وكان صاعد، من رجالات الناس حزمًا وضبطًا وكفاية وكرمًا ونبلًا. وكان كثير الصدقات والصلوات ليلًا ونهارًا. وكان في أيام وزارته للموفق، يركب إلى دار الموفق، فيقيم بحضرته أربع ساعات ثم ينصرف إلى منزله، فينظر في حوائج الناس وأمور الحاضر والغائب إلى الظهر، ثم يتغدى وينام، ثم يجلس بالعشي فينظر في الأعمال السلطانية إلى عشاء الآخرة، لا يبرح أو يحصل جميع الأموال ما حمل منا وما أنفق وما بقي. ويعمل له بذلك عملًا في كل يوم ويعرض عليه، وما يخفى عنه شيء مما يجري في الأعمال كل يوم. ثم يأمر في أمر ضياعه وأسبابه، ويتقدم إلى وكلائه وخاصته بما يحتاج إليه. ثم يتشاغل بعد ذلك مع نديم يتشاغل بحديثه ويأنس به. ثم ينام، ويقوم في آخر الليل فلا يزال يصلي إلى طلوع الفجر، ثم يأذن للناس فيسلمون عليه، ثم يركب إلى دار الموفق.
قال: ولما انصرف صاعد من فارس، شكا إليه الموفق أمر عمرو بن الليث وقلة الأموال وما يحتاج إليه لانهاض العسكر. والتمس منه احتيال مال يخرج به راشدًا إلى الصفار. فقال والله ما لي حيلة أكثر من حظر النفقات ومنع المرتزقين. فقال الموفق: أين يقع ذلك مما أحتاج؟ والذي أريد أن تأخذ من التجار قرضًا وتوظف عليهم وعليك وعلى الكتاب والعمال مالًا نستعين به على إخراج راشد. فإذا اتسعنا رددناه عليهم. فاستوحش صاعد من ذلك وأراد إعمال الحيلة في التباعد عنه. فقال: أما بواسط، فلا يتهيأ لي. ولكن إن أذن لي الأمير في المصير إلى مدينة السلام، رجوت أن أحتال على ما يريد. فقال: إعزم على ذلك. وكتب إلى أبي العباس ابنه بالقبض على ما لصاعد بسر من رأى وبغداد وجميع أسبابه.
قال إسحق بن إبراهيم الكاتب: فرأيت صاعدًا في اليوم الذي قبض عليه فيه متثاقلًا عن المصير إلى الموفق. فلم أزل به إلى أن قعد في الطيار وهو على غاية الكراهة، ووصل إلى حضرة الموفق، وقد واقف الموفق راشدًا أن يسير إلى دار صاعد عند حصوله بين يديه، فيقبض على ما فيها وعلى ابنه وأسبابه. فلما رأى صاعد عند مسيره الجيش على الجسر، قال: ما هذا، أعز الله الأمير؟ قال: استأذنني راشد في عرض رجاله الذين يخرجون معه إلى فارس، وقد مضى لعرضهم. قال فأقوم وأمضي نحوهم واحضر عرض الجمال معه. قال: إفعل. فوثب صاعد ليمضي، فعدل به إلى الحجرة التي أعدت له، ووكل به، وقبض على ما كان له بواسط، وعلى عبدون أخيه وجميع أموالهما في يوم واحد. وحصل مما قبض عنه وعن أخيه وابنه من الضياع ما مقدار ارتفاعه ألف ألف دينار. ووجد لهم من المتاع والكسوة والطيب والجوهر والفرش والآلات ما لا قيمة له كثرةً، ونحو أربعة آلاف رأس من الدواب والبغال، وأربعة آلاف غلام بين فحل وخادم. ولم يوجد له ما ظهر من المال إلا نحو مائتي ألف دينار. ثم وضع يده في كشف أموالهم وودائعهم ومصادارت أسبابهم، فكان ذلك أمرًا عظيمًا.
ولم يزل محبوسًا إلى سنة خمس وتسعين ومائتين، ثم نقل إلى دار ابن طاهر، فمات هناك من خلفة أصابته. فدفن بإزاء الدار المعروفة به.
ومات أخوه عبدون، وهو مترهب بدير قنى، في سنة عشر وثلثمائة.
عمر كسكر
وهو أسفل من واسط، في الجانب الشرقي منها، بالقرية المعروفة ببرجوني. وفيه كرسي المطران. وهو عمر كبير عظيم حسن البناء محكم الصنعة. حوله قلايات كثيرة، كل قلاية منها لراهب، وسبيلها سبيل القلايات التي بدير قنى. ويحيط بالموضع بساتين كثيرة فيها الشجر والنخل وسائر الثمار. فكل ذي ظرف يطرقه وكل ذي شجن يسلى به.
ولمحمد بن حازم فيه، وكان قصده أيام مقام الحسن بن سهل بواسط، ومدح الحسن بن سهل، وله معه حديث نذكره بعقب الشعر:
بعمر كسكر طاب اللهو والطرب ... واليادكارات والأدوار والنخب
وفتيةٍ بذلوا للكأس أنفسهم ... وأوجبوا لرضيع الكأس ما يجب
وأنفقوا في سبيل القصف ما وجدوا ... وانهبوا ما لهم فيها وما اكتسبوا
محافظين إن استنجدتهم دفعوا ... وأسخياء إن استوهبتهم وهبوا
نادمت منهم كرامًا سادة نجبًا ... مهذّبين نمتهم سادةٌ نجب
فلم نزل في رياض العمر نعمرها ... قصفًا وتغمرنا اللذات والطرب
والزهر يضحك والأنواء باكيةٌ ... والناي يسعد والأوتار تصطخب
1 / 66