذوبتها، فتهيج أشجانه، وتسيل عبراته، فيلقي كتابه جانبا ويسبح في فضاء الخيال سبحا طويلا.
وكان من أبغض الأشياء إليه مطالعة تلك الروايات الغرامية التي وضعها واضعوها لا ليهذبوا بها الطباع البشرية، ولا ليصوروا فيها الحياة الاجتماعية على حقيقتها؛ بل ليستثيروا بها شهوات الناس، وفضول أطماعهم، وليلهبوا بنارها ما برد من عواطفهم، وهدأ من لواعجهم، ولينزلوا بالحب من سمائه الرفيعة المقدسة إلى تلك الحمأة القذرة من الرذائل والمثالب، وكان يقول في نفسه كلما قرأ شيئا منها: ليت شعري، هل تستطيع فرجيني أن تنجو بنفسها من شرور ذلك المجتمع الخبيث الذي تتحدث عنه هذه الروايات؟! إنني أخاف عليها خوفا شديدا.
الفصل التاسع عشر
أوروبا
مرت ثلاثة أعوام ولم يرد على هيلين كتاب من ابنتها ولا من عمتها؛ فقلقت لذلك أشد القلق؛ لأنها لم تعرف عن ابنتها شيئا منذ سافرت حتى اليوم سوى ما كانت تسمعه من حين إلى حين من أفواه بعض الطارئين على الجزيرة، أنها وصلت سالمة إلى بيت عمتها، وأنها تعيش في ذلك البيت عيشا سعيدا يحسدها عليه الحاسدون، ثم ورد عليها منها بعد حين ذلك الخطاب، ولا أزال أحفظ صورته حتى اليوم:
والدتي
كتبت إليك قبل اليوم كتبا كثيرة، ثم علمت من عهد قريب أنها لم تصلك، فأرسلت إليك هذا الكتاب من طريق آخر غير الطريق الذي كنت أرسل إليك منه.
لا أحدثك كثيرا عن سفري وأدوار، سوى أن أقول لك إن فراقك كان له تأثير على نفسي عظيم ما كنت أقدره من قبل، فقد بكيت كثيرا، وتألمت كثيرا، حتى رحمني من كان معي، وكان يخيل إلي والسفينة تمخر بي في عباب البحر؛ أنني إنما أفارقك فراقا لا رجعة لي منه أبد الدهر، ولقد شعرت بوحشة عظيمة في الساعة التي دخلت قصر عمتي، فقد خيل إلي أنه على جماله ورونقه، وحسن نظامه، وبديع هندمه، وكثرة الذاهبين والآتين في أبهائه وحجراته، مقبرة موحشة لا نأمة فيها ولا حركة.
ولقد سألتني عمتي حين وقفت بين يديها بصوت خشن جاف لا تجول في أديمه قطرة واحدة من الرحمة: ماذا علمت في صغري؟ فلما عرفت أنني لم أتعلم شيئا حتى القراءة والكتابة قالت: إنك لا تزيدين في شأنك على شأن هؤلاء الخدم الوقوف بين يدي، ولم تنشئي منشأ خيرا من منشئهم. ثم أمرت بإرسالي إلى دير في ضواحي باريس أتعلم فيه أنواع العلوم، فعلموني القراءة والكتابة؛ فسرني منهما أني أستطيع مراسلتك وقراءة رسائلك، ثم أخذوا يعلمونني التاريخ وتقويم البلدان والحساب والهندسة والرسم والعلوم الدينية وبعض الألعاب الرياضية، فلم أحفل بشيء من هذا كله؛ لأني شعرت ببغضه والنفور منه، واعتقدت أن لا فائدة لي فيه، فوصفني أساتذتي ورفيقاتي بالبلادة وعسر الفهم، فلم أبل بذلك؛ لأني ما دخلت الدير لأرضيهم، ولا لأنال الحظوة في عيونهم، على أن عمتي تعنى بي عناية كبرى، وتبذل في سبيل راحتي ورفاهيتي وتيسير جميع مرافقي وحاجاتي مالا كثيرا.
وقد خصصت لخدمتي فتاتين متأنقتين من وصائفها لا عمل لهما نهارهما وليلهما إلا القيام على زينتهما وحليتهما، وقضاء ما يتبقى من أوقات فراغهما في أحاديث تافهة مرذولة لا لب لها ولا ثمرة، كأنما تمثلان على مسرح، أو تلعبان في ملعب، ويخيل إلي أن عمتي قد أوعزت إليهما ألا تدعواني بلقبي الذي أحبه وأوثره، فهما تسميانني دائما «الكونتة فرجيني» بدلا من «فرجيني دي لاتور»؛ أي إنها تأبى علي أن أحمل اسم والدي الذي أحبه وأعطف عليه وأفخر به كل الفخر، ولا أستطيع أن أنسى ما كابده في حياته من شقاء وألم في سبيلك وسبيل سعادتك؛ حتى سقط في مصرعه المحزن المؤلم في صحارى مدغشقر غريبا وحيدا لا يعطف عليه عاطف، ولا يبكي عليه باك، ويخيل إلي فوق ذلك أنها أمرتهما ألا تسمحا لي بالتحدث عنك، وعن حياتي الماضية معك، فإذا ذكرتك أو ذكرت شيئا عن تلك الجزيرة التي قضيت فيها زهرة حياتي نظرتا إلي نظرات الهزء والسخرية، وقالتا لي: إنك باريسية يا سيدتي فلا يجمل بك أن تتحدثي أمثال هذه الأحاديث عن تلك الأصقاع المتوحشة.
وأغرب من هذا أنها على جودها وسخائها وبسطة يدها وإحاطتها إياي بجميع صنوف الرعاية والإكرام لا تسمح ببقاء درهم واحد في يدي، كأنها تخشى أن أبعث إليك بشيء من المال، ولا أدري ماذا يعنيها من ذلك، على أنني أعترف لها بأنها قد صدقت في فراستها، فإنني ما كنت أتأخر عن أن أبعث إليك بجميع ما يصل إلى يدي - لو وصل إلى يدي شيء - ولكن ماذا أصنع وأنا فقيرة معوزة لا أملك شيئا، بل أنا الآن أفقر مني في كل عهد مضى؛ لأنني عاجزة عن أن أمد يدي بالمعونة إلى من تهمني معونته، ولقد سألتها مرة لم لا ترسل إليك شيئا من المال تستعينين به على عيشك في تلك البلاد المقفرة، فكان جوابها: إن الحياة في تلك البلاد لا تحتاج إلى كثير من المال، وإن المال يفسدها ويربكها، ويحولها من حياة بسيطة هادئة إلى حياة مركبة مزعجة، مملوءة بالمتاعب والشواغل، فلم أستطع أن أفهم شيئا مما تقول، ولكنني فهمت أنها لا تكترث بك، ولا تحفل بشأنك.
وما كنت أريد أن أقص عليك شيئا من هذا لولا أنك أوصيتني أن أصدقك الحديث عن كل ما أراه وأشعر به من خير أو شر، فليتك تحضرين إلي يا والدتي لتعيشي بجانبي وتحملي عني بعض ما أكابده من الوحشة والكآبة في هذه البلاد، فإن حياتي - على رغدها ورخائها وتوفر أسباب النعمة فيها - شقية جدا، لا أجد فيها أنسا ولا اغتباطا، فلا الرياض الزاهرة، ولا القصور الشامخة، ولا الأثواب الجميلة، ولا الجواهر الثمينة، ولا المراكب الفارهة، بقادرة على أن تذهب بشيء من وحشتي وضجري؛ لأنني لا أجد حولي تلك القلوب الطيبة الرحيمة التي ألفتها وأحببتها، وامتزح شعوري بشعورها، فأنا أعيش من بعدها في ظلمة حالكة لا يلمع فيها نجم ولا يضيء كوكب، ولولا أني أعلم أن بقائي هنا إنما هو تنفيذ لإرادتك، ونزول على حكمك لما أطقت البقاء ساعة واحدة.
ولقد كنت أجهل في مبدأ أمري أخلاق سكان هذه البلاد وطبائع نفوسهم، وأعتقد أن ظواهرهم مرآة بواطنهم، وأن الله قد منحهم من الفضائل النفسية بمقدار ما منحهم من جمال الصور ونضرة الأجسام، حتى تكشف لي أمرهم، فرأيت أني أعيش بين قوم ممثلين، لا علاقة بين قلوبهم وألسنتهم، ولا صلة بين خواطر نفوسهم، وحركات أجسامهم، فهم يكذبون ليلهم ونهارهم، في جميع أقوالهم وأفعالهم، لا يرون في ذلك بأسا، كأن الكذب هو الأساس الأول لحياتهم الاجتماعية، وكأن الصدق عرض من أعراضها الطارئة عليها، وكأن لهم نظاما خاصا بهم يختلف عن نظام البشر جميعا في كل مكان وزمان .
ولقد لبثت زمانا طويلا أكتب إليك الكتاب بعد الكتاب ثم أنتظر رده فلا يرد إلي شيء؛ وكنت أعجب لذلك كل العجب، وأذهب في تأويله مذاهب مختلفة، حتى علمت منذ أيام قلائل أن الوصيفة التي كنت أعتمد عليها في حمل كتبي إلى البريد كانت تحملها إلى عمتي فتقرؤها وتمزقها، فأحزنني ذلك حزنا عظيما، ثم أفضيت بالأمر إلى صديقة لي من طالبات المدرسة كنت أثق بها كثيرا؛ فأخذت على نفسها أن تتولى إرسال ما أريده من الكتب إليك، وها هو ذا عنوانها مرسلا مع هذا فابعثي إلي برسائلك من طريقها.
وبعد فليس في هذه الحياة التي أحياها هنا ما يروقني ويعجبني، فإنني لا أزال حتى الساعة أعيش في قفرة موحشة لا يؤنسني فيها غير أولئك الوصيفات السخيفات اللواتي لا أطيق رؤيتهن، ولا سماع أحاديثهن، وغير شيخ هرم من أصدقاء عمتي يزعم أنه يحبني ويعطف علي، وأحسب أنه كاذب فيما يقول؛ لأني لا أشعر بحبه ولا العطف عليه، فأنا أقضي جميع أوقاتي مكبة على منسجي، أروح عن نفسي بالنسج والتطريز، وستجدين في الحقيبة المرسلة إليك مجموعة من الجوارب والمناديل والعصائب والأخمرة هي قسمة بينك وبين أمي مرغريت، وقلنسوة لدومينج، وثوبا لماري، وكنت أود أن أرسل إليها كثيرا من أثوابي الخليعة لولا أن الوصائف هنا لا يسمحن لي بذلك؛ لأنهن يتقاسمن ملابسي ويقررن مصيرها قبل أن أخلعها.
تحيتي إلي أمي مرغريت، ووالدي دومينج، ومربيتي ماري، وأستاذي الشيخ الجليل، وكلبي الأمين «فيديل»، وإلى جميع شويهاتي وأعنزي، وطيوري وعصافيري، واعلمي يا والدتي أنني في أشد الحاجة إلى بقائي بجانبك، وإلى الرجوع إلى تلك الحياة الطيبة السعيدة التي فقدتها ولا أزال أبكي عليها، وأنني أعيش هنا كما تعيش النبتة الغريبة في أرض غير أرضها، ومناخ غير مناخها، فهي صائرة إلى الذبول والاضمحلال، وأرجو أن أراكم جميعا عندي قريبا أو أراني عندكم والسلام.
فرجيني دي لاتور
وكانوا جميعا يصغون إلى الكتاب عند تلاوته ويذرفون الدموع مرارا حتى فرغت هيلين من قراءته؛ فعجب بول أنها لم تذكر اسمه في كتابها، ولم ترسل إليه تحيتها، كما أرسلتها لكل من في الجزيرة حتى لطيورها وعصافيرها، ولم يعلم أن الفتاة تؤجل دائما الحديث عن أهم الأشياء لديها وأجلها شأنا عندها إلى آخر كتابها، فقد لمحت هيلين بعد ذلك حاشية منفردة في زاوية الكتاب فقرأتها فإذا هي تقول:
بلغي أخي بول تحيتي وشوقي، وقولي له: إنني قد أرسلت باسمه حقيبة صغيرة، تشتمل على بضعة أنواع من البذور الأوروبية التي يغرسونها هنا ويحتفلون بها احتفالا كثيرا معنونة بأسمائها، فإنني أرغب إليه أن يعنى عناية خاصة بزهرة البنفسج فيغرسها تحت نخلتي الجوز المسماتين باسمي واسمه، وأن يحبها كما أحببتها؛ لأنها على جمالها ورقتها حيية خجولة، لا تألف إلا المخابئ والمكامن، ولا تحب أن تقع عليها عيون تنم عليها أكثر مما تنم أية رائحة على زهرتها، وأوصيه أيضا أن يغرس الزهرة السوداء التي يسمونها هنا «زهرة الحداد» في ظل الصخرة التي جلسنا عليها معا «ليلة الوداع»، وقد سموها بهذا الاسم لأنها تشتمل على نقطة صفراء فاقعة تدور بها دائرة سوداء كما يدور الخمار الأسود بوجه الفتاة الحزينة في موقف الثكل، وأن ينقش على تلك الصخرة كلمة «صخرة الوداع» ويحييها عني كما يحيي جميع الأمكنة والبقاع التي يعلم أني أحبها، وبلغيه أيضا أني لا أزال أذكره وأنني لن أنسي أبدا أياديه البيضاء التي أسداها إلي فيما مضى من أيام حياتي، وأنني دائما عند ظنه بي.
فاستطير بول فرحا وسرورا، وتناول الكيس الصغير الذي أرسلته إليه فوجد على نسيجه الرقيق الأبيض الحرفين الأولين من اسمه واسمها مطرزين بالقصب على شكل زهرتين متعانقتين، فسر بذلك سرورا عظيما، وكان اغتباطه بالكيس أكثر من اغتباطه بما اشتمل عليه.
وقد كتبت هيلين إلى ابنتها كتابا قالت لها فيه: إنها وجميع أفراد الأسرة قد أصبحوا بعد فرقتها في وحشة مخيفة لا يهونها عليهم شيء من الأشياء، وإن الموت أهون عليهم من أن يعيشوا بعيدين عنها، منقطعين عن رؤيتها، وإنها لا ترى بأسا من رجوعها إلى الجزيرة متى أرادت ذلك. وكتب إليها بول يشكر لها هديتها، ويقول لها: إنه قد أصبح الآن عالما من علماء الفلاحة، وإنه سيقوم بغرس تلك البذور في أماكنها المناسبة لها حسب القواعد التي يرسمها ذلك الفن، وإنها ستراها حين عودتها زاهرة نامية، تحييها بابتساماتها اللطيفة، وتنشر عليها ظلالها وأفياءها، ثم أخذ يبثها آلام نفسه ولواعجها التي قاساها من بعدها، ويشكو لها شكاة لم تترك دمعة في محاجرها عندما قرأتها إلا استذرفتها.
