كلمة المؤلف
توطئة
المدخل الأول: على هامش المقدمة
جولة بين التاريخ والمؤرخين
المدخل الثاني: حول مؤلف المقدمة
مؤلف المقدمة
أسرة ابن خلدون
عصر ابن خلدون
حياة ابن خلدون
آثار ابن خلدون
القسم الأول: نظرات وملاحظات عامة
أبحاث المقدمة
تاريخ كتابة المقدمة
طرافة المقدمة وتأثيرها
لغة المقدمة
كلمة العرب
القسم الثاني: مكانة ابن خلدون في تاريخ فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع
ابن خلدون وفلسفة التاريخ
ابن خلدون وفيكو
ابن خلدون ومونتسكيو
ابن خلدون وعلم الاجتماع
المذاهب الأساسية في علم الاجتماع
مقدمة ابن خلدون في نظر علماء الغرب
القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته
نظرة عامة إلى أساليب عرض الآراء
موضوع التاريخ ومهمة المؤرخ
طبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم
القسر الاجتماعي والتقليد
التطور التدريجي في الطبيعة والمجتمعات
طبائع الأمم وسجاياها
نظرية العصبية
الدولة وتطوراتها
الحروب
النفس الإنسانية
التربية والتعليم
التفكير والإيمان
الخط والكتابة
المدن والأمصار
الحياة الاقتصادية
التشبيهات المادية
تكملة
حول نسب ابن خلدون
نقد كتاب فلسفة ابن خلدون الاجتماعية
أخطاء في نقل وتلخيص الآراء
أقسى الأحكام على مقدمة ابن خلدون
حول ابن خلدون وأوكوست كونت
أسلوب المقدمة ومفرداتها اللغوية
اكتشاف ابن خلدون في البلاد الأوروبية
تأثير ابن خلدون في مؤرخي الأتراك ومفكريهم
نقد كتاب البروفسور غاستون بوتول
حول فقرة في مقدمة ابن خلدون
ما كتبه العرب المعاصرون عن ابن خلدون
رجاء هام من باحثي المخطوطات
تصنيف المباحث حسب تواريخ نشرها
كلمة المؤلف
توطئة
المدخل الأول: على هامش المقدمة
جولة بين التاريخ والمؤرخين
المدخل الثاني: حول مؤلف المقدمة
مؤلف المقدمة
أسرة ابن خلدون
عصر ابن خلدون
حياة ابن خلدون
آثار ابن خلدون
القسم الأول: نظرات وملاحظات عامة
أبحاث المقدمة
تاريخ كتابة المقدمة
طرافة المقدمة وتأثيرها
لغة المقدمة
كلمة العرب
القسم الثاني: مكانة ابن خلدون في تاريخ فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع
ابن خلدون وفلسفة التاريخ
ابن خلدون وفيكو
ابن خلدون ومونتسكيو
ابن خلدون وعلم الاجتماع
المذاهب الأساسية في علم الاجتماع
مقدمة ابن خلدون في نظر علماء الغرب
القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته
نظرة عامة إلى أساليب عرض الآراء
موضوع التاريخ ومهمة المؤرخ
طبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم
القسر الاجتماعي والتقليد
التطور التدريجي في الطبيعة والمجتمعات
طبائع الأمم وسجاياها
نظرية العصبية
الدولة وتطوراتها
الحروب
النفس الإنسانية
التربية والتعليم
التفكير والإيمان
الخط والكتابة
المدن والأمصار
الحياة الاقتصادية
التشبيهات المادية
تكملة
حول نسب ابن خلدون
نقد كتاب فلسفة ابن خلدون الاجتماعية
أخطاء في نقل وتلخيص الآراء
أقسى الأحكام على مقدمة ابن خلدون
حول ابن خلدون وأوكوست كونت
أسلوب المقدمة ومفرداتها اللغوية
اكتشاف ابن خلدون في البلاد الأوروبية
تأثير ابن خلدون في مؤرخي الأتراك ومفكريهم
نقد كتاب البروفسور غاستون بوتول
حول فقرة في مقدمة ابن خلدون
ما كتبه العرب المعاصرون عن ابن خلدون
رجاء هام من باحثي المخطوطات
تصنيف المباحث حسب تواريخ نشرها
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
تأليف
ساطع الحصري
كلمة المؤلف
هذا الكتاب يضم بين دفتيه جميع دراساتي عن مقدمة ابن خلدون؛ ما كان نشر منها سنة 1943، وما نشر سنة 1944، وما لم يسبق نشره قبلا.
عندما نشرت الجزء الأول من هذه الدراسات، كنت صدرته بكلمة تشير إلى ظروفها وتوضح أغراضها، رأيت من الضروري أن أعيد نشرها عينا في مستهل هذا الكتاب أيضا:
إن كتابة دراسة مفصلة عن مقدمة ابن خلدون كانت من أعز الأماني التي لم أنقطع عن التفكير بها، وعن العمل لإعداد وسائلها منذ مدة غير يسيرة.
إنها كانت من جملة المشاريع الفكرية التي وضعتها لنفسي، بغية إنجازها في الوقت الذي أتخلص فيه من أعباء الأعمال الرسمية، وأتفرغ إلى الدرس والتأليف في المسائل التربوية والاجتماعية.
إن ظروف السنة الأخيرة قد رفعت عن عاتقي أعباء الأعمال الرسمية، فمنحتني الوقت اللازم لتحقيق هذا المشروع، غير أنها - في الوقت نفسه - أبعدتني عن كتبي وأوراقي، فحرمتني من وسائل تحقيق أمنيتي بالإحاطة التي كنت أستعد لها، والدقة التي كنت أتوخاها.
ومع هذا، فقد رأيت أن أشغل أوقاتي بكتابة بعض الدراسات عن مقدمة ابن خلدون، بقدر ما تسمح لي الذاكرة من جهة، وبقدر ما تساعدني المراجع التي أستطيع الحصول عليها في ظروفي الحالية من جهة أخرى، آملا أن تكون هذه الدراسات ممهدة للدراسة التامة التي لا أزال أمني النفس بها.
فمن أجل ذلك أقدمت على كتابة هذه الدراسات على شكل مقالات متفرقة.
ولما تجمعت لدي هذه الكمية منها رأيت أن أنشرها؛ لاعتقادي بأنها ستكون مفيدة في حالتها الحاضرة أيضا.
وإذا سمحت لي الظروف - في المستقبل - لاستئناف العمل فيها، وإدماجها في الدراسة التامة التي ذكرتها؛ فسأكون مغتبطا بإكمال المشروع الذي كنت قد وضعت خططه منذ سنين عديدة.
وإلا فسأكون قد قدمت «بعض النماذج» و«بعض الخطط» لدراسات علمية عن مقدمة ابن خلدون، يستطيع أن يستفيد منها كل من يقدم على مطالعة المقدمة بإمعان، كما يستطيع أن ينسج على منوالها ويقوم على إتمامها كل من يريد التوسع والتعمق في دراسة هذه المقدمة الخالدة دراسة علمية شاملة.
وحسبي هذا خدمة لذكرى مؤلفها العظيم.
بيروت، 20 كانون الأول 1942
إن الظروف التي تلت كتابة هذه الكلمة لم تسمح لي بالإقدام على الدراسة التامة التي كنت أمني النفس بها، ولكنها ساعدتني على مواصلة الأبحاث وكتابة الدراسات، ولو بصورة متفرقة ومتقطعة:
خلال سنة 1943 اشتغلت بالإشراف على طبع الجزء الأول من الدراسات من ناحية، وبكتابة بعض الدراسات الجديدة من ناحية أخرى.
وفي سنة 1944 قدمت إلى المطبعة الدراسات التي كونت الجزء الثاني، وشرعت في كتابة دراسات أخرى؛ بغية إعداد الجزء الثالث منها.
ولكن قبل الانتهاء من ذلك وجدت نفسي أمام ظروف وواجبات جديدة، ألقت على عاتقي سلسلة مهام - أولا في سوريا ثم في مصر - استأثرت بكل جهودي وأوقاتي، فأبعدتني عن مقدمة ابن خلدون، ولم تسمح لي بالعودة إلى دراستها إلا منذ أوائل السنة الماضية.
ولما كانت نسخ الجزأين المطبوعين قبلا قد نفدت منذ مدة طويلة، رأيت أن أضم تلك الدراسات إلى دراساتي الجديدة في كتاب واحد، مع إعادة النظر في ترتيبها وتبويبها حسب ما يقتضيه هذا الضم والتوحيد.
وفي ختام الكلمة أود أن أصرح بأن مجموعة الدراسات التي أقدمها في هذا الكتاب لا تزال في حالة مقالات مستقلة، تناولت كل واحدة منها دراسة المقدمة من ناحية خاصة، وهي لا تزال في حالة خطط ونماذج لدراسات علمية عن مقدمة ابن خلدون، «يستطيع أن يستفيد منها كل من يقدم على دراسة المقدمة بإمعان، كما يستطيع أن ينسج على منوالها ويقدم على إتمامها كل من يريد التوسع والتعمق في دراسة هذه المقدمة الخالدة دراسة علمية شاملة»، كما قلت ذلك عند نشر المجموعة الأولى من هذه الدراسات.
أبو خلدون
ساطع الحصري
القاهرة، 3 تشرين الثاني 1952
اللوحة 1: ابن خلدون كما تخيله جبران خليل جبران.
اللوحة 2: ابن خلدون كما تخيله رسام آخر.
الدار التي ولد فيها ابن خلدون.
تشغلها الآن المدرسة الإدارية.
اللوحة 3.
المسيد الذي درس فيه ابن خلدون عندما كان صغيرا.
يعرف باسم مسيد القبة.
اللوحة 4.
توطئة
1
دراسات عن مقدمة ابن خلدون!
أسطر هذه الكلمات وكأني أسمع همس معترض يعترض علي قائلا:
دراسات عن مقدمة ابن خلدون؟ ولماذا اخترت هذا الموضوع المبتذل المعاد؟ إن مقدمة ابن خلدون منتشرة بين أيدي جميع المتنورين من الناطقين بالضاد، وقد كتب الدكتور طه حسين أطروحة عن «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية»، كما نشر الأستاذ عبد الله عنان كتابا عن «ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري»، وقد نشر عدد غير قليل من المفكرين والكتاب عددا لا بأس به من البحوث والفصول والمقالات عن ابن خلدون ومقدمة ابن خلدون في مختلف الكتب والجرائد والمجلات. فلا نتعدى الحقيقة إذا قلنا: ما من مفكر ولا مؤرخ عربي حظي من كثرة الذكر وذيوع الصيت بما حظي به ابن خلدون، فما الفائدة من العودة إلى هذا الموضوع بعد جميع هذه الكتابات والنشرات؟ ألم يكن من الأجدر بك ومن الأوفق لمصلحة قرائك أن تنتخب موضوعا آخر أكثر جدة وطرافة من هذا الموضوع؟
غير أني لم أسلم بوجاهة مثل هذه الاعتراضات والملاحظات؛ لأنني أعتقد بأن الطرافة في الدراسات لا تتأتى من جدة الموضوع وحده، بل قد تتولد من طرافة الطريقة والاتجاه أيضا. وأنا مع احترامي للكتب والمقالات والدراسات التي نشرت بالعربية عن ابن خلدون ومقدمة ابن خلدون أرى أنها ظلت بعيدة عن استيفاء حاجة البحث في هذا الموضوع الخصب الهام من نواحيه المختلفة، فأعتقد بأن هناك حاجة ماسة إلى إكمال تلك الأبحاث والدراسات وإتمامها، كما أن هناك ضرورة قصوى لإعادة النظر واستئناف البحث في معظم تلك الدراسات بطرق وأساليب أخرى وفق وجهات نظر جديدة.
ومما يظهر هذه الحاجة بجلاء أعظم، ويبرهن على هذه الضرورة بوضوح أتم؛ أن الأبحاث والدراسات المنشورة عن ابن خلدون باللغة العربية قليلة وضئيلة جدا بالنسبة إلى ما نشر عنه في اللغات الأخرى، ولا سيما في اللغات الأوروبية، وهناك عدد غير قليل من الدراسات العلمية القيمة عن ابن خلدون وآرائه المختلفة لا تزال غير منقولة إلى العربية.
ومن الغريب أن أهم الدراسات التي كتبت بأقلام بعض الشبان العرب أيضا، ظلت خارجة عن نطاق «المطبوعات العربية» إلى الآن؛ فقد نشر الدكتور كامل عياد - من الشام - أطروحة باللغة الألمانية سنة 1930 عن «نظرية ابن خلدون في التاريخ والاجتماع»، كما نشر الدكتور صبحي المحمصاني - من بيروت - أطروحة باللغة الفرنسية سنة 1932 عن «آراء ابن خلدون الاقتصادية»، وكلتا الأطروحتين بقيتا غير مترجمتين إلى العربية، بالرغم من مرور اثنتي عشرة سنة على انتشار الأولى، ومرور عشر سنوات على انتشار الثانية، فاستفادة متنوري العرب من الأطروحة الأولى لا تزال تتوقف على معرفة الألمانية، كما أن الاستفادة من الثانية لا تزال تتطلب معرفة الفرنسية.
وإنني أعتقد لذلك كل الاعتقاد بأن الجيل المثقف الحاضر مقصر في أداء واجباته نحو هذا المفكر العربي العظيم تقصيرا كبيرا. •••
إن هذا التقصير الكبير لا يتجلى في «ضآلة الدراسات فحسب»، بل يظهر في «رداءة الطبعات» أيضا؛ فإن جميع طبعات المقدمة التي صدرت عن مطابع القاهرة وبيروت وانتشرت في جميع أنحاء العالم العربي مشوبة بنواقص كثيرة وأغلاط فادحة.
ذلك لأن جميع هذه الطبعات منقولة عن طبعة بولاق، التي كان قد قام بأعبائها الشيخ نصر الهوريني في القاهرة قبل مدة تزيد على ثمانية عقود من السنين، والشيخ المومأ إليه كان بعيدا - بطبيعة ثقافته - عن إدراك المبادئ الأساسية التي يجب مراعاتها في نشر مثل هذه المؤلفات القديمة.
فجميع الطبعات الشرقية تكاد تكون خالية من الشروح والتعليقات، فإن الشروح القليلة المبعثرة فيها لو جمعت في محل واحد لما ملأت أكثر من ثلاث صفحات، زد على ذلك أن هذه الشروح قلما تخرج عن نطاق «الإيضاحات اللغوية»، فإنها لا تستهدف على الغالب شيئا غير ذكر معاني بعض الكلمات، هذا مع أن الترجمة التركية موشاة ببعض الإيضاحات المطولة، لا سيما والترجمة الفرنسية مملوءة بمئات ومئات من الشروح والتعليقات التي تحوم حول المعلومات اللغوية والأدبية والجغرافية والتاريخية الضرورية لفهم أبحاث المقدمة حق الفهم.
ومما يستلفت الأنظار في هذا الصدد أن الطبعات المتداولة مشوبة بعدد غير قليل من الأغلاط المطبعية، التي تارة تغير معنى العبارات، وطورا تجردها من كل معنى معقول، وتارة أخرى تقلب معناها رأسا على عقب.
مثلا: إن بعض الطبعات مسخت كلمة «اليقين» إلى شكل «أينين»، فابتدعت هذه العبارة الغريبة: «قال كبيرهم أفلاطون إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى أينين.» كما أنها حرفت «الحقيقة المتعقلة» وجعلتها «الحقيقة المتعلقة»، واستبدلت عبارة «يحلق فوقها» بعبارة «يلحق فوقها»، إنها مسخت «العلوم الآلية» مسخا غريبا، حولها إلى «العلوم الإلهية»، وحرفت تركيب «سن بكره» وجعلته «بين نكرة»، فجردته بذلك عن كل معنى معقول، كما حولت «عالم القردة» إلى «عالم القدرة»، فغيرت المعنى المقصود تغييرا هائلا.
1
وقد تطفلت بعض الطبعات بزيادة أداة «إلا» في جملة نافية، فقلبت معناها رأسا على عقب، وبعكس ذلك قد حذفت كلمة «ليس» من عبارة أخرى، فجردتها من كل معنى مفهوم، كما أنها أسقطت عدة كلمات من بعض العبارات، من غير أن تنتبه إلى أن ذلك قد جعل العبارة عديمة المعنى.
2
ومن الأمور الغريبة أن الطبعات المصرية والشامية ناقصة من حيث المتون والفصول أيضا: فإذا قارنا إحدى هذه الطبعات بطبعة باريس التي كان تعهدها المستشرق «كاترمير» في نفس السنة التي كان قد أتم فيها الشيخ نصر الهوريني طبعة بولاق في مصر، نجد أنه ينقص منها أحد عشر فصلا كاملا من الفصول المهمة، كما ينقص منها عدد غير قليل من الأبحاث والفقرات من الفصول المختلفة، وإذا أحصينا مجموع صفحات هذه الفصول والفقرات الناقصة نجد أنها تزيد على الستين.
ومن الغريب أن طبعات مقدمة ابن خلدون المنتشرة في العالم العربي ظلت على هذه الحال من النقص المعيب منذ مدة تزيد على ثلاثة أرباع القرن، ومن الأغرب أن الأبحاث والدراسات المنشورة بالعربية عن مقدمة ابن خلدون لم تنتبه إلى هذا النقص، فلم تعمل على تلافيه، ولم تلفت الأنظار إليه إلى الآن.
2
هذا وإنني أرى أن هناك قضية هامة أخرى تستحق الملاحظة والعناية أكثر من جميع الأمور التي ذكرتها آنفا:
إن الذين يطالعون مقدمة ابن خلدون يقرءونها عادة كما تقرأ الكتب الحديثة، وينتقدونها بوجه عام كما تنتقد المؤلفات العصرية، ومعظم الذين يكتبون عن المقدمة أيضا ينحون هذا المنحى نفسه، ويميلون إلى وزن الآراء الواردة فيها بموازين المكتسبات العلمية الحالية، من غير أن يلتفتوا إلى عدد القرون التي تفصل بيننا وبين تاريخ كتابة المقدمة المذكورة، في حين أن قيمة المؤلفات القديمة ومنزلة المفكرين القدماء - في تاريخ العلوم والأفكار - لا يمكن أن تقدر على هذه الطريقة.
ذلك لأن كل عالم ومفكر يشترك - بوجه عام - مع معاصريه في معظم آرائهم، فيشاطرهم أكثر أخطائهم، ولا يمتاز عليهم إلا في «بعض الآراء» التي يتوفق إلى ابتكارها، و«بعض المعلومات» التي يتوصل إلى اكتشافها.
ولهذا السبب نرى أن منزلة الباحث والمفكر في «تاريخ العلوم والأفكار» لا تتعين بملاحظة «جميع الآراء الصائبة والخاطئة» المنبثة في كتاباته ومؤلفاته المختلفة، بل تتقرر بملاحظة «الآراء المبتكرة» التي يسمو بها على معاصريه، و«الحقائق الجديدة» التي يضيفها إلى المكتسبات الفكرية البشرية، و«الخدمات التي يقوم بها» بهذه الصورة في سبيل تقدم الأفكار والعلوم، كل ذلك بقطع النظر عن الآراء الخاطئة التي يبقى فيها مشتركا مع معاصريه بطبيعة الحال.
إن عدم ملاحظة هذا الدستور الأساسي في دراسة المفكرين والعلماء القدماء يحول دون تقدير منزلتهم العلمية حق قدرها، ومحاذير ذلك تكتسب خطورة خاصة عندما يعود الأمر إلى عظماء المفكرين الذين يكونون في منزلة ابن خلدون ، وإلى أمهات المؤلفات التي تكون على شاكلة مقدمته المشهورة؛ لأن مقدمة ابن خلدون من المؤلفات الجامعة التي تتطرق إلى عدد كبير من المسائل والمواضيع؛ إنها تتناول بالبحث والنظر مسائل كثيرة ومتنوعة جدا، من الديانة إلى التجارة، من النبوة إلى الطبابة، من الرؤيا إلى التربية، من السياسة إلى النجامة، من أوزان الشعر إلى عمران المدن، من مبادئ الموسيقى إلى أساليب الحرب، من موارد الدولة إلى أصناف العلوم. وخلاصة القول: إن كل ما له علاقة بالاجتماع الإنساني والعمران البشري يأخذ نصيبا من بحوث المقدمة، فلا ينتظر من مؤلفها أن يكون مبتكرا ومصيبا في جميع هذه المواضيع المتنوعة، بل لا بد له من أن يكون ناقلا لآراء معاصريه في معظم تلك المسائل والمواضيع.
فإذا قرأ القارئ مقدمة ابن خلدون من غير أن يراعي الدستور الآنف الذكر، قد يعود بفكرة خاطئة تماما عنها وعن مؤلفها؛ لأنه قد يبقى تحت تأثير مختلف الأخطاء المنبثة في صحائف الكتاب، والفكرة السيئة التي تستولي على ذهنه من جراء ذلك قد تؤثر على محاكمته، فتحول دون التفاته إلى الآراء القيمة المنتشرة في سائر أقسام الكتاب.
إن أصول البحوث العلمية تتطلب من كل باحث يقدم على مطالعة كتاب قديم أن يتأمل في كل موضوع من مواضيعه، وكل مسألة من مسائله على حدة، وأن يعرف حق المعرفة بأن «خطورة الأخطاء» التي تلقى في الكتب القديمة لا يجوز أن توزن بالموازين الفكرية العصرية، بل يجب أن تقدر بموازين تاريخية خاصة. ولا حاجة للبيان، إن هذه الموازين الخاصة لا يمكن أن تتقرر إلا بتتبع «تطورات الفكر البشري» بوجه عام.
هذا مبدأ هام يجب ألا نهمله أبدا، عندما نقرأ وندرس مقدمة ابن خلدون يجب علينا ألا ننسى أنه من رجال القرن الرابع عشر للميلاد، كما يجب علينا أن نرجع إلى تاريخ العلوم والأفكار عندما نقرأ كل فصل من فصوله، ونتأمل في كل رأي من آرائه، ونستعرض ما كان يقول به المفكرون في هذا الصدد في العصر الذي عاش فيه، وفي العصور التي أتت بعده .
3
إنني لم أقل بهذا المبدأ، ولم أضع هذا الدستور تعصبا وتحزبا لابن خلدون، بل قلت بهذا المبدأ لأنني وجدته سائدا في تاريخ العلوم والعلماء، وسردت هذا الدستور لأنني رأيته رائد القوم على الدوام.
وأقول بلا تردد: لولا ذلك لما استطاع أحد من المفكرين والعلماء السالفين أن يحتفظ بمكانته العلمية والفكرية في هذا العصر، بين تطور العلوم الهائل وتقدمها المستمر.
هذا أرسطو، الذي يعد أكبر المفكرين الذين عرفتهم البشرية، والذي يلقب لذلك بلقب «المعلم الأول»، هذا أرسطو نفسه قد وقع في أخطاء وأغلاط كثيرة وكبيرة جدا في مؤلفاته المختلفة، فإذا أراد أحدنا أن يحصيها ويجمعها لاستطاع أن يؤلف منها مجلدا ضخما.
إن بعض هذه الأخطاء والأغلاط كانت جوهرية خطيرة تتعلق بأسس العلوم نفسها:
كان أرسطو يقول مثلا في ميدان علوم الطبيعة بنظرية العناصر الأربعة، ويعتبر كلا من الماء والهواء والتراب والنار عنصرا من عناصر الأشياء، ومن المعلوم أن علمي الفيزياء والكيمياء قد قاما على إنكار هذه النظرية من أساسها.
وكان يقول في ساحة علم الحياة بنظرية «التناسل التلقائي»، ويعتقد بأن الديدان والحشرات تتولد من تلقاء نفسها من الطين والجيف، ومن المعلوم أن علم الحياة الحالي قد برهن على بطلان هذه النظرية برهنة قاطعة.
وكان أرسطو يقول في ساحة الاجتماعيات بضرورة الرق، ويعتقد بأن الاسترقاق من ضرورات الحياة الاجتماعية، وكان يعلل اعتقاده هذا بقوله: «إن بعض الناس خلقوا ليكونوا أسيادا، وبعضهم خلقوا ليكونوا عبيدا.» حتى إنه كان يرى أن «الغزو للحصول على العبيد» مشروع بقدر «الصيد لاقتناص الحيوانات». ومن المعلوم أن تطورات الحياة الاجتماعية سارت دائما على أساس إنكار هذا الرأي بوجه حاسم بات.
وزيادة على ذلك، فإن بعض الآراء التي قال بها أرسطو كانت من نوع السفسطات والمغالطات، فقد قال - مثلا: «إن الخط المستقيم لا يمكن أن يكون كاملا بوجه من الوجوه؛ لأن هذا الخط المستقيم إذا كان غير متناه كان غير كامل؛ إذ إن الكمال في الخط لا يتم إلا عندما يكون له شكل مرسوم بوضوح، وأما إذا كان الخط المستقيم المذكور متناهيا فلا يكون كاملا أيضا؛ لأنه يبقي في هذه الحالة ما هو خارج عنه بطبيعة الأمر ...» ومن الواضح أن كل ذلك من لغو الكلام، وهو يدل على المغالطة في البرهنة والبيان.
فإذا كان أرسطو لا يزال يتمتع بمنزلة ممتازة ومكانة خارقة في تاريخ العلوم والأفكار، فما ذلك إلا لأن التاريخ المذكور يراعي على الدوام المبدأ الذي ذكرته آنفا.
وما قلته عن أرسطو في هذا الصدد يصح في غيره من العلماء والمفكرين أيضا؛ فليس بين هؤلاء - من سقراط إلى كونت، ومن بقراط إلى فرويد - من يعد عظيما لأنه لم يخطئ في آرائه وكتاباته قط، بل إنهم يعدون من العظماء على رغم الأخطاء التي وقعوا فيها والأغلاط التي قالوا بها.
4
ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن موقفنا - نحن الناطقين بالضاد - تجاه مقدمة ابن خلدون، يختلف بطبيعته عن مواقفنا تجاه مؤلفات أمثاله من الغربيين؛ ذلك لأننا لا نطلع - عادة - على آراء القدماء من الغربيين إلا من خلال بعض المقتطفات والدراسات، فنتوهم بأن كل ما قاله هؤلاء وكتبوه كان على ذلك الطراز، مع أن تلك المقتطفات والدراسات تستهدف - بوجه عام - إظهار منزلتهم العلمية، فلا تحتوي في حقيقة الأمر إلا على الجوهر الهام، والزبدة المنتقاة من آرائهم وكتاباتهم الأصلية، بينما نحن نطلع على ما قاله ابن خلدون من قراءة مقدمته مباشرة، ونحيط علما بكل ما جاء فيها من غث وسمين. فالمقارنة التي تحدث في أذهاننا - بهذه الصورة - بين ابن خلدون وبين أمثاله الغربيين تكون بعيدة عن الحق والحقيقة بطبيعة الأمر.
إن مثلنا في مثل هذه المقارنات كمثل من يريد أن يقوم بمقارنة بين المناجم المختلفة، فيقدم على الموازنة بين الفلز الطبيعي الموجود في أحدها، وبين المعادن الصافية والجواهر اللماعة المستخرجة من غيرها، من غير أن ينتبه إلى أن تلك المعادن والجواهر أيضا كانت ممزوجة ومخلوطة بمواد ترابية وحجرية خسيسة، وأنها لم تظهر بمظهرها الحالي إلا بعد تصفيتها من النفايات، كما أن الفلز الطبيعي الموجود في المنجم الأول أيضا يحتوي على جوهر ثمين قد يبهر الأبصار، مثل تلك الجواهر بل أكثر منها إذا ما عولج وصفي مثلها.
من البديهي أن المقارنات يجب أن تجري تحت شروط متساوية؛ فعلينا إما أن نقارن الفلز الطبيعي بالفلز الطبيعي، وإما أن نقارن المعدن المستخرج والمصفى بالمعدن المستخرج والمصفى، وأما مقارنة الفلز الطبيعي المستخرج من منجم ما بالمعدن المصفى المستحصل من منجم آخر، فمما لا يتفق مع مقتضيات العقل والمنطق بوجه من الوجوه.
فيجب علينا أن نتجنب سلوك مثل هذه الطرق في دراسة ابن خلدون، ويجوز لنا أن نقارن المقدمة بكتاب من أمثالها مقارنة شاملة تامة، كما يحق لنا أن نقارن الآراء الثمينة المستخرجة منها بما استخرج من أمثالها، وأما المقارنة بين المقدمة بهيئتها المجموعة وبين الآراء القيمة المستخرجة من الكتب المماثلة لها فمما لا يجوز أبدا. •••
إن المقالات التالية ترمي - قبل كل شيء - إلى تطبيق هذا المبدأ في دراسة مقدمة ابن خلدون، وإظهار منزلة مؤلفها العظيم على هذا الأساس القويم.
بيروت، 20 آذار سنة 1942
تنبيه هام
من المعلوم أن طبعات المقدمة كثيرة ومتنوعة، وعدد صفحاتها يختلف اختلافا كبيرا من طبعة إلى طبعة؛ ولذلك رأيت من الضروري أن أصرح بأن أرقام الصفحات المذكورة في هذه الدراسات تعود إلى طبعة عبد الله البستاني في بيروت، وطبعة مصطفى محمد في مصر.
إنني رجحت الإشارة إلى صفحات هاتين الطبعتين مع علمي بكثرة أغلاطهما ونقص أبحاثهما؛ للملاحظات التالية:
إن طبعة مصطفى محمد المصرية منقولة عن الطبعة البيروتية نقلا زينكوغرافيا؛ ولهذا السبب إن مبدأ الصفحات والأسطر في كلتا الطبعتين متماثل تمام المماثلة، فالرقم الذي يشير إلى صفحة من الصفحات في إحداهما يوافق الأخرى أيضا تمام الموافقة، ومن المعلوم أن الأولى كثيرة الانتشار في سوريا، والثانية كثيرة الانتشار في مصر، ولا شك في أن نسخ هاتين الطبعتين أكثر انتشارا من نسخ جميع الطبعات الأخرى.
ومع هذا، بما أن هاتين الطبعتين تنقصهما بعض العبارات والأبحاث، اضطررت أحيانا إلى النقل عن الطبعات الأخرى، ولا سيما عن طبعة باريس، وفي مثل هذه الحالات صرحت باسم الطبعة التي أشرت إلى صحائفها.
ففي كل موضع ذكرت فيه أرقام الصحائف - من غير ذكر لاسم الطبعة - يجب أن يراجع إحدى الطبعتين الآنفتي الذكر.
المدخل الأول: على هامش المقدمة
جولة بين التاريخ والمؤرخين
كثيرا ما لاحظت أن بعض الذين يتصفحون «مقدمة ابن خلدون» تصفح العجلان، لا يلبثون أن يعرضوا عن قراءتها؛ بسبب الفصول والأبحاث المتعلقة بالكهانة والنجامة والرؤيا والسحر التي يلقونها فيها.
فقد سمعت غير واحد منهم يقول: إن ابن خلدون يعتقد بكل هذه الخرافات، ويفرد لها فصولا خاصة، فكيف يجوز لنا أن نعتبره - مع ذلك - عالما كبيرا، وأن نسميه مؤرخا عظيما؟
ولقد لقيت من يقول: إن ابن خلدون ينهي كل فصل من فصول مقدمته بذكر الله، وبالرجوع إلى علم الله، إنه يكتب في آخر كل بحث من بحوثه تقريبا «والله أعلم بالصواب»، أو «والله يعلم وأنتم لا تعلمون»، أو «وفوق كل ذي علم عليم»، فكيف يمكننا أن نوفق بين مثل هذه العبارات وبين «نزعة الأبحاث العلمية» التي يجب ألا تستند إلى شيء غير «الدلائل العقلية»؟
أما أنا فأقول لهؤلاء ولكل من يقدم على قراءة مقدمة ابن خلدون: يجب علينا ألا ننسى أبدا أن كاتب هذه المقدمة من رجال القرن الرابع عشر للميلاد، فيترتب علينا أن نتساءل: إلى أية درجة يحق لنا أن نؤاخذ هذا المفكر ونلومه على ما كتبه حول هذه الأمور، وفي هذا الصدد قبل مدة تزيد على خمسة قرون ونصف قرن؟
وللإجابة على هذا السؤال يجدر بنا أن نقوم بجولة سريعة بين التواريخ والمؤرخين؛ لنستعرض المواقف التي كان يقفها أسلاف ابن خلدون وأخلافه من المفكرين والمؤرخين تجاه هذه المسائل والأمور. (1) التاريخ والكهانة
إن جميع التواريخ والآثار القديمة تدل دلالة قطعية على أن الإنسان قد شعر - منذ أقدم الأزمنة - برغبة شديدة لمعرفة ما سيحدث في المستقبل، وأعتقد بأن هذه المعرفة من الأمور التي يمكن الوصول إليها بوسائل متنوعة وطرق شتى.
واليونان أنفسهم ساهموا في هذا الاعتقاد وحافظوا عليه، حتى في عهود ازدهار التفكير الفلسفي العقلاني
Rationalisme ، فقد اعتقدوا بأن الآلهة تبين مقاصدها من حين إلى حين، تارة ردا على أسئلة السائلين، وطورا من غير سؤال من أحد الآدميين، وأما الوسائط التي تستخدمها لإظهار مقاصدها، وإعلان إنذاراتها بهذه الصورة - على زعم اليونانيين - فقد كانت متنوعة جدا؛ الكهان، والطيور، والنسور، والصواعق، كانت من أهم تلك الوسائط وأعمها، فمعرفة المستقبل مما يتم بتفسير الكلمات التي تصدر عن ألسنة الكهان تحت بعض الشروط ومختلف الطقوس، أو بالاستدلال من صرخات الطيور وحركاتها، أو بملاحظة بعض العلائم التي تظهر في أحشاء القرابين، وعلى الأخص في أكبادها.
هذه المعتقدات أدت إلى تأسيس بعض المعابد المختصة بالكهانة، وكونت الكهان الاختصاصيين في استجواب الآلهة، وتعبير إنذاراتها المختلفة.
إن الاعتقاد بالكهانة والكهان على هذا المنوال ساد على أذهان اليونانيين بوجه عام، حتى إن معظم مفكريهم أيضا خضعوا لأحكام هذا الاعتقاد؛ ولذلك نجد أن الكهانة قد لعبت دورا هاما في تاريخ اليونان، حتى إن بعض المؤرخين ادعوا بأن كل «تاريخ اليونان بمثابة فصل كبير من فصول تاريخ الكهانات العام.»
L. de Gérin’Ricard, Histoire de l’occultisme p. 74.
والمؤرخون اهتموا اهتماما كبيرا بتسجيل أخبار الكهانة منذ عهد «هرودوت» الشهير، فإن التاريخ الذي خلفه لنا «أبو التاريخ» - مثلا - مملوء بأخبار الكهانات التي تتخلل جميع الوقائع، على صور شتى:
يبدأ هرودوت تاريخه هذا بترجمة حياة «قره زوس»
Crésus ، ويقص لنا أخبار الكهانات التي أحاطت بحياة هذا الملك العظيم في كل صفحة من صفحاته المتتالية:
كان لقره زوس ولدان؛ الأول كان ذكيا سليم الحواس، ولكن الثاني كان محروما من نعمة السمع والكلام.
ولما كان الملك نائما في ليلة من الليالي زاره «الحلم» (هذا تعبير هرودوت نفسه) زاره الحلم، وأنبأه بمصير ابنه الأول؛ قال له «إنه سيموت مجروحا بطعنة حديدة حادة.» فلما استيقظ الملك قره زوس فزع من هذا الحلم فزعا شديدا، وأسرع في اتخاذ كل التدابير الممكنة لصيانة حياة ابنه الغالية على ضوء هذا النبأ المخيف؛ أبعد جميع الآلات الحادة، وجميع وسائل الحرب من أبهاء القصر، وأقدم على تزويج ابنه حالا، وقطعه عن أعمال الحرب وقيادة الجيش، غير أن كل ذلك لم يجده نفعا، فقد راجعه بعد مدة وجيزة جماعة من الفلاحين باثين له شكواهم من خنزير بري أخذ يلحق بهم أضرارا فادحة، واسترحموا منه أن يوفد ابنه مع جماعة من الصيادين؛ لاقتناص الخنزير وتخليصهم من شروره، امتنع قره زوس عن إيفاد ابنه في بادئ الأمر بحجة زواجه الجديد، ووعد القوم بإرسال أمهر الصيادين لتخليصهم من النكبة التي ذكروها، غير أن الابن اعترض على والده، ورغب في الالتحاق بالجماعة، فاضطر الوالد عندئذ إلى مكاشفة ابنه بقصة الرؤيا، ولكن الابن حينما اطلع على تفاصيل الحلم قال له إن الحلم قد أخبرك بأنني سأموت بتأثير حديدة حادة، على أن قرون الخنازير ليست من الحديد، فلا محل للتخوف منها، وبعد هذه المحاورة سلم قره زوس بإصابة رأي ابنه فوافق على ذهابه لاقتناص الخنزير.
غير أنه خلال أعمال المطاردة طاش سهم أحد المرافقين، فأصاب ابن الملك وأرداه قتيلا؛ فتحققت بذلك نبوءة الرؤيا.
وبعد موت ابنه الأول على هذا الوجه الفاجع؛ وجه قره زوس كل اهتمامه إلى ابنه الثاني، بطبيعة الحال ضاعف جهوده لمعالجته وتخليصه من علة البكم والصمم بكل الوسائل الممكنة، وفي الأخير رأى أن يستشير الآلهة بواسطة عرافة «دلفي»، وأوفد من يسألها متى سيتكلم ابنه؟ غير أن العرافة أجابت قائلة: «أيها الملك، لا تتمنى أن تسمع في قصرك صوت ابنك؛ فخير ألا تسمعه أبدا، لأنه سيتكلم في اليوم الذي ستبدأ فيه نكباتك.»
وقد صح - فيما بعد - ما تنبأت به العرافة تماما؛ لأن ابن قره زوس لم يتكلم إلا في اليوم الذي استولى الفرس على عاصمة ملكه، عندما هم جندي من جنودهم على قتل والده صاح الولد لأول مرة: «أيها الجندي، لا تقتل قره زوس!»
ولكن أخبار الكهانة بالمتعلقة بهذا الملك لا تقتصر على ما حدث بولديه، بل تشمل جميع صفحات الحروب التي قامت بينه وبين الماديين أيضا:
كان الماديون قد توسعوا توسعا كبيرا، وأخذوا يهددون بلاد اليونان، ففكر قره زوس بالتأهب لمحاربتهم، غير أنه - قبل الإقدام على ذلك - رأى أن يستشير الآلهة في هذا الشأن، كما أنه رأى أن يمتحن الكهان والعرافين قبل الإقدام على هذه الاستشارة، فوضع خطة متقنة جدا لهذا الامتحان.
لقد أرسل قره زوس وفدا خاصا لكل معبد من معابد الكهانة الموجودة يومذاك في بلاد اليونان وآسيا الصغرى وليبيا، وزود الوفود بالتعليمات التالية؛ على جميع الوفود أن تغادر العاصمة في يوم واحد، وأن تنتظر في المعابد التي أوفدت إليها حتى مرور مائة يوم كامل على تاريخ السفر. وفي ذلك اليوم تراجع كاهن المعبد، وتسأله السؤال التالي: «ماذا يعمل الآن قره زوس ملك السارديين؟» ثم تدون الأجوبة التي تتلقاها، وبعد ذلك ترجع قافلة لتسليم الأجوبة المكتوبة إليه.
لما عادت الوفود واجتمعت الأجوبة فتح قره زوس الكتابات وقرأها، ولم يكد يطلع على جواب كاهنة دلفي إلا آمن بقدرتها التامة على معرفة الغيوب؛ قالت الكاهنة، حالما دخل الوفد عليها قبل أن تصغي إلى سؤاله: «أنا أعرف أبعاد البحار وعدد رمالها، أنا أسمع الأبكم وأفهم من لا يتكلم، وها أنا الآن أشم رائحة سلحفاة غليظة الجلد تغلي مع لحم غنم طري، تحتها شبهان، حولها شبهان، وفوقها شبهان.»
وفي الواقع إن قره زوس كان قد قام بعمل غريب جدا لا يمكن أن يخطر على بال أحد أبدا؛ بعد مرور مائة يوم على سفر الوفود، استحضر سلحفاة وغنما، وقطعها قطعا قطعا، ثم وضعها في قدر وغطى القدر، وأشعل تحته النار، والقدر الذي استعمله لهذا الغرض العجيب كان من الشبهان! والكاهنة كانت عرفت كل ذلك، مع أن الوفود كانت غادرت العاصمة قبل مائة يوم من ذلك التاريخ، ومع أن هذه الأعمال والتفاصيل كانت في منتهى الغرابة والشذوذ.
بعد أن تأكد قره زوس - على هذا المنوال - من قدرة عرافة دلفي، قرر أن يستشيرها في أمر محاربة الماديين، ضحى للآلهة ثلاثة آلاف رأس من جميع أجناس الحيوانات الأهلية، وهيأ مجموعة كبيرة من الهدايا الثمينة، وأرسلها إلى دلفي مع وفد خاص لاستشارة الآلهة بواسطة الكاهنة.
عندما سألوا الكاهنة: «هل يجب على قره زوس أن يحارب الماديين؟» أجابتهم قائلة: «إذا حاربهم ستخرب دولة كبيرة.»
وعندما سألوها: «هل سيكون عمر دولة قره زوس طويلا؟» أجابتهم قائلة: «إن دولته ستعيش إلى أن يصبح البغل ملكا على الماديين.»
لقد سر قره زوس من هذه الأجوبة سرورا كبيرا؛ لأنه قال في نفسه: «إن البغل لا يمكن أن يصبح ملكا، إذن فإن دولتي ستعيش على مر الأيام، في حين أن دولة الماديين الكبيرة ستنهار حتما.»
وبناء على هذه الملاحظة أخذ يعد العدة لمحاربة الماديين بكل اطمئنان.
غير أن الأمور جرت على خلاف ما توقعه قره زوس، والماديون تغلبوا عليه وأسروه.
إن ملك الماديين أراد - في بادئ الأمر - أن يحرق قره زوس بالنار، غير أنه عدل عن هذه الفكرة بعد ذلك؛ بسبب سلسلة طويلة من الحوادث الغريبة المملوءة بالخوارق والمعجزات، عدل ملك الماديين عن إحراق قره زوس، وأمر بفك الأصفاد والأغلال التي كانوا قد كبلوه بها، عندئذ طلب قره زوس من الملك المنتصر أن يترك تلك الأصفاد بغية إرسالها إلى معبد دلفي، بقصد لوم الآلهة على عملها الشائن، وبعد أن حصل على الموافقة أرسل الأصفاد إلى المعبد المذكور مع وفد خاص، ووجه إلى الآلهة الأسئلة التالية: «هل يليق بالآلهة أن تخدع الإنسان؟ إنه لم يقدم على الحرب إلا بعد أن عرف منها بأن حربه ستنتهي بانقراض دولة الماديين، وبأن دولته هو ستستمر إلى أن يصبح البغل ملكا على الماديين، ومع هذا فإن الأمور قد جرت على عكس ذلك تماما؛ ها قد دالت دولته، كما أنه أصبح أسيرا في أيدي المنتصرين عليه. ألا تحمر وجوه الآلهة خجلا من هذه النتيجة الشائنة؟! هذا، وهل يليق بالآلهة أن تكون ناكرة الجميل إلى هذا الحد؟ إنه كان قدم لها كل تلك الضحايا وكل تلك الهدايا، وإنها - مع ذلك - قد سمحت للوقائع بأن تجرفه إلى هذا المصير المؤلم؟»
ولكن أجوبة الآلهة على هذه الأسئلة بواسطة الكاهنة جاءت مسكتة تماما: «لا يحق لقره زوس أن يتذمر مما حدث؛ لأن كل ما حدث لم يكن مخالفا لما كانت أنبأت به الكاهنة بوجه من الوجوه؛ فإن دولة كبيرة قد انهارت فعلا هي دولته هو، وذلك حدث حقيقة بعد أن أصبح البغل ملكا على الماديين؛ إن البغل الذي جاء ذكره في الكهانة هو الملك سرخس
Cyrus
نفسه؛ لأنه من جنسين مختلفين؛ من أم نبيلة من سلالة الملوك، وأب وضيع من الرعاع، فالذنب ذنبه هو لأنه أقدم على الحرب من غير أن يفهم معاني الكلمات التي قالتها الكاهنة. فلا يحق لقره زوس أن يوجه اللوم إلى الآلهة أبدا.»
يشرح أبو التاريخ هرودوت كل هذه الوقائع والكهانات بتفصيل يشبه تفاصيل الروايات القصصية تماما.
غير أن أخبار الكهانة في تاريخ هرودوت لا تنحصر بالقسم الباحث عن حياة قره زوس وحروبه وحده، بل هي تتخلل أبحاثه الأخرى أيضا.
إن الكهانة لعبت دورا هاما في موقعة «ثرموبولس» الشهيرة أيضا؛ على رواية هرودوت، لقد راجع الإسبارطيون كاهنة دلفي منذ بدء الحرب ليعرفوا مصير الأمور، فقالت الكاهنة: «إن صدمة الفرس ستكون عنيفة جدا، بحيث لا تستطيع أن تتحملها قوة الثيران أو قدرة الأسود، فلا بد من حدوث أحد الأمرين التاليين؛ إما أن تدمر المدينة المشهورة على يد أحفاد «برسه ثوس»، وإما أن تبكي إسبارطة موت ملك منحدر من نسل هرقل.» إن «ليونيداس»
Léonidas
الشهير ضحى بنفسه في تلك المعركة، بعد أن اطلع على هذه الكهانة؛ لأنه أراد - بعمله هذا - أن يحقق الأمر الثاني لكيلا يترك مجالا لحدوث الأمر الأول!
إن الكهانة قامت بدور هام جدا في معركة «سالاميس» أيضا؛ يروي هرودوت في تاريخه المشهور بأن الأثينيين أرادوا أن يستشيروا كاهنة دلفي خلال الحروب المادية، فأرسلوا وفدا لهذا الغرض. إن الكلمات التي سمعها الوفد من الكاهنة - في بادئ الأمر - كانت في منتهى الفظاعة؛ لأن الإله أجاب قائلا: «غادروا منازلكم، أخلوا حصونكم، واهجروا بلادكم فارين إلى أقاصي الأرض؛ فإن أثينا ستدمر تدميرا هائلا، وستصبح طعمة للنيران. «مارس» المخيف سيأتي على عجلة سورية، وسيخرب المدن والحصون. إن الآلهة تفزع من هول النكبة، والعرق يتصبب على تماثيلهم، وها قد بدا يقطر من سقف حرمهم دم أسود ينبئ بهول الكارثة التي تهددكم. اخرجوا أيها الأثينيون، وتسلحوا بالصبر والشجاعة أمام هذه الكوارث المقدرة.»
اغتم رجال الوفد من هذه التنبؤات الفظيعة غما شديدا، غير أن أحد نبلاء المدينة عندما رأى آثار الغم والكآبة التي استولت عليهم نصحهم بمراجعة الكاهنة مرة ثانية، حاملين أغصان الزيتون بصفتهم متضرعين. عمل الوفد بهذه النصيحة، ووجه إلى «آبولون» التضرعات التالية: «أيها الإله، بحرمة أغصان الزيتون التي نحملها بأيدينا، الطف بنا بحكم أكثر مساعدة لمقدرات وطننا، وإلا فنحن سوف لا نخرج من حرمك أبدا، وسنبقى فيه إلى أن نموت جميعا.»
أما الكاهنة الكبرى فقالت لهم عندئذ ما يلي: «إن باللاس لم يتوفق إلى إقناع زفس، ومع هذا فإليكم نصيحة أخرى ستكون النهائية: لقد سمح زفس لباللاس بجدار من خشب، فعندما يستولي الأعداء على جميع ما في بلادكم سوف لا يستطيعون أن يستولوا عليه أو أن يدمروه، فإنكم ستجدون السلامة فيه، فلا تنتظروا وصول جحافل المشاة والخيالة التي ستأتي لمهاجمتكم، بل اذهبوا واقلبوا لها ظهر المجن، سيأتي يوم تستطيعون فيه مقاومتها، وأما أنت يا سالاميس الإلهية فستفقدين أولاد النساء.»
هذه الكلمات ظهرت للوفد أكثر ملاءمة من الأولى، فكتبوا كل الكلمات التي سمعوها من الكاهنة، ثم عادوا بها إلى أثينا ونقلوها إلى الشعب.
غير أن الآراء اختلفت في تأويل هذه الكلمات، ماذا قصدت الآلهة من قولها «جدار من خشب»؟ بعضهم قال إن القصد من ذلك هو حصن المدينة؛ لأنه كان فيما مضى مدعما بالأخشاب، وبعضهم ذهب إلى أن المقصود منه هو السفن. والجميع تخوفوا من العبارة الأخيرة؛ لأنها كانت تدل في ظاهرها على أنهم سينكسرون في سالاميس إذا أقدموا على محاربة الأعداء بحرا، ولكن «تميستوقلس» عارض الجميع، وادعى عكس ذلك تماما، وقال: «إن النكبة المذكورة في العبارة الأخيرة تعود إلى الأعداء، لا إلى الأثينيين، وإلا لما قالت الآلهة سالاميس الإلهية، بل لقالت سالاميس التعسة.» ولهذا اقترح المشار إليه التهيؤ لحرب بحرية؛ لأن الجدار الخشبي الذي جاء ذكره في أقوال الكاهنة إنما يرمز إلى السفن التي تشترك في حرب بحرية.
والأثينيون عملوا في الأخير برأي تميستوقليس هذا ، فانتصروا على أعدائهم في موقعة سالاميس وفق تنبؤات الكاهنة.
إنني أعتقد بأن هذه الأمثلة كافية لإعطاء فكرة واضحة عن قوة إيمان هرودوت بالكهانة، وعن المكانة الخطيرة التي خصصها لها بين وقائع التاريخ، كما أعتقد بأنها تغنينا عن الاستشهاد بسائر مؤرخي اليونان. •••
أما الرومان فإنهم أيضا اعتقدوا بالكهانة، وعملوا بمقتضياتها في جميع أدوار تاريخهم الطويل، إنهم توغلوا بوجه خاص في التكهنات المستندة إلى معاينة أحشاء الحيوانات وأكبادها، وتتبع حركات الطيور وصرخاتها؛ ولذلك أخذوا يربون بعض الطيور والحيوانات في ساحات بعض المعابد وجوارها بقصد الاستفادة منها في شئون الكهانة عند مسيس الحاجة إليها، كما نقلوا بعض كتب الكهانة اليونانية إلى الكابيتول، وعهدوا بمهمة مراجعة تلك الكتب إلى جماعة منتخبة وفق تقاليد معينة.
وزيادة على كل ذلك فقد طبقوا «نزعة التقنين» التي امتازوا بها على شئون الكهانة أيضا، وقد عينوا - تارة بالعرف والتقاليد، وتارة بالأنظمة والقوانين - الأشخاص الذين «يحق لهم» و«يترتب عليهم» القيام بأمور الكهانة والعرافة في كل من الأسرة والمدينة والدولة.
ومعظم أباطرة الرومان كانوا يراجعون العرافين والكهان قبل أن يقدموا على تقرير الأمور الخطيرة، حتى إن مجلس السناتو نفسه كان يستشير «مجمع الكهان» في الكابيتول بصورة رسمية في بعض الأحيان.
فقد غالى الرومان في هذا المضمار مغالاة شديدة، حتى إنهم سنوا في الأخير - سنة 140ق.م. - قانونا يحتم مراجعة «مجمع الكهان» في الشئون الهامة.
إن التواريخ التي كتبها مؤرخو الرومان أيضا مملوءة بأخبار الكهانات. •••
إن المؤرخين القدماء عند اليونان والرومان لم يكتفوا بتسجيل أخبار هذا النوع من الكهانات، بل اهتموا بتسجيل بعض الحوادث العجيبة الخارقة للعادة أيضا؛ وذلك لاعتقادهم بأن جميع هذه الحوادث الشاذة - كحدوث الزلازل الأرضية، وثوران البراكين، وظهور الكواكب المذنبة، وولادة المسوخ الإنسانية أو الحيوانية - ما هي إلا إنذارات من الآلهة للإخبار بما سيحدث من الأمور الهامة في المستقبل القريب. إن مهمة الكهان والعرافين كانت تشمل تفسير وتأويل مثل هذه الحوادث والأحوال أيضا؛ لمعرفة الغيب واستكناه المستقبل.
إن كتب الرومان مملوءة بأخبار هذا النوع من الكهانات، وقد جمع المؤرخ اللاتيني «فالريوس ماكسيموس»
Valérius Maximus - في كتابه «الوقائع والأحوال المشهورة» - أمثلة كثيرة من ذلك.
فمنها قصة «الفرس والأرنب» خلال الحروب المادية؛ حينما أقدم «كورش-سرخس» على غزو بلاد اليونان حدثت حادثة عجيبة جدا؛ فرس ولدت أرنبا في اللحظة التي اجتازت جيوش الماديين جبل آتوس! إن هذه الحادثة الخارقة للعادة كانت إشارة من الآلهة إلى نتائج غزوة كورش، إن الملك الذي ستر البحار بأساطيله الكبيرة فاستولى على البراري بجيوشه الجرارة، اضطر إلى الهروب من ساحات الحروب كالأرنب الجبان.
ومنها حكاية الملك ميداس والنمل، عندما كان ميداس
Midas
ملك ليديا طفلا، حدثت له حادثة غريبة جدا؛ أتت النمل على فمه خلال نومه، ووضعت بين شفتيه بضعة حبوب من القمح، فقد دهش أهله من هذه الحادثة الغريبة، وراجعوا العرافين لتفسير معناها، وكان الجواب الذي تلقوه منهم سارا جدا؛ إذ إنهم قالوا: سيكون ميداس في المستقبل أغنى الناس في العالم. إن هذا التكهن قد تحقق تماما لأن ثروة الملك ميداس بلغت مبلغا هائلا فاقت مجموع ثروات كل الملوك في العالم.
يقول فالريوس ماكسيموس بعد سرد هذه القصة: «غير أن قصة النمل مع الملك ميداس تعتبر لا شيء بجانب حادثة النحل مع أفلاطون، فإن النمل إذا بشرت عائلة ميداس بثروة فانية، فإن النحل بشرت عائلة أفلاطون بسعادة سرمدية؛ لما كان أفلاطون رضيعا ينام في المهد جاءت النحل ووضعت عسلها بين شفتيه الرقيقتين، وحينما سمع العرافون بهذه الواقعة قالوا هذا يدل على أن الكلمات التي ستصدر من فمه ستكون في منتهى الحلاوة، تفوق حلاوة جميع الأشياء. ومن المعلوم أن هذه الكهانة أيضا تحققت تماما.
إن أمثال هذه الأخبار والروايات كثيرة جدا في مؤلفات الكثيرين من الكتاب والمؤرخين من الرومان، مثل؛ «جسيتنس»، و«تيتوس ليفيوس»، و«بلينيوس».
فقد كتب مثلا المؤرخ المشهور تيتوس ليفيوس
Titus Livius
في جملة ما كتبه من الأخبار: «في سنة 590 من تاريخ روما تكلم ثور في مدينة فروسيتون، وولد بغل ذو ثلاث أرجل في ريات، فقتل في السنة نفسها «أوكتافيوس»
Octavius
حاكم سوريا على يد ليزياس معلم آنتيوخوس .» «في سنة 606 من التاريخ المذكور، ولد طفل ذو ثلاث أرجل مع يد واحدة في آمينتان، ففي نفس السنة ارتكب هاسدروبال
Hasdrubal
مظالم فاجعة نحو أسرى الرومان خلال حصار مدينة قرطاجة، وبعد مدة قليلة استولى استثيبيون إميليان
Scipion Emilien
على المدينة المذكورة ودمرها تدميرا.» «في سنة 611 ولد طفل خنثى في لوني، ومع أن هذا الطفل ألقي في البحر عقب ولادته بأمر الكهنة، فقد حدث طاعون هائل في تلك المدينة حصد النفوس حصدا، ولم يترك مجالا حتى لدفن الأموات، كما أن الجيش الروماني نكب بهزيمة شنيعة في السنة نفسها.»
ونرى أن نذكر هنا ما كتبه الشاعر اللاتيني الشهير «فيرجيليوس»
Virgilius
عن الحوادث العجيبة التي حدثت قبيل موت القيصر، منذرة بهذا الحدث الخطير: «زلازل الأرض الشديدة، عواصف البحار الهائلة، عواء الكلاب المفزعة، صياح الطيور المشئومة، ثوران البراكين المحرقة، كلها كانت تنذر بقرب وقوع حادث خطير، ولقد سمعت في جرمانيا قعقعة الأسلحة في كل أنحاء السماء، وحدثت زلازل شديدة في جبال الألب، وسمعت أصوات هائلة في الغابات الهادئة، كما شوهدت طيوف باهتة في الأمسيات. وأعجب من كل ذلك أن البهائم تكلمت، والأنهر توقفت، والأرض تفجرت. وقد لوحظ في المعابد أن العاج بكى متألما، والشبهان تصبب عرقا، والدماء نبعت من الآبار، وفي الليالي تغلغلت في أجواء المدن عواء الذئاب، ولم تتوال الصواعق في يوم من الأيام بالكثرة التي حدثت في ذلك العهد، ولم تشتعل المذنبات في السماء بالشدة التي اشتعلت بها في التاريخ المذكور.»
ولعل أغرب الأمثلة لمثل هذه الأخبار والكهانات هو ما رواه المؤرخ الإسباني «بولس أوروزيوس
»، الذي عاش في القرن الخامس، والذي يعد من أعظم تلامذة القديس أوغسطين، فقد روى المؤرخ المذكور الحادثة التالية وفسرها كما يلي: «لقد تفجرت في سنة ولادة المسيح عين زيت في دكان رجل فقير في مدينة روما، وسال الزيت من العين المذكورة بغزارة يوما كاملا.» لا يشك المؤرخ أوروزيوس بأن هذا الحادث العجيب كان يشير إلى مجيء المسيح؛ «لأن الزيت هو مادة الدهون النصرانية، وأما حدوث الحادث في دكان رجل فقير فكان يدل أن كنيسة المسيح ستحتضن الفقراء والأغنياء، العبيد والأسياد، على حد سواء.» (2) التاريخ والنجامة
إن الاعتقاد بتأثير النجوم وسائر الأجرام السماوية في الحوادث الكونية والمقدرات البشرية سيطر على أذهان العوام والمفكرين على حد سواء، منذ القرون الأولى حتى أواخر القرن السابع عشر، وقد ظل مسيطرا على أذهان الناس في كثير من البلاد الأوروبية حتى خلال القرن الثامن عشر نفسه.
إن هذا الاعتقاد القديم ولد نوعا خاصا من الكهانة عرفت باسم «النجامة» أو «التنجيم»، وهي ترمي إلى الكشف «عما سيحدث في المستقبل» بملاحظة حركات النجوم وأوضاعها المختلفة.
فقد زعم المنجمون أن كل واحد من الكواكب الثابتة والسيارة، وكل مجموعة من مجموعات النجوم المسماة باسم «البروج» يمتاز بنوع خاص من التأثير على مقدرات الإنسان، ولذلك صاروا يرصدون حركات النجوم، ويتتبعون حركاتها المختلفة؛ لمعرفة ما سيحدث من الشئون من جهة في حياة الدول والأمم، ومن جهة أخرى في حياة الأشخاص الذين يولدون في كل دقيقة وساعة من كل يوم.
نشأت النجامة وترعرعت في معابد الكلدان، ثم انتقلت بواسطتهم إلى اليونان فالرومان.
وقد وجدت النجامة لنفسها أرضا خصبة جدا في ظل الإمبراطورية الرومانية، والتاريخ يذكر أن معظم الأباطرة - من نرون وأوكتاويوس إلى تيبريوس وماركوس أورليوس - كانوا يهتمون بالنجامة اهتماما كبيرا، فكانوا يكثرون من استشارة المنجمين، ويعملون بما تقتضيه تنبؤاتهم في أغلب الأحيان.
حتى إن بعضا منهم لم يكتفوا باستشارة المنجمين، بل أكبوا على تعلم النجامة ليشتغلوا بها بأنفسهم مباشرة.
فإن الإمبراطور «تيتوس» مثلا كان يكثر من النظر في «طوالع» القواد الذين يخشى منافستهم، كما أن «دوميتيانوس» كان يلجأ إلى النجامة لمعرفة الأشخاص الذين ينوون منافسته، أو يطمعون في أن يكونوا خلفا له.
تذكر التواريخ الرومانية أن «سبتيموس سفريوس»
Septimius Sévérius
قبل أن يصبح إمبراطورا أخذ ينظر في طوالع الفتيات اللاتي يمكن أن يخطبهن ويقترن بهن، وحينما علم من طوالع الفتاة السورية «جوليا» بأنها ستصبح يوما «زوجة لملك»؛ أسرع إلى خطبتها وتزوجها، مؤمنا بأن ذلك سيساعده على تحقيق أطماعه في الاستيلاء على عرش الإمبراطورية الرومانية!
كما تذكر التواريخ المذكورة أن الإمبراطور «ماركوس أورليوس» الذي كان من كبار المفكرين، واشتهر بكلماته الحكيمة وآرائه الأخلاقية اشتهارا كبيرا، راجع منجما كلدانيا في قضية متعلقة بزوجته «فائوستين»؛ فإن زوجته هذه كانت شهرت بحب عميق جارف نحو أحد المصارعين، وبما أنها خشيت عواقب هذا الحب، وأرادت أن تحافظ على عفافها؛ فاتحت زوجها في الأمر بكل ساذجة واستقامة، والإمبراطور الحكيم استشار منجما كلدانيا، وعمل بما أشار به المنجم حرفيا.
ولعل أغرب أخبار النجامة المذكورة في التواريخ الرومانية هو ما حدث في عهد دوميتيانوس؛ أراد الإمبراطور المشار إليه أن يختبر المنجم «آسكلاريون»
Asclarion ، فوجه إليه السؤال التالي: «قل كيف ستكون عاقبة حياتك أنت؟» والمنجم لم يتردد لحظة في الإجابة على هذا السؤال قائلا: «إن الكلاب ستنهش جثتي نهشا.» عندئذ أراد الإمبراطور أن يظهر «كذب زعم المنجم» بصورة فعلية، فأمر بذبحه حالا، وبإفناء جثته حرقا، فقد أخذ الجلادون في تنفيذ أمر الإمبراطور: ذبحوا المنجم، وكدسوا الأحطاب، ووضعوا الجثة فوقها، ثم أشعلوا النار فيها، ولكن قبل أن يصل لهيب النار الموقدة إلى جثة المنجم المذبوح هبت عاصفة هائلة أطفأت النيران، واضطرت الحراس والجلادين إلى التباعد عن ذلك المحل، والتفرق في كل الجهات، وعندما هدأت العاصفة اجتمعت الكلاب على الجثة ونهشتها قبل أن يتمكن الحراس والجلادون من العودة إلى المحل لإتمام تنفيذ أمر الإمبراطور. وبهذه الصورة تحققت كهانة المنجم تماما، على الرغم من الخطة الجهنمية التي حاول تنفيذها ذلك الإمبراطور الجبار!
من الطبيعي أن الحوادث والوقائع كثيرا ما كانت تأتي مخالفة لنبوءات المنجمين، غير أن ذلك ما كان يكفي لزعزعة الاعتقاد العام بالتنجيم، والسبب في ذلك يظهر بوضوح تام مما كتبه المؤرخ الروماني الشهير تاسيتوس
Tacitus
في حولياته في هذا الصدد: «إذا جاءت الوقائع مخالفة للتنبؤات النجومية، فإن ذلك يجب أن يعزى إلى تقصير المنجمين في التفسير والحكم، لا إلى عدم صحة النجامة في حد ذاتها؛ لأن أسس النجامة من الأمور اليقينية التي لا يجوز أن يشك فيها أحد، إن صحة هذه الأسس ثبتت في الأزمنة القديمة كما ثبتت في زماننا هذا.»
وحينما ظهرت المسيحية عارض رجالها النجامة في بادئ الأمر؛ لأنهم رأوا في الاعتقاد بها ما يخالف الاعتقاد بحكم الله المطلق وقدرته الشاملة، غير أنهم لم يتمسكوا بهذا الرأي مدة طويلة، فعدلوا عن معارضة النجامة محاولين التوفيق بينها وبين التعاليم المسيحية بشتى التأويلات، وأفسحوا بذلك مجالا واسعا لسيطرة النجامة على أذهان الناس طوال القرون الوسطى.
وأما حركة الانبعاث التي أعقبت القرون المذكورة فلم تقض على النجامة، بل بعكس ذلك قوتها كما قوت كل ما يتعلق بالأزمنة القديمة.
ولهذا السبب لم ينقطع علماء الفلك في أوروبا عن الاشتغال بالنجامة، لا خلال القرون الوسطى فحسب، بل بعد عصر الانبعاث، وخلال عصر الاكتشافات أيضا.
وقد ظلت بلاطات الملوك في الأقسام المختلفة من القارة الأوروبية تستخدم - بين من تستخدمهم من الموظفين والمرافقين - جماعة من المنجمين الرسميين، فقد حفظ لنا التاريخ أسماء المنجمين الذين كانوا ينظرون إلى الطوالع الفلكية في خدمة الملوك العظام، كما حفظ لنا أسماء الذين قاموا بمهمة التنجيم عند ولادة بعض هؤلاء الملوك. فقد سجل التاريخ - مثلا - أن «نوستراداموس» كان منجما مشهورا، فنظر في طوالع عدة ملوك، من جملتهم؛ شارل التاسع، وكاترين دومديتسي. ثم إن الملك هنري الرابع استدعى لاريفيار
Lariviére
للنظر في أحكام النجوم عند ولادة ابنه لويس الثالث عشر، كما أن المنجم «موران»
Morin
كان حاضرا في الغرفة المجاورة لغرفة الملكة «آن دوتريش»
Anne D’autriche
والدة لويس الرابع عشر؛ استعدادا للنظر في الطوالع الفلكية، دقيقة ولادة المولود العظيم!
ومما يستلفت النظر في هذا الصدد أن العالم الفلكي المشهور «تيخو براهه»
Tycho Braha
الذي كان أول من خرج على تعاليم بطليموس القديمة في الفلك، وأول من فتح باب النهوض والتجديد في العلم المذكور في عصر الانبعاث. إن تيخو براهه نفسه كان من المنجمين، فقد قام بمهمة التنجيم لعدة ملوك، من جملتهم الإمبراطور رودولف الثاني. كما أن «كبلر»
Képler
الذي اكتشف القوانين الفلكية الأساسية المعروفة باسمه، والذي مهد السبل بذلك إلى اكتشافات «نيوتن»
Newton
الخطيرة؛ إن كبلر نفسه كان يعتقد بالنجامة ويشتغل بها.
حتى إن النجامة
Astrologie
صارت من العلوم التي تدرس في بعض الجامعات، كما أن كراسي تدريس النجامة في بعض الجامعات الإيطالية - مثل جامعة بادووا وجامعة ميلانو - ظلت قائمة وعامرة حتى أواخر القرن السادس عشر.
فكان من الطبيعي أن يشترك المؤرخون في هذه الاعتقادات الشائعة، وكان من الطبيعي ألا يكتفي بعضهم بالاشتراك بها فحسب، بل أن يقدم على «ربط التاريخ بأحكام النجوم» أيضا.
ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما جاء في مؤلفات المؤرخ المفكر المشهور «جان بودن»
J. Bodin ، الذي عاش وكتب في فرنسا في القرن السادس عشر (1530-1594)، ونحن نرى من المفيد أن نستعرض الآراء التي سردها هذا المؤلف في هذا الصدد بشيء من التفصيل؛ لأنه يعد من «آباء فلسفة التاريخ»، ويقال عنه: «إنه أول من ألقى نظرة فلسفية إلى التاريخ» من بين الفرنسيين.
لقد اشتهر «بودن» في تاريخ العلوم بكتابين نشرهما في أواسط القرن السادس عشر؛ أحدهما بعنوان «الجمهورية» أو «الدولة» (1567)، والثاني بعنوان «منحى التاريخ» (1557).
يتساءل بودن في الفصل الثاني من الكتاب الرابع من الجمهورية: «هل من سبيل إلى التنبؤ بمستقبل الدول؟» ويجيب على هذا السؤال بملاحظات شتى تستند كلها إلى أحكام النجامة.
يقول بودن في هذا الفصل: «يظن بعضهم أن الاعتقاد بتأثير حركات النجوم على الأحوال البشرية مما يقلل من عظمة الله، غير أن هذا الظن خطأ محض؛ لأن قدرة الله حينما تعمل أمورا هامة على يد مخلوقاتها تتجلى بوضوح أعظم مما لو عملتها بنفسها وبلا واسطة.» ويضيف إلى ذلك هذا الحكم البتار: «لا يوجد شخص ذو عقل سليم لا يعترف بتأثير الأجرام السماوية في الحوادث الطبيعية والبشرية.»
كما أنه يقول في مكان آخر من الفصل المذكور: «إن أحوال الدول مثل سائر أحوال البشر، تتبع الحركات السماوية بعد مشيئة الله.»
ثم يأتي بودن بأمثلة عديدة وتفاصيل كثيرة عن تأثير الأجرام السماوية على سير الحوادث التاريخية، إنه يستعرض عددا كبيرا من الوقائع التاريخية التي حدثت في أقطار وأعصار مختلفة، ويحاول تفسيرها وتعليلها بحركات النجوم وقراناتها الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، فجميع تلك الحادثات التاريخية - من ثورة إسكندر بك الألباني إلى ولادة الإمبراطور شارلكان، ومن استيلاء صلاح الدين الأيوبي على القدس إلى ثورة الفلامنديين على الإسبان، ومن خراب مدينة هركولانوم إلى استيلاء العثمانيين على جزيرة رودس - كلها ذات علاقة وثيقة في نظر بودن بحركات النجوم وقراناتها!
يعزو بودن خاصية عجيبة إلى شهر أيلول؛ يلاحظ أن عدة حوادث هامة حدثت في شهر أيلول، مثل محاصرة ملك فرنسا شارل التاسع، وحبس ملك السويد هنري. كما أن عدة وقائع حربية حدثت في الشهر نفسه؛ منها انتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في القدس، وانتصار السلطان بايزيد العثماني على أعدائه في نيكبولي. ثم إن عدة ملوك ماتوا في شهر أيلول؛ منهم أوغسطس، وليون الرابع، وفريدريك الثالث، وببين القصير. كما أن ولادة بعض الملوك ووفاتهم أيضا حدثت في شهر أيلول؛ من هؤلاء شارلكان، وسليمان القانوني. فهل من مجال للشك في «أن أسباب كل ذلك تعود إلى أوضاع النجوم خلال الشهر المذكور؟»
وأما ظهور الإسلام فهو أيضا من الوقائع التاريخية المربوطة بالحركات السماوية على رأي بودن؛ لقد حدث سنة 630 بعد الميلاد «قران عظيم» في السماء، «اقترنت السيارات العلوية مع الشمس في برج العقرب»، عندئذ «نشر العرب دين محمد، وثاروا (هذا هو التعبير الذي يستعمله بودن) ثاروا ضد أباطرة القسطنطينية، وغيروا الدول واللغات والأخلاق والدين في آسيا الشرقية.» لا يشك بودن بأن هذه الحوادث العظيمة ذات علاقة وثيقة بالقران العظيم السالف الذكر.
