لبثت تنتظر ردا على كتابها فلم يأتها، فأتبعته بآخر، ثم بآخر، وضرعت في ذلك ضراعة لم يكن مثلها مما يهون على مثلها لولا عاطفة الأمومة ورحمتها، حتى كانت سنة 1738 - أي بعد قدومها هنا باثني عشر عاما وبعد مرور ثلاث سنوات على قدوم مسيو «دي لابوردونيه» حاكما على الجزيرة - إذ علمت أن ذلك الرجل يسأل عنها ليسلمها كتابا ورد عليها من عمتها، فاستطيرت فرحا وسرورا، وعلمت أن أيام شقائها قد انتهت، وأن الله قد رحمها ورثى لبؤسها وشقائها، وهرعت إلى «بورلويس» لمقابلته، فدخلت عليه في ذلك الثوب البنغالي الخشن الذي اعتادت أن تلبسه في بيتها غير حافلة بشيء إلا بتلك السعادة التي ستقدمها عما قليل لابنتها، فاستقبلها الرجل استقبالا جافا خشنا، وهي المرأة الشريفة الطاهرة التي تغضي العيون بين يديها إجلالا وإكبارا، والبائسة المسكينة التي تهابها النفوس مرثاة لها ومرحمة لبؤسها وشقائها، ولم يزد على أن أومأ إليها برأسه إيماءة خفيفة، ثم تقدم نحوها بعظمة وكبرياء وأعطاها كتابها، فاختطفته من يده وأنشأت تقرؤه بلهفة وسرور، إلا أنها لم تقرأ منه بضعة أسطر حتى امتقع لونها، وارتعشت يدها، وترنحت في مكانها ترنج الشارب الثمل، فقد كتبت إليها عمتها تؤنبها وتقرعها تقريعا مؤلما مهينا، وتشمت بها وبمصيرها، وتقول لها هذا جزاء تمردك وعصيانك وخروجك عن أهلك وقومك، وانقيادك إلى شهوتك البهيمة واسترسالك فيها استرسالا دفع بك إلى أحضان ذلك الفتى الوضيع المهين الذي لا يليق به أن يحل سيور حذائك، حتى جلبت على نفسك وعلى أهلك العار الذي لا يمحى، ولقد أحسنت كل الإحسان بمغادرتك هذه البلاد وفرارك إلى تلك الجزيرة النائية المنقطعة لتدفني فيها نفسك وعارك إلى الأبد، وما موت زوجك، وولادة ابنتك، وشقاء عيشك، والوساوس التي تعتلج في صدرك خوفا على فتاتك وعلى مستقبلها، إلا عقوبة أنزلها الله بك ليمحص عنك ذونبك ويمهد لك سبيل غفران سيئاتك، فاصبري لها ولا تجزعي حتى يقضي الله قضاءه فيك.
ثم أنشأت تدل عليها بنفسها وتفاخرها بعفتها وطهارتها وترفعها وإبائها، وأنها قضت أيام حياتها عانسا متبتلة ما تزلق بها شهوتها في هوة من تلك الهوى التي تزلق فيها أقدام النساء الجاهلات، ولا تسلم قيادها إلى رجل من الرجال - كائنا من كان - ضنا بحريتها أن تعبث بها أيدي المطامع والأهواء.
وكانت كاذبة فيما تقول، فهي امرأة دميمة شوهاء، غريبة الأخلاق والأطوار، ليس لها من المزايا إلا ثروتها الطائلة، وجاهها الواسع، ومكانتها من البلاط الملكي، وكان كبرياؤها الكاذب يأبى عيها إلا أن تتزوج من رجل من ذوي البيوتات العظيمة والألقاب الضخمة، وليس بين هؤلاء جميعا من يرضى أن يبيعها نفسه بيعا مهما بلغ من رقة الحال، وشظف العيش، ولم يزل هذا شأنها حتى تجاوزت سن الزواج وضاعت بين سخافتها وكبريائها.
