Estudios sobre la Muqaddima de Ibn Jaldún
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
Géneros
إن رأي ابن خلدون في هذا الصدد يظهر بوضوح أعظم وجلاء أتم من فقرة كتبها في فصل «الحرب ومذاهب الأمم في ترتيبها»؛ لأنه قال في الفصل المذكور عندما استعرض أسباب الغلب في الحروب: «إذا كان في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم، وفي الجانب الآخر عصائب متعددة»، فالجانب الذي تكون «عصابته متعددة لا يستطيع أن يقاوم الجانب الذي عصبته واحدة»؛ لأن «العصائب إذا كانت متعددة؛ يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية، تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحد» (ص278). (7)
رأينا مما تقدم أن ابن خلدون فسر العصبية أولا برابطة القرابة والنسب، ثم وسعها إلى الولاء والحلف.
غير أنه لم يكتف بذلك أيضا، بل وسع مفهوم العصبية أكثر من ذلك، وشملها إلى الرق والاصطناع، وقد قال: «إذا اصطنع أهل العصبية قوما من غير نسبهم، أو استرقوا العبدان والموالي والتحموا به؛ ضرب معهم أولئك الموالي المصطنعون بنسبهم في تلك العصبية، ولبسوا جلدتها كأنها عصبيتهم، وحصل لهم من الانتظام في العصبية مساهمة في نسبها» (ص135).
كما أنه قال: «إن المصطنعين في الدول يتفاوتون بالالتحام بصاحب الدولة، يتفاوت قديمهم وحديثهم في الالتحام بصاحبها، والسبب في ذلك أن المقصود من العصبية من المدافعة والمغالبة إنما يتم بالنسب لأجل التناصر في ذوي الأرحام والقربى، والتخاذل في الأجانب البعداء كما قدمناه. والولاية والمخالطة بالرق أو بالتحالف تتنزل منزلة ذلك؛ لأن أمر النسب وإن كان طبيعيا فإنما هو وهمي، والمعنى الذي كان به الالتحام إنما هو العشرة والمدافعة وطول الممارسة والصحبة بالمربى والرضاع وسائر أحوال الموت والحياة. وإذا حصل الالتحام بذلك جاءت النعرة والتناصر، وهذا مشاهد بين الناس.» «واعتبر مثله في الاصطناع؛ فإنه يحدث بين المصطنع وبين من اصطنعه نسبة خاصة من الوصلة، فتنزل هذه المنزلة وتؤكد اللحمة، وإن لم يكن نسب فثمرات النسب موجودة.» «فإذا كانت هذه الولاية بين القبيل وبين أوليائهم قبل حصول الملك لهم، كانت عروقها أوشج، وعقائدها أصح، ونسبها أصرح؛ لوجهين:
أحدهما:
أنهم قبل الملك أسوة في حالهم، فلا يتميز النسب عن الولاية إلا عند الأقل منهم، فيتنزلون منهم منزلة ذوي قرابتهم وأهل أرحامهم». وأما إذا «اصطنعوهم بعد الملك؛ كانت مرتبة الملك مميزة للسيد عن المولى، ولأهل القرابة عن أهل الولاية والاصطناع؛ لما تقتضيه أحوال الرئاسة والملك من تميز الرتب وتفاوتها. فتتميز حالتهم، ويتنزلون منزلة الأجانب، ويكون الالتحام بينهم أضعف، والتناصر لذلك أبعد، وذلك أنقص من الاصطناع قبل الملك.
الوجه الثاني:
أن الاصطناع قبل الملك يبعد عهده عن أهل الدولة بطول الزمان، ويخفي شأن تلك اللحمة، ويظن بها في الأكثر النسب، فيقوى حال العصبية. وأما بعد الملك فيقرب العهد، ويستوي في معرفته الأكثر، فتتبين اللحمة، وتتميز عن النسب؛ فتضعف العصبية بالنسبة إلى الولاية التي كانت قبل الدولة» (ص184). (8)
رأينا فيما سبق أن ابن خلدون قد اعتبر العصبية من خصائص البادية، وصرح بأن الحياة الحضرية تؤدي إلى دثور العصبية وتلاشيها، مع كل هذا فإنه لم يغفل عن وجود العصبية في الأمصار أيضا، وعنون أحد فصول الباب الرابع بالعنوان التالي: «وجود العصبية في الأمصار، وتغلب بعضهم على بعض» (ص377).
يبدأ هذا الفصل بالعبارة التالية: «من البين أن الالتحام والاتصال موجود في طباع البشر، وإن لم يكونوا أهل نسب واحد، إلا أنه - كما قدمناه - أضعف مما يكون بالنسب.»
Página desconocida