وأما آخر القرانات السماوية التي يذكرها بودن، فهو الذي حدث سنة 1562؛ إن هذا «القران العظيم» أدى إلى حدوث حوادث عجيبة جدا في مختلف أنحاء العالم؛ ملك فرنسا فوجئ بثورة مسلحة، ملك السويد خلع من العرش وألقي في السجن، ملكة اسكتلندا سجنت وحوكمت، ملك تونس طرد من بلاده، مغاربة الأندلس من جهة وأهل الفلامند من جهة أخرى ثاروا على الملك الكاثوليكي، كما أن الإنجليز ثاروا على ملكهم، والفرنسيون قاموا على حكومتهم.» إن بودن يرى علاقة صريحة بين جميع هذه الحوادث التاريخية وبين «اقتران السيارات العلوية بالشمس وعطارد» في السنة المذكورة.
ولا يكتفي بودن بالقول - على هذه الصورة - بوجود علاقات قوية بين الحوادث التاريخية وبين حركات الأجرام السماوية فحسب، بل يحاول أن يبرهن على علاقة السماء بطبائع الأمم أيضا؛ إنه يبحث في الكتاب الخامس من المؤلف الذي نحن بصدده عن طبائع الأمم، ويتطرق إلى قضية اختلاف الطبائع باختلاف الأقاليم، ولكنه يرجع تأثيرات الأقاليم إلى خواص النجوم، ويبدي حول ذلك نظرية غريبة جدا.
تنقسم الأرض - في نظر بودن - إلى ثلاث مناطق؛ جنوبية، ووسطى، وشمالية، ومن تتبع الكواكب السيارة وجد أن زحل يعود إلى المنطقة الجنوبية، والمشتري يختص بالمنطقة الوسطى، والمريخ يعود إلى المنطقة الشمالية، وأما الشمس فلا تختص بمنطقة من هذه المناطق، بل تنيرها كلها على حد سواء، وأما السيارات التي تأتي بعد ذلك فتختص كل واحدة منها بإحدى هذه المناطق الثلاث؛ الزهرة بالمنطقة الجنوبية، العطارد بالمنطقة الوسطى، والقمر بالمنطقة الشمالية.
ولهذا السبب نجد أن الأمم التي تقطن كل واحدة من المناطق المذكورة آنفا تتأثر بطبيعة الكواكب السيارة التي تختص بتلك المنطقة؛ فإن الأمم الشمالية تصبح ميالة إلى الحرب والقنص بتأثير المريخ والقمر، والأمم الجنوبية تكون مسترسلة في التأملات، ومستسلمة للشهوات بتأثير زحل والزهرة، وأما الأمم التي تقطن المنطقة الوسطى فتمتاز بالإرادة والسياسة بتأثير العطارد والمشتري.
ولأجل أن نفهم علل هذه الأحكام الغريبة التي يسردها بودن، يجب أن نتذكر ما يلي: إن المريخ يسمى باللغات الإفرنجية باسم «مارس»
Mars ، وهذا اسم إله الحرب في الأساطير اليونانية. كما أن الزهرة تسمى باسم «فينوس»
Venus ، وهذا اسم آلهة الحب والجمال في عرف الأساطير المذكورة. وأما القمر فيرمز إلى «ديانا»
Diana ، وهي آلهة القنص في تلك الأساطير. كما أن المشتري يسمى باللغات الإفرنجية باسم «جوبتر»
Jupiter ، وهو اسم رئيس الآلهة في الأساطير القديمة.
هذه آراء ونظريات قال بها وكتبها «المؤرخ والمفكر جان بودن» في النصف الأخير من القرن السادس عشر. (3) التاريخ والسحر
إن الاعتقاد بالسحر والسحرة والقول بتأثير الطلاسم من جملة الأمور الخرافية التي سادت على أذهان الناس عند جميع الأمم في جميع أدوار التاريخ الماضية.
هذا الاعتقاد كان منتشرا بين أمم القرون الأولى - من المصريين إلى اليونان فالرومان - غير أنه اكتسب خطورة خاصة في أوروبا في القرون الوسطى؛ حيث امتزج بالاعتقاد بالشياطين، وأودى بحياة الكثيرين من الأبرياء والمظلومين.
ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن هذه المعتقدات الخرافية لم تنته بانتهاء القرون الوسطى، بل استمرت بعد ذلك خلال عهد الانبعاث أيضا، ولم تفقد شيئا من قوتها إلا بعد أواسط القرن السابع عشر للميلاد.
كان الأوروبيون يعتقدون عندئذ بالسحر والسحرة اعتقادا راسخا، ويعزون تأثير السحر إلى أعمال الشياطين، كانوا يقولون بوجود الآلاف، بل الملايين من الشياطين، ويزعمون أن هؤلاء الشياطين يسيطرون على بعض الناس، ولا سيما النساء، ويولدون شتى الأمراض، ويسببون أنواع الشرور، ويتخذون السحرة آلة وواسطة لشرورهم هذه، كانوا يظنون أن جماعات السحرة يعقدون - من حين إلى حين - «اجتماعات خاصة» مع الشياطين في خبايا الغابات، ويقيمون أنواعا عديدة من الطقوس الغريبة خلال هذه الاجتماعات.
ولهذه الأسباب كانوا يتهمون - من وقت إلى آخر - بعض النساء بعمل السحر، وبعضهن بالاستسلام إلى السحرة والاتفاق مع الشياطين، فكانوا يحاكمونهن كما يحاكمون المجرمين والجناة، وإذا ثبتت إدانتهن - لوجود بعض العلامات الخاصة - كانوا يعدمونهن بإحراقهن بالنار؛ لتخليص النار من شرورهن وشرور الشياطين الذين تملكوهن!
وكان الملوك والباباوات يشتركون مع الناس في هذه الاعتقادات، ويتخذون شتى التدابير لمكافحة السحرة والساحرات.
إن حوادث «إحراق السحرة» بدأت في «نوفار» سنة 1357، غير أنها كثرت بوجه خاص بعد المرسوم الذي أصدره البابا غريغوريوس التاسع سنة 1374؛ لقد أمر البابا المشار إليه بمرسومه هذا استعمال الشدة والصرامة في تحري السحرة ومعاقبتهم؛ ولذلك تم إحراق 500 ساحرة خلال ثلاثة أشهر في جنيف، كما تم إحراق 800 من الأشخاص المتهمين بالسحر خلال المدة المذكورة في مقاطعة صافو وحدها، ويقدر المؤرخون عدد الأشخاص الذين أحرقوا بتهمة السحر خلال قرن واحد لا يقل عن ثلاثين ألفا، وأما عدد الذين حوكموا من جراء تهم السحر حتى بداية القرن الثامن عشر فقد بلغ المليون.
يظهر من ذلك أن وقائع إحراق السحرة لم تنقطع بانتهاء القرون الوسطى، بل استمرت بشدة خلال القرن السادس عشر، كما أنها حدثت من حين إلى حين خلال القرن السابع عشر، حتى إن التاريخ يسجل عدة قضايا من هذا القبيل، حدثت خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر أيضا.
ففي سنة 1750 حاكم بارلمان بروفانس في فرنسا راهبا يدعى جيرار بتهمة السحر، والراهب المذكور لم ينج من الإحراق إلا لانقسام آراء القضاة إلى قسمين متساويين.
ولكن في السنة نفسها اتهمت الراهبة ماريا بندا بالسحر؛ فجز رأسها وأحرق بدنها؛ تنفيذا للقرار الذي صدر بشأنها بعد محاكمتها.
هذا وقد حدثت عدة وقائع أدت إلى قتل الأشخاص المتهمين بالسحر بلا محاكمة رسمية بعد التاريخ الآنف الذكر أيضا؛ يذكرون مثلا أن صيادي الأسماك في جزيرة هيلا قتلوا امرأة متهمة بالسحر بإلقائها في لجة البحر؛ لمعرفة ما إذا كانت بريئة أم مجرمة، وذلك سنة 1836.
ومما يستلفت النظر بوجه خاص أن عدة مؤلفين أقدموا على تأليف الكتب المفصلة في السحرة والشياطين.
إن أهم وأشهر هذه المؤلفات هو الكتاب الذي نشره «اسبرنجر»
Sprenger
سنة 1489، يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام، والقسم الثالث منه يتضمن «أصول التحقيق والمحاكمة» في قضايا السحر. لقد اكتسب هذا الكتاب شهرة كبيرة، وأصبح دستورا لعمل الحكام مدة طويلة في مختلف الأقطار الأوروبية.
ومن المؤلفات الغريبة التي صدرت في هذا الشأن، الكتاب الذي طبعه «جان فيير»
Jean Vier
سنة 1568 في مدينة بازل في سويسرا، لقد أحصى المؤلف في كتابه هذا عدد الشياطين، وشرح أنواعهم، وذكر أسماء بعضهم، وفصل أعمالهم. يظهر مما جاء في هذا الكتاب أن عدد الشياطين - على زعم المؤلف - يبلغ 7405926، منهم 172 من صنف الأمراء، والبقية من الرعايا، ينقسم هؤلاء إلى 1111 فرقة، وتتألف كل فرقة منها من 6666 شيطانا! •••
إن الاعتقاد بالسحر سيطر على أذهان الكثيرين من العلماء الذين نبغوا في القرون الوسطى، بل في عهد الانبعاث أيضا.
وقد كان بينهم الرياضيون والفلاسفة والأطباء والمؤرخون.
إننا لا نرى لزوما لاستعراض أسماء هؤلاء، ولكننا نرى من الضروري أن نذكر من بينهم المؤرخ المفكر جان بودن بوجه خاص، إن هذا المؤرخ المتفلسف - الذي سبق أن أشرنا إلى آرائه في النجامة - كان من المعتقدين بالسحرة والشياطين ، ومن القائلين بوجوب تعقب السحرة وإحراقهم.
فقد ذكر جان بودن في كتابه المشهور «الجمهورية» أن الموسيقى تطرد الشياطين، كما ألف ونشر عدة كتب للبرهنة على صحة وقائع السحر، ولتبرير محاكمات السحرة المعتادة في عصره، وذلك في النصف الأخير من القرن السادس عشر للميلاد. (4) التاريخ ومشيئة الله
إن معظم المؤرخين في القرون الأولى والوسطى أدخلوا «يد الله» في الوقائع التاريخية كعامل ومؤثر مباشر، والتجئوا «إلى قدرته ومشيئته وعنايته» في تفسير التاريخ، من غير أن يبحثوا عن العلل والأسباب الطبيعية أبدا.
هذا أبو التاريخ هرودوت يذكر أعمال الآلهة بين الوقائع التاريخية، ويشرح بتفصيل كيف أنهم ينصرون فئة على فئة، وكيف أنهم يتخاصمون فيما بينهم أيضا في بعض الأحوال.
حينما يبدأ هرودوت قصة قره زوس، يقول: «لا شك في أن النكبات التي حلت بهذا الملك كانت نقمة من الآلهة؛ لأنه كان قد اغتر غرورا شديدا، وأخذ يرى نفسه أسعد خلق الله على الإطلاق.»
وحينما يشرح الحروب التي حدثت بين اليونان وبين الفرس يرجع معظم الوقائع إلى مداخلة الآلهة، ويزعم بأنها نصرت اليونان على أعدائها في كل صفحة من صفحات الحرب التي دارت رحاها بين الشعبين، فمثلا حينما يذكر العاصفة الهائلة التي فاجأت الأسطول الفارسي وأتلفت قسما كبيرا من سفنه، لا يتردد في القول بأن كل ذلك حدث بمساعدة الآلهة؛ لكيلا يبقى الأسطول الفارسي متفوقا على الأسطول اليوناني تفوقا عظيما.
إن هرودوت لم يكن منفردا في هذه النزعة الفكرية بين المؤرخين القدماء، بل إن المؤرخ المشهور «فلوروس»
Florus
أيضا كان يعزو كثيرا من الوقائع التاريخية إلى أعمال الآلهة ومداخلاتها، فهو حينما يذكر - مثلا - تفاصيل الحروب التي نشبت بين روما وبين «حنيبعل»
Annibal
لا يشك في مساعدة الآلهة للرومان، فيقول: «بعد موقعة كان، لو مشى حنيبعل على روما مباشرة؛ لأزالها من عالم الوجود حتما، ولكن الآلهة - التي كانت تعادي القرطاجيين دائما - حملته على التباعد عن عاصمة الرومان، وكذلك بعد موقعة «كابووا» أيضا، حينما بدأ حنيبعل زحفه على روما، أوقفته الآلهة عن السير في هذا الاتجاه للمرة الثانية ؛ فإن الأمطار سقطت بغزارة عجيبة، والرياح عصفت بشدة غريبة، فلم يتمكن حنيبعل من الاستمرار في الزحف، ولا شك في أن هذه العاصفة كانت قد حدثت بمشيئة الآلهة التي قصدت صد العدو المهاجم عن المدينة، حتى إنه كان يخيل للمرء أن هذه العاصفة لم تأت من السماء، بل تدفقت من أسوار روما وأجواء الكابيتول. وعلى كل حال، فقد اضطر حنيبعل إلى التباعد عن روما من جراء معاكسة هذه العواصف الخارقة للعادة.»
إن المؤرخ المذكور يقول كذلك في صدد البحث عن استيلاء الغاليين على روما: «أعتقد بأن النكبات التي حلت بروما عندئذ، كأن الآلهة قد أرسلتها بقصد امتحان الرومان؛ لمعرفة ما إذا كانوا يستحقون سلطنة العالم أم لا يستحقونها.»
إن نزعة الالتجاء إلى مشيئة الله في تعليل الوقائع التاريخية سادت على أقلام مفكري المسيحية ومؤرخيها أيضا في القرون الوسطى وفي عصر الانبعاث.
إن «القديس أوغسطين»
Saint Augustin
الذي عاش في القرن الرابع للميلاد، انتقد مؤرخي الوثنية بأسلوب لاذع متهكم من جراء نزعتهم هذه، ومع هذا لم يتمكن من تخليص نفسه من النزعة المذكورة؛ فقد كتب هو بدوره في كتابه «مدينة الله» ما يلي: «إن الله أعطى السلطنة إلى الرومان عندما شاء، وبالعظمة التي شاء أن تكون عليها، وهو الذي أعطى السلطنة قبل ذلك إلى الآثوريين، وكذلك إلى الفرس.»
وأما «بوسوئه»
Bossuet
الذي نشر خطبه المشهورة في التاريخ العام سنة 1680، فقد استسلم إلى هذه النزعة استسلاما، ووجه جميع جهوده إلى إظهار «عمل الله» في التاريخ، فقد قال فيما قاله: «إن الله يمسك بيده من فوق السماوات زمام جميع الممالك وجميع القلوب، فهو يشد عليها تارة، ويرخي العنان لها طورا، وبهذه الصورة، يسوق ويسير الجنس البشري بأجمعه.»
وقد عزا بوسوئه إلى معظم الأقوام القديمة رسالات خاصة لتنفيذ مشيئة الله في شعبه المختار، إن شعب الله المختار حسب خطب بوسوئه، هم بنو إسرائيل، إن الله استخدم البابليين والآثوريين لتأديب هذا الشعب، كما استخدم الفرس لبعثه وإعادة كيانه، واستخدم إسكندر الكبير وخلفاءه لحمايته، وخص الرومان بمهمة الدفاع عن حريته .
إن النزعة التي نحن بصددها تتجلى بوضوح من خلال بعض المؤلفات التي نشرت في القرن الثامن عشر أيضا، لعل أهم النماذج لذلك هو «العلم الجديد» الذي نشر بقلم «جان باتيستا فيكو» في أواسط القرن المذكور، لقد قال فيكو في كتابه هذا: «إن العلم الجديد لاهوت اجتماعي، يبرهن على القدرة الصمدانية بالوقائع التاريخية.»
وقال أيضا: «إن العقل يأخذ نور الحقيقة الأزلية من الله، فكل علم إنما يأتي من الله، ويرجع إلى الله، وهو من الله.»
هذا مع العلم بأن فيكو كثيرا ما يلقب بلقب «مؤسس فلسفة التاريخ».
إن نزعة الرجوع إلى الله في تعليل التاريخ تجلت حتى في بعض المؤلفات التي نشرت في أوائل القرن التاسع عشر أيضا.
فقد نشأ في فرنسا - بعد الثورة الكبرى - مذهب جديد في فلسفة التاريخ عرف باسم المذهب التيوقراطي
L’école théoeratique .
إن رجال هذا المذهب - وأشهرهم دوبونالد
De Bonald
ودومستر
De Maistre - كانوا من دعاة «الحكم الديني»، فاعترضوا بشدة على جميع الفلسفات التي تعتمد على العقل والحواس، وقالوا إن الإنسان لا يمكن أن يعرف الحقيقة إلا عن طريق الوحي والإيمان، فحاولوا أن يستخرجوا فلسفة التاريخ من الكتب المنزلة. وزعموا أن النكبات التي تحل بالبشرية ما هي إلا عقوبات من الله على الزلة الأولى، كما ذهبوا إلى أن الله جعل «الدماء والحروب» شرطا من شروط الغفران.
وذلك في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد! (5) موقف ابن خلدون من هذه الأمور
بعد هذه الجولة السريعة التي قمنا بها بين التواريخ والمؤرخين، وهذه النظرة العامة التي ألقيناها على دور الكهانة والنجامة والسحر في التاريخ، نستطيع أن نعود إلى المسألة التي سردناها في مستهل هذه الأبحاث، فنتساءل مرة أخرى: هل يحق لنا أن نعتبر الآراء والأبحاث التي وردت في مقدمة ابن خلدون حول هذه الأمور منافية لمنزلته العلمية، وهادمة لمكانته الفكرية؟
لا شك في أن الجواب المنطقي الذي يجب أن يعطى على هذا السؤال - بعد الاطلاع على التفاصيل والأمثلة التي ذكرناها آنفا - سيكون «كلا» بوجه بات.
فإن أخبار الكهانات والخرافات التي ملأت تاريخ هرودوت لم تحل دون اعتبار هذا المؤرخ من أعاظم البشرية، ولم تمنع تلقيبه بلقب «أبو التاريخ»، فكيف يجوز لأحد أن ينكر على ابن خلدون «منزلته العلمية» من جراء تطرقه إلى مسائل الكهانة، على الرغم من عمق الآراء التي أبداها في سائر أقسام المقدمة؟
إن أبحاث «النجامة» التي شغلت حيزا خطيرا في «جمهورية بودن»، لم تمنع الأوروبيين من اعتبار هذا الرجل من أكابر المفكرين، ومن إدخاله في عداد «مؤسسي فلسفة التاريخ»، فكيف يجوز لأحد أن يتردد في التسليم بعبقرية ابن خلدون الفكرية، بحجة اعتقاده بالنجامة، على الرغم من النزعة العلمية التي أظهرها في مختلف أبحاث المقدمة؟
إن يد الله أو الآلهة التي كثيرا ما تذكر في مؤلفات هرودوت وبوسوئه وفيكو وأمثالهم الكثيرين، لم تعتبر «حاطة» من منزلتهم الفكرية، فكيف يجوز لأحد أن ينكر على ابن خلدون مكانته العلمية، لمجرد رجوعه إلى علم الله وقدرة الله في نهاية كل بحث من أبحاثه المختلفة، على الرغم من توسعه في درس الحوادث الاجتماعية، وتعمقه في إظهار عواملها الطبيعية؟!
ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد بوجه خاص أن ابن خلدون لم يمزج وقائع التاريخ بأخبار الكهانة كما فعل «أبو التاريخ»، ولم يحاول تفسير التاريخ بتأثيرات النجوم كما فعل جان بودن، كما أنه لم يكتف برد عوامل التاريخ إلى مشيئة الله كما فعل بوسوئه، ولا حاول اتخاذ التاريخ وسيلة لإثبات قدرة الله كما فعل «فيكو». مع أنه كتب ما كتبه في هذا الصدد قبل جان بودن بمدة تناهز القرنين، وقبل بوسوئه بمدة تزيد على ثلاثة قرون، وقبل فيكو بمدة تقرب من ثلاثة قرون ونصف قرن، ومع أن هذه القرون التي أعقبت حياة ابن خلدون، كانت من أهم أدوار الانقلاب وأسرع عهود التقدم في التاريخ البشري.
لا شك في أنه يحق لنا أن ننتقد ابن خلدون على ذكره الشيطان والشياطين في عدة محلات من مقدمته، وعلى بحثه عن السحر بشيء من التفصيل في بعض الفصول من هذه المقدمة، غير أنه يترتب علينا ألا ننسى أبدا أن ابن خلدون كتب ذلك في عهد كان رجال الحكم والدين في أوروبا يقدمون على إحراق المئات بل الآلاف من المرضى والسحرة؛ بقصد التخلص من شرور الشياطين المستولين على أبدان هؤلاء المرضى، والمسيطرين على أرواح هؤلاء السحرة، كما يجب علينا أن نتذكر دائما بأن عددا غير قليل من العلماء والمفكرين الأوروبيين ظلوا يعتقدون بالسحر ويحبذون إحراق السحرة، ولا يحجمون عن نشر المؤلفات في هذه المواضيع، حتى بعد مضي مدة تناهز القرنين على وفاة ابن خلدون!
ويجوز لنا أيضا ألا نستحسن الخطة التي سار عليها ابن خلدون في الإشادة بعلم الله وقدرة الله في آخر كل فصل من فصول المقدمة، غير أنه يترتب علينا ألا ننسى أبدا بأن عددا غير قليل من المفكرين في أوروبا عملوا مثل ذلك، بل عملوا أكثر من ذلك، حتى بعد كتابة مقدمة ابن خلدون بعدة قرون. كما يجب علينا أن نلاحظ في الوقت نفسه أن ابن خلدون لم يفعل ذلك تهربا من التفكير في العلل والأسباب بطرق علمية، أو تخلصا من مشاق البحث عن الدلائل العقلية؛ بل إنه سار في معظم أبحاثه سيرا عقلانيا
Rationaliste
تماما، ولم يلتجئ إلى ذكر علم الله وقدرة الله ومشيئة الله إلا بعد إتمام استدلالاته واستقراءاته بالطرق العقلية والمنطقية بوجه عام.
فنستطيع أن نقول بلا تردد: إن طرائق البحث التي اختارها وسلكها ابن خلدون في هذا المضمار أكثر قربا وأشد شبها بالخطط العلمية الحالية، من الطرائق التي اتبعها بعض المشاهير الأوروبيين الذين جاءوا بعده، مثل؛ بودن، وبوسوئه، وفيكو.
إن أسماء هؤلاء الغربيين تبدو لنا - من خلال الشذرات والمقتطفات التي نعتمد عليها ونكتفي بها عادة - متحلية بهالة زاهية من الجمال والكمال، عارية عن المآخذ والشوائب، غير أننا إذا ما خرجنا عن نطاق تلك الشذرات المحدودة ورجعنا إلى المصادر الأصلية لدرس كتابات هؤلاء دراسة تفصيلية؛ لا نلبث أن نلمح النواقص والشوائب التي تستتر وراء تلك الألوان الزاهية.
ولهذه الأسباب نجد أن مكانة ابن خلدون في عالم العلم والفكر تتعالى وتتعاظم كلما توسعنا في درس كتابات أمثاله، علاوة على تعمقنا في درس آرائه المسطورة في مقدمته الثمينة.
مراجع هذه الجولة
l’histoire. 1886.
Cérin-Ricard-Histoire de l’occultisme. 1939.
J. Bodin-les six livres de la République. 1579.
J. B. Vico-Principes de la philosophie de l’histoire, traduits de la Sceinza nuova par Michelet 1827.
R. Flint-la philosophie de l’histoire en France: Traduit par Carrau 1878.
Hérodote-Histiores-Clio. Collection Budé.
La Grande Encyclopédie Articles: Divination, Astrologie, Occultisme, sorcellerie.
المدخل الثاني: حول مؤلف المقدمة
مؤلف المقدمة
1
لقد اشتهر مؤلف المقدمة بين الناس وفي بيئات العلم والأدب باسم «ابن خلدون»، ولكن اسمه كان عبد الرحمن، واسم والده محمد، وأما تلقيبه بلقب «ابن خلدون» فكان بالنسبة إلى اسم أحد أجداده القدماء، وهو الجد الذي كان دخل الأندلس مع جند اليمانية، قبل ولادة مؤلف المقدمة بمدة لا تقل عن أربعة قرون.
وقد عرف المؤلف نفسه في بداية المقدمة نفسها بالعبارة التالية: «يقول العبد الفقير إلى الله تعالى الغني بلطفه عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي.»
وأما معاصروه فقد أضافوا إلى ذلك سلسلة طويلة من الأسماء، والألقاب والنعوت، مثلا: إن الوقفية المسطورة على غلاف نسخة تاريخه المهداة إلى مكتبة جامع القرويين بفاس، ذكرته بالألقاب والنعوت التالية: «قاضي القضاة ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن ابن الشيخ الإمام أبي عبد الله محمد ابن خلدون الحضرمي المالكي.»
ولا شك في أن كنية «أبو زيد» اقترنت به بالنسبة إلى اسم ابنه الأكبر، ولقب ولي الدين خلع عليه بعدما تولى منصب قاضي القضاة المالكية في مصر، كما أن نعته بالمالكي كان تمييزا له عن قضاة سائر المذاهب وعلمائها.
ومما يلفت النظر أنه نعت نفسه بالحضرمي، مشيرا بذلك إلى اتصال نسبه بقبائل حضرموت، وأما معاصروه في مصر فكثيرا ما نعتوه بالمغربي أو التونسي؛ إشارة إلى مجيئه من بلاد المغرب.
وفضلا عن ذلك كله، كان اقتران اسم ابن خلدون في بعض الكتابات والخطابات المعاصرة له ببعض الألقاب والنعوت الأخرى حسب أنواع المناصب التي تولاها في مختلف أدوار حياته، من جملة ذلك؛ الوزير، الرئيس، الحاجب، الصدر الكبير، الفقيه الجليل، علامة الأمة، إمام الأئمة، جمال الإسلام والمسلمين.
غير أن هذه الأسماء والألقاب والنعوت الكثيرة والمتنوعة أهملت بمرور الزمان الواحد بعد الآخر، إلى أن أصبح مؤلف المقدمة يعرف ويعرف باسم «ابن خلدون»، مجردا عن سائر الأسماء والنعوت.
وذلك على الرغم من أن التاريخ يذكر عددا غير قليل من الرجال الذين كانوا يحملون مثله لقب «ابن خلدون»، وعلى الرغم من أن بعضهم كان قد نال شهرة كبيرة في السياسة، وبعضهم الآخر في العلم.
ويظهر من ذلك أن شهرة عبد الرحمن ابن خلدون فاقت شهرة جميع هؤلاء على اختلاف عهودهم، فارتبط اسم ابن خلدون في الأذهان بمؤلف المقدمة وحده، كما أن المقدمة نفسها صارت تعرف باسم «مقدمة ابن خلدون» على وجه الاختصار.
وهذه الحالة أدت إلى توريط بعض الكتاب في أخطاء فادحة:
فقد خلط بعضهم بين مؤلف المقدمة وبين أخيه الأصغر يحيى ابن خلدون، ونسب إليه كتاب التاريخ المعنون بعنوان «بغية الرواد في أخبار بني عبد الواد»، مع أن الكتاب المذكور من تأليف «أبو زكريا يحيى»، لا «أبو زيد عبد الرحمن».
وخلط بعضهم بين مؤلف المقدمة وبين عمر بن خلدون، فذهب إلى أنه حلق في العلوم الرياضية والفلك، مع أن التحليق في هذه العلوم يعود إلى «عمر بن خلدون»، الذي توفي قبل ولادة مؤلف المقدمة بمدة تقرب من ثلاثة قرون.
2
ولد ابن خلدون في تونس سنة 1332 / 732، وتوفي في القاهرة سنة 1406 / 808، وعاش بهذه الصورة مدة لا تقل عن ثلاثة أرباع القرن إلا سنة واحدة.
إن هذه السنوات الطويلة كانت زاخرة بنشاط خارق للعادة، وحيوية محيرة للعقول.
كان نشاط ابن خلدون عديد الجوانب، شمل ميادين الإدارة والسياسة، الخطابة والقضاء، الدرس والبحث، والتدريس والتأليف.
وكانت حيويته عنيفة صاخبة لا تعرف معنى للهدوء، ولا تبالي بالأخطار والأهوال؛ ولذلك صارت حياته سلسلة طويلة من حوادث النجاح والفشل، إنه وصل إلى أعلى مناصب الحكم في عهود ملوك عديدين في دول عديدة، ولكنه في الوقت نفسه تعرض إلى محن ونكبات متنوعة مرات عديدة.
إنه تنعم بنعم القصور، ولكنه ذاق مرارة الاعتقال والسجن أيضا، حضر حربا انتهت بانهزام الجماعة التي ينتسب إليها؛ فاضطرته إلى الهيام في الصحاري مدة من الزمن، كما أنه تعرض إلى غزوة جردته من كل ما كان له من أمتعة، حتى الثياب.
دخل غمار الحياة العامة قبل أن يبلغ العشرين من عمره، وقام بمهمة سياسية خطيرة بعدما وصل إلى عتبة السبعين أيضا، وبين وظيفته الأولى ومهمته الأخيرة تولى كتابة السر وخطة المظالم، وصار وزيرا، وحاجبا، وسفيرا، ومدرسا، وقاضيا، وخطيبا، وكل ذلك بين سلسلة من الحوادث والمشاكل، وبين ضروب من المنافسات والمخاصمات.
ولم يتمتع ابن خلدون خلال عمره الطويل ب «حياة الهدوء» بمعناها التام إلا نحو أربعة أعوام؛ وذلك بين أوائل سنة 1375 وأواخر سنة 1378، عندما اعتزل الحياة العامة وانزوى في قلعة ابن سلامة بعيدا عن شواغل المدن وبهارجها.
ولكن مما يلفت النظر أن هذه السنين القليلة التي اعتزل خلالها ابن خلدون الحياة العامة، وتمتع بنعم الهدوء، كانت أثمن وأخصب سني حياته، من حيث النشاط الفكري والإنتاج العلمي؛ لأن المقدمة التي ضمنت له الخلود بين أعاظم رجال الفكر في العالم كانت من نتاج هذه الحياة المنزوية في تلك القلعة النائية.
3
إن مسرح حياة ابن خلدون ونشاطه لم ينحصر بمسقط رأسه تونس، ومثوى رفاته القاهرة، بل شمل معظم أقطار العالم العربي المترامي الأطراف.
غادر ابن خلدون مسقط رأسه تونس وهو في سن العشرين، ولم يعد إليها إلا بعد ستة وعشرين عاما، تنقل خلالها بين مختلف مدن المغرب الأدنى والأقصى والأندلس، لم يمكث فيها بعد هذه العودة إلا أربعة أعوام، انتقل بعدها إلى مصر، وبقي فيها حتى آخر حياته، إلا أنه لم ينقطع عن التنقل بتاتا خلال وجوده في مصر أيضا؛ ذهب مرة إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، ومرة إلى القدس لزيارة المقامات المباركة، ومرة إلى دمشق للاشتراك في الدفاع عن المدينة عندما أخذ تيمور يغزو بلاد الشام.
وخلاصة القول: قضى ابن خلدون 24 سنة من حياته في تونس، و26 سنة منها في المغرب الأوسط والأقصى والأندلس، و24 سنة منها في مصر والشام والحجاز.
ولم يبق خارج مسارح حياته ومجالات نشاطه قطرا عربيا غير قلب الجزيرة العربية والعراق.
ولتقدير مبلغ اتساع هذه الأقطار التي عاش وعمل وتنقل فيها ابن خلدون تقديرا صحيحا، يجب علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار حالة «وسائط المواصلة» التي كان يلجأ إليها في ذلك العهد للانتقال من مدينة إلى مدينة ، ومن قطر إلى قطر. يتبين مما ذكره ابن خلدون نفسه في ترجمة حياته أن رحلته من تونس إلى الإسكندرية كانت استوجبت بقاءه على ظهر المركب أربعين ليلة، وانتقاله من الطور إلى ينبع، خلال رحلته إلى الحجاز استغرق شهرا كاملا، كما أن مجيئه من قوص إلى القاهرة - داخل القطر المصري نفسه - خلال عودته من الحج تطلب مدة مماثلة لذلك.
4
إن ظروف حياة ابن خلدون التي لخصناها آنفا ساعدت على توسيع ملاحظاته وتنمية معلوماته مساعدة كبيرة، كما أنها أثرت في تكوين أسلوب تفكيره تأثيرا عميقا.
إنه كتب المقدمة سنة 1377 / 779، بعد أن وصل إلى منتصف العقد الخامس من العمر، وبعد أن شاهد كثيرا من الانقلابات السياسية، واشترك اشتراكا فعليا في عدد غير قليل منها، ومما لا شك فيه أن الأمور التي لاحظها خلال هذه السنين الطويلة في هذه الأقطار المختلفة، وبين تلك الانقلابات المتتالية، كانت من أهم العوامل التي أثارت تأملاته، ووجهت نظرياته عندما أقدم على كتابة المقدمة.
كما أن الحياة التي عاشها ابن خلدون بعد ذلك، ولا سيما المهام التي تولاها بعد انتقاله إلى مصر، لعبت دورا هاما في توسيع مباحث المقدمة وتحويرها.
فيجدر بنا أن نلقي نظرات سريعة:
أولا:
على خصائص البيئة العائلية التي نشأ وترعرع فيها.
ثانيا:
على أحوال العصر الذي عاش وعمل وفكر خلاله.
ثالثا:
على أهم الحوادث التي تعرض إليها خلال حياته العامة.
وذلك لكي نفهم جيدا أهم العوامل التي أثرت في تكوينه الفكري العام من ناحية، والتي ألهمته النظريات التي دونها في مقدمته المشهورة من ناحية أخرى.
أسرة ابن خلدون
1
تولى ابن خلدون بنفسه كتابة ترجمة حياته، بدأها بتفصيل نسبه، وذكر أسماء أجداده المعلومين، وذلك استنادا إلى ما سمعه من الأخبار من ناحية، وإلى ما قرأه في كتب التاريخ والأنساب من ناحية أخرى.
ويتبين من الترجمة المذكورة أن أسرة ابن خلدون كانت حضرمية الأصل، يصعد نسبها إلى وائل بن حجر الذي كان من كبار الصحابة، والذي تولى مهمة تعليم القرآن ونشر الإسلام في اليمن.
وكان أحد أحفاد وائل المشار إليه آنفا، رحل إلى الأندلس مع جند اليمن، كان يسمى في بلده وبين أسرته خالد بن عثمان، ولكن اسمه هذا تحول في الأندلس من خالد إلى خلدون، وفقا لعادات المغاربة وتقاليدهم؛ ولذلك عرف بنوه وأحفاده من بعده بهذا الاسم الجديد «بنو خلدون».
لا يعين ابن خلدون تاريخ دخول هذا «الجد الأعلى» إلى الأندلس، ولكنه عندما يفصل نسبه يذكر بينه وبين وائل الآنف الذكر ستة آباء، وذلك يدل على أن وصوله إلى الأندلس، كان بعد الفتح بمدة غير يسيرة، ويحمل على الظن بأن ذلك كان في أوائل القرن الثالث للهجرة.
من المؤكد أن بني خلدون نشئوا أولا في قرمونة، حيث كان نزل جدهم الأكبر خلدون بن عثمان، ثم انتقلوا إلى إشبيلية وترعرعوا فيها.
وقد بدءوا يظهرون على مسرح السياسة ويلعبون دورا هاما فيها منذ الربيع الأخير للقرن الثالث للهجرة، إنهم كانوا من جملة الثوار الذين خلعوا طاعة الخلفاء الأمويين في الأندلس في أواخر القرن المذكور.
وبعد ذلك التاريخ ظل بنو خلدون يتمتعون بمكانة مرموقة في ميداني العلم والسياسة.
والمؤرخ الأندلسي المشهور «ابن حيان»، الذي كان من رجال القرن الحادي عشر للميلاد والخامس للهجرة، قال عنهم ما يلي: «بنو خلدون إلى الآن في إشبيلية نهاية النباهة، ولم تزل أعلامهم بين رياسة سلطانية ورياسة علمية.»
وأما أقدم من اشتهر منهم بالسياسية - أو بالرياسة السلطانية حسب تعبير «أبو حيان» - فكان كريب بن خلدون؛ كان من رؤساء الثورة التي قامت على الخلفاء الأمويين، وقد اشترك مع سائر زعماء الثورة في حكم إشبيلية في بادئ الأمر، ولكنه انفرد بذلك الحكم بعد مدة، وظل يحكم إشبيلية حكما مطلقا، إلى أن لقي حتفه في ثورة قامت عليه.
وأما أعظم من كان اشتهر من بني خلدون في ميدان العلم - أو في الرياسة العلمية حسب تعبير «أبو حيان» - فكان عمر بن خلدون، قال عنه ابن أبي أصيبعة في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء ما يلي: «أبو مسلم عمر بن خلدون الحضرمي، من أشراف أهل إشبيلية، كان متصرفا في علوم الفلسفة ، مشهورا بعلم الهندسة والنجوم والطب، توفي في بلده سنة تسع وأربعين وأربعمائة.»
كما صرح ابن أبي أصيبعة بأن عمر بن خلدون كان من تلامذة أبي القاسم مسلمة المجريطي المشهور بالعلوم الرياضية.
2
ظل بنو خلدون في إشبيلية إلى حين «غلب ملك الجلالقة ابن أدفونش عليها»، وعندئذ جلوا عنها مع من جلى، وانتقلوا إلى سبتة، ومنها إلى تونس وتوطنوا فيها.
وقد تمتع بنو خلدون في موطنهم الجديد أيضا بمكانة سامية، والسبب في ذلك يعود إلى قدم علاقاتهم مع ملوك إفريقية.
من المعلوم أن زكريا الحفصي الذي أسس الدولة الحفصية في تونس سنة 1227 / 625، كان واليا على إشبيلية قبل أن يتولى ولاية إفريقية ويستقل فيها، كما أن كلا من والده وجده أيضا كان قد تولى إدارة إشبيلية مرات عديدة، وخلال هذه الولايات كانت توطدت بينهم وبين بني خلدون علاقات حسنة، وهذه العلاقات القديمة التي كانت توطدت بين الأسرتين منذ أجيال عديدة هي التي حملت بني خلدون على اختيار تونس مهجرا لهم - ترجيحا على سائر الأقطار المغربية - وهي التي ساعدتهم مساعدة كبيرة على أن يحصلوا على مكانة ممتازة هناك أيضا، تحت رعاية الأسرة المالكة الحفصية.
ظل بنو خلدون يتقلبون في تونس أيضا بين «رياسة علمية ورياسة سلطانية»، تولوا عدة مرات أعلى مراتب الدولة، واشتركوا في الكثير من حروبها دون أن يقطعوا صلاتهم بالعلم والأدب.
كان الجد الثاني لمؤلف المقدمة تولى الوزارة والقيادة، ومات مقتولا خلال إحدى الثورات، وكان جده الأقرب أيضا تولى الوزارة عدة مرات، وكثيرا ما ناب عن السلطان خلال غيابه عن عاصمة الملك، إلا أن والد ابن خلدون «آثر العلم والرباط على السيف والخدمة»، وانصرف بكليته إلى العلم والأدب، ويقول عنه ابن خلدون: «إنه قرأ وتفقه، وكان مقدما في صناعة العربية، وله بصر بالشعر وفنونه، وعهدي بأهل الأدب يتحاكمون إليه فيه، ويعرضون حوكهم عليه.»
3
لقد نشأ ابن خلدون وترعرع في كنف هذه الأسرة، يسمع منذ صغره مناقب أجداده، ويحضر مجالس والده، ويعي أحاديث ضيوفه وزواره.
وكان من شأن هذه البيئة العائلية أن تولد في نفسه نزعتين قويتين؛ حب المنصب والجاه من ناحية، وحب الدرس والعلم من ناحية أخرى.
إن كل واحدة من هاتين النزعتين كانت عميقة الجذور وشديدة التأثير في نفسية ابن خلدون، إنهما تنازعتا السيطرة على تلك النفسية مدة طويلة، وتغلبت - إلى حد ما - تارة الأولى على الثانية، وطورا الثانية على الأولى، إلا أن هذه الغلبة لم تصبح حاسمة في وقت من الأوقات، وظلت النزعتان تؤثران في ابن خلدون طول حياته، دون أن تستطيع الواحدة منهما القضاء على الأخرى قضاء مبرما.
ولذلك نجد ابن خلدون ينكب في بادئ الأمر على الدرس والتحصيل بكل نهم، ولكنه بعد ذلك حالما يدخل الحياة العامة ينجرف بتيار حب المنصب والجاه، ويخوض غمار الحياة السياسية بكل اندفاع، ويعيش قرابة ربع قرن عيشة حافلة بشتى حوادث الطموح والمغامرة، ولكنه خلال هذه الحياة السياسية المغامرة أيضا لا يتخلى عن حب الدرس والعلم، بل ينتهز كل الفرص للاستزادة من العلم بكل الوسائل الممكنة.
وفضلا عن ذلك يشعر من وقت إلى آخر برغبة شديدة تحدوه إلى التخلص من الشواغل العامة، ليستطيع التفرغ إلى العلم والدرس.
وقد حاول ابن خلدون مرارا الاستسلام إلى هذه الرغبة لتحقيق تلك الأمنية، ولكن الحوادث السياسية كانت لا تلبث تجرفه في تيارها من جديد، وتبعده عن حياة العلم والدرس مرة أخرى.
واستمر الحال على هذا المنوال مدة طويلة بين جزر ومد، إلى أن استطاع ابن خلدون - في آخر الأمر - أن يعتزل الحياة العامة، ويتباعد عن مسارح السياسة منزويا في قلعة ابن سلامة.
من المعلوم أن ابن خلدون كتب المقدمة خلال هذا الاعتزال عندما انصرف إلى التفكير والتأليف، ولكن يجب علينا ألا ننسى أن التجارب التي اكتسبها، والملاحظات التي ادخرها، والمعلومات التي جمعها خلال حياته السياسية المعقدة لعبت دورا هاما في هذا المضمار؛ لأنها زودته بعناصر النظريات التي دونها في المقدمة بعد انزوائه في تلك القلعة النائية.
ونستطيع أن نقول لذلك: إن النزعتين المذكورتين تضافرتا على تمكين ابن خلدون من تأليف المقدمة، إن حب المنصب والجاه دفعه إلى خوض غمار الحياة السياسية، ولكن حب الدرس والعلم جعله يتأمل في صفحات هذه الحياة تأملا نظريا، ليس ليستخرج منها قواعد عملية للحكم والسياسة، بل ليستقرئ منها مبادئ عامة تساعد على إبداع علم جديد هو علم الاجتماع.
4
بعد أن علمنا تأثير «مناقب الأسرة وتقاليدها الأساسية» في نفسية ابن خلدون، يجدر بنا أن نلقي نظرة عابرة إلى حياته العائلية أيضا:
كان جد مؤلف المقدمة لا يزال حيا عند ولادته هو، إلا أنه مات عندما كان ابن خلدون لا يزال طفلا في الخامسة من عمره.
وأما والده ووالدته فقد عاشا حتى بلوغه السابعة عشر من العمر، وماتا معا خلال الطاعون الجارف الذي عم البلاد.
وهكذا حرم ابن خلدون من الأب والأم في وقت واحد عندما كان في عتبة الشباب، ولم يبق حوله من أسرته إلا أخ أكبر منه، وآخر أصغر.
ونحن نعتقد أن حرمان ابن خلدون من والديه في سن مبكرة كان من العوامل التي قللت ارتباطه بأسرته وبمسقط رأسه، وفتحت أمامه أبواب الرحلة والتنقل على مصراعيها، وساعدته بذلك على خوض غمار الحياة السياسية في تلك الأزمنة المضطربة في مختلف الأقطار المغربية.
في الواقع أن ابن خلدون تزوج عندما كان في المغرب الأوسط، وأنجب عدة أولاد، فأصبح بذلك رئيس عائلة.
ولكن يظهر أنه كان قد تعود التنقل والمغامرة قبل ذلك، ولهذا السبب نجد أن أعباء هذه العائلة لم تؤثر في سير حياته أبدا، ويتبين من ترجمة حياته أنه عندما كان ينتقل من مدينة إلى أخرى، ومن قطر إلى آخر كان يفارق عائلته إلى أن يستقر - إلى حد ما - في محل جديد، فيستدعيها بعد ذلك إلى هناك، ونحن نعلم أن هذه الحالة تكررت مرات عديدة في تواريخ مختلفة.
مثلا عندما رحل إلى الأندلس صرف زوجته مع أولاده إلى أخوالها في قسنطينة، ولم يستدعها إلى غرناطة إلا بعد أن تهيأت له أسباب الاستقرار هناك، ولكن من المعلوم أنه لم يمكث في الأندلس - بعد وصول عائلته - أكثر من سنة، وسافر بعدها إلى بجاية ، وعاد مرة أخرى إلى معامع السياسة.
وكذلك عندما رحل من تونس إلى مصر، ترك عائلته في مسقط رأسه، ولم يستدعها إلى القاهرة إلا بعد أن استقر فيها وصار مدرسا، ولكن هذه المرة لم يتيسر له الالتقاء بها؛ لأن السفينة التي كانت تقل العائلة مع أمتعتها غرقت قبل الوصول إلى الإسكندرية، وأصبح ابن خلدون محروما من الأهل والعيال بكل معنى الكلمة.
عصر ابن خلدون
إن العصر الذي عاش وعمل وفكر خلاله ابن خلدون - النصف الثاني من القرن الثامن للهجرة، والرابع عشر للميلاد - كان من عصور التحول والانتقال في جميع أنحاء العالم المتمدين المعلوم إذ ذاك؛ تحول وانتقال نحو التفكك والانحطاط في العالم العربي، وتحول وانتقال نحو النهوض والانبعاث في العالم الغربي.
فيجدر بنا أن نستعرض أحوال ذلك العصر في كل واحد من هذين العالمين على حدة. (1) العالم العربي
كان العالم العربي ينقسم في عهد ابن خلدون بين الناس وبين الكتاب إلى قسمين أساسيين؛ المغرب والمشرق.
فإن البلاد التي تمتد بين مصر وبين البحر المحيط كانت تعتبر «المغرب»، في حين أن مصر وما يليها من البلاد العربية كانت تعتبر «المشرق».
إن سكان المغرب لا يزالون يتمسكون بهذه الأسماء، فيعتبرون أنفسهم «مغاربة»، ويسمون أهل مصر والشام والعراق والحجاز «مشارقة».
وأما الأندلس فكانت مغربية بوضعها الجغرافي، وإن كانت منفصلة عما يسمى «بلاد المغرب» بوجه عام. (1-1) الأندلس
كانت معظم بلاد الأندلس قد خرجت من حوزة العرب ودخلت تحت حكم الإسبان، بما في ذلك أهم مراكز الحضارة الأندلسية، من طليطلة وقرطبة إلى إشبيلية، وكان جماعات كبيرة من سكانها العرب قد جلت عنها إلى المغرب وإلى إفريقية - أي إلى مراكش وتونس، ولم يبق تحت حكم العرب هناك سوى قطعة صغيرة في الجنوب الغربي تكاد تنحصر بين غرناطة وبين المرية وجبل الفتح.
وكان يحكم هذه البقية الباقية من الأندلس «بنو الأحمر»، ولكن أمراء هذه الأسرة نفسها كثيرا ما كانوا يتنافسون على الحكم ويتخاصمون عليه، وكانوا يتخاصمون في بعض الأحيان مع سلاطين المغرب أيضا.
وكثيرا ما كان الأمراء والحكام الذين يفشلون في ثوراتهم على سلاطينهم يلتجئون إلى المغرب إذا كانوا من الأندلسيين، وإلى الأندلس إذا كانوا من المغاربة، وإذا حدث خلاف بين سلطان المغرب وسلطان الأندلس - لسبب من الأسباب - راح كل واحد منهما يطلق زعماء الثورة اللاجئين إلى بلاده؛ بغية إحداث شغب واضطراب في بلاد خصمه. «إن ابن خلدون رحل إلى الأندلس مرتين؛ في المرة الأولى مكث فيها ثلاث سنوات ثم غادرها باختياره، ولكنه في المرة الثانية لم يمكث فيها إلا بضعة أشهر وغادرها مكرها.» (1-2) المغرب العربي
وأما بلاد المغرب فكانت تجزأت - منذ انقراض دولة الموحدين - إلى ثلاث دول، يحكمها ثلاث أسر حاكمة؛ بنو مرين في المغرب الأقصى، بنو عبد الواد في المغرب الأوسط، وبنو حفص في المغرب الأدنى الذي كان يسمى «إفريقية». (1)
كانت دولة بني عبد الواد أضعف هذه الدول الثلاث، وأشدها تعرضا إلى الفتن والتقلبات؛ لأنها كانت محصورة بين الدولتين الأخرتين، فكانت مضطرة إلى توزيع قواها على الجبهتين، وفضلا عن ذلك فإن عاصمتها تلمسان لم تكن بعيدة عن مدينة فاس، التي كانت عاصمة بني مرين الأقوياء.
ولذلك كانت حدود هذه الدولة في حالة جزر ومد؛ تتوسع تارة، وتتقلص طورا، وتتلاشى في بعض الأحيان، فقد استولى بنو مرين على عاصمتها عدة مرات، فاضطر أمراؤها إلى الانتباذ في الجبال والقفار، أو الالتجاء إلى الأقطار العربية الأخرى؛ انتظارا لسنوح الفرص التي تساعدهم على استعادة ملكهم، واسترداد عاصمتهم من المستولين عليها.
إن أحوال الدولة المرينية والدولة الحفصية كانت أكثر استقرارا من ذلك، إلا أن هذا الاستقرار كان نسبيا؛ كان الحكم قد استقر في الأسرة المرينية في فاس، والأسرة الحفصية في تونس، ولكن أفراد كل واحدة من هاتين الأسرتين قلما كانوا ينقطعون عن التنافس على الملك والسلطان، وكثيرا ما كان السلاطين أنفسهم يوزعون بلادهم على أولادهم، ويقطعون لكل واحد منهم إمارة يستمتع بحكمها طول حياته، وقد يورثها إلى أولاده بعد مماته، وكثيرا ما كان هؤلاء الأمراء يسعون إلى توسيع حدود إماراتهم على الرغم من وشائج القرابة القائمة بينهم وبين جيرانهم، وكثيرا ما كانت تنشب حروب ومخاصمات بين أبناء العم، أو بين الإخوة، وقد سجل التاريخ مخاصمات وحروبا عديدة قامت بين الآباء والأبناء أيضا.
وطبيعي أن حكام الأقاليم كثيرا ما كانوا يستفيدون من المنافسات التي تقوم بين أفراد الأسرة المالكة، ويستقلون في شئون البلاد التي يحكمونها، ويوجدون بذلك دويلات شبه مستقلة لا ترتبط بالدولة المركزية إلا بروابط اسمية واهية.
وكثيرا ما كان بعض الوزراء ينتفضون على سلاطينهم؛ يخلعونهم أو يقتلونهم، وينصبون محلهم أحد الأمراء القاصرين؛ لكي يبقوا هم أصحاب الأمر والنهي تحت ستار الكفالة - أي الوصاية - عن السلطان الجديد.
ولا حاجة إلى البيان أن هؤلاء قلما كانوا يستطيعون أن يستمتعوا بالحكم مدة طويلة بعدما يتوصلون إليه بمثل هذه الوسائل؛ لأن كل ثورة من هذا القبيل كانت تثير أطماح الآخرين، وتفتح بابا لثورات معاكسة ومنافسة، فلا تترك مجالا لاستقرار الأمور على حال من الأحوال.
وهكذا كانت القلاقل والاضطرابات والانقلابات تتوالى بدون انقطاع. «إن ابن خلدون دخل الحياة العامة وخاض غمار الحياة السياسية مدة ربع قرن، في هذا العصر الذي كان يغلي بشتى أنواع الفتن والثورات، ومما تجدر الإشارة إليه أنه قضى معظم سني حياته السياسية في بلاد المغرب الأوسط التي كانت بمثابة البؤرة الأساسية في هذه التقلبات.» (2)
ولإعطاء فكرة واضحة عن التقلبات السياسية التي كانت تتوالى في بلاد المغرب، نرى أن نستعرض هنا طائفة من الوقائع التي حدثت خلال حياة ابن خلدون نفسه: (أ)
إن السلطان المريني «أبو الحسن» عندما تولى الملك أخذ يسعى إلى توسيع حدود مملكته؛ فاستولى أولا على تلمسان، وقضى على دولة بني عبد الواد، ثم واصل الحروب والفتوح نحو الشرق، فاستولى على بجاية التي كانت تابعة إلى إفريقية، واعتقل الأمير الحفصي الذي كان يحكمها، ونقله مع سائر الأمراء إلى تلمسان، وفرض على جميعهم الإقامة هناك بعيدين عن بلادهم، وبعد ذلك استولى على قسنطينة أيضا، وأبعد أميرها الحفصي إلى فاس.
وفي الأخير واصل الزحف نحو الشرق، إلى أن استولى على تونس، واستطاع بذلك أن يجمع تحت حكمه بلاد المغرب - الأدنى والأوسط والأقصى - من خليج قابس إلى البحر المحيط. «كان ابن خلدون إذ ذاك في السادسة عشر من العمر.» (ب)
إلا أن حكم هذا السلطان المريني على تونس لم يدم أكثر من سنتين؛ لأن القبائل التي كانت ساعدته على فتح تونس انقلبت عليه بعد سنة وحاصرته في القيروان.
وعندما وصلت أخبار واقعة القيروان إلى تونس تشجع أهل المدينة، وثاروا على الحكام المرينيين، وحاصروهم في القصبة، وأعلنوا ولاءهم للحفصيين، وبعد مدة وجيزة اقتدى بهؤلاء أهالي قسنطينة أيضا، وثاروا على حكم بني مرين.
وأما السلطان أبو الحسن، فبعد أن بقي محاصرا في القيروان مدة من الزمن، استطاع أن يتفق مع بعض القبائل ويخترق الحصار، ويخرج إلى مدينة سوسة، وينتقل منها إلى تونس عن طريق البحر، وهناك تغلب على الثوار، وفك الحصار عن جماعته المحاصرين في القلعة، وأخضع بذلك البلاد إلى حكمه مرة ثانية.
غير أنه لم يكد ينتهي من إخماد هذه الثورة إلا واستخبر أن ابنه «أبو عنان» الذي كان تركه في فاس نائبا عنه قد انتقض عليه، وأعلن نفسه سلطانا على المغرب.
ولذلك اضطر السلطان أبو الحسن إلى مغادرة تونس بحرا؛ بغية إخماد ثورة ابنه عليه، تاركا ابنه الآخر «أبو الفضل» في تونس؛ لينوب عنه في حكم إفريقية. (ج)
ولكن جماعة الحفصيين لم يتأخروا في الاستفادة من هذه الحوادث للتخلص من حكم المرينيين.
فإن الوزير «ابن تافراكين» - الذي كان تزعم ثورة التونسيين على السلطان «أبو الحسن» ثم فر إلى الإسكندرية عند تغلب السلطان عليهم - أسرع في العودة إلى تونس وتغلب على نائب السلطان المريني وأقصاه عن إفريقية، ثم نصب على العرش السلطان «أبو إسحاق الحفصي»، على أن يكون تحت كفالته ووصايته. «ابن خلدون دخل الحياة العامة في هذا العهد؛ إذ عينه الوزير ابن تافراكين كاتبا للعلامة لهذا السلطان.» (د)
ولكن منصب السلطان «أبو إسحاق» تحت كفالة ابن تافراكين لم يرق لصاحب قسنطينة؛ لأنه كان أميرا حفصيا، فكان يرى نفسه أحق بالسلطنة؛ ولذلك ثار على الحكم الجديد، وزحف بجيوشه على تونس وحاصر المدينة.
ولكنه خلال هذا الحصار تلقى أخبارا مقلقة عن حوادث المغرب الأوسط والأقصى؛ علم أن السلطان المريني عاد إلى الزحف نحو الشرق، فاستولى من جديد على تلمسان وعلى بجاية، وصار قريبا من قسنطينة، ولذلك رأى الأمير الحفصي أن يعدل عن حصار تونس، فيعود إلى مقر إمارته الأصلية؛ ليدافع عنها ويحول دون استيلاء المرينيين عليها. «ابن خلدون حضر أول الاصطدامات التي حدثت بين جماعة صاحب قسنطينة وبين جماعة سلطان تونس، وغادر إفريقية إلى المغرب عقب هذا الاصطدام.» (ه)
وأما السلطان أبو الحسن المريني الذي كان غادر تونس بحرا بغية إخماد ثورة ابنه عليه - كما ذكرنا آنفا - فإنه لم يستطع أن يسترد عرشه، مع أنه عانى في سبيل ذلك كثيرا من المحن والمشاق؛ لأن الأسطول الذي كان يقله تعرض لعاصفة شديدة أدت إلى غرق السفن بأجمعها، ومع هذا استطاع السلطان أن يتغلب على الأمواج فيصل إلى الساحل، وانتقل من هناك إلى مدينة الجزائر، حيث أخذ يدعو لنفسه، ويجمع الناس حوله.
واستطاع السلطان بعد ذلك أن يصل إلى مراكش عن طريق الصحراء، إلا أنه نكب هناك بانهزام جيوشه في الموقعة التي دارت بينها وبين جيوش ابنه، ولم يعش بعد ذلك إلا بضعة أيام.
وهكذا أصبح «أبو عنان» سلطانا على المغرب دون منازع. (و)
وكان أبو عنان - عندما أعلن نفسه سلطانا على المغرب في حياة والده - اتخذ تدابير عديدة للحيلولة دون عودة ذلك الوالد إلى مقر ملكه؛ وكان من جملة هذه التدابير إعادة الأميرين الحفصيين - المقيمين في فاس وتلمسان - إلى مركزي إمارتيهما السابقتين؛ بجاية وقسنطينة، على شرط أن يدافعوا عنهما ضد السلطان «أبو الحسن»، فلا يتركوا مجالا لاجتيازه تلك البلاد، بغية الوصول إلى المغرب الأقصى.
وبديهي أن هذا التدبير كان يعني التنازل عن الإمارتين اللتين كان فتحهما والده قبلا.
وطبيعي أن بني عبد الواد الذين كانوا يتربصون الفرص لاستعادة ملكهم، لم يتأخروا في الاستفادة من هذه الحوادث التي قامت بين الابن وبين الوالد، وعادوا إلى عاصمتهم السابقة بدون عناء.
وبهذه الصورة عادت حدود دولة بني مرين إلى ما كانت عليه قبل فتوحات السلطان «أبو الحسن».
ولكن السلطان «أبو عنان» بعدما تخلص من مناوأة والده، واطمأن بذلك على توطد حكمه في المغرب الأقصى، أخذ يعد العدة لاسترداد البلاد التي كانت خرجت عن حوزة الدولة المرينية خلال الحوادث الأخيرة.
وبعد إتمام استعداداته زحف على تلمسان واستولى عليها، ثم واصل الزحف شرقا إلى أن وصل إلى بجاية وأخضعها إلى حكمه، وأبعد عنها أميرها الحفصي مرة أخرى، ونقله إلى مدينة فاس. «ابن خلدون اتصل بالسلطان «أبو عنان» خلال زحفه هذا، ثم دخل في خدمته، وكان عندئذ قد بلغ الثالثة والعشرين من العمر.» (ز)
السلطان أبو عنان لم يعش مدة طويلة بعد الوقائع التي ذكرناها آنفا، وبموته - وبتعبير أدق خلال مرض موته - بدأت سلسلة جديدة من الأزمات والانقلابات المعقدة، وعمت جميع أنحاء المغربين الأوسط والأقصى.
خلال احتضار السلطان المشار إليه قام وزيره «الحسن بن عمر» بالأمر، ونصب على العرش ابنه الصغير «السلطان السعيد»، معلنا نفسه وصيا عليه، ولكن سائر أمراء بني مرين لم يوافقوا على هذا الإجراء، ولم يعترفوا بسلطنة السعيد، بل التفوا حول الأمير منصور، وحاصروا الوزير مع سلطانه الصغير في البلد الجديد من مدينة فاس.
وبينما كان النزاع قائما بين هاتين الجماعتين حول العرش، ظهر إلى الميدان مطالب ثالث زاد الأمور بلبلة وتعقيدا، هذا المطالب الجديد كان «أبو سالم» ابن السلطان «أبو الحسن».
عندما انتفض السلطان «أبو عنان» على والده، كان اعتقل إخوته ونفاهم إلى الأندلس، وكان أبو سالم من جملة هؤلاء المبعدين، وحينما وصله خبر موت أخيه أسرع في العودة من الأندلس، وأخذ يبث الدعوة لنفسه بوسائل شتى، حتى استطاع أن يجمع حوله جماعة كبيرة بين المناصرين، وأن يتغلب بواسطتهم على الجماعتين المتنافستين - أنصار السعيد وأنصار المنصور - في وقت واحد.
وهكذا أصبح أبو سالم سلطانا على المغرب الأقصى. «كان ابن خلدون مقيما في فاس عند جريان هذه الحوادث المعقدة، إنه ناصر السلطان الأخير، وبقي في خدمته مدة من الزمن.» (3)
ومما تجب ملاحظته في هذا المضمار أن كل صفحة من صفحات الحوادث التي ذكرناها ولخصناها آنفا، كانت مترافقة بسلسلة طويلة ومعقدة من الاضطرابات والتقلبات المحلية والفرعية التي لم نر لزوما إلى ذكرها وتفصيلها.
هذا ويجب أن يلاحظ في الوقت نفسه أن كل هذه الحوادث والتقلبات تعود إلى فترة قصيرة من الزمان، إن تاريخ استيلاء السلطان المريني على تونس كان سنة 1347 / 748، وأما تاريخ وصول السلطان «أبو سالم» إلى كرسي السلطنة في فاس فكان سنة 1358 / 760، وذلك يعني أن الوقائع التي ذكرناها آنفا حدثت خلال إحدى عشرة سنة!
ولا يظن أن هذه السنوات كانت من الأزمنة الشاذة الزاخرة بالتقلبات الخارقة للعادة؛ لأن الشواهد التاريخية لا تترك مجالا للشك في أن الأوضاع السياسية في المغرب العربي، ولا سيما في المغرب الأوسط والأقصى، كانت دائمة التقلب على المنوال الذي وصفناه آنفا.
وأما أهم القوى التي كانت تستند إليها وتستخدمها هذه الثورات والانقلابات، فكانت العشائر البدوية - العربية والبربرية - المنبثة في مختلف الأقطار المغربية؛ لأنها كانت بمثابة قوات مسلحة مستعدة للغزو والحرب في خدمة هذا الأمير أو ذاك، وكان عملها يشبه إلى حد كبير عمل «الجيوش المرتزقة» التي تكونت في أوروبا، ولا سيما في إيطاليا في أواخر القرون الوسطى.
هذا وكانت بعض العشائر الكبيرة بمثابة دويلات مستقلة، «تجبي الإتاوات تحت اسم الخفارة»، وكثيرا ما تأبى أن تدفع إلى السلطان شيئا من الضرائب، وتناصر هذا السلطان أو ذاك حسب سير الأحوال والظروف.
ولا حاجة إلى القول إن انضمام مثل هذه العشائر القوية إلى جيوش هذا الأمير أو ذاك، أو خروجها على هذا أو ذاك، كثيرا ما كان يقرر مصير الحرب ويضمن النصر لهذا أو ذاك. «إن ابن خلدون عاشر القبائل البدوية مدة طويلة، واكتسب على البعض منها نفوذا كبيرا بفضل ذكائه وجرأته، ونفوذ نظره وطلاقة لسانه، وصار يؤثر في سياسة الدول المغربية تأثيرا ملحوظا بفضل علاقاته بالعشائر المذكورة، وسيطرته المعنوية عليها.» «ولا شك في أن ما كتبه عن «تاريخ المغرب» بوجه عام، وعن «العمران البدوي» بوجه خاص، كان من نتائج المعلومات التي جمعها، والخبرات التي اكتسبها خلال معاشرته الطويلة لمختلف القبائل العربية والبربرية.» (4)
ونرى من المفيد أن نستعرض صفحات حياة أحد الأمراء الذين عاصروا ابن خلدون واتصلوا به اتصالا وثيقا؛ وذلك لكي نعطي فكرة أوضح مما سبق عن مبلغ تعقد هذه الأزمات، والتقلبات السياسية المتتالية: (أ)
إن الأمير الحفصي محمد بن عبد الله كان يتولى إمارة بجلية تابعا لسلطان إفريقية في تونس. (ب)
فقد إمارته عندما أغار عليها السلطان أبو الحسن المريني كما ذكرنا ذلك آنفا. (ج)
ولكنه عاد إلى مقر إمارته، وصار يحكمها كالسابق عندما ثار السلطان أبو عنان على والده، ورأى أن يعيد الأمراء الحفصيين إلى إماراتهم؛ ليدافعوا عنها ويحولوا دون عودة والده إلى مملكته. (د)
فقد إمارته مرة أخرى عندما عاد السلطان أبو عنان واستولى على بجاية بعد موت والده، وصار الأمير يعيش مرة أخرى بعيدا عن بلاده. (ه)
عندما مرض السلطان أبو عنان فكر الأمير محمد بالفرار من فاس لاستعادة إمارته، إلا أن السلطان علم بالأمر وأفسد عليه خطته. (و)
ومع هذا استطاع الأمير أن يغادر فاس بعد موت السلطان المشار إليه، وأن يتوجه نحو مقر إمارته، إلا أنه وجد أن عمه «أبو إسحاق الحفصي» سبقه في الاستيلاء على بجاية، فاضطر إلى محاصرتها، وبذل جهودا جبارة لتخليصها من حكم ذلك العم. (ز)
ولكنه بعدما استولى على بجاية، وأخذ يوطد حكمه فيها تعرض إلى خصومة جديدة وهجوم جديد؛ ابن عمه صاحب قسنطينة أراد توسيع حدود إمارته، وزحف على بجاية، والأمير محمد لقي حتفه خلال الاصطدام الذي وقع بين جيشه وبين جيوش ابن عمه. «ابن خلدون اتصل بهذا الأمير الحفصي عندما كان مبعدا في فاس، وسجن من أجله عندما حاول الفرار إلى بجاية، ثم صار حاجبا له عندما استطاع أن يسترد إمارته.» (1-3) المشرق العربي
مصر كانت تحت حكم المماليك مع الديار الحجازية والشامية.
وكانت الأوضاع السياسية في هذه البلاد أكثر استقرارا بكثير من أوضاع البلاد المغربية.
في الواقع إن موت السلطان كثيرا ما كان يحدث أزمات سياسية خطيرة، غير أن هذه الأزمات كانت تبقى - بوجه عام - محصورة بين المماليك، وقلما كان يشترك فيها جماعات السكان. «إن ابن خلدون قد قضى أربعة وعشرين عاما من سني حياته الأخيرة في البلاد المذكورة، إلا أن انتقاله إليها كان تم بعد تأليف المقدمة، كما أن اشتغاله هناك انحصر في التدريس والقضاء، ولم يشمل سائر الأمور السياسية.»
وأما العراق فكان في عهد ابن خلدون تحت حكم الجلائريين حتى استيلاء تيمور، ولكن حكم الجلائريين لم ينحصر بالعراق العربي وحده، بل كان يشمل القسم الغربي من إيران، وعلى الأخص إقليم أذربيجان أيضا.
والسلاطين الجلائريون كانوا اتخذوا بغداد «العاصمة الشتوية»، وتبريز «العاصمة الصيفية» لسلطنتهم المؤلفة من قسم عربي وآخر إيراني. «إن ابن خلدون لم يذهب إلى العراق، ولم يتصل بأحد من حكام العراق ورجاله.» (1-4) الوحدة الأدبية والثقافية
مما تجدر ملاحظته أن العالم العربي في عصر ابن خلدون كان يتمتع بوحدة أدبية وثقافية واضحة المعالم، على الرغم من تفككه السياسي الذي وصفناه آنفا.
كانت وحدة اللغة تربط مختلف أقطار العالم العربي بروابط معنوية قوية، وتعمل على الدوام على تقارب الأفكار وتجاوب النفوس، كما أن حركات التجارة من ناحية، وفروض الحج من ناحية أخرى كانت تولد تيارات مستمرة تسهل التعارف بين سكان الأقطار المختلفة، وتساعد على انتقال الأفكار والأخبار بين هذه الأقطار.
كان الأدباء والفقهاء والعلماء يتصلون بعضهم ببعض بالمخابرة أو بالمشافهة، وكانت ثمرات قرائحهم تنتقل من قطر إلى قطر إلى آخر بسرعة وسهولة، وكانت شهرة الكبار منهم تنتشر على جميع الأقطار العربية.
وربما كانت حياة ابن خلدون نفسه من أبلغ الأمثلة وأوضح الأدلة على هذه الوحدة الأدبية والثقافية، التي كانت تبسط أجنحتها على جميع البلاد العربية، على الرغم من اختلاف أوضاعها السياسية، وعلى الرغم من منافسات حكامها ومخاصماتهم المتوالية.
وهذه الوحدة الأدبية هي التي تفسر لنا سهولة انتقال ابن خلدون من قطر إلى آخر، وسرعة انتشار شهرته بين هذه الأقطار؛ فإننا نجده يخطب ويدرس في الجامع الكبير في غرناطة، وفي جامع القرويين في فاس، وفي جامع القصبة في بجاية، وفي جامع الزيتونة في تونس ، كما نجده يعقد حلقات التدريس في جامع الأزهر غداة وصوله إلى القاهرة، ونجده في الأخير يجتمع بعلماء الشام في المدرسة العادلية بدمشق.
إن بعض المخابرات المدونة في ترجمة حياة ابن خلدون تعطينا أمثلة أوضح من ذلك على الوحدة الفكرية والأدبية التي أشرنا إليها آنفا.
