لقد راعني للبين صوت حمامةٍ ... على غصن بانٍ جاوبتها حمائم
فقال لي المعتز: كيف تسمع؟ قلت: أسمع شيئًا حظ العجب منه أكثر من حد الطرب. فاستحسن هذا الكلام مني. ثم أسمعني زمر زنام الزامر، وقد ضعف وأرعش وأزمنه النقرس. وأراني الآلة التي عملها أحمد بن موسى المهندس من صفر يرسل فيها الماء فيسمع لها زمر السرناي. ثم أدخلني إلى شباك، وأمر أن يجمع بين السبع والفيل، فرأيتهما كيف يتواثبان، ثم قال لي: أذكر أني أريتك اليوم أشياء طريفة. قلت: نعم يا سيدي. قال: أيها أظرف عندك؟ قلت: غناء شارية. فقال لي: صدقت! قال جحظة: دخلت على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يومًا، فجاءه مشيخة، فأمرهم بالجلوس عن يمينه. وجاء كهول، فأمرهم بالجلوس عن شماله. ودخل أحداث فوقفوا بين يديه ولم يأمرهم بالجلوس. فسألته عنهم، فقال: هؤلاء بني، وأومأ إلى الشيوخ، وهؤلاء بنوهم وأومأ إلى الكهول، وهؤلاء بنوهم وأومأ إلى الأحداث. قلت: بنوك لأم أو لأمهات شنى؟ قال: أم جميعهم شاجي، وأنشد:
زرعت وشاجي بيننا في شبيبتي ... غراس الهوى فاعتم بالثمر العذب
فشاب بنو شاجي لظهري وأدركوا ... وشاب بنوهم وهي مالكة قلبي
قال: وهي معي مذ سبعون سنة. وكان بعض المنجمين حكم بموته قبلها، فماتت قبله، فقال:
فيا عجبًا مني وممن رعيته ... بأوكد أسباب الهوى ورعاني
وكنت أُرجّي أن أكون فداءه ... فلما أتى وقت الحمام فداني
وذكر ابن قدامة قال: حضرت جنازة شاجي، فلما انصرفنا، دخلت مع عبيد الله مساعدًا له ومؤنسًا، وهو مطرق ودموعه تجري على خديه، فلم أر باكيًا أحسن منه. ثم رفع رأسه وأقبل علينا، فقال:
يمينًا بأني لو بليت بفقدها ... وبي نبض عرقٍ للحياة وللنكس
لأوشكت قتل النفس عند فراقها ... ولكنها مات وقد ذهبت نفسي
قال: ثم حضرت معه لزيارة قبرها، فلما هم بالانصراف، قال:
من زار دار أحبةٍ لحياتهم ... ولما يؤمّل من لقاء يقدر
فليأت دار أحبةٍ سكنوا البلى ... كرمًا وحفظًا واللقاء المحشر
قال: ومات ابن لعبيد الله من شاجي، فزار قبره، ثم أنشد:
أيا مجمع الأحباب بعد تفرقٍ ... أراك قريبًا والتلاقي شاسعا
فيا عجبًا أني أزورك مكرهًا ... وفيك الأُلى أهوى وأجفوك طائعا
قال الصولي: لما ماتت شاجي، جزع عليها عبيد الله الجزع الذي لم ير مثله. فرثاها جماعة من الأدباء، ورثاها عبيد الله بعدة قصائد. فكان أحسن ما مر بي في ذلك، رسالة لعبد الله بن المعتز إليه وجوابها من عبيد الله بن عبد الله. وكانت نسخة التعزية: اتصل بي، أعزك الله، خبر المصيبة. فوالله لقد أشركني الهم بها معك، وألمني منها ما ألمك. فصبرًا يا أخي على حكم القدر، ونهضًا من عثرة الجزع، وثباتًا للمحنة، وشكرًا لمفيد النعمة بتقديم الحرم وتحصيل الأجر على حسن الصبر وإن كانت:
جليلة حظٍ من عفاف ومن تُقىً ... وقمريّةً في ذروة الغصن تسجع
تولت ولو لم تطعم الأرض غيرها ... كفتها ولكن لا أرى الأرض تشبع
وقد أطال لله إمتاعك بها منذ وهبها لك، وجعل فقده لمثوبتك التي هي أكبر منها إذ ارتجعها منك. ومثلك، أيدك الله، لا يحض على حفظ دينه، لأنك تعلمه وترغب فيه وتسارع إليه. لكن المصائب ربما عصفت بالجازع حتى يذكر أو يذكر، فيراجع الرضا بحكم من لا يجور، ويسبق الصبر على المصيبة مختارًا، للسلوة التي لا بد من أن يصير إليها اضطرارًا. ورب خيرة مرة، وحميد في مكروه، وهو الدهر الذي نعرفه ولا تؤتى من غرةٍ به. هذه سجيته وبهذا تقدمت سيرته كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ولولا علة عائقة عن لقائك، أعزك الله، لصرت إليك بدلًا من كل كتاب ورسول، وقضيت بذلك حقك ورأيته من واجبك. ورب حاضر لم يحضر وده، وغائب لم يغب غمه عنا. وأعظم الله أجرك، وأجزل ثوابك، ودل على سبيل العزاء قلبك، وكفاك مكارهك، ووفقك لما يوافقك، ورحم التي توفيت، وجعل ما اتصلت به من الآخرة خيرًا مما انقطعت عنه من الدنيا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
1 / 25