ثم أخذ بعد ذلك يهيئ الأحواض لغرس تلك البذور ويعد لها عدتها من طل وماء، فأنفق في ذلك وقتا طويلا ثم غرسها، فلم تلبث إلا قليلا حتى ذبلت وتضاءلت، إما لأنها ميتة لا حياه فيها، أو لأن التربة غير صالحة لنمائها، أو لأن الشرق شرق، والغرب غرب، فمحال أن يمتزجا ويختلطا ويشتركا في نظام واحد وحياة واحدة، فتطير بذلك وتشاءم، وزاده حزنا وألما ما أصبح يسمعه من أفواه بعض المهاجرين الطارئين على الجزيرة من الروايات الغريبة التي تفترق ما تفترق ثم تتفق على أن فرجيني موشكة أن تتزوج، فلم يحفل بذلك في مبدأ الأمر، ثم حفل واهتم؛ لأن أخبار السوء لا يمكن أن تمر بدون أن تترك أثرها في النفس، بدأ يصدق ما يسمعه، لا لأنه يعتقد صدق القائلين؛ بل لأنه وقع في الخطأ الذي يقع فيه الناس دائما، وهو اعتقاد أن الدخان لا يمكن أن ينبعث من غير نار، وفاتهم أن تلك النار التي يتحدثون عنها قد تكون نار الحقد والبغض المشتعلة في الصدور، فيكون الدخان الذي ينبعث عنها إنما هو دخان المختلقات والمفتريات، وكان يقرأ فيما يقرأ من الروايات أحاديث الغدر والخيانة التي يرويها الراوون عن النساء فيقول في نفسه: ربما أفسد ذلك المجتمع الخبيث نفسها، وحول حياتها الطيبة الطاهرة إلى طريق غير طريقها؛ فنسيت أقسامها وعهودها، وأيمانها المحرجة التي أقسمتها بين يدي ألا تستبدل بي أخا سواي، والنفس الإنسانية كما يقول «روسو» مرآة تتراءى فيه مختلفات الصور والألوان، والمرء كما يقول «موبسان» ابن البيئة التي يعيش فيها.
فكأن استنارة ذهنه وسعة دائرة معارفه واضطلاعه بشئون العالم وأحواله كان شقاء عليه وويلا له، ولعله لو بقي فدما جاهلا كما كان، لا يجول نظره في أفق أوسع من الأفق الذي يعيش فيه، كان من أبعد الأشياء عن ذهنه أن يتصور أن فرجيني غادرة خائنة.
وكان إذا حزبه الأمر، ولجت به الوساوس والهموم، فزع إلي وألقى بين يدي أثقاله وأعباءه، فأحدثه أحاديث كثيرة عن الدهر وتقلباته، والأيام وصروفها، وما يتداوله الناس في دنياهم من نعيم وبؤس، وجدة وفقر، وراحة وتعب، وصحة ومرض، ورجاء يشرق في ليل اليأس حتى يحيله نهارا ساطعا، ويأس يغشي نهار الرجاء حتى يبدله ظلاما قاتما، وخير لا يزال يطارد الشر حتى يطرده ويأخذ مكانه، وشر لا يزال يغالب الخير حتى يغلبه ويفلج عليه، فيجد في أحاديثي هذه ملهاة يتلهى بها حينا عن شواغله وهمومه.
الفصل العشرون
الطبيعة
وهنا قلت للشيخ: هل لك يا سيدي أن تحدثني قليلا عن نفسك، فإني أشعر مذ جلست إليك أني أجلس إلى رجل من عظماء الرجال، ليست مثل هذه الأرض مما تنبت مثله في وفور عقله، وسعة مداركه، واكتمال أهبته، وكثرة تجاربه واختباراته، ولا بد أن حادثا من حوادث الدهر العظام قد قذف به إلى هذه الجزيرة النائية فعاش فيها كما أرادت المقادير أن يكون.
فرفع رأسه إلي وقال: نعم سأحدثك عن نفسي قليلا يا بني، فلا أحب للمرء من أن يجد إلى جانبه جليسا يستطيع أن يسكب نفسه في نفسه، ويفضي إليه بسريرة قلبه، ثم اعتدل في جلسته وأنشأ يقول: إني أسكن يا بني على بعد فرسخ ونصف من هذا المكان على ضفة جدول صغير ممتد بجانب ذلك الجبل الذي يسمونه «الجبل الطويل»، وهناك أقضي أيام حياتي منفردا، لا زوج لي ولا ولد، ولا أنيس ولا عشير، وعندي أن سعادة المرء لا تعدو إحدى حالتين: أن يوفق إلى زوج صالحة تحبه ويحبها، وتخلص إليه ويخلص إليها، فإن أعوزه ذلك فسعادته أن يهجر العالم كله إلى معتزل ناء كهذا المعتزل، يتمتع فيه بجوار نفسه وعشريتها، وقد قضى الله أن أحرم الأولى، فلم يبق لي بد من اختيار الثانية.
والعزلة هي المرفأ الأمين الذي تلجأ إليه سفينة الحياة حين تتقاذفها الأمواج، وتصطلح عليها هوج الرياح، وهي الواحة الخصبة التي يفيء إليها السفر بعد الأين والكلال، فيجدون في ظلها الظليل راحتهم من سموم الصحراء، ولوافح الرمضاء، وهي المنزلة الأولى التي ينزلها المرء في طريقه من الدنيا إلى الآخرة؛ ليستجم ذهنه، ويجمع أمره، ويعد عدته للقاء الله، تعالى؛ لذلك كانت العزلة دائما في الشعوب الشقية المضطهدة التي لا إرادة لها أمام إرادة حاكميها الظالمين، وملوكها المستبدين، كما كان شأن المصريين والرومان واليهود فيما مضى من التاريخ، وكما هو شأن الهنود والصينيين والإيطاليين والشعوب الشرقية اليوم.
وقد يكون ذلك أحيانا في الأمم المتمدينة المتحضرة، فإن للمدنية شقاء كشقاء الهمجية، لا يختلف عنه إلا في لونه وصبغته، فإن وقوف الإنسان في وسط ذلك المزدحم الهائل بين الجواذب المختلفة والدوافع المتعددة، وحيرة عقله بين مختلف المذاهب والشيع والآراء والأفكار، يحاول كل منها أن يجذبه إليه ويسطير عليه ويستأثر به، وهو فيما بينها كالريشة الطائرة في مهاب الرياح لا تستقر في قرار، ولا تهبط في مهبط، متعبة عقلية لا قبل له باحتمالها، ولو أنه كان أسيرا في قوم متوحشين، وقد شده آسروه إلى جذع من جذوع النخل، وأخذ كل منهم بعضو من أعضائه يجذبه إليه جذبا شديدا ليمزقوه إربا إربا، لكان ذلك أهون عليه من هذه الحالة التي يستطيع أن يتمتع فيها بهدوئه النفسي وسكونه الفكري، كما تتمتع السائمة على وجهها في مسارحها ومرابعها، فلا يجد له بدا من الفرار بنفسه إلى حيث يجد نفسه، ويظفر بكيانه، ولا سبيل له إلى وجدان نفسه والعثور بها إلا في مثل هذه الصخرة النائية المنقطعة التي يستطيع أن يجمع في ظلالها ما تفرق من أمره، وتبعثر من قوته، ويضغي في وسط ذلك السكون والهدوء إلى صوت قلبه حين يحدثه أصدق الأحاديث وأجملها عن الخالق والمخلوق، والحياة والموت، والبقاء والفناء، وطبيعة الكون، وأسرار الخليقة؛ فيشعر بالراحة بعد ذلك العناء الكثير والكد الطويل، كالسيل المنحدر من أعالي الجبال، لا يزال يحمل في طريقه الأقذاء والأكدار، حتى إذا بلغ الحضيض استحال إلى بركة هادئة ساكنة يتلألأ في صفحتها الصقيلة اللامعة جمال السماء وبهجة الملأ الأعلى.
ولقد كنت أحد أولئك الفارين بأنفسهم من لجب المدينة وضوضائها، وضلالها وحيرتها، وقنعت منها بذلك الكوخ البسيط الذي بنيته بيدي على ضفة ذلك الجدول الصغير، وقد رزقني الله أرضا خصبة جيدة التربة، أقضي جميع أوقاتي في حرثها وفلحها، وتصريف مياهها، وتشذيب أشجارها، لا معين لي غير قوتي، ولا أنيس لي غير وحدتي، فإن شعرت بشيء من الملل رجعت إلى تلك الأسفار القليلة التي اخترتها لصحبتي حين نفضت يدي من جميع الأصدقاء والأصحاب؛ لأحادث على صفحاتها أولئك الرجال العظام أصحاب المبادئ القويمة، والعقائد الثابتة، والآراء الناضجة، الذين لم يكتبوا ما كتبوا ليوافوا رغبة الناس في أهوائهم ومطامعهم، ولا ليعجبوهم من ذكائهم وفطنتهم، ولا ليدلوا عليهم بفصاحتهم وبلاغتهم، ولا ليفاخروهم بقوة ابتكارهم وغرابة ابتداعهم، بل ليكشفوا الغطاء برفق وهدوء عن وجه الحقيقة، فيراها الناس كما هي غير مشوهة ولا مزخرفة، لا يبتغون على ذلك أجرا سوى أن يروا الإنسانية الشقية المعذبة ناهضة من حضيض بؤسها وشقائها إلى ذروة سعادتها وهناءتها.
فإذا جلست لقراءتها رأيت في مرآتها ذلك العالم الذي فارقته واجتويته، ورأيت شقاءه الذي يكابده، وآلامه التي يعالجها بدون أن يحس أنه شقي أو متألم، فأشعر بما يشعر به ذلك الذي نجا من سفينة موشكة على الغرق إلى صخرة عالية في وسط البحر، فأشرف منها على بقايا تلك السفينة المحطمة مبعثرة على سطح الماء، فشعر ببرد الراحة وطيب الحياة.
ولقد أصبحت بعد أن فارقت الناس وصرت بمنجاة منهم أحنو عليهم، وأرثي لبؤسهم وشقائهم، وأضمر لهم من العطف والحب ما لم أكن أضمره لهم من قبل، وأتمنى لهم النجاة من شقائهم الذي يعالجونه، وبؤسهم الذي يكابدونه على كثرة ما قاسيت منهم في مقامي بينهم من الهموم والآلام، والمذال والمهانات، ولم يكن بيني وبينهم سوى أنني كنت أدعوهم إلى الحياة الطيبة السعيدة، حياة الطبيعة والفطرة، وأنعي عليهم ذلك التكلف والتعمل في مطاعمهم ومشاربهم، وملابسهم ومساكنهم، وعقائدهم ومذاهبهم، وآرائهم وأفكارهم، وصلاتهم وعلائقهم، وأقول لهم: أيها الناس عودوا إلى أحضان أمكم الطبيعة، فهي أحنى عليكم وأرأف بكم من كل شيء في العالم، واعلموا أن جميع ما تكابدون من الآلام والأسقام في حياتكم، إنما هو عقوبة لكم على عقوقكم لها وتمردكم عليها، وكفركم بسننها وشرائعها، فاشربوا قراح الماء إن شربتم، وكلوا بسيط المآكل إن أكلتم، واقنعوا حين تلبسون بما يستر عورتكم، وحين تسكنون بما يجمع شملكم، ووحدوا نظركم إلى الأشياء والشئون بقدر ما تستطيعون تتحدوا فيما بينكم، وتهدأ عنكم نار تلك البغضاء التي تتقلبون فيها ليلكم ونهاركم، واعملوا أن الحياة أبسط من أن تحتاج إلى كل هذه الجلبة والضوضاء، فخذوها من أقرب وجوهها وألين جوانبها، واقنعوا منها بالكفاف الذي يمسك الحوباء، ويعين على المسير، فإنما أنتم مارون لا مقيمون، ومجتازون لا قاطنون، ولا يوجد بؤس في العالم أعظم من بؤس رجل مسافر نزل على عين ماء ليطفئ ببردها غلته، ويجد في ظلالها راحته ساعة من نهار ثم يمضي لسبيله، فصدف عنها وظل يشتغل بحفر عين أخرى بجانبها، فلم يكد يبلغ قاعها حتى كان قد نال منه الجهد فهلك دون مرامه ظمأ وعيا، ولا يقذفن في روعكم أني أريد أن أذهب بكم إلى بغض الحياة ومقتها، ولا إلى تعذيب أنفسكم بالحرمان من أطايبها ولذائذها، فالزهد عندي سخافة كالجشع، كلاهما تكلف وتعمل لا حاجة إليه، وكلاهما خروج عن القصد وضلال عن السبيل، وإنما أريد أن تترافقوا في الطلب، ولا تمعنوا فيه إمعانا، فالإمعان فيه والاستهتار به حرب شعواء يقيمها القوي على الضعيف، والجشع المتكالب على القنوع المعتدل، يسلبه ما بيده ويحرمه القليل التافه الذي يتبلغ به باسم جهاد الحياة، وتنازع البقاء، فكان جزائي عندهم على هدايتهم وإرشادهم ومحاولة استنقاذهم من يد الشقاء الذي يعالجونه أن سخروا بي واحتقروني، وسموني مجنونا، ولم يقنعوا في أمري بتركي وشأني كما يترك المجانين وشأنهم، بل اتخذوني عدوا لهم يحاربونني كما يحاربون الله والطبيعة، ولا ذنب لي عندهم إلا أنني أسمي المال شقاء ويسمونه سعادة، واسمي الجاه مئونة ويسمونه متعة، وأسمي اللجاج في الطلب والتهالك فيه جنونا وخبلا ويسمونه حكمة وحزما، ثم لا يلبثون إلا قليلا حتى يروا بأعينهم كذب ظنونهم وخيبة آمالهم، ويسقطوا في الهوة التي كنت أقدر لهم السقوط فيها، فلا يكون أثر ذلك في نفوسهم أن يؤمنوا بسنة الله والطبيعة، ويذعنوا لأحكامه وأحكامها، ويعودوا باللائمة على أنفسهم فيما كان منهم كما يتوقع أن يكون، بل ينقمون على الأرض والسماء، والخالق والمخلوق، والدنيا والآخرة، ويثيرون الثائرة على الشرائع الأرضية والسماوية، والنظم الطبيعية والوضعية، وعلي أنا أيضا؛ لأنني لم أهو معهم في الهوة التي هووا فيها، كأنني أنا الذي أشقيتهم وابتليتهم، وأوردتهم هذا المورد الوبيل، وما أشقاهم إلا أنفسهم لو كانوا يعلمون.