عندما كان ابن خلدون مقيما في بيسكرة - في المغرب الأوسط - يتلقى كتابا من الوزير لسان الدين ابن الخطيب في غرناطة، يتكلم فيه عن مؤلفاته، كما يصف له ما حدث من الوقائع السياسية في الأندلس، وابن خلدون يرد عليه بكتاب طويل يخبره به ما حدث في المغرب الأوسط، ثم ينقل إليه ما وصل إلى علمه من حوادث مصر أيضا.
وعندما كان ابن خلدون في ينبع - خلال رحلته لأداء فريضة الحج - يتلقى كتابا من ابن زمرك - كاتب سر السلطان ابن الأحمر في غرناطة - يعطيه بعض الأخبار، ويرسل له بعض القصائد، ويطلب منه بعض المعلومات وبعض الكتب.
وفي الوقت نفسه يتلقى كتابا آخر من علي بن حسن البني - قاضي الجماعة بغرناطة - يدل على مبلغ اهتمام الطرفين بأخبار بعضهم البعض من ناحية، وأخبار بلادهم من ناحية أخرى.
1
وخلاصة القول: إننا نستطيع أن نجزم بأن العالم العربي كان لا يزال موحدا من حيث الأدب والثقافة، وإن كان في غاية التفكك من حيث الحكم والسياسة.
إن حياة ابن خلدون لا يمكن أن تفهم على وجهها الصحيح إلا بملاحظة هذه الحقيقة الهامة. (2) العالم الإسلامي
إن العالم العربي في عهد ابن خلدون كان كثير الصلات بالبلاد الإسلامية الأخرى أيضا. (1)
وتلك البلاد كلها كانت في دور انتقال هام:
انقراض الدولة السلجوقية من ناحية، والدولة المغولية من ناحية أخرى، كان أدى إلى انقسام البلاد إلى عدد كبير من الإمارات والدويلات الصغيرة، ولكن بعد ذلك بدأت حركتان قويتان تعملان على إزالة هذا التفكك وتوحيد تلك البلاد، إن إحدى هاتين الحركتين كانت فتوحات تيمورلنك، والثانية كانت قيام دولة آل عثمان.
تيمور قام بفتوحات عظيمة شملت جميع الأقطار الآسيوية التي تمتد من الصين إلى العراق، ثم استولى على العراق أيضا، وأخذ يتغلغل في بلاد الشام من ناحية، وفي بلاد الأناضول من ناحية أخرى.
ولكن الدولة التي أنشأها تيمور بهذه الفتوحات السريعة لم تعش مدة طويلة؛ لأنها تجزأت عقب وفاته لتقسيم أقطارها بين أولادها، ثم بين أولاد أولاده.
وأما الدولة التي أنشأها آل عثمان فقد سارت في طريق التوسع والفتوح ببطء كبير بالنسبة إلى سرعة فتوحات تيمور، ولكن فتوحاتها هذه صارت أرسخ وأمتن، وأوجدت أوضاعا سياسية دامت قرونا عديدة.
في الواقع إنها تعرضت إلى صدمة قوية وأزمة خطيرة، عندما حاربها تيمور في ضواحي أنقرة؛ لأن الحرب المذكورة انتهت بانهزام الجيوش العثمانية وأسر سلطانهم بايزيد الأول، وذلك أدى إلى انقسام المملكة بين أولاده الأربعة، ولكن السلطان محمد الأول استطاع - بعد بذل جهود شاقة - أن يتغلب على منافسيه، وأعاد إلى السلطنة العثمانية وحدتها السابقة.
ومن المعلوم أن السلطنة المذكورة أخذت تتوسع بعد هذه الأزمة بسرعة كبيرة، ولا سيما في القارة الأوروبية. «ابن خلدون التقى بتيمور عندما حاصر دمشق، وكانت ملاقاته هذه خاتمة أعماله السياسية، وذلك قبل موته بست سنوات.» «ولكنه لم يلتق بأحد من سلاطين آل عثمان.» (2)
ابن خلدون لم يرحل إلى بلد من البلاد الإسلامية الكائنة خارج العالم العربي، ولكن التاريخ الذي ألفه - مع مقدمته المشهورة - ذهب إلى تلك البلاد، وأثر فيها تأثيرا معنويا كبيرا.
وهذا التأثير صار قويا بوجه خاص عند رجال الدولة العثمانية؛ لأن اللغة العربية كانت لا تزال لغة العلم في تلك البلاد، وكان العلماء العثمانيون يتلقون ثقافتهم من الكتب العربية بوجه عام؛ ولذلك كانوا يهتمون بتعلمها وإتقانها، حتى إن بعضهم كان يكتب مؤلفاته أيضا باللغة العربية. فكان من الطبيعي - والحالة هذه - أن يطلع هؤلاء العلماء على تاريخ ابن خلدون ومقدمته، وأن يتأثروا منه تأثرا عميقا.
ومما يجب ملاحظته في هذا المضمار أن توالي الفتوحات في الدولة العثمانية - ولا سيما في القارة الأوروبية - أدى بطبيعة الحال إلى ظهور طائفة من المؤرخين الذين يتولون تسجيل وقائع هذه الفتوحات العظيمة.
وهؤلاء المؤرخون كانوا يعتبرون التاريخ العثماني بمثابة تتمة لتاريخ الإسلام العام، ولذلك كانوا يعنون بمطالعة كتب التواريخ القديمة، فكان من الطبيعي أن يدرسوا تاريخ ابن خلدون دراسة تفصيلية، وأن يقتبسوا منه ومن مقدمته شيئا كثيرا.
ولهذه الأسباب نجد أن المؤرخين العثمانيين كانوا أول من اهتم بمقدمة ابن خلدون - خارج العالم العربي - حتى إن اهتمام هؤلاء بالمقدمة هو الذي لفت أنظار المستشرقين إليها في أوائل القرن التاسع عشر. (3) العالم الأوروبي
إن العالم الأوروبي خلال العصر الذي عمل وفكر فيه ابن خلدون كان على وشك الوصول إلى أواخر القرون الوسطى وأوائل القرون الأخيرة.
كان ابن خلدون معاصرا للمؤرخ «فرواسار» في فرنسا، وللشاعر «شوسر» في إنجلترا، إنه كان ولد قبل الأول بخمس سنوات، وقبل الثاني بثماني سنوات، ومات قبل الأول بأربع سنوات، وبعد الثاني بست سنوات.
كما أنه كان «نصف معاصر» لبترارك وبوكاتسيو في إيطاليا؛ لأنه كان وصل إلى أواسط العقد الخامس من عمره عند موت هذين الأديبين الكبيرين.
ولكن ابن خلدون لم يعرف شيئا عن هؤلاء المعاصرين، كما أن هؤلاء أيضا لم يسمعوا عنه شيئا.
لأن العالم الأوروبي في ذلك الزمن كان قد قطع صلاته من العالم العربي الإسلامي قطعا يكاد يكون كليا، بعدما اصطدم به اصطداما عنيفا ودمويا خلال الحروب الصليبية الطويلة، وبعدما اقتبس منه ما اقتبس من العلوم والصناعات المختلفة.
كان قد تم قبل عصر ابن خلدون إنشاء جامعات عديدة في مختلف العواصم الأوروبية على غرار الجامعات العربية، كما أنه كان تم ترجمة عدد كبير من المؤلفات العربية إلى اللغة اللاتينية، فكان أن أصبح الأوروبيون في غنى عن المصادر العربية.
ولتقدير هذه الأوضاع حق قدرها يجب أن نلاحظ أن المدة التي مضت بين موت «دانته» الشهير في إيطاليا، وبين ولادة ابن خلدون في تونس؛ كانت عبارة عن إحدى عشرة سنة، كما أن المدة التي مضت بين موت ابن خلدون في مصر وبين اختراع الطباعة في أوروبا كانت نحو ربع قرن فقط.
في ذلك التاريخ كان فجر عصر الانبعاث أخذ يبث أشعته الأولى في الآفاق، وصار يوجه الأنظار والأفكار إلى أشياء جديدة ونواحي جديدة .
وخلاصة القول: في ذلك التاريخ كان الأوروبيون انقطعوا عن الاهتمام بما يحدث في العالم العربي، ولا سيما بما يؤلف فيه.
إن هذا الوضع التاريخي لعب دورا هاما في تقرير مقدرات مقدمة ابن خلدون بالنسبة إلى العالم الغربي، إن هذه المقدمة وما تضمنته من آراء طريفة وتوجيهات قويمة بقيت مجهولة للأوروبيين حتى بدء عهد الدراسات الاستشراقية في القرن التاسع عشر، بسبب الوضع التاريخي الذي وصفناه آنفا.
حياة ابن خلدون
إن حياة ابن خلدون كانت من النوع الذي أسماه تيودور روزفلت «الحياة الصاخبة»
La vie intense ، أو من النوع الذي كان يعبر عنه موسوليني ب «الحياة المستخطرة»
Vivre dangereusement .
وكان لهذه الحياة الصاخبة المستخطرة صفحات متنوعة، ومسارح مختلفة، نستعرضها فيما يلي، حسب ترتيبها الزمني: (1) في تونس (1332-1352)
ولد ابن خلدون في تونس في أول رمضان سنة 732 (المصادف 27 أيار 1332)، ونشأ وترعرع هناك إلى أن بلغ العشرين من العمر. (1)
ولما كان والده من رجال العلم والأدب اعتنى بتربيته عناية فائقة، تولى بنفسه تعليمه بعض العلوم، وهيأ له السبل لدرس سائر العلوم على يد أقدر الأساتذة الموجودين في تونس إذ ذاك.
ونشأ ابن خلدون حريصا على الدروس وشغوفا بالعلم، وساعيا وراء الاستزادة منه على الدوام.
قرأ القرآن الكريم واستظهره، وتمرن على تلاوته على القراءات العشر، درس النحو دراسة تفصيلية، قرأ كثيرا من كتب الأدب ودواوين الشعر، وحفظ كثيرا من الأشعار، كما أنه درس الفقه والحديث دراسة مفصلة، وفي الأخير حصل العلوم العقلية أيضا.
والوقائع السياسية التي حدثت سنة 1347 / 748 فتحت أمام ابن خلدون آفاقا جديدة وواسعة للدرس والتعلم؛ لأن السلطان «أبو الحسن المريني» - الذي استولى على تونس في السنة المذكورة - كان يهتم بالعلم ويجمع حوله أكابر العلم والأدب «يلزمهم شهود مجلسه، ويتجمل بمكانهم فيه»، وعندما جاء إلى تونس استصحب معه طائفة من هؤلاء العلماء والأدباء، ومن الطبيعي أن والد ابن خلدون اتصل بهم لمكانته العلمية والأدبية، وحمل أولاده على الاستفادة منهم إلى أقصى حدود الاستفادة.
ابن خلدون يذكر - في ترجمة حاله - أسماء العلماء والأدباء الذين وفدوا على تونس مع السلطان؛ يدون تراجم أحوالهم، ويشيد بغزارة علمهم، ويعترف بفضلهم عليه. ونفهم مما كتبه عنهم أنه تأثر من اثنين منهم بوجه خاص تأثرا شديدا؛ أحدهم عبد المهيمن، وثانيهم محمد بن إبراهيم الآبلي.
كان عبد المهيمن «إمام المحدثين والنحاة بالمغرب»، وكان كاتب السلطان وصاحب علامته، وكان حضرمي الأصل مثل أبناء خلدون؛ ولذلك توطدت بينه وبينهم صلاة وثيقة من الود والصداقة، حتى إنه عندما ثار أهل تونس على السلطان وعلى جماعته التجأ - المشار إليه - إلى دار بني خلدون، واختفى عندهم مدة ثلاثة أشهر. ابن خلدون «لازم» هذا العالم وأخذ عنه «سماعا وإجازة؛ الأمهات الست، وكتاب الموطأ لابن مالك، وكتاب السيرة لابن إسحاق، وكتاب ابن الصلاح في الحديث.»
وأما الآبلي فكان «شيخ العلوم العقلية»، لازمه ابن خلدون عدة سنوات، أخذ منه خلال ذلك هذه العلوم؛ افتتحها بالتعاليم - أي العلوم الرياضية - ثم المنطق، ثم سائر الفنون الحكمية.
يشيد ابن خلدون بغزارة علم الآبلي وبفضله عليه أكثر من غيره، ويقول في الوقت نفسه: «إنه كان يشهد له بالتبريز في هذه العلوم.»
ولا شك في أن ذلك يدل على أن ابن خلدون كان نزوعا إلى التفكير المنطقي، كما يدل على أن العلوم العقلية التي درسها على يد الآبلي ساعدت كثيرا على تقوية هذه النزعة الفكرية وتنميتها.
إن آثار هذه النزعة تتجلى في كثير من مباحث المقدمة بوضوح تام. (2)
غير أن ابن خلدون عندما بلغ السابعة عشر من العمر تعرض إلى نكبة شديدة؛ كان الطاعون الكبير أخذ يفتك بالناس في تونس، ومات من جراء هذا الطاعون الجارف أبواه ومعظم مشايخه.
ثم قامت الثورة على السلطان المريني، انتهت بانحسار حكمهم عن إفريقية، ونتج عن ذلك عودة من كان بقي على قيد الحياة من العلماء والأدباء الوافدين من المغرب.
تألم ابن خلدون من هذه الأحداث ألما شديدا، إنه فقد أبويه فجأة مع كثيرين من أشياخه، وكان أخذ يتعزى عن ذلك بطلب العلم من العلماء الباقين، إلا أن عودة هؤلاء إلى بلادهم «عطله عن طلب العلم»، وأوجد في نفسه «استيحاشا» من هذه الأحداث والأوضاع ؛ فاعتزم اللحاق بأشياخه والسفر معهم إلى المغرب، إلا أن «أخاه الأكبر محمد صده عن ذلك».
ومع هذا قد وجد ابن خلدون بعد مدة وجيزة فرصة جديدة لتحقيق رغبته هذه، فرحل من تونس إلى المغرب، وهذه الفرصة واتته من جراء بعض الوقائع السياسية:
إن الوزير ابن تافراكين - المستبد على الدولة يومئذ بتونس - استدعى ابن خلدون إلى «كتابة العلامة» عن سلطانه «أبو إسحاق».
وأما مهمة كاتب العلامة فكانت «وضع الحمد لله والشكر لله بالقلم الغليظ مما بين البسملة وما بعدها من مخاطبة أو مرسوم.»
تولى ابن خلدون هذا العمل، وأخذ يقوم بهذه المهمة، مع أن عمره ما كان يزيد بعد على العشرين.
وكان عندئذ أمير قسنطينة الحفصي يطالب بعرش السلطنة، ويزحف نحو تونس مع جمع من العساكر والقبائل، وكان الوزير ابن تافراكين أيضا يجمع العساكر والقبائل لمقابلة الأمير الثائر وصده عن إفريقية.
وخرج السلطان من تونس مع العساكر والقبائل التي تجمعت لمناصرته والدفاع عن عرشه، وخرج ابن خلدون أيضا معه بطبيعة الحال.
وعندما وصلوا إلى فحص مرماجنة، التقوا بعساكر الأمير، والتحم الطرفان في حرب عنيفة، انتهت بانهزام عساكر السلطان وجماعته.
وأما ابن خلدون فقد نجا بنفسه من ميدان القتال إلى مدينة «أبة» عقب هذا الانهزام، ولم يعد بعد ذلك إلى تونس. (2) بين تونس وفاس (1352-1354)
إن ذهاب ابن خلدون من ميدان القتال إلى أبة، كان يعني الافتراق عن الطرفين المتخاصمين في وقت واحد.
ويصرح ابن خلدون في ترجمة حياته أن غرضه الأصلي من قبول وظيفة كتابة العلامة كان اقتناص الفرص لمغادرة تونس إلى المغرب؛ لأنه كان يعرف أن السلطان كان يتهيأ إلى السفر، وأن استدعاءه إلى الوظيفة كان بناء على امتناع سلفه من الخروج من السلطان، وكان يعرف أن هذا السفر سييسر له وسائل الانتقال إلى حيث يريد.
إذ يقول في ترجمة حياته ما يلي: «خرجت معهم وقد كنت منطويا على مفارقتهم؛ لما أصابني من الاستيحاش لذهاب أشياخي وعطلتي عن العلم.» كما يقول: «لما دعيت إلى هذه الوظيفة (أي إلى كتابة العلامة) سارعت إلى الإجابة لتحصيل غرضي من اللحاق بالمغرب، وكان كذلك.»
وانتقل ابن خلدون فعلا بعد واقعة مرماجنة إلى فاس، غير أن انتقاله هذا إنما تم على مراحل عديدة، واستغرق سنتين كاملتين.
تنقل خلال هذه المدة بين عدة مدن وبواد، وعاشر عدة قبائل، وتعرف إلى عدة شيوخ وحكام، والتقى في الأخير بسلطان المغرب ووزيره.
بعدما نجا بنفسه إلى أبة تحول منها إلى تبسة ثم إلى قفصة، وهناك التقى بصاحب الزاب، وسافر معه إلى بيسكرة، وأقام فيها حتى انقضاء الشتاء.
بعد ذلك رحل من هناك إلى تلمسان، حيث التقى بالسلطان «أبو عنان» ووزيره «الحسن بن عمر»، ثم سافر إلى بجاية برفقة الوزير المشار إليه، وقضى فصل الشتاء هناك.
وعندما عاد السلطان أبو عنان إلى مقر ملكه - بعد الاستيلاء على تلمسان وبجاية - وأخذ يجمع أهل العلم والأدب «للتحليق بمجلسه»، وينتقي طلبة العلم للمذاكرة في ذلك المجلس، استقدم ابن خلدون إلى فاس بناء على توصية البعض ممن كانوا التقوا به في تونس، وعجبوا بذكائه ومواهبه.
وبهذه الصورة وصل ابن خلدون إلى مدينة فاس. (3) في فاس (1354-1362)
أقام ابن خلدون في فاس ثمانية أعوام، وجد خلالها مجالا واسعا لمواصلة الدرس والاستزادة من العلم كما كان يأمله ويشتهيه، اتصل في عاصمة المغرب بكثير من رجال العلم والأدب، أخذ عنهم واستفاد من علمهم، وكان بعضهم ممن يقيمون في فاس، وبعضهم ممن وفدوا إليها من الأندلس لمناسبات مختلفة، كما أنه خلال هذه الأعوام الثمانية مارس إنشاء الرسائل ونظم الشعر، وإلقاء الخطب أيضا. وخلاصة القول: إنه عاش في فاس حياة فكرية وأدبية شديدة النشاط.
ولكنه خلال كل ذلك خاض غمار الحياة السياسية أيضا، وكانت حياته هذه كثيرة التقلب؛ تولى وظائف عديدة في عهود أربعة سلاطين ووزيرين من الوزراء المستبدين بسلاطينهم، شاهد عدة انقلابات، لعب في بعضها دورا هاما، واشترك في مؤامرة فشلت وأودت به إلى السجن أيضا.
عقب وصول ابن خلدون إلى فاس، نظمه السلطان أبو عنان «في أهل مجلسه العلمي، وألزمه شهود الصلوات معه، ثم استعمله في كتابته والتوقيع بين يديه»، وابن خلدون تولى هذه الوظيفة «على كره منه»؛ لأنه كان يعتبرها غير متناسبة مع مكانة أسرته، وكان يطمح بمناصب أعلى وأرفع منها.
ولا شك في أن هذا الطموح كان من جملة العوامل التي دفعته إلى الاشتراك في وضع الخطة السرية التي كان ينوي اتباعها الأمير الحفصي محمد بن عبد الله للفرار من فاس؛ بغية استرداد إمارته في بجاية.
من المعلوم أن السلطان «أبو عنان» عندما عاد وأخضع بجاية إلى الحكم المريني، كان نقل أميرها إلى فاس، وفرض عليه الإقامة هناك، وعندما مرض السلطان أراد الأمير أن يغتنم فرصة هذا المرض، وأخذ يبحث عن الوسائل التي تضمن له الخروج من فاس والوصول إلى بجاية، وكان ابن خلدون تعارف وتصادق مع الأمير منذ وصوله إلى فاس؛ بسبب العلاقات التي كانت تربط أسرته بأسرة بني حفص منذ عدة أجيال، فكان من الطبيعي أن يفاتح الأمير ابن خلدون بما ينتويه، وأن يطلب مساعدته في أمر تحقيق مأربه، ويظهر أن ابن خلدون وعده بتهيئة الوسائل اللازمة لذلك، كما أن الأمير وعده بتوليته منصب الحجابة عند استعادته الإمارة.
إلا أن السلطان علم بهذه المفاوضات والاستعدادات السرية، وغضب على ابن خلدون غضبة شديدة، وأمر بسجنه وامتحنه في السجن.
بقي ابن خلدون مسجونا مدة سنتين، ولم يخرج منه إلا بعد أن مات أبو عنان، وقام بأمر الدولة وزيره الحسن بن عمر باسم «السلطان السعيد» الصغير الذي نصبه على العرش.
والوزير المشار إليه أعاد ابن خلدون على ما كان عليه قبل دخوله السجن، غير أن حكم الوزير وسلطانه لم يدم طويلا؛ إذ لم يعترف بهذا الحكم جماعة من أمراء بني مرين، وثاروا عليه ملتفين حول الأمير منصور بن سليمان، ثم ظهر مطالب ثالث، هو الأمير «أبو سالم» الذي عاد من منفاه في الأندلس، مدعيا أحقيته في تولي السلطنة. وخلال هذه البلبلة السياسية رأى ابن خلدون أن ينضم إلى مناصري المطالب الأخير، وأخذ يبث الدعاية له بالأساليب التي كان برع فيها، حتى إنه خرج إليه وشجعه على الإسراع في التقدم نحو العاصمة، وفي الأخير دخلها في ركابه.
والسلطان أبو سالم بعدما تولى العرش بهذه الصورة، قدر خدمة ابن خلدون له حق قدرها واستعمله في كتابة سره، والترسيل عنه والإنشاء لمخاطباته، وفي الأخير ولاه «خطة المظالم» أيضا.
في عهد هذا السلطان عاش ابن خلدون مرتاحا، ثم أخذ نفسه بالشعر، «فانثال عليه منه بحور - حسب تعبيره هو - توسطت بين الإجادة والقصور.»
ولكن السلطان أبا سالم لم يبق على عرش السلطنة إلا مدة سنتين؛ لأن وزيره عمر بن عبد الله ثار عليه مع جماعة من المتذمرين وقتله، ثم نصب محله «ابن تاشفين» ليبقى هو مستبدا بالأمر وراء اسم هذا السلطان الصغير.
إن الوزير عمر هذا عندما أصبح الآمر والناهي المطلق بهذه الصورة، أقر ابن خلدون «على ما كان عليه، ووفر إقطاعه وزاد في جرايته»، ولكن ابن خلدون كان «يسمو بطغيان الشباب إلى أرفع مما كان عليه»، كما أنه كان ينتظر من هذا الوزير أن يوليه منصبا أعلى من منصبه؛ بسبب وشائج المودة التي كانت قائمة بينهما منذ مدة غير قصيرة، هذه المودة كانت تقوت بوجه خاص عندما كانا يجتمعان في مجالس الأمير محمد - صاحب بجاية - وفضلا عن ذلك فإن تعرف عمر بن عبد الله إلى السلطان «أبو سالم» كان قد تم بفضل ابن خلدون، ولهذه الأسباب اعتبر ابن خلدون سلوك الوزير نحوه منافيا لموجبات هذه السوابق، فرأى «أن يهجره، وقعد عن دار السلطان مغاضبا له.»
ولكن الوزير لم يهتم بهذا الموقف وأعرض عنه.
عندئذ قرر ابن خلدون «الرحلة إلى بلده بإفريقية» وطلب الإذن لذلك.
وفي ذلك التاريخ كان أبو حمو استرجع من المرينيين ملك بني عبد الواد في تلمسان والمغرب الأوسط، فخشي الوزير أن ينضم ابن خلدون إليه ويقربه؛ ولذلك لم يرض بسفره إلى إفريقية.
ولكن بعد توسط بعض الأصحاب وافق الوزير في الأخير على سفر ابن خلدون إلى أي محل شاء «شريطة العدول عن تلمسان».
فاختار ابن خلدون الأندلس، وصرف ولده وأمهم إلى أخوالهم أولاد القائد محمد بن الحكيم بقسنطينة، وتوجه هو إلى سبتة في طريقه إلى الأندلس. (4) في الأندلس (1362-1365)
رحل ابن خلدون إلى الأندلس عن طريق سبتة فجبل الفتح (الذي يعرف الآن باسم جبل الطارق).
وأما سبب اختياره الأندلس؛ فيعود إلى التعارف الذي حصل بينه وبين سلطان غرناطة عندما كان في فاس، ولا سيما إلى أواصر الصداقة والمودة التي كانت انعقدت بينه وبين الوزير لسان الدين ابن الخطيب خلال إقامته هناك.
كان السلطان أبو عبد الله ثالث ملوك بني الأحمر، وكان خلع خلال ثورة قامت عليه، والتجأ إلى المغرب مع وزيره لسان الدين، ولكنه بعد مدة استطاع أن يعود إلى الأندلس، وأن يسترجع عرشه من المستولين عليه.
كان ابن خلدون تعرف إلى السلطان والوزير معا خلال إقامتهما في فاس، وساعدهما مساعدة فعلية بفضل تأثيره على رجال الدولة، كما أنه كان تولى رعاية عائلة لسان الدين بعد سفره مدة بقائها هناك، انتظارا إلى انتهاء الاضطرابات في الأندلس.
وكانت الصداقة التي توطدت بينه وبين لسان الدين ابن الخطيب عميقة الجذور، يظهر أن كل واحد منهما قدر عبقرية صاحبه حق قدرها، وشعر نحوه بنوع من القرابة الفكرية والأخوة الأدبية؛ فارتبط الاثنان بعضهما ببعض بروابط معنوية لا تنفصم.
ولذلك كله كان يأمل ابن خلدون أن يقابل بالترحاب من السلطان ووزيره عندما يرحل إلى الأندلس.
إن الوقائع لم تخيب أمله في هذا المضمار؛ فإن السلطان والوزير رحبا به ترحيبا حارا، وهيئا له منزلا فخما يحتوي على وسائل الراحة والهناء.
ويقول ابن خلدون في ترجمة حياته: إن السلطان «نظمه في علية أهل مجلسه، واختصه بالنجي في خلوته، والمواكبة في ركوبه، والمواكلة والمطايبة والفكاهة في خلوات أنسه.»
وفي السنة التالية أوفده السلطان بالسفارة إلى ملك قشتالة؛ بغية إتمام عقد الصلح بينهما، وكان الملك المذكور استولى على إشبيلية واتخذها عاصمة لمملكته، فلما سافر ابن خلدون إليها «عاين آثار سلفه بها»، وملك قشتالة كان قد اطلع قبلا على مكانة ابن خلدون الأدبية، فاقترح عليه البقاء في خدمته ووعده بإعادة أملاك أجداده إليه إذا عمل باقتراحه، ولكن ابن خلدون رفض البقاء في إشبيلية، وعاد إلى غرناطة بعد إتمام مهمة السفارة بنجاح تام.
وسر السلطان من نجاح ابن خلدون في إتمام عقد الصلح؛ فأقطعه «قرية من أراضي السقي بمرج غرناطة».
عندئذ استقدم عائلته من قسنطينة، وتهيأت له بذلك جميع وسائل الراحة والهناء.
إلا أن هذا الهناء أيضا لم يستمر مدة طويلة؛ قرر ابن خلدون مغادرة الأندلس إلى بجاية.
وقد حمله على هذا القرار عاملان أساسيان:
أولا:
أخذ ابن خلدون يشعر بأن لسان الدين ابن الخطيب صار يتوجس خيفة من تعاظم نفوذه لدى السلطان؛ وذلك بسبب وشايات الأعداء و«أهل السعايات»، وعلى الرغم من كل ما كان توثق بينهما من أواصر الصداقة والاحترام، فأراد ابن خلدون أن يجد وسيلة لمغادرة الأندلس قبل أن يحدث ما يكدر صفو المودة القائمة بينه وبين لسان الدين.
ثانيا:
إن أحداث المغرب الأوسط أعطت لابن خلدون الوسيلة التي كان يبحث عنها.
ثالثا:
إن الأمير «محمد أبو عبد الله محمد» استطاع أن يستولي على بجاية ويسترجع مملكته السابقة، فكتب إلى ابن خلدون - حسب وعده القديم - يستدعيه إلى مقر ملكه؛ لتولي منصب الحجابة.
وابن خلدون عرض هذه الدعوة على سلطان غرناطة مستأذنا السفر - دون أن يذكر له شيئا مما لاحظه على الوزير لسان الدين ابن الخطيب - ثم غادر الأندلس بإذن من السلطان بعد مرور نحو ثلاث سنوات على مجيئه إليها. (5) في بجاية (1365)
عند وصول ابن خلدون إلى بجاية عن طريق البحر، احتفل السلطان أبو عبد الله بقدومه احتفالا رائعا، وولاه أرفع مناصب الدولة وهي الحجابة.
ومعنى الحجابة - حسب وصف ابن خلدون لها - هي: «الاستقلال بالدولة، والوساطة بين السلطان وبين أهل دولته، لا يشاركه في ذلك أحد.»
ويفهم من هذا الوصف أن الحاجب كان بمثابة «الصدر الأعظم» في السلطنات الإسلامية الأخيرة، قبل إنشاء مجالس الوزراء والبرلمانات.
ويقول ابن خلدون في ترجمة حياته عن عمله في بجاية ما يلي: «أمر السلطان أهل الدولة بمباركة بابي، واستقللت بحمل ملكه، واستفرغت جهدي في سياسة أموره وتدبير سلطانه، وقدمني للخطابة بجامع القصبة، وأنا مع ذلك عاكف - بعد انصرافي من تدبير الملك غدوة - إلى تدريس العلم أثناء النهار بجامع القصبة لا أنفك عن ذلك.»
ويظهر من هذه العبارات أن ابن خلدون كان مغتبطا بمنصبه وبعمله كل الاغتباط.
إلا أن هذه الحالة لم تدم إلا سنة واحدة؛ لأن السلطان قتل في معركة، وانهار ملكه بقتله كما يتضح من التفاصيل التالية:
إن ابن عم سلطان بجاية هذا، صاحب قسنطينة، السلطان أبا العباس كان ينافسه، ويختلف معه في كثير من الشئون، وكان يطمح في الاستيلاء على بلاده؛ ولذلك قامت بين هذين السلطانين - على الرغم مما كان بينهما من وشائج النسب والقرابة - سلسلة طويلة من الفتن والمخاصمات، وفي الأخير أخذ صاحب قسنطينة يزحف على بجاية على رأس عساكر وجموع غفيرة، واستطاع أن يباغت ابن عمه في مخيمه وأن يقتله هناك، ثم صار يوالي الزحف نحو بجاية بسرعة.
عندما وصلت أخبار هذه الوقائع إلى عاصمة السلطان المقتول تبلبلت آراء الناس فيما يجب عمله؛ رأى بعضهم الاستعداد لاستقبال صاحب قسنطينة، في حين أن بعضهم الآخر اقترح «البيعة إلى بعض الصبيان من أبناء السلطان» السابق، ولكن ابن خلدون - الذي كان لا يزال على رأس الحكومة - لم يستحسن هذا الاقتراح، بل رجح تفادي الفتن وتسليم أزمة الحكم إلى السلطان «أبو العباس»، وفعلا خرج إلى لقائه، ومكنه من دخول بجاية دون قتال.
والسلطان المشار إليه «أكرم ابن خلدون وحباه، وأجرى الأحوال كلها على معهودها.»
ولكن ابن خلدون لاحظ أن أعداءه أخذوا يكثرون من السعاية فيه، ويحذرون السلطان الجديد منه؛ ولذلك رأى أن يتفادى أخطار هذه الدسائس وقرر أن يتخلى عن الوظائف، وطلب الإذن من السلطان بالانصراف، وغادر بجاية. (6) في بيسكرة (1366-1372)
بعد الخروج من بجاية دخل ابن خلدون على بعض القبائل، وأخذ يتنقل بينها، إلى أن وصل إلى بيسكرة، واتخذها مقر إقامة له ولعائلته؛ وذلك بسبب الصداقة التي كانت توطدت بينه وبين صاحب تلك الديار ابن المزني في أوائل حياته العامة.
أقام ابن خلدون في بيسكرة نحو ست سنوات، في الواقع إنه غادرها عدة مرات لإنجاز بعض الأعمال في البوادي أو في المدن، ولكنه في كل مرة عاد إليها بعد مدة قصيرة، فنستطيع أن نقول لذلك إن حياته خلال هذه السنوات الست ظلت مرتكزة على بيسكرة.
والحياة التي قضاها ابن خلدون هناك كانت من نوع جديد؛ إنه كان سئم العواصم وفتنها، ولم يعد يستسلم إلى غواية الرتب والمناصب، حتى إنه رفض تولي منصب الحجابة عندما عرضها عليه «أبو حمو» سلطان تلمسان.
ولكنه - مع كل ذلك - لم ينقطع عن الأعمال السياسية بتاتا، بل استمر على مزاولتها، وظل يلعب دورا هاما في سياسة الدول المغربية بطريقة جديدة وأسلوب خاص؛ صار يخدم هذا السلطان أو ذاك عن طريق استئلاف القبائل واستتباعها، دون أن يتولى منصبا رسميا، ودون أن ينتسب إلى حكومة من الحكومات.
إنه كان اكتسب خبرة كبيرة في شئون البدو، وسيطرة معنوية على العشائر، وإقامته في بيسكرة - بين أهم مجالات العشائر البدوية - زادته خبرة على خبرته السابقة، وضاعفت سيطرته المعنوية عليها، إنه أصبح بارعا في استمالة القبائل واستئلافها واستتباعها، ولا نغالي إذا قلنا إنه أصبح بمثابة الملتزم والمورد لتلك القوى المسلحة، إنه كان يوجه العشائر إلى خدمة السلاطين الذين يشايعهم، حتى إنه كان يصطحبها في بعض الأحيان.
إنه شايع وخدم بهذه الصورة أولا سلطان تلمسان «أبو حمو»، ثم سلطان المغرب الأقصى «عبد العزيز».
كان في ذلك العهد لدول المغرب أربع عواصم أساسية؛ فاس، تلمسان، قسنطينة، تونس، وكانت المنافسة والعداوة مستحكمة بوجه خاص بين سلطان تلمسان وبين سلطان قسنطينة.
لأن سلطان تلمسان «أبو حمو» كان تزوج ابنة سلطان بجاية «أبو عبد الله»، وعندما علم بأن صاحب قسنطينة قتل والد زوجته واستولى على بجاية؛ غضب غضبة شديدة، وزحف على بجاية بغية تخليصها من حكم قاتل عمه، إلا أن سلطان المغرب انتهز فرصة انشغال صاحب تلمسان بشئون بجاية، وأغار على عاصمته؛ ولذلك اضطر أبو حمو إلى ترك بجاية جانبا، والعودة إلى الدفاع عن تلمسان.
بهذه الصورة أصبح سلطان المغرب مساعدا طبيعيا لصاحب قسنطينة، ومقابل ذلك رأى صاحب تلمسان أن يوثق أواصر الصداقة بينه وبين سلطان تونس؛ ليهدد به سلطان قسنطينة عند الاقتضاء.
ونتج عن هذه الوقائع وضع سياسي معقد؛ خصمان واقفان وجها إلى وجه، ووراء كل واحد منهما خصم متحالف مع خصمه محالفة طبيعية.
ومن الطبيعي أن التنافس القائم بين هذه القوى الأساسية الأربع، كان يفسح مجالا واسعا لقيام طائفة من المتنافسين والمتخاصمين الثانويين الذين يزيدون الفتن اضطراما.
إن هذه الخصومات والفتن استمرت سنوات عديدة، لعب ابن خلدون خلالها دورا فعالا بالطريقة التي شرحناها آنفا.
إنه شايع في بادئ الأمر سلطان تلمسان «أبو حمو»، وساعده أولا؛ باستتباع القبائل وتوجيهها لمناصرته، وثانيا؛ بضمان اتصال تلمسان بتونس عن طريق الصحراء، مارا ببيسكرة.
ولكن بعد ذلك عندما استولى سلطان المغرب عبد العزيز على تلمسان خابر ابن خلدون وطلب مساعدته على توطيد حكمه في المغرب الأوسط، وابن خلدون لبى هذا الطلب، وانصرف من مشايعة «أبو حمو» إلى مشايعة عبد العزيز، وخدمه بذلك خدمة ثمينة.
ولعب ابن خلدون هذه الأدوار السياسية خلال هذه السنوات العديدة بفضل المهارة التي اكتسبها في أمر إقناع القبائل واستمالتها، وبفضل الزعامة المعنوية التي حصل عليها بين سكان البوادي بوجه عام.
إلا أن تعاظم نفوذ ابن خلدون على العشائر بهذه الصورة أخذ يثير - بعد مدة - هواجس صاحب بيسكرة، الذي كان الزعيم الرسمي لمنطقة الزاب؛ إنه صار يخاف من زوال نفوذه على القبائل بتاتا؛ ولهذا السبب أخذ يعمل لتبعيد ابن خلدون من بيسكرة، ووسط البعض من أصحابه لحمل سلطان المغرب على استدعاء ابن خلدون إلى فاس.
واضطر لذلك ابن خلدون أن يغادر بيسكرة - مع عائلته - إلى فاس. (7) احتضار الحياة السياسية (1372-1374)
ولكن ابن خلدون بعدما غادر بيسكرة قضى مدة سنتين مليئتين بالتقلبات المتوالية والاضطرابات المتزايدة.
إن هذه المدة كانت بمثابة «دور الاحتضار» لحياته السياسية الصاخبة، ونستطيع أن نقول إن الحياة السياسية التي عاشها ابن خلدون منذ دخوله الحياة العامة أخذت تلفظ أنفاسها الأخيرة خلال هاتين السنتين؛ لأننا سنجده بعد ذلك قد فارق الحياة السياسية بصورة نهائية.
لقد بدأت الأهوال والاضطرابات تنهال على ابن خلدون وهو في الطريق قبل أن يصل فاس؛ فإنه عندما وصل مليانة علم أن السلطان عبد العزيز قد مات، وأن ابنه «السعيد» نصب بعده للأمر، في كفالة الوزير ابن غازي.
وطبيعي أن السلطان «أبو حمو» لم يترك هذه الفرصة تفلت من بين يديه؛ استفاد من انشغال رجال المغرب بمعالجة الموقف الناجم عن موت السلطان عبد العزيز، و«رجع من مكان انتباذه إلى تلمسان، واستولى عليها وعلى سائر أعماله.»
ولما كان أبو حمو غاضبا على ابن خلدون - بسبب انقلابه عليه ومشايعته لسلطان المغرب خلال الوقائع الأخيرة - أراد الانتقام منه؛ فأوعز إلى بعض القبائل الموالية إليه «أن يعترضوه في حدود بلادهم».
ويصف لنا ابن خلدون نفسه ما حدث عندئذ بما يلي: «اعترضونا هنالك فنجا منا من نجا على خيولهم إلى جبل دبدو، وانتهبوا جميع ما كان معنا، وأرجلوا الكثير من الفرسان وأنا منهم، وبقيت يومين ضاحيا عاريا إلى أن خلصت إلى العمران، ولحقت بأصحابي بجبل دبدو.»
وعندما وصل فاس بعد هذه المحنة، لقي من الوزير ابن غازي القائم بالأمر ترحيبا حارا؛ بسبب معرفته السابقة به، إلا أن الأوضاع السياسية أخذت تتطور بسرعة، وقضت على حكم هذا الوزير؛ وذلك بسبب تحريكات سلطان غرناطة من جهة، وتعدد المطالبين بعرش المغرب من جهة أخرى.
كان السلطان ابن الأحمر غاضبا على السلطان عبد العزيز وعلى الوزير ابن غازي الذي استبد بالحكم بعده، وكان الدافع إلى هذا الغضب التجاء لسان الدين ابن الخطيب إلى المغرب، وامتناع السلطان أولا والوزير ثانيا من إعادته إلى الأندلس، على الرغم من طلب ابن الأحمر وإلحاحه.
ولذلك أطلق ابن الأحمر سراح الأمير عبد الرحمن المريني، وأجازه إلى المغرب؛ ليطالب بالملك، ويقضي بذلك على حكم الوزير ابن غازي.
وأخذ هذا الأمير عقب دخوله بلاد المغرب يدعو لنفسه، ويجمع حوله جماعات كبيرة من الأنصار؛ محتجا على نصب الصبي القاصر على عرش السلطنة.
والوزير ابن غازي عندما استخبر ذلك، أخذ يجهز العساكر ويجمع الجموع لمقابلة الأمير الثائر، ونشبت من جراء ذلك اصطدامات وحروب عديدة بين جموع الوزير الكافل، وبين الأمير المطالب بالعرش.
وخلال ذلك قامت جماعة أخرى أخرجت الأمير المريني أحمد من السجن في طنجة وبايعته بالسلطنة، وأصبح الوزير ابن غازي بهذه الصورة أمام ثورة أميرين وجماعتين.
ثم التقى الأميران المذكوران وتعاهدا على التعاون والتناصر حتى النهاية، واتفقا على أن يقتسما البلاد بينهما بعدما يتغلبان على الوزير وجماعته، وقررا أن تكون السلطنة والعاصمة إلى أحمد، على أن يصبح قسم من البلاد ملكا لعبد الرحمن.
إن هذا الاتفاق سهل - بطبيعة الحال - انتصار الثوار، فاضطر الوزير ابن غازي إلى الاستسلام بعد أن بقي محاصرا مدة ثلاثة أشهر.
وبهذه الصورة انتهى حكم الوزير، وصار السلطان أبو العباس أحمد ملكا على المغرب.
ولكن الأمير والسلطان بعدما انتهيا من محاربة عدوهم المشترك، أخذا يختلفان فيما بينهما في تفسير وتحديد ما كانوا اتفقوا عليه.
وهكذا توالت الفتن والقلاقل في المغرب الأقصى بدون انقطاع.
وأما ابن خلدون فكان قد كره الفتن والانقلابات، وأخذ ينشد «الدعة والقرار»، وعندما تأكد أنه لا سبيل إلى الحصول على ذلك في بلاد المغرب بسبب توالي الاضطرابات؛ قرر أن يرحل مرة أخرى إلى الأندلس، آملا أن يجد هنالك وسائل الدعة والاستقرار.
ولكنه صادف في هذا السبيل كثيرا من المشاكل والعقبات، لم يستطع التغلب عليها إلا بعد جهد جهيد.
وعندما وصل إلى الأندلس التقى بالسلطان في غرناطة، ووجد منه في بادئ الأمر ترحيبا حارا.
إلا أن هذه الحالة أيضا لم تدم طويلا؛ لأن حكام المغرب لم يرتاحوا إلى سفر ابن خلدون إلى الأندلس، خشية أن يعمل هناك ما يفصم أواصر الصداقة التي كانت توثقت بينهم وبين بني الأحمر خلال أزمة السلطنة الأخيرة، وطلبوا من السلطان المشار إليه إعادة ابن خلدون إلى المغرب، وأما السلطان فقد امتنع عن تلبية هذا الطلب في بادئ الأمر، ولكن رجال سلطان المغرب وجدوا وسيلة ناجعة لإقناعه؛ ذكروا له روابط الصداقة التي كانت تربط ابن خلدون بلسان الدين ابن الخطيب منذ سنوات طويلة، وقالوا له إن تلك الصداقة جعلته داعية للسان الدين المغضوب عليه؛ ولذلك قرر السلطان إقصاء ابن خلدون إلى المغرب الأوسط.
وبناء على هذا القرار انتقل ابن خلدون بحرا إلى مرسى هنين، وكان هذا المرسى تابعا إلى تلمسان، وكان سلطان تلمسان عند ذاك أبا حمو.
إن سوابق ابن خلدون مع هذا السلطان كانت تضعه في موقف حرج وخطر جدا، ولكن أبا حمو كان ينوي فتح بجاية، وصار يفكر بالاستفادة من ابن خلدون في هذا الأمر؛ ولذلك تناسى الماضي، وترك ابن خلدون وشأنه مدة من الزمن، ثم استدعاه وطلب منه أن يسافر إلى «أوطان الدواودة» لاستئلاف تلك القبائل وحملها على خدمته.
ابن خلدون لم يرتح لهذا الطلب؛ لأنه كان قرر الخروج من الحياة السياسية بصورة نهائية، والتفرغ إلى الدرس والعلم تفرغا كليا، غير أنه لم ير من الموافق أن يطلع السلطان على ما كان ينتويه في قرارة نفسه؛ فتظاهر بتلبية الطلب، وخرج من تلمسان بحجة الاتصال بالعشائر واستمالتهم إلى خدمة مآرب السلطان، وعندما وصل إلى البطحاء «عدل ذات اليمين إلى منداس»، ولحق بأولاد عريف.
وهؤلاء تلقوه «بالتحفي والكرامة»، وتوسطوا في إبلاغ اعتذاره إلى السلطان، وفي نقل عائلته من تلمسان، وقاموا بهذه الوساطة خير قيام، ثم أنزلوه وعائلته في قلعة ابن سلامة. (8) في قلعة ابن سلامة (1374-1378)
إن انتقال ابن خلدون لهذه القلعة صار بمثابة نهاية النهاية لحياته السياسية.
كانت القلعة شيدت في موقع استراتيجي هام على حافة طنف مرتفع، يطل من عل على السهول المجاورة التي تمتد إلى الآفاق البعيدة، وكانت موئلا لشيوخ أولاد عريف، منعزلة عن المدن انعزالا تاما.
وكان ابن خلدون عند وصوله القلعة المذكورة بلغ الثانية والأربعين من العمر، وكان قد عاش حياة سياسية طويلة زاخرة بالأحداث والانقلابات المعقدة، وخلال هذه الحياة السياسية لم ينقطع عن الدرس والعلم، ولكنه كان يشعر بأن السياسة تشغله عن العلم، وصار يتمنى أن ينصرف عنها انصرافا كليا ليتفرغ إلى العلم تفرغا تاما. إن هذه القلعة المنعزلة مع القصر القائم فيها كانت أحسن مكان لتحقيق أمنيته هذه؛ ولذلك أقام فيها أربعة أعوام، تفرغ خلالها إلى التأمل والتأليف بكل نشاط، وشرع في تأليف التاريخ، وكتابة المقدمة خلال انزوائه عن الناس في هذه القلعة النائية.
ويصف ابن خلدون ما عمله هناك في ترجمة حياته بهذه العبارات الوجيزة: «أقمت بها متخليا عن الشواغل كلها، وشرعت في تأليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة.»
وبعد إتمام المقدمة أقدم على كتابة «أخبار العرب والبربر وزناتة»، وكان يكتب كل ما يكتبه عن حفظه بطبيعة الحال، غير أنه عندما تقدم في تدوين الأخبار، أدرك عدم إمكان العمل هناك، وضرورة مراجعة بعض الكتب والمصادر التي لا توجد إلا في المدن.
إنه لم يشأ أن يعود إلى مدينة من مدن المغرب الأوسط والأقصى التي كانت مرسحا لحياته السياسية؛ فقرر الارتحال إلى تونس، وكتب إلى سلطانها يستأذنه في ذلك.
يصف ابن خلدون قراره هذا وما نجم عن هذا القرار بالعبارات التالية: «حدث عندي ميل إلى مراجعة السلطان أبي العباس والرحلة إلى تونس، حيث قرار آبائي ومساكنهم وآثارهم وقبورهم، فبادرت إلى خطاب السلطان بالفيئة إلى طاعته والمراجعة، وانتظرت فما كان غير بعيد، إذا بخطابه وعهوده بالأمان والاستحثاث للقدوم، فكان الخفوق للرحلة.»
بهذه الصورة غادر ابن خلدون قلعة ابن سلامة بعد الانزواء فيها مدة أربعة أعوام. (9) في تونس (1378-1382)
عاد ابن خلدون إلى تونس بعد أن تغرب عنها مدة ستة وعشرين عاما.
وكانت شهرته وصلت إلى تونس قبله بكثير بطبيعة الحال؛ ولذلك وجد هناك ترحيبا حارا من السلطان ومن الناس على حد سواء.
ويصف لنا في ترجمة حياته ترحيب السلطان له بهذه العبارات: «وافيته بظاهر سوسة، فحيا وفادتي، وبر مقدمي، وبالغ في تأنيسي، وشاورني في مهمات أموره، ثم ردني إلى تونس، وأوعز إلى تابعه بها مولاه فارح بتهيئة المنزل، والكفاية في الجراية والعلوفة وجزيل الإحسان، فرجعت إلى تونس في شعبان من السنة، وآويت إلى ظل ظليل من عناية السلطان وحرمته، وبعثت عن الأهل والولد، وجمعت شملهم في مرعى تلك النعمة، وألقيت عصا التسيار.»
يفهم من هذه العبارات أن السلطان وفر له وسائل العيشة الهنيئة، فأخذ يشتغل ابن خلدون بتدريس العلوم من ناحية، وبمراجعة المصادر لإتمام تاريخه من ناحية أخرى.
وأثارت دروسه إعجاب طلاب العلم من جهة، وحسد الشيوخ القدماء من جهة أخرى، واشتد حسد هؤلاء عليه بوجه خاص من جراء ازدياد تقربه إلى السلطان.
ويظهر أن السلطان كان مولعا بالتاريخ؛ ولذلك اهتم بمشروع ابن خلدون، فشجعه على مواصلة البحث والتأليف لإتمام كتابه الخطير.
وانتهى ابن خلدون من تأليفه وهو في تونس، وقدم نسخة منه إلى السلطان. ويقول لنا هو في هذا الصدد ما يلي: «أكملت منه أخبار البربر وزناتة، وكتبت من أخبار الدولتين وما قبل الإسلام ما وصل إلي منها، وأكملت منه نسخة رفعتها إلى خزانته.»
ويوم تقديم هذه النسخة إلى السلطان أنشد بين يديه قصيدة امتدحه فيها، وأشار إلى الكتاب الذي قدمه إليه.
والقصيدة طويلة نقل لنا منها في ترجمة حياته مائة بيت وبيت، ثمانية منها تتعلق بالكتاب، ونحن ندرج فيما يلي هذه الأبيات فقط لتعلقها بموضوع دراساتنا هذه:
وإليك من سير الزمان وأهله
عبرا يدين بفضلها من يعدل
صحفا تترجم عن أحاديث الألى
غبروا، فتجمل عنهم وتفصل
تبدي التبابع والعمالق سرها
وثمود قبلهم، وعاد الأول
والقائمون بملة الإسلام من
مضر وبربرهم، إذا ما حصلوا
لخصت كتب الأولين لجمعها
وأتيت أولها بما قد أغفلوا
وألنت حوشي الكلام كأنما
شرد اللغات بها لنطقي ذلل
أهديت منه إلى علاك جواهرا
مكنونة، وكواكبا لا تأفل
وجعلته لصوان ملكك مفخرا
يبأى الندي به ويزهو المحفل (القصيدة في كتاب التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا، ص233-244.)
بهذه الصورة انتهى ابن خلدون من عمله العظيم، وهو في تونس.
ولكنه لم ينته من مجابهة مشاكل الحياة؛ لأن حساده كانوا لا ينقطعون عن الوشاية به عند السلطان بمناسبات مختلفة وأساليب متنوعة، والسلطان مع ذلك كان لا يزال يدنيه، حتى إنه أخذ يستصحبه في سفراته.
وكان بلغ ابن خلدون عندئذ الخمسين من العمر، فأخذ يفكر في أداء فريضة الحج، وصادف أن «كانت بالمرسى سفينة لتجار الإسكندرية، قد شحنها التجار بأمتعتهم وعروضهم، وهي مقلعة إلى الإسكندرية». وانتهز ابن خلدون فرصة وجود هذه السفينة هناك، «فتطارح إلى السلطان، وتوسل إليه في تخلية سبيله لقضاء فرضه، وأذن له في ذلك». وغادر ابن خلدون تونس على ظهر السفينة المذكورة، بعد مرور نحو أربعة أعوام على عودته إليها. (10) في مصر (1382-1406)
وصل ابن خلدون إلى مصر في طريقه إلى الحج، ولكنه أقام فيها حتى آخر حياته مدة أربعة وعشرين عاما.
وصوله إلى الإسكندرية كان صادف «يوم الفطر لعشر ليال من جلوس الملك الظاهر على التخت.»
أقام ابن خلدون في الإسكندرية مدة شهر؛ لتهيئة أسباب الحج، ولكن ذلك لم يتيسر له عامئذ، فانتقل إلى القاهرة.
وكانت شهرته وصلت إلى مصر منذ مدة، ولذلك عندما جلس للتدريس بالجامع الأزهر؛ «انثال عليه طلبة العلم»، واستطاع هو أن يخلب ألباب هؤلاء بطلاقة لسانه وسحر بيانه، وزادت شهرته من جراء ذلك في البلاد.
ثم اتصل بالسلطان، ونال عطفه ورعايته؛ لأنه - حسب تعبير ابن خلدون - «أبر اللقاء وأنس الغربة، ووفر الجراية من صدقاته شأنه مع أهل العلم.»
ولذلك عزم ابن خلدون على الاستقرار في مصر، وطلب أهله وولده من تونس، ولكن سلطان تونس «صدهم عن السفر اغتباطا بعوده إليه»، عندئذ طلب ابن خلدون من «السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه في تخلية سبيلهم»، والسلطان المشار إليه لبى طلبه وأرسل خطابا مؤثرا إلى سلطان تونس، وبناء على هذا الخطاب، سافرت العائلة من تونس، ولكن السفينة التي كانت تقلهم غرقت في البحر، ولم يتيسر لابن خلدون الالتقاء بهم.
لم يعد ابن خلدون في مصر إلى الحياة السياسية، ولم يطمع في منصب غير مناصب التدريس والقضاء والمشيخة.
تولى مناصب التدريس والقضاء عدة مرات؛ عين أولا مدرسا في المدرسة القمحية، ثم ولي منصب «قاضي القضاة المالكية».
إن هذه المناصب كانت في ذلك العهد عرضة إلى تبديلات كثيرة؛ ولذلك عزل منها، ثم أعيد إليها مرات عديدة.
إنه تولى التدريس - بعد المدرسة القمحية - في المدرسة الظاهرية، ثم في مدرسة صرغتمش، وبعد ذلك تولى مشيخة خانقاه البيبرسية ، وأما منصب قاضي القضاة المالكية فعزل منها وأعيد إليها خمس مرات.
إن صرامة ابن خلدون في الأحكام، خلال توليه مهام القضاء، أثارت إعجاب الكثيرين من جهة، ومشاغبات الكثيرين من جهة أخرى، وانقسم معاصروه في مصر بين المعجبين به إعجابا شديدا، وبين الناقمين عليه نقمة عنيفة.
لم ينقطع ابن خلدون خلال هذه المدة من مراجعة تأليفه أيضا، إنه أضاف إلى كتابه فصولا كثيرة، ووسع بوجه خاص أبحاثه المتعلقة بتاريخ المشرق، وأضاف بعض الفصول والفقرات إلى المقدمة، وغير بعض فصولها تغييرا كليا، ثم قدم نسخة منه إلى الملك الظاهر، وانتهز فرصة سفر وفد من السلطان المشار إليه إلى سلطان المغرب، فأرسل مع الوفد المذكور نسخة منه إلى خزانة الكتب في جامع القرويين بفاس، مهداة إلى «السلطان أبي الفارس عبد العزيز». (ومن المعلوم أن طبعة بولاق والطبعات المتفرعة منها تستند إلى هذه النسخة التي عرفت باسم «الفارسية» بالنسبة إلى اسم السلطان «أبو فارس عبد العزيز»).
هذا وقد غادر ابن خلدون القاهرة عدة مرات في سفرات قصيرة؛ يظهر أنه كان يذهب إلى الفيوم لاستلام حصته من القمح من أوقاف المدرسة القمحية، عندما كان يتولى التدريس فيها.
وسافر إلى الحجاز سنة 1387 / 789 عن طريق الطور وينبع، وعاد منه عن طريق القصير وقوص.
وسافر إلى القدس سنة 1399 / 802، وزار بيت لحم والخليل، وشاهد المقامات المباركة فيها.
وفي الأخير سافر إلى دمشق سنة 1400 / 803 عندما تقدم تيمورلنك للاستيلاء عليها.
وهذا السفر الأخير كان مترافقا بأحداث كثيرة، رواها ابن خلدون بتفصيلات وافية:
عندما استولى تيمورلنك على حلب، «وقع فيها من العبث والنهب والمصادرة واستباحة الحرم ما لم يعهد الناس مثله»، وعندما وصل خبر ذلك إلى مصر؛ تجهز السلطان فرج ابن الملك الظاهر إلى المدافعة عن الشام، وخرج مع عساكره، كما استصحب معه الخليفة والقضاة الثلاثة، واستدعى ابن خلدون أيضا لمرافقته، مع أنه كان معزولا من منصب القضاء.
وصل سلطان مصر إلى دمشق عندما كان تيمور رحل من بعلبك قاصدا إلى المدينة المذكورة، فاتخذ السلطان وسائل الدفاع، وقوى أسوار المدينة قبل وصول تيمور إليها، وعندما وصل تيمور ظلت قوات الطرفين تراقب بعضها البعض وتحارب حول المدينة مدة شهر.
ولكن بعد ذلك «نمى إلى السلطان وأكابر أمرائه أن بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلى مصر للثورة بها، فأجمع رأيهم للرجوع إلى مصر؛ خشية من انتقاض الناس وراءهم واختلال الدولة بذلك»، وعملوا بهذا الرأي، وتحولوا عن دمشق إلى مصر.
وأصبح عندئذ أهل دمشق متحيرين في الأمر، اجتمع القضاة والفقهاء بالمدرسة العادلية وابن خلدون معهم، واتفق رأيهم في طلب الأمان من الأمير تيمور على بيوتهم وحرمهم، وشاوروا في ذلك نائب القلعة، فأبى عليهم ذلك ونكره، فلم يوافقوه؛ فخرجوا إلى تيمور متدلين من السور، وبعد أن أخذوا منه الأمان «اتفقوا معه على فتح المدينة من الغد، وتصرف الناس في المعاملات، ودخول أمير ينزل بمحل الإمارة منها، ويملك أمرهم بعز ولايته.»
ولكن اختلاف رأي محافظ القلعة مع آراء القضاة والفقهاء أدى إلى ارتباك الأمور وتعقدها، وخلال هذه الارتباكات ذهب ابن خلدون بمفرده إلى تيمور متدليا من السور، ولاقاه وتحدث إليه حديثا طويلا.
ابن خلدون رجع إلى مصر بعد هذه الوقائع، وهذه كانت آخر أعماله ومغامراته.
إنه دون تفاصيل ملاقاته مع تيمور في ترجمة حياته، ثم واصل كتابة الترجمة حتى سنة 1405 / 807، ومات بعد ذلك في القاهرة سنة 1406 / 808.
ويذكر الكتاب المعاصرون له أنه دفن في مقبرة الصوفية. (11) الخلاصة
يظهر من التفاصيل التي استعرضناها آنفا أن حياة ابن خلدون العلمية والفكرية - بعد عهد الدراسة، ومن تاريخ دخوله الحياة العامة - ينقسم إلى ثلاثة أدوار أساسية:
الدور الأول:
كان دور العمل السياسي في بلاد المغرب، استمر مدة تزيد على عقدين من السنين (1352-1374).
الدور الثاني:
كان دور الانزواء والتأمل والتأليف في قلعة ابن سلامة عند أولاد بني عريف، استمر أربع سنوات فقط (1374-1378).
الدور الثالث:
كان دور الانصراف إلى التدريس والقضاء مع مراجعة التأليف، واستمر ثمانية وعشرين عاما (1378-1406).
إن دور الانزواء الذي أشرنا إليه آنفا كان قصيرا جدا بالنسبة إلى الدورين الآخرين، غير أنه كان نقطة تحول هامة جدا في حياة ابن خلدون؛ فإنه كان قبل هذا الانزواء مجروفا بتيارات السياسة وتقلباتها، وكان يعيش عيشة السياسي المغامر، ولكنه بعد الانزواء في قلعة ابن سلامة لم يعد إلى حياة السياسة، بل انقطع للتفكير والتأليف، مع الاشتغال بالقضاء والتدريس.
إنه كان قبل الانزواء في القلعة المذكورة رجل سياسة وعمل قبل كل شيء، ولكنه بعد هذا الانزواء أصبح رجل علم وتفكير بكل معنى الكلمة. (12) ابن خلدون في الذاكرة الشعبية
ماذا بقي من حياة ابن خلدون وأعماله في الذاكرة الشعبية؟
نستطيع أن نقول إن الذاكرة الشعبية في مصر لم تحفظ عن ذلك شيئا، وقبر ابن خلدون في القاهرة غير معروف إلى الآن.
وأما الذاكرة الشعبية في تونس فإنها لم تهمله أبدا، هناك يعرفه الناس ويعرفون الدار التي ولد وترعرع فيها ابن خلدون، دار تقع في أحد الشوارع المهمة من المدينة القديمة، هو شارع تربة الباي، تشغلها منذ عدة سنوات مدرسة الإدارة العليا، وقد وضع على جانب بابها لوحة رخامية تذكيرا لمولد المفكر الكبير هناك.
ويقع في آخر الشارع المذكور «كتاب» صغير تحت قبة جميلة، يسمى «مسيد القبة».
1
ويروى أن ابن خلدون كان درس في هذا الكتاب.
وأما قلعة ابن سلامة التي كتب فيها ابن خلدون مقدمته المشهورة، فموقعها معلوم لدى الجميع؛ إنها تقع على بعد خمس كيلومترات من مدينة «فرندا» الحالية التابعة إلى مقاطعة وهران في الجزائر، وأطلال القلعة شاخصة إلى الأبصار هناك.
آثار ابن خلدون
1
لقد كتب لسان الدين ابن الخطيب ترجمة حياة ابن خلدون الذي كان تعارف وتصادق معه، أولا في المغرب الأقصى ثم في الأندلس، وذكر في هذه الترجمة مؤلفات صديقه؛ رسالة في المنطق، وأخرى في الحساب، تلخيص لبعض ما كتبه ابن رشد، شرح لقصيدة البردة، تلخيص كتاب فخر الرازي، شرح لرجز في أصول الفقه.
من المعلوم أن هذا الأديب الكبير كان قتل خنقا قبل انتقال ابن خلدون إلى قلعة ابن سلامة؛ ولذلك لم يرد ذكر لكتاب العبر ومقدمته بين هذه المؤلفات بطبيعة الحال.
ولكن من الغريب أن جميع هذه المؤلفات التي ذكرها لسان الدين ابن الخطيب ليست معلومة الآن، والأغرب من ذلك أن ابن خلدون نفسه لم يذكرها في ترجمة حياته.
إن ما هو معروف عن العلاقات التي كانت توثقت بين لسان الدين ابن الخطيب وبين ابن خلدون لا يترك مجالا للشك في صحة ما كتبه الأول عن مؤلفات الثاني.
وأما عدم ذكر ابن خلدون لهذه المؤلفات في ترجمة الحياة التي كتبها بنفسه، فلا يمكن أن يفسر إلا بأنها كانت تافهة في نظره، ويغلب على الظن - والحالة هذه - بأنها كانت بمثابة كراسات الدرس أو التدريس العارية من الآراء المبتكرة؛ ولذلك لم يتباه بها ابن خلدون، فلم يذكرها في ترجمة حاله.
وأما الكتاب الوحيد الذي وصل إلينا من مؤلفات ابن خلدون، فهو كتاب التاريخ الذي كان أسماه باسم طويل: «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.»
إن كتاب العبر هذا مرتب على مقدمة وثلاثة كتب حسب تعبير المؤلف نفسه: «المقدمة: في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بمغالط المؤرخين.»
الكتاب الأول: في العمران، وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم، وما لذلك من العلل والأسباب.
الكتاب الثاني: في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ بدء الخليقة إلى هذا العهد، وفيه الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم؛ مثل النبط، والسريانيين، والفرس، وبني إسرائيل، والقبط، واليونان، والروم، والترك، والإفرنجة.
الكتاب الثالث: في أخبار البربر، ومن إليهم من زناتة، وذكر أوليتهم وأجيالهم، وما كان لهم بديار المغرب خاصة من الملك والدول (ص6).
إن الكتاب الذي يعرف الآن باسم «مقدمة ابن خلدون» هو في حقيقة الأمر «المقدمة والكتاب الأول» من كتاب العبر.
يقع هذا الكتاب في سبع مجلدات؛ الأول منها يتضمن ما عرف باسم «المقدمة»، الثاني والثالث والرابع والخامس منها يؤلف ما سماه ابن خلدون باسم «الكتاب الثاني»؛ ويتضمن - من حيث الأساس - تاريخ العرب، وتاريخ الإسلام، وتاريخ المشرق.
وأما السادس والسابع منها، فيؤلفان ما سماه ابن خلدون باسم «الكتاب الثالث»، فيتضمن أخبار البربر وتاريخ المغرب.
وينتهي المجلد السابع ب «التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب».
إن لكتاب العبر طبعة كاملة واحدة، هي طبعة بولاق القديمة، ولكن لمقدمته طبعات عديدة، وللتعريف الذي ينتهي به الكتاب طبعة مستقلة جديدة.
لما كانت المقدمة موضوع بحث هذه الدراسات، لا نرى لزوما لذكر شيء عنها هنا، ولذلك سنحصر الكلام الآن على سائر أقسام كتاب العبر، وعلى التعريف الذي يختمه.
2
إن قيمة الأبحاث والأخبار التاريخية المدونة في كتاب العبر تختلف اختلافا كبيرا حسب أقسامها المختلفة.
إن أهم وأثمن هذه الأبحاث هي التي تتعلق بتاريخ البلاد المغربية؛ لأن المعلومات المدونة في كتاب العبر عن هذا القسم من التاريخ طريفة وأصيلة، ابن خلدون لم ينقلها من الكتب، بل جمعها بنفسه خلال اتصاله بمختلف القبائل، وتنقله بين مختلف الدول المغربية، ولذلك يعتبر المجلدان الأخيران من كتاب العبر المصدر الأصلي لدراسة تاريخ البلاد المذكورة خلال العصور التي مضت بين الفتح الإسلامي وبين الأزمنة الأخيرة. ويقول المؤرخون والمستشرقون الذين تعمقوا في دراسة تاريخ المغرب: «لولا كتاب العبر لما استطعنا أن نعرف شيئا عن تاريخ البلاد والشعوب المغربية خلال العصور المذكورة.»
ولذلك نجد أن هذا القسم من تاريخ ابن خلدون هو القسم الوحيد الذي ترجم إلى لغة أوروبية ترجمة كاملة، فإن ترجمة هذا القسم من التاريخ إلى اللغة الفرنسية نشرت في الجزائر في مجلدين سنتي 1852 و1856، كما أنها طبعت من جديد في باريس في سنتي 1925 و1927.
وأما القسم المتعلق بتاريخ المشرق، فهو يتألف من معلومات اقتبسها وجمعها ابن خلدون من كتب معلومة، ولا يختلف عن تلك الكتب إلا في كيفية التبويب والتلخيص والعرض.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن المؤلف نفسه عندما أقدم على تأليف كتابه حصر قصده بتاريخ المغرب وحده؛ لعدم «اطلاعه على أحوال المشرق وأممه»، إنه أعلن قصده هذا بصراحة تامة في مقدمة المقدمة، حيث قال ما نصه: «أنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني به في هذا القطر المغربي، لاختصاص قصدي في التأليف المغرب وأحوال أجياله وأممه وذكر ممالكه ودوله دون ما سواه من الأقطار؛ لعدم اطلاعي على أحوال المشرق وأممه، وإن الأخبار المتناقلة لا تفي كنه ما أريده منه» (ص33).
وأما كتاب العبر الذي بين أيدينا الآن، فهو يتضمن عن أحوال المشرق وتاريخه أكثر من ضعف ما يتضمنه عن أحوال المغرب وتاريخه، وذلك يدل دلالة قاطعة على أن ابن خلدون قد أضاف الأبحاث المذكورة إلى كتابه بعد انتقاله إلى مصر، مخالفا بذلك قصده الأصلي وخطته الأولى.
ولا شك في أن ذلك إنما تم عن طريق الجمع والاقتباس من الكتب المختلفة، ولهذا السبب لا نجد في هذا القسم من كتاب العبر شيئا من القيمة والأصالة التي نجدهما في أقسامه الأخرى.
3
وأما «التعريف بابن خلدون» الذي ينتهي به «كتاب العبر» في طبعة بولاق فإنه يدون ترجمة حياة المؤلف حتى سنة 1395 / 797، وهي السنة التي أرسل خلالها نسخة كاملة من التاريخ إلى سلطان المغرب الأقصى.
ولكن ابن خلدون واصل تدوين ترجمة حياته بعد ذلك أيضا حتى سنة 1405 / 807، ومن المعلوم أن السنة المذكورة تسبق تاريخ وفاته عاما واحدا فقط.
ويظهر أن ابن خلدون عند مواصلة تدوين هذه الترجمة - فصلها - نوعا ما - من كتاب العبر وغير عنوانها، وجعلها «التعريف بابن خلدون مؤلف الكتاب، ورحلته غربا وشرقا.»
إن «التعريف» بمؤلف المقدمة بعد هذه الإضافات الأخيرة كان بقي حتى السنة الماضية مخطوطا، تحتفظ ببضع نسخ منه بعض المكتبات، ولكن خلال سنة 1951 طبع على نفقة لجنة النشر والترجمة والتأليف في القاهرة بعد التحقيقات التي قام بها، مع الحواشي التي كتبها السيد محمد بن تاويت الطنجي، وأصبح بذلك «التعريف» تحت متناول أيدي القراء والباحثين مثل «المقدمة».
ويتبين مما تقدم أن «كتاب» التعريف بابن خلدون يجب أن يعتبر مؤلفا من قسمين حسب تاريخ كتابة وقائعه؛ القسم الأول يتألف مما كان كتب قبل سنة 1395 / 797، ويشغل 278 صفحة، والقسم الثاني يتألف مما كتب بعد التاريخ المذكور، ويشغل 106 صفحات.
وكان القسم الأول ينتهي بالعبارات التالية بعد عبارة: «لهذا العهد الفاتح سبع وتسعين»: «وقد نجز الغرض مما أردت إيراده في هذا الكتاب، والله الموفق لرحمته بالصواب ، والهادي إلى حسن المآب، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله والأصحاب، والحمد لله رب العالمين» (كتاب العبر، بولاق ج7، ص462).
ومن الطبيعي أن ابن خلدون حذف هذه العبارات الختامية عندما واصل كتابة ترجمته، وألحق ما كتبه بعد ذلك بما كتبه قبلا.
ومما يلفت النظر أن ابن خلدون في هذا القسم الأخير من كتاباته عاد إلى بعض ما كان كتبه قبلا وزاده تفصيلا.
