فغنيته، فشرب رطلًا، ونقر الستارة وقال: غنوه! فغني الصوت أحسن غناء في الدنيا، وخلت أن البيت يرقص! فقال لي: كيف ترى؟ قلت: قد والله، يا مولاي، بغضوا إلي هذا الصوت وسمجوه في عيني. فضحك واستعادنيه ثلاث دفعات، يشرب في كل دفعة منها رطلًا. ثم قال: أتعرفني؟ قلت: لا! قال: أنا إسحق بن إبراهيم، وهذا محمد بن راشد الخناق. ووالله، لئن ظهر حديث هذا المجلس منك، لأضربنك ثلثمائة سوط! قم إذا شئت! فقمت من بين يديه، فلحقني الغلام بصرة فيها ثلثمائة دينار، فاجتهدت أن يأخذ منها شيئًا، فأبى! وذكر عمرو بن بانة، قال: وجه إلي إسحق بن إبراهيم في آخر النهار، فصرت إلى داره وأدخلت عليه، وهو جالس في طارمةٍ ملبسة بالخز، على دجلة، وقد انبسط القمر على الروشن وعلى دجلة، وهو من أحسن منظر رأيت قط! والمعينون جميعًا بين يديه، وبذل جالسة وراء مقطع في الطارمة. فلم يزل جالسًا بموضعه، ونحن في يديه، إلى أن نودي بالفجر فقام وقمنا. وقال لنا الغلمان: انصرفوا! فنزلنا إلى الشط، ودعونا بسميرية، فجلسنا جميعًا، وقلت لهم: إن منزلي أقرب من منازلكم، فاجعلوا مقامكم اليوم عندي، ففعلوا. وحصلنا في المنزل، فطلبت فيه شيئًا يؤكل، فلم أجد! فأمرت بإحضار المائدة، فأحضرت فارغة، وطرحت في وسطها مائة درهم صحاحًا وقلت: يوجه كل واحد منكم، فيشتري له ما يريد. فما كان بأسرع من أن امتلأت بكل شيء! فأكلنا وشربنا، ومر لنا يوم طيب، وتفرقنا آخر النهار، وفي قلوبنا غصص مما فعله بنا إسحق، وما فاتنا من تلك الليلة الحسنة في ذلك الموضع الحسن! فمضيت بعد ذلك إلى بذل، وسألتها عن السبب فيما فعله، فقالت: قد سألته عن ذلك، فقال: ويحك! أنا أشتهي الشرب في مثل هذه الليلة منذ سنة، وأدافع نفسي به، فلما حصل لي جميع ما أريده وأشتهيه، أردت أن أري نفسي سلطاني عليها وقهري لها ومنعها مما تحبه، لئلا تقودني إلى ما تريد، ففعلت ما رأيت.
وكان مع ذلك حسن المروءة، كريم النفس. فذكر أبو حشيشة، قال: دعاني في بعض الأيام، فصرت إليه وجلست أغنيه، وعليه دراعة خز خضراء لم أر أحسن منها قط. فجعلت أنظر إليها، وفطن بنظري، فدعا بالخازن وقال: كانوا جاؤونا منذ أيام بعشرة أثواب خز خضر، هذا أحدها، فجئني ببقيتها. فأحضر تسعة أثواب، يتجاوز حسنها كل وصف، فأعطانيها، فبعت من رذالها الثوب بمائة دينار! وقال: طرق أحمد بن يوسف الكاتب، إسحق بن إبراهيم، فقدم إليه كل شيء حسن من الأطعمة والآلة، وضربت الستائر، وأحضرت الفواكه والنبيذ، ومر يوم لم يكن مثله. ثم سأل أحمد أن يكون عنده من الغد، فقال أحمد: يفوتني الصيد. فأحضر جارية وغلامًا وفرسًا لم ير أحسن منهم، وقال: هذا صيدك غدًا. ثم تصنع له من الغد، فرأى أحمد شيئًا لم ير مثله قط.
وقال له إسحق: أمس كان فتوة، واليوم مروة.
وكان المأمون يصير إلى داره، فيقيم عنده الأيام هو وغلمانه وحشمه أنسًا به وثقة بمكانه.
واجتازت يومًا زبيدة في دجلة في حراقتها، فصعدت إلى دار إسحق لبعض حاجتها، فعرض عليها إسحق الطعام، فأمرت بإحضاره، فعجبت مما رأت ومما قدم. وقالت: والله ما كانت بي حاجة إليه، وإنما أردت أن أختبر مروءته، فوجدته أتم الناس مروءةً، هذا من غير تصنع لي ولا علم بمجيئي.
دير أشموني
وأشموني، امرأة بني الدير على اسمها، ودفنت فيه. وهو بقطربل، غربي دجلة. وعيده اليوم الثالث من تشرين الأول، وهو من الأيام العظيمة ببغداد، يجتمع أهلها إليه كاجتماعهم إلى بعض أعيادهم، ولا يبقى أحد من أهل التطرب واللعب إلا خرج إليه، فمنهم في الطيارات ومنهم في الزبازب والسميريات، كل إنسان بحسب قدرته. ويتنافسون فيما يظهرونه هنالك من زيهم، ويباهون بما يعدونه لقصفهم، ويعمرون شطه وأكنافه وديره وحاناته. ويضرب لذوي البسطة منهم الخيم والفساطيط، وتعزف عليهم القيان. فيظل كل إنسان منهم مشغولًا بأمره، ومكبًا على لهوه؛ فهو أعجب منظر وأطيب مشهد وأحسنه! وهناك أيضًا دير يسمى دير الجرجوث وحوله بساتين ومزارع، ومن ضاق به دير أشموني، عدل إليه.
1 / 10