أما الآن فقد نجوت من هذا كله، والحمد لله، وأرحت نفسي إلى الأبد من رؤية تلك المناظر المؤلمة الممضة، مناظر المتهافتين ليلهم ونهارهم في تلك الحفائر الجوفاء التي حفرتها في طريقهم أيدي المطامع والشهوات، وانقطع عن أذني ذلك الدوي الهائل الذي كان يزعجني ويقلقني، وأصبحت في وحدتي هذه أتمتع بالهواء طلقا غير مكدر، والنور ساطعا غير منغص، والجمال خالصا غير مشوه، أتبسط في أنحاء نفسي حيث أشاء ومتى أشاء، وأناجي الله والطبيعة وجها لوجه، لا يحول بيني وبينهما حائل، وأفكر على الطريقة التي أريدها لا التي يريدها الناس، وأنسج ثوبي على مقدار جسمي لا على مقدار جسوم الآخرين، وأشرف من قمة وحدتي وعزلتي على ذلك العالم الذي فارقته واجتويته، فأعجب لتلك الهموم والآلام التي يعالجها لغير علة ولا سبب، ولتلك المعركة الهائلة التي يشنها بعض أفراده على بعض على غير طائل سوى أن يهلك أحدهم في سبيل الآخر، ثم يهلك الآخر في سبيل آخر، وهكذا تمتد سلسلة الهلاك فيهم إلى ما لا نهاية لها، كقطع الأمواج التي تتواثب على الصخور المعترضة في مجراها فتتكسر عليها واحدة بعد أخرى ثم تتلاشى كأن لم تكن؛ فأحمد الله على نجاتي منهم ، وخلاصي من أيديهم، وعلى أنني استطعت أن أعيش على حساب نفسي لا على حساب الضعفاء والمساكين، وأن أتناول لقمتي مغموسة بدمي لا بدماء الضحايا والهلكى، وأن أعود بما فضل عن حاجتي على البائسين والمساكين، والساقطين في هوى اليأس، والمنقطعين عن قافلة الحياة، ولو أن جميع لذائذ الدنيا - مأكلا ومشربا، وملبسا ومسكنا - وضعت لي في كفة، ثم وضعت لي في الكفة الأخرى لذتي في هداية تائه ضل به طريقه، أو معونة يائس انقطع به أمله، لرجحت عليها.
وهكذا أقضي حياتي في تلك الجنة الصغيرة على ضفة ذلك النهر الصغير، وبين يدي ذلك الخضم العظيم، متمتعا بما شئت من جمال الدنيا وبهجتها، ورغد العيش ونعيمه، ومناظر الطبيعة ومشاهدها، فالسماء فوقي تتلألأ بنجومها وكواكبها، والبحر أمامي يعج بأمواجه وأثباجه، والأرض بين يدي تختال في أثوابها وأبرادها، والأصوات المنبعثة من البحر الزاخر والجدول المتسلسل، والشلال المتدفق والريح العاصفة، والأشجار المترنحة، والطيور الصادحة كلها فرق موسيقية مختلفة الآلات والنغمات، تسمعني ما لم أسمعه يوما من أيام حياتي في أكبر معهد غنائي، من أكبر فرقة موسيقية.
فإذا جلست أمام كوخي على تلك الصخرة العالية التي اعتدت أن أجلس عليها رأيت النخل الباسق مصطفا بعضه وراء بعض كأنه السطور في الكتاب، ورأيت رءوسه العالية المتشابكة كأنها غابة ممتدة بين السماء والأرض، ورأيت الجدول المتسلسل وهو يجري في خلال الخمائل الملتفة جريان القمر الساري في أعماق السحب المتكاثفة فلا يرى منه الرائي إلا بوارق خاطفة تلمع من حين إلى حين، وألقي نظري تارة على الروض الجميل الذي غرسته بيدي فأرى صنوف أشجاره وألوان أزهاره، وأنواع كرومه وأعنابه، فأراه في سكون الريح وهدوئها معبدا قد لبس الجلال والوقار، وانتثرت في جنباته أشخاص الراكعين والساجدين، وفي هبوبها وانبعاثها، مرقصا تترنح فيه القدود، وتعتنق القامات، وتتقابل الحركات والسكنات.
ثم أنظر إلى السيل المتدفق من أعالي الجبال فأرى تلك المعركة الهائلة التي تجري بينه وبين الصخور الناتئة في طريقه، يهاجمها فتدفعه، ويثب عليها فتمزقه، فتتطاير أجزاؤه في جو السماء كأنها شظايا ألواح البلور، فيشتد غيظه وحنقه وإرغاؤه وإزباده، ويحاول أن يثأر لنفسه منها، فلا ينال آخرا أكثر مما نال أولا، وهي جامدة في مكانها لا تحرك ساكنا ولا تمد يدا، فلا يجد له بدا من الفرار من وجهها، شأن الطيش والنزق بين يدي الرزانة والحلم، فينحدر عنها إلى السهل متغلغلا في أعماق الخمائل والأدغال، كأنما يتوارى حياء وخجلا، ثم لا يلبث أن يستحيل بعد ذلك إلى مرآة صافية تتراءى فيها صور النخيل والأشجار، وظلال القمم والهضاب، كأنما قد خطها رسام ماهر بريشة رقيقة في صحيفة ناصعة، وأعظم ما أعجب له من تلك المناظر منظر الطيور الغريبة حين تفد في أواخر فصل الصيف أسرابا أسرابا من أقاصي البلاد مجتازة ذلك الخضم العظيم إلى حيث تتلمس رزقها الذي أعوزها في أرضها، فتقع على ذوائب الأشجار، وضفاف الأنهار، وتحلق فوق الجداول والغدر شادية مترنمة، مرفوفة بأجنحتها الجميلة ذات الألوان اللامعة المتلألئة، وكأنما قد خلعت من نفسها على الجزيرة بردا مفوفا ترف حواشيه وأهدابه، وترجف متونه وأثناؤه، وتموج خيوطه بعضها في بعض، فأجد من الأنس بها والغبطة بعشرتها ما يملأ قلبي بهجة وحبورا، إلا أنها لا تمكث أكثر من شهر أو شهرين ثم تعود أدراجها، فأوجد من الوحشة لفراقها ما يجد العشير لفراق عشيره.
وقد أجلس أحيانا على شاطئ البحيرة لأتفكه بمنظر القرود السوداء وهي تثب من شجرة إلى شجرة، ومن غصن إلى غصن، وقد احتضنت أولادها إلى صدورها، أو تركتها معلقة بأذنابها، وقد يكون بين الشجرة والشجرة، والنخلة والنخلة، جدول واسع، أو نهر متدفق، فيكون لها في غدوها ورواحها، ووثبها وقفزها، وضحكها مرة وغضبها أخرى، وترفقها الغريب في طلب عيشها، وتحصيل رزقها، منظر بديع رائق، لا تكدره حبائل منظومة، ولا تزعجه قذائف منطلقة، وأستطيع أن أقول لك يا بني إنني - وقد عاشرت الوحوش الضارية، والذئاب المفترسة، والنمور الكاسرة، والقردة الشرسة، وخبرت أخلاقها وطباعها، ومنازعها ومشاربها، ورأيت أنها لا تفترس إلا إذا جاعت، ولا تشرس إلا إذا هيجت، ولا تطمع في أكثر من كفاف عيشها وعلالة حياتها - أصبحت أعتقد أن الإنسان أضرى - منها وأشرس، وأنه مخدوع أو خادع في تفضيل نفسه عليها.
ولم يزل هذا شأني حتى نزلت بالجزيرة تلك الأسرة الصالحة الكريمة، فكانت أيامي معها غرة أيام حياتي وكوكب سمائها الساطع، فوا أسفي عليها! ووا فجيعتي بالحياة من بعدها!
الفصل الحادي والعشرون
الحديث
وحسبك الآن يا بني ما عرفت من شأني، فلأعد بك إلى شأن ذلك الولد المسكين، فقد حدثتك عنه أنه كان يختلف إلي كثيرا بعد سفر فرجيني ليطلب عندي عزاءه وسلواه وراحة نفسه من بلابلها ووساوسها.
فوفد إلي ذات يوم، وكنت جالسا تحت شجرة قصيرة كانت قد غرستها فرجيني فيما غرست من الأشجار الكثيرة؛ التي كانت تحمل معها بذورها حيثما ذهبت وأينما حلت، قائلة لعل الله يمنحها النماء والنضرة فيهتدي بها ضال، أو يفيء إليها حائر، أو يتعلل بها ظامئ، فجلس بجانبي وأطرق إطراقة طويلة ثم رفع رأسه وقال: أنا حزين جدا يا والدي، ويخيل إلى أن فرجيني قد نسيتني وأن يدي قد أصبحت صفرا منها إلى الأبد، فلقد مر على سفرها ثلاثة أعوام لم ترسل إلي فيها إلا كتابا واحدا منذ ثمانية أشهر، ثم انقطعت رسائلها بعد ذلك، ولا أعلم ماذا دهاها، وماذا دهاني عندها، ولقد حدثتني نفسي اليوم أن أسافر إلى فرنسا وأسعى إلى مقابلة ملكها لأتولى خدمته، وأتوصل من طريقه إلى جمع ثروة طائلة أستطيع أن أتقدم بها إلى جدة فرجيني فلا ترى مانعا - وقد جمعت في يدي بين حاشيتي المجد والشرف - أن تزوجني من حفيدتها.
قلت: ألم تحدثني يا ولدي قبل اليوم أنك لا تتصل بنسب شريف أو أنك لا تعرف لك أبا؟
قال: وأية علاقة للأبوة والبنوة بما نحن فيه؟ إنني لا أريد أن أتقدم إلى الملك بحسبي ونسبي، بل بكفايتي وجدارتي وخدمتي التي أقدمها لوطني، وهل يوجد في الناس من يأخذني بذنب لست صاحبه ولا صاحب الرأي فيه، بل لم أكن حاضره ولا شاهده؛ لأنه وقع قبل وجودي في هذا العالم؟ على أنني لا أعد ما كان ذنبا؛ لأن والدتي أطهر وأشرف من أن تقترف الجرائم والذنوب.
قلت: إنك تحدثني بلسان الحقيقة، أما لسان الاصطلاح فهو أن من كان مثلك مغمور النسب أو مقطوعه فلا سبيل له إلى أن يلمس بأطراف قدمه أدنى درجة من درجات المجد، بل لا سبيل له أن يأخذ لنفسه مكانا مطمئنا بين الطبقات العالية الرفيعة التي يسمونها طبقات الأشراف والنبلاء.
قال: إنك قد قلت لي قبل اليوم - كما قرأت في كثير من الكتب - إن عظمة فرنسا إنما حملت على عواتق أولئك الرجال المغمورين الذين لا يمتون إلى الناس بحسب ولا نسب، ولا شأن لهم في حياتهم سوى أنهم قد أدوا لوطنهم خدمات جليلة كانت هي وسيلتهم الوحيدة إلى بلوغ ذروة المجد التي بلغوها، فهل كنت تخدعني فيما قلت لي وكان يخدعني أولئك الكاتبون؟
قلت: لم أخدعك يا بني ولا خدعوك، وإنما كنت أحدثك عن الماضي، أما اليوم فالملوك متكبرون متغطرسون لا يؤثرون مزية من المزايا على مزية الحسب والنسب، ولا يعرفون مفخرة يفخرون بها سوى أنهم من سلالة أولئك الملوك الماجدين، فهم لا يقربون ولا يدنون إلا من أمسك بطرف سلسلة يمسك بطرفها الآخر أمير من الأمراء أو قائد من القواد أو نبيل من النبلاء، هؤلاء هم أعوانهم وأنصارهم، ووزراؤهم وقوادهم، وولاتهم وعمالهم، وجلساؤهم وسمارهم، ومواضع ثقتهم وأمناء أسرارهم، أحاطوا بهم إحاطة السحب الكثيفة بالكواكب النيرة، فلا يأذنون لشعاع من أشعتهم أن يتصل بأحد من الناس سواهم؛ فكانت نتيجة ذلك أن ماتت المواهب والمزايا، وقبرت العزائم والهمم، وأصبح كتاب الأمة وشعراؤها وحكماؤها وعلماؤها ورجال الفنون فيها أضعف الناس شأنا، وأهونهم خطرا، وأدناهم منزلة في ترتيب درجات الإنسانية؛ لأنهم قد حرموا الاتصال بتلك الشمس المشرقة التي تمدهم بالقوة والحياة، وتبعث فيهم روح النشاط والعمل.
قال: وماذا علي إن اتصلت بنبيل من أولئك النبلاء وعشت تحت كنفه لأصل من طريقه إلى الغاية التي أريدها؟
قلت: إنك لا تستطيع أن تنال الحظوة عنده إلا إذا نزلت على حكم أهوائه وشهواته؛ أي أن تجعل نفسك جسرا يمشي عليه إليها، وذلك ما تأباه عليك عزة نفسك وأنفتها.
قال: يخيل إلي أني إن قمت بواجبي لأمتي ووطني وأديت للإنسانية العامة خدمة عظمى يرن صداها في جميع الآفاق؛ لا أعدم أن أجد بين الأشراف المحسنين من يتولاني بحمايته ورعايته، ويأخذ بضبعي إلى المنزلة التي أستحقها.
قلت: استمع مني كلمة أقولها لك يا بني، لقد كان اليونان والرومان والمصريون - حتى في أدوار سقوطهم وانحطاطهم - يبجلون الفضيلة ويعظمون شأنها، ويقدسون المواهب والمزايا أعظم تقديس، ويعرفون لأصحابها أقدارهم ومنازلهم، ويبسطون عليهم جناح مودتهم ورحمتهم، ولعلك قرأت من ذلك شيئا في كتب التاريخ، أما اليوم فقد انقضى ذلك كله، وأصبح الشرف محصورا بين الجاه والمال، فلا يظفر به إلا ذو منصب عال، أو مال كثير، وقد يعطف بعض أولئك الذين يسمونهم النبلاء على بعض أصحاب المواهب والمزايا، كالشعراء والكتاب والموسيقيين والمصورين؛ لا لأنهم يحترمونهم ويجلونهم، أو يمجدون ذكاءهم ونبوغهم، بل ليزينوا بهم مجالسهم كما يزينونها بالتحف والذخائر؛ وليمتعوا أنفسهم بمنظر ذلتهم وخضوعهم بين أيديهم كما يمتعونها بمنظر مضحكيهم ومجانهم، وما أحسب أنك ترضى لنفسك بهذه المنزلة، أو أن يكون منتهى آمالك في حياتك أن تصبح خليعا ماجنا.
قال: إن فاتني أن أعيش في كنف رجل شريف، فلن يفوتني أن أعيش في كنف حزب من الأحزاب أو جماعة من الجماعات أخدمها وأخلص لها؛ فأنال الحظوة عندها.
قال: إنك تستطيع أن تفعل ذلك، ولكن على أن تضرب بينك وبين ضميرك سدا إلى الأبد، فالهيئات كالأفراد لا يعنيها إلا مصلحتها وفائدتها، وكثيرا ما تكون مصلحتها في جانب، والحق في جانب آخر، بل ذلك هو الأعم الأغلب في أمرها، فإما جاريتها فهلكت، أو نابذتها فاستهدفت لغضبها ومقتها.
قال: الموت أهون علي من أن أخطو خطوة واحدة لا يرضى بها ضميري.