مثلا إنه كان ذكر توليته التدريس في المدرسة القمحية في القسم الأول من «التعريف» دون تفصيل (ص253)، ولكنه بعدما أقدم على إتمام الترجمة عاد إلى هذه الواقعة، ونقل لنا الخطبة التي كان ألقاها يوم جلوسه للتدريس فيها (ص285-293)، وكذلك دون الخطبة التي أنشأها في مفتتح التدريس في المدرسة الظاهرية (ص286-293)، مع أنه كان تولى التدريس فيها قبل سنة 797 / 1395، كما أنه تكلم عن خطبة الافتتاح التي ألقاها في مدرسة صلغتمش (صرغتمش)، وعاد إلى ذكر توليته منصب القضاء، وتكلم عن تعيينه إلى مشيخة خانقاه بيبرس وعزله منها، وكتب تفاصيل فتنة الناصري التي كانت سببا لهذا العزل، مع أن كل ذلك كان حدث قبل التاريخ الذي اختتم به كتاب التعريف، عندما أرسل نسخة من مؤلفه إلى سلطان المغرب.
ونستطيع أن نقول لهذه الأسباب: إن الخاتمة التي ذكرناها آنفا يجب أن تعتبر بمثابة «الحد الفاصل» بين ما كتبه قبل سنة 797 هجرية، وبين ما كتبه بعدها، لا بين ما حدث قبل ذلك التاريخ وبين ما حدث بعده. •••
هذا ونحن نلاحظ أن الأبحاث المسرودة في القسم الأول أيضا لم تكتب دفعة واحدة، بل كتبت في أوقات مختلفة، كما أن الكتابات الجديدة لم تلحق بالقديمة حسب أوقات كتاباتها، بل إنها أدخلت في بعض الأحيان بين الفقرات والمباحث المكتوبة قبلا.
ولذلك نجد في «التعريف» كثيرا من الأبحاث المتكررة، ونلاحظ أن المؤلف يذكر بعض الأمور في محل، ثم يعود إلى نفس الأمور في محل آخر، ويكررها تارة مع تفصيل، وطورا مع تلخيص.
ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما جاء في كتاب التعريف عن تراجم بعض العلماء؛ فإن ابن خلدون يدون تراجم أحوال هؤلاء؛ أولا عندما يذكر أسماء الأساتذة الذين درس عليهم، ثم يكرر ترجمة بعضهم بتفصيل أوفى بمناسبة القصيدة التي أنشدها أحد شعراء تونس في حضرة السلطان، ذاكرا فيها أسماء العلماء الذين وفدوا معه، ولذلك نجد أن ترجمة الآبلي - مثلا - مذكورة أولا في ص21-22، ثم في ص33-38، كما نجد ترجمة عبد المهيمن مسطورة أولا في ص20، ثم في ص38-41.
إن أمثال هذه الأبحاث المكررة كثيرة في كتاب «التعريف بابن خلدون». •••
وأما من حيث المواضع، فنحن نلاحظ أن كتاب «التعريف بابن خلدون» لا يكتفي بتدوين ترجمة حياته، بل إنه يجمع ويسجل كثيرا من الوثائق والمعلومات التاريخية والأدبية أيضا، ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن المعلومات التاريخية والوثائق الأدبية المدونة فيه تشغل حيزا أوسع بكثير من الذي تشغلها الأمور المتعلقة بترجمة حال المؤلف مباشرة.
مثلا عندما يذكر ابن خلدون - في كتاب التعريف - أسماء العلماء الذين درس عليهم أو التقى بهم، يكتب تراجم أحوال كل واحد منهم بتفصيل، من ذكر محل تولدهم إلى تثبيت تاريخ وفاتهم، حتى إنه يذكر كثيرا من الوقائع التاريخية التي تأثروا منها أو أثروا فيها.
وعندما يذكر بعض الوقائع التاريخية التي اشترك فيها هو أو اتصل بها بصورة من الصور يفصل تلك الوقائع تفصيلا وافيا، يشمل أولياتهم البعيدة إذا لم يكن قد كتب عنها في فصل من فصول كتاب العبر نفسه.
ولهذا السبب يجد الباحث بين صحائف كتاب التعريف كثيرا من الأبحاث التاريخية.
وفضلا عن ذلك فإن «التعريف» يضم عددا غير قليل من الوثائق الأدبية أيضا؛ لأن ابن خلدون يدون في هذا الكتاب بعض الرسائل التي تلقاها من أصحابه بنصوصها الكاملة، كما يذكر بمناسبات عديدة طائفة من أشعارهم وقصائدهم أيضا.
يتضمن كتاب «التعريف» نصوص عدة خطابات صادرة عن قلم لسان الدين ابن الخطيب، وخطابا واردا من ابن زمرك كاتب سر السلطان ابن الأحمر، وآخر من علي بن البني قاضي الجماعة في غرناطة، كما أنه يتضمن بعض الخطابات الرسمية أيضا؛ منها الخطاب العام الموجه من سلطان غرناطة إلى عماله لتسهيل سفر ابن خلدون خلال عودته من الأندلس إلى بجاية، ومنها الخطاب الذي أرسله سلطان مصر إلى سلطان تونس، ملتمسا تسفير عائلة ابن خلدون إلى القاهرة.
وطبيعي أن كتاب التعريف يضم طائفة من خطابات وخطب ابن خلدون نفسه؛ منها خطاب موجه إلى لسان الدين ابن الخطيب جوابا على إحدى رسائله، ومنها خطاب مرفوع إلى سلطان المغرب لإخباره ما جرى له مع تيمورلنك، ومنها خطب الافتتاح التي ألقاها عند جلوسه للتدريس، أولا في المدرسة القمحية ثم المدرسة الظاهرية، وفي الأخير في مدرسة صلغتمش.
وفضلا عن ذلك كله نجد بين صحائف «التعريف» طائفة من أشعار ابن خلدون وقصائده أيضا، يبلغ مجموع أبيات هذه القصائد 380 بيتا.
ولذلك نستطيع أن نقول إن كتاب التعريف يؤلف مجموعة وثائق تاريخية وأدبية تستحق الدرس باهتمام. •••
ومما يلفت النظر في كتاب التعريف أن ابن خلدون يهتم فيه بتسجيل الوقائع وتفصيلها اهتماما كبيرا، ولكنه لا يعنى بتدوين الأفكار ووصف الانفعالات.
فإن العبارات التي تدل على الانفعالات في الكتاب المذكور محدودة وموجزة جدا.
مثلا يذكر ابن خلدون قضية سجنه بهذه العبارة الوجيزة: «قبض علي، وامتحنني، وحبسني.»
ويذكر النكبة التي أصيب بها عند وفاة والديه بقوله: «كان الطاعون الجارف، وذهب بالأعيان والصدور وجميع المشيخة، وهلك أبواي رحمهما الله.»
وأما واقعة غرق السفينة التي كانت تحمل عائلته فإنه يذكرها بهذه العبارات الوجيزة: «وافق ذلك مصاب الأهل والولد، وصلوا من المغرب بالسفين، فأصاب عاصف من الريح فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود، وعظم المصاب.»
ويذكر هذه الواقعة في محلين آخرين بمناسبتين مختلفتين، ويضيف هناك - إلى ما تقدم - العبارات التالية: «عظم الأسف، وحسن الجزاء، واختلط الفكر.»
وهذا كل ما كتبه عن مصائبه العائلية.
ونستطيع أن نقول إن ابن خلدون كتب ترجمة حياته كأنه يدون وقائع تاريخية، ولم يسجل خلال هذه الترجمة انفعالاته وانطباعاته إلا نادرا وبعبارات مقتضبة جدا.
إنه لا يشذ عن هذه الخطة إلا مرتين، وذلك في القسم الأخير من التعريف، مرة عندما تكلم عن عمله في منصب القضاء، ومرة عندما سرد لقاءه بتيمورلنك.
إنه تكلم عن توليه منصب القضاء في مصر في ست صفحات بأسلوب مشبوب بالانفعال، في حين أنه ما كان خصص لذكر ما عمله خلال توليه منصب الحجابة في تلمسان إلا بضعة أسطر.
إنه ذكر تفاصيل ملاقاته مع تيمورلنك في نحو اثنتي عشرة صحيفة، وذلك بعد معلومات وتفصيلات تاريخية أشغلت صحائف كثيرة، في حين أن ما كان ذكره عن ملاقاته بملوك آخرين لم يزد على سطر أو سطرين.
أمام هذه الظاهرة يجب علينا أن نتساءل: لماذا؟ لماذا هذا التفاوت في كيفية سرد الوقائع ووصف الأحوال؟
إني أعتقد أن عوامل هذا التفاوت متعددة؛ منها تفاوت المدد التي مضت بين تاريخ حدوث الواقعات وبين تاريخ ذكرها في التعريف، ومنها اختلاف شدة تأثر المؤلف من الواقعات المختلفة، ومنها تفاوت حالاته النفسية العامة عند اشتغاله بتدوين الواقعات.
من المؤكد أن ابن خلدون كتب ما كتبه عن وقائع حياته في المغرب بعد مرور مدة طويلة على حدوثها، وأما ما حدث له خلال توليه منصب القضاء وخلال ملاقاته مع تيمورلنك، فإنه كتبها بعد مدة وجيزة من حدوثها، وربما عقب حدوثها عندما كان تأثيرها في نفسه لا يزال حيا وحادا.
وفضلا عن ذلك، إن الخطة التي سار عليها في القيام بمهمة القضاء خلقت له كثيرا من المتاعب، وأثارت عليه حسد البعض ومشاغبة الكثيرين، مع أنه كان وصل عندئذ إلى منتصف العقد السادس من العمر، فكان من الطبيعي أن يتأثر من هذه المتاعب والمشاغبات تأثرا عميقا، كما أنه كان من الطبيعي أن تنعكس انفعالاته هذه على كتاباته عندما أقدم على تدوين هذه الوقائع.
وأما ملاقاته مع تيمورلنك، فكانت وقعت وهو في عتبة السبعين من العمر، ومجردا عن كل الشواغل، فلا شك في أنه كتبها فور وقوعها، ومما يؤيد ذلك أن أبحاث «التعريف» التي تلي أخبار تيمور لم تشغل إلا صحيفة واحدة. •••
إني أعتقد أن ما كتبه ابن خلدون عن الأحوال التي لاحظها، والمتاعب التي لاقاها، والمفاسد التي كافحها عندما تولى منصب القضاء يكون وثيقة هامة تصور حالة العصر أحسن تصوير بكل ما فيه من فساد وضلال وتضليل وشعوذة.
ومما يلفت النظر أن الانتقادات الشديدة التي كتبها ابن خلدون بهذه المناسبة تتناول شئون الفتيا والأوقاف أيضا.
ونظرا لأهمية هذه الانتقادات رأيت من المفيد أن أنقل فيما يلي نص ما كتبه ابن خلدون في هذا المضمار: «خلع علي (السلطان) بإيوانه، وبعث من كبار الخاصة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين، فقمت بما دفع إلي من ذلك المقام المحمود، ووفيت جهدي بما أمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الحق لومة، ولا يزعني عنه جاه ولا سطوة، مسويا في ذلك بين الخصمين، آخذا بحق الضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين، جانحا إلى التثبت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمل الشهادات، فقد كان البر منهم مختلطا بالفاجر، والطيب متلبسا بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم، متجاوزون عما يظهرون عليه من هناتهم؛ لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة، فإن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن، وأئمة في الصلوات، يلبسون عليهم العدالة، فيظنون بهم الخير، ويقسمون لهم الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاء والتوسل لهم؛ فأعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم، ووقفت على بعضها؛ فعاقبت فيه بموجع العقاب ومؤلم النكال، وتأدى إلي العلم بالجرح في طائفة منهم، فمنعتهم من تحمل الشهادة، وكان منهم كتاب لدواوين القضاة والتوقيع في مجالسهم، قد دربوا على إملاء الدعاوى وتسجيل الحكومات، واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود، بأحكام كتابتها وتوثيق شروطها، فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم، وتمويه على القضاء بجاههم، يدرعون به مما يتوقعونه من عتبهم، لتعرضهم لذلك بفعلاتهم. وقد يسلط بعض منهم قلمه على العقود المحكمة، فيوجد السبيل إلى حلها بوجه فقهي أو كتابي، ويبادر إلى ذلك متى دعا إليه داعي جاه أو منحة، وخصوصا في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر بكثرة عوالمه فأصبحت خافية الشهرة، مجهولة الأعيان، عرضة للبطلان باختلاف المذاهب المنصوبة للحكام بالبلد، فمن اختار فيها بيعا أو تمليكا شارطوه وأجابوه، مفتاتين فيه على الحكام الذين ضربوا دونه سد الحظر والمنع حماية عن التلاعب، وفشا في ذلك الضرر في الأوقاف، وطرق الضرر في العقود والأملاك.
فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم علي وأحقدهم، ثم التفت إلى الفتيا بالمذهب، وكان الحكام منهم على جانب من الخبرة؛ لكثرة معارضتهم وتلقينهم الخصوم، وفتياهم بعد نفوذ الحكم، إذا فيهم أصاغر، ببناهم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة ولا يكادون، وإذا بهم طفروا إلى مراتب الفتيا والتدريس فاقتعدوها وتناولوها بالجزاف، واحتازوها من غير مثرب، ولا منتقد للأهلية ولا مرشح. إذ الكثرة فيهم بالغة، ومن كثرة الساكن مشتقة، وقلم الفتيا في هذا المصر طلق، وعنانها مرسل، يتجاذب كل الخصوم منه رسنا، ويتناول من حافته شقا، يروم به الفلج على خصمه، ويستظهر به لإرغامه، فيعطيه المفتي من ذلك ملء رضاه، وكفاه أمنيته، متتبعا إياه في شعاب الخلاف، فتتعارض الفتاوى وتتناقض، ويعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم، والخلاف في المذاهب كثير، والإنصاف متعذر، وأهلية المفتي أو شهرة الفتيا ليس تمييزها للعامي، فلا يكاد هذا المدد ينحسر، ولا الشغب ينقطع.
فصدعت في ذلك بالحق، وكبحت أعنة أهل الهوى والجهل، ورددتهم على أعقابهم، وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب، يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك، لا ينتمون إلى شيخ مشهور، ولا يعرف لهم كتاب في فن، قد اتخذوا الناس هزؤا، وعقدوا المجالس مثلبة للأعراض ومأبنة للحرم؛ فأرغمهم ذلك مني وملأهم حسدا وحقدا علي، وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة، يشترون بها الجاه ليجيروا به على الله، وربما اضطر أهل الحقوق إلى تحكيمهم؛ فيحكمون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم، يترخصون به للإصلاح، ولا يزعهم الدين عن التعرض لأحكام الله بالجهل. فقطعت الحبل في أيديهم، وأمضيت أحكام الله فيمن أجاروه، فلم يغنوا عنه من الله شيئا، وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم التي يمتاحون منها معطلة، وانطلقوا يراطنون السفهاء في النيل من عرضي، وسوء الأحدوثة عني بمختلف الإفك ، وقول الزور يبثونه في الناس، ويدسون إلى السلطان التظلم مني، فلا يصغي إليهم، وأنا في ذلك محتسب عند الله ما منيت به من هذا الأمر، ومعرض فيه عن الجاهلين، وماض على سبيل سواء من الصرامة، وقوة الشكيمة، وتحري المعدلة، وخلاص الحقوق، والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت إليها، وصلابة العود عن الجاه والأغراض متى غمرني لامسها. ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة، فنكروه علي، ودعوني إلى تبعهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر، ومراعاة الأعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة، أو دفع الخصوم إذا تعذرت، بناء على أن الحاكم لا يتعين عليه الحكم مع وجود غيره، وهم يعلمون أن قد تمالئوا عليه.
وليت شعري ما عذرهم في الصور الظاهرة إذا علموا خلافها، والنبي
صلى الله عليه وسلم
يقول في ذلك: «من قضيت له من حق أخيه شيئا، فإنما أقضي له من النار.»
فأبيت في ذلك كله إلا إعطاء العهدة حقها، والوفاء لها ولمن قلدنيها، فأصبح الجميع علي ألبا، ولمن ينادي بالتأفف مني عونا ...» (التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا، ص254-258.)
القسم الأول: نظرات وملاحظات عامة
أبحاث المقدمة
(1)
إن الكتاب الذي يعرف الآن باسم «مقدمة ابن خلدون» يتألف في الحقيقة من «المقدمة» و«الكتاب الأول» من تاريخه المسمى «كتاب العبر».
يعنون ابن خلدون الكتاب الأول بالعنوان التالي: «في طبيعة العمران في الخليقة، وما يعرض فيها من البدو والحضر، والتغلب، والكسب، والمعاش، والصنائع، والعلوم، ونحوها، وما لذلك من العلل والأسباب» (ص35).
وبعد ذلك يقسم الكتاب المذكور إلى ستة فصول رئيسية:
الأول:
في العمران البشري على الجملة، وأصنافه، وقسطه من الأرض.
الثاني:
في العمران البدوي، وذكر القبائل والأمم الوحشية.
الثالث:
في الدول والخلافة والملك، وذكر المراتب السلطانية.
الرابع:
في العمران الحضري والبلدان والأمصار.
الخامس:
في الصنائع والمعاش والكسب ووجوهه.
السادس:
في العلوم واكتسابها وتعلمها. (2)
قد قسم ابن خلدون كل واحد من هذه الفصول الرئيسية إلى عدد من المقدمات والفصول.
وبما أنه استعمل كلمة «الفصل» في التقسيمات الرئيسية والتقسيمات المتفرعة منها على حد سواء، كثيرا ما يغلط القراء في تحديد أقسام الكتاب ومباحثه.
ولدفع هذا المحذور لقد سمى المترجم الفرنسي «البارون دو سلان» كل فصل من الفصول الرئيسية المذكورة باسم «القسم»، كما سمت بعض الطبعات العربية - مثل طبعة مصطفى محمد في مصر - كل واحد من هذه الفصول الرئيسية باسم «الباب»، وإن لم تشر إلى أنها فعلت ذلك تسهيلا لمراجعة القراء ودفعا للالتباس، ونحن سنقتفي في هذه الدراسات إثر تلك الطبعات، وسنسمي الفصول الأساسية باسم «الأبواب»، وعندما نضطر إلى ذكر عنوان الفصل بنصه الأصلي سنضيف إليه كلمة «الرئيسي»؛ تمييزا له من الفصول الفرعية. (3)
أما عدد هذه المقدمات والفصول فهو كما يلي:
في الفصل الرئيسي الأول - أي في الباب الأول - ست مقدمات، في الباب الثاني 29 فصلا، في الباب الثالث 53، في الباب الرابع 22، في الباب الخامس 33، في الباب السادس 50 فصلا.
لقد ذكرنا هذه الأعداد بالنسبة إلى طبعة بيروت وطبعة مصطفى محمد المصرية المشتقة منها، غير أن طبعة بولاق تحتوي على فصل زائد على ذلك في الباب السادس، وكذلك طبعة مصطفى فهمي.
وأما طبعة باريس التي كان تولى أمرها المستشرق «كاترمير»، فتحتوي على فصل زائد في الباب الثالث، وعلى عشرة فصول زائدة في الباب السادس.
وبما أن نسخ طبعة باريس نادرة وبعيدة عن متناول أيدي معظم الذين يقرءون المقدمة، سندرج في ذيل هذا البحث فهرستا كاملا لعناوين هذه الفصول الزائدة، كما أننا سنكتب دراسة تحليلية لأحدها، وإجمالا وافيا لبعضها، وسننقل بعضها بنصوصها. (4)
إن بعض الطبعات المتداولة في البلاد العربية - مثل طبعة مصطفى فهمي في مصر القاهرة - وضعت أرقاما بجانب عناوين الفصول؛ تسهيلا للبحث والمراجعة، غير أن بعضها - مثل طبعة بيروت، وطبعة مصطفى محمد في مصر - تجاوزت ذلك إلى ترتيب الفصول ترتيبا عدديا، بقولها: الفصل الأول، الفصل السادس، الفصل الثاني والعشرون، وهلم جرا.
ومما يجب ألا يغرب على البال أن الفصول الفرعية لم تكن مرقمة في أصلها، فالطابع الذي يقدم على ترقيم الفصول وترتيبها بهذه الصورة يتحمل مسئولية معنوية كبيرة؛ لوجود بعض الفصول في بعض النسخ دون غيرها ؛ مثلا الفصل القائل بأن «العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري»، يكون أول الفصول من الباب السادس في النسخ التي اعتمدت عليها طبعات البلاد العربية، في حين أنه يكون الفصل السادس في النسخ التي اعتمدت عليها طبعة باريس.
ونحن نعتقد لذلك أن ترتيب الفصول بهذه الصورة ترتيبا نهائيا - قبل درس نسخ المقدمة درسا وافيا - مما يخالف الأصول العلمية، ومما يشوش الأمر على القراء والباحثين. (5)
ومما تجب ملاحظته هذه الفصول والأبواب، تختلف اختلافا كبيرا من حيث الطول؛ فإن أطول الأبواب هو الباب السادس (الباحث عن العلم والتعليم)، ثم يليه في الطول الباب الثالث (الباحث عن الدول)، فالباب الأول (الباحث عن العمران البشري على الجملة)، فالباب الخامس (الباحث عن الصنائع والمعاش)، فالباب الرابع (الباحث عن الأمصار)، فالباب الثاني (الباحث عن العمران البدوي).
وإذا أحصينا عدد الصحائف المخصصة لكل واحد من الأبواب الستة المذكورة، وقارنا بعضها ببعض؛ وجدنا أن طول الباب السادس يقرب من سبعة أمثال الثاني، كما أن طول الباب الثالث يناهز ستة أمثال الباب المذكور.
وأما الفصول التي تنقسم إليها الأبواب فهي أيضا تختلف اختلافا كبيرا من حيث الطول؛ إن أطول الفصول هو الباحث عن جغرافية الأرض (33 صفحة)، ويليه في الطول الفصل الباحث عن النبوة والكهانة (28 صفحة)، ويأتي بعد ذلك الفصل الباحث عن مراتب السلطان وألقابها (22 صفحة)، فالفصل الباحث عن الفاطمي المنتظر (19 صفحة).
لقد انخدع بعض الكتاب والباحثين بعدد الصحائف المخصصة في المقدمة لكل فصل من الفصول، وظنوا أن ابن خلدون يعزو أهمية كبيرة إلى البيئة الجغرافية، كما زعموا أنه يعتبر الدين من أهم عوامل الاجتماع، في حين أن الحقيقة تخالف هذا الزعم مخالفة كبيرة، كما سنشرح ذلك في فصول خاصة عندما نقدم على تحليل آراء ابن خلدون وشرح نظرياته.
فنحن نرى أن أهمية الفصول في المقدمة لا يجوز أن تقدر بعدد الصحائف المخصصة لها؛ لأن بعض المباحث المسرودة في بعض الفصول ما هي إلا معلومات تمهيدية أو استطرادية، يقصد منها تارة إعطاء بعض المعلومات الممهدة، وطورا بعض المعلومات المتممة؛ بغية إعداد الأذهان لفهم الموضوع في بعض الأحوال، وزيادة المعلومات المتعلقة بالموضوع في أحوال أخرى، ولذلك نجد أن أهمية المباحث المسرودة في الفصول المختلفة لا تتناسب مع أطوالها بوجه من الوجوه.
إن المباحث الاستطرادية أو التمهيدية محتشدة في الدرجة الأولى في الباب السادس، فالباب الأول، فالباب الثالث، وأما الأبواب الثلاثة الأخرى فيقل، بل يندر فيها مثل هذه المباحث التمهيدية أو الاستطرادية.
مثلا الباب الأول، يقع في ثمان وسبعين صفحة، غير أن أكثر من ثلاث أرباع هذه الصحائف مخصصة لمعلومات استطرادية عن تقسيمات الأرض ومسألة النبوة والكهانة.
والباب الثاني يقع في ثلاث وثلاثين صفحة، غير أن الصحائف المذكورة تكاد تكون خالية من المباحث الاستطرادية أو التمهيدية. (6)
يظهر من التفاصيل الآنفة الذكر أن المباحث المدرجة في المقدمة تنقسم إلى نوعين أساسيين:
الأول:
المباحث الأساسية التي تدخل في نطاق أغراض المؤلف الأصلية، فتحوم حول «علم العمران»، و«أسس التاريخ» مباشرة.
والثاني:
المباحث الاستطرادية التي تأتي عرضا، وتستهدف سرد بعض المعلومات العامة تمهيدا للأبحاث الأصلية أو إتماما للفائدة.
إن أبحاث المقدمة مهمة جدا من كلتا الوجهتين:
أولا من وجهة المباحث الأصلية؛ اعتبر بعض الباحثين والكتاب موضوع المقدمة بمثابة «علم التاريخ» أو «فلسفة التاريخ»، واعتقد بعضهم أنها بمثابة «علم الاجتماع» أو فلسفة الاجتماع، «أما أنا فأرى أن كل واحد من هذين الرأيين وجيه من جهة وقاصر من جهة أخرى، وأعتقد بأن أحسن تعبير نستطيع أن نعبر به عن حقيقة المقدمة، هو القول بأنها «مدخل اجتماعي للتاريخ»
Introduction sociologique à l’histoire .
وأما من وجهة المباحث الاستطرادية؛ فإن المقدمة بمثابة موسوعة
Encyclopédie
ثمينة جدا، فهي تجمع كمية كبيرة من المعلومات القيمة عن الجغرافية والتاريخ، ورسوم الحضارة، وأصناف العلوم، وأحوال الصنائع، وأصول التعليم، وعن أهم المؤلفات العلمية والأدبية، والآراء السياسية والدينية والفلسفية.
إنني أعتقد بأن دراسة المقدمة دراسة علمية دقيقة تتطلب تفريق مباحثها الأصلية عن مباحثها الفرعية باهتمام، ودرس كل قسم منها على حدة حسب ما تتطلبه طبيعتها.
إن عمل ابن خلدون في النوع الثاني من مباحث المقدمة لا يتعدى حدود «النقل، والجمع، والعرض، والتلخيص ، والترجيح، والتسجيل»، وأما قدرته الابتكارية وعبقريته الحقيقية، فلا تظهر إلا في النوع الأول من مباحث المقدمة.
فجهود الباحثين يجب أن توجه - قبل كل شيء - إلى تفريق هذه المباحث من غيرها، وتمييز المبتكر وتبريز الطريف منها.
ذيل
الفصول المنسية والمهملة
لمقدمة ابن خلدون فصول منسية في الطبعات المصرية والبيروتية المتداولة بين الأيدي.
ندرج فيما يلي عناوين هذه الفصول مع تعيين مواضعها من الفصول المعلومة في الطبعات المتداولة، معتمدين في ذلك على طبعة باريس: (أ)
في الباب الثالث بعد الفصل الباحث عن «طروق الخلل للدولة»، فصل في اتساع نطاق الدولة أولا إلى نهايته، ثم تضايقه طورا بعد طور، إلى فناء الدولة واضمحلالها (المجلد الثاني، ص114-117). (ب)
في أول الباب السادس قبل الفصل القائل بأن «العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري».
فصل في الفكر الإنساني (المجلد الثاني، ص364). (ج)
في الباب نفسه، بعد الفصل الآنف الذكر:
فصل في أن عالم الحوادث العقلية إنما يتم بالفكر. (د)
بعد ذلك:
فصل في العقل التجريبي وكيفية حدوثه. (ه)
بعد ذلك:
فصل في علوم البشر وعلوم الملائكة. (و)
بعد ذلك:
فصل في علوم الأنبياء عليهم السلام. (ز)
بعد ذلك:
فصل في أن الإنسان جاهل بالذات وعالم بالكسب. «إن هذه الفصول الستة تشغل 12 صفحة من المجلد الثاني: 364-376.» (ح)
في الباب السادس، بعد فصل علم الكلام:
فصل في كشف الغطاء عن المتشابه في الكتاب والسنة، وما حدث لأجل ذلك في طوائف السنة والمبتدعة من الاعتقادات (المجلد الثالث، ص44-59). (ط)
في الباب نفسه، بعد الفصل الذي يقرر «أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل»:
فصل في المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف وإلغاء ما سواها (المجلد الثالث، ص241-248). (ي)
في الباب المذكور، بعد الفصل القائل «إن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم»:
فصل في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي (المجلد الثالث، ص274-278). (ك)
في الباب السادس أيضا، بعد الفصل القائل: «إن حصول ملكة الشعر بكثرة الحفظ»:
فصل في بيان المطبوع من الكلام والمصنوع، وكيفية جودة المصنوع وقصوره (المجلد الثالث، ص351-357). •••
هذا ومما يجب الانتباه إليه أن طبعة باريس تحتوي على فقرات كثيرة - زيادة على الفصول الآنفة الذكر - لا توجد في الطبعات المصرية والبيروتية.
أهم هذه الفقرات تقع في فصول الخط، والتصوف، والسيمياء، واللغة.
كما أن فصل الحديث في طبعة باريس يختلف اختلافا كليا عما هو معروف في الطبعات المذكورة، من حيث التفصيل من جهة، ومن حيث الترتيب من جهة أخرى.
تاريخ كتابة المقدمة
1
متى وأين، وكيف كتب ابن خلدون مقدمته المشهورة؟
إن أجوبة ذلك مسطورة في بعض الفقرات التي كتبها المؤلف بنفسه، أولا في آخر المقدمة، وثانيا في ترجمة حياته الملحقة بالتاريخ.
قال ابن خلدون في آخر الكتاب الأول ما يلي: «أتممت هذا الجزء بالوضع والتأليف، قبل التنقيح والتهذيب، في مدة خمسة أشهر، آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمائة، ثم نقحته بعد ذلك وهذبته، وألحقت به تواريخ الأمم، كما ذكرت في أوله، وشرحته» (ص588).
كما كتب في ترجمة حياته عندما شرح إقامته عند أولاد عريف في قلعة ابن سلامة: «فأقمت بها أربعة أعوام متخليا عن الشواغل، وشرعت في تأليف هذا الكتاب، وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة على هذا النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر، حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها» (التاريخ، ج7، ص445).
يفهم من ذلك بصراحة تامة أن ابن خلدون كتب المقدمة سنة 1377 ميلادية (779 هجرية)، عندما كان يعيش معتزلا في قلعة ابن سلامة في مدة خمسة أشهر تقريبا.
في ذلك التاريخ كان قد بلغ ابن خلدون السنة الخامسة والأربعين من عمره، وكان قد اعتزل الحياة السياسية قبل ثلاث سنوات، بعد أن خاض غمارها أكثر من عشرين عاما.
ومن المعلوم أن الحياة السياسية التي خاض غمارها ابن خلدون خلال هذه المدة الطويلة، كانت حياة عنيفة مليئة بالمغامرات؛ إنه كان قد تقلب في عدة مناصب سياسية - من كتابة العلامة إلى كتابة السر، فالحجابة أو الوزارة - واشترك في معظم وقائع الدول المغربية، ولعب دورا هاما في عدة انقلابات سياسية، كل ذلك متنقلا بين تونس، وتلمسان، وفاس، وبيسكرة، وغرناطة، في إفريقية والمغرب الأقصى والأندلس. وقد ذاق خلال هذه الحياة السياسية العنيفة الشيء الكثير من لذة الحكم ومرارة التغرب، ومن حلاوة الفوز وخيبة الفشل، حتى إنه لم يبق غريبا عن عذاب السجن أيضا.
ويظهر أن نظره الفاحص الناقد كان يشتغل بشدة خلال هذه الحياة الفعالة، وذهنه الباحث الوقاد كان لا ينفك عن اختزان الملاحظات تلو الملاحظات ولو بصورة لا شعورية. فعندما تهيأ له شيء من هدوء البال واستقرار الحياة في قلعة ابن سلامة بين أحياء بني عريف، وعندما بدأ يكتب «التاريخ»، وتقدم إلى درجة ما في طريق هذا التأليف؛ تفاعلت تلك الملاحظات المخزونة تفاعلا شديدا، انبثقت منه أبحاث المقدمة انبثاقا، وتدفقت منه الآراء والأفكار تدفقا.
فإنني عندما أتأمل فيما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد أجزم بأن توصله إلى مجموعة الآراء المبتكرة الكثيرة المسطورة في المقدمة، إنما كان حدث من جراء «تدفق فجائي»، بعد «حدس باطني» و«اختمار لا شعوري»، كما لاحظ ذلك بعض علماء النفس في حياة عدد غير قليل من المفكرين والفنانين، في تاريخ عدد غير يسير من الابتكارات والاكتشافات، ذلك النوع من «التدفق الفجائي» الذي يحمل المفكر على التعجب من نتائج تفكيره»، ويوصله أحيانا إلى النظر إليها على أنها «آراء إلهامية» تصدر عن «قدرة خارجة عن نفسه» كأنها تلقى إليه إلقاء. فأنا أميل إلى الاعتقاد بأن ابن خلدون عندما قال: «أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان.» وعندما كتب: «ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما.» ولا سيما عندما قال: «سالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر.» عندما قال وكتب ذلك وأمثال ذلك لم يكن مسترسلا في طريق التشبيه والمجاز، ولا مستسلما لتداعي الكلمات والتراكيب، بل كان معبرا تعبيرا صحيحا عما كان يشعر به في قرارة نفسه فعلا من جراء طرافة الآراء التي قد توصل إليها بصورة تكاد تكون فجائية.
أقول تكاد تكون فجائية؛ لأنني أعتقد أن تكون وتولد تلك المجموعة الكبيرة من الآراء والملاحظات التي تزدحم بها المقدمة في مدة قصيرة لا تتجاوز الخمسة أشهر، مما يجب أن يعتبر أقرب إلى «الاندفاعات الفجائية» من «التأملات التدريجية».
وقد يتساءل بعضهم: وهل يجوز لنا أن نعتمد على ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد؟ أما أنا فأقول - ردا على هذا السؤال: إنني لا أرى في هذه المسألة ما يبرر الشك في صدق ابن خلدون، فيستوجب عدم الاعتماد على تصريحاته؛ فأولا أنا لا أجد فيما يقصه علينا المؤلف في هذا الصدد أمرا خارقا للعادة وشاذا على وتيرة «اختمار الأفكار بصورة لا شعورية»، كما ألاحظ أن ابن خلدون قد سجل على نفسه - في ترجمة حياته - تقلباته السياسية العديدة بكل تفاصيلها، فلا يحق لنا - والحالة هذه - أن نزعم بأنه كتب ما كتبه عن كيفية تأليف المقدمة بصورة مخالفة لما وقع بقصد التمدح والتفاخر.
هذا وأزيد على ذلك فأقول: إنني ألمح في العبارات التي ذكرتها آنفا آثار التحير والتعجب أكثر مما أجد فيها أداء التمدح والتفاخر.
2
ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن ابن خلدون يقيد أمر «إتمام المقدمة في خمسة أشهر»، بتعبير «قبل التنقيح والتهذيب»، ويعلمنا بذلك أنه قد اشتغل بتنقيحها وتهذيبها مؤخرا.
وذلك يضع أمامنا مسائل عديدة تحتاج إلى درس وحل بكل اهتمام؛ ماذا كان مدى التهذيب والتنقيح الذي أشار إليه ابن خلدون في عبارته المذكورة؟ وهل كان حدث ذلك مرة واحدة فقط، أم تكرر عدة مرات خلال سنين مختلفة؟ وهل انحصر هذا التهذيب والتنقيح في نطاق بعض الفصول، أم تناول جميع أقسام الكتاب؟ وهل اقتصر على تعديل الفصول الموجودة قبلا، أم تعدى ذلك إلى إضافة فصول جديدة تماما؟
هذا ونحن نعلم بأن ابن خلدون عاش بعد تاريخ تأليف المقدمة على النحو الذي ذكرناه آنفا، مدة تناهز تسعة وعشرين عاما، ففي أية سنة من هذه السنوات توقفت وانتهت عملية التهذيب؟ وماذا كان اتجاه التطورات التي حدثت في آرائه ومناحي بحثه وتفكيره خلال هذه المدة الطويلة؟
إننا نعلم أن ابن خلدون لم يعد إلى ممارسة السياسة الفعالة بعد كتابة المقدمة، بل انكب على جمع المعلومات التاريخية، كما اشتغل بتدريس الفقه في بعض المدارس، وفي الأخير مارس القضاء عندما تقلد منصب قاضي قضاة المالكية في مصر القاهرة، واتصل بالصوفية اتصالا وثيقا عندما تعين شيخا لخانقاه بيبرس في العاصمة المصرية. فما هي الأقسام التي كتبها ابن خلدون بعد انصرافه إلى الاشتغال بالأمور الفقهية والقضائية على هذا المنوال؟ وما هي التطورات التي حدثت في آرائه العلمية ونزعاته الفكرية بعد انضمامه إلى حلقات القضاة والفقهاء، ولا سيما بعد اتصاله بمشائخ الصوفية وعلمائها؟
إن معظم مباحث المقدمة مكتوبة بنزعة علمانية وعقلانية
Rationaliste
صريحة، في حين أن بعض فصولها تنم عن نزعة صوفية قوية، فهل كان الأمر كذلك منذ بداية التأليف؟ أم أن ذلك كانت نتيجة «تطور حدث في طراز تفكيره»، من جراء اشتغاله بتدريس الفقه وممارسة القضاء، واضطراره إلى مناقشة علماء الدين والفقهاء في حياته الجديدة؟
إن هذه المسائل الخطيرة لا يمكن حلها إلا بتعيين الأقسام الأصلية من المقدمة، وتمييزها من الأقسام المضافة إليها مؤخرا.
وأما وسائل البحث ومناحي الاستقصاء التي يمكن أن تؤدي بنا إلى معرفة ذلك، فتنقسم إلى قسمين أساسيين وفقا للخطط التي يتبعها المؤرخون الباحثون في مثل هذه المسائل: (أ)
طريقة النقد الداخلي. (ب)
طريقة النقد الخارجي.
النقد الداخلي؛ هو البحث عن أجوبة هذه الأسئلة عن طريقة درس المقدمة نفسها، ومقارنة أقسامها المختلفة، من حيث الأساليب والمضامين.
وأما النقد الخارجي، فهو البحث عن أجوبة هذه الأسئلة عن طريقة درس نسخ المقدمة المختلفة، وإظهار الفروق الموجودة بينها، مع تحري الأسباب التي يمكن إرجاع هذه الفروق إليها.
فلندرس المقدمة على كل واحدة من هاتين الطريقتين على حدة؛ لنتوصل إلى حل المسائل التي سردناها آنفا.
3 (1)
عندما ندرس المقدمة بإمعان نجد فيها بعض الفقرات التي لا مجال للشك في أنها كتبت قبل هجرة ابن خلدون إلى مصر، وبعض الفقرات التي - بعكس ذلك - يمكن الجزم بأنها كتبت بعد هجرته إلى مصر.
مثلا قد جاء في الديباجة بعد ذكر أقسام الكتاب: «ثم كانت الرحلة إلى المشرق؛ لاجتناء أنواره وقضاء الفرض والسنة في مطافه ومزاره، والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره؛ فزدت ما نقص من أخبار ملوك العجم في تلك الديار» (ص6).
فلا مجال للشك في أن هذه الفقرة كتبت بعد النزوح إلى مصر.
في حين أنه جاء في أواخر البحث الذي يشرح فضل علم التاريخ: «وأنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني منه في هذا القطر المغربي؛ لاختصاص قصدي في التأليف بالمغرب وأحواله وأجياله وأممه، وذكر ممالكه ودوله دون ما سواه من الأقطار؛ لعدم اطلاعي على أحوال المشرق وأممه» (ص32).
ولا مجال للشك في أن هذه الفقرات مكتوبة قبل الهجرة إلى مصر.
إننا نجد في مختلف فصول الكتاب بعض الفقرات التي تلائم المثال الأول، وبعض الفقرات التي تنسجم مع المثال الثاني.
فإننا نقرأ - مثلا - في فصل العلوم العقلية وأصنافها العبارة التالية: «يبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع العلوم لم تزل عندهم موفورة» (ص381).
ونقرأ في الفصل القائل بأن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري العبارة التالية: «كما بلغنا عن أهل مصر أن فيهم من يعلم الطيور العجم والحمر الإنسية، وغير ذلك من الصنائع التي لا توجد عندنا بالمغرب» (ص401).
ونجد أيضا في فصل تعليم الولدان العبارات التالية: «أما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا، ولا أدري بم عنايتهم منها، والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن» (ص538-539).
فلا مجال للشك في أن هذه العبارات كلها قد كتبت قبل السفر إلى مصر؛ لأنها تذكر أحوال مصر والمشرق مقرونة بتعبيرات «بلغنا، يبلغنا، ينقل إلينا».
غير أننا نجد في بعض الفصول فقرات معاكسة لذلك تماما، ونقرأ - مثلا - في فصل الملاحم العبارة التالية: «وقفت بالمشرق على ملحمة منسوبة لابن العربي الحاتمي» (ص340).
كما نجد في موضع آخر من الفصل نفسه العبارة التالية: «لقد سألت أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية عن هذه الملحمة وعن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية» (ص342).
وكذلك نجد في فصل العلوم العقلية العبارة التالية: «ولقد وقفت بمصر على تآليف متعددة لرجل من عظماء هراة» (ص481).
ونحن نجزم من سياق هذه العبارات أنها كلها كتبت بعد السفر إلى مصر، والاطلاع على أحوالها اطلاع الشاهد العيان.
ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن بعض هذه العبارات المتباينة تقع في فصل واحد، فإننا نستطيع أن نستدل من ذلك كله على الأمرين التاليين:
أولا:
يوجد في المقدمة التي بين أيدينا الآن بعض الأقسام التي كتبت مؤخرا، ليس بعد العودة إلى تونس فحسب، بل بعد الهجرة إلى مصر أيضا.
ثانيا:
حينما أضاف المؤلف تلك العبارات لم يصحح ويعدل العبارات الباقية حسب ما تقتضيه العبارات الجديدة، بل ترك سائر أقسام الفصول على حالها.
فلا نستبعد أن يكون قد حدث أمثال ذلك في سائر أقسام المقدمة أيضا، فلا نعدو الحقيقة إذا ما عزونا آثار التناقض التي نلمسها في بعض أقسام المقدمة إلى سبب مماثل للسبب الآنف الذكر؛ وهو إدخال فكرة جديدة في فصل من الفصول، أو إضافة فصل جديد إلى باب من الأبواب، من غير إعادة النظر في الأقسام القديمة، وتصحيحها على ضوء هذه الفكرة الجديدة، وحسب مقتضيات الفصل الجديدة. (2)
إذا أنعمنا النظر في بحث «حقيقة النبوة» في المقدمة السادسة من الباب الأول، وجدنا فيه قرائن عديدة، تدل دلالة قطعية على أنه كتب بعد إتمام المقدمة بمدة غير يسيرة.
فإننا نلاحظ أولا أن البحث يبدأ بعبارة: «اعلم، أرشدنا الله وإياك» (ص95)، وفي هذا ما فيه من الشذوذ عن الأسلوب العام الذي يسير عليه ابن خلدون في بدء الفصول والأبحاث. إذا أنعمنا النظر في مداخل الفصول وجدنا أن 70 منها تبتدئ بعبارة: «اعلم أن»، و67 منها تبدأ بتعبير مثل «والسبب في ذلك»، أو «وسببه»، أو «ذلك أن»، والباقية منها تتناول البحث مباشرة، أو بتذكير بعض المباحث المتقدمة. وأما الدعاء للقارئ بتعبير مثل «أرشدنا الله وإياك»، فمما لا يشاهد إلا في فصلين من مجموع فصول المقدمة التي تزيد على المائتين.
فيحق لنا أن نظن ظنا قويا بأن خروج ابن خلدون في بدء هذا الفصل على خطته العامة، إنما نشأ من أنه كتب هذا البحث بعد مرور مدة غير يسيرة على كتابته سائر الفصول.
ولا يمكن أن يقال «إن ذلك قد يكون ناتجا عن مقتضى الموضوع نفسه»؛ وذلك لأننا نلاحظ بأن سائر الفصول التي تمت بصلة قوية إلى الأمور الدينية - مثل فصول الخلافة، والإمامة، والفاطمي، والتفسير، والتصوف، وعلوم الأنبياء عليهم السلام - لا تشذ عن الأسلوب العام، ولا تبتدئ بالدعاء للقارئ.
وزيادة على ذلك فإننا نجد في الذهنية المسيطرة على هذا الفصل أيضا ما يؤيد الظن الآنف الذكر تأييدا كبيرا.
غير أننا نجد في آخر بحث «حقيقة النبوة» قرينة قوية أخرى تحول ظننا هذا إلى يقين؛ لأننا نقرأ في القسم الأخير من البحث العبارات التالية: «التناسب بين الأشياء هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنفس، وطريق لحصوله سيما من أهل الرياضة، فإنها تفيد العقل قوة على القياس، وزيادة في الفكر، وقد مر تعليل ذلك غير مرة» (ص118).
إن عبارة «قد مر تعليل ذلك غير مرة» هنا تكتسب أهمية خاصة؛ لأن هذا البحث يقع في الباب الأول، وأما التعليل الذي يشير إليه المؤلف فلم يسبق هذا البحث وهذا الباب، إنما أتى في الفصل الأخير من الباب الخامس، وفي عدة فصول من الباب السادس.
فيحق لنا أن نجزم بأن ابن خلدون قد كتب هذا البحث بعد الانتهاء من كتابة فصول المقدمة بأجمعها، كما يحق لنا أن نقول إن ذلك كان بعد مرور مدة غير يسيرة على الكتابة الأولى؛ لأن هذه المدة كانت قد أنسته مواضع التعليل الذي أشار إليه في هذا البحث، كما أنها كانت قد قوت في ذهنه بعض الاتجاهات والنزعات الجديدة. (3)
وإذا أنعمنا النظر في الفصل الذي يقرر «وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته» (ص533)، وجدنا فيه قرائن عديدة تدل دلالة قاطعة على أن القسم الثاني من الفصل المذكور قد كتب بعد مرور مدة غير يسيرة على كتابة القسم الأول منه.
فإن من يقرأ الفصل المذكور قراءة متأمل يجد أن سلسلة الأبحاث المنسجمة فيه تنتهي في وسطه، حين يقول المؤلف: «ومن المذاهب الجميلة، والطرق الواجبة في التعليم ألا يخلط على المتعلم علمان معا»، ويعقب على قوله هذا ببعض الشروح والبراهين فينهي كلامه في هذا الصدد بقوله: «والله تعالى الموفق للصواب» (ص534).
إن المؤلف يبدأ بعد ذلك بحثا جديدا تماما، بأسلوب يختلف عن أسلوب الأقسام السابقة اختلافا كليا، يبدأ هذا البحث بقوله: «اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك، فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة؛ ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة، وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها» (ص534).
وبعد إتمام هذه المقدمة يعود إلى مخاطبة المتعلم قائلا: «فلا بد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك.»
ويستمر على هذا المنوال إلى آخر الفصل: «فإذا ابتليت بمثل ذلك، وعرض لك ارتباك في فهمك، وتشغيب بالشبهات في ذهنك؛ فاطرح ذلك، وانتبذ حجب الألفاظ، وإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك. فاعتبر ذلك، واستمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل؛ تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب» (ص535-536).
إن الفرق بين هذين القسمين من الفصل الواحد واضح كل الوضوح؛ فإن القسم الأول يستعرض «طرق التعليم» ويوازن بينها، متمشيا بذلك مع مقتضيات عنوان الفصل، غير أن القسم الثاني يخاطب «المتعلمين»، ويقدم لهم نصائح عديدة تضمن «الفهم والتعلم»، مخالفا بذلك عنوان الفصل مخالفة صارخة.
كما أن القسم الأول يتضمن أبحاثا تعتمد - من أولها إلى آخرها - على التفكير العلمي النظري، والاستدلال العقلي المنطقي، في حين أن القسم الثاني يتألف من أبحاث تعتمد - من أولها إلى آخرها - على «إشراق أنوار الفتح من الله»، وعلى «إشراق أنواره بالإلهام إلى الصواب»، فتنم عن تفكير ديني بحت ونزعة صوفية عميقة.
فيحق لنا أن نستدل من كل ذلك على أن القسم الثاني من الفصل المذكور قد كتب بعد مرور مدة على كتابة المقدمة، تحت تأثير النزعة الصوفية التي تقوت في نفسية ابن خلدون بمرور الزمان. (4)
يكتب ابن خلدون في المقدمة الثانية من الباب الأول بعض المعلومات العامة عن جغرافية الأرض، ينهيها بالعبارات التالية: «وقد ذكر ذلك كله بطلميوس في كتابه، والشريف في كتاب روجار، وصوروا في الجغرافيا جميع ما في المعمور من الجبال والبحار والأدوية، واستوفوا من ذلك ما لا حاجة لنا به لطوله، ولأن عنايتنا في الأكثر إنما هي بالمغرب الذي هو وطن البربر، وبالأوطان التي للعرب من المشرق» (ص48).
ومع هذا فإنه يكتب تكملة للمقدمة المذكورة، يقول فيها: «لنرسم بعد هذا الكلام صورة الجغرافيا كما رسمها صاحب كتب روجار، ثم نأخذ في تفصيل الكلام عليها إلى آخره» (ص52).
ويعطينا بعد ذلك أطول فصول الكتاب.
لا شك في أن كتابة هذا الفصل الطويل عن الجغرافيا مما يناقض ما جاء في الفقرة الآنفة الذكر مناقضة تامة، ونحن نميل إلى الظن بأن المقدمة الثانية من الباب الأول كانت تنتهي فعلا بالفقرة المذكورة، وبأن المعلومات الجغرافية الأخرى قد أضيفت إلى الكتاب مؤخرا، ولا يستبعد بأن تكون هذه الإضافة قد حدثت من جراء ملاحظة حاجة القراء إليها.
4
إن النقد الخارجي - للغرض الذي نحن بصدده - يجب أن يجري على طريقة «المقارنة» بين نسخ المقدمة المختلفة.
وبما أنه لم يكن في استطاعتي الحصول على النسخ المخطوطة ودرسها درسا مباشرا، أراني مضطرا إلى حصر بحثي في الحقائق التي يمكنني الوصول إليها بمقارنة النسخ المطبوعة وحدها. (1)
فلنستعرض أولا الطبعات الموجودة:
إن أقدم طبعات المقدمة تعود إلى سنة 1857-1858 ميلادية، حيث طبعت المقدمة لأول مرة في باريس على يد المستشرق «كاترمير»، وطبعت في مصر القاهرة تحت إشراف «الشيخ نصر الهوريني».
قد استند «كاترمير» في طبعته على أربع نسخ خطية؛ ثلاث منها محفوظة في المكتبة الوطنية بباريس، وإحداها في المكتبة العامة في ميونيخ، وقد أشار المستشرق المومأ إليه في طبعته على النسخ الخطية المذكورة بحروف
A. B. C. D. ، وذكر الفروق الموجودة بينها عملا بالخطط العلمية القويمة التي لا بد من اتباعها في مثل هذه الطبعات.
وأما الشيخ نصر الهوريني فقد اعتمد على نسخة مخطوطة - ذكرها عرضا باسم النسخة الفارسية - ومع هذا نقل فصلا واحدا من نسخة أخرى سماها باسم النسخة التونسية.
وأما سائر الطبعات التي صدرت عن مطابع القاهرة فلم ترجع إلى المخطوطات، بل اعتمدت على طبعة الهوريني الآنفة الذكر.
وهناك طبعة بيروتية نشرت تحت إشراف «الكاتب رشيد عطية، والمعلم عبد الله البستاني»، وهي أيضا قد اعتمدت على طبعة الهوريني، ولم تختلف عنها إلا بتشكيل الحروف، وبحذف فصل من الباب السادس يقع في 22 صفحة، وبعض التفاصيل من الفصل الأخير تقع في 20 صفحة.
وبعد ذلك أصدرت المكتبة التجارية بمصر طبعات مشكولة جديدة، كتب على غلافها: «روجعت هذه الطبعة وقوبلت على عدة نسخ بمعرفة لجنة من العلماء». غير أن مقارنة هذه الطبعة بطبعة بيروت الآنفة الذكر لا تترك مجالا للشك في أنها - في حقيقة الأمر - لم تراجع شيئا من النسخ الخطية، بل استنسخت صحائف الطبعة البيروتية استنساخا زينكوغرافيا - مع جميع أغلاطها ونواقصها - ولم تغير فيها شيئا غير أسماء الفصول الرئيسية الستة، حيث استعاضت عن كلمة الفصل بكلمة الباب.
يظهر من هذه التفاصيل أن الطبعات التي تستند إلى نسخ خطية، والتي تستحق لذلك النظر والتأمل - لحل المسائل التي نحن بصددها - تنحصر في طبعة كاترمير الباريسية، وطبعة الهوريني المصرية. (2)
ومع هذا فنحن نعتقد بأن مراجعة الترجمات أيضا لا تخلو من الفائدة لهذا الغرض.
لمقدمة ابن خلدون ترجمتان كاملتان؛ إحداهما في التركية، والثانية في الفرنسية.
الترجمة التركية أقدم من الطبعات العربية، فلا مجال للشك في أنها اعتمدت على نسخ خطية، إنها تمت على أيدي عالمين من علماء الدولة العثمانية؛ فقد أقدم شيخ الإسلام: «بيري زاده صاحب أفندي» (المتوفى في سنة 1749) على ترجمة المقدمة، وأنجز ترجمة الفصول الرئيسية الخمسة منها، ثم أتى المؤرخ جودت باشا وأتم عمل شيخ الإسلام المومأ إليه، بترجمة الفصل الرئيسي السادس أيضا.
إن المترجم الأخير أضاف إلى المقدمة شروحا كثيرة؛ توضيحا لمقاصد المؤلف تارة، وإتماما للفائدة طورا، غير أنه لم يذكر شيئا عن النسخة الخطية التي اعتمد عليها، ومع هذا فإن بعض الشروح التي كتبها تدل على أنه اطلع على نسخ عديدة، ولاحظ ما بينها من اختلاف من حيث الزيادة والنقصان، وعلم أن بعض الفقرات التي تكون على شكل حاشية في بعض النسخ تدخل في المتن في غيرها.
إن مقدمة ابن خلدون تبدو في هذه الترجمة أوسع نطاقا من الطبعتين الباريسية والمصرية؛ لأنها تحتوي على جميع الفصول التي تنقص في الطبعة المصرية بالنسبة إلى الطبعة الباريسية، كما أنها تحتوي على الفصل الذي ينقص في الطبعة الباريسية بالنسبة إلى الطبعة المصرية، فهي أشبه بالطبعة الباريسية من حيث العموم، ومع هذا تزيد عنها بفصل واحد.
وأما الترجمة الفرنسية فقد تمت على يد البارون دو سلان
De Slane ، ونشرت في باريس في ثلاثة مجلدات؛ الأول في سنة 1862، والأخير في سنة 1868 ميلادية. إن المومأ إليه اعتمد في الدرجة الأولى على طبعة كاترمير، ومع هذا فقد رجع إلى النسخ الخطية كلما شك في صحة الطبعة، كما أنه لاحظ الطبعة المصرية، واستفاد من الترجمة التركية أيضا. ولهذا السبب نستطيع أن نقول: إن أتم المعلومات وأكثر التفاصيل عن مقدمة ابن خلدون قد اجتمعت في هذه الترجمة. (3)
إذا قارنا بعض هذه الطبعات ببعض - مع ملاحظات الترجمات - وجدنا بينها أربعة أنواع من الفروق: (أ)
الفروق الجزئية التي تنحصر في بعض الكلمات والعبارات. (ب)
الفروق الكلية التي تلاحظ في بعض الفصول. (ج)
الفروق الناتجة من وجود أو عدم وجود بعض الفقرات والأبحاث في بعض الفصول. (د)
الفروق الناتجة من وجود أو عدم وجود بعض الفصول برمتها.
من البديهي أن الفروق التي من النوع الأول تنشأ عن أغلاط الناسخين والطابعين، غير أن التي من النوع الثاني لا يمكن أن تعلل بمثل هذه الأغلاط، بل إنها تدل على أن المؤلف نفسه رأى أن يغير الفصل بكامله، وأقدم على كتابته من جديد، وسبكه بهذه الصورة في قالب يختلف عن قالبه الأول اختلافا كبيرا. إن فصل «الحديث» في الباب السادس من هذا القبيل؛ لأن هذا الفصل يظهر في الطبعة الباريسية في شكل يختلف اختلافا كليا عن الشكل الذي يظهر فيه في الطبعة المصرية، إن مقارنة الشكلين من حيث الأسلوب والمضمون تحمل على الظن بأن الشكل الأول أحدث من الشكل الثاني .
وأما الفروق التي هي من النوع الثالث فتدل على إضافة بعض الفقرات والحواشي، بعد إتمام الفصل في أوقات قد تكون مختلفة. إن أحسن مثال لهذا النوع هو فصل «الخط والكتابة»؛ فإذا قارنا الطبعتين من وجهة هذا الفصل وجدنا أن أبحاث الخط في الطبعة الباريسية تزيد على ما في الطبعة المصرية في أربعة مواضع مختلفة، بفقرات كاملة، تقع أقصرها في خمسة أسطر، وأطولها في ثمانية وخمسين سطرا.
لقد اتخذنا الفصل المذكور موضوعا لإحدى دراساتنا في هذا الكتاب؛ فيجد القارئ هناك تفاصيل الفقرات الزائدة المذكورة بنصوصها الكاملة. إن ملاحظة هذه الفقرات لا تترك مجالا للشك في أن عدم وجودها في النسخة التي صارت أساسا للطبعة المصرية لا يمكن أن يعلل بسقوطها خلال الاستنساخ، كما لا يعقل أن يعزى إلى حذفها من قبل المؤلف نفسه، فمن الضروري أن يستدل من ذلك على أن الفقرات المذكورة أضيفت إلى الفصل المذكور إضافة، خلال تهذيبه وتنقيحه، في دفعة واحدة أو في دفعات عديدة على أغلب الاحتمال.
كل شيء يدل على أن ابن خلدون كان يكتب من وقت إلى آخر بعض الملاحظات والمعلومات الجديدة على حاشية النسخة التي بين يديه، وهذه الحواشي والتعليقات كانت تدخل المتن - بعد مدة - تارة على يده هو، وطورا على يد النساخ.
وعلى كل حال يحق لنا أن نحكم - والحالة هذه - على أن النسخة الباريسية التي تحتوي على مثل هذه الفقرات المضافة، أحدث من النسخة المصرية.
وأما الفروق التي من النوع الرابع فتشبه فروق النوع الثالث من هذه الوجهة، وتدل على إضافات جرت بعد مرور مدة على كتابة سائر الفصول.
وبما أن النسخة الباريسية تزيد على النسخة المصرية بفصول عديدة، يحق لنا أن نحكم - من هذه الوجهة أيضا - على أن أصل النسخة الباريسية أحدث من أصل النسخة المصرية من حيث العموم. (4)
هذا ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن النسخة الباريسية تختلف عن النسخة المصرية من وجهة أخرى أيضا:
إن الديباجة المسطورة في الطبعة المصرية تنتهي بكلمة إتحاف طويلة (ص7-9)، يجدر بنا أن نجتزئ منها العبارات التالية: «أتحفت بهذه النسخة منه (أي من كتاب العبر) خزانة مولانا السلطان الإمام المجاهد الفاتح الماهد، أمير المؤمنين أبي فارس عبد العزيز، من ملوك بني مرين الذين جددوا الدين، وبعثته إلى خزانتهم الموقوفة لطلبة العلم بجامع القرويين من مدينة فاس، حاضرة ملكهم وكرسي سلطانهم.»
إن هذا الإتحاف غير مؤرخ بتاريخ ما، ولكننا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أولا مدة سلطنة السلطان عبد العزيز المشار إليه، وثانيا ما كتبه ابن خلدون بنفسه في ترجمة حياته عن إرسال الهدايا إلى سلطان المغرب؛ نستطيع أن نحكم على أن هذا الإتحاف كتب بين سنة 797 وسنة 799 هجرية/1394-1396 ميلادية.
إن الوقفية التي وجدت في أول المجلد الخامس من كتاب العبر المحفوظ في خزانة كتب جامع القرويين تؤيد ذلك بصورة قطعية؛ لأنها مؤرخة بتاريخ صفر 799، وهذا التاريخ يقابل شهر تشرين الثاني من سنة 1396 ميلادية تماما (إننا أدرجنا صورة الوقفية في ذيل هذا البحث.)
فنحن نستطيع أن نقول - بناء على ذلك - إن المخطوطة التي صارت أساسا للطبعة المصرية ترينا «مقدمة ابن خلدون» في الحالة التي كانت وصلت إليها في التاريخ المذكور.
إن الطبعة الباريسية عارية عن هذه الكلمة الإتحافية، وإذا لاحظنا كثرة الفصول والأبحاث الزائدة في الطبعة المذكورة بالنسبة إلى الطبعة المصرية، واستبعدنا في الوقت نفسه احتمال حذف هذه الفصول والأبحاث من المقدمة عند إرسالها إلى فاس؛ اضطررنا إلى الحكم بأن الفصول والأبحاث المذكورة قد أضيفت إلى المقدمة بعد التاريخ المستفاد من كلمة الإتحاف، أي بعد سنة 1396 ميلادية. (5)
غير أنني أجد في الطبعة المصرية أمرا أهم من كل ذلك، من حيث الدلالة على تاريخ كتابة أبحاث المقدمة المختلفة:
لقد كتب الهوريني في ذيل كلمة الإتحاف تعليقا يقع في ثمانية عشر سطرا (ص7-8)، قال فيه: «وجد في نسخة بخط بعض فضلاء المغاربة زيادة قبل قوله: «أتحفت»، وبعد قوله: «أدرت سياجه»»، ثم نقل نص هذه الزيادة التي تدل على إتحاف النسخة إلى خزانة «الخليفة أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين، أبو العباس أحمد، من سلالة أبي الحفص والفاروق »، وفي الأخير ختم التعليق المذكور بقوله: «إلا أنه لم يقيد الإمامة بالفارسية»، لكن النسخة المذكورة مختصرة عن هذه النسخة المنقولة من خزانة الكتب الفاسية، ولم يقل فيها: «ثم كانت الرحلة إلى المشرق.»
إنني أعتقد أن النسخة التونسية التي أشار إليها الهوريني في تعليقه هذا بصورة عرضية، ذات أهمية خاصة بالنسبة إلى تاريخ المقدمة؛ لأن كل شيء يدل على أنها أقدم النسخ المعلومة على الإطلاق.
إن الشيخ نصر الهوريني لم يقدر أهمية هذه النسخة؛ لأنه لم ينتبه إلى اختلاف التواريخ التي تدل عليها كلمات الإتحاف، كما أنه لم يلاحظ المعنى الذي ينطوي عليه وجود أو عدم وجود فقرة «ثم كانت الرحلة إلى المشرق»؛ ولهذا السبب ظن أن النسخة المذكورة مختصرة عن النسخة الفارسية، فأهملها إهمالا كليا.
غير أن ملاحظة تواريخ سلطنة هذين الملكين تكفي للبرهنة على أن النسخة التونسية أقدم من النسخة الفاسية نحو أربعة عشر عاما، كما أن عدم وجود فقرة «كانت الرحلة إلى المشرق» في النسخة المذكورة يؤيد دلالة الإتحاف، ويبرهن على أن أصل النسخة المذكورة كان كتب قبل هجرة ابن خلدون إلى مصر.
هذا وإذا راجعنا التعريف الذي كتبه ابن خلدون عن سيرة حياته علمنا منه بأنه كان قدم أول نسخة من كتاب العبر إلى السلطان «أبو العباس الحفصي» سنة 784 / 1382، فاستطعنا أن نجزم - بناء على ذلك - بأن أصل النسخة التي تحمل كلمة الإتحاف الآنف الذكر كتب في التاريخ المذكور.
فالزعم الذي ذهب إليه الهوريني من أن النسخة التونسية مختصرة عن النسخة الفاسية، يكون بمثابة قلب الأمور رأسا على عقب؛ لأن الحقائق التي سردناها آنفا تدل دلالة قطعية على أن الأمر على العكس من ذلك تماما، فيجب أن يقال إن النسخة الفاسية موسعة عن النسخة التونسية، لا أن يزعم بأن النسخة التونسية مختصرة عن النسخة الفاسية.
ولهذه الأسباب إني أعزو إلى النسخة التونسية التي تشير إليها الطبعة المصرية أهمية كبيرة جدا؛ لأننا نستطيع أن نحصل بواسطة هذه النسخة على فكرة تامة وواضحة عن الطور الذي كانت وصلت إليه المقدمة ، قبيل هجرة ابن خلدون إلى مصر، كما أننا نستطيع أن نطلع على التعديلات والتوسيعات التي أدخلها المؤلف على المقدمة بعد هجرته إلى مصر خلال أربعة عشر عاما، عن طريق مقارنة النسخة المذكورة بالنسخة المطبوعة والمتداولة. فلا أرى مجالا للشك في أن هذه المقارنة إذا ما تمت بانتباه واهتمام تساعدنا على حل القسم الأعظم من المسائل التي سردناها آنفا، وتفتح أمامنا مجالا واسعا لتعيين التطورات التي حدثت في أسلوب ابن خلدون وعقليته، ولتبرير التغيرات التي حدثت في معلوماته ونزعاته خلال هذه المدة، تحت تأثير حياته الجديدة وبيئته الجديدة.
غير أني أتأسف كل الأسف على أنني لم أكن الآن في وضع يمكنني من الحصول على النسخة المذكورة، أو الوصول إليها؛ لأتولى درسها ومقارنتها بنفسي.
ولذلك أراني مضطرا للاكتفاء بتسجيل رأيي في أهمية هذه النسخة وخطورة هذه المقارنة، وأدعو الباحثين الذين يهتمون بأمر ابن خلدون ومقدمة ابن خلدون إلى القيام بهذه المهمة على ضوء الملاحظات التي سردتها آنفا.
ذيل
وقفية كتاب العبر
ندرج فيما يلي صيغة الوقفية كما هي مسطورة في المجلد المحفوظ في مكتبة جامع القرويين بفاس.
إننا وجدناها مفيدة من وجوه عديدة؛ لأنها أولا: تقرر تاريخ الإهداء والإتحاف بصورة أكيدة، ثانيا: تعطينا ألقاب ابن خلدون كما كانت معروفة عند كتابة الوقفية، ثالثا: تعلمنا الشروط التي وضعها الواقف لإخراج الكتاب من المكتبة وإعارته إلى طالبيه.
يلاحظ بوجه خاص أن الوقفية تقرر بأن الانتفاع بالكتاب الموقوف يكون «قراءة ومطالعة ونسخا»، كما أنها لا تسوغ بقاء الكتاب عند مستعيره أكثر من شهرين؛ لأنها تعتبر هذه المدة كافية لنسخ الكتاب المستعار أو مطالعته. •••
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه.
وقف وحبس وسبل وأبد وحرم وتصدق سيدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى، الشيخ الإمام العالم الحافظ المحقق أوحد عصره وفريد دهره قاضي القضاة، ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن ابن الشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن خلدون، الحضرمي المالكي، أمتع الله المسلمين بحياته، ونفعهم بعلومه وبركاته ، وهو مؤلف هذا الكتاب - جميع هذا الكتاب - المسمى بكتاب العبر في أخبار العرب والعجم والبربر، المشتمل على سبعة أسفار هذا أحدها وقفا مرعيا وحبسا مرضيا على طلبة العلم الشريف بمدينة فاس المحروسة، قاعدة بلاد المغرب الأقصى؛ ينتفعون بذلك قراءة ومطالعة ونسخا، وجعل مقره بخزانة الكتب التي بجامع القرويين في فاس المحروسة، بحيث لا يخرج من حرمها إلا لثقة أمين، برهن وثيق لحفظ صحته، وألا يمكث عند مستعيره أكثر من شهرين، وهي المدة التي تتسع لنسخ الكتاب المستعار أو مطالعته، ثم يعاد إلى موضعه. وجعل النظر في ذلك لمن له النظر على خزانة الكتب المذكورة. وقف لله على الوجه المذكور لوجه الله الكريم، وطلب لثوابه الجسيم، يوم يجزي الله المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين. وأشهد عليه بذلك في اليوم المبارك الحادي والعشرين لشهر صفر المبارك، عام تسعة وتسعين وسبعمائة، حسبنا الله ونعم الوكيل. (يلي هذا النص شهادة شخصين.) (نص الأولى): أشهدني (نص الثانية): أشهدني سيدنا
سيدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله
ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى
تعالى قاضي القضاة ولي الدين الواقف
العالم العامل العلامة قاضي القضاة
المسمى فيه أمامه لله تعالى على نيته
ولي الدين الواقف المسمى بأعاليه
الكريمة بما نسب إليه فيه، ونشهد
بما نسب إليه أعلاه، أمتع الله
عليه به في تاريخه، وكتب أحمد
تعالى به وتشهدت عليه بذلك،
بن علي بن إسماعيل المالكي.
وكتب محمد بن محمدين أحمد أبي القاسم. «ويلي هاتين الشهادتين توقيع الواقف»:
الحمد لله، المنسوب لي صحيح.
وكتب عبد الرحمن بن محمد بن خلدون.
طرافة المقدمة وتأثيرها
شعور ابن خلدون بطرافتها وخطورتها (1)
يفتخر ابن خلدون فخرا شديدا بالتاريخ الذي ألفه، ويعبر عن فخره هذا بأصرح العبارات، يصرح بأنه كان مبتكرا ومخترعا في هذا التأليف ولم يكن مقلدا لأحد، أو مقتبسا من أحد، ومع ذلك لا يدعي النجاح التام في تحقيق أغراضه، ولا يستبعد النقص والقصور في أبحاثه، فيطلب من أخلافه انتقاده أولا، وإتمامه ثانيا.
إن ذلك يظهر بوضوح من بعض العبارات التي كتبها ابن خلدون في الديباجة التي صدر بها التاريخ والمقدمة معا؛ لأنه يقول هناك: «أنشأت في التاريخ كتابا سلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبا، واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا، وطريقا مبتدعة وأسلوبا» (ص6). ثم يدعي بأن الكتاب الذي وضعه «استوعب أخبار الخليقة استيعابا، وذلل من الحكم النافرة صعابا ، وأعطى لحوادث الدول أسبابا؛ فأصبح للحكمة صوانا، وللتاريخ جرابا» (ص7).
ثم يسهب في وصف الأبحاث التي ضمنها في تأليفه هذا قائلا: «لم أترك شيئا في أولية الأجيال والدول، وتعاصر الأمم الأول، وأسباب التصرف والحول، من القرون الخالية والملل، وما يعرض في العمران من دولة وملة، ومدينة وحلة، وعزة وذلة، وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر، إلا واستوعبت جمله، وأوضحت براهينه وعلله؛ فجاء هذا الكتاب فذا بما ضمنته من العلوم الغريبة والحكم المحجوبة القريبة» (ص7).