ثم ختمت كتابها بقولها: «لا بد لك أن تعملي لنفسك، فقد علمت أنك في جزيرة صالحة للعمل والاستثمار، وأن جميع المهاجرين الذين يؤمونها يعودون منها بالثروة الطائلة والربح الكثير، على أنني قد كتبت إلى مسيو دي لابوردونيه حاكم الجزيرة أوصيه بك خيرا، فاعتمدي عليه وعلى معونته ولا تكتبي إلي بعد اليوم.»
وكانت صادقة في كلمتها هذه، فإنها كتبت إلى ذلك الرجل كتابا توصيه بها فيه، إلا أنها ملأته بذمها وثلبها، والاستطالة عليها في عرضها وشرفها، كأنها تلتمس لنفسها عذرا عنده في قسوتها عليها، وعنفها بها، وضنها عليها بالمعونة والمساعدة.
فكان من أثر ذلك في نفسه أن ازدراها واحتقرها، وتجهم لها حين رآها، ثم ودعها بمثل ما استقبلها به، لم يسألها عن شأن من شئونها، ولم يمنحها غير وعود كاذبة كان ينطق بها بلهجة جافة خشنة مملوءة ضجرا ومللا، فكأنما أوصته بقتلها والقضاء عليها.
الفصل السابع
العزاء
عادت هيلين إلى المزرعة ونفسها تسيل لوعة وأسى، فما بلغت كوخها حتى ألقت بالكتاب على المنضدة وتهافتت على سريرها باكية منتحبة، فهرعت إليها صديقتها تسألها ما شأنها، فأشارت إلى الكتاب وقالت ها هي ذي خلاصة حياتي من أولها إلى آخرها. ولم تكن مرغريت تحسن القراءة فأتتها بالكتاب فأنشأت تقرؤه عليها وفؤادها يتمزق لوعة وأسى، فقاطعتها مرغريت وأقبلت عليها تقول لها: متى تخلى الله عنا يا هيلين فنلجأ إلى الناس في شئوننا، ونعتمد عليهم في رزقنا، ونحن أغنياء عنهم بما هيأ الله لنا من القوت في هذه الجنة الصغيرة التي نعيش فيها، فما فينا من يشكو جوعا أو عطشا، ولا من يمشي عاريا أو حافيا، ولا من يبيت مغتما أو محزونا، فروحي عن نفسك، فالله أرحم بك وبنا من الأقارب والأصدقاء، ثم عجزت عن امتلاك نفسها ومتابعة حديثها، فاختنق صوتها بالبكاء فتهافتت هيلين على عنقها وضمتها إلى نفسها وظلت تقول لها: آه يا صديقتي! آه يا صديقتي!
وكانت فرجيني واقفة بجانبهما، فأثر في نفسها هذا المنظر المحزن، فاستعبرت باكية، وظلت تتناول يد أمها مرة ويد مرغريت أخرى فتقبلهما وتبللهما بدموعها، وتقول لهما: أرجو ألا يكون ذلك من أجلي! فبكى لبكائها الزنجيان، وكانا واقفين عند الباب واشتد نحيبهما ونشيجهما، أما بول فقد عصفت في رأسه عاصفة الغضب وظل يضرب الأرض بقدميه ويشير بيديه متهددا متوعدا لا يعلم من يهدد ولا من يتوعد، ولا على أي رأس من الرءوس يرسل صاعقة غضبه؛ لأنه لم يفهم مما كان شيئا، فكان هذا المأتم الغريب في تلك الساعة الرهيبة مظهرا من مظاهر الإخلاص والولاء بين قوم جمعتهم جامعة البؤس والشقاء، ووحدت بين قلوبهم الهموم والآلآم، وما اجتمعت القلوب على شيء هو أجمع لشملها وأوثق لرباطها من اجتماعها حول مواقف الهموم والأحزان، فسري عن هيلين قليلا، وضمت بول وفرجيني إلى صدرها وقالت لهما: إنكما وإن كنتما يا ولدي سبب أحزاني وآلامي ولكن الشقاء لم يأتني منكما. فلم يفهما شيئا مما تقول، ولكنهما علما أنها قد هدأت وسكنت، وأنها تبتسم لهما، فاعتنقاها وقبلاها.
Página desconocida