قلت: إذن ودع جميع آمالك وأمانيك وداعا دائما لا لقاء بينكما من بعده.
قال: وا شقاآه! لقد أخذت علي جميع السبل، وسدت جميع المسالك، ويخيل إلي أنني سأقضي بقية أيام حياتي في ظلمة داجية لا ينفذ إليها شعاع من أشعة الرحمة، ولا يلمع فيها بارق من بوارق الإحسان، وأن قد حيل بيني وبين فرجيني إلى الأبد.
قلت: إنك واهم يا بني، فما أنت بشقي كما تظن، وما الشقاء إلا تلك العظمة التي تطلبها وتسعى إليها، إنك تعيش من حريتك واستقلالك وهدوئك وسكونك وطهارة ضميرك وصفاء سريرتك في سعادة لا يتمتع بها متمتع على ظهر الأرض، فما حاجتك إلى تلك العظمة التي لا سبيل لك إلى بلوغها إلا إذا مشيت إليها على جسر من الكذب والرياء، والملق والدهان، والمواربة والمداجاة، والظلم والإثم، ونصبت نفسك ليلك ونهارك لمحاربة الدسائس بالدسائس، والدنايا بالدنايا، والأكاذيب بالأكاذيب، وملأت فراغ قلبك حقدا وموجدة على الذين يسيئون إليك أو يجترئون عليك، وكنت في آن واحد أذل الناس لمن هم فوقك، وأقساهم على من هم دونك، ثم لا تحصل بعد ذلك كله على طائل سوى أن تطعم لقمة يطعمها جميع الناس، وتستر سوأة لا يوجد في الناس من لا يسترها، وما أحسب أن فرجيني ترضى لك ولا لنفسها أن تكون وسيلتك إليها هذه الوسيلة الدنيئة الحقيرة، وهي الفتاة الشريفة الفاضلة التي لها طهارة الملك في سمائه، وصفاء الكوكب في أفقه، واعلم يا بني أن الفقير يعيش من دنياه في أرض شائكة قد ألفها واعتادها، فهو لا يتألم لوخزاتها ولذعاتها، ولكنه إذا وجد يوما من الأيام بين هذه الأشواك وردة ناضرة طار بها فرحا وسرورا، وأن الغني يعيش منها في روضة مملوءة بالورود والأزهار قد سئمها وبرد بها، فهو لا يشعر بجمالها، ولا يتلذذ بطيب رائحتها، ولكنه إذا عثر في طريقه بشوكة تألم لها ألما شديدا لا يشعر بمثله سواه، وخير للمرء أن يعيش مؤملا كل شيء من أن يعيش غنيا خائفا من كل شيء.
قال: إنما أريد المجد الأدبي لا المجد المالي.
قلت: نعم، إن المجد الأدبي مجد عظيم وشريف ولكنه لا يصل بك إلى الغاية التي تريدها، إن الأدباء والحكماء، والمصلحين والمفكرين، هم عظماء هذا العالم وساداته، وهم الكواكب النيرة التي تطلع في سمائه الداجية المدلهمة فتنير أرجاءها، وتبدد ظلماتها، وهم الأشعة الباهرة التي تنفذ إلى أعماق القلوب المظلمة القاتمة فتذيب جهالاتها وضلالتها، وتطير بأوهامها وأحلامها، وهم المنائر العالية التي يهتدي بها الحائر، ويستنير بها الضال، ويعرف بها المدرج الساري أي شعب يسلك، وأيه غاية من الغايات يريد؟ وهم الأطباء الماهرون يتولون القلوب الكسيرة اليائسة فيعالجون همومها وآلامها، ويملئون فضاءها رجاء وأملا، إلا أن سبيلهم إلى ذلك من أوعر السبل وأخشنها؛ لأنهم أنصار الخير، وللشر أنصار أشد منهم قوة وأكثر عدة وعددا، وهم دائما هدف لغضب الملوك؛ لأنهم يثيرون ثائرة الشعوب عليهم، وغضب النبلاء؛ لأنهم يحتقرون نبلهم، ويزدرون مجدهم وعظمتهم، وغضب الكهنة؛ لأنهم ينعون عليهم رياءهم، وكذبهم، وغضب العامة لأنهم يصادرون أهواءهم وشهواتهم؛ أي إن العالم كله حرب عليهم من أقصاه إلى أقصاه، وقلما تنتهي حياتهم إلا بما انتهت به حياة سقراط الحكيم، وهومير الشاعر، وأفلاطون الفيلسوف، وفيثاغورث الرحيم، من قتل، أو صلب، أو إلقاء في السجن، أو تشريد في الأرض، ولا ذنب لهم إلا أنهم أحبوا البشر وعطفوا عليه، وتألموا لألمه وبكوا لبكائه، فنقم البشر منهم هذه العاطفة الطيبة الكريمة، وانتقم لنفسه منهم بإرهاق أرواحهم، أو تعذيب أجسامهم، أو تقطيع أوصالهم، ولم يقنع في أمرهم بذلك حتى شوه وجه تاريخهم وسود صفحاته بما شاء من الوصمات والعيوب، ولم تستطع شمس الحقيقة أن تبدد تلك الظلمات المحيطة بهم وبتاريخ حياتهم إلا بعد عدة قرون وأجيال.
قال: لولا فرجيني ما أسفت على شيء في الحياة، ولا بكيت على فائت منها.
قلت: إن فرجيني باقية على عهدها لم تتغير، فاحذر أن تخسرها من حيث تريد أن تكسبها، واعلم أنها ما قطعت رسائلها عنك إلا لأنها عازمة على الرجوع في عهد قريب، فانتظر رجوعها بعد قليل من الأيام، وأعد نفسك لحياة مستقبلة سعيدة يستغفر لك الدهر فيها عن جميع سيئاته إليك. فأضاءت حول ثغره ابتسامة لم تضئه من عهد بعيد، وقال: أأنت على ثقة مما تقول؟ قلت: نعم، فكأنما قد نزل عليه بهذه الكلمة وحي من السماء ، فما أصبح الصباح حتى رأيته مشمرا عن ساعديه، يجول في أكناف «حديقة فرجيني» يشذب أشجارها، ويشق أنهارها، ويحول مياهها، ويسقي ما ذبل من أغراسها، وقد لبس بردا قشيبا من الجد والنشاط لا عهد له بمثله منذ أعوام ثلاثة.
الفصل الثاني والعشرون
السفينة
وفي عصر يوم 24 ديسمبر سنة 1744 رأى بول العلم الأبيض يخفق على قمة جبل الاستكشاف، فعلم أن سفينة قادمة إلى الجزيرة، فطمع أن تكون السفينة التي تحمل فرجيني، فانحدر إلى شاطئ البحر فيمن انحدر إليه من سكان الجزيرة ليتعرف شأنها، فعرف أن دليل المرفأ قد ركب زورقه إليها منذ ساعات، وأنه لم يعد حتى الساعة، فجلس في انتظاره حتى عاد وحده، فأخبر أن السفينة اسمها «سان جيران» وربانها اسمه المسيو «أوبن»، وأن الريح لا تساعدها على دخول المرفأ الليلة، ولا يمكنها الوصول إليه إلا في الغد، وكان يحمل في يده عدة رسائل لبعض سكان الجزيرة، بعضها آت من فرنسا، وبعضها مرسل من ركاب السفينة أنفسهم.
فسمع بول فيما سمع من الأسماء اسم مدام دي لاتور «هيلين»، فاختطف الرسالة من يد الرجل اختطافا، وقرأ عنوانها فإذا هو بخط فرجيني، فطار بها فرحا وسرورا، وأخذ يعدو إلى المزرعة عدو الظليم، فرأى على البعد أفراد الأسرة واقفين على رأس هضبة عالية ينتظرونه، فرفع يده بالرسالة وصار يلوح بها في الجو كأنما يحمل راية بيضاء، حتى بلغ مكانهم، فقدم الرسالة إلى هيلين ففضت غلافها وأمرت عليها نظرها فعلمت أن ابنتها قادمة على هذه السفينة نفسها، وأن السبب في عودتها من فرنسا أن عمتها حاولت كثيرا أن تغير من طباعها وأخلاقها، وتذهب بها في حياتها مذهبا غير مذهبها الأول فعجزت عن ذلك، وأنها عرضت عليها أن تزوجها من عظيم من عظماء البلاط فرفضت، فنقمت عليها نقمة عظيمة، وأصبحت تحتقرها وتزدريها، وتنظر إليها بالعين التي تنظر بها إلى فتاة مخبولة العقل، فاسدة الذهن، أسيرة الأوهام والأحلام، ثم ما لبثت أن حرمتها من ميراثها، وسلبتها كل ما كانت تسبغه عليها من النعم، ولم يبق إلا أن تطردها من منزلها طردا، فلم تجد بدا من الرجوع، فركبت أول سفينة علمت أنها ذاهبة إلى إفريقيا، ثم ختمت رسالتها بقولها: إنني أكتب لك هذه الرسالة وأنا على ظهر السفينة «سان جيران» وبيننا وبين الشاطئ أربعة فراسخ، ولا نستطيع الدخول إلى المرفأ إلا في الغد كما أخبرنا بذلك الدليل، وفي الغد نلتقي إن شاء الله تعالى.
وما إن انتهوا من قراءة الرسالة حتى استطيروا فرحا وسرورا، وأخذ الزنجيان يرقصان ويقفزان ويهتفان بصوت عال: قد عادت فرجيني! لقد عادت فرجيني، وكان أول ما مر بخاطر بول في هذه الساعة أن يذهب إلي في كوخي ويبشرني برجوع فرجيني، ويشكر لي نبوءتي التي تنبأت له بها في أمرها، وكانت قد مضت هدأة من الليل، فأستأذن أمه في ذلك فأذنته، فمشى ومشى أمامه دومينج يحمل مشعلا كبيرا حتى وصل إلي بعد ساعتين، وكنت قد أويت إلى مضجعي، فأيقظني من نومي وألقى إلي ببشراه، فلم يكن سروري بها بأقل من سروره، وقال: هيا بنا نذهب إلى الشاطئ لننتظر فرجيني فإن السفينة تصل في الصباح.
فقمت إلى ثيابي فأسبلتها علي وذهبت معه، وكانت الليلة حالكة مدلهمة قد احتجبت كواكبها وراء قطع الغمام الكثيفة الآخذ بعضها بأعناق بعض كأنها القافلة السائرة في الصحراء، فمشينا لا نهتدي بشيء سوى غريزتنا التي تقود خطواتنا دائما في مفاوز الأرض ومجاهلها، وكنا نسمع من حين إلى حين قرقعة هائلة آتية من ناحية البحر تشبه دمدمة الرعد وليست بها، فلا نفهم منها شيئا.
فإنا لسائرون إذ لمحنا زنجيا ضخم الجثة يمر بجانبنا، فاستوقفته وسألته من أين أقبل، فقال إني مرسل من شاطئ جزيرة الذهب إلى الحاكم لأبلغه أن سفينة قد ألقى بها التيار إلى ما وراء جزيرة العنبر تطلق مدافعها من حين إلى حين؛ أي إنها في خطر، وأنها في حاجة إلى المعونة، فسألته هل يعرف اسمها؟ فأجاب أن لا، وانطلق لسبيله، فالتفت إلى بول وقلت له: أخاف أن تكون سفينة «سان جيران»، وخير لنا أن ننحدر إلى الشاطئ المقابل لجزيرة الذهب لنقف على الحقيقة، فمشى معي صامتا لا يقول شيئا حتى أشرفنا بعد قطع ثلاث مراحل على ذلك الشاطئ، وكانت الطلقات قد انقطعت فراعني سكوتها أكثر مما راعني دويها، ثم ظهر القمر في كبد السماء محاطا بثلاث دوائر سوداء، كأنه متمنطق بنطاق الحداد، فرأينا على نوره الضعيف الباهت منظر البحر وهو ثائر مهتاج تموج ظلماته بعضها في بعض، وترتطم أمواجه بصخور الشاطئ وهضابه، فينبعث لها صوت أجش كأنه أنين الثكلى، أو حشرجة المحتضر، وقد يتطاير منها أحيانا شرر لامع كذلك الشرر الذي يتطاير من أجنحة الحباحب، ورأينا الصيادين مكبين على زوارقهم ينقلونها من الماء إلى اليبس ويطرحونها فوق الرمال خوفا عليها من الهلاك، ولمحنا على مقربة منا جماعة من الناس مجتمعين حول نار عظيمة يستدفئون بها، فقصدنا إليهم، وجلسنا على مقربة منهم، وسمعناهم يتحدثون أن السفينة قد جار بها التيار عن طريقها ودفعها إلى شاطئ جزيرة العنبر حيث الخطر عظيم لا حيلة فيه، وأنها إن لم تبادر بدخول المضيق الذي بين جزيرة العنبر وجزيرة «سان لوي»، فمصيرها الهلاك ما من ذلك بد، وكان بول يسمع هذا كله وهو صامت مطرق كأنه لا يفهم منه شيئا.
ولم يزل هذا شأننا حتى بدأت حاشية الظلام ترق عن بياض الفجر فتلمع بعض أشعته من خلالها كما يلمع الماء من خلال الطحلب، فحاولنا أن نرى سطح البحر فلم نستطع؛ لأن الضباب كان كثيفا جدا، كأنما قد بنى دوين السماء سماء أخرى لا يرى الرائي من خلالها غير بعض القمم العالية تطفو وترسب كما يطفو الغريق ويرسب في عباب الماء، ثم استطعنا بعد حين أن نرى على سطح البحر شيئا أشبه بغمامة كثيفة، فتأملناه، فإذا هو جزيرة العنبر التي زعموا أن السفينة محتبسة بشاطئها، إلا أننا لم نر السفينة بحال من الأحوال.
وهنا حضر المسيو لابوردونيه حاكم الجزيرة راكبا جواده ووراءه فصيلة من الجند تحمل بنادقها على عواتقها، فأمرها أن تصطف صفا واحدا، ففعلت، فأمرها أن تطلق بنادقها فأطلقتها، فلم نلبث أن رأينا نورا لمع على سطح البحر، وأعقبه دوي مدفع، فعلمنا أن السفينة غير بعيدة عنا، فتقدمنا جميعا نحو الشاطئ لنتحقق من رؤيتها، فاستطعنا بعد لأي أن نرى شبحها الغارق في عباب الضباب، وأن نرى سواريها الذاهبة في كبد السماء، وأن نسمع - برغم جرجرة الآذي وزمجرته - صوت ربانها وهو يصرخ صرخاته العظمى التي يستنهض بها همم رجاله، فأمر الحاكم بإعداد زورق لنجدتها، وبإشعال النار على طول الشاطئ لترى على ضوئها الزورق المعد لإنقاذها، فما رأت النار حتى أخذت تطلق مدافعها تباعا، واستمر التخاطب بهذه اللغة النارية بينها وبين الشاطئ ساعة طويلة.