ولكنه بعد هذه الكلمات المملوءة بروح الزهو والإعجاب يشعر بضرورة التواضع، فيقول: «أنا من بعد ذلك موقن بالقصور بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء في مثل هذا الفضاء، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسعة الفضاء، في النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتعمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء» (ص7). (2)
ومع هذا يعود ابن خلدون إلى التفاخر في ديباجة الكتاب الأول، ويسترسل فيه دون محاباة؛ لأنه يشعر شعورا واضحا بأنه قام بعمل هام جدا بابتكار «علم العمران»، وبتأسيس علم جديد تماما، فإنه يقول: «اعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث، وأدى إليه الغوص» (ص38).
ثم يصرح بأن البحث الذي أقدم عليه ليس من «علم الخطابة»؛ لأن هذا العلم «إنما هو الأقوال المقنعة النافعة لاستمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه»، ولا هو أيضا من علم السياسة المدنية؛ إذ «السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة.» ويؤكد أن موضوع العلم الذي أسسه «قد خالف موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه»، ولا يتردد في القول بأنه «علم مستنبط النشأة »، ويزيد على ذلك بصيغة التأكيد البات: «لعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة.»
ومع هذا يلاحظ ابن خلدون الاحتمال التالي أيضا في هذا الصدد: «ربما كان الحكماء قد كتبوا في هذا الموضوع، لكن كتاباتهم فقدت بمرور الزمان.» ولذلك نراه يعقب على العبارة التي ذكرناها آنفا بقوله: «لا أدري ألغفلتهم عن ذلك؟ وليس الظن بهم، أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه، ولم يصل إلينا» (ص38).
وعلى كل حال يؤكد ابن خلدون أنه كتب ما كتبه في هذا الصدد من غير أن يستند إلى قول أحد، ومع هذا يقول: «هذا الفن الذي لاح لنا النظر فيه، تجد منه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم، وهي من جنس مسائله» (ص39).
ثم يذكر ما جاء من الكلمات المتفرقة عن هذه المسائل في كتابات بعض الحكماء، وبعد ذلك يقول: «وأنت إذا تأملت كلامنا في فصل الدول والملك، وأعطيته حقه من التصفح والتفهم؛ عثرت في أثنائه على تفسير هذه الكلمات، وتفصيل إجمالها مستوفى بينا بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان، أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان» (ص40).
وبعد أن يذكر ما كتبه ابن المقفع والقاضي أبو بكر الطرطوشي حول هذه المسائل، يقول: «إنما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ، وكأنه حوم على الغرض ولم يصادفه، ولا تحقق قصده ولا استوفى مسائله.»
وفي الأخير يعود إلى عمله هو: «ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما، وأعثرنا على علم جعلنا سن بكره، وجهينة خبره» (ص40).
ثم يرجع إلى التواضع فيقول: «وإن كنت قد استوفيت مسائله، وميزت عن سائر الصنائع أنحاءه وأنظاره، فتوفيق من الله وهداية، وإن فاتني شيء في إحصائه، واشتبهت بغيره، فللناظر المحقق إصلاحه.»
وبعد ذلك يختم كلامه قائلا: «ولي الفضل لأني نهجت له السبيل، وأوضحت له الطريق، والله يهدي بنوره من يشاء» (ص40).
يعود ابن خلدون إلى ذلك في آخر الكتاب الأول أيضا حيث يقول: «وقد كدنا نخرج عن الغرض؛ ولذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران وما يعرض فيه، وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفاية.» «ولعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح وعلم مبين، يغوص من مسائله على أكثر مما كتبنا، فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضع العلم، وتنويع فصوله وما يتكلم فيه، والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل» (ص588). (3)
يظهر من هذه العبارات بكل وضوح أن ابن خلدون كان يدرك إدراكا واضحا بأنه وضع أسس علم جديد، وكان يشعر شعورا تاما بأن هذا العلم سيتوسع فيه من بعده، شأن جميع العلوم التي تبدأ مختصرة ومجملة، ثم تتوسع وتتقدم بالتدريج؛ بسبب التحاق وانضمام المسائل الجديدة إليها شيئا فشيئا. •••
فقد صح ما كان تنبأ به ابن خلدون في هذا المضمار؛ فإن المسائل التي عالجها في مقدمته - وبتعبير أصح في الكتاب الأول من تأليفه - صارت فيما بعد موضع اهتمام المفكرين والعلماء، وكونت علمين هامين:
علم التاريخ، وعلم الاجتماع.
إلا أن - من سوء حظه - لم يتم ذلك على الأسس التي كان وضعها هو، ولا في داخل البناية التي كان شيدها عليها؛ لأن تلك الأسس القويمة لم تجد من يقدر أهميتها ويعمل لإتمامها في حينها، فأهملت لذلك، وتنوسيت بمرور الزمان. وأما العلمان المذكوران فقد تأسسا وتوسعا في محلات أخرى على أسس مشابهة للتي وضعها ابن خلدون، ولكن على يد غيره من المفكرين، وبعد مرور عدة قرون.
والعلماء والمفكرون الذين توفقوا إلى تكوين وتأسيس هذين العلمين من جديد، لم يطلعوا على الآراء التي كان ابتكرها ابن خلدون في هذا الموضوع، إلا بعد مرور مدة تناهز خمسة قرون على تاريخ كتابتها.
وأما السبب في ذلك فهو أن ابن خلدون نشأ في أوان انحلال الدول العربية وانحطاط الثقافة العربية، فما كتبه في هذه المواضيع صار بمثابة البذور التي تنثر في أرض قاحلة، أو بمثابة الفسائل التي تغرس بعد فوات الموسم، فإنها لم تجد التربة الصالحة لانتعاش تلك البذور، والجو الملائم لتنمية تلك الأغراس؛ ولهذا لم يجد عمل ابن خلدون تلاميذ وشراحا ومعقبين، بالرغم من الإعجاب الذي أثاره بين المثقفين.
ولا نغالي إذا قلنا إن العالم العربي لم ينجب مفكرا وكاتبا عظيما بعد العصر الذي عاش فيه ابن خلدون، ونستطيع أن نقول: إن المفكر المشار إليه كان بمثابة الوهج الذي يحدث قبيل انطفاء الشعلة، حسب التشبيه الذي أبدعه هو، عندما وصف الأحوال التي تشاهد في أواخر حياة الدول (ص294). •••
وأما سائر أقسام العالم الإسلامي فلم تكن عندئذ أحسن حالا من العالم العربي من هذه الوجهة؛ فإنها كلها كانت في حالة انحلال وانحطاط، ولم يشذ عن هذا الانحلال العام إلا دولة إسلامية واحدة هي الدولة العثمانية، التي كانت قد تغلبت عندئذ على مشاكل التأسيس، ودخلت في طور التوسع والاستيلاء.
من المعلوم أن الدولة المذكورة كانت قامت على أنقاض الدولة السلجوقية، وأخذت تتوسع بسرعة بعد صدمة تيمورلنك التي أدركها ابن خلدون في أواخر حياته، وقامت بفتوحات عظيمة، خاصة في القسم الجنوبي الغربي من القارة الأوروبية، في البلاد التي كانت قد ظلت حتى ذلك العهد خارجة عن نطاق العالم الإسلامي، وبعيدة عنه.
إن هذه الفتوحات العظيمة استلزمت - بطبيعة الحال - ظهور سلسلة من المؤرخين بين رسميين وغير رسميين، وهؤلاء المؤرخون كانوا يقرءون المؤلفات العربية بحكم الثقافة الإسلامية السائدة في ذلك العهد، فكان من الطبيعي أن يطلعوا على مقدمة ابن خلدون، ويعجبوا بها إعجابا شديدا، ويتأثروا منها تأثرا عميقا.
فلا نغالي إذا قلنا إن مقدمة ابن خلدون وجدت أكبر الصدى، وأثرت أشد التأثير، في مؤلفات المؤرخين العثمانيين، فجميع هؤلاء المؤرخين - من نعيما صاحب التاريخ الشهير، إلى عبد الرحمن شرف المؤرخ الرسمي الأخير - كلهم استلهموا أسس التاريخ من ابن خلدون، حتى إن بعضهم اعتبر «واقعة أنقرة» - التي كانت حدثت بين السلطان بايزيد رابع، سلاطين آل عثمان، وبين تيمورلنك، التي انتهت بأسر السلطان المشار إليه، وأحدثت الأزمة المعروفة في التواريخ العثمانية باسم «فاصلة السلطنة» - اعتبروها آخر دليل على صدق نظريات ابن خلدون وإصابة ملاحظاته القيمة.
إن اهتمام المؤرخين والمفكرين العثمانيين بمقدمة ابن خلدون - على هذا المنوال - هو الذي حملهم على ترجمتها إلى التركية - منذ أواسط القرن الثامن عشر - قبل ترجمة الأوروبيين لها، بمدة تزيد على القرن الكامل.
غير أننا نستطيع أن نقول إن اهتمام المؤرخين العثمانيين بمقدمة ابن خلدون كان بمثابة الاقتباس والاستلهام بوجه عام، ولم يتعد ذلك إلى التوسيع والتعقيب. •••
أما العالم الغربي فلم يطلع على مقدمة ابن خلدون، ولم يهتم بها إلا في القرن التاسع عشر للميلاد.
والسبب الأصلي في ذلك هو - على ما نرى - تاريخ كتابة المقدمة، وعهد نشأة مؤلفها.
من المعلوم أن ابن خلدون كتب المقدمة في الربع الأخير من القرن الرابع عشر، وتوفي في العقد الأول من القرن الخامس عشر، في ذلك الزمن كانت القرون الوسطى في أوروبا قد دخلت في طورها الأخير، وصار كل شيء يبشر بدور وثوب جديد، سيؤدي إلى عهد الانبعاث بعد مدة لا تزيد كثيرا على نصف القرن.
كان العهد الذي يذهب فيه مفكرو أوروبا إلى الأندلس العربية؛ لانتهال مناهل العلم من جامعاتها، واستنساخ الكتب من مكتباتها، قد انقضى وانصرم؛ ذلك لأن القوم كانوا قد ترجموا أهم الكتب العلمية والفلسفية من العربية، خلال القرن الثاني عشر للميلاد، كما أنهم كانوا قد أسسوا أهم الجامعات في أوائل القرن الثالث عشر، والمدة التي مضت منذ ترجمة الكتب وتأسيس الجامعات - على هذا المنوال - كانت كافية لإنهاء «عهد الاقتباس من العرب» ولإكساب الفكر الأوروبي الشيء الكثير من الشخصية والاستقلال، إن مؤلفات وتعاليم آلبرت الكولوني، وتوما الأكويني، وروجر بيكن الإنجليزي،
Albert Le grand, Thomas D’Aquin, Roger Bacon ، كانت قد انتشرت في الجامعات قبل مدة غير يسيرة، والمناقشات التي كانت قامت بين أنصار ابن رشد وبين معارضيه، كانت قد اجتازت أدوارها الحادة.
فكان من الطبيعي ألا يعود المفكرون الأوروبيون فيفكرون ويتساءلون عما قد يؤلفه العرب من جديد، في دور انحطاطهم وانحلالهم الأخير.
زد على ذلك، فإن الوقائع الحربية والسياسية كانت قد أدت إلى انقطاع العلاقات والصلات بين العالمين العربي والغربي، انقطاعا يكاد يكون تاما؛ فإن العلاقات التي تربط العالمين المذكورين كانت قد انحصرت تقريبا في نطاق بعض المعاملات التجارية، وهذه أيضا كانت قد انحصرت في عدد قليل من المدن والمرافئ، فما كان من المنتظر - والحالة هذه - أن يطلع الأوروبيون على كتاب يؤلفه سياسي عربي، في محل ناء من إفريقية، في الدور الذي وصفنا أحواله العامة آنفا.
وفي الأخير يجب علينا ألا ننسى أن مقدمة ابن خلدون كانت جزءا من تاريخ ضخم، والتواريخ العربية كانت قد بقيت - بطبيعتها - خارجة عن نطاق اهتمام الأوروبيين بوجه عام؛ لأن اهتمام الأوروبيين كان قد توجه نحو الكتب العربية العلمية والفلسفية بوجه خاص، ولم يلتفت القوم التفاتا يذكر إلى كتب التاريخ العربية، حتى في الدور الذي كانوا يتهافتون فيه على درس وترجمة المؤلفات العربية على اختلاف أنواعها.
هذه هي الأسباب التي أدت إلى تأخر اطلاع الأوروبيين على مقدمة ابن خلدون، وانتباههم إلى قيمتها الفكرية والعلمية، حتى القرن التاسع عشر.
لغة المقدمة
نظرة تمهيدية
1 (1)
إن العلماء والمفكرين الذين دونوا طرائق البحث ومناحي الاستقصاء في مسائل التاريخ اهتموا اهتماما كبيرا بكيفية تفسير الوثائق التاريخية والنصوص القديمة، وأفردوا فصولا خاصة لعملية «النقد التفسيري»، الذي اصطلحوا على تسميته باسم خاص:
Hsrméneutique (من اليونانية «أرمه نيون» بمعنى الشرح والإيضاح).
وقد كتب في هذا الصدد المؤرخان «شارل سنيوبوس» و«لانغلوا» في الكتاب المشهور الذي اشتركا في تأليفه باسم «مدخل إلى دراسة التاريخ»، ما ملخصه: «إن تفسير نص من النصوص يتطلب معرفة اللغة معرفة متقنة بطبيعة الحال، غير أنه يجب ألا يغرب عن البال أن ذلك يتطلب معرفة «تاريخ تطورات اللغة» أيضا معرفة دقيقة؛ ذلك لأن مفردات اللغة كثيرا ما تكون متموجة المدلول ومتحولة المعنى، فالمعاني المستفادة منها قد تختلف لذلك بين زمان وزمان، وبين مكان ومكان، كما أنها قد تختلف بين كاتب وكاتب، حتى إنها قد تتحول - على قلم كاتب واحد أيضا - من موضع إلى موضع، حسب سياق الكلام، وهذه الاختلافات والتحولات قد تصل إلى درجة كبيرة جدا.»
مثلا إن كلمة
vel
كانت تدل في اللاتينية القديمة على «أو»، غير أنها صارت تدل مؤخرا - في بعض أدوار القرون الوسطى - على «و»، ولا حاجة للبيان أن الفرق بين المعنى الأول وبين المعنى الثاني عظيم جدا.
وكذلك كلمة
Suffragium
كانت تدل في اللاتينية القديمة على «التصويت»، غير أنها أخذت في القرون الوسطى معنى آخر هو «المساعدة والإمداد»، ومن البديهي أن الفرق بين المعنيين كبير جدا.
يميل المرء - عادة - ميلا غريزيا إلى تفسير الكلمة الواحدة بمعنى واحد دائما، ولكن هذا الميل كثيرا ما يؤدي إلى أغلاط فادحة عند قراءة الكتابات القديمة والنصوص التاريخية، فيجب على الباحث أن يعود نفسه مقاومة هذا الميل الغريزي الذي يحمل الذهن على تفسير جميع الكلمات والعبارات حسب المعاني المعروفة والمألوفة، كما يجب عليه أن يضيف إلى «التفسير الصرفي والنحوي» تفسيرا «لغويا تاريخيا» أدق وأعمق منه؛ وذلك مراعاة للحقائق والمبادئ التالية: (أ)
اللغة تتطور تطورا مستمرا، فلكل دور لغة خاصة به، يختلف عن لغات سائر الأدوار قليلا أو كثيرا، فيجب على الباحث أن يعرف لغة العهد الذي كتبت فيه الوثيقة لكي يفهم معناها حق الفهم. (ب)
إن استعمال الكلمات مما يمكن أن يختلف بين مكان ومكان، فعلى الباحث أن ينعم النظر في لغة المحل الذي كتبت فيه الوثيقة لكيلا يغلط في فهم المعنى المقصود منها. (ج)
إن لكل مؤلف أسلوبا خاصا في استعمال الكلمات والتعبير عن الأفكار، فيجب على الباحث أن يدرس لغة المؤلف وأسلوبه، وأن ينتبه إلى المعاني الخاصة التي ربما كان يقصدها من تلك الكلمات. (د)
إن الكلمة الواحدة قد تدل على معان مختلفة حسب العبارة التي تدخل فيها، فيجب على الباحث ألا يكتفي بملاحظة معاني كل كلمة من الكلمات على وجه الانفراد، بل عليه أن يسعى إلى ملاحظة العبارة التي تتألف من تلك الكلمات بهيأتها المجموعة أيضا.
إن هذه المبادئ والحقائق قد حملت علماء الغرب على أن يضعوا «قواميس لغوية تاريخية»، تسجل وتستعرض جميع المعاني المختلفة التي أخذتها كل كلمة من الكلمات، خلال الأدوار المختلفة من التاريخ، كما أنها اضطرتهم إلى وضع بعض القواميس الخاصة بلغات بعض المؤلفين، تسجل الكلمات التي استعملها، والمعاني التي قصدها منها، في إحدى مؤلفاته أو في جميع كتاباته.
إن دراسة الكلمات وفقا للقواعد الآنفة الذكر، تلعب دورا هاما، وتكتسب خطورة خاصة في أمر «تدوين التاريخ بالاستناد إلى الوثائق القديمة»؛ ذلك لأن سوء تفسير الكلمة الواحدة أو العبارة الواحدة قد يؤدي إلى أغلاط كبيرة جدا.
إن المؤرخ الفرنسي المشهور «فوستل دو كولانج»
Fustel de Coulange
عندما تتبع «تاريخ المروفنجيين» تعمق في دراسة نحو مائة كلمة من الكلمات المسطورة في الوثائق التاريخية، وتوصل من دراسته هذه إلى حقائق هامة جدا، غيرت ما كان يعرف عن تاريخ فرنسا في عهد الأسرة المذكورة تغييرا كبيرا. (2)
إن كل ما ذكرناه آنفا عن كيفية درس الوثائق التاريخية يصح بحذافيره في أمر فهم الكتب القديمة بوجه عام، فعلى كل من يقدم على مطالعة كتاب قديم أن يقرأه بنظرة تاريخية، ولا يستسلم للنزعة الطبيعية التي تحمله على تفسير عبارات الكتاب وكلماته حسب معانيها الحالية.
ولهذا السبب نجد أن الغربيين عندما يطبعون المؤلفات القديمة يرفقونها بحواش لغوية وتاريخية إيضاحية، تبين معاني الكلمات في عهد كتابتها.
مثلا إذا تصفحنا كتاب «روح القوانين» الذي ألفه «مونتسكيو» - قبل نحو قرنين - باللغة الفرنسية في إحدى طبعاته الحديثة؛ وجدنا فيه حواشي كثيرة توضح معاني الكلمات بالنسبة إلى زمان كتابة الكتاب.
نفهم من هذه الحواشي مثلا أن مونتسكيو استعمل كلمة
conséquence
في عدة مواضع بمعنى «الأهمية والخطورة»، في حين أن الكلمة المذكورة تعني في الحالة الحاضرة «النتيجة». كما أنه قد استعمل كلمة
Succés
في عدة مواضع بمعنى «النتيجة»، في حين أنها تدل في الحالة الحاضرة على «النجاح والتوفيق». واستعمل كلمة
Industrie
بمعنى «المهارة»، في حين أنها تستعمل الآن بمعنى «الصناعة».
إن طبعات روح القوانين مليئة بمثل هذه الشروح التي تدل على مبلغ تطور الكلمات بوضوح تام.
هذا وإذا رجعنا إلى ما قبل تاريخ تأليف الكتاب المذكور؛ وجدنا في معاني الكلمات تغيرا وتباعدا أكثر من ذلك أيضا؛ مثلا إننا نجد في كتاب «الجمهورية»، الذي ألفه «جان بودن» في القرن السادس عشر للميلاد، العبارة التالية:
La monarchie est une forme de république ، وإذا أردنا أن نترجم هذه العبارة وفق مدلولات الكلمات الحالية يجب أن نقول: «إن الملكية شكل من أشكال الجمهورية.» ومن البديهي أن هذه العبارة تكون في منتهى السخافة. وأما الحقيقة في هذا الأمر فهي أن كلمة
Republique
لم تكن قد تخصصت في ذلك العهد بمعنى الجمهورية، بل كانت تدل على «الدولة» بوجه عام. فالعبارة المذكورة يجب أن تترجم لذلك كما يلي: «إن الملكية شكل من أشكال الدولة.»
أعتقد أن الأمثلة التي ذكرتها كافية لإظهار أهمية المبادئ الآنفة الذكر، فلا أرى لزوما للتوسع في هذا الموضوع.
2 (1)
إن أسس «النقد التفسيري» التي ذكرناها آنفا يجب أن تبقى نصب أعيننا على الدوام، حينما نقرأ وندرس مقدمة ابن خلدون.
قد يقال مقابل ذلك أن ابن خلدون كتب التاريخ والمقدمة باللغة الفصحى، والعربية الفصحى لم تتغير وتتطور كما تغيرت وتطورت اللاتينية وسائر اللغات الأوروبية.
غير أن ذلك لا ينطبق على الحقيقة والواقع بوجه من الوجوه، إن الشيء الذي بقي ثابتا في العربية الفصحى هو القواعد والأسس، لا المعاني والمفردات؛ فإن كثرة المعاني التي تذكر أمام معظم الكلمات في جميع القواميس تكفي للبرهنة على ذلك برهنة قطعية.
ومما يجدر اعتباره أن معاني الكلمات تستدعي مزيد الانتباه، بوجه خاص في المؤلفات العلمية التي تكون على شاكلة مقدمة ابن خلدون، والتي تعبر عن آراء وملاحظات طريفة.
إن قريحة ابن خلدون كانت قريحة خصبة ولودة، أوصلته إلى مجموعة كبيرة جدا من الأفكار والآراء الجديدة، فكان يستحيل عليه أن يعبر عنها جميعها بكلمات مألوفة بمعانيها المعتادة، وكان من الطبيعي أن يضطر إلى استحداث بعض الكلمات للتعبير عن آرائه، أو إلى استعمال بعض الكلمات المألوفة بمعان خاصة تختلف عن معانيها الدارجة بعض الاختلاف.
ومن غريب الاتفاق أن ابن خلدون نفسه كان قد عبر عن هذه الضرورة بكل وضوح عندما كتب في فصل التصوف العبارات التالية: «لهم، آداب مخصوصة بهم، واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم، إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة، فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف؛ اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه» (ص469).
ولذلك نجده تارة يشتق كلمات جديدة من الأصول المعروفة، وطورا يستعمل الكلمات المعروفة بمعان خاصة، وتارة يسعى إلى التعبير عن آرائه بجمع الكلمات وتركيبها. ففهم المعاني التي قصدها ابن خلدون من تلك الكلمات والتراكيب حق الفهم، يتطلب التفكير والبحث بتأمل وتعمق. (2)
نذكر فيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:
لقد سمى ابن خلدون «العلم الجديد» الذي استنبطه ووضعه باسم «علم العمران». إن من يحاول أن يحدد المعنى الذي قصده ابن خلدون من هذا العلم، مستندا إلى المعنى المفهوم من كلمة «العمران» في الحالة الحاضرة، يبقى بعيدا عن الحقيقة والواقع بعدا كبيرا؛ لأن هذه الكلمة ترتبط في أذهاننا - عادة - بكلمات العمارة، والمعمار، والتعمير، والمعمور، والمعمورة، في حين أن ملاحظة متون المقدمة تبين لنا بوضوح تام أن ابن خلدون استعمل الكلمة المذكورة بمعنى «الاجتماع» بوجه عام؛ ولهذا السبب كثيرا ما قرن تركيب «العمران البشري» بتركيب «الاجتماع الإنساني»، كما أنه حدد المعنى الذي قصده من هذه الكلمة بقوله: «العمران، هو التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات» (ص41).
ومما تجب ملاحظته أن ابن خلدون استعمل كلمة «التنازل» الواردة في هذا التعريف مرادفة لكلمة «التساكن، وعنى بها «المشاركة في النزول في حلة واحدة»، ومن المعلوم أن هذا المعنى أيضا يختلف عن المعنى المفهوم من كلمة «التنازل» في الحالة الحاضرة اختلافا كليا.
هذا وقد خصص ابن خلدون فصولا وأبحاثا كثيرة لدرس «العصبية»، وغني عن البيان أن من يسعى إلى فهم معنى هذه الكلمة، بمراجعة معاجم اللغة أو بملاحظة الاستعمالات الحالية، لا يمكن أن يتوصل إلى معرفة قصد المؤلف بوجه من الوجوه.
وكذلك قد استعمل ابن خلدون كلمة «الأبنية» بمعنى الخيام؛ ولذلك كتب بعض العبارات التي تبدو في منتهى الغرابة لكل من يفسر الكلمة المذكورة بمعناها الحالي: «اقتصروا على الظهر الحامل للأثقال والأبنية» (ص274)، «وكانوا يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم» (ص275).
ومقابل ذلك لقد استعمل ابن خلدون كلمة «المصانع» - في عدة مواضع من المقدمة - بمعنى «الأبنية»، ولهذا السبب كثيرا ما أردفها بكلمة «المباني» (ص358)، وقال عن طاق كسرى بأنه من «مصانع الفرس»، كما كتب العبارة التالية، حينما ذكر ترف أهل المدن: «ومنهم من يتخذ القصور والمصانع العظيمة الساحة، المشتملة على عدة الدور والبيوت والغرف الكبيرة، لكثرة ولده وحشمه وعياله وتابعه» (ص407). (3)
بعد هذه الأمثلة على المعاني الخاصة التي عناها ابن خلدون من بعض الكلمات لا بد لنا من أن نشير إلى المعاني الخاصة التي قصدها من بعض التراكيب أيضا.
إن من يقرأ المقدمة بإمعان يجد فيها بعض التعابير والتراكيب التي لا يمكن أن تفهم حق الفهم بمجرد ملاحظة معاني مفرداتها؛ فإن فهم مثل هذه التعابير والتراكيب يتطلب - بطبيعة الحال - ملاحظة فقرات عديدة، وأحيانا مطالعة فصول كثيرة، حتى إنه يحتاج في بعض الحالات إلى مراجعة علوم مختلفة.
مثلا يستعمل ابن خلدون في عدة مواضع التراكيب التالية؛ كلمات حدثانية، وازع عصباني، تكاليف إنشائية، خطط خلافية. ومن البديهي أن معاني هذه التعبيرات تحتاج إلى بحث واستجلاء.
إن تعبير «الوازع العصباني» من وضع ابن خلدون نفسه، ففهم المقصود منه يتوقف على ملاحظة آرائه في «الوازع»، و«أنواع الوازع»، و«العصبية».
وأما تعبير «الكلمات الحدثانية» فهو من مصطلحات الكهان والعرافين، ففهم المقصود منه يتطلب مطالعة ما كتبه عنهم بتأمل وانتباه.
وأما تعبير «التكاليف الإنشائية» فهو من التعبيرات التي استعارها من علماء البيان، فإن هؤلاء العلماء يقسمون الجملة إلى نوعين؛ خبرية وإنشائية، ويسمون الجملة التي تستهدف «الإخبار عما حدث، أو عما سيحدث» باسم الخبرية، كما يسمون الجملة التي تتضمن «طلب الحدوث»، أو «الأمر بالإحداث» باسم «الإنشائية». إن ابن خلدون استحدث تعبير «التكاليف الإنشائية» قياسا على اصطلاح علماء البيان في هذا الصدد، وأعتقد أن أحسن كلمة تقابل قصد ابن خلدون من هذا التركيب هي كلمة
normatif
أو
impératif . (4)
ومما يجدر بالملاحظة أن بعض التعبيرات التي استعملها ابن خلدون تولد التباسا في الأذهان، بالنسبة إلى الاستعمال المألوف، وإن ظهرت في بادئ الأمر جلية المعنى.
مثلا لقد استعمل ابن خلدون عدة مرات تعبير «الخطط الدينية الخلافية»، ولا حاجة للبيان أن هذا التعبير يوهم بأن المقصود منه هو «الأمور الدينية المختلف فيها»، في حين أن قليلا من الانتباه إلى مواضع استعمال هذا التعبير، يكفي للجزم بأن كلمة الخلافية الواردة فيه منسوبة إلى «الخلافة»، لا إلى «الخلاف»، وقد قصد المؤلف من هذا التعبير «الخطط المتعلقة بالخلافة»، تمييزا لها عما يتعلق بالسلطان والملك.
وكذلك قد استعمل ابن خلدون في عدة مواضع تعبير «عجم المغرب»، كما ذكر عدة مرات «الخلافة الفارسية الكريمة». إن من يفسر مثل هذه التعبيرات بمدلولاتها المعتادة في الحالة الحاضرة، يتوهم أن ابن خلدون يقصد الفرس، ويشير إلى خلافة فارسية، ولكن الحقيقة الراهنة هي أنه قصد من «عجم المغرب» البربر، كما أراد بالإمامة الفارسية إمامة «أمير المؤمنين» أبي فارس عبد العزيز، ابن مولانا السلطان المعظم الشهير الشهيد أبي سالم إبراهيم» (ص8). (5)
غير أني أعتقد أن أشد الالتباسات في كتابات ابن خلدون، وأغرب التوهمات في مقاصده قد نشأت من جراء كلمة «العرب».
وبما أن هذه القضية هامة جدا لفهم نظريات المقدمة على حقيقتها، رأيت من الضروري أن أتوسع في شرحها توسعا وافيا؛ ولذلك أفردت لها دراسة خاصة بعد هذا البحث الذي لم أكتبه - في حقيقة الحال - إلا تمهيدا لها.
كلمة العرب
في مقدمة ابن خلدون
إن كلمة العرب في مقدمة ابن خلدون من الكلمات التي ولدت أغرب الالتباسات، وأنتجت أسوأ النتائج.
ذلك لأن ابن خلدون استعمل الكلمة المذكورة بمعنى «البدو» و«الأعراب»، خلافا للمعنى الذي نفهمه منها الآن، كما يتبين من الدلائل والقرائن الكثيرة المنبثة في جميع أقسام المقدمة.
إن عدم انتباه القراء والباحثين إلى هذا الاستعمال الخاص أدى إلى أخطاء عظيمة في فهم مقاصد ابن خلدون؛ لأن ذلك أظهره بمظهر المتحامل على العرب، وحمل بعض الشعوبيين على الاستشهاد به، كما دفع بعض القوميين إلى الهجوم عليه.
إن هذه النتائج السيئة كانت قد ظهرت بأجلى مظاهرها في العراق قبل مدة، حينما قام مدير المعارف العام بحملة عمياء على ابن خلدون - في خطبة ألقاها على المعلمين - زاعما بأنه من الكافرين بالعروبة، وقائلا بوجوب حرق كتبه ونبش قبره باسم القومية!
ولقد كنت كتبت عندئذ مقالة في الرد على تلك الحملة، داعيا إلى «النظرة القومية المنورة»، ونشرت المقالة المذكورة في مجلة الأمالي التي تصدر في بيروت من جهة، وفي جريدة البلاد التي تصدر في بغداد من جهة أخرى. وقد بنيت الملاحظات التي سردتها فيها على المعنى الخاص الذي يعنيه ابن خلدون من كلمة العرب، مستشهدا على ذلك بنصوص عديدة وقرائن كثيرة.
والآن وقد أكببت على كتابة هذه الدراسات عن مقدمة ابن خلدون، رأيت من الضروري أن أعود إلى بحث هذه المسألة، وأتخذها موضوعا لدراسة ضافية لأهميتها الخاصة.
1 (1)
يقول علماء اللغة وواضعو المعاجم بوجوب التمييز بين «العرب والعربي»، وبين «الأعراب والأعرابي»؛ لأن مدلول الأعراب والأعرابي لا يشمل إلا من كان بدويا، وأما مدلول العرب والعربي، فيختص بأهل الأمصار على رأي بعضهم، ويشمل أهل الأمصار وسكان البادية على حد سواء في رأي الآخرين.
غير أن هناك شواهد عديدة تدل دلالة قطعية على أن هذا التمييز لم يكن قديما كل القدم، ولا شاملا كل الشمول؛ فإن جميع معاجم اللغة تشرح عبارة «تعرب الرجل» بقولها: «أقام بالبادية وصار أعرابيا»، كما أنها تشرح كلمة «العربي» بقولها: «البين العروبة والعروبية، والذي له نسب صحيح بين العرب وإن كان ساكنا في الأمصار»، وذلك مما لا يدع مجالا للشك في أن العلاقة «بين مدلول العرب وبين مدلول البدو» كانت قوية جدا حتى عند وضع المعاجم المذكورة وتدوينها.
يظهر من ذلك أن مدلول كلمة العرب تطور تطورا كبيرا خلال أدوار التاريخ، ويمكننا أن نعين اتجاه هذا التطور بالصفحات الثلاث التالية:
أولا:
كان مدلول كلمة العرب يختص بالبدو وحدهم.
ثانيا:
صار يشمل هذا المدلول من يسكن المدن والأمصار من غير أن يقطع صلاته بالبادية، وبتعبير آخر صار يشمل كل من يحافظ على نسبه بين البدو، ولو كان من سكنة الأمصار.
ثالثا:
صار يشمل مدلول كلمة العرب سكنة الأمصار أيضا، بقطع النظر عن صلاتهم بالبادية، أو رجوع نسبهم إلى البادية.
من البديهي أن التمييز بين العرب وبين الأعراب هو من ثمرات الطور الثالث الذي أشرنا إليه آنفا. (2)
ومما تجب ملاحظته أن هذا التطور لم يكن تاما ولا قاطعا؛ لأن الطور الأول لا يزال مستمرا في استعمال العوام، كما أن الطور الثاني قد ترك آثارا عميقة في الأدب أيضا.
فقد تعود الناس - في جميع البلاد العربية - استعمال كلمة العرب بمعنى البدوي والفلاح، فكثيرا ما نرى العوام يقولون: «ذهب إلى العرب» بمعنى «ذهب إلى البادية»، و«كان عند العرب» بمعنى «كان بين البدو»، كما نراهم يسمون الخيام التي يسكنها البدو باسم «بيوت عرب»، والأبسطة التي ينسجها البدو باسم «بساط عرب»، حتى إن الخواص أيضا كثيرا ما يشاركون العوام في مثل هذه التسميات والأقوال.
إن هذه العادة كانت قد لفتت نظري بوجه خاص في العراق، حينما كنت مديرا عاما للمعارف فيها، فقد لاحظت أن استعمال كلمة العرب بهذا المعنى كان متفشيا حتى في المدارس نفسها، وكان مسيطرا على أحاديث الطلاب والمعلمين على حد سواء؛ ولهذا السبب كنت أصدرت بلاغا عاما - بتاريخ 1 كانون الثاني 1924 - لفت أنظار جميع المديرين والمعلمين إلى هذا الأمر، وطلبت إليهم أن يبذلوا جهودهم «لإزالة هذا الغلط بكل ما لديهم من قوة ونشاط.»
إن اضطراري إلى إصدار مثل هذا البلاغ العام يدل دلالة واضحة على مبلغ الدهشة التي كانت قد اعترتني من مشاهدة تفشي هذا الاستعمال العامي بين التلاميذ والمعلمين.
ومن المعلوم أن هذه الحالة لم تكن خاصة بالعراق وحده، بل هي شاملة لسائر الأقطار العربية أيضا، ففي سورية مثلا كثيرا ما يقول العوام: «عربي» عوضا عن «بدوي»، كما يقولون: «الكل عند العرب صابون»، إشارة إلى بعض عادات الأعراب. وأما في مصر فإن استعمال كلمة «العرب» بمعنى «البدو» كان قد عم، حتى لغة القوانين والدواوين الرسمية أيضا. (3)
ومما يجب أن يسترعي الانتباه بوجه خاص، أن الكتب الأدبية واللغوية نفسها لم تتخلص من آثار «المعنى العامي» الذي ذكرناه آنفا تخلصا تاما.
فإنها لم تتمسك بقاعدة «التمييز بين العرب وبين الأعراب» تمسكا مطلقا، بل هي أيضا تستعمل في بعض الأحيان كلمة العرب بمعنى البدو، ولا سيما عندما تذكر «أقوال العرب» وتستشهد بما «يقوله العرب»: (أ)
إننا نجد في «فقه اللغة» للثعالبي - مثلا - شواهد عديدة على ما قدمناه، فقد عنون الثعالبي أحد فصول كتابه بالعنوان التالي: «في تسمية العرب أبناءها بالشنيع من الأسماء»، وقال في هذا الفصل ما يلي: «هي من سنن العرب، إذ تسمي أبناءها بحجر، وكلب، ونمر، وذئب، وأسد، وما أشبهها، وكان بعضهم إذا ولد لأحدهم ولد سماه بما يراه ويسمعه مما يتفاءل به، فإن رأى حجرا أو سمعه، تأول فيه الشدة والصلابة والصبر والقوة، وإن رأى كلبا تأول فيه الحراسة والألفة وبعد الصوت، وإن رأى نمرا تأول فيه المنعة والتيه والشكاسة، وإن رأى ذئبا تأول فيه المهابة والقدرة والحشمة. وقال بعض الشعوبية لابن الكلبي: لم سمت العرب أبناءها بكلب وأوس وأسد وما شاكلها، وسمت عبيدها بيسر وسعد ويمن؟ فقال وأحسن: لأنها سمت أبناءها لأعدائها، وسمت عبيدها لأنفسها» (فقه اللغة ص549).
ولا مجال للشك في أن المقصود من كلمة العرب التي تكررت هنا عدة مرات هو الأعراب البداة. (ب)
وكذلك نجد في كتاب الأمالي للقالي أبحاثا وفصولا كثيرة مشابهة لذلك مشابهة كبيرة، مثلا نقرأ في الجزء الثاني منه بحثا «عما سمع من العرب في لعل من اللغات». يشرح المؤلف في هذا البحث كيف أنهم يقولون «لعلي، ولعلني، ولعني، ولأني، ولوني.» ولا مجال للشك في أنه يريد بالعرب في هذا المقام «الأعراب بوجه خاص» (الأمالي، ج2، ص134). (ج)
كما أننا نجد في كتاب «القلب والإبدال» لابن السكيت أيضا شواهد عديدة على استعمال كلمة العرب على المنوال الذي ذكرناه آنفا، مثلا إنه يقول - نقلا عن أبي عبيدة: «العرب تقلب حروف المضاعف إلى الياء، فيقولون تظنيت، وإنما هو تظننت» (كتاب القلب والإبدال ص58). كما يقول - نقلا عن الأصمعي: «العرب تزيد الميم في أشياء، وقالوا رجل فسحم، إذا كان واسع الصدر، وهو من الانفساح، ورجل زرقم، إذا كان أزرق» (ص61). من الواضح الجلي أن القصد هنا من كلمة العرب هو «أعراب البادية»، لا سكنة المدن والأمصار. (د)
هذا وإننا نجد في «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» - تأليف ضياء الدين ابن الأثير - ما هو أصرح من كل ذلك، إذ قد جاء في الجزء الأول من هذا الكتاب ما يلي: «فإن قيل: إن ذلك البدوي كان له ذلك طبعا وخليقة، والله فطره عليه، كما فطر ضروب نوع الآدمي على فطر مختلفة هي لهم في نفس الخلقة.» «فالجواب على ذلك أني أقول: إن سلمت إليك أن الشعر والخطابة كانا للعرب بالطبع والفطرة، فماذا نقول في من جاء بعدهم من شاعر وخطيب، تحضروا وسكنوا البلاد، ولم يروا البادية ولا خلقوا بها، وقد أجادوا في تأليف النظم والشعر، وجاءوا بمعان كثيرة ما جاءت في شعر العرب ولا نطقوا بها؟!» (المثل السائر، ج1، ص310).
من البديهي أن هذه الفقرة - ولا سيما العبارات الأخيرة منها - تدل دلالة قطعية على أن المؤلف كان يميز شعر الحضر من شعر البدو تمييزا صريحا، ويوازن بينهما، وكان يستعمل كلمة العرب في كتاباته هذه بمعنى البدو فقط. (ه)
وقد كتب قدامة بن جعفر في كتابه (نقد النثر) ما يلي: «فأما العرب فإذا لحن الواحد منهم - لقربه من الحاضرة، ونزوله على طريق السابلة - سقطت عند أهل اللغة منزلته، ودفعت ورفضت لغته» (نقد النثر، ص123).
من الواضح أن مقصود قدامة من كلمة العرب هنا هو الأعراب البدويين، بدليل تعليل «لحن الواحد منهم»، و«بقربه من الحاضرة، ونزوله على طريق السابلة.» (و)
إننا نلاحظ آثار هذا الاستعمال حتى لدى لسان الدين ابن الخطيب أيضا، ينقل إلينا «المقري» في «نفح الطيب» رسالة وجهها لسان الدين إلى «شيخ العرب» مبارك بن إبراهيم، يخاطب فيها الكاتب «شيخ العرب» المذكور بقوله: «يا فارس العرب»، ثم يقول: «الحمد لله الذي جعل بيتك شهيرا، وجعلك على العرب أميرا»، كما يعود إلى مخاطبته بقوله: «يا أمير العرب وابن أمرائها»، ثم يقول: «جعل (الله) خيمتك في هذا المغرب على اتساعه واختلاف أشياعه مأمنا للخائف» (نفح الطيب، ج4، ص131).
ومن الواضح أن المقصود من كلمات العرب الواردة في هذه الرسالة هو القبائل البدوية وحدها. (4)
أعتقد أن الأمثلة التي ذكرتها كافية لإظهار مبلغ الالتباس الذي سيطر على أقلام علماء اللغة وعظماء الأدب أنفسهم في أمر كلمتي العرب والأعراب.
كما أعتقد أن كل من يلاحظ هذه الاستعمالات المختلفة لا يستغرب أبدا كيف أن ابن خلدون استعمل كلمة العرب في مقدمته بمعنى الأعراب، كما سيتضح من التفاصيل التالية.
2 (1)
لم يستعمل ابن خلدون في المقدمة كلمة الأعراب والأعرابي إلا قليلا جدا، فإنه قد استعمل كلمة العرب أو العربي في نحو 330 موضعا، في حين أنه لم يستعمل كلمة الأعراب والأعرابي إلا في بضعة مواضع، هذا مع أنه قد اهتم بالحياة البدوية اهتماما كبيرا، وخص أحد أبواب المقدمة بالعمران البدوي وحده، وتكلم عن القبائل والعشائر في كل باب من أبوابها.
إن عدم ورود كلمة الأعراب أو الأعرابي إلا بضع مرات في المقدمة - على الرغم من سعة المباحث العائدة إلى الحياة البدوية، وكثرة الفصول المتعلقة بالقبائل المتنقلة، وعلى الرغم من ورود كلمة العرب مئات من المرات - لدليل واضح على أن ابن خلدون لم يعمل بالقاعدة التي قال بها علماء اللغة في وجوب تسمية البدو بالأعراب، لا بالعرب.
غير أن هناك قرائن قطعية على ذلك تظهر بكل وضوح وجلاء، من إنعام النظر في فصول المقدمة. (2)
فلنستعرض أولا الفصول الباحثة عن العرب مباشرة، تلك الفصول التي تذكر العرب في عناوينها، وتتخذ أحوال العرب موضوعا لأبحاثها. (أ)
لنبدأ من الفصل الذي يتضمن أقسى الأحكام وأعنف الحملات على «العرب»، فلنلاحظ الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون: «إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب»، ولننعم النظر في الأدلة التي يذكرها لتعليل وتأييد رأيه هذا: «فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتقلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له، فالحجر مثلا إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي للقدر، فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونها لذلك. والخشب أيضا إنما حاجتهم ليعمروا به خيامهم، ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم، فيخربون السقف عليه لذلك» (ص149).
ومن البديهي أن مدار البحث هنا لا يتعدى البدو الذين يعيشون تحت الخيام ، فلا مجال للشك في أن ابن خلدون عندما كتب هذه العبارات وقال: «لا يحتاجون إلى الحجر إلا لوضع القدور، ولا إلى الخشب إلا لنصب الخيام»، لم يفكر قط بأهل دمشق أو القاهرة، ولا بسكنة تونس أو فاس، بل إنما قصد أعراب البادية وحدهم. (ب)
ولننتقل إلى الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون: «إن جيل العرب في الخلقة طبيعي.» إن عنوان الفصل وحده يدعو إلى التأمل لتعيين المعنى المقصود من كلمة العرب فيه، وإذا قرأنا الفصل المذكور؛ وجدنا أولا بعض التفاصيل عن وسائل المعيشة، وعن تأثير هذه الوسائل في الحياة الاجتماعية، ثم وصلنا إلى العبارات التالية: «وأما من كان معاشهم من الإبل، فهم أكثر ظعنا وأبعد في القفر مجالا، فكانوا لذلك أشد الناس توحشا، وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم. وهؤلاء هم العرب، وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد والتركمان والترك بالمشرق، إلا أن العرب أبعد نجعة وأشد بداوة؛ لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط» (ص121).
يفهم من هذه العبارات - ولا سيما من العبارة الأخيرة - بصراحة ما بعدها صراحة أن ابن خلدون استعمل كلمة العرب في هذا الفصل أيضا بمعنى أعراب البادية الذين يعيشون خارج المدن، ويرحلون من محل إلى محل وفقا لحاجات الإبل التي يقوم معاشهم عليها.
ومما يجدر بالملاحظة أن الفصلين المذكورين من أقسام الباب الثاني، ومن المعلوم أن الباب المذكور يبحث في «العمران البدوي»، ويترك الكلام عن الدول إلى الباب الثالث، وعن الأمصار إلى الباب الرابع. (ج)
وأما الفصول التي يقول فيها ابن خلدون: «إن العرب لا يستولون إلا على البسائط» (ص149)، و«إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك» (ص151)، و«إن العرب لا يحصل لهم ملك إلا بصبغة دينية» (ص151)؛ فكلها من أقسام الباب الثاني، الباب الباحث «في العمران البدوي»، وفي كل واحد من هذه الفصول قرائن قاطعة كثيرة على استعمال كلمة العرب بمعنى «البدو»، علاوة على دلالة عنوان الباب المذكور. (3)
إن ابن خلدون لم يستعمل كلمة العرب بمعنى البدو في فصول الباب الأول التي ذكرتها فحسب، بل استعملها على نفس المنوال في فصول الأبواب الأخرى أيضا، إني أذكر فيما يلي بعض النماذج الواضحة، والدلائل القاطعة على هذا الاستعمال: (أ)
يوجد في الباب الرابع أيضا فصل خاص بالعرب، هو الفصل الذي يقرر «أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل.»
يبدأ ابن خلدون هذا الفصل بالعبارة التالية: «والسبب في ذلك شأن البداوة»، ثم يقول في سياق الكلام: «والعرب، إنما يراعون مراعي إبلهم خاصة، ولا يبالون بالماء طاب أو خبث، قل أو كثر، ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابت والأهوية لانتقالهم في الأرض، ونقلهم الحبوب من البلد البعيد. وأما الرياح فالقفر مختلف للمهاب كلها، والظعن كفيل بطيبها؛ لأن الرياح إنما تخبث مع القرار والسكنى وكثرة الفضلات» (ص359).
يظهر من ذلك بكل وضوح أن العرب المقصودين في هذا الفصل هم البدو الذين يعيشون في القفار، ولا يسكنون ويستقرون في محل، بل يظعنون من مكان إلى آخر، ويفكرون في مراعي إبلهم قبل كل شيء. ولا يوجد في هذا الفصل كلمة واحدة تنطبق على أهل الأمصار. (ب)
هذا ويوجد في الباب الخامس أيضا فصل خاص بالعرب، هو الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون: «إن العرب أبعد الناس عن الصنائع» (ص404).
يبدأ المؤلف الكلام عن ذلك بالعبارة التالية: «والسبب في ذلك أنهم أعرق في البدو، وأبعد عن العمران الحضري، وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها» (ص404).
ومن الواضح أنه يشير هنا أيضا إلى البدو، ولا يقصد قط أهل الأمصار. إن هذا المعنى يتجلى بوضوح أعظم من ذلك من الفقرات التي تلي العبارة المذكورة: «والعجم من أهل المشرق، وأمم النصرانية عدوة البحر الرومي، أقوم عليها (أي على الصنائع)؛ لأنهم أعرق في العمران الحضري، وأبعد عن البدو وعمرانه. حتى إن الإبل التي أعانت العرب على التوحش في القفر والإعراق في البدو مفقودة لديهم بالجملة. وعجم المغرب من البربر مثل العرب في ذلك؛ لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب من السنين» (ص404).
إن هذه العبارات تدل دلالة صريحة على أن ابن خلدون عنى بكلمة العرب في هذا الفصل أيضا الأعراب البداة الذين يعيشون في القفار مستعينين بالإبل، ولم يقصد «العرب» بالمعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة في الحالة الحاضرة. (ج)
ومما يزيد الأمر وضوحا وقطعية أن ابن خلدون يعود إلى القضية في بحث العلوم أيضا، إذ يقول - بعد أن يشبه العلوم بالصنائع: «وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها، وصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد العرب عنها وعن سوقها» (ص544).
يلاحظ أن ابن خلدون يذكر هنا كلمة العرب مرتين مقابلا لكلمة الحضر بشكل لا يترك مجالا للشك في أنه يقصد البدو على وجه التخصيص، ويخرج من نطاق شمولها الحضر على الإطلاق. (4)
إننا نجد دلائل وقرائن مماثلة لما ذكرناه آنفا في كثير من الفصول التي لا تتكلم عن العرب مباشرة أيضا: (أ)
مثلا نقرأ في بحث «الفساطيط والسياج» العبارات التالية: «كان العرب لعهد الخلفاء الأولين من بني أمية إنما يسكنون بيوتهم التي كانت لهم خياما من الوبر والصوف، ولم تزل العرب لذلك العهد بادين إلا الأقل منهم، فكانت أسفارهم لغزواتهم بظعونهم وسائر حللهم وأحيائهم من الأهل والولد كما هو شأن العرب لهذا العهد.» «وكانت عساكرهم لذلك كثير الحلل، بعيدة ما بين المنازل، متفرقة الأحياء، يغيب كل واحد منها عن نظر صاحبه من الأخرى، كشأن العرب» (ص267).
من الواضح الجلي أن ابن خلدون عنى بالعرب - في عبارة «كما هو شأن العرب لهذا العهد»، و«كشأن العرب» - البدو وحدهم، ولا سيما أنه حصر مفهوم «العرب لعهده» بمن كان لا يزال بدويا. (ب)
هذا وإذا تصفحنا الفصول الباحثة في اللغة والشعر؛ وجدنا فيها أيضا أمثلة صريحة، وأدلة حاسمة لما قدمناه آنفا.
لنقرأ أولا الفصل المعنون بعنوان «أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد» (ص582).
نجد أن ابن خلدون يميز العرب من أهل الأمصار في عنوان الفصل نفسه، وإذا واصلنا قراءة الفصل وجدنا في مضامينه أيضا ما يؤيد دلالة العنوان: «كذلك الحضر أهل الأمصار ، نشأت فيهم لغة أخرى، خالفت لسان مضر في الإعراب، وأكثر الأوضاع والتصاريف، وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد» (ص572).
يلاحظ أن ابن خلدون يميز في هذه العبارات «لغة الحضر» من «لغة الجيل من العرب» لعهده، ومن البديهي أن هذا التمييز لا يمكن أن يفسر إلا باستعمال كلمة العرب مقابلا لكلمة الحضر كما في الفقرات التي ذكرتها آنفا. (ج)
وهناك فصل آخر يؤيد كل ذلك بتعبيرات وأشكال أخرى، هو الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون: «إن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها» (ص588). يبدأ الفصل المذكور بالعبارات التالية : «اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة، ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغة قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر، وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا» (ص588).
من البديهي أن كاتب هذه الفقرات يترك «أهل الحضر والأمصار» خارجا عن نطاق شمول تعبير «الجيل العربي» بصورة قطعية. (د)
هذا ولنقرأ الفصل الذي يقرر «أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة، مغايرة للغة حمير ومضر» (ص557). يقول ابن خلدون في هذا الفصل: «إن أفراد «الجيل العربي» لعهده لا ينقطون بالقاف كما ينطق بها «أهل الأمصار».» وبعد أن يوضح كيفية هذا النطق يكتب ما يأتي: «وصار ذلك علامة عليهم من بين الأمم والأجيال مختصا بهم، لا يشاركهم بها غيرهم، حتى إن من يريد التقريب والانتساب إلى الجيل والدخول فيه، يحاكيهم في النطق بها. وعندهم إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل بالعروبية والحضري بالنطق بهذه القاف» (ص557).
إني أعتقد أن العبارة الأخيرة في منتهى الصراحة من وجهة تمييز «العربي» و«الحضري»، ومع هذا أجد في آخر الفصل المذكور عبارة أصرح وأدل من ذلك أيضا: «هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم - شرقا وغربا - في النطق بها، وأنها الخاصية التي يتميز بها العربي من الهجين والحضري» (ص558). «الخاصية التي يتميز بها العربي من الحضري»، لا أظن أن أحدا يستطيع أن يطلب دليلا أوضح من هذه العبارة على استعمال كلمة «العربي» بمعنى «البدوي»، ومقابلا لكلمة «الحضري».
3
إذا تركنا المقدمة جانبا وراجعنا التاريخ نفسه؛ وجدنا فيه أيضا قرائن كثيرة ودلائل قاطعة على أن ابن خلدون كان يستعمل كلمة العرب بمعنى الأعراب. (1)
إن الأبحاث التي يخصصها ابن خلدون لوصف أجيال العرب وطبقاتهم تؤيد ذلك بكل وضوح: «اعلم أن العرب منهم الأمة الراحلة الناجعة، أهل الخيام لسكناهم، والخيل لركوبهم، والأنعام لكسبهم، يقومون عليها، ويقتاتون من ألبانها، ويتخذون الدفء والأثاث من أوبارها وأشعارها، ويحملون أثقالهم على ظهورها، يتنازلون حللا متفرقة، ويبتغون الرزق في غالب أحوالهم من القنص وتخطف الناس من السبل، ويتقلبون دائما في المجالات، فرارا من حمارة القيظ تارة ، وصبارة البرد أخرى، وانتجاعا لمراعي غنمهم، وارتيادا لمصالح إبلهم الكفيلة بمعاشهم وحمل أثقالهم ودفئهم ومنافعهم» (تاريخ ابن خلدون ج1، ص22، طبعة محمد المهدي الحبابي). «فهذه كلها شعائرهم وسماتهم، وأغلبها عليهم اتخاذ الإبل، والقيام على نتاجها، وطلب الانتجاع بها لارتياد مراعيها ومفاحص توليدها، بما كان معاشهم منها» (تاريخ ابن خلدون، ج1، ص23).
من الواضح الجلي أن هذه الأوصاف لا تنطبق إلا على الأعراب. (2)
من المعلوم أن المؤرخين كانوا يقسمون العرب إلى ثلاث طبقات، يسمونها بالتتالي؛ البائدة، والعاربة، والمستعربة.
وأما ابن خلدون فلا يستصوب هذا التقسيم القديم، بل يقسم العرب إلى أربع طبقات، يسميها؛ العاربة، المستعربة، التابعة، المستعجمة.
فإنه يوحد البائدة والعاربة في طبقة واحدة يسميها العاربة، ويضيق حدود طبقة العرب المستعربة؛ لأنه يذكر بعدها طبقتين من العرب، يسمي إحداهما باسم التابعة، والأخرى باسم المستعجمة. «العرب المستعجمة»، إن من يقرأ هذا التعبير يظن في الوهلة الأولى أن القصد منه هو «عرب المدن في دور الاستعجام»، ولكن قليلا من التأمل في ما كتبه ابن خلدون يكفي للتأكد من أن الأمر ليس كذلك؛ إن المؤلف لم يقصد من قوله «العرب المستعجمة» شيئا غير القبائل «البدوية» التي كانت تعيش في زمانه في عهد الدول الأعجمية، ودور فساد اللغة العربية واستعجامها. «ثم انقرض أولئك الشعوب في أحقاب طويلة، وانقرض ما كان لهم من الدولة في الإسلام، وخالطوا العجم بما كان لهم من التغلب عليهم؛ ففسدت لغة أعقابهم في آماد متطاولة، وبقي خلفهم أحياء بادين في القفار والرمال والخلاء من الأرض تارة، والعمران تارة، وقبائل بالمشرق والمغرب والحجاز واليمن وبلاد الصعيد والنوبة والحبشة وبلاد الشام والعراق والبحرين وبلاد فارس والسند وكرمان وخراسان ...» «لما كانت لغتهم مستعجمة عن اللسان المضري الذي نزل به القرآن، وهو لسان سلفهم، سميناهم لذلك العرب المستعجمة» (تاريخ ابن خلدون، ج1، ص24).
وأما التفاصيل التي يكتبها ابن خلدون عن هؤلاء، فكلها تدل دلالة صريحة على أن العرب المستعجمة لم تكن في نظر ابن خلدون سوى القبائل البدوية التي كانت تعيش خارجا عن المدن وحول الأمصار. (3)
وإذا راجعنا الأبحاث العائدة إلى العهد الإسلامي من تاريخ العرب نجد فيها أيضا دلائل كثيرة على ما قدمناه آنفا.
ندرج فيما يلي بعض النماذج لهذه الدلائل والقرائن القاطعة: (أ)
في المجلد الثالث من التاريخ يوجد فصل «في نهب العرب للبصرة»، يقول فيه ابن خلدون فيما يقوله: «اجتمع بنو عامر بن صعصعة، وأميرهم عميرة، وقصدوا البصرة، ونهبوها ورحلوا عنها» (طبعة بولاق، ج3، ص540).
يفهم من هذه العبارات بصراحة أن العرب الذين يذكرهم ويعنيهم ابن خلدون هنا هم الأعراب الذين كانوا يعيشون في البادية خارج مدينة البصرة. (ب)
في المجلد الرابع بحث تحت عنوان «ذكر المتغلبين بالبحرين من العرب بعد القرامطة»، يقول المؤلف في هذا البحث: «كان بأعمال البحرين خلق من العرب، وكان القرامطة يستنجدونهم على أعدائهم، ويستعينون بهم في حروبهم، وكان أعظم قبائلهم هناك بني تغلب، وبني عقيل، وبني سليم» (ج4، ص91).
ولا مجال للشك في أن العرب المقصودين هنا أيضا هم القبائل البدوية فحسب. (ج)
في المجلد الخامس بحث تحت عنوان: «واقعة العرب بالصعيد»، يقول فيه ابن خلدون: «وفي أثناء هذه الفتن كثر فساد العرب بالصعيد وعبثهم، وانتهبوا الزرع والأموال، (مما استوجب خروج السلطان عليهم لتأديبهم)؛ فهزم العرب واستلحم جموعهم، وامتلأت أيدي العساكر بغنائمهم، حتى استأمن بعد رجوع السلطان، فأمنه على أن يمتنعوا من ركوب الخيل وحمل السلاح، ويقبلوا على الفلاحة» (ج5، ص450).
من البديهي أن العرب المذكورين في هذا البحث هم الأعراب الذين كانوا يعيشون خارج المدن في الصعيد. (د)
وفي المجلد الخامس كذلك بحث آخر تحت عنوان: «وفاة مهنا بن عيسى أمير العرب بالشام وأخبار قومه.» يقول ابن خلدون فيما يقوله في هذا الصدد: «فولي على العرب عيسى بن مهنا، ولم يزل على أحياء العرب» (ج5، ص438).
كما يقول في محل آخر: «كان مجاز بن مهنا أمير العرب من آل فضل قد انتقض، فولي السلطان على العرب معيقل» (ج5، ص459).
من الواضح أن العرب المقصودين هنا لم يكونوا قط من سكنة الأمصار. (ه)
لقد كتب ابن خلدون في المجلد الثالث من تاريخه العبارة التالية: «وقال المتنبي يمدح سيف الدولة، ويعرض بذكر العرب الذين أوقع بهم لما كثر عبثهم وفسادهم.»
إن هذه العبارة قد تثير الاستغراب؛ لأنها قد تحمل القارئ على التساؤل: «ألم يكن المتنبي نفسه وسيف الدولة أيضا من العرب؟» غير أن مراجعة وقائع التاريخ من جهة، وديوان المتنبي من جهة أخرى، تكفي لإعلامنا بأن العرب الذين يشير إليهم ابن خلدون هنا، هم «بنو كلاب» الذين كانوا ثاروا على سيف الدولة؛ فاضطروه إلى تجريد حملة عسكرية.
إن أمثال هذه الفقرات والعبارات التي تدل على استعمال كلمة العرب بمعنى البدو كثيرة جدا في جميع مجلدات التاريخ.
4 (1)
وقد كتب ابن خلدون في ترجمة حياته أيضا فقرات عديدة تؤيد كل ما ذكرناه آنفا، ندرج فيما يلي بعض تلك الفقرات: «الإجازة الثانية إلى الأندلس واللحاق بأحياء العرب، والمقامة عند أولاد عريف» (المجلد السابع من التاريخ، ص443). «أقمت بها أربعة أعوام، فظعنت عن أولاد عريف مع عرب الأجص، من بادية رياح، كانوا هناك ينتجعون الميرة» (ج7، ص445). «فطلبت الإذن في الانصراف بعهد كان معه في ذلك، فأذن لي بعد أن أبى، وخرجت إلى العرب، ونزلت إلى يعقوب بن علي» (ج7، ص419).
إن الفقرة الأخيرة يجب أن تستوقف الأنظار بوجه خاص؛ إن عبارة «خرجت إلى العرب» التي كتبها ابن خلدون هنا، تشبه تمام الشبه قول الناس: «ذهبت إلى العرب »، فإنها تدل دلالة قاطعة على أن ابن خلدون كان يقصد من كلمة العرب «البدو» على وجه الحصر، كما يفعله العوام في أكثر البلاد العربية إلى الآن. (2)
ومن الغريب أن المعنى الخاص الذي استعمل به ابن خلدون كلمة العرب كان قد لفت أنظار المستشرقين منذ مدة طويلة، حتى إن «البارون دو سلان» كان أشار إلى ذلك حينما ترجم المقدمة.
فإنه نقل كلمة العرب إلى الفرنسية كما هي، ومع ذلك كتب في المجلد الأول من الترجمة - في ذيل الفصل القائل «إن جيل العرب في الخلقة طبيعي»: «إن ابن خلدون استعمل كلمة العرب بمعنى البدو في هذا الفصل، وفي الفصول التالية.»
كما أنه كتب في المجلد الثالث من الترجمة في معظم الألفاظ الملحقة بها مقابل كلمة العرب، العبارة الصريحة التالية: «إن عرب ابن خلدون هم الأعراب.»
Les arabes d’Ibni Khaldoun, sont les arabes nomads (Vol 3 page 488).
هذا وقبل البارون دو سلان كان المترجم التركي جودت باشا أيضا قد انتبه إلى هذا المعنى الخاص، وإن لم ير لزوما لذكره بصراحة؛ لأنه لم ينقل كلمة «العرب» إلى التركية كما هي، بل نقلها - في مواضع كثيرة - على شكل «قبائل عرب»، بمعنى «قبائل العرب أو القبائل العربية». (3)
ولذلك كله يؤلمني جدا أن تبقى هذه الحقيقة الناصعة مجهولة بين قراء العربية وكتابها، وأن يستمر على إساءة فهم مقدمة ابن خلدون - من جراء ذلك - في الأحاديث والكتب والمقالات.
خاتمة
عندما أتذكر وأستعرض ما قيل وكتب، وما لا يزال يقال ويكتب حول هذه المسألة، أفكر في الكلمة التي كان قد صدر بها المفكر الشهير «مونتسكيو» الطبعة الثانية من كتابه «روح القوانين»، إنه كان لاحظ أن بعض التعبيرات التي استعملها في الطبعة الأولى قد أسيء فهمها؛ ولذلك رأى أن يوضح قصده قائلا: «إن أبحاثي وتأملاتي أوصلتني إلى أفكار وآراء جديدة، فكان لزاما علي - حينما حاولت التعبير عن تلك الأفكار والآراء - أن أستحدث بعض الكلمات الجديدة، أو أن أستعمل بعض الكلمات القديمة لمعان جديدة. إن الذين لم يفهموا ذلك عزوا إلي من الأقوال والآراء السخيفة ما لم يخطر ببالي أبدا.»
كان مونتسكيو قد عاش وكتب في عصر نهوض ترعرعت فيه الطباعة، وتنشطت فيه الحركات الفكرية بسرعة خارقة، ولهذا السبب استطاع الاطلاع على «كيفية فهم كتاباته»، فوجد سبيلا إلى تغيير بعض تعبيراته، بقصد إزالة الإبهام والالتباس منها، وإلى شرح مقاصده بقصد الدفاع عن آرائه.
لكن ابن خلدون - من سوء حظه - كان قد جاء في عصر انحطاط، حرمه عن كل ذلك.
وأما التفكير الجدي في ما كتبه فلم يبدأ إلا بعد مرور مدة تزيد على خمسة قرون، وبعد تطور معاني بعض الكلمات خلال هذه القرون.
وإني لا أشك أبدا في أن ابن خلدون لو بعث حيا من مرقده، واطلع على بعض ما يقال فيه الآن؛ لدهش من الآراء التي تعزى إليه دهشة كبيرة.
القسم الثاني: مكانة ابن خلدون في تاريخ فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع
ابن خلدون وفلسفة التاريخ
(1)
إن مقدمة ابن خلدون من نوع المؤلفات التي عرفت في أوروبا باسم «فلسفة التاريخ» في القرن الثامن عشر، وباسم «علم التاريخ»، أو «المدخل إلى التاريخ» في القرن التاسع عشر.
في الواقع إنها تتضمن في الوقت نفسه آراء ومباحث ونظريات اجتماعية هامة، فيجب اعتبارها من هذه الوجهة من نوع المؤلفات المتعلقة ب «الفلسفة الاجتماعية»، وب «علم الاجتماع» أيضا.
غير أنه يجب ألا يغرب عن البال بأنها تتألف في حقيقة الأمر من «المقدمة والكتاب الأول»، من سفر تاريخي كبير، وترمي - قبل كل شيء - إلى «تمييز الحق من الباطل في الأخبار» عند تدوين التاريخ، وتسعى إلى إيجاد «معيار صحيح يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والخطأ فيما ينقلونه من الأخبار والوقائع»، كما صرح بذلك المؤلف نفسه، حينما عقب على العبارة الآنفة الذكر بقوله: «هذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا.»
ولهذا السبب يجب أن ننظر إلى مقدمة ابن خلدون - قبل كل شيء - كمؤلف في فلسفة التاريخ، فيجب أن نقارنها بأمثالها من المؤلفات التي حامت حول فلسفة التاريخ قبل أن نقدم على مقارنتها بالكتب الباحثة عن الفلسفة الاجتماعية، أو علم الاجتماع. (2)
إن فلسفة التاريخ تبحث في الوقائع التاريخية بنظرة فلسفية ، فتسعى لاكتشاف العوامل الأساسية التي تؤثر في سير الوقائع التاريخية، وتعمل على استنباط القوانين العامة التي تتطور بموجبها الأمم والدول على ممر القرون والأجيال.
إن تعبير «فلسفة التاريخ» هذا لم يستحدث إلا في القرن الثامن عشر، غير أن «التفلسف في التاريخ» قد بدأ فعلا قبل ابتكار هذا التعبير بمدة طويلة.
ونستطيع أن نقول إن البذور الأولى لفلسفة التاريخ قد ظهرت في الكتب الباحثة عن «السياسة المدنية»؛ لأن كل نظرية سياسية تستند بطبيعتها - ضمنا أو صراحة - إلى نظرية في طبائع الأمم والدول، وفي شروط تقدمها وكيفية تطورها. (3)
إن تعبير «فلسفة التاريخ» انتشر كثيرا في مؤلفات النصف الأول من القرن التاسع عشر، غير أن استعماله أخذ يقل منذ النصف الثاني من القرن المذكور.
وأما أسباب ذلك فتعود إلى تطور معنى العلم، ومفهوم الفلسفة بوجه عام.
إن البحث عن الأسباب والقوانين العامة لم يكن من خصائص الفلسفة وحدها، بل هو من الغايات التي ترمي إليها، وتنزع نحوها جميع العلوم التي تبحث في الحادثات، طبيعية كانت أم تاريخية واجتماعية. وحينما يتحرى المؤرخون الأسباب والقوانين في الوقائع التاريخية يكونون قد قاموا بعمل علمي بحت، فلا محل لتسمية الأبحاث التي يقومون بها في هذا السبيل باسم الفلسفة، نظرا للمعاني المفهومة من كلمتي العلم والفلسفة في عصرنا الحاضر.
ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن مباحث «الفيزياء» نفسها كانت تسمى قبل بضعة قرون باسم «الفلسفة الطبيعية»، ومعظم كتب الفيزياء التي نشرت في إنجلترا حافظت على هذا العنوان حتى القرن التاسع عشر، غير أن عناوين مثل هذه الكتب تجردت بعد ذلك من كلمة الفلسفة بوجه عام، وتركت محلها إلى اسم «علم الفيزياء»، أو «الفيزياء» على وجه الإطلاق.
فكان من الطبيعي أن يتطور تعبير «فلسفة التاريخ» أيضا على هذا المنوال؛ إذ إن المباحث التي نحن بصددها تعد من عناصر البحث العلمي في كل «تاريخ»، فيجب أن تعتبر من مواضيع «علم التاريخ».
في الواقع إن الفلسفة لم تنقطع عن التأمل في الوقائع والحادثات الطبيعية والتاريخية، فهي لا تزال تتناول التاريخ أيضا بالنظر والتمحيص، غير أن النظر الفلسفي يمتاز عن البحث العلمي الاعتيادي بالإقدام على أوسع التركيبات، وبالبحث عن أشمل القوانين وأعمق الأسباب.
ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن «أشمل القوانين وأعمق الأسباب» في تطور الأمم لا يمكن أن تكتشف بدرس الوقائع التاريخية وحدها، بل إن اكتشاف مثل هذه القوانين الشاملة والأسباب العميقة يتطلب ملاحظة أحوال الأمم الحاضرة مثل ملاحظة الأمم البائدة، ودرس الحادثات الاجتماعية الحالية مثل درس الحادثات الماضية، ومن البديهي أن هذه الأبحاث تتعدى حدود «التاريخ» البحت، وتدخل في نطاق الاجتماعيات العامة، فتكون حينئذ من مواضيع «الفلسفة الاجتماعية»، أو «علم الاجتماع» بوجه عام.