وإنا لكذلك إذ دلف إلى الحاكم شيخ زنجي هرم يدب على عصاه، وقال له: إننا نسمع يا سيدي منذ الليلة زمجرة هائلة تنحدر إلينا من قمة الجبل، ونرى أوراق الأشجار تهتز وتضطرب دون أن تهب علينا ريح، ونرى طيور البحر هاربة إلى البر أسرابا أسرابا دون أن يزعجها مزعج، أو يطاردها مطارد، فهي العاصفة، ما في ذلك ريب ولا شك، فأنقذوا السفينة قبل هبوبها، فإن لم تفعلوا فانفضوا أيديكم منها إلى الأبد.
فاصفر وجه الحاكم، وشعر برعدة شديدة في جسمه، إلا أنه تجلد واستمسك، وصاح: سأنقذها ولو كان في ذلك حياتي!
ولقد صدق الزنجي فيما قال، فقد لبس الجو حلة غريبة لا عهد له بمثلها من قبل، وكأنما انبعث في جميع أوصاله رعشة شديدة كتلك الرعشة التي تنبعث في جسم المحموم، وأقبلت طيور البحر من كل صوب هاربة إلى البر كأن مطاردا يطاردها ويشتد على أثرها، وتراءت قطع السحاب سوادء قاتمة تلمع في خلالها نقط نارية حمراء كما يلمع بصيص النار من خلال الرماد، وامتلأ الجو بفحيح الأفاعي، وطنين البعوض، وزمجرة الوحوش.
الفصل الثالث والعشرون
العاصفة
في نحو الساعة السابعة سمعنا قعقعة عظيمة، قد انبعثت من جميع جهات البحر في آن واحد، فاهتزت الأرض والسماء، ودارت الأرض الفضاء، وانقلب عال كل شيء سافله وصاح الجميع «العاصفة».
هنا رأينا منظرا هائلا مخيفا جمدت له دماؤنا في عروقنا، ومشت له قلوبنا في صدورنا، وما أحسب إلا أنه ستمر بنا الأيام والليالي ولا نستطيع أن ننساه حتى تبرد أعظمنا في ثراها؛ رأينا الضباب الذي كان يحول بيننا وبين رؤية السفينة قد انحسر دفعة واحدة، فإذا السفينة ذرة هائمة في ذلك الفضاء الواسع، تقبل بها الريح وتدبر، وتعلو بها الأمواج وتسفل، إن حاولت الدنو من الشاطئ وقفت في وجهها الصخور الناتئة المحددة الأطراف كأنها رماح مصوبة إلى صدرها، أو أرادت النكوص على عقبها والانسياب في طريق أخرى غير هذه الطريق عجزت عن مقاومة التيار؛ لأنها أصبحت مجردة من جميع قواها وأسلحتها، فقلوعها ممزقة، وألواحها متناثرة، وحبالها متطايرة وسواريها منكسة، وأعلامها ساقطة، ورجالها متهافتون على سطحها لما نالهم من الأين والإعياء، وقد بدأ مؤخرها يهبط، ومقدمها يرتفع؛ أي إن الهلاك قاب قوسين منها أو أدنى.
وكانت العاصفة في تلك اللحظة قد بلغت أشدها، فرأينا الموج يرتفع ارتفاع الجبال حتى يصك بمنكبه منكب السماء، ثم يندفع إلى الشاطئ كهوي العقاب إلى وكره، فينسف رماله وحصاه، ويطير بشظياته في جو السماء، ثم لا يلبث أن يتراجع مجرجرا في تراجعه جرجرته في تدافعه، كالسهم الأليم في حالتي وقعه ونزعه، ويترك وراءه بقعة واسعة من الرمل كصفحة المرآة في لمعانها واستوائها، ورأينا المضيق الواقع بين شاطئ الجزيرتين يرغي ويزبد كأنما يشتعل من تحته أتون متقد، ويرمي بالزبد من جفافيه كما يتناثر العهن المنفوش عن المندف؛ أما السماء فقد أصبحت ميدانا تتسابق فيه قطع الغيوم الطائرة إلى غاياتها، فلا تفرغ حلبة حتى تنشأ حلبة أخرى، فأصبح البر والبحر، والسماء والأرض، والماء واليبس، والسهل والجبل، قيامة كبرى يموج فيها كل شيء، ويضطرب كل شيء، فلم نعد نعلم أنحن وقوف في أماكننا أم طائرون في جو السماء؟ وهل طغى الماء على اليبس فأحاله ماء، أم لا يزال الماء ماء واليبس يبسا؟
الفصل الرابع والعشرون
الكارثة
وبينما نحن ذاهلون عن أنفسنا، وعن كل ما يدور حولنا، إذ طرق آذاننا صوت عظيم، فاستفقنا، فإذا السفينة قد اصطدمت بإحدى الصخور العظيمة، وإذا آخر جرير من أجرتها قد انقطع، فانبعثت في تلك اللحظة صيحة ألم من جميع القلوب، وإذا بول يهجم على البحر ليلقي بنفسه فيه، فاعترضت طريقة أنا ودومينج، وحاولنا أن نمنعه فلم نستطع، وظل يصيح: دعوني أنجي فرجيني، فلم يكن لنا بد من أن نتركه وشأنه، غير أننا عقدنا في وسطه حبلا طويلا وأبقينا طرفه في أيدينا خوفا عليه من الهلاك، فاقتحم الماء وكان منظره في تلك اللحظة منظرا مخيفا مرعبا كأنما هو منتفض من كفن، وكأنما صورته قد استحالت إلى صورة وحش ضار لا يقوم له شيء إلا أتى عليه، فظل يعوم مرة، ويتسلق الصخور أخرى، ويعاني في سبيل ذلك ما لا يستطيع أن يحتمله بشر، حتى دنا من السفينة، أوشك أن يدنو منها، فلطمه تيار قوي لطمة شديدة أعادته إلى الشاطئ كما كان، مجروح الساق، مهشم الأعضاء، فلم يضعف ولم يهن، ولم يبق إلا بمقدار ما تنفس نفس الراحة ثم عاد إلى شأنه الأول.
وكان الموج يهدأ حينا عن السفينة فيخيل إلينا أنها واقفة على اليبس فنرى أشرعتها الممزقة، وألواحها المتناثرة، ورجالها المتهافتين على سطحها من الإعياء والتعب، وربانها الواقف في مقدمتها وقفة الليث الهصور يصرخ صرخاته العالية التي تدوي بها أجواز الفضاء، ثم يطغى عليها حينا فيضرب فوقها قبة جوفاء تغمرها كما يغمر القبر دفينه.
وما هي إلا لحظات حتى بدأ سطح السفينة يتشقق وبدأ الماء يتسرب إلى أحشائها، وعلم ركابها أنهم هالكون إن بقوا فيها، فأخذوا يلقون ما على سطحها من ألواح ومجاذيف وصناديق وأقفاص ثم يلقون بأنفسهم وراءها.
وهنا ظهر منظر هائل عظيم هلعت له القلوب وزاغت له الأبصار، وفاضت له الشئون من آماقها لهفة وجزعا.
ظهر في مؤخر السفينة منظر فتاة رائعة الجمال، غضة الشباب، نبيلة المنظر، واقفة على قدميها العاريتين، وقد ضمت بإحدى يديها قميصها إلى صدرها، ومدت يدها الأخرى إلى ذلك البائس المسكين الذي يخاطر بحياته ويكابد أعظم الشدائد والأهوال في سبيل الوصول إليها، فلم نعلم أهي تستغيث به لينقذها، أم تشير إليه أن يعود إلى مكانه رحمة به وإشفاقا عليه؟ فكان منظرها في تلك الساعة منظر صورة بديعة مرسومة في صفحة السماء.
من هي هذه الفتاة؟! إنها الفتاة الطاهرة الشريفة التي تجثو الفضيلة خاشعة بين يديها، إنها الفتاة الكريمة المحبوبة التي نبتت من كل قلب، فهي حبيبة إلى كل قلب، إنها الرحمة الإلهية التي طالما أحسنت إلى البائسين، وفرجت كربة المكروبين، وبكت رحمة بالمنكوبين والمرزوئين، إنها النور السماوي الذي طالما أشرق في القلوب اليائسة الحزينة فأنار حلكتها، وبدد ظلمتها، وملأها رجاء وأملا.
لذلك لم تبق عين من العيون إلا فاضت مدامعها، ولا نفس من النفوس إلا سالت من بين أضالعها، ولا يد من الأيادي إلا ارتفعت إلى السماء ضارعة إلى الله، تعالى، أن ينقذها من بلائها.
علم الملاحون أن السفينة قد بدأت تهوي إلى مستقرها، وأن ظلمة الموت قد أخذت تخيم فوقها، فنفضوا أيديهم منها نفض المودع يده من تراب الميت، وأخذوا يقذفون بأنفسهم إلى الماء، لا يعلمون أذاهبون إلى الحياة أم إلى الموت؟ وسفينة النجاة واقفة في مكانها من الشاطئ لا تستطيع أن تتقدم خطوة واحدة خوفا على نفسها من الهلاك، وأخذت همة بول تضعف وتفتر؛ لأنه كان قد استنفذ جميع قواه فلم يبق له منها ما يمسك به رمقه.
وما هي إلا لحظات حتى خلا سطح السفينة من كل شيء إلا من فرجيني واقفة في مؤخرتها تنتظر قضاء الله فيها، ورجل بحار واقف في مقدمتها قد خلع ملابسه وهم بإلقاء نفسه ثم لمح فرجيني واقفة موقفها هذا، فأبى له كرمه ووفاؤه إلا أن يمد لها يد المعونة لينقذها، فمشى إليها وجثا بين يديها وطلب منها أن تخلع ثوبها ليحملها على ظهره ويسبح بها.
أتدري ماذا كان بعد ذلك؟
كان أن غلب الحياء على الفتاة حينما رأت رجلا عاريا بين يديها يريد أن يضمها عارية إلى جسمه فأشاحت بوجهها عنه، وأشارت برأسها أن لا، فصاح الناس من كل جانب أنقذها، أنقذها، فوثب الرجل قائما على قدميه ومد يده إلى ثوبها ليجردها منه.
وهنا وا أسفاه أقبلت موجة عظيمة كالجبل الأشم تندفع نحو السفينة اندفاع القضاء النازل، وتزمجر في اندفاعها زمجرة الليث الهصور، فذعر البحار إذ رآها وطاش عقله، وما لبث أن أملس من مكانه وألقى بنفسه في الماء.
أما فرجيني فلم تخف ولم تطش، بل لبثت في مكانها كما هي، وقد علمت أن الساعة آتية لا ريب فيها، فضمت قميصها إلى جسمها بيد، ووضعت يدها الأخرى على قلبها، وسبحت بنظرها في الفضاء، فأصبح منظرها منظر ملك كريم يطير بجناحيه في جو السماء.
وما هو إلا أن أغمض الواقفون عيونهم جزعا من هذا المنظر الهائل المخيف، ثم فتحوها فإذا البحر قد ابتلع كل شيء، وإذا كل شيء قد انقضى!
وهنا صمت الشيخ وأسلم رأسه إلى ركبتيه وأخذ يضطرب اضطرابا شديدا كأنما يعالج غصة تعتلج في صدره، ثم لم يلبث أن انفجر باكيا ينشج نشج الأطفال، فهاجني بكاؤه فبكيت حتى ذهلت، ولم أستطع الرجوع إلى نفسي إلا بعد حين، فرأيته لا يزال في ذهوله واستغراقه، فنبهته فانتبه، وعاد إلى حديثه يقول: يا له من يوم عظيم هائل! يا لها من ذكرى مؤلمة مريرة! يا لها من حسرة لا انقضاء لها حتى الموت! لقد مر على تلك الحادثة عشرون عاما ولا تزال تلك الفتاة ماثلة أمامي كأنني لا أزال أراها، إن فرجيني كانت عزيزة علي جدا، بل كانت أعز مخلوق عندي، ولو كان لي ابنة لما نزلت من نفسي تلك المنزلة التي نزلتها، وكان كل أملي في حياتي أن أعيش في ظل عطفها ورحمتها، وحنانها وشفقتها، حتى تتولى إغماض عيني بيدها في ساعتي الأخيرة، فلم يقدر لي ما أريد. لقد هجرت العالم كله ولجأت إلى هذا المعتزل البعيد النائي هربا من الشقاء فتبعني الشقاء حيث ذهبت، وما أحسبه تاركي بعد ذلك حتى ينزل معي إلى قبري.
ثم تنفس الصعداء وقال: ولكن الذي يهون وجدي عليها أنها الآن سعيدة في سمائها، مغتبطة بعيشها، متمتعة برحمة ربها ورضوانه، وأن تلك المرارة التي ذاقتها ساعة موتها قد زالت من فمها إلى الأبد.
نعم إن يومها كان يوما هائلا جدا، فلقد بكاها كل من رآها حتى الزنوج الذين ألفو البؤس والشقاء، فلم يبق في عيونهم موضع للبكاء، وكان أكثرهم بكاء عليها البحار المسكين الذي حاول إنقاذها فحال القضاء بينه وبينها، فقد كان يخيل إليه أنه أجرم إجراما عظيما بالفرار منها وتركها وشأنها، فجلس على الرمل بعد خروجه يلطم وجهه وينتف شعره ويقول: اللهم اغفر لي ذنبي، فقد كنت أرجو أن أنال السعادة بافتدائها بحياتي، ولكن الله أراد ما أراد.
أما بول المسكين، فقد كنا جذبناه قبل ذلك إلى الشاطئ، فجثا على ركبتيه يشاهد ذلك المنظر المؤلم وهو يرعد ويضطرب اضطراب الغصن في مهاب الرياح حتى انقضى. فسقط مغشيا عليه يتدفق الدم من فمه وأذنيه وأنفه، فظللنا نعالجه ساعة طويلة حتى استفاق بعد لأي، ودار بنظره حوله كالذاهل المخبول، ثم انتفض انتفاضة شديدة وعاد إلى ذهوله واستغراقه، فأمر الحاكم أن ينقل إلى خيمته الخاصة، وأمر طبيبه بالقيام عليه والعناية به، وظل هو ملازما له لا يفارقه.
فتركته حيث هو، وذهبت أنا ودومينج إلى الساحل لنفتش عن جثة فرجيني، وكانت الزوبعة قد هدأت قليلا فقضينا في البحث عنها زمنا طويلا فلم نعثر عليها، فاشتد حزننا وألمنا، واستولى اليأس على نفوسنا، وبدأ الريب يدب في قلوب الكثير منا، فصاح بعض الناس وقد أدركه مثل الجنون: ألا يوجد لهذا الكون إله يدبره ويرعاه؟ ألا يوجد بين هؤلاء الناس جميعا من يستحق هذه الميتة التي ماتتها هذه الفتاة سواها؟ والنفس الضعيفة تعجز دائما عن احتمال صدمات القضاء، فلا تجد بدا حين تصدمها من أن تروح عن نفسها بالسخط والغضب، وقد تخرج في سخطها أحيانا عن صوابها وهداها، فليرحمها الله، فإنها ما أتيت إلا من ناحية الإيمان بالله والثقة بعدله ورحمته.
وهنا مر بنا بعض الناس وأخبرنا أن التيار قد ألقى ببقايا السفينة على شاطئ الخليج المسمى خليج «وتمبو»؛ أي خليج القبر، فذهبنا إليه نرجو أن نعثر على الجثة هناك، فوجدناها غارقة في الرمل إلا جزأها الأعلى، فنبشنا عنها فإذا هي على الصورة التي رأيناها عليها في ساعتها الأخيرة، وكأنها حية باقية لم تمت، وكأن ماء الحياة لا يزال يجول في وجهها، لولا اصفرار قليل في خديها، وإذا هي لا تزال ضامة ثوبها إلى جسمها وواضعة يدها الأخرى على قلبها، وكأن أناملها تقبض على شيء، ففتحتها فرأيتها قابضة على صورة الرسول بول، التي كان بول قد أهداها إليها قبل سفرها فوعدته أن تحتفظ بها إلى آخر رمق من حياتها، فكأنها تودع صديقها الحميم الوداع الأخير في صورة ذلك القديس العظيم، فأكبرت هذا الإخلاص العظيم كل الإكبار، وأيقنت أن النفس الطاهرة كالذهب الخالص، لا يغيرها شأن من شئون الحياة أو الموت.
ثم حملناها إلى كوخ قريب لبعض الصيادين، وعهدت إلى بعض النساء أن يتولين شأنها حتى نعود، وصعدت إلى الوادي لأبلغ تينك المرأتين المسكينتين ذلك الخبر الهائل، وما أحسبني وقفت في حياتي موقفا أشد علي من هذا الموقف، فدخلت عليهما في الكوخ فرأيتهما جاثيتين تصليان وتدعوان الله تعالى بسلامة ابنتهما من شر هذه العاصفة، وكان الليل قد بدأ يرخي سدوله على الكائنات، ويضرب عليها سرادقا من وحشته وكآبته، فما وقع نظرهما علي حتى ذعرتا وارتاعتا وصاحتا: أين فرجيني؟
فلم أستطع أن أنطق بشيء سوى أنني أطرقت برأسي، فدنت مني هيلين وقد استحالت إلى شبح كأشباح الموتى وقالت لي بصوت خافت متهافت: هل ماتت؟ فاستمررت في إطراقي، ففهمت كل شيء، وما هي إلا صيحة واحدة صاحتها من أعماق قلبها ثم سقطت في مكانها لا يختلج في جسمها عرق واحد، ودارت مرغريت بنظرها فلم تر ولدها أمامها فسألتني أين بول؟ فتلطفت في قص قصته عليها، وحلفت لها بالله أنني أرجو له حسن العاقبة، فلم تعبأ بما أقول، ولم يكن جزعها على ولدها، بأقل من جزع صاحبتها على ابنتها.
ولا أستطيع أن أصف لك يا بني هول تلك الليلة في ذلك الكوخ، فلم تكن ليلة بكاء وعويل، وولولة، كما تكون ليالي الثكل في بيوت الثاكلين، بل ليلة حزن صامت عميق يحبس الدموع عن الانطلاق والزفرات عن التصعيد، وإن أنس لا أنسى منظر تلك المرأة المسكينة وهي ساقطة تحت أعباء ذلك الحزن الثقيل تئن أنين الدفين تحت أنقاض البيت الساقط، وتقلب وجهها في السماء تسألها دمعة واحدة تروح بها عن نفسها فلا تعطاها، وقد تغمغم أحيانا بكلمات مبهمة لا يستمع منها السامع غير قولها: ابنتي! حبيبتي! مسكينة أنت! الرحمة يا رب! المغفرة يا إلهي! ومرغريت تجلس بجانبها تارة لتعزيها وتهون عليها مصابها، وتخرج خارج الكوخ تارة أخرى لتبكي ولدها ما شاء الله أن تفعل، فكان منظر إخلاصها في تلك الساعة أعجب منظر رأيته في حياتي، أما دومينج وماري فقد ظلا يدوران ليلهما حول الكوخ يلطمان خدودهما، ويخمشان وجهيهما، وينتفان شعورهما، ويرسلان صرخاتهما المحزنة الأليمة في جو السماء حتى تلفا أو كادا.
ولم يزل هذا شأننا جميعا حتى انبثق نور الفجر، فانسللت في صمت وسكون من حيث لا يشعر بي أحد وانحدرت إلى الشاطئ، فرأيت أن الحاكم قد أعد كل شيء لتشييع جنازة فرجيني، فكسوا نعشها بصنوف الزهر وأنواع الريحان، وحمله ثمان من عذارى «سان لوي» لابسات حللا بيضاء مشرقة، وتبعه نحو مائتي طفلة من أطفال الدير يمشين صفوفا متتالية، ويحملن في أيديهن سعف النخل وطاقات الزهر، ويرتلن الأناشيد الدينية بنغمة شجية محزنة، ومشى في المقدمة حاكم الجزيرة ووراءه ضباطه وجنوده منكسي أسلحتهم، مطرقي رءوسهم، والناس فيما وراء ذلك بحر زاخر يعج بالبكاء والعويل، والأنات والزفرات، وكانت مدافع الحصون ترسل طلقاتها من حين إلى حين، فتردد صداها مدافع السفن الراسية على الشاطئ.
ولم نزل سائرين في طريقنا حتى وصلنا إلى كنيسة «بامبلموس»، وهناك حي الزنوج المساكين الذي كانت تزوره فرجيني في أيام الآحاد بعد أداء الصلاة في الكنيسة، فتعول فقراءه وتطعم جائعيه، وتعود مرضاه، وتعطف على أيتامه وأرامله، فخرج رجاله ونساؤه، وفتيانه وفتياته، باكين صارخين، فبكينا جميعا لبكائهم، وكانت مناحة عامة جاد فيها بالدمع من لم يجد، وبكى فيها من لا عهد له بالبكاء، ولقد رأيت بعيني أولئك الأبطال الأنجاد الذين يأنفون أن يذرفوا دمعة واحدة من مدامعهم والرماح تنوشهم والسيوف تأخذهم من كل جانب يتهافتون على الجذوع والأحجار باكين منتجين انتحاب الأطفال الصغار، ورأيت جماعة من نساء مدغشقر وموزنبيق آتيات يحملن على عواتقهن أقفاص الفاكهة حتى وضعنها حول القبر، وعلقن على أغصان الأشجار المحيطة به خرقا بيضاء ناصعة، كعادتهن التي اعتدنها في موتاهن الأعزاء، ورأيت جماعة أخرى من نساء الهند والبنغال يحملن أقفاص الطير على عواتقهن ليرسلنها فوق القبر ساعة الدفن، ولعلهن يردن من ذلك تمثيل صعود الروح إلى سمائها ... فما أجل الفضيلة وما أعظم شأنها! إنها الشريعة العامة التي يدين بها الناس جميعا عالمهم وجاهلهم، مؤمنهم وملحدهم، حاضرهم وباديهم، والمعبد المشترك الذي يقف فيه الجميع صفا واحدا أمام هيكل واحد، يرتلون آية واحدة بنغمة واحدة.
وكانوا قد حفروا للميتة قبرا تحت شجرة خيزران مورقة في الجانب الغربي من كنيسة «بامبموس» كانت تجلس تحتها دائما هي وبول حينما كانا يأتيان لزيارة الكنيسة وتوزيع الصدقات على الفقراء والمساكين، فلما حلت ساعة الدفن اشتد البكاء والنحيب، وهرعت الفتيات إلى النعش يلمسنه بأيديهن، ويشرن إليه بمناديلهن وخرقهن، ثم يمسحن وجوههن تبركا كما يفعلن أمام تمثال العذراء، وجأرت الأمهات بالدعاء إلى الله، تعالى، أن يمنح بناتهن الفضيلة التي يمنحها هذه القديسة المباركة ليحيين حياتها، ويمتن موتها، وما هي إلا لحظات حتى انحدر إلى مغربه ذلك الكوكب الفخم الذي خفق في سماء العالم لحظة ثم اختفى.
الفصل الخامس والعشرون
أحزان بول
نقلنا بول في محفة إلى كوخه بعد ما أبل قليلا، وكنت خائفا عليه وعلى أميه أشد الخوف من تلك الساعة التي يتلاقون فيها، ولكن الله، تعالى، جعل خيرا ما كنت أحسبه شرا، فلم يقع نظرهما عليه حتى نهضتا إليه وضمتاه إلى صدرهما وانفجرتا بالبكاء، فنفس الدمع عن هيلين تلك الحرقة الكامنة التي ظلت تعتلج في صدرها يومين كاملين، وكأن شعاعا لامعا قد انبعث من عينيه اللامعتين إلى قلبيهما فأضاءهما بنور العزاء والسلوى، فطفقتا تقبلانه وتلثمانه، وتمزجان دموعهما بدموعه، وقد أنزل الله عليهم جميعا السكينة والصبر، فاستحالت تلك العاصفة التي كانت تعصف بقلوبهم ليلها ونهارها إلى سكون يشبه سكون الموت، فلا نواح ولا عويل، ولا تذمر ولا شكوى، إلا ما كان من تلك العبرات التي تنحدر من آماقهم في صمت وسكون.
وبعد هنيهة حضر الحاكم ليعزي هيلين عن نكبتها، فعزاها وحدثها طويلا عن عمتها وعن ذلك المسلك الوحشي الذي سلكته مع ابنتها، فكان جوابها على ذلك كله أن سألت الله لها العفو والمغفرة، ثم اقترب من فراش بول وتناول يده وقال له: يجب أن تسافر يا بني إلى فرنسا وسأعطيك كتاب وصاة تستعين به على عمل ينفعك وينفع أهلك، وسأتولى عنك رعاية أميك وكفالتهما في غيبتك. فألقى عليه بول نظرة طويلة لا يعلم إلا الله ماذا يريد منها، ثم جذب يده منه وأدار وجهه للحائط، فاكتأي الرجل قليلا ثم نهض وقال له: سأعود إليك مرة أخرى يا بني، وانصرف.
ولم يكن لي بد في هذه الأيام من أن ألزمهم لأقوم بخدمتهم وقضاء حاجاتهم، ولأتولى بنفسي تمريض هذا الولد المسكين، فلزمت فراشه ليلي ونهاري ما أكاد أفارقه حتى استطاع بعد ثلاثة أسابيع أن ينشط من علته، إلا أنه استحال إلى شخص آخر غير ذلك الشخص الأول، وكأنما انطفأ في قلبه ذلك المصباح المنير الذي كان يمد حواسه ومشاعره بالنور والإشراق، فأصبح ذاهلا مذهوبا به، تحدثه فلا يكاد يفهم الحديث، ولا يكاد يرد عليه إن فهمه، وكانت تدنو منه هيلين أحيانا فتقول له: إنني كلما رأيتك يا ولدي يخيل إلي أن ابنتي لا تزال حية باقية أراها وأحادثها، تريد بذلك تسرية همة وإزالة وحشة نفسه، فلا يكاد يسمع اسم فرجيني حتى ينتفض انتفاضا شديدا ويخرج من الكوخ هائما على وجهه، فلا يعود إليه حتى يعود به من يراه. وكثيرا ما كان يذهب وحده إلى «مخدع فرجيني» فيجلس هناك تحت النخلتين المسماتين باسمه واسمها شاخصا ببصره إلى البركة التي كانا يستحمان فيها أيام طفولتهما، ويظل على ذلك عدة ساعات حتى أذهب إليه وأعود به إلى الكوخ.
وخرج ذات يوم فتبعته أنا ودومينج، وكنت أتبعه دائما حيثما سار، فصعد جبل «المورن» ثم انحدر إلى سفحه الآخر ومشى في الطريق الموصل إلى كنيسة بامبلموس، فاستطير قلبي خوفا وهلعا، وخفت أن ينتهي به المسير إلى قبر فرجيني، وكنت لا أستطيع منعه أو الوقوف في وجهه؛ لأن الطبيب أمرني ألا أحاوله في أمر يريده، وأن أترك له الحرية في جميع ما يأخذ وما يدع، وقال لي: إن هذا هو علاجه الوحيد الذي لا علاج له سواه من وحشة نفسه وكآبتها، فظل سائرا لا يلتفت يمنة ولا يسرة حتى بلغ مكان القبر لا يخطئه، فجثا فوق تربته تحت ظلال شجرة الخيزران يصلي ويبتهل، فعجبت لذلك أشد العجب؛ لأنني كنت على ثقة من أنه لا يعلم حتى الساعة هل أخرجت جثة فرجيني من البحر أم ذهبت طعاما للسمك؟ فلم أجد بدا أنا ودومينج من أن نجثو جثيه وندعو دعاءه، فالتفت فرآنا، فسألته لم يصلي في هذا المكان؟ فقال: إنه المكان الذي كنا نجلس فيه معا حينما نأتي إلى هنا أيام الآحاد لزيارة الكنيسة وتوزيع الصدقات على الفقراء والمساكين، ويخيل لي أن هذه البقعة أحب بقعة إلي على وجه الأرض وأدناها إلى نفسي، فعلمت أنه ألهم، وأن طيب تراب القبر دل على القبر.
ثم نهض قائما على قدميه وذهب ببصره في السماء، وظل على ذلك ساعة، فخيل إلي أنه قد طار بنفسه إلى ذلك العالم الآخر ليفتش عن تلك النفس الحبيبة إليه التي فارقته فراق الأبد، فأصبح لا يهنأ له العيش من بعدها، ثم ما لبث أن انتفض انتفاضة شديدة وانحدر إلى شاطئ البحر، فذعرت وارتعت، ولم أجد بدا من أن أقف في وجهه، وقلت له: عد بنا إلى الكوخ يا بول وكن عند ظني بك، فلم يعبأ بما أقول، واستمر سائرا في طريقه حتى أشرف على البحر، وشخص ببصره إلى النقطة التي غرقت فيها السفينة، فخفت أن يكون قد حدث نفسه بذلك الأمر العظيم، فدنوت منه وقلت له: إن المنتحر يا بول لا يصعد إلى ملكوت السماء، فلم يزد على أن صاح: آه يا فرجيني! آه يا فرجيني! وسقط مغشيا عليه، فحملناه إلى الغابة، ولم نزل به حتى استفاق، فحاول أن يتقدم نحو الشاطئ مرة أخرى، فضرعت إليه ألا يفعل، فأمسك على مضض، وبعد لأي ما استطعنا أن نعود إلى الكوخ.