ولهذه الأسباب صارت المؤلفات المتعلقة بفلسفة التاريخ تقل شيئا فشيئا تاركة محلها للمؤلفات التي تحمل عنوان «علم التاريخ»، أو «أصول التاريخ» من جهة، وللأبحاث التي تدخل في نطاق علم الاجتماع، أو الفلسفة الاجتماعية من جهة أخرى. (4)
إذا استعرضنا أهم المؤلفات التي تتعلق بفلسفة التاريخ مباشرة، أو التي تمت بصلة قوية إلى بعض أبحاث هذه الفلسفة، وحصرنا استعراضنا هذا فيما صدر منها خلال القرون الأربعة التي تلت تاريخ كتابة مقدمة ابن خلدون (أي من سنة 1377 إلى سنة 1777)؛ وجدنا أنها تنحصر في الكتب العشرة التالية حسب تواريخ نشرها: (أ)
الأمير (سنة 1520)، تأليف ماكيافللي
Machiavelli
الإيطالي. (ب)
الجمهورية (سنة 1557)، تأليف «جان بودن»
Jean Bodin
الفرنسي. (ج)
خطب في التاريخ العام (سنة 1681)، تأليف «بوسسوئة»
Bossuet
الفرنسي. (د)
الحكومة المدنية (سنة 1690)، تأليف «جون لوك»
J. Lock
الإنجليزي. (ه)
العلم الجديد (سنة 1725)، تأليف «جان باتيستا فيكو»
J. B. Vico
الإيطالي. (و)
روح القوانين (سنة 1748)، تأليف «مونتسكيو»
Montesquein
الفرنسي. (ز)
خطب في الصوربون (سنة 1750)، تأليف «تورغو»
Turgot
الفرنسي. (ح)
طبائع الأمم وفلسفة التاريخ (سنة 1756)، تأليف فولتير
Voltaire
الفرنسي. (ط)
تاريخ المجتمع المدني (سنة 1765)، تأليف «فركوسن»
Fergusson
الإنجليزي. (ي)
آراء فلسفية في تاريخ البشرية (سنة 1772)، تأليف «هردر»
Herder
الألماني.
وأما إذا وسعنا ساحة بحثنا وأشملناها كل ما كتب قبل مقدمة ابن خلدون أيضا، فلا نجد بينها إلا ثلاثة مؤلفات، تمت ببعض الصلة إلى بعض الأبحاث من فلسفة التاريخ، وهي: (أ)
الجمهورية، لأفلاطون
(القرن الرابع قبل الميلاد). (ب )
السياسة، لأرسطو
Aristotelis (القرن الرابع قبل الميلاد). (ج)
مدينة الله، للقديس أوغسطين
St Augustin (القرن الرابع بعد الميلاد).
إن تعيين منزلة مقدمة ابن خلدون في «تاريخ فلسفة التاريخ»، لمما يتطلب مقارنتها بالكتب والمؤلفات التي ذكرناها آنفا. (5)
إن أشمل الدراسات عما كتب في فلسفة التاريخ قام بها «روبرت فلينت»
R. Flint ، الذي كان أستاذا في جامعة إدينبرة، فقد نشر المومأ إليه أولا - سنة 1874 - كتابا بعنوان «فلسفة التاريخ في فرنسا وألمانيا»، يعتبر من أمهات الكتب في هذا الموضوع.
يبدأ فلينت فصول كتابه ببحث عن «جان بودن»، ولكنه يقدم على ذلك مقدمة طويلة يستعرض فيها بذور فلسفة التاريخ، مبتدئا من أفلاطون وأرسطو، ومتوسعا في القديس أوغسطين. إن اسم ابن خلدون لم يذكر في هذه المقدمة؛ مما يدل على أن المؤلف لم يكن قد اطلع عليها بعد عندما نشر الكتاب المذكور.
غير أن روبرت فلينت واصل أبحاثه في هذا المضمار بعد نشر الكتاب المذكور أيضا، إنه درس ما نشر عن فلسفة التاريخ في سائر البلاد، وفي الأخير نشر مؤلفا آخر تحت عنوان «تاريخ فلسفة التاريخ»، وذلك بعد مرور عشرين عاما على نشر كتابه الأول.
يظهر من مطالعة مقدمة هذا الكتاب أن المؤلف كان قد اطلع خلال هذه المدة على مقدمة ابن خلدون، وأعجب بها إعجابا شديدا، فكتب عن ابن خلدون ما يلي: «من وجهة علم التاريخ أو فلسفة التاريخ، يتحلى الأدب العربي باسم من ألمع الأسماء، فلا العالم الكلاسيكي في القرون القديمة، ولا العالم المسيحي في القرون الوسطى، يستطيع أن يقدم اسما يضاهي في لمعانه ذلك الاسم.» «إذا نظرنا إلى ابن خلدون (1332م/1406ب.م.) كمؤرخ فقط؛ وجدنا من يتفوق عليه حتى بين كتاب العرب أنفسهم، وأما كواضع نظريات في التاريخ فإنه منقطع النظير في كل زمان ومكان، حتى ظهور «فيكو» بعده بأكثر من ثلاث مائة عام. ليس أفلاطون ولا أرسطو ولا القديس أوغسطين بأنداد له، وأما البقية فلا يستحقون حتى الذكر بجانبه.» «إنه يستحق الإعجاب بما أظهره من روح الابتكار والفراسة والتعمق والإحاطة.» «كان رجلا منقطع النظير بين أهل دينه ومعاصريه في موضوع الفلسفة التاريخية، كما كان «دانتي» في الشعر، و«بايكن» في العلم بين أهل دينهما ومعاصريهما» (فلينت، تاريخ فلسفة التاريخ، ص86).
ولهذا السبب يفرد فلينت في كتابه هذا بحثا خاصا لاستعراض آراء ابن خلدون، فيقول ما يلي: «إن أول كاتب بحث في التاريخ كموضوع علم خاص كان ابن خلدون. أما هل يجب أن يعد أو لا يعد - لهذا السبب - «مؤسس علم التاريخ»، فذلك سؤال قد يثير خلافا في الآراء.» «غير أن كل من يقرأ مقدمته بإخلاص ونزاهة لا يستطيع إلا أن يعترف بأن حق ابن خلدون في ادعاء هذا الشرف - شرف التسمية باسم مؤسس علم التاريخ وفلسفة التاريخ - أقوى وأثبت من حق كل كاتب آخر سبق فيكو» (ص157 من تاريخ فلسفة التاريخ).
إن المؤلف المشار إليه لا يغفل نقائص ابن خلدون وأخطاءه، ولكنه يرجع جميع هذه النقائص والأخطاء إلى سبب رئيسي هام، وهو قلة اطلاعه على تاريخ الغرب وعلى حضارة أوروبا. فيقول لذلك: «لو عرف ابن خلدون العالمين الكلاسيكي والمسيحي، وبحث وعمم فيهما أيضا بعين الاستقلال الفكري ونفوذ النظر؛ لجاءت رسالته من أعظم وأثمن الرسائل في الأدب العالمي. وعلى كل حال، فإن الكتاب الذي تركه لنا له من العظمة والأهمية ما يكفي للاحتفاظ باسمه وشهرته إلى آخر الأجيال» (ص171 من الكتاب المذكور). (6)
يظهر من الفقرات التي نقلناها آنفا أن روبرت فلينت يعتبر ابن خلدون متفوقا تفوقا أكيدا على جميع من كتب في فلسفة التاريخ، ليس قبله فحسب، بل خلال القرون الثلاثة التي تلت وفاته أيضا.
ومما يستلفت النظر في هذا المضمار أن روبرت فلينت لم يكن من المستشرقين الذين يحملون شغفا خاصا بالأمور والمؤلفات الشرقية، بل كان من رجال الدين، وكان قد أظهر نزعته الدينية الشديدة في مواضع عديدة من مؤلفاته.
فإن صدور مثل هذه الكلمات التقديرية من المؤلف المشار إليه بالرغم من نزعته الدينية الشديدة؛ يدل دلالة واضحة على شدة إعجابه بمقدمة ابن خلدون عند اطلاعه عليها، بعد انكبابه على درس جميع المؤلفات التي تحوم حول فلسفة التاريخ، منذ بدء التفكير في العالم القديم، حتى أواخر القرن الأخير.
إن شهادة روبرت فلينت في هذا الصدد تغنينا عن مقارنة مقدمة ابن خلدون بالمؤلفات التي كتبت ونشرت قبل كتاب فيكو.
ولهذا السبب رأيت أن أكتفي بتسجيل حكم الباحث المشار إليه فيما يخص من سبق فيكو في هذا المضمار، وأن أتخذ فيكو نفسه مبدأ لدراساتي ومقارناتي؛ لإظهار منزلة ابن خلدون في تاريخ فلسفة التاريخ.
ابن خلدون وفيكو
(1) حياة فيكو وآراؤه
1
ولد جواني باتيستا فيكو
Giovanni Battista Vico
في نابولي سنة 1667، وتوفي في المدينة نفسها سنة 1744.
كان والده كتبيا فقيرا، ومع هذا فقد بذل كل ما في استطاعته ليضمن لابنه «دراسة كاملة»، بالنسبة إلى ما كان معروفا في زمانه.
فقد درس فيكو - وفقا للتقاليد المتحكمة عندئذ - اللغات القديمة، والفلسفة الدرسانية
Scholastique ، وعلم اللاهوت ، وعلم الحقوق، وشغف بالحقوق شغفا شديدا، ولكنه لم يمتهن القضاء أو المحاماة، بل أخذ يتوسع ويتعمق في دراسة أسس الحقوق الطبيعية، وتاريخ الحقوق الرومانية بوجه خاص.
ثم ذهب إلى مدينة «واتوللا» بناء على دعوة أسقف «إيسكيا» لتعليم الحقوق لأحد أقاربه النبلاء، وقضى فيكو هنالك تسع سنوات، وجد خلالها متسعا من الوقت لدرس الكتب القديمة المحفوظة في مكتبة الدير دراسة متقنة.
وعندما عاد إلى نابولي بعد ذلك، وجد أن التدريسات في جامعاتها كانت قد اتجهت اتجاها جديدا تماما، كانت فلسفة «ديكارت» الحديثة قد سيطرت على الجامعة، وأبعدتها عن الفلسفات القديمة، ولا سيما عن الفلسفة الأفلاطونية.
لم يرتح فيكو إلى هذا التيار الفكري الجديد، لا سيما بعد أن لاحظ أن التيار المذكور لم يكتف بإهمال الفلسفة القديمة، بل أخذ يهمل التاريخ والشعر والبلاغة أيضا.
إنه لم يقل بلزوم البقاء تحت سلطة الفلاسفة القدماء، ولكنه لم يسلم بجواز الاسترسال في التفكير الذاتي، والاستسلام إليه استسلاما كليا؛ ولذلك دعا إلى اتباع خطة متوسطة بين التيار القديم وبين التيار الحديث؛ لقد قال بوجوب اتباع المحاكمات الذاتية، مع احترام سلطة أساطين الفكر والعلم القدماء، واتبع بنفسه هذه الخطة في دروسه وتأليفاته المتنوعة.
صار فيكو أستاذا للبلاغة في جامعة نابولي، وتطرق في دروسه إلى مسائل متنوعة، يحوم معظمها حول الحقوق الطبيعية، وتاريخ الحقوق الرومانية، واشتقاق الكلمات اللاتينية. نشر طائفة من الخطب والرسائل في هذه المسائل، وأظهر في جميعها نزعة مستمرة نحو ربط الأبحاث اللغوية بالمسائل الحقوقية والتاريخية، وفي الأخير جمع ونظم معظم الآراء التي سردها في هذا المضمار في سفر واحد أسماه «العلم الجديد»
Scienza Nuava .
إن شهرة فيكو العلمية قامت على هذا الكتاب، فإن الآراء المدونة فيه هي التي حملت الكثيرين من المؤرخين والمفكرين على تلقيبه بلقب «مؤسس فلسفة التاريخ» أولا، وبلقب «مؤسس علم الاجتماع» ثانيا.
نشرت الطبعة الأولى من العلم الجديد سنة 1725، ولكن نسخ هذه الطبعة نفدت خلال ثلاث سنوات، فأعيد طبع الكتاب مرتين خلال حياة المؤلف، وذلك في سنة 1730، وسنة 1744.
خلال هذه الطبعات الجديدة أعاد فيكو النظر فيه، وأدخل عليه تنقيحات وتعديلات كثيرة، غير أن هذه التعديلات لم تبدل شيئا من الآراء الأساسية المدونة فيه، مع أنها غيرت ترتيب مباحثه تغييرا جوهريا، بل صاغته صياغة جديدة، من وجهة كيفية عرض الآراء وكيفية تبويبها.
لقد ترجمت الطبعة الثالثة من العلم الجديد إلى الفرنسية، بقلم المؤرخ الشهير «جول ميشله» بعنوان «أصول فلسفة التاريخ».
بين يدي الآن نسخة من هذه الترجمة المطبوعة في باريس سنة 1827، وأنا سأستند إلى هذه النسخة في تلخيص وعرض آراء ونظريات فيكو في فلسفة التاريخ.
2
يتألف العلم الجديد من خمسة كتب؛ الأول في الأسس والمبادئ، والثاني في الحكمة الشعرية، والثالث في اكتشاف حقيقة هوميروس، والرابع في المجرى الذي يسير فيه تاريخ الأمم، والخامس في عودة الانقلابات وتكررها عند انبعاث الأمم بعد انقراضها. (1)
يبدأ فيكو فصول الكتاب الأول ب «لوحة قرونولوجية»، يستعرض فيها أهم وقائع التاريخ، من خلقة العالم، إلى الحرب البونية الثانية.
يعتمد المؤلف في هذا الباب على روايات التوراة وتفاسيرها، فيؤرخ الوقائع بتاريخ الخليقة، فيذكر مثلا أن الطوفان قد حدث سنة 1656 بعد الخليقة، وأن حروب طروادة نشبت سنة 2720 من التاريخ المذكور، كما أن مدينة روما أسست سنة 3252 بعد الخليقة، وأما الحرب البونية الثانية - التي تنتهي بها اللوحة القرونولوجية المذكورة - فقد حدثت سنة 3749 من تاريخ خلقة العالم، وسنة 552 من تاريخ تأسيس روما. (2)
يدعي فيكو في هذا الفصل وفي الفصول الأخرى من الكتاب، أن أقدم الأمم هم العبران، ولا يسلم بالقدم الذي «يعزوه المؤرخون» إلى المصريين والآشوريين والصينيين. ويقول: إن مزاعم المؤرخين في هذا الصدد لا تستند إلى أساس قويم، في الواقع إن المصريين يذكرون في تواريخهم من الوقائع ما يعود إلى زمن أقدم من الأزمنة المذكورة آنفا، غير أن ذلك ليس إلا من نوع الأحاديث الخرافية التي لا يجوز الركون إليها بوجه من الوجوه؛ «إذ لا يوجد في دين المصريين وحضارتهم ما يدل على مثل هذا القدم المزعوم. يعلمنا القديس كليمانت الإسكندري بأن كتبهم المقدسة كانت مملوءة بأفظع الأغلاط في الفلسفة والفلك، كما أن طبهم كان نسيجا من التوافه والتضليلات، وأما أخلاقهم فكانت متفسخة جدا؛ لأنها كانت تسمح بالفحش، حتى إنها كانت تحترمه وتقدسه أيضا في بعض الأحيان، كما أن لاهوتهم كان من نوع الخرافات والسحريات، حتى إن صناعتي السكب والنحت أيضا كانتا عندهم في حالة الطفولة تماما. ولا عبرة في هذا الباب بعظمة الأهرام؛ لأن العظمة ليست من الأمور التي لا تأتلف مع البربرية.»
ولذلك كله يؤكد فيكو بأن العبران أقدم من المصريين والصينيين وسائر الأمم جميعا.
هذه قضية ثابتة في نظر فيكو لا يمكن تفنيدها بحجة «أن التواريخ القديمة - غير المقدسة - لم تذكر اسم العبرانيين إلا في وقت متأخر نسبيا»؛ لأن عدم ذكرهم في تلك التواريخ قد نشأ من سبب جلي تماما؛ إنهم كانوا يعيشون عيشة اعتزال، ولذلك بقوا مجهولين لدى الأمم المجاورة لهم مدة طويلة، فإن المؤرخ الإسرائيلي يوسف كان يعترف بأن العبرانيين بقوا مجهولين مدة قرون طوال، وكان يعلل ذلك بقوله: «نحن لا نسكن السواحل، نحن لا نحب أن نتاجر مع الأجانب؛ ولهذا السبب لم نخالط الأمم الأخرى.»
كان بطلميوس فيلادلفي قد تساءل مستغربا: «لماذا لم يقدم أحد من المؤرخين والشعراء القدماء على ذكر قوانين موسى؟» غير أن «ديميتريوس» اليهودي كان قد أزال استغرابه هذا قائلا: إن الذين حاولوا نقل أخبار العبران إلى الأجانب عوقبوا على محاولتهم هذه معاقبة شديدة، بمعجزة من الله بصورة خارقة للعادة. مثلا إن «تيودكت» حرم من نعمة البصر من جراء ذلك، كما أن «تيوبومب» أضاع شعوره للسبب نفسه.
إن فيكو يصدق كل هذه الروايات، ويشترك مع «لاكتانس» في تعليل ذلك بقوله: «لا شك في أن العناية الإلهية شاءت بذلك أن تحول دون تدنس دين الله الحقيقي، باختلاط شعبه المختار مع الأجانب» (ص19). (3)
فلا شك في نظر فيكو بأن أقدم الأمم هم العبران، ويليهم في القدم الكلدان، فالإسكيت، والفينيقيون، ويلي الفينيقيين المصريون، فالإغريق، فالرومان.
فالمصريون إذن هم الشعب الخامس في ترتيب الشعوب من حيث القدم، فهم أحدث من العبران والكلدان والفينيقيين.
ومع هذا يقول فيكو إن المصريين خدموا التاريخ خدمة عظمى؛ لأنهم خلفوا لنا حقيقتين تاريخيتين هامتين، لا تقلان أهمية وعظمة عن أهرامهم الجبارة.
الحقيقة الهامة الأولى؛ هي أنهم كانوا يقسمون تاريخهم إلى ثلاثة عهود وأدوار؛ دور الآلهة، دور الأبطال، دور البشر.
وأما الحقيقة الهامة الثانية؛ فهي أنهم كانوا يقولون بأن الناس تكلموا في كل دور من هذه الأدوار الثلاثة بلغة خاصة به؛ اللغة الهيروغليفية في دور الآلهة، واللغة الرمزية في دور الأبطال، واللغة العامية في دور البشر.
إن المؤرخ الروماني «فارون» كان يقسم عصور التاريخ إلى ثلاثة أقسام، ويسميها على التوالي؛ الدور المظلم، الدور الأسطوري، الدور التاريخي.
إن الدور المظلم الذي يشير إليه فارون يقابل دور الآلهة عند المصريين، كما أن الدور الأسطوري الذي يذكره المؤرخ المومأ إليه يقابل دور الأبطال، وأما الدور التاريخي الذي يشير إليه فارون فيقابل الدور البشري الذي اصطلح عليه المصريون. (4)
يتمسك فيكو بأهداف هذه الآراء والروايات القديمة تمسكا شديدا، ويتخذها أساسا لتفلسفاته في سير التاريخ، إنه يعمم هذه الأدوار الثلاثة على جميع الأمم في جميع العصور، ثم يمزجها بمذهب «الدورات»
Cycles
الذي كان يقول به الفيثاغوريون، ويوجد بذلك نظريته الأساسية في حياة الأمم.
يدعي فيكو بأن التاريخ العام يجتاز ثلاثة أدوار؛ الدور الأول هو دور الآلهة أو الدور الإلهي، وهو الدور الذي يستند فيه الحكم إلى الدين مباشرة، وتجري فيه الأوامر والنواهي حسب ما يعتقد بأنه مشيئة الله أو الآلهة.
الدور الثاني هو دور الأبطال أو الدور البطولي؛ وهو الدور الذي يكون فيه الحكم بيد أبطال أشداء ومحاربين، يعتقد الناس بأنهم من طينة غير طينة الإنسان العادي.
وأما الدور الثالث فهو الدور البشري الذي تتأسس فيه الحضارة بأشكالها المعلومة.
إن هذه الأدوار تتوالى على شكل دائرة تامة، حيث يتصل منتهى الدور الثالث بمبدأ الدور الأول، فكل أمة من الأمم تنتقل في تاريخها من دور الآلهة إلى دور الأبطال فدور البشر، وعندما تبلغ غايتها من الدور الأخير تعود مرة أخرى إلى دور الآلهة، وتبدأ بذلك دورة جديدة على هذه الدائرة الأزلية الأبدية.
قد تتوقف الأمم في ناحية من نواحي هذه الدائرة في دور من هذه الأدوار، غير أنها لا تستطيع أن تخرج من نطاقها أبدا.
هذه هي الدائرة الأزلية التي رسمتها القدرة الصمدانية للأمم، والتي اكتشفها العلم الجديد بفضل تأملات فيكو، هذه هي الدائرة التي تدور عليها تواريخ جميع الأمم في جميع القرون.
إن جميع المساعي التي بذلها فيكو في العلم الجديد تحوم حول هذه النظرية الأساسية، وترمي إلى شرح وتفصيل وتعليل هذه الأدوار الثلاثة في حياة الأمم.
3 (1)
يبدأ فيكو قصة التاريخ العام من الطوفان؛ إن أبناء نوح بعد الطوفان لم يسيروا على وتيرة واحدة، ولم يسلكوا مسلكا متماثلا، بل إن سلوك أولاد سام اختلف عن سلوك أولاد حام ويافث اختلافا كليا؛ فإن أولاد سام بقوا حيث كانوا، فحافظوا على لغاتهم، واعتقاداتهم، وسائر خصالهم البشرية، غير أن أولاد حام ويافث تشتتوا في أنحاء الأرض؛ فتباعدوا بذلك عن الخصال البشرية تباعدا كليا.
كانت الأرض مستورة عندئذ بغابات كثيفة جدا، فانتشر أولا حام ويافث في هذه الغابات إلى جميع الجهات؛ هربا من مطاردة الحيوانات المفترسة، وانتجاعا للماء والغذاء، وسعيا وراء النساء اللاتي كن لا يستسلمن إلى شهواتهم. وعلى هذا الوجه صاروا يعيشون عيشة بهيمية، نسوا خلالها لغاتهم وأديانهم، وفقدوا جميع مزاياهم البشرية، فانحطوا إلى دركة البهائم تماما، حتى إن قامتهم نفسها تباعدت عن القامة البشرية المألوفة، وعادت إلى ما كانت عليه من الضخامة قبل الطوفان؛ فأصبح كل فرد منهم عملاقا. وانقسم البشر لذلك إلى قسمين أساسيين، يختلف الواحد عن الآخر من حيث الأصل والنسل أيضا اختلافا جوهريا؛ القسم الأول كان العبران، والقسم الثاني كان العمالقة.
عاش العمالقة في الغابات منفردين متوحشين، ومسترسلين في شهواتهم البهيمية، من غير أن يقيدوا أنفسهم بقانون أو دين. (2)
واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن جفت الأرض من مياه الطوفان، فأخذت تصعد الأبخرة التي تكون العواصف، وتحدث الرعد والبرق، وتنزل الصواعق. إن حدوث هذه الأنواء الهائلة - لأول مرة - أثر في نفوس العمالقة تأثيرا عميقا، وأدهشهم دهشة شديدة: «بين غيوم هذه العواصف الأولى، وعلى ضوء هذه الأنواء البارقة» (ص117)، علم الإنسان وجود قوة عليا، وسماها «جوبيتر».
وصار هذا مبدأ انقلابات عظيمة جدا في حياة هؤلاء العمالقة، لقد تصور العمالقة هذه القوة العليا عن طريق قياس النفس، وظنوا أن هذه القوة الجبارة تعود إلى شخص مثلهم، يعيش ويشتهي، يرضى ويغضب. إنهم كانوا يدمدمون ويغمغمون - عادة - عندما يغضبون، فلما سمعوا جلجلة الرعد والبرق، شبهوها بغمغمة الغضب، وراحوا يتوهمون أن جوبيتر يظهر غضبه بهذه الغمغمات الهائلة، ويطلب من الناس بعض الأشياء والأعمال، فأخذوا يسعون وراء تفسير معاني هذه الغمغمات وكشف أسرارها؛ لتفهم مقاصد الإله الجبار، والعمل على استرضائه بوسائط شتى.
وهذه كانت البذرة الأولى في سبيل توليد «الديانة والكهانة» في وقت واحد. (3)
إن الفزع الذي استولى على العمالقة من صوت الرعد والبرق حملهم على الالتجاء إلى المغارات، والانقطاع عن حياة التنقل والتشرد، كما أنه جعلهم يتحاشون مجامعة النساء تحت بصر السماء، فصار كل واحد منهم يأخذ امرأة إلى مغارة، ويحتفظ بها لنفسه، ويعيش معها بمفرده. وبهذه الصورة تأسس نظام الزواج، ونشأت عادة العفاف.
إن معيشة رجل مع امرأة واحدة داخل مغارة على هذا الوجه، أدى إلى بقاء الأولاد مرتبطين بالآباء والأمهات؛ فتكونت بذلك الأسر الأولى من الأب والأم والأولاد.
وعندما انقطع العمالقة عن حياة التشرد بهذه الصورة، أخذ كل واحد منهم يزرع الأرض القريبة من مغارته مشتركا مع أفراد عائلته، وبدأت بذلك الزراعة من جهة، وملكية الأرض من جهة أخرى.
إن هذه الحياة الهادئة والتربية المستقرة لم تخل من التأثير على جثة العمالقة وقامتهم أيضا، فإنهم أخذوا يفقدون بالتدريج ضخامة الجثة، إلى أن اكتسبوا القامة الاعتيادية اللائقة بالإنسان. (4)
وكان من نتائج هذه الانقلابات كلها أن تكونت المجتمعات البشرية الأولى على الجبال، في المغاور المتفرقة في سفوحها، وكان قوام كل مجتمع من هذه المجتمعات عائلة واحدة مؤلفة من الأب والأم والأولاد، وكان هذا المجتمع الابتدائي دويلة منعزلة، يرأسها أمير واحد هو الأب، وكان الأب يتمتع بسلطة مطلقة تجاه جميع أفراد العائلة، إنه كان الآمر والناهي الوحيد الذي يتصرف في جميع شئونها، ولكنه كان يستند في أوامره ونواهيه هذه إلى تكهناته عن مقاصد الآلهة، فالأب في هذه المجتمعات الابتدائية لم يكن أبا فحسب، بل كان بمثابة الملك والكاهن أيضا.
إن جميع الانقلابات التي شرحناها آنفا بدأت - على رأي فيكو - ببدء العواصف، ونشأت من تأثير الرعد والبرق في أذهان العمالقة البسطاء. (5)
غير أن هذه التطورات لم تشمل جميع أبناء البشر في وقت واحد، عندما كان بعض العمالقة - وهم الذين كانوا على الجبال - يلجئون إلى المغارات، ويتطورون التطورات التي شرحناها آنفا، بقي القسم الآخر منهم - وهم الذين كانوا يهيمون في السهول - على ما كانوا عليه من التشرد مدة أخرى.
ولكن هذا القسم من أبناء البشر عندما شاهدوا النتائج التي حصل عليها أفراد القسم الأول، أخذوا يلتجئون إليهم، ويعرضون خدماتهم عليهم؛ فصاروا ينضمون إلى جماعة العائلة بصفة خدام وموال. فتوسع بذلك نطاق العائلات، وأصبحت كل واحدة منها مؤلفة من الأب والأم والأولاد، مع عدد من الخدم والموالي الملتجئين إليها.
إن هؤلاء الخدام الملتجئين صاروا يشتركون في زراعة الأرض من غير أن يمتلكوها، ويخضعون لسلطة الأب المطلقة، مثل أفراد العائلة الأصلية. وبذلك توسعت سلطة الآباء، وأخذت تشمل جماعة من الناس ، علاوة على الأم والأولاد، فأصبح الآباء بمثابة رؤساء بكل معنى الكلمة؛ ولذلك سموا باسم الأبساء.
1 (6)
إن نظرية «توسع العائلة» على هذا الوجه بانضمام الخدم الملتجئين إليها لمن الأمور التي يهتم بها فيكو اهتماما خاصا، إنه يعتبرها من أهم الحقائق التي اهتدى إليها في علمه الجديد، ويحاول أن يستنتج منها سلسلة طويلة من النتائج والوقائع الهامة.
إن هؤلاء اللاجئين قاموا بالخدمة المطلوبة منهم - في بادئ الأمر - عن طيبة خاطر؛ لما وجدوا في هذه الحياة الجديدة من الراحة والطمأنينة بالنسبة إلى حالتهم السابقة، ولما اعتقدوا بأن الأبساء لم يكونوا من طينة اعتيادية.
غير أنهم بعد ذلك بدءوا يتذمرون من وضعهم، وأخذوا يحاولون العصيان على أسيادهم؛ عندئذ اضطر الأبساء إلى الاتفاق فيما بينهم ليتمكنوا من مقاومة مطاليب الخدم، وتكونت بذلك «الجماعات السياسية» التي تتألف من عدة عائلات؛ ألف الأبساء فيها طبقة النبلاء، وألف الخدم طبقة العوام. فتحددت عندئذ سلطة كل أبيس من الأبساء بسلطة مجلس النبلاء، وتأسس «الحكم الأرستقراطي» على هذا المنوال.
ولكن هذا التدبير - تدبير اتفاق الأبساء فيما بينهم - أصبح غير كاف لكبح جماح الخدم بمرور الزمن؛ إذ إن هؤلاء الخدم أيضا اتفقوا فيما بينهم، وأخذوا يتقدمون ببعض المطاليب، ويضطرون النبلاء إلى إجابة طلباتهم من حين إلى حين. وفي الأخير حينما قوي ساعدهم شاركوا النبلاء في الحكم، فتأسس بذلك «الحكم الديمقراطي».
إن اشتراك الخدم والعوام في الحكم - على هذا المنوال - أدى إلى تفشي الفوضى بعد مدة من الزمن، عندئذ ظهر رجل قوي شديد البأس، وقبض على زمام الأمور، وأعلن نفسه ملكا، وصار يسود على العوام والنبلاء على حد سواء، فتأسس بذلك «الحكم الفردي»، أو «الحكم الملكي». (7)
يسرد فيكو ويشرح هذه الآراء والنظريات المختلفة في عدة محلات من كتابه، بتعبيرات وأساليب متنوعة، ويقدم لبعضها أمثلة وأدلة مختلفة، كلها مستقاة من أساطير اليونان ومن تاريخ اليونان والرومان.
إن جميع الأمم اعتقدت ب «جوبيتر» تحت أسماء مختلفة، كما اعتقدت بابن جوبيتر «هرقلس» أيضا بأسماء متنوعة. والسيكلوب
Cyclopes
الذين تذكرهم الأساطير اليونانية، هم - في حقيقة الأمر - العمالقة الذين التجئوا إلى المغارات.
وأما الأسطورة القائلة بأن جوبيتر «صرع السيكلوب» فهي ترمز إلى واقعة حقيقية؛ واقعة انصعاق العمالقة من جراء الرعد والبرق، والتجائهم إلى المغارات، واضطرارهم إلى تغيير أساليب حياتهم تغييرا كليا.
والأسطورة القائلة بأن «جونون» زوجة جوبيتر وأخته، حتمت على هرقلس أعمالا جبارة، فهي أيضا ترمز إلى واقعة حقيقية؛ إنها تدل على أن قدسية الزواج ربت الإنسان على الفضائل العالية.
إن قصة «ديانا» أيضا تعبر عن واقعة تاريخية؛ إنها تمثل حياة الطهر التي بدأت بعد تأسيس نظام الزواج، إذ من المعلوم أن ديانا كانت تلتجئ إلى الظلام لتقترن ب «آنديميون» حسب أساطير اليونان، والظلمة المذكورة في هذه الأسطورة ما هي إلا ظلمة المغارات، التي صار الإنسان لا يقترن بالمرأة إلا فيها بعد التجاء العمالقة إليها.
وهكذا يجد فيكو في أساطير اليونان سلسلة طويلة من الدلائل على صحة آرائه ونظرياته في هذا الصدد. (8)
يطبق فيكو هذه الآراء على تاريخ اليونان والرومان، وتاريخ القرون الوسطى أيضا.
إن دور الأبطال لم يستمر مدة طويلة عند اليونان؛ ذلك لأن ظهور الفلاسفة عندهم عجل أمر انتقالهم من الدور الإلهي إلى الدور البشري، من غير أن يتركهم يهيمون مدة طويلة في الدور البطولي.
ولكن الوقائع سارت بنظام أكثر من ذلك عند الرومان؛ فطال الدور البطولي مثل الدور الإلهي، وعندما وصل القوم إلى الدور البشري، كانوا قد نسوا الدور الإلهي؛ ولذلك سموا الدور المتقدم على الدور البطولي باسم «الدور المظلم».
وأما تاريخ القرون الوسطى فهو أيضا يؤيد - على زعم فيكو - نظرياته هذه؛ ففي أوائل القرون الوسطى عاد الإنسان إلى بربرية جديدة شبيهة بالبربرية الأولى، كما أنه اجتاز دورا إلهيا جديدا، هو الدور الذي تولى فيه الملوك الرتب الدينية، ووقفوا ذواتهم الملكية إلى خدمة الله. وقد أعقب هذا الدور الإلهي الثاني دور بطولي جديد، عندما نشأت الفروسية ونشبت الحروب الصليبية، وأما دور الحضارة الثانية الذي كان مستمرا في عهد فيكو، فلم يبدأ إلا بعد انقضاء الدور البطولي الآنف الذكر.
4 (1)
إن الآراء والنظريات التي لخصناها آنفا تدل دلالة واضحة على أن فيكو لم يتبع في أبحاثه طريقة استقراء الحادثات، ولم يتقيد في تفكيره بقيود الواقعات.
إن ذلك نتيجة طبيعية للخطة التي وضعها، والطريقة التي قررها، والنظرية التي قال بها في شأن طبيعة الحوادث الاجتماعية.
من الحقائق الثابتة التي لا مجال للشك فيها - على زعم فيكو - «أن العالم الاجتماعي من صنع الإنسان»، فمن الممكن، بل من الضروري البحث في أصول التطورات التي تحدث في عالم الاجتماع، بالنظر إلى ما يحدث في النفس البشرية، «فيجب أن نعجب كل العجب، من الفلاسفة الذين يحاولون بكل جد أن يعرفوا عالم الطبيعة، ثم هم يهملون التأمل في عالم الاجتماع، إنهم يحاولون أن يعرفوا عالم الطبيعة، مع أنه من صنع الله، ومع أن الله خص علم ذلك العالم بنفسه الصمدانية، ويهملون التأمل في عالم الاجتماع مع أنه في استطاعة الإنسان أن يعرف هذا العالم؛ لأنه من صنعه» (ص67).
ولهذا نجد أن فيكو يبحث في أصول العلم الجديد من غير أن يتقيد بكتب التاريخ، حتى إنه يقرر - أوليات التاريخ في مصر والشرق - «استنادا إلى حكم العقل وحده، من غير أن يرجع إلى الأخبار الواردة في هذا الشأن» (ص273).
وذلك لأنه يعتقد أن «من يتأمل في العلم الجديد، يكون قد خلق موضوع بحثه بنفسه، فيستطيع أن يعرف حقيقة ذلك الموضوع بصورة مضبوطة تماما.»
إن «العلم الجديد» ينحو نحو الهندسة من جميع الوجوه؛ من المعلوم أن المفكر الرياضي - في أبحاثه الهندسية - يتصور عالم الأبعاد والأشكال، ويتأمل فيه في الوقت نفسه، وبتعبير آخر إنه يخلق ذلك العالم، ويبحث فيه في وقت واحد. إن عمل المفكر في العلم الجديد لا يختلف عن ذلك أبدا.
ولهذا السبب يخصص فيكو فصلا كبيرا من فصول كتابه الأول لسرد «الحقائق الأولية والبديهية» التي يستند إليها «العلم الجديد»، أسوة بما يفعله الرياضيون في كتب الهندسة. (2)
إن عدد الحقائق الأولية التي يذكرها فيكو - ويطلب التسليم بها مقدما - تبلغ أربع عشرة ومائة.
ندرج فيما يلي ثلاثة نماذج من تلك «الحقائق الأولية والبديهية»؛ لكي نعطي فكرة واضحة عن مناحي تفكير فيكو في هذا الصدد:
إن الله منع العبرانيين عن الكهانة، هذا المنع هو أساس دينهم، في حين أن الكهانة تكون أساس المجتمع عند جميع الأمم الوثنية؛ ولذلك انقسم العالم القديم إلى قسمين أساسيين؛ عبراني وأجنبي (رقم 24).
إن تاريخ اليونان الذي حفظ لنا كل ما نعرفه عن العالم الوثني القديم - باستثناء الرومان - يبدأ من عهد الطوفان ومن دور العمالقة، هذه العنعنة تقسم الجسم البشري إلى نوعين أصليين؛ نوع العمالقة ونوع الإنسان ذي القامة الطبيعية، أي نوع الأجانب ونوع العبران. إن هذا الاختلاف لا يمكن أن يتأتى إلا من تربية الأولين البهيمية، وتربية الآخرين الإنسانية، فيمكننا أن نستنتج من ذلك أن أصل العبرانيين يختلف عن أصل غيرهم من الأمم (رقم 27).
إذا سلمنا - والعقل لا يمتنع عن التسليم بذلك أبدا - إذا سلمنا أن الإنسان بعد الطوفان سكن الجبال أولا، فسيكون من الطبيعي عندئذ أن نقول إنهم نزلوا السهول بعد مدة من الزمن، وبعد مدة طويلة جدا، وثقوا بأنفسهم إلى حد الانتقال إلى سواحل البحار (رقم 97).
5 (1)
إن فكرة الديانة ونظرية القدرة الصمدانية والعناية الإلهية تلعب دورا هاما في «العلم الجديد»؛ يسخف فيكو بالفلاسفة والعلماء الذين لا يعترفون بالقدرة الصمدانية، أو يبحثون في الحياة الاجتماعية من غير أن يأخذوا بنظر الاعتبار العناية الإلهية - أمثال «بوفندورف»، و«غروتسيوس» - لأنه يعتقد أن الحياة الاجتماعية لا تنفك عن الديانة، ويدعي أنه لولا الدين لما وجدت الحياة الاجتماعية.
ولذلك نراه يكثر من ذكر الله وعناية الله في كل فصل من فصول كتابه، وفي معظم أبحاثه، فإنه تارة يلتجئ إلى فكرة الألوهية لشرح الوقائع التاريخية، وطورا يتخذ الوقائع التاريخية برهانا على العناية الإلهية.
ويقول مثلا - عندما يتكلم عن ضخامة جثة العمالقة بعد الطوفان: «علينا أن نعجب بالعناية الإلهية التي سمحت للإنسان الأول أن يكتسب تلك الجثة؛ لكي يتمكن من التغلب على الحيوانات المفترسة، فيستطيع أن يعيش في وسط تلك الطبيعة القاسية.»
وعندما يشرح نشوء الوثنية يقول: «لقد سمحت العناية الإلهية للإنسان الأول بأن يقع في هذا الضلال، فيخاف غضب آلهة موهومة، ويعتقد بالكهانات الباطلة؛ لكي يجد في ضلاله هذا مبدأ سلوك ونظام، في ذلك الدور الذي كان غير قادر فيه بعد على تمييز الحق من الباطل.»
وعندما يتكلم عن تكوين العائلات يقول: «لقد أمرت القدرة الصمدانية بتكوين دولة العائلة بواسطة سلطة الآباء، من غير أن تلتجئ إلى استبداد القوانين.»
وهكذا يلتجئ فيكو في معظم مراحل تفكيره وتعليله إلى فكرة العناية الإلهية، ويوصل نزعته هذه إلى أقصى حدودها حينما يقول: «لقد بحث الفلاسفة عن دلائل القدرة الصمدانية والعناية الإلهية بين مشاهد الطبيعة، وفاتهم أن تلك القدرة والعناية تتجلى بأجلى مظاهرها في الحياة الاجتماعية. فالعلم الجديد يسعى إلى تلافي هذا النقص بإظهار وتبيين دلائل عناية الله من خلال وقائع التاريخ، فهذا العلم بمثابة «لاهوت مدني»، يبرهن على العناية الإلهية بالوقائع التاريخية» (ص84). (2)
ولكي نعطي فكرة أوضح من ذلك عن الدور الذي يعزوه فيكو إلى العناية الإلهية في الوقائع التاريخية، ننقل فيما يلي بعض الفقرات التي كتبها في الكتاب الأخير من العلم الجديد: «لما نورت وقوت القدرة الإلهية حقيقة المسيحية بوسائط خارقة للعادة - بفضائل الشهداء ضد السلطة الرومانية، وبتعاليم الآباء ومعجزات القديسين ضد حكمة اليونان الفارغة - قامت أمم محاربة - البرابرة الأوروبيون في الشمال، والعرب المحمديون في الجنوب - وصارت تهاجم «ألوهية يسوع المسيح» في كل الجهات، وقد سمح الله عندئذ أن ينشأ نظام جديد بين الأمم؛ لكي تتأسس هذه الحقيقة - حقيقة ألوهية يسوع المسيح - بصورة لا تتزلزل أبدا؛ ولذلك أعاد الله خصال الدور الأول، وأوجد خصالا جديدة مثلها، استحقت نعت «الإلهية» أكثر من الأولى؛ فأخذ الملوك الكاثوليكيون - حماة الدين - في كل الجهات يرتدون ملابس رجال الدين، ويقفون ذواتهم الملكية على خدمة الله» (ص357). (3)
وقد كتب فيكو في الفصل الرابع من الكتاب الأخير ما مؤداه: «لقد سمحت العناية الإلهية للعوام بأن يتنافسوا مع الخواص في التقوى والديانة مدة طويلة، قبل أن يشتركوا معهم في الحقوق المدنية. إن تمسك الشعب بالدين وتحمسه للدين هو الذي أوصله إلى الاشتراك في السلطة المدنية، وهو الذي فسح المجال لتكوين الحكومات الشعبية، ومع هذا لما كان كل شيء في مثل هذه الحكومات يستند إلى نتائج الانتخابات؛ حالت العناية الإلهية دون سيطرة الصدف فيها، فأمرت أن يكون حق التصويت مقيدا بمقدار من الثروة، وأن يعتبر الأشخاص النشيطون والمقتصدون والكرماء أليق بالحكم من الخاملين والمسرفين والمعوزين، وبتعبير آخر: إنها أمرت أن يعتبر الأغنياء المتصفون ببعض الفضائل أليق بالحكم من الفقراء المملوئين بالمفاسد» (ص380).
ولكن المواطنين لم يكتفوا بالتميز بثروتهم، بل حاولوا أن يجعلوا تلك الثروة آلة لزيادة سلطتهم؛ فحدثت عندئذ ثورات وحروب أهلية أدت إلى فوضى عامة. «على هذا الداء الاجتماعي الوبيل تستعمل العناية الإلهية أحد الأدوية الثلاثة التي نذكرها فيما يلي: «أولا؛ يظهر من بين أفراد الشعب رجل مثل أوغسطس، يؤسس الملكية، ويضع حدا للفوضى.» «وأما إذا لم تجد القدرة الإلهية مثل هذا الدواء في الداخل، فتأتي به من الخارج؛ يأتي شعب أفضل من الشعب الفاسد، ويستولي عليه بقوة السلاح.» «وفي الأخير إذا لم يحدث أحد هذين الأمرين، واستمرت حالة الفوضى - إذا لم يتفق الشعب على اتخاذ أحدهم ملكا، ولم يأت شعب أفضل ويستولي على البلاد - حينئذ تطبق العناية الإلهية لهذا الداء المزمن، الدواء الأخير، ألا وهو الزوال»» (ص382). (4)
يظهر من هذه الأمثلة بكل وضوح أن فيكو ينتهز جميع الفرص التي تسنح له لذكر العناية الإلهية، أو للبرهنة عليها.
وأما أقوى الدلائل التي يذكرها فيكو للبرهنة على أن العناية الإلهية تدير الشئون البشرية، فهي - على زعمه - الحقيقة التالية: «إن الأصلح والأفضل من الأفراد هم الذين حكموا ويحكمون على الدوام، في كل حكومة بلا استثناء» (ص355).
وبهذه الوسيلة يتطرق فيكو إلى جمهورية أفلاطون، فيقول: «لقد أضاف أفلاطون إلى أشكال الحكومات الثلاثة شكلا رابعا، هو شكل الحكومة التي سيحكم فيه الأفضلون، إن هذه الجمهورية التي كان يتخيلها أفلاطون ويدعو إليها، كانت موجودة - في حقيقة الأمر - منذ أوائل الاجتماع الإنساني؛ فإن في كل دور من أدوار التاريخ كان الأفضلون هم الذين حكموا بنعمة الله وعنايته.»
إن فيكو يحاول أن يبرهن على صحة هذا الرأي في كل مناسبة، وينهي كتابه بالعبارات التالية: «نستطيع أن نستنتج من كل ما قلناه في تأليفنا هذا أن العلم الجديد يحمل معه - حتما - روح التقوى، وأن الحكمة الحقيقية لا يمكن أن توجد بلا ديانة.» (2) مقدمة التاريخ والعلم الجديد
بعد أن استعرضنا أهم الآراء والنظريات المسرودة في «العلم الجديد»، نستطيع أن نقدم على مقارنة الكتاب المذكور بمقدمة ابن خلدون؛ لنتبين أوجه التفاضل بين ما كتبه المفكر العربي في القرن الرابع عشر، وبين ما نشره الباحث الإيطالي في القرن الثامن عشر.
1
إن أول ما يستوقف النظر عند مقارنة مقدمة ابن خلدون بالعلم الجديد، هو الفرق العظيم والاختلاف الكلي الموجود بين الكتابين، من حيث المواد والمواضيع، على الرغم من اشتراكهما الظاهر في الأهداف والأغراض، فإن كليهما يرميان إلى غاية واحدة هي معرفة طبائع الأمم والمجتمعات، وتعيين نظام سير التاريخ العام، غير أن كل واحد منهما يحاول أن يصل إلى هذه المعرفة، باحثا في ساحة معينة، مستندا إلى مواد ووقائع خاصة.
إن العلم الجديد يستند - قبل كل شيء - إلى التاريخ القديم، ويستمد عناصر بحثه في الدرجة الأولى من تاريخ اليونان والرومان، من غير أن يعير التفاتة ما إلى تاريخ العرب والإسلام، في حين أن مقدمة التاريخ - بعكس ذلك تماما - تستند إلى تاريخ العرب والإسلام، من غير أن تأخذ بنظر الاعتبار تاريخ اليونان والرومان. فلا نغالي إذا قلنا إن كتاب فيكو بمثابة «تفلسف في تاريخ اليونان والرومان»، في حين أن مقدمة ابن خلدون بمثابة «تفلسف في تاريخ العرب والإسلام».
إن وجود هذا الاختلاف الكبير بين الكتابين - من وجهة نطاق البحث، ومواد الإنشاء والتفكير - يجعل المقارنة والمفاضلة بينهما من الصعوبة بمكان؛ ذلك لأن وجوه التفاضل بينهما لا تظهر مباشرة بسبب اختلاف ميادين البحث، فإظهار هذا التفاضل يتطلب إنعام النظر في الأمر، ولا يتم إلا بصعوبة كبيرة.
وللتغلب على هذه الصعوبة يترتب علينا:
أولا:
أن نبحث عن المواضيع المشتركة في الكتابين مهما كانت قليلة، وأن نستعرض المسائل التي عالجناها في وقت واحد مهما كانت محدودة.
ثانيا:
أن نقارن بين الكتابين من حيث الطريقة المتبعة في معالجة الأبحاث.
ثالثا:
أن نقارن بينهما من حيث شمول النظر، ومبلغ التعمق في البحث والتفكير.
وعلى هذه الصورة وحدها نستطيع أن نصل إلى حكم علمي تحليلي، في أمر المفاضلة بين العلم الجديد وبين المقدمة، على الرغم من اختلاف ساحات البحث ومواد التفكير في كل منهما.
2 (1)
إن أبرز المسائل التي اشترك في بحثها الكتابان هي مسألة العمالقة.
من المعلوم أن ضخامة جثة الإنسان الأول وطول قامته، كانت من الاعتقادات المنتشرة بين الناس من قديم الزمان.
ابن خلدون لا يصدق الروايات التي تحوم حول العمالقة، ويفندها بصراحة وشدة في عدة فصول من المقدمة. إنه يعتبر هذه الروايات من «الأوهام العريقة في الكذب»، ويشرح أسباب تولد هذه الأوهام؛ إن مثار هذه الأوهام هو ملاحظة المباني الكبيرة، والهياكل الضخمة التي تركها لنا الأولو. لقد أعجب الناس بعظمة تلك الهياكل وضخامتها، وظنوا أن سبب هذه الضخامة هو ضخامة جثة بناتها، في حين أن السبب الحقيقي ما هو إلا عظمة الدول التي شيدت تلك الهياكل، وكثرة الأيدي التي استخدمتها، وقوة الآلات والمخال التي استعملتها في هذا السبيل.
في حين أن فيكو صدق رواية العمالقة على علاتها، ولم يكتف بتصديقها فحسب، بل اهتم بها اهتماما كبيرا، وبنى عليها قسما كبيرا من آرائه ونظرياته. إنه اعتبر «وجود العمالقة» من الأمور التي يجب التسليم بها، ومن الحقائق الأولية التي لا بد من أخذها بنظر الاعتبار، عند البحث في سير التاريخ ونشوء المجتمعات البشرية؛ ولذلك كرر اسم العمالقة وقصص العمالقة عشرات المرات في الفصول المختلفة من «العلم الجديد». (2)
والمسألة الثانية التي نجدها مشتركة بين الكتابين هي مسألة علاقة الاجتماع بالدين:
ابن خلدون يعتبر الإنسان مدنيا بالطبع، ويقول إن الاجتماع الإنساني ضروري، ولا يشترك في الرأي مع القائلين بأن الاجتماع لا يقوم إلا بالدين.
إنه يشير في المقدمة الأولى من الباب الأول إلى آراء بعض الفلاسفة الذين «يحاولون إثبات النبوة بالدليل العقلي»، فيقولون لا بد للبشر من الحكم الوازع ، ثم يقولون: «وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر، وأنه لا بد أن يكون متميزا عنهم بما يودع الله فيه من خواص هدايته؛ ليقع التسليم له، والقبول منه، حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزييف.» ولكنه يفند هذه الآراء قائلا: «هذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه؛ إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك، بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته» (ص43-44).
يكرر ابن خلدون رأيه في هذا الصدد في الفصل الذي يقرر «أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره»، إذ يقول: «إن الاجتماع للبشر ضروري، وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه»، «لا بد لهم في الاجتماع من وازع وحاكم يرجعون إليه، وحكمه فيهم تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند الله، يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه، وتارة إلى سياسة عقلية، يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم» (ص303).
في حين أن فيكو يدعي بأن الحياة الاجتماعية تقوم على الديانة بوجه عام، ويقول بصراحة قاطعة: «لولا الدين لما وجد اجتماع على الإطلاق.»
3
وأما من وجهة طريقة البحث والتفكير، فالاختلاف كبير جدا بين الكتابين والمؤلفين: (1)
ابن خلدون يستند في آرائه ونظرياته إلى الوقائع بوجه عام، إنه لا يسهو عن الأغلاط والأوهام التي كثيرا ما تتسرب إلى الأخبار المنقولة، ولا يتأخر في البحث عن الطرائق التي تضمن تمييز الخطأ من الصواب في تلك الأخبار، ومع هذا فإنه يتخذ الحادثات المشهودة أو المنقولة أساسا لأبحاثه على الدوام، ويسير في تفكيره على «طريقة استقرائية» وفقا لما تتطلبه المناحي العلمية الحديثة.
إنه يذكر في الواقع في عنوان كل فصل من فصول الكتاب «القضية» التي يقول بها، ثم يأخذ في سرد الأدلة التي تبرهن عليها، ولكن مما يجب أن يلاحظ في هذا الصدد، أن هذه الخطة تتعلق بكيفية عرض نتائج الأبحاث، أكثر مما تتعلق بسير الفكر خلال البحث. إن قراءة الفصول بإمعان تدل دلالة واضحة على أن ابن خلدون يسير في تفكيره - في أغلب الأحوال - على طريقة استقرائية صريحة.
أما فيكو فإنه لا يتقيد كثيرا بالوقائع والحادثات، فيبقى بعيدا عن مناحي الأبحاث الاستقرائية بوجه عام. إنه لم يتخلص في تفكيره من تأثير الفلسفة الأفلاطونية، فيشبه التاريخ بالهندسة، ويحاول أن يكشف سنن سير التاريخ، ونظام المجتمع مستندا إلى ما يعرفه عن طبيعة العقل البشري، ومعتمدا على بعض القضايا التي يعتبرها من «الحقائق الأولية التي يجب التسليم بها مبدئيا»، وفق الخطط التي تتبع عادة في الأبحاث الرياضية والهندسية.
ومن المعلوم أن الأبحاث التي تمت منذ عهد فيكو دلت دلالة قاطعة على أن قوانين الحوادث الاجتماعية، وأسباب الوقائع التاريخية، مما لا يمكن اكتشافها إلا بملاحظة تلك الحادثات، واستقراء تلك الوقائع.
وأما الفلسفة الاجتماعية التي كانت تحاول اكتشاف قوانين الاجتماع عن طريقة استنتاجها من المباحث النفسية، فقد أفلست إفلاسا تاما؛ وذلك لأنه قد تبين لجميع الباحثين أن نفسية الإنسان تتطور بتطور الحياة الاجتماعية، وأن النفسية الاجتماعية تختلف عن النفسية الفردية، كما أن كثيرا من الحادثات النفسية التي تظهر في الوهلة الأولى كأنها فردية، لم تتكون في حقيقة الأمر إلا تحت تأثير الحياة الاجتماعية. ولهذا السبب ليس من سبيل إلى معرفة قوانين الاجتماع وعوامل التاريخ، إلا من طريق ملاحظة الحوادث الاجتماعية، ودرس الوقائع التاريخية. (2)
وهنالك فروق بارزة أخرى تميز «مقدمة ابن خلدون» من «العلم الجديد» من وجهة النزعة العامة؛ وهي الفروق الناجمة من خلط الأبحاث العلمية بالمسائل الدينية، أو فصلها عنها فصلا واضحا.
إن ابن خلدون - مثل فيكو - يعتقد بالله، ويقول بقدرة الله وعناية الله، ويعتبر نظام الكون ونظام المجتمع من سنن الله، ويظهر اعتقاده هذا في كل فصل من فصول كتابه، بوسائل شتى.
ومع هذا فسلوك ابن خلدون في هذا الباب يختلف من سلوك فيكو اختلافا كليا؛ يسير ابن خلدون في تفكيره وتعليله سيرا مستقلا عن الدين، ولا يذكر الله وقدرة الله - في أكثر الأحوال - إلا في نهاية البحث ، بحيث لو حذفت العبارات المتعلقة بالله لما تغير شيء من تسلسل المعاني وقوة الدلائل بوجه عام.
في حين أن فيكو - بعكس ذلك تماما - يمزج فكرة الله بأبحاثه مزجا تاما، ويلتجئ إليها في كل خطوة من خطوات تفكيره تقريبا، فلو حذفت العبارات المتعلقة بالله من أبحاث «العلم الجديد»؛ لانقطع تسلسل الأفكار في أغلب الأحوال، ولضاعت المعاني تماما في بعض الأحيان.
إن ابن خلدون لم يرم في أبحاثه إلى غاية دينية، فإنه يقوم بتلك الأبحاث لمعرفة الحقيقة ذاتها، وأما فيكو فيرمي في أبحاثه إلى غاية دينية صريحة، إنه يقوم بتلك الأبحاث بقصد البرهنة على العناية الإلهية بالوقائع التاريخية، كما يشرح ذلك بأصرح العبارات. (3)
وأما من وجهة سعة النظر، وشمول البحث، وعمق التفكير، فلا شك في أن كفة المقدمة ترجح على كفة العلم الجديد رجحانا كبيرا جدا.
ذلك لأن ابن خلدون قد أدرك في مقدمته تعضل الحوادث الاجتماعية، وتعقد الوقائع التاريخية حق الإدراك، فحاول أن يلم بجميع العوامل المؤثرة فيها، وبحث عنها بمقياس واسع جدا، شمل بناء المجتمع وطراز المعيشة أيضا.
في حين أن أبحاث فيكو لم تخرج كثيرا عن نطاق الأدوار الثلاثة - المروية منذ القرون الأولى - وأشكال الحكومات الثلاثة - المقررة في كتب السياسة منذ عهد اليونان - ولم يلتفت قط إلى بناء المجتمع، ولا إلى وسائط المعاش.
4
يتبين من التفاصيل التي ذكرناها آنفا أن ابن خلدون يتفوق على فيكو تفوقا كبيرا، من حيث شمول النظر، ونزعة التعمق، وطريقة البحث والاستقراء، ويقترب من طرائق الأبحاث العلمية الحديثة بوجه عام، وطرائق الأبحاث التاريخية والاجتماعية بوجه خاص، اقترابا واضحا.
ومما يجدر بالملاحظة في هذا الصدد أننا قمنا بهذه المقارنات من غير أن نعتبر تواريخ كتابة الكتابين، وأما إذا أخذنا فرق الزمن أيضا بنظر الاعتبار، فإننا نضطر إلى التسليم بأن رجحان كفة ابن خلدون في ميزان المفاضلة، يصبح أكثر بروزا وأشد بداهة.
إذ من المعلوم أن مقدمة ابن خلدون كتبت سنة 1377، في حين أن العلم الجديد نشر سنة 1725، وذلك يعني أن المقدمة أقدم من العلم الجديد ب 348 سنة.
ومما يجب ألا يغرب عن البال أن هذه القرون الثلاثة والنصف التي مرت بين كتابة الكتابين، كانت من أخصب القرون في تقدم الفكر البشري، وأغناها في الانقلابات الفكرية والعلمية الأساسية.
ذلك لأنه في هذه المدة حدثت «حركة الانبعاث» في أوروبا، وتم اكتشاف أمريكا، واختراع الطباعة، كما تم الطواف حول العالم، واختراع التلسكوب، فتوسعت بذلك آفاق معارف الإنسان توسعا هائلا. وفي خلال هذه المدة نشأ «ديكارت، وبيكن، وكيلر، ونيوتن»؛ فانقلبت طرائق التفكير والبحث انقلابا كليا، وتعبدت طرق الأبحاث العلمية، متخلصة من أوحال «التفكير الدرساني»
Schoiastique
بصورة قطعية.
فمن أعظم الأمور المشرفة لابن خلدون أنه سار سيرا علميا في تفكيره قبل حدوث الانقلابات الفكرية التي أشرنا إليها، في حين أن فيكو ظل بعيدا عن مسالك التفكير العلمي، مع أنه عاش وكتب بعد الانقلابات العظيمة التي ذكرناها آنفا. •••
إن روبرت فلينت كان قد قال - كما ذكرنا ذلك سابقا: «إن حق ابن خلدون في ادعاء شرف التسمية باسم مؤسس علم التاريخ أو فلسفة التاريخ، أثبت وأقوى من حق كل كاتب سبق فيكو.»
أما أنا فلا أتردد في القول - مستندا إلى الأبحاث والمقارنات الآنفة الذكر: إن حق ابن خلدون في هذا المضمار أقوى وأثبت من حق فيكو نفسه أيضا؛ وذلك ليس لأنه كان أقدم منه كثيرا فحسب، بل لأنه كان أقرب إلى الروح العلمية الحديثة، على الرغم من هذه الأقدمية أيضا.
ابن خلدون ومونتسكيو
(1) حياة مونتسكيو وآثاره (1)
مونتسكيو
Montesquieu
من أشهر رجال الفكر والقلم الذين نبغوا في فرنسا في القرن الثامن عشر. ولد في قصر يقع بالقرب من مدينة «بوردو» سنة 1689، ومات في باريس سنة 1755.
كان والده من صنف النبلاء، فعمل كل ما يجب عمله لتعليم وتثقيف ابنه وفق تقاليد النبلاء في ذلك العصر.
وقد أظهر مونتسكيو شغفا شديدا بالدرس منذ صباه، أكمل دراسته الكلاسيكية بنجاح، ثم أكب على تعلم الحقوق، وصار عضوا في محكمة بوردو وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وبعد ذلك بسنتين أصبح رئيسا للمحكمة المذكورة، إذ ورث رئاستها عن عمه، كما ورث عنه - في الوقت نفسه - بارونية مونتسكيو، وصار يلقب لذلك بلقب «بارون دو مونتسكيو»، بعد أن كان يسمى إلى ذلك التاريخ - أي إلى سنة 1716 - باسم «شارل لويس دو برده»
De Bréde .
إن اسم «مونتسكيو» الذي اشتهر به هذا الكاتب المفكر، إنما هو مختصر من هذا اللقب الجديد. (2)
لقد انصرفت أولاع مونتسكيو في بادئ الأمر إلى نواح مختلفة، حتى إنه اشتغل عدة سنوات بمباحث طبيعية متنوعة، تحوم حول التاريخ الطبيعي، والتشريح، والطب، والفيزياء، غير أن جميع أولاعه تمركزت واستقرت في الأخير في السياسة والحقوق.
لقد أولع مونتسكيو بالكتابة أيضا، كتب ونشر مقالات كثيرة في مواضيع متنوعة، ولكن شهرته في عالم الأدب لم تبدأ إلا بالرسائل الفارسية
Lettres persanes
التي نشرها سنة 1721. كتب هذه الرسائل على لسان رجل فارسي متخيل، أتى إلى أوروبا سائحا، وأخذ يكتب إلى أحد أصدقائه سلسلة رسائل يصف بها مشاهداته وملاحظاته. لقد تستر مونتسكيو وراء هذه الرسائل الفارسية لنقد الكثير من النظم والتقاليد السائدة عندئذ، بلسان لاذع وأسلوب متهكم.
ولكنه كان يطمع في عمل أكثر جدية وأعظم أهمية من ذلك بكثير، كان يمني نفسه بتأليف كتاب «حقوقي سياسي» هام، فأخذ يعد نفسه لكتابة «روح القوانين»
Esprit des lois ، وقد رأى من الضروري أن يتفرغ بكليته لتحقيق أمنيته هذه، فباع رئاسة المحكمة التي كانت بعهدته،
1
وبعد ذلك أخذ يقضي جميع أوقاته بالبحث والمطالعة في قصر أسرته.
غير أن مونتسكيو أدرك بعد مدة وجيزة عدم كفاية المطالعة وحدها لتحقيق أمنيته، فقام برحلة إلى مختلف البلاد الأوروبية؛ بغية الاطلاع على النظم السياسية السائدة فيها. استغرقت رحلته هذه ثلاث سنوات - وذلك من 1728 إلى 1731 - وشملت البلاد الألمانية والإيطالية المختلفة، مع المجر والنمسا وسويسرا وهولاندا وإنجلترا، وقد قضى مونتسكيو معظم هذه المدة في المملكة الأخيرة، وتأثر بالنظم التي شاهدها هناك تأثرا كبيرا.
وحينما عاد من هذه الرحلة الطويلة لم يرغب في الاستقرار بباريس، بل رجع إلى قصر أسرته، وانزوى فيه، وأخذ يشتغل هنالك بالمطالعة والكتابة من جهة، وبإدارة شئون أراضيه من جهة أخرى، ولم يعد يذهب إلى باريس إلا من وقت إلى آخر لمدد قصيرة. (3)
وقد نشر مونتسكيو سنة 1730 كتابا بعنوان: «ملاحظات عن أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم». إنه كان شرع في إعداد هذه الملاحظات ليجعلها فصلا من تأليفه الأساسي «روح القوانين»، ولكنه حينما قطع شوطا في كتابتها لاحظ أنها توسعت توسعا كبيرا، فلم ير من المعقول اعتبارها فصلا من كتاب، فقرر أن ينشرها على شكل كتاب مستقل.
وأما كتاب روح القوانين نفسه فلم ينته مونتسكيو من تأليفه ونشره إلا سنة 1748، وقد صرح في المقدمة التي صدره بها أنه اشتغل بتأليفه مدة لا تقل عن عشرين عاما.
لقد نال روح القوانين عقب انتشاره شهرة هائلة استوجبت إعادة طبعه أكثر من عشرين مرة خلال سنة ونصف السنة.
ولم يعمر مونتسكيو بعد الانتهاء من تأليف روح القوانين إلا سبع سنوات، ولم ينتج خلال هذه المدة شيئا غير «الدفاع عن روح القوانين»، الذي خطه سنة 1850؛ ردا على بعض الناقدين.
إن كتاب روح القوانين هو الذي خلد اسم مونتسكيو في تاريخ الأفكار والعلوم؛ لأنه يعتبر من أمهات الكتب التي تمثل أهم المراحل التي قطعها الفكر البشري في طريق تقدمه المستمر، كما يعد من جملة العوامل التي قوت في النفوس نزعة الحرية في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، والتي حملت الناس على الثورة ضد الحكم الاستبدادي ثورة عنيفة. (4)
ينقسم روح القوانين إلى واحد وثلاثين كتابا؛ يبحث الكتاب الأول في القوانين بوجه عام، والثاني والثالث في أشكال الحكومات، والكتب الستة التي تلي ذلك تبين وجوب وضع القوانين بصورة ملائمة لأشكال الحكومات، ويبحث الكتابان التاسع والعاشر في علاقة القوانين بالقوة الحربية، والكتابان اللذان يليان ذلك في القوانين التي تنشئ الحرية السياسية، ويبين الكتاب الثالث عشر علاقة الجباية بالحرية، وتبحث الكتب الخمسة التي تلي ذلك في علاقة القوانين بالإقليم والأرض، وأما الكتاب التاسع عشر فيشرح علاقة القوانين بطبائع الأمم وسجاياها، وتبحث الثلاثة التي تلي ذلك في علاقة القوانين بعدد النفوس، والكتابان اللذان يليان ذلك في علاقة القوانين بالأديان، وأما الكتب الستة الباقية فتبحث في القوانين الرومانية والإقطاعية والفرنسية، وتشرح القواعد التي تجب مراعاتها في سن القوانين.
في جميع هذه الكتب يشير مونتسكيو إلى وقائع تاريخية عديدة، ويذكر نبذا كثيرة من القوانين القديمة والحديثة الموضوعة في البلاد المختلفة، ويبدي شتى الملاحظات حول تلك الوقائع والقوانين، ويسوق ملاحظاته هذه تارة في سبيل التفسير والتعليل، وطورا على طريق الاستحسان والاستقباح، وكثيرا ما يفرغها في قالب وصايا علمية ودساتير سياسية، موجهة إلى رجال الحكم والتشريع. (5)
يتبين من الخلاصة الآنفة الذكر - كما يظهر من عنوان المؤلف نفسه - أن الموضوع الأساسي الذي يتناوله مونتسكيو بالبحث والدرس في كتابه هذا هو «القوانين» و«الحقوق»، وإذا أردنا أن ننعت «روح القوانين» بالتعبيرات المألوفة الآن، نستطيع أن نقول إنه من نوع المؤلفات التي تعرف باسم «مدخل القوانين»، أو «فلسفة الحقوق»، أو «حكمة التشريع».
ومما يؤيد ذلك أن مونتسكيو نفسه قال - في «الدفاع عن روح القوانين»: إنه «تأليف سياسي صرف، وتشريعي خاص.»
Un onvrage de pure politique et de pure jurisprudence.
ومع هذا يحتوي «روح القوانين» على أبحاث كثيرة تتعدى حدود «فلسفة التشريع»، وتمت بصلة قوية إلى «فلسفة التاريخ». إن هذه الأبحاث هي التي تحاول تعليل طبائع الأمم، وتسعى لإظهار العوامل التي تؤثر في سير التاريخ.
إن أبحاث روح القوانين التي تتعلق بذلك تجتمع حول نظريتين هامتين: (أ)
نظرية تأثير الطبيعة والإقليم في طبائع الأمم وسير التاريخ. (ب)
نظرية تأثير الأحوال الاقتصادية في الوقائع التاريخية.
إن مونتسكيو لم يكن مبتكرا للنظرية الأولى؛ لأن «تأثير الطبيعة في الإنسان» كان صار موضوع أنظار الباحثين منذ عهد بقراط، فكثيرون من مفكري اليونان والرومان بحثوا فيها وكتبوا عنها، كما أن أحد مواطني مونتسكيو - «جان بودن» - كان قد تناول هذه القضية بالبحث والدرس في القرن السادس عشر، وسعى لإظهار تأثير الطبيعة والإقليم في طبائع الأقوام، ووقائع التاريخ بكل تفصيل.
وأما النظرية الثانية فيزعمون أن مونتسكيو لم يكن مسبوقا فيها بأحد من الغربيين، ولهذا السبب يخصصون له مقاما ممتازا في تاريخ فلسفة التاريخ من وجهة هذه النظرية بوجه خاص. (6)
إن كل من يريد أن يقارن بين مونتسكيو وبين ابن خلدون - وبتعبير أصح بين «روح القوانين » وبين «مقدمة التاريخ» - يجب أن يقدم على ذلك من وجهة المباحث المتعلقة بفلسفة التاريخ، وعلى الأخص، من وجهة المباحث المتعلقة بعمل الاقتصاد في التاريخ، وتأثير الطبيعة في طبائع الأمم.
ذلك لأن الكتابين المذكورين يختلفان اختلافا كليا من الوجوه الأخرى.
إن روح القوانين يبحث من حيث الأساس في القوانين والشرائع، ولا يتطرق إلى مسائل التاريخ وفلسفة التاريخ إلا من وجهة علاقتها بالقوانين والشرائع، في حين أن مقدمة ابن خلدون بعكس ذلك، لا تلتفت إلى مسائل القوانين والشرائع، بل تسعى لدرس العوامل الاجتماعية، والتطورات التاريخية درسا مباشرا.
وزيادة على ذلك فإن روح القوانين مشبع بغايات سياسية عملية، والمسائل التي يعالجها ترمي - بوجه عام - إلى تقرير «السياسة المثلى»، في حين أن مقدمة ابن خلدون بعكس ذلك، تكاد تكون مجردة عن كل نزعة سياسية وعملية، والمسائل التي تسعى لحلها لا تخرج - عادة - عن نطاق «تقرير الواقع وتعليله».
ولهذا السبب رأيت من الضروري أن أحدد بحثي في روح القوانين بحدود النظريتين المذكورتين. (2) التاريخ والاقتصاد (1)
يشغل مونتسكيو في تاريخ فلسفة التاريخ وعلم التاريخ مقاما ممتازا من جراء الأهمية التي يعزوها إلى العوامل الاقتصادية في تكوين طبائع الأمم وتسيير وقائع التاريخ.