وأصبح بعد ذلك لا شأن له إلا طروق الأماكن التي عاش فيها مع فرجيني، أو اتفق لهما فيها شأن من الشئون، فزار الملعب الذي كانا يلعبان فيه معا وهما طفلان صغيران، ويحفران في رمله الحفر العميقة الواسعة ويملآنها بالماء وصغار السمك، ويجلسان على ضفافها يصطادان، واجتاز الطريق التي مشيا فيها تحت وابل المطر وقد أسبلت إزارها على رأسه لتقيه مما تقي منه نفسها، فكان منظرها منظر الدمية في المحراب، ومشى في الطريق التي مشيا فيها يوم ذهبا إلى ضفة النهر الأسود ليشفعا للزنجية الآبقة عند سيدها، ومر بالمكان الذي قطعا فيه نخلة الجوز وأحرقاها ليأكلا طلعها الأبيض حين أزمت بهما أزمة الجوع، ودخل الغابة التي أضلا فيها الطريق حتى أظلهما الليل وهما تائهان مشردان، وجثا عند الشجرة التي جثيا عندها يصليان ويدعوان الله، تعالى، أن يبعث إليهما من يهديهما السبيل، وجلس بجانب الهضبة التي كانت تنتظره عندها حتى يعود من المزرعة تعبا مكدودا فتمسح عرق جبينه بمنديلها وتبتسم له تلك الابتسامة العذبة الجميلة التي تنسيه آلامه ومتاعبه، ومر بالشاطئ الرملي الذي كانا يرقصان فيه تلك الرقصة الزنجية الساذجة، ويمثلان على مسرحه بعض قصص الكتاب المقدس، وجلس طويلا على الصخرة التي جلسا عليها ليلة الوداع يتعاتبان ويتشاكيان. وكان هذا آخر عهده بها حتى قضى الله قضاءه فيها.
ولم يدع هضبة ولا صخرة، ولا شجرة ولا نخلة، ولا ظلة ولا كرمة كانا يجلسان إليها أو يفيئان إلى ظلها إلا زارها وبكى عندها طويلا، كأنما كان يشعر في نفسه أنه مفارقها، وألا بد له من وداعها، فهو يودعها وداع الآسف الحزين.
وكذلك قضى أيامه الأخيرة وحيدا شريدا، هائما مستوحشا، يأكل حيث يجد طعاما، ويشرب حيث يجد شرابا، ويأوي إلى كل ظل، وينام تحت كل كوكب، حتى تخونه السقم، وأضواه الهم، فغارت عيناه، وانكفأ لونه، وذوت نضرته، وأصبح مثل الخلال رقة وذبولا، فأزعجني أمره، ورثيت له ولأميه البائستين المسكينتين اللتين تبكيانه ليلهما ونهارهما على ضعفهما وسقمهما وإدبار أمرهما، ولم أكن فاتحته حتى اليوم بكلمة واحدة في شأن نكبته التي نكب بها رحمة به، وإبقاء على حشاشته القريحة أن يؤلمها المس ويهيجها العبث. فلما استحالت حاله إلى ما أرى؛ رأيت أن أذهب في معالجته مذهبا غير المذهب الأول، فجلست إليه ذات يوم وقلت له: أتعلم يا بول أن فرجيني قد أخلصت إليك إلى آخر رمق في حياتها إخلاصا لم ير مثله راء؟ ولا يتحدث بمثله متحدث، فانتفض قليلا ورفع رأسه إلي ورنق ينتظر ما أقول، فأخرجت له صورة الرسول بول وأريته إياها، فاختطفها من يدي بيديه الضعيفتين المرتعشتين وقال: وأين وجدتها؟ قلت: عشية، على صدر فرجيني حينما وجدنا جثتها على شاطئ البحر وقد وضعت يدها عليها كأنها تضمك فيها إلى نفسها وتودعك الوداع الأخير. قال: وهل وجدتم جثتها؟ قلت: نعم وجدناها على ضفة الخليج عشية اليوم الذي غرقت فيه تحت طبقة من الرمل قد سترت منها الجزء الذي تحب أن تستره من جسمها، قال: وأين دفنتموها؟ قلت: في الجانب الغربي من كنيسة «بامبلموس» تحت شجرة الخيزران الكبرى، حيث ذهبت وجثوت وصليت من حيث لا تدري. فتنفس تنفسة طويلة كادت تنقطع لها حيازيمه، وأكب على الصورة يغمرها بدموعه وقبلاته، فافترصت هذه الفرصة وأنشأت أقول له ...
الفصل السادس والعشرون
الموت
ما هذه الدموع التي تذرفها يا بني ليلك ونهارك ما تهدأ ولا تفتر؟ وما هذا الحزن الذي تحمله بين أحناء ضلوعك لا يتفرج عنك بوجه من الوجوه، ولا حيلة من الحيل؟ ومتى كان الموت نكبة من النكبات العظام التي يهلك المرء في سبيلها جزعا، وتتساقط نفسه من دونها حسرات؟ وهل هو إلا الانتقال من منزل إلى منزل، والتحول من موطن إلى موطن، وربما كان الذي ننتقل إليه خيرا من الذي ننتقل منه؟ ومن أين لك أن الله - تعالى - لم يرد بصاحبتك خيرا حين استأثر بها واختار لها ما عنده، وأنه ما نقلها من هذه الدار إلى تلك الدار إلا لينقذها من شقاء علم أنها ستكابده فيها وستلاقي منه آلاما جساما؟ وهل يمكن أن يكون لها مصير إن قدر لها البقاء في هذه الحياة غير هذا المصير بعد ما تجهم لها الدهر، وحارت بها السبل وانتهى أمرها مع عمتها بما انتهى إليه من سوء الحال، وخيبة الأمل، وبعد ما قضي عليها أن تقضي بقية أيام حياتها في هذه القفرة المجدبة المحرقة التي لا ماء فيها ولا ثمر؟
وهل كنت تؤثر أن تراها شقية معذبة بين يديك تفلح الأرض، وتكسر الصخر، وتخوض الوحل، وتتسلق الأشجار، وتعبر الأنهار؛ لتعينك وتعين أطفالها المستقبليين على العيش بعد ما ألفت النعمة والرغد والعيش الهنيء في قصر عمتها عدة أعوام لا ترى فيها صخرا ولا حجرا، ولا رملا ولا مدرا؟ ولم لا يهنئك ويفرحك ويملأ قلبك غبطة وسرورا أن تعلم أنها الآن سعيدة في عيشها، هانئة بمصيرها، مغتبطة بما وفقت إليه من قدومها على ربها طاهرة نقية لم تلوث صحيفتها برشاشة واحدة من ذلك الرشاش الكثير الذي تلوث به صحائف الفتيات، مجزية أحسن الجزاء على موقفها الشريف العظيم، موقف العزة والأنفة والصبر والاحتمال الذي وقفته في ساعتها الأخيرة؟ ومن هو أولى منك - وأنت صديقها وحبيبها وألصق الناس بها - بالسرور لسرورها، والغبطة لغبطتها، والابتهاج بمصيرها السعيد الذي صارت إليه؟ وأنا أجلك كل الإجلال عن أن يكون حبك إياها حبا ماديا يزعجه افتراق الأجسام، ويكدر صفوه اختلاف الموطن والمقام.
ولو أنك عدت إلى نفسك قليلا لعلمت أنها لم تفارقك، ولم تنأ عنك، وأنها جالسة إليك تحدثك وتسمع حديثك، ولا شك عندي في أنها عاتبة عليك أشد العتب في هذه العجاجة السوداء من الحزن التي تثيرها على أثرها كأنها ذاهبة إلى دار الجحيم تستقبل أنواع العذاب وألوان الآلام، أو كأن كل الذي كان يعنيك منها شهواتك ولذائذك، فلما فاتتك بكيتها كما يبكي الطفل لعبته النافقة، وكأنني أسمعها تهتف بك قائلة: «لا تبك علي يا بول فإنني سعيدة ناعمة متمتعة برحمة ربي ورضوانه، متقلبة في أعطاف نعمته التي أسبغها علي مكافأة لي على صبري واحتمالي، وما استقبلت به هموم حياتي وآلامها من سكينة وجلد، فاصبر كما صبرت، واحتمل من آلام الحياة ما احتملت، يحسن الله جزاءك، ويجزل أجرك، ويرفعك إلى المنزلة التي رفعني إليها، فنعش معا في سعادة دائمة ليست سعادة الدنيا بالإضافة إليها إلا وهما من الأوهام، أو حلما من الأحلام.»
فلم يزد على أن رفع رأسه إلي وقال: ما دامت الحياة شقاء وعذابا، وما دام الموت سعادة وهناءة، وما دامت فرجيني تنتظرني في علياء سمائها لأعيش بجانبها العيش الذي أرجوه وآمله، ولا أوثر عليه عيشا سواه، فلا خير في الحياة من بعدها، وما أشوقني إلى الموت الذي يدنيني منها!
وهنا علمت ألا حيلة لي فيما قضى الله وقدره، وأن الفتى قد نفض يده من هذه الحياة إلى الأبد، وألا يد في العالم تستطيع أن تديره إلى وجهة غير الوجهة التي يسير فيها غير يد الله، فقمت وقام، ولا أسف في الدنيا أعظم من أسفي عليه، ولا فجيعة أكبر من فجيعتي فيه.
الفصل السابع والعشرون
الإيمان
جزى الله الإيمان عنا خيرا، فلولاه لثقلت على عواتقنا هذه الهموم التي نعالجها، ولولاه لعجزنا عن أن نتنفس نفس الراحة الذي يعيننا على المسير في صحراء هذه الحياة القاحلة، فهو النجم الخافق الذي يلمع من حين إلى حين في سماء الليلة المظلمة المدلهمة فينير أرجاءها، وهو الدوحة الفينانة التي يلجأ إليها المسافر من حرور الصحراء وسمومها فيجد في ظلالها راحته وسكونه، وهو الجرعة الباردة التي يظفر بها الظامئ الهيمان فينقع بها غلته، ويفثأ لوعته، وهو المطرة الشاملة التي تنزل بالأرض القاحلة فتهتز تربتها، وتحيي مواتها وتبعث في صميمها القوة والحياة، وهل كنا نستطيع أن نبقى لحظة واحدة في هذه الدار التي لا نفلت فيها من هم إلا إلى هم، ولا نفزع من رزء إلا إلى رزء، لولا يقيننا أن هذه الطريق الشائكة التي نسير فيها إنما هي سبيلنا الوحيد الذي يفضي بنا إلى النعيم المقيم الذي أعده الله في جواره للصابرين من عباده؟ وهل كان في استطاعة مريضنا الذي يئس من الشفاء، وفقيرنا الذي عجز عن القوت، وثاكلنا التي فقدت واحدها من حيث لا ترجو سواه، أن يحتفظوا بعقولهم سليمة، ومداركهم صحيحة، وعزائمهم متماسكة، لولا أنهم يعلمون أن حياتهم لا تنقضي بانقضاء أنفاسهم على ظهر الأرض، وأن هناك حياة أخرى في عالم غير هذا العالم، لا سقم فيها ولا مرض، ولا بؤس ولا شقاء؟
لذلك استطاعت هيلين ومرغريت في أواخر أيامهما أن تحتفظا بسكونهما وهدوئهما أمام هذه الحوادث المؤلمة التي تفض أصلاد الصفا، وتذيب لفائف القلوب، فكنت إذا دخلت عليهما رأيتهما في فراش مرضهما صابرتين محتملتين كأنهما لا تعالجان في أعماق قلوبهما أشد الآلام النفسية وأهوالها، فإذا نظرتا نظرتا إلى السماء، وإذا نطقتا نطقتا باسم الله وسألتاه العفو عنهما والرحمة بهما، ثم لا تلبث أعينهما أن تتلألأ بنور الأمل والرجاء، كأنما قد وقع في نفسهما أن الله قد استجاب دعاءهما، وتقبل قربانهما، ووعدهما المثوبة العظيمة في دار نعمته وجزائه.
ولقد دخلت صباح يوم على مرغريت للحظة التي استيقظت فيها من نومها فقصت علي أنها رأت فرجيني في منامها تسبح في غمرة من النور، وقد لبست قميصا أبيض فضفاضا كأنما قد نسج من خيوط الشمس، ولم تزل تهبط من أوجها رويدا حتى أصبحت في حرم الأرض، فمدت يدها إلى بول فأخذت به من ضبعيه وطارت في جو السماء فتشبثت بردائه فطرت وراءه، ولا أعلم كيف طرت، ثم نظرت تحتي فإذا هيلين طائرة ورائي، وإذا ماري ودومينج طائران وراءها، ثم دخلت على هيلين في كوخها في الساعة نفسها فقصت علي هذه الرؤيا بعينها؛ فعجبت لذلك أشد العجب! وأيقنت أن الله قد اصطفى هؤلاء القوم لنفسه، وأنزلهم منازل الأبرار الصالحين، وأنهم وإن كانوا لا يزالون على قيد الحياة فقد لحقو بالعالم الآخر، وأصبحوا ملائكة بين ملائكته المقربين.
ولقد صدقت هذه الرؤيا كما هي ، أما بول فقد مات بعد ذلك بثمانية أيام، وكان قد خرج في بعض خرجاته التي اعتادها بدون أن أراه، فافتقدته عدة ساعات فلم أجده، فانحدرت إلى حي بامبلموس فوجدته جاثيا على قبر فرجيني وقد ضم إلى صدره صورة بول الرسول التي خلفتها له، فحركته فإذا هو ميت، فحفرنا له ودفناه معها في قبرها، وأما مرغريت فقد لحقت بولدها بعد ثلاثة أيام من وفاته قضتها صابرة متجلدة لا تذرف لها دمعة، ولا تصعد لها أنة، وكان وداعها لصديقتها وداعا هادئا ساكنا لم تزد فيه على أن قالت لها: «سنلتقي هناك»، كأنما تفترقان على ميعاد، ثم أسلمت روحها، وأما هيلين فقد ماتت بعد شهر من ذلك التاريخ على ذلك الفراش الحقير، في ذلك الكوخ البسيط، لا يحيط بها غيري وغير ماري ودومينج، بعد ذلك الملك الكبير، والجنة والحرير، والنعمة السابغة، والمتعة الواسعة، أما أنا ... وهنا سكت سكتة طويلة كانت أوصاله ترتعد فيها ارتعادا شديدا ثم قال بصوت خافت متهدج: «فقد بقيت وحدي!» وانفجر باكيا بكاء ثاكل فجعها الدهر في أفلاذ كبدها جميعا في ساعة واحدة، فلا صبر لها ولا عزاء، وبعد لأي ما استطاع أن يعود إلى حديثه فقال: وهنا لم أجد بدا من أن أنقل ماري ودومينج إلى كوخي، فلم يعيشا بعد مواليهم إلا بضعة أشهر ثم لحقا بهم، فخلت الأرض منهم جميعا، حتى من كلبهم، وماشيتهم، وطيورهم وعصافيرهم، وأصبحوا تحت التراب أجسادا هامدة، وعظاما نخرة، تسفي عليهم السوافي، وتدور عليهم الدوائر، ويتحدث عنهم المتحدثون كما يتحدثون عن الشعوب الغابرة، والأمم الخالية، ولم يبق من آثارهم غير تلك الجدران المتهدمة التي تراها، وقد خلد أهل الجزيرة ذكرهم في كثير من الأماكن التي عاشوا فيها، فسموا الرأس الذي عجزت السفينة عن اجتيازه فكان في ذلك هلاكها «الرأس البائس»، والخليج الذي وجدت جثة فرجيني على شاطئه دفينة في الرمل «خليج القبر»، والمضيق الذي غرقت فيه السفينة «مضيق سان جيران»، وسموا مخدع فرجيني التي كانت تخلو فيه بنفسها «كهف الفتاة»، وشجرة الخيزران التي ظللت قبرهم جميعا «الشجرة المقدسة»، والوادي الذي عاشوا فيه «الوادي السعيد»، ثم لم تلبث الأيام أن ذهبت بهذه الذكرى كما ذهبت بأصحابها؛ لأن الناس أصبحوا ينطقون بهذه الأسماء ولا يفهمون معناها، فوا رحمتاه لهم! لقد ضن الدهر عليهم بكل شيء حتى بالذكرى!
وقد علمت بعد مرور بضع سنوات على هذه الحادثة أن تلك العمة القاسية التي ضنت بمالها على ابنة أخيها وتركتها تموت بؤسا وهما في أعناق المحيط، لقيت جزاء غلظتها وقسوتها، فلم تسمع بخبر غرق فرجيني وموت أمها حتى أصابها مثل الجنون، وملأت رأسها الوساوس والهواجس، فكانت تندبهما تارة وتبكي مصيرهما حتى تشرف على التلف، وتهون على نفسها أمرهما تارة أخرى قائلة: إنها لم تفعل شيئا سوى أنها أبعدت العار عنها وعن أسرتها، فكان ما قدر الله أن يكون، وكانت تنقم أشد النقمة على الفقراء والمساكين كلما رأتهم في طريقها فتصيح: أما كان خيرا لهؤلاء الأشقياء أن يذهبوا إلى المستعمرات الإفريقية فيموتوا فيها ويريحونا من شرورهم وويلاتهم؟ ثم لا تلبث أن تشعر بالعطف عليهم والرثاء لهم، فتذهب إلى الكنيسة بمال كثير تضعه في صندوقها باسمهم، كأنما تظن أن الله، تعالى، يغفر لها جرائمها وآثامها بهذه الرشوة التي تقدمها إليه، وكانت لا تزال ترى في يقظتها ومنامها، وقومتها وقعدتها، وذهوبها وجيئتها، أشباحا مخيفة تلوح لها في وجهها، وتهددها أفظع تهديد وأهوله، فتركض هاربة منها، فتراها أمامها حيثما ذهبت، وأينما حلت، فتفزع إلى الكاهن تسأله أن يشفيها من دائها، وما داؤها إلا ذنوبها وآثامها التي أسلفتها، فما حيلة الكاهن فيها! وكانت كلما مر بخاطرها أن أقرباءها البعيدين الذين لا تحبهم ولا يحبونها سيرثونها من بعدها، اشتد ذلك عليها كثيرا، فخرجت إلى الطريق حاملة بدر الذهب في يدها فتنثرها على الناس نثرا، فرفع هؤلاء القوم أمرها إلى القضاء واتهموها بالجنون، ولم يزالوا بها حتى أرسلوها إلى المارستان، وسكنوا قصرها من بعدها، ووضعوا أيديهم على مالها، وكأن الله أراد أن يسقيها الكأس حتى ثمالتها فأبقى لها من الفهم والإدراك ما تستطيع به أن تعلم أن مالها الذي تعبت كثيرا في جمعه وتدبيره واقترفت كثيرا من الذنوب والآثام في سبيل الاحتفاظ به والحرص عليه يتمتع به في حياتها خصومها وأعداؤها، فنال ذلك منها منالا عظيما، ولم تلبث أن ماتت حاملة معها حسرتها إلى قبرها.
وكذلك ينتقم الله من الأشحاء الذين يضنون بمالهم على أصحاب الحق فيه بنقله إلى الأيدي التي لا تستحقه، سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير.
وصمت هنيهة، ثم ألقى نظرة عامة على ما يدور حوله وأنشأ يقول: سلام عليكم أيها القوم الأبرار، والملائكة الأطهار، لقد عشتم ما عشتم في هذه الدار وأنتم غرباء عنها، لا تعرفكم ولا تعرفونها، ولا تأنس بكم ولا تأنسون بها؛ لأنكم من عنصر غير عنصرها، وجوهر غير جوهرها، ثم رحلتم عنها كما جئتم إليها، لم يشعر بكم شاعر، ولم يحفل بأمركم حافل، فكنتم كحلم لذيذ ألم بالعيون الهاجعة ثم مضى لسبيله.
هذه آثاركم عافية، ودياركم خالية، ومساكنكم لا يأوي إليها غير الضب واليربوع، ولا يسمع فيها غير الزئير والعواء، فلا نور ولا نار، ولا روض ولا ماء، ولا ملعب ولا مرتع، ولا حديث ولا سمر، ولا عين ولا أثر، كأن وجودكم الدنيا بجمالها ولألائها، وكأن ذهابكم القيامة التي تزلزل كل شيء وتأتي على كل شيء.
سلام عليكم يا بني، لقد كنتم أنسي وحياتي، وسلوتي وعزائي، ومتعة نفسي وراحة ضميري، والروضة الأنف التي أقطف ما أشاء من أزهارها ورياحينها، وألجأ إلى ما أحب من ظلالها وأفيائها، أما اليوم فقد سمج وجه الدنيا في نظري وأصبح عبء الحياة ثقيلا على عاتقي، لا أستطيع احتماله ولا الاستقلال به.
سلام عليك أيها الولد الطيب الكريم الذي نشأ في تربة ساذجة بسيطة، فنشأ ساذجا بسيطا، لا ينال الناس بشر، ولا يعتقد في الناس شرا، ولا يضمر في نفسه إلا الوفاء والإخلاص، حتى لكلبه وشاته، والكوخ الذي يؤويه، والظل الذي يفيء عليه.
سلام عليك أيتها الفتاة الشريفة الطاهرة التي صيغ قلبها من الرحمة والشفقة، فبكت البائس والفقير، واليتيم الذي لا عائل له، والأرمل التي لا معين لها، بكاء صادقا لا تسمعه إلا أذن الليل، ولا ترعاه إلا عيون الكواكب، ولم يكن صدقها في أدبها وحيائها، بأقل من صدقها في رحمتها وإحسانها، ففرت من قارة إلى أخرى حياء من نفسها، ثم فرت من العالم بأجمعه ضنا بجسمها أن تلمسه يد منقذها.
سلام عليكما أيتها المرأتان الصابرتان اللتان علمتا ولديهما الفضيلة، وغذتاهما بلبانها، فكانتا خير الأمهات لخير الأبناء، واللتان لم تسخطا في حياتهما يوما واحدا ولم تنقما، ولم تشكوا لأحد غير خالقهما، على كثرة ما ألم بهما من المصائب ونالهما من الأرزاء، ثقة برحمة ربهما وإحسانه، وسكونا لقضائه وقدره، حتى خرجتا من دنياهما خروج السبيكة من البودقة طهارة وصفاء.
سلام عليكما أيها الزنجيان المخلصان اللذان حفظا الصنيعة من حيث لا يحفظها أحد، وشكراها من حيث لا يشكرها شاكر، ولم يحل سواد جلدهما وخشونة منبتهما، ووحشة نفسهما، من أن يحملا بين جوانحهما عواطف الود والإخاء التي لا يزال البيض في أوروبا ينشدونها في كل مكان على ألسنة كتابهم وشعرائهم، وخطبائهم ووعاظهم رجاء الوصول إليها، فلا يجدون إليها سبيلا.
سلام عليكم يا بني من والدكم الحزين الباكي الذي بليت عظامكم في قبرها ولم يبل ذكركم في قلبه، والذي ظل يختلف إلى واديكم عشرين عاما يندبكم ويبكيكم، ويسأل الله أن يلحقه بكم، فلا يستتب له ما يريد.
ثم تناول عصاه واعتمد عليها ونهض قائما كأنما يقتلع نفسه من الأرض اقتلاعا، وكأنما قد خطا نحو القبر عشر سنوات كاملة في تلك الساعات القليلة التي قضاها معي، فأصبح هامة اليوم أو غد، وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب، ولم يبق منها في دائرة الأفق إلا كما يبقى في جنبات الكأس من فضل الشراب، فألقى عليها نظرة هادئة مطمئنة، ثم مشى في طريقه بخطوات بطيئة، وأوصال مرتعدة، ودموعه تنحدر على خديه انحدار المزنة الهاطلة، فلبثت في مكاني أنظر إليه وقلبي يذوب رحمة به وإشفاقا عليه، حتى انحدر في بعض البطون وغاب عن نظري.
الفصل الثامن والعشرون
النهاية
عدت إلى منزلي الذي أنزله وحاولت أن آوي إلى مضجعي فنبا بي، وأن أستزير الغمض فامتنع علي، وأن أهدأ في مكاني ساعة واحدة فلم أستطع، وكان أكبر ما يشغلني وينفر النوم عن عيني حالة ذلك الشيخ المسكين، فقد هاجت تلك القصة التي قصها علي ألما دفينا في نفسه وشجنا كامنا، فاستحال في بعض ساعات إلى هيكل من العظم تتردد أنفاسه في صدره تردد الريح في جوانب الهيكل الخرب. وانصرف عني يمشي مشية الطائر المذبوح يجر شلوه جرا، وتمثل لي أنه الآن طريح فراشه في زاوية من زوايا كوخه، يكابد آلام المرض أو آلام النزع من حيث لا يعينه معين، ولا يرحمه راحم، فاشتد ذلك علي كثيرا، وشعرت بشعبة من شعب قلبي قد سقطت.
وما أصبح الصباح حتى عقدت العزم على زيارته في واديه على بعد الشقة بيني وبينه لأتفقد شأنه، وأقضي حق صحبته، فسلكت الطريق التي وصفها لي مرارا في حديثه، ولم أزل أصعد النجاد، وأهبط الوهاد، وأضل مرة وأهتدي أخرى، حتى أشرفت منزلق الشمس عن كبد السماء على كوخه المنفرد في ذلك الوادي الموحش، فانحدرت إليه، وكنت أرجو أن أراه واقفا على بابه، أو جالسا على مقربة منه، فلم يقع نظري على شيء، وكان السكون سائدا عميقا لا يسمع فيه السامع نأمة ولا حركة، كأنه سكون المقابر، اللهم إلا عصفورا صغيرا يغرد من حين إلى آخر تغريدة شجية مؤثرة، كأنما هو يوقع لحنا من الألحان المحزنة على نغم واحد، وميزان مطرد، فرفعت نظري إليه فإذا هو واقع على شجرة قصيرة منفردة أمام باب الكوخ ذكرت عند رؤيتها أنها الشجرة التي حدثني عنها أن فرجيني غرستها أمام كوخه منذ عهد بعيد، وأنه يحبها كثيرا ويأنس بها من أجلها، فدنوت منها، فراعني أن رأيت تحتها شبحا معفرا بالتراب، فتبينته فإذا هو الشيخ، فحركته فإذا هو ميت، فهالني الأمر وتعاظمني، وشعرت بقلبي يتمزق لوعة وأسى، وبنفسي تسيل رحمة وإشفاقا، وقلت: يا له من رجل مسكين! لقد مات ولا صديق يوسد رأسه أو يسبل أجفانه، ولا عين تبكي عليه غير عين ذلك العصفور الصغير الذي ينوح فوق رأسه. •••
ولم ينقض اليوم حتى دفناه تحت تلك الشجرة التي مات تحتها، والتي كان يحبها ويأنس بها، ثم انصرفنا.
ولا عين إلا وهي عين من البكا
ولا خد إلا للدموع به خد (انتهت)
بول وفرجيني
شعر
يا بني القفر سلام عاطر
من بني الدنيا عليكم وثناء
وسقى العارض من أكواخكم
معهد الصدق ومهد الأنقياء
كنتم خير بني الدنيا ومن
سعدوا فيها وماتوا سعداء
عشتم من فقركم في غبطة
ومن القلة في عيش رخاء
لا خصام، لا مراء بينكم
لا خداع، لا نفاق لا رياء
خلق بر وقلب طاهر
مثل كأس الخمر معنى وصفاء
ووفاء ثبت الحب به
وثبات الحب في الناس الوفاء
أصبحت قصتكم معتبرا
في البرايا وعزاء البؤساء
يجتلي الناظر فيها حكمة
لم يسطرها يراع الحكماء
حكم لم تقرءوا في كتبها
غير أن طالعتم صحف القضاء
وكتاب الكون فيه صحف
يقرأ الحكمة فيها العقلاء •••
إن عيش المرء في وحدته
خير عيش كافل خير هناء
فالورى شر وهم دائم
وشقاء ليس يحكيه شقاء
وفقير لغني حاسد
وغني يستذل الفقراء
وقوي لضعيف ظالم
وضعيف من قوي في عناء
في قضاء الأرض منأى عنهم
ونجاء منهم أي نجاء
إن عيش المرء فيهم ذلة
وحياة الذل والموت سواء •••
ليت «فرجيني» أطاعت «بولها»
وأنالته مناه في البقاء
ورثت للأدمع اللاتي جرت
من عيون ما درت كيف البكاء
لم يكن من رأيها فرقته
ساعة لكنه رأي القضاء
فارقته لم تكن عالمة
أن يوم الملتقى يوم اللقاء •••
ما «لفرجيني» و«باريس» أما
كان في القفر عن الدنيا غناء
إن هذا المال كأس مزجت
قطرة الصهباء فيه بدماء
لا ينال المرء منه جرعة
لم يكن في طيها داء عياء
عرضوا المجد عليها باهرا
يدهش الألباب حسنا ورواء
وأروها زخرف الدنيا وما
راق فيها من نعيم وثراء
فأبته وأبى الحب لها
نقض ما أبرمه عهد الإخاء
ودعاها الشوق للقفر وما
ضم من خير إليه وهناء
فغدت أهواؤها طائرة
بجناح الشوق يرجيها الرجاء
يأمل الإنسان ما يأمله
وقضاء الله في الكون وراء •••
ما لهذا الجو أمسى قاتما
ينذر الناس بويل وبلاء
ما لهذا البحر أضحى مائجا
كبناء شامخ فوق بناء
وكأن الفلك في أمواجه
ريشة تحملها كف الهواء
و«لفرجيني» يد مبسوطة
بدعاء حين لا يجدي دعاء •••
لهفي والماء يطفو فوقه
هيكل الحسن وتمثال الضياء
زهرة في الروض كانت غضة
تملأ الدنيا جمالا وبهاء
من يراها لا يراها خلقت
مثل خلق الناس من طين وماء
ظنت البحر سماء فهوت
لتباري فيه أملاك السماء
هكذا الدنيا وهذا منتهى
كل حي، ما لحي من بقاء
Página desconocida