إن الباحث الإنجليزي «روبرت فلينت»
Flint - الذي وقف حياته على درس المؤلفات التي تحوم حول فلسفة التاريخ - خصص لمونتسكيو فصلا كبيرا في الكتاب الذي وضعه عن «فلسفة التاريخ في فرنسا».
استعرض فلينت في هذا الفصل الآراء والنظريات التي قال بها مونتسكيو في روح القوانين، وانتقد القسم الأعظم منها انتقادا لا يخلو من الشدة.
قال فلينت: «إن كل من يدرس روح القوانين دراسة جدية، يضطر إلى التسليم بأن التعميمات الخاطئة فيه كثيرة بقدر الصائبة، وبأن هذا الكتاب غني بالحقائق، ولكنه في الوقت نفسه مملوء بالأغلاط.»
والسبب في ذلك - على رأي فلينت - هو أن مونتسكيو لم يهتد في تأليفه هذا إلى خطة بحث علمية، فسار على طريقة مشوشة. إنه كدس الآراء فيها تكديسا من غير أن يوفق إلى تنظيمها تنظيما معقولا، والمعلومات الكثيرة التي جمعها في روح القوانين تنم عن روح بحث قوية، ولكن الطريقة التي عرض بها هذه المعلومات لا تدل على قوة تركيبية علمية، إذ كثيرا ما خلط بين «الحق» وبين «الواقع»، وقلما ميز بين «التفسير» وبين «التعليل».
ومع ذلك يرى فلينت أن مونتسكيو يستحق مقاما ممتازا جدا في «تاريخ فلسفة التاريخ»؛ وذلك بفضل المباحث التي كتبها عن الجباية والتجارة والنقود والنفوس في الكتب: 13، 21، 22، 23، 24 من روح القوانين. «لأن الكتب المذكورة تدخل عنصر الاقتصاد في التاريخ، وتؤدي بذلك خدمة عظيمة جدا.»
يؤكد فلينت أهمية هذه الخدمة، ثم يقول: «من الغلط أن يعزى شرف هذه الخدمة العظيمة إلى «تورغو»
Turgot ، أو «كوندورسه»
Condorcet ، أو «كونت»
Comte ، أو «ساسيمون»
Saint-Silmon
كما فعل بعضهم، فإن شرف ذلك يعود في الدرجة الأولى إلى «مونتسكيو».
لا ينكر روبرت فلينت أن معظم النظريات الاقتصادية التي قال بها مونتسكيو في روح القوانين بعيدة عن الصواب، ومليئة بالأغلاط، حتى إنه يعترف بأن تلك الآراء لا تخلو من التناقض أيضا في بعض الأحيان، ويوصي كل من يود الاطلاع على أنواع الأغلاط التي تتخلل تلك الآراء والنظريات بمراجعة ما كان كتبه «دستو دو تراسي»
Deslut de Téracy
في هذا الصدد، حينما شرح روح القوانين.
ومع كل هذا يقول روبرت فلينت: «لا يمكن لأي منصف كان، أن يمتنع عن التسليم لمونتسكيو بهذا الشرف العظيم، إنه كان أول من ربط علم الاقتصاد بعلم التاريخ، وأول من شارك هذين العلمين في أمر تفسير الحادثات الاجتماعية وتعليلها.» (2)
إنني لا أشك في أن روبرت فلينت كتب ما كتبه في هذا الصدد قبل أن يطلع على مقدمة ابن خلدون، ولولا ذلك لما سوغ لنفسه أن يقول إن مونتسكيو كان أول من أدخل عنصر الاقتصاد في التاريخ، وأول من ربط علم الاقتصاد بعلم التاريخ؛ لأن ابن خلدون كان قد فعل ذلك قبل مونتسكيو بمدة تناهز أربعة قرون.
إن اهتمام ابن خلدون بعنصر الاقتصاد في تعليل الوقائع التاريخية يظهر إلى العيان أولا من عنوان الكتاب الأول نفسه؛ لأن «الكسب والمعاش والصنائع» تحتل منزلة خطيرة وصريحة في هذا العنوان: «الكتاب الأول: في طبيعة العمران في الخليقة، وما يعرض لها من البدو والحضر، والتغلب، والكسب، والمعاش، والصنائع، والعلوم، ونحوها، وما لذلك من العلل والأسباب» (ص35).
وأما العبارات التي تلي العنوان المذكور، وتشير إلى ذلك بوضوح أعظم: «اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع» (ص35).
لقد خصص ابن خلدون بابا كبيرا من أبواب المقدمة الستة لأمور المعاش (وهو الباب الخامس مع فصوله الفرعية البالغ عددها الثلاثة والثلاثين)، كما خصص عددا غير قليل من فصول الأبواب الأخرى (ولا سيما من فصول البابين الثالث والرابع) أيضا لمسائل الاقتصاد. ومن غريب الاتفاق أن مسائل الجباية والتجارة والنقود والنفوس - التي تكون القسم الاقتصادي من روح القوانين - قد شغلت أبحاثا وفصولا هامة في مقدمة ابن خلدون أيضا.
وزيادة على كل ذلك فقد عالجت المقدمة في فصولها المختلفة عدة مسائل اقتصادية اجتماعية أخرى، مثل مستوى المعيشة، وأسعار الأشياء، وعلاقة العمران بوسائل المعيشة.
في جميع هذه الفصول والأبحاث يظهر ابن خلدون العلائق القوية التي تربط الأحوال الاجتماعية بالحياة الاقتصادية، ويعبر عن هذا الارتباط بأصرح العبارات.
يبدأ الفصل الأول من الباب الثاني بتقرير المبدأ التالي: «اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش، فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله» (ص120).
يشرح ابن خلدون هذه القضية الأساسية، ويبرهن عليها في فصول عديدة، كما أنه يقرر أهمية العوامل الاقتصادية في تطور الدول واستفحال الحضارة أيضا بعبارات صريحة جدا.
إن فصل طروق الخلل للدولة يبدأ بتقرير القضايا التالية: «اعلم أن مبنى الملك على أساسين لا بد منهما؛ فالأول الشوكة والعصبية، وهو المعبر عنه بالجند، والثاني المال، الذي هو قوام أولئك الجند. «والخلل إذا طرق للدولة طرقها في هذين الأساسين» (ص294).
كما أنه يعزو دورا هاما إلى الأحوال الاقتصادية في أمر «حدوث الهرم» أيضا.
ذلك لأن «طبيعة الملك تقتضي الترف»، والترف يؤدي إلى زيادة نفقات الناس، حينئذ «لا يفي دخلهم بخرجهم، فالفقير منهم يهلك، والمترف يستغرق عطاءه بترفه» (ص168).
إن هذه الأحوال الاقتصادية تؤثر في الأخلاق أيضا؛ لأن استفحال الحضارة والترف يقترن بوجه عام بارتفاع أسعار الحاجيات، وهذا الارتفاع يزيد في مشاكل المعيشة، وتلك المشاكل تؤدي إلى انحطاط الأخلاق.
إن المصر الكثير السكان يختص بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجياته، ثم تزيدها المكوس غلاء؛ فتعظم نفقات أهل الحضارة، ويخرج عن القصد إلى الإسراف، وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات، ويتتابعون في الإملاق والخصاصة، ويغلب عليهم الفقر، ويكثر منهم الفسق والشر والسفسفة، والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه» (ص372).
إن مقدمة ابن خلدون مملوءة بمثل هذه الآراء والملاحظات التي تقرر علاقة الاقتصاديات بطبائع الأمم وأطوار الدول.
ولهذه الأسباب إنني أعتقد اعتقادا جازما بأن القول بأن «شرف إدخال عنصر الاقتصاد في علم التاريخ يعود إلى مونتسكيو»، ما هو إلا افتئات صريح على الحقيقة والواقع، وأجزم بلا تردد بأن هذا الشرف يعود إلى ابن خلدون الذي سبق مونتسكيو في هذا المضمار مدة تزيد على ثلاثة قرون.
هذا وإني أقول - زيادة على ذلك - إن ابن خلدون لا يمتاز على مونتسكيو - في هذه القضية - من جراء سبقه إلى فهم «علاقة التاريخ بالاقتصاد» سبقا زمانيا فحسب، بل إنه يمتاز عليه من جراء عمق التفكير ودقة النظر التي أظهرها في بحث ودرس هذه العلاقة أيضا.
وذلك لأن ابن خلدون ذهب في هذا المضمار إلى حدود لم يصل إليها مونتسكيو أبدا.
فإن الآراء التي يبديها المفكر العربي في هذا الصدد تقربه كثيرا من مبادئ المذهب الاقتصادي الاجتماعي الذي عرف فيما بعد باسم «المادية التاريخية»
Matérialisme Historique ، منذ عهد كارل ماركس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
إن مقارنة روح القوانين بمقدمة ابن خلدون من وجهة المباحث الاقتصادية تبرهن على ذلك برهنة قطعية. (3)
إن أول ما تجب ملاحظته عند الإقدام على الموازنة بين مقدمة ابن خلدون وبين روح القوانين من وجهة المباحث الاقتصادية، هو الانقلاب العظيم الذي كان قد حدث في الحياة الاقتصادية خلال المدة التي مضت بين عصر ابن خلدون وبين عهد مونتسكيو. إن بزوغ عصر الانبعاث، واكتشاف القارات الجديدة، وتقدم وسائل الملاحة البحرية، كانت من العوامل التي تضافرت على توسيع نطاق العلائق الاقتصادية توسيعا هائلا، وتنويع المعاملات التجارية تنويعا كبيرا. فمن الطبيعي أن يكون هناك فرق عظيم بين المسائل الاقتصادية التي ظهرت في العالم الغربي خلال القرن الثامن عشر، وبين تلك التي كانت تسود العالم الشرقي خلال القرن الرابع عشر.
إن هذا الفرق الكبير يجعل الموازنة بين مقدمة ابن خلدون وبين روح القوانين من الصعوبة بمكان، ومع ذلك فمن المستطاع التغلب على هذه الصعوبة.
أولا:
بالبحث عن مبلغ سمو كل واحد منهما على مستوى العصر الذي كتب فيه.
ثانيا:
بملاحظة المسائل الاقتصادية التي اشترك الكتابان في بحثها، بقطع النظر عن طول الزمان الذي يفصل بينهما. (4)
إذا وازنا بين «مقدمة ابن خلدون» وبين «روح القوانين» من وجهة «السمو فوق مستوى العصر»؛ وجدنا أن كفة الكتاب الأول ترجح على كفة الثاني رجحانا كبيرا.
ذلك لأن مونتسكيو لم يسم كثيرا على معاصريه في أبحاثه الاقتصادية، وقد اعترف بذلك روبرت فلينت نفسه، على الرغم من تقديره الشديد للخدمة التي أداها مؤلف روح القوانين لفلسفة التاريخ بإدخال عنصر الاقتصاد في تفسير التاريخ.
يقول روبرت فلينت بعدما يعلن أهمية هذا العمل: «يجب علينا أن نتجنب المغالاة في تقدير ما نحن مدينون به إلى مونتسكيو في هذا المضمار.» إذ يجب علينا ألا ننسى أن العصر الذي كتب فيه روح القوانين كان عهد نشوء وترعرع في علم الاقتصاد. إن الأبحاث الاقتصادية كانت صارت موضع اهتمام الكثيرين من المؤلفين والمفكرين، حتى إن جماعة من معاصري مونتسكيو ومواطنيه كانوا أقدموا على تأسيس المذهب «الفيزيوقراطي» المشهور في علم الاقتصاد.
2
من الثابت أن مونتسكيو كان قد أبدى طائفة من الآراء الاقتصادية التي ثبت بطلانها بعد مدة وجيزة، كما أنه أغفل كثيرا من الحقائق الاقتصادية التي تم اكتشافها قبل مرور مدة طويلة؛ مما يدل دلالة قطعية على أنه لم يتفوق على معاصريه تفوقا كبيرا في أبحاثه الاقتصادية.
في حين أن ابن خلدون كان قد سما فوق معاصريه سموا هائلا في هذا المضمار، كما أنه ظل يحلق فوق مستوى الذين جاءوا بعده أيضا - في الشرق وفي الغرب - مدة قرون عديدة. (5)
وأما أبرز المسائل الاقتصادية التي تشترك مقدمة ابن خلدون في بحثها مع روح القوانين فهي؛ مسألة اشتغال الدول والأمراء بالتجارة.
يوجد في الباب الثالث من مقدمة ابن خلدون «فصل في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية» (ص281)، كما في الكتاب العشرين من روح القوانين فصل «في أن الأمير يجب ألا يتعاطى التجارة أبدا».
مما يلفت النظر - قبل كل شيء - في هذين العنوانين، أن عبارة ابن خلدون تقرر الواقع، في حين أن عبارة مونتسكيو تضع دستورا للعمل.
إن هذا الاختلاف يكتسب وضوحا أكثر من ذلك عند مطالعة ما جاء من الأبحاث تحت العنوانين المذكورين.
يقول مونتسكيو في الفصل السالف الذكر: إن الإمبراطور «تيوفيل» شاهد سفينة تحمل أمتعة لزوجته «تيودورا»، فأمر بإحراق السفينة قائلا لها: «أنا إمبراطور، وأنت تريدين أن تجعليني رب سفينة؟! كيف يستطيع الناس الفقراء أن يكتسبوا أقواتهم إذا نحن زاحمناهم في مهنهم؟» «كان الإمبراطور يستطيع أن يضيف إلى ذلك الأقوال التالية أيضا: ومن يستطيع أن يصدنا عن الاحتكار؟ ومن يستطيع أن يجبرنا على القيام بتعهداتنا؟ ثم إن هذه التجارة التي نقوم بها نحن قد يتعاطاها رجال حاشيتنا أيضا، وإذا أقدم هؤلاء على ذلك يكونون - بطبيعة الحال - أشد طمعا وأكثر ظلما منا. إن الشعب يثق بعدالتنا، ولكنه لا يثق ببذخنا، إن كل الضرائب التي تؤدي إلى شقاء الشعب تدل دلالة قاطعة على بذخنا.»
يواصل مونتسكيو البحث المذكور في الفصل الذي يلي ذلك تحت عنوان: «استمرار الموضوع نفسه»، ويقول هناك ما يلي: «عندما كان البرتغاليون والقشتاليون يحكمون الهند الشرقية، كان للتجارة فروع رابحة جدا؛ مما حمل أمراءهم على الاستئثار بها، وذلك أدى إلى تقويض مؤسساتهم في تلك البلاد.» «إن نائب الملك في غوا
Goa
كان يمنح بعض الأشخاص امتيازات خاصة، ومثل هؤلاء الأشخاص لا يوثق بهم أبدا، فإن التجارة كانت تفقد مزية الاستمرار من جراء تبدل الأشخاص الذين يتولونها، ولم يكن لأحد من هؤلاء أن يهتم بمستقبل التجارة التي يتولاها، ولا أن يبالي إذا أصبحت كاسدة بعده حينما يتركها لخلفه، والمكاسب تبقى في أيدي أشخاص محدودين، فلا تتوسع بدرجة كافية.»
هذا كل ما كتبه مونتسكيو في هذا الموضوع.
وأما ابن خلدون فقد بحث الموضوع المذكور بتوسع وتعمق يستلفتان الأنظار؛ يبدأ ابن خلدون الفصل السالف الذكر بالبحث عن الأسباب التي تحمل السلطان على تعاطي التجارة، ويستعرض جميع الوسائل التي تتوسل بها الدول، حينما تحتاج إلى مزيد المال والجباية، قائلا: «اعلم أن الدولة قد ضاقت جبايتها - بما قدمناه من الترف وكثرة العوائد والنفقات - وقصر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها، واحتاجت إلى مزيد المال والجباية.» «فتارة توضع المكوس على بياعات الرعايا وأسواقهم، كما قدمنا ذلك في الفصل قبله، وتارة بالزيادة في ألقاب المكوس، إن كان قد استحدث من قبل، وتارة بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك عظامهم؛ لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان، وتارة باستحداث التجارة والفلاحة للسلطان» (ص281).
ثم يشرح ابن خلدون الأسباب والملاحظات التي تحمل السلطان على التوسل بالوسيلة الأخيرة: «لما يرون التجار والفلاحين يحصلون على الفوائد والغلات مع يسارة أموالهم، وأن الأرباح تكون على نسبة رءوس الأموال، فيأخذون في اكتساب الحيوان والنبات لاستغلاله في شراء البضائع والتعرض بها لحوالة الأسواق، ويحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد.»
وبعد ذلك يبين ابن خلدون غلط هذا الحساب، ويوضح أضرار هذه الخطة قائلا: «هو غلط عظيم، وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة؛ فأولا مضايقة الفلاحين والتجار في شراء الحيوان والبضائع وتيسير أسباب ذلك، فإن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون، ومزاحمة بعضهم بعضا تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب، وإذا رافقهم السلطان في ذلك، وماله أعظم كثيرا منهم؛ فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته، ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد» (ص281). «ثم إذا حصل فوائد الفلاحة (ومغلها كله من زرع أو حرير أو عسل أو سكر أو غير ذلك من أنواع الغلات)، وحصلت بضائع التجارة (من سائر الأنواع)، فلا ينتظرون به حوالة الأسواق، ولا نفاق البياعات؛ لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة، فيكلفون أهل تلك الأصناف - من تاجر أو فلاح - بشراء تلك البضائع، ولا يرضون في أثمانها إلا القيم وأزيد». وأهل تلك الأصناف يستوعبون في ذلك ناض أموالهم، وتبقى تلك البضائع في أيديهم عروضا جامدة، ويمكثون عطلا من الإدارة التي فيها كسبهم ومعاشهم، وربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال؛ فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن، وربما يتكرر ذلك على التاجر والفلاح منهم بما يذهب رأس ماله، فيقعد عن سوقه، ويتعدد ذلك ويتكرر، ويدخل به على الرعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة، ويؤدي إلى فساد الجباية. فإن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين والتجار، ولا سيما بعد وضع المكوس ونمو الجباية بها، وإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة، وقعد التجار عن التجارة؛ ذهبت التجارة جملة، أو دخلها النقض المتفاحش.» «وإذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجباية وبين هذه الأرباح القليلة؛ وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل» (ص282).
وبعد التوسع في شرح الأضرار التي تنجم عن ذلك، يقرر ابن خلدون أن الطريقة المثلى في هذه الأحوال هي الاعتماد على الجباية وحدها: «اعلم أن السلطان لا ينمي ماله ولا يدر موجوده إلا الجباية، وإدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال، والنظر لهم بذلك، فبذلك تنبسط آمالهم، وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها؛ فتعظم منها جباية السلطان. وأما غير ذلك من تجارة أو فلح، فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا، وفساد للجباية، ونقص للعمارة» (ص282).
ثم ينتقل إلى شكل آخر من التجارة التي يقدم عليها الأمراء في بعض الأحوال: «وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلبين في البلدان أنهم يتعرضون لشراء الغلات والسلع من أربابها الواردين على بلدهم، ويفرضون لذلك من الثمن ما يشاءون، ويبيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن، وهذه أشد من الأولى، وأقرب إلى فساد الرعية واختلال أحوالهم» (ص283).
وبعد ذلك يبدي ابن خلدون بعض الملاحظات عن الذين يشوقون السلطان إلى سلوك مثل هذه المسالك: «وربما يحمل السلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف - أعني التجار والفلاحين - لما هي صناعته التي نشأ عليها، فيحمل السلطان على ذلك، ويضرب معه بسهم لنفسه؛ ليحصل على غرضه من المال سريعا، ولا سيما مع ما يحصل له من التجارة بلا مغرم ولا مكس. فإنها أجدر بنمو الأموال، وأسرع في تثميره، ولا يفهم ما يدخل على السلطان من الضرر بنقص جبايته» (ص283).
هذا ويعود مؤلف المقدمة إلى هذه القضية في فصل آخر، هو الفصل الذي يقرر فيه «أن الظلم مؤذن بخراب العمران» (ص286-290).
يستعرض ابن خلدون في هذا الفصل الأضرار التي تنجم من العدوان على أموال الناس، وبعد التبسط في شرح هذه الأضرار، يقول: «وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة؛ التسلط على الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان، على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع» (ص289).
إن ذلك يسبب قعود التجار عن العمل: «فيتثاقل الوارد من الآفاق لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك؛ فتكسد الأسواق، ويبطل معاش الرعايا، وتنقص جباية السلطان وتفسد، ويئول ذلك إلى تلاشي الدولة، وفساد عمران المدينة، ويتطرق هذا الخلل على التدريج، ولا يشعر به» (ص290).
يلاحظ من كل ذلك أن ابن خلدون درس هذه الحادثات الاجتماعية الاقتصادية دراسة مفصلة دقيقة، كمن يدرس مرضا من الأمراض، فيبحث عن أسباب تولده، ويسرد التحولات التي تطرأ على البدن من جرائه، ويتتبع أعراض المرض وسيره وأدواره، ويفعل كل ذلك بنظر شامل متشوف مدقق ومتعمق.
حينما يقارن الباحث ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد بما كتبه مونتسكيو الشهير؛ يضطر إلى التسليم بأن الأول تفوق على الثاني - في بحث هذه القضية الاقتصادية الاجتماعية - تفوقا بارزا، مع أنه أتى قبله بمدة طويلة تناهز أربعة قرون . (6)
وهناك بحث اقتصادي اجتماعي آخر تشترك فيه مقدمة ابن خلدون مع روح القوانين، وهو بحث «علاقة ظلم الدولة وأحوالها بعدد النفوس».
فقد خصص مونتسكيو لهذه القضية فصلا من تأليفه، كما أن ابن خلدون تطرق إلى هذه المسألة في عدة فصول من مقدمته.
لقد عنون مونتسكيو الفصل الحادي عشر من الكتاب الثالث والعشرين من روح القوانين بعنوان: «قساوة الحكومة»، وقال فيه ما يلي: «إن الأشخاص الذين لا يملكون شيئا على الإطلاق - كالشحاذين - يكونون كثيري الأولاد؛ ذلك لأنهم يكونون في حالة الأقوام الناشئة. فمن السهل لكل أب منهم أن يعطي مهنته لولده، حتى إن الولد قد يكون آلة تساعد الوالد في مهنته منذ ولادته. إن هؤلاء يتكاثرون في البلاد الغنية والجاهلة؛ إذ لا أعباء اجتماعية عليهم، وهم أنفسهم أعباء على المجتمع.» «وأما الأشخاص الذين لا يكونون فقراء إلا لأنهم يعيشون في كنف دولة قاسية مستبدة، والذين يعتبرون حقولهم واسطة للضريبة أكثر مما تكون واسطة للمعيشة، إن هؤلاء يكونون قليلي الأولاد؛ وذلك لأنهم لا يملكون ما يقتاتون به، فكيف يستطيعون أن يفكروا في اقتسام أرزاقهم مع أولادهم؟ كما أنهم لا يستطيعون أن يعالجوا أنفسهم من الأمراض التي تنتابهم، فكيف يمكنهم أن يفكروا في توليد وتنشئة مخلوقات تكون في حالة مرض دائم هي الطفولة؟» «وأما القول بأنه كلما كانت الرعية فقيرة، كانت العائلات كثيرة الأفراد، وبأنه كلما كانت الضرائب فادحة، كان الناس يعملون ما يساعدهم على تأديتها، إن القول بذلك إنما يتأتى من التجوز في الكلام، أو من العجز عن التفكير. إن هذين القولين لمن السفسطات التي خربت الممالك، والتي ستظل تخربها على الدوام.» «إن قساوة الحكومة قد توصل الأمر إلى درجة إتلاف العواطف الطبيعية بعواطف طبيعية مثلها؛ أما كانت النساء الأمريكيات (يقصد نساء أهل أمريكا الأصليين) تقبل على إسقاط أجنتهن؛ لكيلا يتركن أولادهن تحت رحمة أسياد ظلمة؟»
هذا ما كتبه مونتسكيو في روح القوانين حول هذه المسألة.
3
وأما ابن خلدون فقد درس المسألة بمقياس أوسع، ونظر أشمل، وتفكير أعمق، في فصول متعددة، ومن وجوه مختلفة، فإنه لم يكتف بدرس تأثير قساوة الحكومة وظلمها على الولادات وحدها، بل لاحظ تأثير ذلك على الوفيات، وعلى تجمع السكان وتبعثرهم، وعلى الهجرة من البلاد وإليها أيضا، وزيادة على كل ذلك فإنه لاحظ تأثير استقلال الأمة واستعبادها في نشاط الأفراد، وعدد النفوس، وثروة الدولة أيضا في جميع تلك الحوادث والأمور.
فقد قرر في أحد فصول الباب الثالث «أن الظلم مؤذن بخراب العمران»، وقال في الفصل المذكور في جملة ما قاله: «اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها؛ لما يرونه حينئذ من أن غايتها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها؛ انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك» (ص286). «والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب، ذاهبين وجائين. فإذا قعد الناس عن المعاش، وانقبضت أيديهم عن المكاسب؛ كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال، وانذعر الناس في الآفاق من غير تلك الأيالة، في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها، فخف ساكن القطر وخلت دياره، وخربت أمصاره، واختل باختلاله حال الدولة والسلطان؛ لما أنها صورة للعمران، تفسد بفساد مادتها ضرورة» (ص287).
يؤكد ابن خلدون أن الظلم يؤدي إلى خراب العمران، ويعود على الدولة بالفساد والانتقاض، ثم يقول: «ولا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة، من الدول التي بها ولم يقع فيها خراب، واعلم أن ذلك إنما جاء من قبيل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر؛ فلما كان المصر كبيرا، وعمرانه كثيرا، وأحواله متسعة بما لا ينحصر، كان وقوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيرا؛ لأن النقص إنما يقع بالتدريج، وإذا خفي بكثرة الأحوال واتساع الأعمال في المصر، لم يظهر أثره إلا بعد حين.» «والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه، ووباله عائد على الدول» (ص288).
هذا ويقرر ابن خلدون في فصل آخر «أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها؛ أسرع إليها بالفناء» (ص147). ويعلل ذلك قائلا : «والسبب في ذلك - والله أعلم - ما حصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها، وصارت بالاستعباد آلة لسواها، وعالة عليهم؛ فيقصر الأمل، ويضعف التناسل.» «والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل، وما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية، فإذا ذهب الأمل بالتكاسل، وذهب ما يدعو إليه من الأحوال، وكانت العصبية ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم؛ تناقص عمرانهم، وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم» (ص148).
ويرى ابن خلدون لذلك سببا آخر، ويشرح هذا السبب كما يلي: «إن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له، والرئيس إذا غلب على رئاسته، وكبح عن غاية عزه؛ تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده، وهذا موجود في أخلاق الأناسي، ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة، إنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين.»
ثم يقول: «فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقض واضمحلال، إلى أن يأخذهم الفناء.»
وبعد ذلك يستشهد ابن خلدون بما حدث للفرس بعد استيلاء العرب عليهم، فيقول: «ولا تحسبن أن ذلك لظلم نزل بهم، أو لعدوان شملهم، فملكة الإسلام في العدل ما علمت، وإنما هي طبيعة في الإنسان إذا غلب على أمره، وصار آلة لغيره» (ص148).
وزيادة على كل ذلك، يتطرق ابن خلدون إلى هذه المسألة في فصل آخر حينما يقرر: «أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة على قوتها» (ص174)، حيث يقول: «والسبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك والترف؛ كثر التناسل والولد والعمومية؛ فكثرت العصابة، واستكثروا أيضا من الموالي والصنائع، وربيت أجيالهم في جو ذلك النعيم والرفه؛ فازدادوا به عددا إلى عددهم وقوة إلى قوتهم» (ص174).
وأبلغ مثال على ذلك هو ما وقع في الدولة العربية في الإسلام، يقول ابن خلدون إن العرب زادوا بعد الإسلام زيادة كبيرة، ويرد سبب هذه الزيادة إلى الرفه الذي حصل عند ذاك: «واعلم أن سببه الرفه والنعيم الذي حصل للدولة وربي فيه أجيالهم» (ص175).
يعود ابن خلدون إلى هذه المسألة في فصل آخر، هو الفصل الذي يتكلم فيه عن «وفور العمران في آخر الدولة، وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات» (ص301). إذ يقول في هذا الفصل: «إن الدولة في أول أمرها لا بد لها من الرفق في ملكتها، والاعتدال في أيالتها.» «وإذا كانت الملكة رفيقة محسنة؛ انبسطت آمال الرعايا، وانتشطوا للعمران وأسبابه؛ فتوفر ويكثر التناسل» (ص301).
وأما في أواخر الدول فتكثر المجاعات والموتان، تكثر المجاعات «لقبض الناس أيديهم عن الفلح في الأكثر؛ بسبب ما يقع في آخر الدولة من العدوان في الأموال والجبايات، أو الفتن الواقعة في انتقاض الرعايا، وكثرة الخوارج لهرم الدولة.»
كما يكثر الموتان لأسباب عديدة من جملتها؛ «كثرة المجاعات أو كثرة الفتن لاختلال الدولة»، و«كثرة الهرج والقتل»، أو «وقوع الوباء» (ص302). •••
بعد هذه التفاصيل والمقارنات، أنا لا أتردد في القول بأنه لا بد لكل باحث منصف أن ينحني احتراما وإجلالا لعبقرية ابن خلدون الذي سما على عبقرية مونتسكيو في هذه المسائل والأبحاث، على الرغم من قدم العصر الذي عاش فيه، وعلى الرغم من انحطاط البيئة التي نشأ فيها. (3) التاريخ والطبيعة (1)
يعزو مونتسكيو أهمية كبرى إلى تأثير الطبيعة والإقليم في سجايا الأمم ووقائع التاريخ، ويخصص نحو ثمانين فصلا من فصول روح القوانين لشرح هذه التأثيرات.
إنه يستهل أبحاثه في هذا المضمار بتقرير المبدأ التالي: «إن أوصاف العقل وانفعالات القلب تختلف كثيرا باختلاف الأقاليم، فمن الطبيعي أن تختلف القوانين أيضا باختلاف الأقاليم.»
وبعد ذلك يأخذ في شرح آرائه في هذا الصدد بتفصيل وإسهاب، ونحن نستطيع أن نلخص هذه الآراء - من حيث الأساس - بما يلي: (أ)
إن شدة الحرارة تقلل القوة وتزيل النشاط؛ ولذلك تصل قوة الإنسان إلى أقصى درجاتها في البلاد الباردة، وتنزل إلى أدنى دركاتها في البلاد الحارة. (ب)
إن التأثير الذي يحصل بهذه الصورة يسري إلى القوى المعنوية والفكرية أيضا؛ ولهذا السبب يكون سكان البلاد الباردة أكثر ثقة بأنفسهم، وأشد شعورا بتفوقهم بالنسبة إلى سكنة البلاد الحارة، وهذا يجعلهم أكثر نشاطا منهم وأكبر شجاعة، كما يجعلهم أقل ميلا للاحتيال، وأقل رغبة في الانتقام. (ج)
إذا وضعنا رجلا في محل حار محصور، رأينا أنه يشعر بهبوط في قوة قلبه، وذلك قد يوصله إلى حالة قريبة من الإغماء، وفي هذه الحالة إذا طلب منه عمل لا يشعر بقابلية للقيام به؛ ولذلك نجد دائما «أن سكان البلاد الحارة يكونون جبناء مثل الشيوخ، في حين أن سكان البلاد الباردة يكونون شجعان مثل الشبان.» (د)
غير أن الحرارة تؤثر في حساسية الإنسان تأثيرا معكوسا لذلك، فإن الحساسية - بعكس القوة - تصل إلى أقصى درجاتها في البلاد الحارة، وتهبط إلى أحط درجاتها في البلاد الباردة. من المعلوم «أن الأقاليم يتميز بعضها عن بعض باختلاف «درجات العرض الجغرافي»». ونستطيع أن نقول إنها تتميز كذلك باختلاف «درجة حساسية الإنسان»؛ فإن حساسية الإنسان للذة تكون ضعيفة في البلاد الباردة، وأقوى من ذلك في البلاد المعتدلة، وتصل إلى درجة الإفراط في البلاد الحارة. وكذلك الحال في الحساسية للألم، مثلا «إن الموسقوفي لا يحس شيئا من الألم إلا إذا سلخ جلده.» (ه)
إن الشهوة الجنسية تتبع الحساسية العامة في هذا الصدد، فإنها تكون مفرطة في البلاد الحارة، وضئيلة في البلاد الباردة.
في البلاد الشمالية تكون ماديات العشق «في منتهى الضعف»، وقوتها الضئيلة «تكاد تكفي لجعلها محسوسة»، وأما في البلاد الحارة فهي تتغلب على كل شيء.
إن الفيزيقوط عندما هاجروا من جرمانيا إلى الجنوب فانتقلوا إلى إسبانيا؛ أصبحوا أكثر شهوانية من ذي قبل، وشدة الشهوة التي اكتسبوها بهذه الصورة قوت في نفوسهم «حس الغيرة»، كما ظهر ذلك بكل وضوح في سلوك «الكونت جوليانوس الذي ضحى ببلاده من جراء واقعة تتعلق بعرض ابنته.»
في البلاد الشمالية تجد «ماكينة البدن» ملذات كثيرة في كل ما يحرك النفس - من صيد وسباحة وحرب وخمر - وأما في البلاد الحارة فتكاد تنحصر ملذات الحياة في العلاقات الجنسية. (و)
في البلاد الحارة ينفق البدن مقدارا كبيرا من الماء، فلا يحتاج إلى شيء من الخمور والكحوليات، وأما في البلاد الباردة فبعكس ذلك تقل الحاجة إلى الماء، فتزداد الحاجة إلى الخمور والكحوليات.
ولهذا السبب نجد أن إدمان الخمور يزداد مع ارتفاع درجة العرض الجغرافي، كلما تباعدنا من خط الاستواء نحو القطب. (ز)
إن الإقليم يؤثر في الأخلاق العامة أيضا تأثيرا شديدا؛ فإن سكنة البلاد الباردة يمتازون بكثرة الفضائل وقلة المفاسد، وقوة الصراحة، وقلة الأنانية. فإننا كلما تباعدنا من الشمال إلى الجنوب نكون كأننا تباعدنا عن الأخلاق، فشاهدنا أمما ينقص فيهم روح التشوف والإقدام والكرم، ويزداد فيهم الكسل والأنانية، وتتفشى بينهم المفاسد والجرائم. (ح)
ولذلك كله نجد أن أمم الشمال تتغلب دائما على أمم الجنوب، كما نجد أن الحرية والديمقراطية لا تتأسس إلا عند أمم الشمال، وأما أمم الجنوب فيتصفون بالعبودية والاستسلام بوجه عام، كما أن دولها لا تعرف معنى للحرية والديمقراطية، بل تكون مستبدة وظالمة في كل الأحوال. (ط)
إن عادة حجب النساء وحجزهن أيضا من التقاليد التي تتأسس في البلاد الجنوبية وحدها؛ لأن شدة الشهوة في تلك البلاد تستلزم اتخاذ تدابير شديدة لكبح جماحها، وأما في البلاد الباردة فلا فتكون ثمة حاجة لمثل هذه التدابير؛ لأن الخصال هناك تكون حميدة بوجه عام، كما أن شهوات النفس تكون معتدلة وهادئة في حد ذاتها؛ ولذلك شيء قليل من الانضباط يكفي لتنظيم الحياة الجنسية والمحافظة على العفاف؛ ولهذا السبب نجد أن المرأة في البلاد الباردة «تؤنس الجميع وترفه عن الجميع، على الرغم من أنها تخص نفسها لملذات شخص واحد.» (ي)
إن تأثير الحرارة والبرودة في الشجاعة لا يظهر عند مقارنة الممالك الشمالية بالجنوبية فحسب، بل إنه يظهر عند مقارنة المناطق الشمالية بالجنوبية في المملكة الواحدة أيضا.
وهذه الحقيقة يجب أن توضع نصب الأعين عند اختيار العاصمة في السلطنات الكبيرة، يجب أن تكون العاصمة في القسم الشمالي من المملكة؛ لأن الدولة التي تجعل عاصمتها في الجنوب تتعرض إلى خسارة مناطقها الشمالية، وأما الدولة التي تجعل عاصمتها في الشمال فتستطيع أن تسيطر على أقسامها الجنوبية بسهولة؛ وذلك بسبب شجاعة الشماليين وجبن الجنوبيين. (2)
إن آراء مونتسكيو في طبائع الشماليين والجنوبيين يجره إلى نظرية مماثلة عن طبائع الأوروبيين والآسيويين؛ لأنه يقول:
في آسيا لا توجد منطقة معتدلة الحرارة، فالبلاد الحارة هناك تتصل بالبلاد الباردة اتصالا مباشرا؛ ولذلك تكون الأمم القوية مجاورة للأمم الضعيفة مجاورة مباشرة، وتستطيع أن تسيطر عليها سيطرة قاصمة؛ وذلك يجعل الأولين سادة والأخيرين عبيدا.
وأما في أوروبا فالأمر يختلف عن ذلك اختلافا كليا؛ لأنه يوجد في القارة الأوروبية منطقة معتدلة الحرارة واسعة النطاق، فتكون الحرارة في هذه القارة متدرجة من الشمال إلى الجنوب، وكذلك قوة الأمم وشجاعتها، فلا تشاهد فروق عظيمة بين الأمم المتجاورة من حيث الشجاعة؛ فتتعادل القوى، فلا تستطيع الواحدة منها أن تسيطر على جارتها سيطرة تامة.
هذا هو السبب الأصلي - في نظر مونتسكيو - في قوة أوروبا وضعف آسيا، وفي حرية أوروبا وعبودية آسيا. إن روح الاستبداد من ناحية، وشيمة العبودية من ناحية أخرى قد تأسست ورسخت في آسيا، ولم تفارقها أبدا في دور من أدوار تاريخها الطويل. والباحث المدقق لا يلمح في جميع الأمم الآسيوية «علامة واحدة» تدل على روح حرة، و«لا يمكن أن يشاهد في آسيا في المستقبل أيضا بطولة غير بطولة العبودية.»
مونتسكيو يدعي ذلك بصيغة الجزم والتأكيد، كما أنه يجيب بذلك على سؤال يحوم حول تاريخ فتوحات الرومان؛ لماذا لم يتوسع الرومان في أوروبا إلا بمشقات عظيمة، في حين أنهم استطاعوا أن يفتحوا آسيا بسهولة خارقة؟
وفضلا عن ذلك يحاول مونتسكيو أن يقرر ويعلل خصائص الشرق والغرب أيضا على هذا الأساس.
بما أن الشمال يتفوق على الجنوب، وأوروبا تتفوق على آسيا، فإن سكان شمال أوروبا - الذين يجمعون في أنفسهم مزايا الشمال مع مزايا أوروبا - يتفوقون على جميع أمم الأرض تفوقا عظيما.
إن المنطقة الشمالية من القارة الأوروبية هي مصدر الحرية المنتشرة في أوروبا، بل مصدر الحرية الموجودة في العالم. كان «جورناندس» القوطي قال عن شمال أوروبا إنه «معمل الجنس البشري»، ولكن مونتسكيو يفضل تسمية تلك المنطقة ب «مصنع الآلات التي تكسر الأغلال المصنوعة في الجنوب»؛ لأنه يعتقد بأن «هناك تتكون الأمم الباسلة التي تخرج من بلادها لسحق الظالمين والعبيد.»
وأما الشرق فهو عكس ذلك تماما؛ لأنه يجمع خصائص الجنوب مع خصائص آسيا، وقد سبق أن قال مونتسكيو إن الخصال التي يختص بها سكان الجنوب وسكان آسيا هي من أردأ الخصال. (3)
إن تأثير الطبيعة والإقليم يظهر في أمور الأديان أيضا على رأي مونتسكيو؛ ذلك لأن بعض الأوامر والنواهي الدينية تتبع أحوال الإقليم مباشرة؛ مثلا قانون «تحريم الخمور» في الدين المحمدي، هو من القوانين الإقليمية التي تلائم طبيعة البلاد الحارة، وكذلك أمر تحريم لحم الخنزير؛ لأن هذا اللحم مضر في البلاد الحارة، حيث تكثر الأمراض الجلدية، غير أنه غير ضار في البلاد الباردة، بل ربما كان من الأغذية الضرورية - نوعا ما - في تلك البلاد.
ويقول مونتسكيو - بناء على كل ما سبق: «إن الأوامر الإسلامية في هذا الصدد توافق حاجات الأقاليم الحارة، وتنافي حاجات الأقاليم الباردة؛ ولهذا السبب انتشر الدين الإسلامي في آسيا - وفي أفريقيا التي هي في حكم آسيا - ولكنه لم يستطع أن ينتشر ويستقر في أوروبا.» «وأما الديانة المسيحية فبعكس ذلك، قد انتشرت بسهولة في أوروبا، ولكنها لم تستطع أن تنتشر في آسيا وأفريقيا، فمن الجائز أن يقال - والحالة هذه - «إن الإقليم هو الذي عين وقرر الحدود الفاصلة بين بلاد الديانة المسيحية، وبين بلاد الديانة الإسلامية».»
هذا ويزعم مونتسكيو أن تأثير الإقليم قد تجلى في تقرير الحدود الفاصلة بين فرعي المسيحية أيضا؛ لأن الأمم الشمالية في أوروبا اعتنقت المذهب البروتستانتي، في حين أن الأمم الجنوبية حافظت على المذهب الكاثوليكي؛ والسبب في ذلك هو أن الشماليين أكثر ميلا إلى الحرية والاستقلال، بحكم بيئتهم الطبيعية، فكان من الطبيعي أن يصيروا أكثر ترجيحا للمذهب البروتستانتي الذي لا يعترف برئيس ديني مطلق، وأشد تباعدا عن المذهب الكاثوليكي الذي يعترف بسلطة مطلقة لرئيس ديني.
وفي الأخير يجب أن يلاحظ أن تأثير الإقليم يشمل أمور الدروشة والرهبنة أيضا؛ فإن عدد التكايا والأديرة، مثل عدد الدراويش والرهبان، يزداد بازدياد حرارة الأقاليم. (4)
يتكلم مونتسكيو عن تأثير «طبيعة الأرض» أيضا في طبائع الأمم وأنظمتها، إنه يهتم بوجه خاص في شرح تأثير خصوبة الأراضي في هذا المضمار .
إن خصوبة الأرض تؤدي إلى تأسس روح العبودية؛ لأن الزراع الذين يؤلفون أكثرية السكان في مثل تلك البلاد لا يهتمون كثيرا بالحرية، ولا يطلبون شيئا من الدولة غير ضمان الأمن والسكون؛ ولهذا السبب تكون الحكومات هناك فردية ومطلقة، في حين أن الأمر يكون عكس ذلك تماما في الحكومات التي تنشأ على أراض قليلة الخصب وجدباء.
إن تاريخ اليونان - على زعم مونتسكيو - أبلغ شاهد على ذلك؛ إن أراضي آتيكا كانت جدباء؛ وذلك أدى إلى تأسس دولة ديمقراطية في أثينا، إلا أن أراضي لاسه ده مونيا كانت خصبة بوجه عام؛ وذلك أدى إلى تأسس دولة أرستقراطية في إسبارطة.
ويذكر مونتسكيو بهذه الوسيلة ما قاله بلوتارخوس في ما كتبه عن حياة صولون: انقسم الأهالي إلى أحزاب حسب طبيعة الأراضي التي يقطنونها، كان أهل الجبال يطلبون حكومة يديرها الشعب، في حين أن أهل السهول كانوا يرغبون في حكومة يديرها الرؤساء، وأما أهل السواحل فكانوا يطالبون بحكومة يشترك فيها القسمان - الشعب والرؤساء - على حد سواء.
هذا ويعزو مونتسكيو إلى خصوبة الأرض تأثيرا في الطبائع ، من جهة أخرى أيضا: إن قلة خصوبة الأرض تضطر الناس إلى الجد والكد، وتعودهم الحياة الخشنة؛ وذلك يجعلهم شجعان ومحاربين، ولكن خصوبة الأرض تحمل سكانها على التراخي، وتزيد في نفوسهم حب الحياة.
وفي الأخير يلاحظ مونتسكيو أن أهل الجبال يكونون أكثر تمسكا بالحرية من أهل السهول، ويعلل ذلك بقوله: السبب الأصلي في ذلك هو أن الجبال تكون أقل خصوبة من السهول بوجه عام، كما أن الدفاع عنها يكون أسهل بكثير من الدفاع عن السهول. •••
هذه هي الخطوط الأساسية للآراء والنظريات التي سردها مونتسكيو في «روح القوانين» حول مسألة «تأثير الإقليم والأرض في طبائع الأمم، ونظم السياسة ووقائع التاريخ».
يلاحظ أنه يغالي في تقدير هذا التأثير مغالاة شديدة، ويبدي كثيرا من الآراء والنظريات التي لا تستند إلى أسس علمية صحيحة، وإن ظهرت في الوهلة الأولى لامعة وأخاذة، تنم عن طرافة في التفكير وبراعة في التعليل.
لقد بذل مؤلف روح القوانين جهودا فكرية بارعة؛ لأجل تعليل الكثير من طبائع الأمم ووقائع التاريخ بتأثير «درجة الحرارة والعرض الجغرافي» بوجه خاص، ولكنه خالف كثيرا من الحقائق الثابتة خلال هذه التعليلات.
إن مخالفة هذه النظريات للحقائق الثابتة كانت لفتت أنظار البعض من معاصريه، وحملتهم على انتقاده من هذه الوجهة انتقادا عنيفا، وكان «فولتير» الشهير من جملة هؤلاء المنتقدين.
وقد رد المشار إليه على ما ذهب إليه مونتسكيو من «أن الأمم الشمالية تكون شجاعة ومحاربة؛ ولذلك تتغلب على الأمم الجنوبية التي تكون جبانة ومسالمة»، بذكر بعض الوقائع التاريخية التي تشهد على عكس ذلك، فقال: «إن العرب فتحوا خلال ثمانين عاما بلادا أوسع بكثير من التي دخلت تحت حكم الإمبراطورية الرومانية في أوج عظمتها، كما أن الرومان أنفسهم تغلبوا على عدة أقوام من سكنة البلاد الشمالية، وفي التاريخ القريب تغلب جيش صغير من الإسبان الجنوبيين على جيش كبير من الألمان الشماليين.»
كما أنه رد على نظرية «تأثير خصوبة الأرض في تقرير نظام الحكم» قائلا: «إن تاريخ اليونان يشهد - في حقيقة الحال - على عكس ما ذهب إليه مونتسكيو تماما؛ لأن أثينا تنتج الآن القطن والحرير والزيت والجلود، مع أنها تئن تحت نير الاستعباد، في حين أن إسبارطة لا تنتج شيئا. فلا مجال للشك في أن أثينا كانت أغنى من إسبارطة بكثير في قديم الزمان أيضا. إن تعليل نظام الحكم بكون الأرض خصبة أو قاحلة، لا يقوم على أي أساس واقعي؛ فإن السويد - مثلا - ظلت مدة طويلة تحت نير الحكومة الاستبدادية، في حين أن بولندا أرستقراطية على الرغم من خصوبة أراضيها.»
أنا لا أرى لزوما لاستعراض جميع الانتقادات المحقة التي كانت وجهت إلى آراء مونتسكيو هذه في زمانه، غير أني أرى من الضروري أن أشير إلى حكم العلم الحاضر على هذه الآراء.
لقد حدد مونتكسيو مفهوم «الإقليم» بحدود ضيقة؛ لأنه حصره في شدة الحرارة والبرودة تقريبا، كما أنه بالغ مبالغة كبيرة جدا في تأثير ذلك في أحوال الأمم، وقد فاته أن الإنسان يقاوم تأثير الحرارة والبرودة ب «تكيف فسلجي طبيعي » من جهة، و«تكيف اجتماعي اصطناعي» من جهة أخرى. فإن النوع الأول من التكيف يتم بردود الأفعال الحياتية - بتقلص أو انبساط الأوعية الدموية المحيطة، وبتزايد أو تناقص الإفرازات العرقية - تبعا لحالة الحرارة الخارجية، وأما النوع الثاني من التكيف فيحدث بتنويع وتنظيم الأغذية والملابس والمساكن، حسب مقتضيات الحرارة.
فقد أخطأ مونتسكيو خطأ عظيما عندما سهى عن ملاحظة الحقائق الراهنة، وتوسع كل هذا التوسع في تقدير مبلغ تأثير الحرارة في طبائع الأفراد والجماعات، وأوصل المغالاة في هذا المضمار إلى حد الادعاء بأن «النظم الاجتماعية والسياسية، والنزعات الدينية والمذهبية، وكثيرا من الأمور الأخلاقية» أيضا تتبع الإقليم بوجه عام، ودرجة الحرارة والبرودة بوجه خاص.
إن جميع الأبحاث التي قام بها علماء التاريخ والاجتماع منذ عهد مونتسكيو إلى الآن، اتجهت اتجاها يخالف المزاعم المذكورة بوجه عام؛ لأنها دلت دلالة قطعية على أن تفشي الجرائم، وإدمان المسكرات، وطغيان الشهوات، من الأحوال الاجتماعية المعضلة التي تتبع عوامل كثيرة، فتختلف لذلك اختلافا كبيرا في الإقليم الواحد بين سكان المدن والأرياف، وفي المدينة الواحدة بين الطبقات الغنية والفقيرة ، وفي الطبقة الواحدة بين معتنقي مختلف المذاهب والديانات، كما أنها تختلف في كل ذلك بين عهد وعهد، وبين قرن وقرن، فتعليل مثل هذه الأمور الاجتماعية المعضلة بتأثير الإقليم والحرارة مما لا يدل على فهم صحيح للحقائق الاجتماعية.
وأما تأسس نظم الاجتماع والحكم، وانتشار الديانات والمذاهب، ونشوء نزعات السلم والحرب؛ فهي من الحادثات التي تتبع سلسلة طويلة ومتشابكة من الوقائع التاريخية، والعوامل الاقتصادية، والتطورات الفكرية والاجتماعية.
إن تعليل وتفسير مثل هذه الحوادث التاريخية والاجتماعية المعضلة، بالعوامل الطبيعية البسيطة - مثل درجة الحرارة، والعرض الجغرافي، وخصوبة الأرض - مما لا يتفق مع حقائق العلم الحديث واتجاهاته أبدا. •••
إذا رجعنا إلى مقدمة ابن خلدون وأنعمنا النظر فيها على ضوء ما ذكرناه آنفا؛ وجدنا أنها كانت أكثر فهما للحقائق الاجتماعية، وأشد تمشيا مع مناحي الأبحاث العلمية.
إن ابن خلدون أيضا قال بتأثير الإقليم والطبيعة في أخلاق الإنسان وطبائعه، ولكنه لم يغال في هذا المضمار كما غالى مونتسكيو ، فلم يقع في الأخطاء التي وقع فيها هذا المفكر المشهور.
بما أننا اتخذنا آراء ابن خلدون في طبائع الأمم وعوامل التاريخ موضوع دراسة خاصة، لا نرى لزوما لإطالة الكلام في هذا المقام، بل نحيل القارئ إلى تلك الدراسة في القسم الثالث من هذا الكتاب.
إن مطالعة تلك الدراسة - ومقارنة الآراء المذكورة فيها بالنظريات المسرودة آنفا - يظهر بوضوح أعظم أن ابن خلدون كان أقرب إلى فهم «طبيعة الحياة الاجتماعية»، وإلى إدراك «روح التاريخ وفلسفته» من مونتسكيو بدرجات، على الرغم من أنه كان قد عاش وفكر وكتب قبله بمدة طويلة تقرب من أربعة قرون.
ابن خلدون وعلم الاجتماع
1 (1)
يعتبر علم الاجتماع أحدث العلوم الأساسية على الإطلاق؛ لأن تأسسه على أسس قويمة لم يتم إلا في الربع الثاني من القرن التاسع عشر.
وأما شرف تأسيس هذا العلم فيعزى - عادة - إلى المفكر الفرنسي المشهور «أوغوست كونت»
Auguste Conte (1798-1853)؛ لأن المومأ إليه كان - على ما يعتقد - أول من اتخذ «الاجتماع» موضوعا لعلم مستقل، وأول من استطاع تأسيس هذا العلم على أسس علمية مثبتة، وزيادة على ذلك فإنه كان أول من ابتدع واستعمل كلمة «السوسيولوجيا»
La Sociologie
لتسمية هذا العلم الجديد.
ولقد وضع أوغوست كونت علم الاجتماع في المرتبة الأخيرة والعليا من «مراتب العلوم»، التي رتبها وشرحها في فلسفته الخاصة، ثم حاول أن يوضح الأسباب التي استوجبت تأخر تأسس هذا العلم إلى هذا الحد، على ضوء نظريته المشهورة عن مراتب العلوم بوجه عام.
لقد لاحظ كونت أن العلوم يختلف بعضها عن بعض اختلافا كبيرا، من حيث درجة «معضلية مواضيعها» ومبلغ «عمومية مسائلها»، وقال إن العلوم التي تكون بسيطة المواضيع تتأسس قبل التي تكون معضلة المواضيع؛ مثلا، من الواضح أن الأفاعيل الحياتية أشد إعضالا من الحادثات الكيماوية، فلا يمكن - والحالة هذه - معرفة قوانين الحادثات الحياتية، قبل معرفة قوانين الحادثات الكيماوية، فكان من الطبيعي أن يتوصل الفكر البشري إلى اكتشاف القوانين الكيماوية قبل اكتشاف القوانين الحياتية، وكان من المستحيل عليه أن يؤسس علم الحياة على أسس علمية مثبتة، قبل أن يؤسس علم الكيمياء على مثل تلك الأسس المثبتة.
وبناء على هذه الملاحظة رتب كونت العلوم الأساسية حسب درجات إعضال مواضيعها، مبتدئا من الرياضيات، التي هي أقل إعضالا من جميعها؛ فتوصل إلى السلسلة التالية: (1) الرياضيات. (2) علم الفلك. (3) علم الفيزياء. (4) علم الكمياء. (5) علم الحياة. (6) علم الاجتماع.
يلاحظ أن مواضيع كل حد من حدود هذه السلسلة، أقل عمومية وأشد معضلية من التي قبلها، وأشد عمومية وأقل معضلية من التي بعدها، فكل علم من هذه العلوم يحتاج إلى التي قبله، ويمهد إلى التي بعده.
ولهذا السبب كان من الطبيعي أن يتقدم علم الفلك - تاريخيا - على علم الفيزياء، كما يتقدم هذا العلم على علم الكيمياء، وعلم الكيمياء على علم الحياة، وعلم الحياة على علم الاجتماع. وكان من المستحيل أن يتأسس علم الاجتماع قبل أن يتأسس علم الحياة، وسائر العلوم المتقدمة عليه.
لم يكن في استطاعة أرسطو - على رأي كونت - أن يتصور علم الاجتماع؛ لأن جميع العلوم الممهدة للعلم المذكور كانت غير معلومة وغير مؤسسة في عصره، وما كان في استطاعة مونتسكيو أيضا أن يوجد علم الاجتماع - على الرغم من العبقرية الفذة التي أظهرها في أبحاثه - لأن علم الحياة لم يكن قد أخذ شكلا علميا بعد زمانه.
من المعلوم أن علم الحياة تأسس في أواخر القرن الثامن عشر، وتقدم تقدما كبيرا في أوائل القرن التاسع عشر؛ ولذلك كان قد حان - عندئذ - دور تأسيس علم الاجتماع. اعتقد أوغوست كونت بذلك، فأخذ على عاتقه مهمة تأسيس هذا العلم تحت تأثير هذا الاعتقاد، واعتبر هذا العلم الجديد خاتمة لسلسلة العلوم. (2)
إن عددا غير قليل من المفكرين انتقدوا نظرية كونت في هذا الصدد من وجوه عديدة.
لقد لاحظوا أولا أن هذه السلسلة لم تعط موقعا ما لعلم النفس؛ لأن كونت كان قد اعتبر العلم المذكور فرعا من فروع علم الحياة. إن تلاميذ كونت فهموا خطأ أستاذهم في هذا الصدد، واعتبروا علم النفس أيضا علما مستقلا، مثل علم الحياة وعلم الاجتماع، وخصصوا له مرتبة جديدة في سلسلة مراتب العلوم، تقع بين هذين العلمين .
ثانيا؛ لاحظ بعض المفكرين «أن تاريخ الاكتشافات من الأمور التي تتأثر من عوامل كثيرة ومتنوعة، فمحاولة تفسير تاريخ العلوم وتعليله استنادا إلى أمر «معضلية المواضيع» وحدها، مما لا ينطبق على الحقائق الراهنة تمام الانطباق.
نحن لا نرى لزوما لمناقشة هذه النظرية من وجوهها المختلفة في هذا المقام، بل نكتفي بسردها لنبين رأي أوغوست كونت في تبعية علم الاجتماع لعلم الحياة من جهة، وفي علة تأخر علم الاجتماع عن سائر العلوم من جهة أخرى.
ومهما كان نصيب هذه النظرية من الصحة، فمما لا مجال للشك فيه أن علم الاجتماع لم ينضم إلى مجموعة العلوم البشرية - بشكل فعال - إلا بعد الربع الأول من القرن التاسع عشر، بعد أن دخلت العلوم الطبيعية بوجه عام، والعلوم الحياتية بوجه خاص، في الطور العلمي المثبت، بفضل الخطط والطرائق الاستقرائية والتجريبية التي أخذ الباحثون يتبعونها في درس مواضيع العلوم المذكورة. (3)
ولكن هذه الحقيقة لا تعني أن المفكرين لم يلتفتوا إلى الحادثات الاجتماعية، فلم يدرسوا شيئا منها قبل ذلك التاريخ، بل الأمر على عكس ذلك؛ فإنه من الأمور الثابتة أن بعض الحادثات الاجتماعية صارت موضوع أبحاث علمية، حتى إن قسما من تلك الأبحاث تقدمت إلى درجة تكوين بعض العلوم الخاصة قبل ذلك بمدة طويلة.
فإن المباحث العلمية التي تعرف باسم علم السياسة، وعلم الأخلاق، وعلم الاقتصاد، وعلم التشريع، وعلم الإحصاء، وعلم البشر، وفلسفة التاريخ، وفلسفة التشريع؛ كانت تكونت قبل التاريخ المذكور بمدد غير يسيرة، ومن المعلوم أن مواضيع هذه العلوم تحوم حول الحياة الاجتماعية البشرية، ولهذا السبب كانت تسمى باسم عام، وهو «العلوم الأدبية والاجتماعية»
Sciences morales et sociales .
غير أن جميع هذه العلوم والمباحث الخاصة كانت مشوبة بنقائص جوهرية؛ كان كل واحد منها يدرس نوعا واحدا من الحادثات الاجتماعية، من غير أن يعتبر علاقة هذه الأنواع بعضها ببعض، وبالمجتمع بوجه عام، ولا بأشكال المجتمع بوجه خاص.
وزيادة على ذلك فإن معظم مباحث هذه العلوم كانت إنشائية ودستورية
Impréiatif, normatif
تبحث «عما يجب أن يكون»، أكثر مما تدرس «ما هو كائن»، وتسعى وراء وضع «دساتير عمل»، أكثر مما تهتم باكتشاف و«استجلاء الحقائق».
إن علماء الأخلاق - مثلا - كانوا يبحثون عن السلوك الذي يجب أن يسلكه الإنسان، من غير أن يدرسوا «سلوك الإنسان»، ومن غير أن يلاحظوا علاقة هذا السلوك بأحوال المجتمع وأشكاله، وكذلك كان علماء الاقتصاد يبحثون في «الثروة»، من غير أن يهتموا بأحوال المجتمع الذي ينتج هذه الثروة أو يستهلكها، وأما البحث في المجتمع كمجموع، ودرس أحواله على هذا الأساس فكان من الأمور الخارجة عن خطط العلوم المذكورة، وبعيدة عن أنظار العلماء المشتغلين بها. (4)
إن هذه الحالة أدت إلى حدوث مباحثات كثيرة ومناقشات شديدة بين مؤسسي علم الاجتماع الذي ظهر متأخرا، وبين أرباب العلوم الاجتماعية التي ذكرناها آنفا؛ ماذا يجب أن تكون علاقة هذا العلم الأساسي الجديد بتلك العلوم الخاصة القديمة؟
لقد انقسم المفكرون والعلماء تجاه هذا السؤال إلى معسكرين متخالفين.
قالت جماعة منهم: إن العلوم الاجتماعية القديمة يجب أن تحافظ على استقلالها، وتواظب على أبحاثها الخاصة، وفق خططها الخاصة ومناحيها الخاصة، وأما علم الاجتماع فيجب أن يقتبس ما يجب اقتباسه من الحقائق التي تكتشفها تلك العلوم، ويركب تلك الحقائق تركيبا فلسفيا، وبتعبير آخر: إن علاقة علم الاجتماع الجديد بالعلوم الاجتماعية القديمة، يجب أن تكون مثل علاقة الفلسفة بسائر العلوم.
ولكن جماعة أخرى قالت بعكس ذلك تماما: إن علم الاجتماع يجب أن يشمل جميع مباحث العلوم الاجتماعية اشتمالا مباشرا، يجب أن تدخل كل هذه العلوم في نطاق علم الاجتماع، فتعتبر فصولا أو فروعا لهذا العلم الشامل؛ ذلك لأن اعتبار تلك المواضيع مستقلا بعضها عن بعض، ودرسها مستقلا عن المجتمع لا بد من أن يؤدي إلى أخطاء كبيرة أساسية؛ فإن البحث في تلك المواضيع لا يمكن أن يوصل إلى حقائق علمية مثبتة إلا عندما يتم على ضوء مناحي البحث التي تتبع في علم الاجتماع.
إن المناقشات التي احتدمت بين الرأيين لم تنته إلى نتيجة حاسمة تماما، ومع هذا أدت إلى عدة نتائج عملية هامة.
فإن علماء الاجتماع أعادوا البحث والنظر في جميع المسائل والمواضيع التي كانت تعتبر من خصائص العلوم الاجتماعية الآنفة الذكر، فكونوا فروعا عديدة لعلم الاجتماع عرفت بأسماء جديدة؛ مثل الاجتماع السياسي، الاجتماع الاقتصادي، الاجتماع التشريعي، وهلم جرا.
ولكن المتخصصين في العلوم الاجتماعية القديمة لم يتنازلوا عن استقلالهم، ومع هذا اضطروا - حينما لاحظوا أهمية النتائج التي توصل إليها علماء الاجتماع - اضطروا إلى إعادة النظر في مباحثهم على أساس ملاحظة أحوال المجتمعات - وفقا لوجهات نظر علم الاجتماع - فأدخلوا بذلك روحا جديدة ونظرات جديدة في علومهم القديمة.
وبهذه الصورة أصبح علم الاجتماع يسيطر على جميع العلوم الاجتماعية، سواء أرضي أصحابها أم أبوا، وأخذ ينفخ روحا تقدميا فيها جميعها.
2 (1)
يتبين مما ذكرناه آنفا أن الذين اعتبروا أوغوست كونت مؤسسا لعلم الاجتماع لم يقولوا ذلك لزعمهم أنه كان أول من درس الحادثات الاجتماعية، بل إنهم قالوا ذلك لزعمهم أنه كان أول من نظر إلى المجتمع ككل، فاتخذه موضوعا لعلم مستقل قائم بنفسه.
لكننا نعتقد - بهذا الاعتبار - أن حق ابن خلدون بلقب «مؤسس علم الاجتماع» أقوى من حق كونت؛ لأنه كان قد فعل كل ذلك قبل أن يؤلف كونت دروسه في الفلسفة الإثباتية بمدة تزيد على أربعمائة وستين عاما.
نحن نعتقد أن مقدمة ابن خلدون لم تكن تلمسا بسيطا لعلم الاجتماع، ولا تحدسا غامضا عنه، بل كانت محاولة ناجحة لاستحداث علم الاجتماع، محاولة تستجمع جميع الشروط التي تخولنا حق تلقيبه بلقب «المؤسس» لهذا العلم. (2)
نحن نعلم أن لقب المؤسس لعلم من العلوم لا يجوز أن يمنح لأي مفكر أو عالم كان، إلا إذا تحققت في أبحاثه الشروط الجوهرية التالية: (أ)
يجب أن يكون العالم المذكور قد تصور موضوع العلم مستقلا عن مواضيع العلوم المعلومة، وأن يكون قد اقتنع بأن ذلك الموضوع يحتاج إلى درس خاص. (ب)
يجب أن يكون قد اعتقد أن الحادثات المتعلقة بذلك الموضوع، لم تكن من الأمور التابعة للأهواء والصدف، بل إنها من الأمور التي تحدث وتتكون تحت تأثير أسباب وعوامل معينة، والتي تتعين تعينا تاما بالظروف والأسباب الموجبة لها، وبتعبير أقصر: إنها من الأمور التي تتبع قانون السببية
Causalité ، وتدخل في نطاق مبدأ التعين والحتمية
Déterminisme . (ج)
يجب أن يكون قد درس الموضوع دراسة وافية في ساحة لا بأس بها، وتوصل إلى اكتشاف بعض القوانين المتعلقة بها.
لا يشترط في التأسيس دراسة الموضوع بكامله، أو اكتشاف قوانينه بأجمعها؛ لأن ذلك يستحيل على شخص واحد، حتى على رجال قرن واحد. فلو اشترط ذلك لما أمكن تسمية أي مفكر كان باسم «المؤسس»، لأي علم كان؛ لأن العلوم تتكون وتتقدم شيئا فشيئا بوجه عام، حتى إننا نستطيع أن نقول إن بناء العلم يعلو ويتوسع دائما ولا يتم أبدا.
ولهذا السبب إن تأسيس أي علم من العلوم لا يعني اكتشاف جميع حقائقه، بل يعني اكتشاف قسم من حقائقه بعد فهم خصوصية موضوعه، وإدراك تبعية ذلك الموضوع لقانون السببية، ومبدأ التعين والحتمية. (3)
إذا أنعمنا النظر في مقدمة ابن خلدون على ضوء هذه المبادئ والحقائق نضطر إلى التسليم بأن مؤلفها المفكر يجب أن يعتبر مؤسسا لعلم الاجتماع.
أولا:
لقد قال ابن خلدون بوجوب اتخاذ «الاجتماع الإنساني» موضوعا لعلم مستقل، وسمى هذا العلم باسم «علم العمران»، وبما أنه قصد من كلمة العمران الاجتماع بوجه عام، بدليل تعريفه للعمران بقوله: «هو التساكن والتنازل في مصر أو حلة، للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات» (ص41)، نستطيع أن نقول إنه سمى العلم المذكور باسم خاص، ينطبق على موضوعه تمام الانطباق.
لقد قال ابن خلدون عدة مرات بأن موضوع هذا العلم هو «العمران البشري والاجتماع الإنساني»، وصرح بأنه يختلف من علم الخطابة ومن علم السياسة، وأكد ضرورة اعتباره مستقلا عن سائر العلوم.
وقد قال: «إذا كانت كل حقيقة متعقلة طبيعية، يصلح أن يبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها، وجب أن يكون باعتبار كل مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصه» (ص38). وبما أن العمران البشري، والاجتماع الإنساني حقيقة قائمة بنفسها، وجب أن يعتبر من خصائص علم خاص قائم بنفسه.
ابن خلدون عين مبلغ شمول هذا العلم بوضوح يثير الإعجاب؛ فإنه أدخل «الملك والكسب والصنائع والعلوم» في نطاق موضوع العمران، فاعتبرها كلها من جملة مباحث علم العمران.
فإنه عندما ذكر هذا العلم في الديباجة قال: «الكتاب الأول: في العمران، وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية،
1
من الملك والسلطان والكسب والصنائع والعلوم، وما إلى ذلك من العلل والأسباب» (ص6).
وكرر ذلك في عنوان الكتاب المذكور، حيث قال: «في طبيعة العمران في الخليقة، وما يعرض فيها من البدو والحضر، والتغلب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونحوها، وما لذلك من العلل والأسباب» (ص35).
كما قال في سياق الكلام: «ونحن الآن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية» (ص40).
يتبين من ذلك كله أن ابن خلدون أدرك تمام الإدراك درجة شمول الموضوع الذي تصوره لعلم العمران، أي علم الاجتماع.
ثانيا:
لقد اعتقد ابن خلدون تمام الاعتقاد بأن الأحوال الاجتماعية تتأتى من «علل وأسباب»، وفهم أن هذه العلل والأسباب تعود في الدرجة الأولى إلى «طبيعة العمران»، وبتعبير آخر إلى «طبيعة الاجتماع».
إن اعتقاد ابن خلدون في ذلك يظهر أولا من دلالة العبارات التي ذكرناها آنفا؛ فإنه يشير فيها بصراحة إلى «العلل والأسباب»، وإلى «الوجوه البرهانية»، مما يدل دلالة واضحة على أنه أدرك أن الحادثات الاجتماعية تابعة لعلل وأسباب، وأن البحث فيها يجب أن يكون بوجوه برهانية.
ولكن اعتقاد ابن خلدون في هذا الأمر يظهر بوضوح أكبر من ذلك أيضا مما كتبه في معظم أبحاثه.
فإنه يقول مثلا: «للعمران طبائع في أحواله» (ص6)، ويبحث عن «طبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني» (ص9)، ويشير إلى «معرفة طبائع العمران» (ص37).
كما أنه يكتب عدة مرات مثل هذه العبارات: «يجب أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه» (ص37). «فإن كل حادث من الحوادث، ذاتا كان أو فعلا، لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته، وفيما يعرض له من أحواله» (ص35-36).
إن المؤرخ يجب أن يكون «عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها» (ص36). «حكم الملك والسلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران» (ص224).
حينما يتكلم ابن خلدون عن الوظائف الخلافية، ويميز بينها وبين الوظائف السلطانية، يقول: «نتكلم في ذلك بما تقتضيه طبيعة العمران في الوجود الإنساني» (ص236). «كلامنا في وظائف الملك والسلطان ورتبته، إنما هو بمقتضى طبيعة العمران ووجود البشر» (ص236).
وقد استعمل ابن خلدون تعبير «طبيعة الملك» في عناوين فصول عديدة: «إن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد» (ص166)، «إن من طبيعة الملك الترف» (ص167)، و«إن من طبيعة الملك الدعة والسكون» (ص167).
كما أنه استعمل في عدة مواضع تعبير «طبيعة العمران»، و«طبيعة العصبية»، حتى إنه أشار إلى «طبائع الأكوان»، و«طبيعة الوجود».
وزيادة على كل ذلك فقد صرح ابن خلدون في عدة فصول أن الحوادث الاجتماعية لم تكن نتيجة اختيار، بل إنها نتيجة ضرورية لطبيعة الاجتماع.
فقد بدأ فصل انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة بقوله: «اعلم أن هذه الأطوار طبيعية للدول» (ص172).
كما قرر في هذا الفصل أن «طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة؛ لضرورة تبعية الرفه للملك» (ص172).
وقد قال في فصل «انقلاب الخلافة إلى الملك»: «الملك غاية طبيعية للعصبية، وليس وقوعه عنها باختيار، إنما هو بضرورة الوجود وتربيته» (ص202).
كما قال في الفصل نفسه، بعد استعراض ما حصل من الاختلاف في أمر الخلافة حتى عهد معاوية: «ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به، ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه، فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها» (ص205).
وقال ابن خلدون في الفصل الذي يقرر: «أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع»: «قد قدمنا العوامل المؤذنة بالهرم، وأسبابه واحدا بعد واحد، وبينا أنها تحدث للدولة بالطبع، وأنها كلها أمور طبيعية لها، وإذا كان الهرم طبيعيا في الدولة، كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية، كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني، والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها؛ لما أنه طبيعي، والأمور الطبيعية لا تتبدل» (ص293-294).
إن مقدمة ابن خلدون مملوءة بمثل هذه الكلمات والأبحاث التي تدل دلالة قطعية على تفكيره الدائم في «طبيعية الأشياء»، وضرورة الوجود»، و«ترتيب الوجود»، وعلى فهمه الواضح ل «طبيعة الحوادث الاجتماعية وضروريتها»، وبتعبير أقصر: على قوة اعتقاده بتبعية الحوادث الاجتماعية لقانون السببية، ومبدأ التعين والحتمية.
كان «مونتسكيو» قد عرف «القوانين» - في أواسط القرن الثامن عشر - بقوله: «الروابط الضرورية التي تتأتى من طبيعة الأشياء»، وتعريفه هذا كان قد نال شهرة كبيرة. نحن نعتقد أن كل من ينعم النظر في الأمثلة التي ذكرناها آنفا؛ يضطر إلى التسليم بأن ابن خلدون كان قد فكر في ذلك تفكيرا واضحا قبل كتابة التعريف المذكور بقرون عديدة، كما نرى أن بعض تلك العبارات مما يجوز ذكره بين أحسن الأمثلة وأوضح الأدلة، على حتمية الحوادث الاجتماعية.
ثالثا:
لم يمر ابن خلدون في المقدمة على المبادئ والمواضيع المذكورة مرا سريعا، كما أنه لم يكتبها كتابة عرضية، بل إنه عمل بتلك المبادئ عملا متواصلا، ودرس تلك المواضيع دراسة تفصيلية.
وإذا صرفنا النظر عن بعض الفصول والأبحاث التي تأتي في المقدمة بمثابة معلومات تمهيدية أو استطرادية، يمكننا أن نقول:
إن الباب الأول بمثابة فصول في الاجتماعيات العامة
Sociologie Génerale .
وإن البابين الثاني والثالث يحتويان على الكثير من أبحاث الاجتماعيات السياسية
Socioligie Politique .
والباب الرابع بمثابة أبحاث في اجتماعيات الأمصار
Sociologie Urbaine .
وأما الباب الخامس فهو في الاجتماعيات الاقتصادية
Sociologie économique .
والباب السادس يحتوي على أبحاث كثيرة في «الاجتماعيات الأدبية»
Sociologie morale . (4)
بناء على كل ما ذكرناه آنفا نعتقد أن ابن خلدون يستحق لقب «مؤسس علم الاجتماع» كل الاستحقاق.
وإذا لاحظنا أنه فكر في كل ذلك، وكتب كل ذلك قبل أوغوست كونت بمدة تزيد على أربعة قرون ونصف قرن، وإذا تذكرنا في الوقت نفسه بأنه كان أقدم على ذلك قبل تقدم علمي الفيزياء والكيمياء، فضلا عن تأسس علم الحياة في القرن الرابع عشر، حين كان مفكرو أوروبا لا يزالون يتيهون في فيافي التفكير الكلماني الدرساني؛ اضطررنا إلى التسليم بأن عمله كان عملا جبارا، ينم عن تفكير عبقري، يستحق كل تقدير وإعجاب.
هذا ومما تجب ملاحظته بوجه خاص، أن ابن خلدون يتلقى «علم الاجتماع» بمعناه الشامل التام؛ لأنه يعتبر الحياة السياسية والاقتصادية والصناعية والعلمية من مظاهر الحياة الاجتماعية، وينظر إلى الأبحاث المتعلقة بها كفروع لعلم الاجتماع.
إن موقف ابن خلدون في هذه القضية يرفعه مباشرة إلى مصاف علماء الاجتماع الذين نبغوا في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن الحاضر.
المذاهب الأساسية في علم الاجتماع
1
إن اختلاف المفكرين والباحثين في أسس علم الاجتماع لم ينحصر بمسألة علاقة هذا العلم الجديد بالعلوم الاجتماعية القديمة وحدها، بل شمل مسألة علاقة علم الاجتماع بسائر العلوم أيضا.
وقد حام الاختلاف - بوجه خاص - حول مناحي بحث هذا العلم، وتناول مسألة علاقة هذه المناحي بمناحي أبحاث العلوم الأخرى.
إن اختلاف وجهات النظر في هذه القضية أدى - منذ عهد أوغوست كونت - إلى تكوين عدة مذاهب في علم الاجتماع، إننا نستطيع أن نلخص أهم الفروق التي تميز بعضها من بعض بوجهات النظر التالية: (1)
النظرة الطبيعية والآلية في علم الاجتماع
Mécanicisme :
لقد نظر بعض العلماء إلى الحوادث الاجتماعية نظرة طبيعية ميكانيكية، وحاولوا إرجاع قوانينها إلى دساتير رياضية؛ أسوة بالقوانين الطبيعية.
إن هذا التيار الفكري حمل بعض العلماء على تسمية بعض الأبحاث الاجتماعية بأسماء مقتبسة من العلوم الطبيعية، فإنهم سموا - مثلا - المباحث المتعلقة بالنظام الاجتماعي باسم «الاستاتيكا الاجتماعية»
Statique social ، كما سموا الأبحاث المتعلقة بالتحولات الاجتماعية باسم «الديناميكا الاجتماعية»
Dynamique social . (2)
النظرة الحياتية - البيولوجية - في علم الاجتماع
Biologisme :
وقد نظر بعض العلماء إلى الحادثات الاجتماعية نظرة «حياتية»، وهذه النظرة حملتهم على تسمية بعض المباحث الاجتماعية بأسماء مقتبسة من علم الحياة؛ فإنهم سموا - مثلا - الأبحاث المتعلقة ببناء المجتمعات وأشكالها المختلفة باسم «المرفجة الاجتماعية»
Morphologie sociale ، كما سموا الأبحاث المتعلقة بالحوادث التي تحدث في المجتمعات، والأفاعيل التي تتجلى فيها باسم «الفسلجة الاجتماعية»
.
وقد خطا بعض العلماء في هذا السبيل خطوات أوسع من ذلك أيضا؛ لأنهم شبهوا المجتمعات البشرية بالمخلوقات العضوية، وحاولوا - لذلك - أن يكتشفوا بعض الحقائق الاجتماعية، عن طريق الاستعانة بمكتشفات علم الحياة، وقد عرف مذهب هؤلاء باسم «المذهب العضواني» في علم الاجتماع
Organicisme .
هذا وقد اهتم بعض العلماء بنقل نظرية التطور من ساحة الحياتيات إلى ميدان الاجتماعيات، وقد عرف مذهب هؤلاء باسم «المذهب التطوري» في علم الاجتماع
Transformisme social ، أو
Sociologie évolutionniste . (3)
النظرة النفسية - السكلجية - في علم الاجتماع
:
وقد نظر بعض العلماء إلى الحادثات الاجتماعية بنظرات «علم النفس»، وحاولوا أن يدرسوا هذه الحادثات عن طريق درس الحادثات النفسية التي تتجلى في المجتمعات، فقالوا إن الحادثات الاجتماعية ليست إلا نوعا خاصا من الحادثات النفسية، وإن علم الاجتماع ليس إلا «علم التفاعلات النفسية المتقابلة»
Interpsychologic . (4)
النظرة الاجتماعية في علم الاجتماع
Sociologisme :
ولكن بعض العلماء عارضوا جميع النظرات المذكورة آنفا، وقالوا إن الحادثات الاجتماعية تكون صنفا خاصا من الحادثات، فيجب أن تدرس وتفسر بطرائق خاصة، تختلف عن طرائق سائر العلوم بأجمعها. لا النظرة الآلية، ولا النظرة الحياتية، ولا النظرة النفسية، يمكن أن توصلنا إلى فهم الحقائق الاجتماعية؛ فيجب علينا أن ندرس الحادثات الاجتماعية «بنظرة اجتماعية» خاصة، وأن نبحث عن عوامل كل نوع من الحادثات الاجتماعية من بين أنواعها الأخرى.
إن هؤلاء العلماء أيضا انقسموا إلى عدة مذاهب فرعية؛ إذ قال بعضهم إن أساليب المعيشة والأحوال الاقتصادية، هي التي تعين اتجاه تطور المجتمعات، وقال بعضهم إن بنية المجتمع - ومرفجته
Morphologie - هي التي تسيطر على جميع التحولات.
هذه هي أهم المذاهب والنظريات في أسس علم الاجتماع.
إن الفيلسوف الإنجليزي «هربرت سبنسر»
H. Spencer
كان من أقوى ممثلي المذهب العضواني، وكان المفكر الفرنسي «غبريال تارد»
G. Tarde
من أكبر دعاة المذهب النفساني، وأما العالم الفرنسي إميل دوركهايم
E. Durkheim
فكان من أشد المتمسكين بالمذهب الاجتماعي، كان المومأ إليه يعتبر البنية والمرفجة من أهم العوامل الأساسية، حين أن «كارل ماركس»
K. Marx
الألماني كان يقول إن أهم العوامل الاجتماعية تتمركز في الحياة الاقتصادية.
إننا لا نرى لزوما - ولا مجالا - لتفصيل هذه المذاهب المختلفة ومناقشتها في هذا المقام، ومع هذا نرى لزاما علينا أن نصرح بأننا نميل إلى «النظرات الاجتماعية»، ونقول بأن أهم العوامل تتأتى من بنية المجتمعات.
ولكننا نعتقد بأن النظرات الأخرى أيضا لم تخل من الفائدة بتاتا؛ لأنها أفادت علم الاجتماعية بعض الإفادة؛ إذ إنها أدت إلى اكتشاف في بعض الحقائق الاجتماعية الهامة. وأما أخطاء تلك النظرات فقد نجمت عن المغالاة فيها، وعن الاسترسال في محاولة تطبيق مكتشفات العلوم المختلفة على ساحة الاجتماعيات، بلا درس الواقعات الاجتماعية درسا مباشرا.
ولا شك في أن أنجع الوسائل لاكتشاف القوانين الاجتماعية هي درس الحياة الاجتماعية، وحادثاتها المختلفة درسا مباشرا.
2
إن مقدمة ابن خلدون تحتوي على بذور هامة لمختلف المذاهب الاجتماعية التي ذكرناها آنفا.
يدرس ابن خلدون الحادثات الاجتماعية بنظرات اجتماعية على الأكثر، ومع هذا إنه يلجأ إلى النظرات النفسانية والعضوانية أيضا في بعض الأحوال، حتى إنه لا يغفل عن النظرات الطبيعية والآلية في بعض الأحيان.
ندرج فيما يلي بعض الأمثلة على كل واحدة من هذه النظرات: (1)
يبدأ ابن خلدون الفصل الأول من الباب الثاني بالعبارة التالية: «إن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش» (ص120).
ثم يعلل هذا المبدأ في الفصل المذكور، وبعد ذلك يوسعه ويفصله في فصول عديدة، ولا سيما في فصول الباب الخامس.
من البديهي أن ذلك ينم عن نزعة قوية لتعليل الحوادث الاجتماعية بالعوامل الاقتصادية، ويتضمن بذور المذهب المعروف باسم «المادية التاريخية» على رأي كارل ماركس. (2)
يلاحظ ابن خلدون أهمية الأشكال الاجتماعية أحسن ملاحظة عندما يقول: «إن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة.» وبعكس ذلك: «إن الأوطان الخالية من العصبيات يسهل تمهيد الدولة فيها» (ص164).
ولا حاجة للبيان أن ذلك ينم عن نزعة بارزة للتعليل بالأشكال الاجتماعية، وفق نظريات إميل دوركهايم. (3)
ينظر ابن خلدون إلى المجتمعات كعضويات، ويصرح بذلك في عدة محلات، فإنه يكتب ما يأتي في الفصل الذي يقرر «أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره»: «إن العمران كله، من بداوة وحضارة، وملك وسوقة، له عمر محسوس، كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمرا محسوسا» (ص371).
ويقول في موضع آخر: «إن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص» (ص170)، «وهذا العمر للدولة بمثابة عمر الشخص من التزيد إلى سن الوقوف، ثم إلى سن الرجوع» (ص171).
ويقول كذلك: «إن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم في العمران والدولة» (ص374).
ويتكلم في عدة فصول عن هرم الدولة فيقول: «إن العوارض المؤذنة بالهرم تحدث للدولة بالطبع»، و«حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية، كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني» (ص294).
ومما تجدر ملاحظته أن رأي ابن خلدون في هذا الصدد لم يكن من قبيل التشبيه المجرد، بل هو رأي مبني على الدرس والتفصيل؛ لأنه يحاول أن يبرهن على ذلك باستقراء الوقائع التاريخية.
ولا حاجة للبيان أن هذا الرأي ينم عن نزعة قوية نحو المذهب العضواني في علم الاجتماع، وفق نظريات هربرت سبنسر، وره نه فورمس. (4)
إن آثار النظريات النفسانية كثيرة جدا في مقدمة ابن خلدون؛ فإن في الفصل القائل: «إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب» (ص147)، وفي الفصل الذي يقرر «أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء» (ص148)، وفي الفصل القائل بأن «الملك والدولة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية» (ص154)، وفي الفصل القائل بأنه «إذا استقرت الدولة وتمهدت، فقد تستغني عن العصبية» (ص154)، وفي فصل الحروب (ص270-279) توجد تعليلات وتفصيلات كثيرة مستندة إلى العوامل النفسانية. (5)
إن في مقدمة ابن خلدون آثارا بارزة لنظرات طبيعية آلية أيضا.
وكان قد لاحظ ذلك الأستاذ «ره مه مونيه»، وتأييدا لملاحظته هذه كان أشار إلى ما جاء في الفصل الذي يقرر ابن خلدون فيه بأن «كل دولة لها حصة من الأوطان لا تزيد عليها.»
في الواقع يقول ابن خلدون في الفصل المذكور ما يلي: «والعلة الطبيعية في ذلك هي أن القوة العصبية (مثل) سائر القوى الطبيعية، وكل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال، فشأنها ذلك في فعلها، والدولة في مركزها أشد ما يكون في الطرف والنطاق، وإذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية قصرت وعجزت عما وراءه.»
ثم يؤيد قوله هذا بتشبيهين يدلان على ملاحظة دقيقة في درس حوادث الطبيعة: «شأن الأشعة والأنوار إذا انبعثت من المراكز.» «والدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه» (ص162).
إن النظرة الآلية تتجلى بوضوح تام من خلال هذه الفقرات، ولكننا نجد آثار هذه النظرة في مواضع أخرى أيضا.
لقد كتب ابن خلدون فصلا كاملا عن «أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها» (ص177). يبدأ الفصل بشرح ذلك قائلا: «والسبب في ذلك أن الآثار إنما تحدث عن القوة التي بها كانت أولا، وعلى قدرها الأثر.»
ثم يقول خلال الشرح والتفصيل: «إن الآثار كلها جارية على نسبة الأصل في القوة» (ص181).
ويشير ابن خلدون إلى «تنازع العصبيات»، و«تكافؤ القوى»، و«انضمام القوى وتفرقها»، في الفصل الذي يقرر «أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك» (ص139). ويقول فيما يقوله: «وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضا؛ زادت قوة في التغلب إلى قوتها، وطلبت غاية من التغلب والتحكم أعلى من الغاية الأولى وأبعد، وهكذا دائما حتى تكافئ بقوتها قوة الدولة في هرمها» (ص140).
هذا ويتكلم ابن خلدون عن انضمام القوى وانفصالها بوضوح أتم من ذلك أيضا في الفصل الذي يقرر «أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها» (ص158). إذ يقول في الفصل المذكور ما يلي: «إذا حالت صيغة الدين وفسدت؛ ينتقض الأمر، ويصير الغلب على نسبة العصبية وحدها، دون زيادة الدين، فتغلب الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها، أو الزائدة القوة عليها، الذين غلبتهم بمضاعفة الدين لقوتها، ولو كانوا أكثر عصبية منها وأشد بداوة» (ص158).
مقدمة ابن خلدون في نظر علماء
الغرب
إن مقدمة ابن خلدون لم تثر اهتمام المستشرقين إلا بعد العقد الثاني من القرن التاسع عشر، ولم تخرج من ساحة الاستشراق فتدخل ساحة أبحاث العلماء إلا بعد العقد السابع من القرن المذكور.
في الواقع إنها لم تبق مجهولة لدى المستشرقين حتى ذلك التاريخ؛ فإن «دربلو»
D’Herbelot
في أواخر القرن السابع عشر، و«سيلفستر دو ساسي»
De Sacy
في أوائل القرن التاسع عشر، كانا كتبا بعض المعلومات عن ابن خلدون، ونشرا بعض المقتطفات من مقدمته. غير أن اسم ابن خلدون لم يبرز بروزا كافيا من بين أسماء الألوف من مؤلفي العرب الذين كانت تمر أمام أنظار المستشرقين، كما أن المقدمة لم تبرز البروز الذي تستحقه من بين ألوف المؤلفات العربية التي كانت تسترعي دراساتهم ومطالعاتهم. فكل ما كتبه المومأ إليهما لم يكف لتبريز أهمية المقدمة، ولإظهار طرافة ابن خلدون.
إن هذا «التبريز» لم يتم إلا بعد نشرات هاممر
Hammer
وشولتز
Schulz .
فقد نشر «هاممر» أولا رسالة بالألمانية عن بعض النواحي من تاريخ الإسلام، أشار فيها إلى بعض آراء ابن خلدون، ولقبه بلقب «مونتسكيو العرب»، وبعد ذلك نشر مقالا في المجلة الآسيوية باللغة الفرنسية سنة 1822، عن مقدمة ابن خلدون، استلفت به أنظار المستشرقين إليها قائلا: «إن إصابة المحاكمة وسلامة النقد اللتين تسودان المقدمة، تبهر أنظار كل من يطالعها.»
وأضاف إلى ذلك ما يلي: «قلما يوجد بين المؤلفات الشرقية ما يستحق الترجمة - ترجمة تامة - بقدر تأليف ابن خلدون هذا.»
كان هاممر يشتغل عند ذاك بجمع الوثائق اللازمة لكتابة تاريخه الكبير عن الدولة العثمانية، على أساس مقابلة المصادر الشرقية بالمصادر الغربية، وكان يخالط لذلك رجال الدولة العثمانية في عاصمتها، ويراجع المخطوطات المخزونة في مكتباتها، وقد لاحظ خلال ذلك أن مقدمة ابن خلدون تقرأ هنالك بشغف عظيم، ولا سيما في ترجمتها التركية، فكتب في مقاله المذكور ما يلي: «إن مقدمة ابن خلدون من أهم المؤلفات المنتشرة والمشتهرة في عاصمة السلطنة العثمانية، وهي مما يطالعه جميع رجال الدولة والوزراء، وأمراء الأروام، والتراجمة المثقفين المستخدمين في المصالح المختلفة.»
وتأييدا لرأيه في أهمية هذه المقدمة نشر «هاممر» عناوين الفصول التي تؤلف الأبواب الخمسة الأولى منها، وأظهر أسفه الشديد على عدم عثوره على بابها السادس؛
1
لعلمه بأن هذا الباب كان من أهم المصادر التي استقى منها «حاجي خليفة» المعلومات الكتبية التي دونها في «كشف الظنون».
ولم تمض مدة طويلة على انتشار مقالة هاممر، حتى عقب عليها «غارسن دو تاسي»
Garcin de Tassy
بمقالة، ذكر فيها بأنه وجد في المكتبة الملكية في باريس نسخة كاملة من مقدمة ابن خلدون، ونشر عناوين الفصول التي تؤلف الباب السادس إتماما لما كان نشره هاممر.
ثم قام شولتز - سنة 1825 - بدعاية قوية لمقدمة ابن خلدون ؛ نشر في المجلة الآسيوية مقالا «حول المؤلف التاريخي الانتقادي الكبير» لابن خلدون، دعا فيه إلى طبع المقدمة وترجمتها بكاملها.
انتقد شولتز الخطة التي كان يسير عليها المستشرقون إذ ذاك، قائلا: «إنهم يهتمون بالشعراء بوجه خاص، ويهملون المؤرخين والمفكرين. إن أبحاثهم توجه اهتماما متساويا نحو أسخف الآثار وأهم الأخبار، فلا تميز كثيرا بين الأسطورة التي لا تفيد شيئا، وبين الفلسفة التي تستحق انتباه جميع الذين ينزعون إلى التعمق والتأمل.»
ثم نقل شولتز البحث إلى اهتمام الأوروبيين بالأدب اللاتيني في عصر الانبعاث، فقال: «لا شك في أن أجدادنا لو كانوا حصروا اهتمامهم بغزليات الأدب اللاتيني، من غير أن يطلعونا على كتابات مفكريهم ومؤرخيهم؛ لظلت معرفتنا عن الأدب المذكور ناقصة جدا، وفكرتنا عنه مغلوطة تماما. إن موقفنا تجاه الأدب العربي الآن لا يختلف عن ذلك أبدا.» «ولأجل أن نوصل الناس إلى حالة تساعدهم على تقدير عبقرية العرب الخالدة، ولأجل أن نعرفهم ذهنية هذا الشعب الذي فتح العالم وحفظ العلوم؛ أعتقد بأنه يجب علينا أن نعمل شيئا غير تكرار أطلال المعلقات، ومبالغات المتنبي، تكرارا لا يعرف الانقطاع.»
ثم عقب شولتز على كل ذلك بالعبارة التالية: «إنني كتبت هذه المطالعات والملاحظات تحت تأثير كتاب مخطوط طالعته أخيرا، وأسفت جدا لأنني لم أره مطبوعا ومترجما ترجمة تامة.»
إن كتابة شولتز هذه وجدت صدى عميقا بين المستشرقين ، وحملتهم على نقل وترجمة بعض فصول المقدمة.
ولكن نسخ المقدمة المخطوطة المعلومة عندئذ كانت محدودة؛ ولذلك لم تنشط هذه الحركة بالسرعة الكافية، إلى أن أقدم المستشرق الفرنسي كاترمير
Qatremére
على طبع المقدمة في ثلاثة مجلدات سنة 1858. إن المستشرق المشار إليه بعد أن أنجز طبع المقدمة، شرع في ترجمتها أيضا، ولكنه مات قبل أن يتقدم فيها كثيرا، فأخذ البارون دو سلان
De Slane
على عاتقه هذه المهمة، وأنجزها بسرعة؛ فطبع الترجمة مع مقدمة طويلة، وشروح وتعليقات كثيرة، في ثلاثة مجلدات، ظهر الأول منها سنة 1862، والأخير سنة 1868.
إن هذه الترجمة أخرجت مقدمة ابن خلدون من دائرة اطلاع المستشرقين المحدودة، ووضعتها في متناول العلماء والمفكرين.
إن المقدمة لم تقدر حق قدرها إلا من جراء الأبحاث التي نشرت بعد ظهور ترجمتها الفرنسية؛ لأنها كانت قد ظلت حتى ذلك الحين محصورة في نطاق أبحاث المستشرقين الملمين باللغة العربية إلماما تاما، وهؤلاء لم يكونوا - بطبيعة الحال - في وضع يساعدهم على تقدير أهمية مباحثها حق التقدير، ولا سيما وأهم أقسام المقدمة وأطرف مباحثها يتعلق بعلم الاجتماع، وهذا العلم كان عندئذ في بدء تكوينه، ومسائله كانت لا تزال خارجة وبعيدة عن اطلاع المستشرقين بوجه عام. ولهذا السبب نستطيع أن نقول إن البارون دو سلان خدم ذكرى ابن خلدون خدمة لا تقدر بثمن، بإقدامه على ترجمة المقدمة بتمامها.
إن انتشار ترجمة المقدمة أثر في العلماء والمفكرين الذين اطلعوا عليها تأثيرا عميقا، وولد في نفوسهم إعجابا شديدا بعبقرية هذا المفكر العربي العظيم الذي كان قد سبق الكثيرين من بحاثة الغرب إلى الكثير من الآراء والنظريات القيمة، حتى إن هذا الإعجاب وصل عند بعضهم إلى درجة الاندهاش. •••
بعد انتشار ترجمة المقدمة صار علماء الاقتصاد والتاريخ والاجتماع يطلعون على آراء ابن خلدون، ويلفتون الأنظار إلى ما يجدون بينها من النظرات القيمة حول بعض المسائل التي لم يفرغوا هم من درسها وبحثها إلا في المدة الأخيرة.
فقد لاحظوا بدهشة كبيرة أن المعلومات التي كانت مقررة في تاريخ العلوم المذكورة تحتاج إلى تبديل وتحوير، على ضوء الحقائق التي وجدوها في مقدمة ابن خلدون.
كانوا يزعمون قبلا أن «فيكو» هو أول من فكر في فلسفة التاريخ، ولكنهم علموا - بعدئذ - أن ابن خلدون كان قد فعل ذلك - في مقدمته - قبل «فيكو» بمدة تزيد على ثلاثة قرون ونصف قرن.
وكانوا يزعمون قبلا أن «أوغوست كونت» هو الذي أسس علم الاجتماع على أسس مستقلة علمية، ولكنهم علموا بعدئذ أن ابن خلدون قد سبق «كونت» إلى ذلك قبل مدة تزيد على أربعة قرون ونصف قرن.
وقد وجدوا أن كثيرا من الآراء والمبادئ التي قال بها علماء الاقتصاد ومفكرو الاجتماع - مثل جان باتيست ساي، وكارل ماركس، وباكونين - في أواسط القرن التاسع عشر، كانت مسطورة في المقدمة التي كتبها ابن خلدون في القرن الرابع عشر، تارة في حالة بذور وفسائل صغيرة، وطورا في حالة أغراس نامية كاملة.
ولذلك نجد أن مطالعة مقدمة ابن خلدون صارت تبهر أنظار العلماء المدققين، وتحملهم على إظهار إعجابهم بها في مقالات أو رسائل أو كتب ينشرونها. •••
إننا نستطيع أن نقسم ما كتبه الغربيون عن ابن خلدون ومقدمة ابن خلدون إلى ثلاثة أنواع أساسية: (أ)
الدراسات التي تستهدف تحليل وعرض آراء ابن خلدون عرضا مباشرا على شكل كتاب قائم بنفسه، أو في مقالة خاصة في مجلة علمية. (ب)
الأبحاث التي تخصص لابن خلدون ولمقدمة ابن خلدون في الكتب الباحثة عن الفلسفة الإسلامية، أو تاريخ البلاد الإسلامية، أو تاريخ العلوم عند العرب والمسلمين بوجه عام. (ج)
الأبحاث الواردة عن آراء ابن خلدون ونظرياته في الكتب العلمية العامة، عن التاريخ أو الاقتصاد أو الاجتماع، أو عن تاريخ هذه العلوم.
لا حاجة إلى البيان أن الأبحاث المدونة في النوع الأول من الكتابات والتأليفات تكون أكثر أهمية من غيرها؛ لأنها تكون بطبيعتها أكثر توسعا وأعمق تحليلا وأدق بحثا؛ لاختصاصها بدراسة المقدمة بهيأتها المجموعة، أو من ناحية من نواحيها المختلفة.
غير أن ما يكتب عن المقدمة في النوع الثالث من الكتب «يكون أكثر قيمة منها كلها؛ لأنها تعين منزلة ابن خلدون في العلم وتاريخ العلم بصورة أعم وأتم من غيرها.»
ونستطيع أن نقول إن ابن خلدون لا يأخذ المكانة التي يستحقها في تاريخ العلوم والأفكار إلا بالدخول في مباحث هذا النوع من الكتب والدراسات العامة؛ وذلك لأن مؤلفات النوع الأول لا تخرج كثيرا عن نطاق مطالعات الاختصاصيين، وأما ما يكتب في النوع الثالث من المؤلفات فهي التي تنتشر بين المفكرين والمثقفين بوجه عام.
إنني أعتقد أن ابن خلدون صار موضع عناية لا بأس بها في النوع الأول والثاني من المؤلفات، ولكنه لم ينل بعد ما يستحقه من العناية في النوع الثالث منها. •••
إن أهم نماذج النوع الأول من المؤلفات المتعلقة بابن خلدون هي؛ الدراسات الخاصة التي نشرها «شميث»
N. Shmidt ، و«روزنتال»
Rosentbal ، و«فون كريمر»
A. Von Kremer ، و«ليفين»
Lewine ، و«بوتول»
G. Bouthool ، و«غابرييه لي»
Gabrieli
في اللغات الإنجليزية والألمانية والروسية والفرنسية والإيطالية، ثم المقالات الخاصة التي كتبها ونشرها «ره نه مونيه»
R. Maunier ، و«كولوزيو»
Colosio ، و«فره ره»
Ferreiro ، و«غومبلوفيتش»
Gumplovitz
في اللغات المذكورة.
وأهم نماذج النوع الثاني هو ما كتبه عن ابن خلدون«كارادوفو»
Carra de Vaux
في كتابه «مفكرو الإسلام»، و«دو بوير»
De Boer
في تأليفه «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، و«ريختر»
G. Richter
في كتابه «مؤرخو العرب»، و«كليمان هوآر»
Cl. Huart
في كتابه «الأدب العربي»، و«نيكلسون»
Nicholson
في «تاريخ العرب الأدبي»، و«غوتيه»
Gautier
في كتابه عن «العصور المظلمة في المغرب»، و«فور-بيكه»
G. Faure-Biguet
في «تاريخ أفريقيا الشرقية في عهد الحكم الإسلامي».
وأما أهم نماذج النوع الثالث؛ فهو ما كتبه «فلينت»
R. Flint
في كتابه عن «تاريخ فلسفة التاريخ»، و«فارد»
F. L. Vard
في تأليفه «علم الاجتماع النظري»، و«رابابور»
Ch. Rappaport
في كتابه «فلسفة التاريخ، كعلم التطور»، و«ره نه مونيه»
René Maunier
في كتابه «المدخل إلى علم الاجتماع»، و«توينبي»
Toynbee
في مؤلفه الكبير «دراسة في التاريخ».
أنا لا أود أن أستعرض وألخص كل ما جاء عن ابن خلدون في هذه المؤلفات المتنوعة، بل أكتفي بذكر أبرز النماذج من الكلمات التي كتبت في هذا الصدد في الأنواع الثلاثة الآنفة الذكر؛ لتعيين منزلته في تاريخ علمي التاريخ والاجتماع. ••• (أ)
لقد كتب العالم الاجتماعي «لودويك غومبلوفيتش» بحثا هاما عن نظريات ابن خلدون بعنوان: «مفكر اجتماعي عربي، في القرن الرابع عشر»، قال فيه فيما قاله - بعد أن أشار إلى أن ابن خلدون لم يعرف إلا قليلا: «إن ابن خلدون يجوز أن يعتبر مفكرا عصريا بكل معنى الكلمة من وجوه عديدة.» «إنه لم يقع في الخطأ الذي وقع فيه مفكرو القرن الثامن عشر في صدد تقرير منشأ الفروق التي تشاهد بين الأقوام.» «إنه درس الحوادث الاجتماعية بعقل هادئ رزين، وأبدى في هذا الموضوع آراء عميقة جدا، ليس قبل «أوغوست كونت» فحسب، بل قبل «فيكو» أيضا.» «وفي الحقيقة إن ما كتبه ابن خلدون هو ما نسميه نحن اليوم علم الاجتماع .» (ب)
لقد نشر «استفانو كولوريو» في «مجلة العالم الإسلامي» الفرنسية - سنة 1914 - دراسة عن ابن خلدون قال فيها في جملة ما قاله:
2 «ليس لأحد أن ينكر أن ابن خلدون اكتشف مناطق مجهولة في عالم الاجتماع؛ إنه سبق ماكيافللي، ومونتسكيو، وفيكو، إلى وضع علم جديد هو النقد التاريخي.» «إن مبدأ الحتمية الاجتماعية
Determinisme
مما يعود الفخر في تقريره إلى ابن خلدون، قبل رجال الفلسفة الإثباتية
، وعلماء النفس بقرون متطاولة ...» «إن المؤرخ المغربي العظيم اكتشف مبادئ العدالة الاجتماعية والاقتصاد السياسي قبل كونسيدران وماركس وباكونين بخمسة قرون.» «إذا كانت نظريات ابن خلدون في حياة المجتمع المعقدة تضعه في مقدمة فلاسفة التاريخ، فإن ما يعزوه من شأن كبير إلى دور العمل والملاكة والأجرة تجعله إماما وسلفا لاقتصاديي هذا العصر.» (ج)
يذكر كولوزيو في خلال أبحاثه هذه ما قاله المؤرخ «أماري» - الذي اشتهر بدراسة تاريخ العهد العربي الإسلامي في صقلية: «إن ابن خلدون قد سبق أفذاذ الدنيا إلى فلسفة التاريخ والكلام عليها، ولي أن أقول إنه لم يشق أحد منهم له غبارا.» (د)
لقد نشر «ناتانيل شميت» الأستاذ في جامعة كورنيل في أمريكا - سنة 1930 - كتابا بعنوان «ابن خلدون مؤرخ واجتماعي وفيلسوف»، استعرض وحلل فيه آراء ابن خلدون بكل تفصيل، واشترك مع القائلين بأنه يجب أن يعتبر مؤسسا لفلسفة التاريخ ولعلم الاجتماع، وقال في جملة ما قاله: «إن ابن خلدون اكتشف ميدان التاريخ الحقيقي وطبيعته، وإنه فيلسوف مثل أوغوست كونت، وتوماس بكل، وهربرت اسبنسر، وإنه تقدم في علم الاجتماع إلى حدود لم يصل إليها كونت نفسه في النصف الأول من القرن التاسع عشر.»
وزيادة على كل ذلك قال شميت: «إن المفكرين الذين وضعوا أسس علم الاجتماع من جديد، لو كانوا قد اطلعوا على مقدمة ابن خلدون في حينها، فاستعانوا بالحقائق التي كان قد اكتشفها، والطرائق التي كان قد أوجدها ذلك العبقري العربي قبلهم بمدة طويلة؛ لاستطاعوا أن يتقدموا بهذا العلم الجديد بسرعة أعظم مما تقدموا به فعلا.» (ه)
لقد خصص المستشرق «كارادوفو» في المجلد الأول من كتابه «مفكرو الإسلام» بحثا مطولا «لابن خلدون»، نذكر منه الكلمات التالية: «إن نزعة الاهتمام بالبحث - في كل شيء - عن تاريخ النشوء والتطور، وأسباب الحدوث والتقدم، تضع ابن خلدون - كاتب القرن الرابع عشر - في مصاف أرقى العقليات في أوروبا الحالية.» (و)
لقد خصص «غوتيه» الأستاذ في جامعة الجزائر فصلا طويلا لابن خلدون في الكتاب الذي نشره عن «العصور المظلمة في المغرب»، مع أن الأستاذ المومأ إليه يظهر في كتابه هذا بعض البعد عن الحياد العلمي؛ مما أدى به إلى سوء فهم بعض أقسام المقدمة. إنه يعجب بابن خلدون إعجابا شديدا، فيقول: «المغرب الذي لم يكن غنيا بالرجال العظام، يكاد يملك بضعة أسماء نستطيع أن نضعها في مصاف ابن خلدون، مثل اسم حنيبعل
Annibal ، أو القديس أوغسطين
St. Augustin .» «في الحقيقة إن المكان اللائق لهذا المفكر في ذاكرة البشرية هو صف أمثال هؤلاء العظام، ومع الأسف فإنه لم يوضع بعد في ذلك المكان؛ لأن الذين يعرفونه لا يزالون قلائل.» «إن هذا المجد الدفين يجب أن يبعث على الأقل عندنا نحن الفرنسيين.» (ز)
لقد كتب الأستاذ «فارد»
Vard
الأمريكي في كتابه «علم الاجتماع النظري»، في بحث مبدأ التعين والحتمية في الحياة الاجتماعية
Déterminisme sociale
العبارات التالية: «كانوا يظنون أن أول من قال وبشر بمبدأ الحتمية في الحياة الاجتماعية هو مونتسكيو أو فيكو، في حين أن ابن خلدون كان قد قال بذلك ، وأظهر تبعية المجتمعات لقوانين ثابتة قبل هؤلاء بمدة طويلة في القرن الرابع عشر، حينما كان الغرب مستسلما للفلسفة الدرسانية والكلمانية استسلاما تاما.» (ح)
لقد كتب الأستاذ «روبرت فلينت» الإنجليزي في كتابه «تاريخ فلسفة التاريخ» فصلا عن ابن خلدون، (كما ذكرنا ذلك في بحثنا عن فلسفة التاريخ في الصفحة 175 من هذا الكتاب)، قال فيه في جملة ما قاله: «من وجهة علم التاريخ أو فلسفة التاريخ، يتحلى الأدب العربي باسم من ألمع الأسماء، فلا العالم الكلاسيكي في القرون القديمة، ولا العالم المسيحي في القرون الوسطى، يستطيع أن يقدم اسما يضاهي في لمعانه ذلك الاسم، إن أول كاتب بحث في التاريخ كموضوع علم خاص، هو ابن خلدون.» (ط)
خصص «دي بوير»
De Boer - الأستاذ بجامعة أمستردام - بحثا لابن خلدون في خاتمة الكتاب الذي ألفه عن «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، وكتب في هذا الصدد ما يلي:
3 «يوجد في المقدمة الفلسفية التي كتبها ابن خلدون كثير من الملاحظات النفسية والسياسية الدقيقة، وهي في جملتها عمل عظيم مبتكر، على أن القدماء لم يوفوا المشكلة التاريخية حقها من الدرس العميق؛ فلقد أورثونا مؤلفات تاريخية ضخمة جميلة الأسلوب، ولكنهم لم يورثونا التاريخ علما من العلوم يقوم على أساس فلسفي. فمثلا كانوا يعللون عدم بلوغ الإنسانية منذ زمن بعيد درجة أعلى مما بلغته في المدنية بالاستناد إلى حوادث أولية، كالزلزال والطوفان ونحوها، ومن جهة أخرى كانت الفلسفة المسيحية تعتبر التاريخ بوقائعه تحققا أو تمهيدا لمملكة الله على الأرض. ثم جاء ابن خلدون فكان أول من حاول أن يربط بين تطور الاجتماع الإنساني وبين علله القريبة، مع حسن الإدراك لمسائل البحث، وتقريرها بالأدلة المقنعة.» «وابن خلدون إذ يمهد السبيل لعلم جديد، لا يشير إلا لمسائله الكبرى، ولا ينوه بموضوعه ومنهجه إلا بالإجمال، وهو يرجو أن يأتي من بعده فيواصلوا أبحاثه، ويظهروا مسائل جديدة، معتمدين على الفكر الصحيح والعلم المبين.» «ولقد سارت آمال ابن خلدون في طريق التحقيق، ولكنها لم تتحقق على أيدي المسلمين، وكما أنه لم يسبق إلى ابتكار موضوعه، فكذلك لم يجد من يخلفه في أبحاثه، ومع هذا فإن كتابه أثر في الشرق زمانا طويلا، وكثير من ساسة المسلمين الذين قضوا على آمال كثيرين من ملوك أوروبا وساستها، منذ القرن الخامس عشر، كانوا ممن قرأ ابن خلدون، وتخرج في كتبه.» (ي)
إن أحدث وأشمل الدراسات التي كتبت عن فلسفة التاريخ، ربما كانت المجلدات التي نشرها «توينبي»، الأستاذ في جامعة أكسفورد، بعنوان: «دراسة في التاريخ». يقع هذا المؤلف في ستة مجلدات، وقد نشر السادس منها سنة 1939.
يذكر توينبي في هذه المجلدات ابن خلدون عدة مرات، ويشير إلى آرائه ونظرياته في أكثر من عشرة مواضع، ويخص بعضها أحيانا بعدة صفحات.
يعد «توينبي» ابن خلدون من العباقرة، ويرى في مقدمته دلائل ساطعة على «سعة النظر، وعمق البحث، وقوة التفكير»، ويمتلئ إعجابا بها.
إنه لا يغفل عن النواقص الموجودة في المقدمة، ولا سيما من وجهة انطباق أحكامها على المجتمعات الغربية، وتواريخ الأمم الأوروبية. غير أنه يعزو هذه النواقص إلى الظروف الخاصة التي نشأ فيها ابن خلدون، والشواهد والوقائع التاريخية التي اطلع عليها في تلك الظروف، ويقول تأييدا لهذا التعليل: «لو أن فيلسوفا سياسيا قادرا على تفهم آراء ابن خلدون قد ظهر في العالم المسيحي الغربي في أي وقت خلال القرون الأربعة الأولى من تاريخنا الغربي؛ لوجد ذلك العبقري الوهمي بكل تأكيد في آراء ابن خلدون، تفسيرا فلسفيا مرضيا لكل الشواهد والوقائع التاريخية التي كانت في متناول العقول الغربية في تلك الحقبة.»
وبعد شرح الوقائع التي كانت قد حدثت عندئذ يضيف توينبي إلى ذلك ما يلي: «وفي سياق هذا الكلام يجب أن نتذكر القاعدة التي اتخذناها نقطة ابتداء في دراساتنا للتاريخ، هذه القاعدة التي تنص على أن كل تفكير تاريخي هو حتما نسبي تابع لظروف زمان ومكان المفكر. هذا هو قانون الطبيعة البشرية الذي لا يمكن لأي عبقري بشري أن يستثنى منه.»
وعندما يشير توينبي إلى أن ابن خلدون كتب المقدمة خلال خلوته في قلعة ابن سلامة، بعد اعتزاله الحياة السياسية، يلمح إلى ما يحدث في الشرانق، فيقول: «إن رجل الأعمال الزائل عاد إلى الظهور من عزلته، وقد تغير شكله نهائيا إلى شكل الفيلسوف الخالد الذي لا يزال فكره يعيش في عقل كل من يطالع المقدمة.»
وفي الأخير يصدر توينبي على عمل ابن خلدون هذا الحكم الثمين: «إن ابن خلدون - في المقدمة التي كتبها لتاريخه العام - قد أدرك وتصور وأنشأ فلسفة للتاريخ، هي بلا شك أعظم عمل من نوعه خلقه أي عقل في أي زمان ومكان.»
القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته
نظرة عامة إلى أساليب عرض الآراء
إن آراء ابن خلدون ونظرياته مسرودة في المقدمة بأساليب مختلفة، نستطيع أن نردها إلى الأنواع الثلاثة التالية: (أ )
يعالج ابن خلدون المسألة بكل تفاصيلها، ويسرد آراءه فيها في فصل خاص.
ومن الطبيعي أن درس الفصل المذكور يكفي - في هذه الحالة - للتعرف إلى آراء ابن خلدون في المواضيع المتعلقة بتلك المسألة. (ب)
يتخذ ابن خلدون المسألة الواحدة موضوعا لفصول عديدة، يبحث في كل فصل منها ناحية من نواحي المسألة، ويعرض آراءه فيها.
ومن الطبيعي أن التعرف إلى رأي ابن خلدون في المسائل المعروضة بهذا الأسلوب، لا يمكن أن يتم بدراسة فصل واحد، بل يتطلب مراجعة جميع الفصول التي تتصل بالمسألة. (ج)
لا يخصص ابن خلدون للمسألة فصلا ما، بل يتطرق إليها بصورة عرضية، ويبحث فيها بمناسبات متنوعة في فصول مختلفة.
ومن الطبيعي أن التعرف إلى آراء ابن خلدون في هذه المسائل يتطلب التنقيب في عدد كبير من فصول المقدمة، وكثيرا ما يستوجب استعراض جميع مباحثها. •••
وتوضيحا لما سبق نذكر مثالا لكل واحد من هذه الأساليب الثلاثة: (أ)
إن بحث «الحرب» من أحسن الأمثلة على الأسلوب الأول؛ لأن ابن خلدون عرض آراءه في ذلك في فصل خاص، هو الفصل الذي عنونه بالعنوان التالي: «فصل في الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها». إنه عالج هذا الموضوع في الفصل المذكور من جميع الوجوه التي خطرت بباله؛ ولذلك يستطيع الباحث أن يكون فكرة تامة عن آراء ابن خلدون في الحرب بدرس هذا الفصل وحده . (ب)
ونظرية «الدولة والملك» في المقدمة من أبرز الأمثلة على الأسلوب الثاني؛ لأن ابن خلدون عرض آراءه في ذلك في فصول كثيرة، تناول في كل منها درس القضية من ناحية خاصة، تختلف عن النواحي التي بحثها في الفصول الأخرى. فيترتب على الباحث أن يدرس جميع تلك الفصول؛ ليتوصل إلى فكرة تامة عن نظرية ابن خلدون في «الدولة وتطوراتها». (ج)
وأما رأي ابن خلدون في «القسر الاجتماعي»، فهو من أوضح الأمثلة على الأسلوب الثالث؛ لأن ابن خلدون لم يفرد لذلك فصلا خاصا، ولكنه لاحظ هذه الظاهرة الاجتماعية خلال أبحاثه المختلفة، وتكلم عنها في فصول مختلفة بمناسبات شتى، فلا يستطيع الباحث أن يطلع على رأي ابن خلدون فيها إلا بعد درس المقدمة دراسة تفصيلية مع نظرات تركيبية. •••
ولا حاجة للبيان أن أصعب الدراسات هي التي تحوم حول المواضيع المعروضة بالأسلوب الثالث، وأسهلها هي المعروضة بالأسلوب الأول.
إن الدراسات التالية تستعرض أهم آراء ابن خلدون ونظرياته الأساسية، على اختلاف أساليب عرضها.
موضوع التاريخ ومهمة المؤرخ
1 (1)
يقرر ابن خلدون رأيه الخاص في موضوع التاريخ وحقيقته في بدء الكتاب الأول بالعبارات التالية: «حقيقة التاريخ: أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال؛ مثل التوحش، والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال» (ص35).
يظهر من ذلك أن موضوع التاريخ في نظر ابن خلدون واسع جدا، وهو لا ينحصر بما حدث من الفتوحات والحروب، وما توالى من الدول والملوك في الأزمنة الغابرة، بل يشمل كل ما حدث من التحول في الحياة الاجتماعية - على اختلاف مظاهرها - وفي المؤسسات الاجتماعية - على اختلاف أنواعها - فإن الأخبار المتعلقة بالأحوال الاقتصادية والصنائع والعلوم أيضا تدخل في نطاق موضوع التاريخ.
ابن خلدون يتفوق بنظرته هذه على جميع المؤرخين الذين سبقوه في الشرق والغرب بوجه عام، وعلى جميع الذين أتوا بعده خلال أربعة قرون على أقل تقدير.
ومن المعلوم أن هذه النظرة الشاملة والمتوسعة في موضوع التاريخ، من النظرات الخاصة بما يسمى عادة باسم «تاريخ الحضارة»، وهذا ما حدا ببعض الباحثين إلى أن يعتبروا ابن خلدون «أول من حاول كتابة تاريخ الحضارة» بمعناها الشامل. (2)
يلاحظ ابن خلدون أن التاريخ مما يشغف به الخواص والعوام على حد سواء؛ لأن كل الناس يتشوقون إلى معرفة أخبار الماضي، ويهتمون بأبحاث التاريخ ويتكلمون فيها. غير أنه يجد فرقا عظيما بين مفهوم التاريخ الدارج وبين مفهومه الحقيقي، ويوضح هذا الفرق في الديباجة بالعبارات التالية - بالأسلوب المسجع الذي تختص به الديباجة المذكورة: «إن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال، وتشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال.
إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال.
وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة وعريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق» (ص3-4). (3)
إن النظر إلى التاريخ بهذا المنهج المدقق الشامل يحتم على المؤرخ القيام بمهام وأبحاث شاقة بطبيعة الحال.
إن هذه المهام تحوم - في رأي ابن خلدون - حول ما يقتضيه الأمران الأساسيان التاليان؛ تمحيص الأخبار، وتعليل الوقائع.
تمحيص الأخبار؛ لتمييز الحق من الباطل والصدق من الكذب فيها، وللتأكد من مطابقتها للوقائع. تعليل الوقائع؛ لمعرفة كيفية حدوثها، وأسباب تزاحمها وتعاقبها.
إن من يهمل هاتين المهمتين مكتفيا بنقل الأخبار من غير أن يهتم بتمحيصها، وبسرد الوقائع من غير أن يستقصي عللها، لا يستحق أن يعتبر مؤرخا بالمعنى الذي يقصده ابن خلدون.
فإن الذين يستحقون هذا الاسم - على الرغم مما في مؤلفاتهم من المطعن والمغمز - قليلون جدا، إنهم «لا يكادون يتجاوزون عدد الأنامل وحركات العوامل» (ص4)، وأما البقية فهم من «الهمل الذين ليس يعتبر لهم مقال» (ص5).
ينتقد ابن خلدون هؤلاء المؤرخين بشدة متناهية، وينعتهم بأقسى النعوت مثل: «بليد الطبع والعقل» (ص5). ويرى أن فن التاريخ صار على أيدي هؤلاء «واهيا ومختلطا»، وأصبح «انتحاله مجهلة» (ص28).
ولهذا السبب يرى ابن خلدون لزوما لسلوك مسلك جديد في كتابة التاريخ، ويشرح - بفخر وزهو - الخطة التي ابتكرها هو لهذا الغرض.
2
فأول الواجبات التي تترتب على المؤرخ - إذن - هو تمحيص الأخبار التي يقرؤها في الكتب، أو يسمعها من الرواة.
ذلك لأن «الغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل» (ص4)، ولأن الأخبار والحكايات «مظنة الكذب ومطية الهذر » (ص10)، ولأن «الكذب متطرق للخبر بطبيعته» (ص35).
فيجب على المؤرخ أن يتجنب الغلط والوهم، وأن يميز الكذب من الصدق في الأخبار.
ولكن ما السبيل الذي يجب أن يسلكه للوصول إلى هذا الهدف؟
من البديهي أن تقرير ذلك يتطلب - قبل كل شيء - تعيين أنواع الأغلاط والأوهام والأكاذيب التي تتطرق عادة إلى الأخبار، ثم استجلاء الأسباب الداعية إلى كل نوع منها.
ابن خلدون ينعم النظر في كل ذلك في عدة مواضع من المقدمة، ويتوسع فيها بوجه خاص في مدخل الكتاب الأول، حيث يقول - بعد تعيين موضوع التاريخ - ما يلي: «ولما كان الكذب متطرقا للخبر بطبيعته، وله أسباب تقتضيه»: (1) «فمنها التشيعات للآراء والمذاهب؛ فإن النفس إذا كانت في حالة الاعتدال في قبول الخبر؛ أعطته حقه من التمحيص والنظر، حتى تتبين صدقه من كذبه. وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة، قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص؛ فتقع في قبول الكذب ونقله.» (2) «ومن الأسباب الداعية إلى الكذب في الأخبار أيضا؛ الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح.» (3) «ومنها الذهول عن المقاصد؛ فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه؛ فيقع في الكذب.» (4) «ومنها توهم الصدق وهو كثير، وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين.» (5) «ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع؛ لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع، فينقلها المخبر كما رآها، وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه.» (6) «ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح، وتحسين الأحوال، وإشاعة الذكر بذلك، فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقته. فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة، وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل، ولا متنافسين في أهلها.» (7) «ومن الأسباب المقتضية له أيضا - وهي سابقة على كل ما تقدم - الجهل بطبائع الأحوال في العمران؛ فإن كل حادث من الحوادث، ذاتا كان أو فعلا، لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته، وفيما يعرض له من أحواله؛ فإذا كان السامع عارفا بطبيعة الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها، أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب، وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض» (ص35-36). (يذكر ابن خلدون هذه الأسباب على التوالي من غير أن يرقمها، ونحن اضطررنا إلى ترقيمها؛ تسهيلا لدرسها.)
يلاحظ أولا أن بعض الأمور التي يذكرها ابن خلدون في هذه الفقرات من نوع الغلط والوهم «اللاقصدي»، وبعضها من نوع التلبيس والكذب «القصدي»، بالمعنى الذي يفهم عادة من كلمة الكذب، وبعضها من نوع «عدم التمييز» من جراء عدم التفكير، أو الجهل، أو الانخداع. والمؤلف قد ميز هذه الأنواع بعضها من بعض، غير أنه ذكرها تحت اسم عام، وهو «الكذب»، أعني أنه استعمل هذا الاسم للدلالة على كل ما هو مخالف للواقع، سواء أنتجت هذه المخالفة من كذب المخبر وتلبيسه، أم من توهمه وغلطه، أم من جهله وانخداعه.
كما يلاحظ أن ابن خلدون قد أوضح بعض هذه القضايا توضيحا تاما، وشرحها شرحا وافيا، غير أنه التزم الإجمال في بعضها إجمالا يحوجها إلى الشرح والتفصيل تارة، ويعرضها للغموض والالتباس طورا.
إن السبب الأول:
وهو التشيعات للآراء والمذاهب واضح تماما، ومشروح شرحا جيدا، والفقرات التي تشرحه تتضمن ملاحظات نفسية دقيقة، وهي تبين كيف أن محاكمات المرء تتأثر من «الآراء» التي تكون قد سبقت إلى ذهنه، وكيف أن الآراء المنتشرة في حلقات المجتمع - على شكل نحلة أو مذهب - توجه أذهان الأفراد إلى بعض الاتجاهات، وتؤثر بذلك على ملاحظاتهم ومحاكماتهم تأثيرا شديدا، كما أن هذه الفقرات تشير - ضمنا - إلى وجوب الحياد في تدوين التاريخ وانتقاده.
وأما السبب الثاني:
فبعكس ذلك، لم يكن مشروحا شرحا وافيا، ومع ذلك فإن قضية «التعديل والتجريح» المذكورة في هذه الفقرة تدل على أن المقصود منها هو الخطأ الذي قد يقع فيه المرء من جراء ثقته بالناقل والراوي؛ لأن الراوي قد يكون كاذبا ودساسا فيما يرويه، فإذا وثق المرء به يكون قد تلقى الكذب منه، ونقله إلى غيره ، من حيث لا يقصد ولا يدري. ولكي يتجنب المؤرخ مثل هذه الأخطاء يجب ألا يقبل أية رواية كانت قبل أن يتأكد من عدالة رواتها، وأمانتهم في القول، وسلامتهم من الكذب، وذلك عن طريق البحث والنقد التي سماها علماء التفسير والحديث باسم «التعديل والتجريح».
والسبب الثالث:
أيضا ينطوي على ملاحظة نفسية صائبة مثل السبب الأول، ومع هذا يحتاج إلى بعض التفصيل والتوضيح؛ قد يكون الناقل صادقا في نقله، ومع ذلك مخطئا في فهمه؛ إذ من الممكن أن يكون قد نقل ما عاينه وما سمعه بكل أمانة ومن غير تحريف، ولكنه قد لا يفهم ما سمعه حق الفهم، وقد لا يلاحظ ما شاهده تمام الملاحظة، فقد يتوهم بعض الأمور، وقد يهيم في وادي التخمينات، وفي الأخير قد يخلط بين مشهوداته ومسموعاته، وبين ظنونه وتخميناته، فإذا نقل وروى يكون قد نقل وروى ما يخالف الواقع، مع أنه لم يتقصد الخروج عن جادة الصدق والأمانة في النقل على ما أداه إليه فهمه.
وأما السبب الرابع:
فهو غامض جدا، ولا سيما والفرق بينه وبين السبب الثاني لم يكن واضحا أبدا؛ فإن ابن خلدون ردهما كليهما إلى أمر الثقة بالناقلين، ربما كان القصد من تفريقهما، وذكر كل واحد منهما على حدة؛ هو الإشارة إلى الرواية الاعتيادية من جهة، والرواية المتواترة من جهة أخرى. ومما يقوي هذا الاحتمال أن ابن خلدون يبحث في محل آخر في «التناقل » - كما سنذكره فيما بعد - فلا يبعد أن يكون قد أراد بذلك التنبيه إلى عدم جواز الثقة بالناقلين من جراء كثرتهم فقط، وعدم جواز قبول الخبر من جراء كونه متواترا فحسب.
وأما السبب الخامس:
فيحوم حول «دور التصنيع والتلبيس» في الوقائع والأخبار؛ إن بعض الدساسين يتوسلون في بعض الأحوال بوسائل متنوعة للتلبيس على الناس - بقصد الوصول إلى بعض الأغراض، والحصول على بعض المنافع - ويصطنعون بعض الوقائع والأمور، والأشخاص الذين يشاهدون تلك الوقائع المصطنعة، ويطلعون على تلك الأمور المدسوسة، قد ينخدعون بها، فلا ينتبهون إلى آثار الدس والتلبيس فيها، فإذا نقلوها كما شاهدوها يكونون قد نقلوا ما هو «على غير الحق في نفسه»، وذلك من غير أن يقصدوا الكذب فيما ينقلونه.
وأما السبب السادس:
فيشير إلى الأخبار الكاذبة التي يذيعها بعض المتملقين بقصد التقرب إلى أصحاب التجلة والمراتب؛ إن هؤلاء المتملقين يحاولون التقرب إلى أصحاب الجاه والنفوذ بمدحهم والثناء عليهم، ويسعون إلى زيادة هذا التقرب بإشاعة ذكرهم بين الناس، فيشيعون عنهم من الأقوال والأفعال ما يخالف الواقع مخالفة كبيرة.
وأما السبب السابع والأخير:
فهو صريح ومفصل تفصيلا وافيا؛ إن ما يقرره ابن خلدون في هذه الفقرة يشير إلى طريقة تمحيص الأخبار بقدر ما يبين سبب تباعدها عن الواقع والصواب، وهو من أهم الملاحظات التي حملته على التفكير في طبائع العمران، وعلى كتابة «الكتاب الأول» من التاريخ، ذلك الكتاب الذي عرف فيما بعد باسم «مقدمة ابن خلدون».
3 (1)
يعود ابن خلدون إلى ذكر معظم هذه الأسباب في موضع آخر بوسيلة أخرى، هي قضية «الشهرة والصيت». إنه يتطرق إلى هذه القضية في آخر فصل الحروب، ويكتب في صددها الملاحظات التالية: «الشهرة والصيت، قل أن تصادف موضعها في أحد من طبقات الناس - من الملوك والعلماء والصالحين والمنتحلين للفضائل على العموم - وكثير ممن اشتهر بالشر وهو بخلافه، وكثير ممن تجاوزت عنه الشهرة، وهو أحق بها وأهلها، وقد تصادف موضعها، فتكون طبقا على صاحبها» (ص278).
لا يكتفي ابن خلدون بكتابة هذه الملاحظات، بل يوضح أسباب ذلك أيضا: إن الشهرة تنشأ من الأخبار التي تنشر بين الناس عن أحوال الشخص وأفعاله وأخلاقه؛ ولذلك تكون عرضة لاحتمال «التباعد عن الحقيقة والواقع» شأن جميع الأخبار والروايات. «والسبب في ذلك أن الشهرة والصيت إنما هما بالأخبار، والأخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عند التناقل، ويدخلها التعصب والتشيع، ويدخلها الأوهام، ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال؛ لخفائها بالتلبيس والتصنع، أو لجهل الناقل، ويدخلها التقرب لأصحاب التجلة والمراتب الدنيوية بالثناء والمدح، وتحسين الأحوال، وإشاعة الذكر بذلك، «وأين مطابقة الحق مع هذه كلها؟»» (ص278).
يلاحظ أن ابن خلدون يشير هنا إلى معظم الأسباب التي كان قد ذكرها في مدخل الكتاب الأول بتعبيرات أخرى، فمن المفيد أن نضع هذه التعبيرات أيضا نصب أعيننا عندما ندرس رأيه في الأخبار. (2)
هذا ومما يجدر بالذكر أن ابن خلدون يشير في موضعين آخرين إلى سببين آخرين، علاوة على التي ذكرها في مدخل الكتاب الأول.
أولا: إنه يشير إلى «نزعة المبالغة» عند الناس خلال نقل الأخبار، «ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات» (ص10). «قد نجد الكافة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدول التي لعهدهم أو قريبا منه، وتفاوضوا في الأخبار عن جيوش المسلمين أو النصارى، أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات، وخراج السلطان، ونفقات المترفين، وبضائع الأغنياء والموسرين؛ توغلوا في العدد، وتجاوزوا حدود العوائد، وطاوعوا وساوس الإغراب. فإذا استكشفت أصحاب الدواوين عن عساكرهم، واستنبطت أحوال أهل الثروة في بضائعهم وفوائدهم، واستجليت عوائد المترفين في نفقاتهم، لم تجد معشار ما يعدونه.
وما ذلك إلا لولوع النفس بالغرائب، وسهولة التجاوز على اللسان» (ص11).
إن السبب الذي يسرده ابن خلدون هنا يمكن أن يعتبر من فروع السبب الثالث الذي ذكرناه آنفا، ومع هذا فإنه يجب أن يسترعي الانتباه بوجه خاص؛ لدلالته على أن ابن خلدون قد لاحظ أن بعض التوهمات يتأتى من «نزوع الذهن إلى المبالغة، وولوع النفس بالغرائب.»
وقد أشار ابن خلدون إلى هذه الملاحظة نفسها في موضع آخر أيضا بقوله: «كثيرا ما يعتري الناس الوسواس في الزيادة عند قصد الإغراب» (ص172).
هذا ونحن نرى أن نلفت الأنظار إلى تعبير «التجاوز على اللسان»، الوارد في آخر الفقرة السالفة الذكر؛ لأن هذا التعبير يدل دلالة واضحة على أن ابن خلدون قد لاحظ أن الناس لا يتصورون عادة مفاهيم الأعداد الكبيرة التي يسمعونها أو يلفظونها؛ ولذلك يسترسلون في مثل هذه المبالغات من غير أن ينتبهوا إلى مبلغ فداحتها، وذلك «لسهولة التجاوز على اللسان» في ذكر الأعداد. (3)
وأما السبب الأخير الذي يذكره ابن خلدون - من جملة أسباب الخطأ في فهم الأخبار ونقلها - فهو قياس الماضي على الحال قياسا مطلقا: «ربما يسمع السامع كثيرا من أخبار الماضين، ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف، ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينهما كثيرا؛ فيقع في مهواة من الغلط» (ص29).
يرى ابن خلدون من الواجب على المؤرخ أن يستفيد من «شهادة الحاضر؛ لأن الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء» (ص10)، وعليه أن «يعتبر الحاضر المشاهد والقريب المعروف» (ص11)، وأن «يقيس الغائب بالشاهد والحاضر بالذاهب» (ص9).
غير أنه يلاحظ في الوقت نفسه أن «قياس الماضي على الحال» لا يخلو من محاذير؛ لأن «أحوال العالم والأمم لا تدوم على وتيرة واحدة»، فيترتب على المؤرخ ألا يذهل «عن تبدل الأحوال في الأمم، بتبدل الأعصار ومرور الأيام» (ص28).
ولهذا السبب يوصي ابن خلدون «المماثلة بين الحاضر والغائب» بالبحث عما «بينهما من الوفاق أو الخلاف» (ص28)، ويقرر بأن عدم الانتباه إلى ذلك قد يوقع المؤرخ في «مهواة من الغلط» (ص29).
إن ما يقوله ابن خلدون في هذا الصدد ينم عن ملاحظة دقيقة وتفكير قيم، ومع هذا فلا حاجة للبيان أن هذا السبب أيضا مما يمكن رده إلى السبب الثالث من أسباب الخطأ المذكورة في مدخل الكتاب الأول من حيث الأساس. (4)
إذا أردنا أن نلخص «أسباب الغلط في الأخبار والحكايات» حسب ما لاحظه ابن خلدون، وحلله وعلله في الفقرات الآنفة الذكر، استطعنا أن نقول إنها كثيرة ومتنوعة، بعضها قصدية، وبعضها لا قصدية.
الأغلاط القصدية: هي الأخبار الكاذبة التي يضعها ويلفقها ويشيعها الدساسون ؛ لترويج مذهب، أو نشر دعوة، أو تأمين منفعة، والوقائع المصطنعة التي يسعى المحتالون إلى التلبيس بها على الناس لأغراض مماثلة لذلك.
وأما الأغلاط اللاقصدية: فهي الأخبار المخالفة للواقع، التي ينقلها بعض المخبرين والرواة عن حسن نية؛ وذلك لعدم فهمهم، أو عدم ضبطهم لما يسمعونه ويشاهدونه، أو لميلهم إلى المبالغة وولوعهم بالغرائب، أو لاسترسالهم في قياس الماضي على الحاضر قياسا مطلقا.
وهناك نوع ثالث من الأغلاط يختلط فيها القصدية واللاقصدية، وهي التي تحدث حينما ينقل راو صادق أمين، عن مخبر دساس ملفق؛ لثقته به، أو لعدم قدرته على تمحيص الأخبار التي يسمعها، أو لعدم إقدامه على التمحيص - على الرغم من قابليته له - وذلك لموافقة الخبر للآراء التي يتشيع لها، والمذاهب التي ينتحلها، أو لعدم معرفته لطبائع الأشياء معرفة تساعده على التمييز بين الممكن والمستحيل من الأخبار.
ومن البديهي أن هذا النوع الأخير يكتسب خطوة خاصة حينما يتعدد الرواة ويتوالى النقلة، وتتزاحم وتتعاقب «أسباب المخالفة للواقع» في الروايات. (5)
يذكر ابن خلدون أمثلة عديدة على أغلاط المؤرخين في المقدمة التي خصصها لذكر «فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه، والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط» (ص10-32) من جهة، وفي مدخل الكتاب الأول (ص36-37) من جهة أخرى.
4 (1)
وأما تمحيص الأخبار، وتمييز الصحيح من الباطل فيها، فيتطلب الاهتمام بالأمرين التاليين: (أ)
النظر في مبلغ صدق الرواة وأمانتهم. (ب)
التفكير في درجة إمكان الوقائع المروية.
إن صدق الرواة وعدالتهم مما يتعين بالتجريح والتعديل، حسب ما قرره وفصله علماء التفسير ونقلة الحديث قبل ابن خلدون.
وأما درجة إمكان الوقائع المروية فمما يتعين بمراجعة «علم العمران» الذي وضعه ابن خلدون، وفصله في الكتاب الأول من تاريخه. (2)
عندما يذكر ابن خلدون «التجريح والتعديل» لا يرى لزوما لدرسه وتفصيله، بل يكتفي بالإشارة إلى ما قرره علماء التفسير والحديث في صدده، ويظهر بذلك العلاقة التي يلاحظها بين علم التاريخ وبين علم التفسير والتحديث.
من المعلوم أن هؤلاء العلماء يستندون في أبحاثهم وأحكامهم إلى ما يروى من الأفعال والأقوال عن سيد المرسلين، ويستقون أخبارهم من روايات الرواة - بالتسلسل - عن الصحابة والتابعين، غير أنهم لا يعتمدون على أي راو كان ما لم يتأكدوا من أنه متصف بالعدالة والضبط، ولهذا السبب يقولون بوجوب تعديل جميع الرواة، أي بوجوب «التثبت من عدالتهم وبراءتهم من الجرح والغفلة» (ص441).
فموقف هؤلاء العلماء تجاه الروايات يشبه - من هذه الوجهة - موقف المؤرخين تجاه الأخبار؛ ولذلك يقرنهم ابن خلدون بالمؤرخين في عبارة واحدة في بعض الأحيان، فيقول مثلا: «كثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع ؛ لاعتمادهم على مجرد النقل، غثا أو سمينا» (ص9). (3)
ومع كل ذلك يرى ابن خلدون اختلافا جوهريا بين طريقة تمحيص الأخبار الشرعية، وبين طريقة تمحيص الأخبار التاريخية، ويقول: إذا كان «التجريح والتعديل» يكفي للحكم على صحة الأخبار الشرعية، فإنه لا يكفي للقول بصحة الأخبار التاريخية بوجه من الوجوه.
وذلك لأن الأحكام التي تترتب على الأخبار الشرعية إنما هي «أحكام إنشائية»، تعين واجبات المكلفين، وتأمرهم بالعمل أو الترك، وبتعبير آخر: إنها تحتم عليهم القيام ببعض الأعمال، والتجنب لبعض الأفعال، و«الظن بصحة الخبر» وحده يكفي لتحتيم العمل بمقتضياته - حسب القواعد الشرعية - من غير حاجة إلى حصول اليقين في أمره؛ ولهذا السبب يقولون إن «التجريح والتعديل» وحده يكفي لتوليد الظن بصحة الخبر ولتحتيم العمل بمقتضاه.
وأما الأحكام التي تنطوي عليها الأخبار التاريخية فهي «أحكام خبرية»
1
محضة، لا تأمر شيئا، ولا تمس الأفعال والتروك بشيء، إنها لا ترمي إلى غاية غير «تقرير الواقع»؛ ولهذا السبب كان من الضروري أن ينظر على الدوام في موافقتها أو عدم موافقتها للواقعات. ولا حاجة للبيان أن ذلك لا يمكن أن يتم بالتجريح والتعديل وحده - أي بالتأكد من عدالة المخبرين ونباهتهم وحدها - بل يحتاج إلى نظر أوسع، وبحث أعمق من ذلك.
ابن خلدون يقرر رأيه في كل ذلك في مدخل الكتاب الأول، حيث يقول: «إنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية؛ لأن معظمها تكاليف إنشائية، أوجب الشارع العمل بها متى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط.» «وأما الأخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة (يعني المطابقة للواقعات)؛ ولذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه، وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدما عليه.» «إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط، وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة» (ص37).
إن رأي ابن خلدون في هذه القضية يتضح لنا بصراحة أعظم من بعض الفقرات التي كتبها في الفصل الذي يقرر «أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها» (ص542).
يميز ابن خلدون في هذا الفصل بين «ما في الذهن» وبين «ما في الخارج»، ويقول إن الأحكام الشرعية أحكام ذهنية يطلب العمل بموجبها، والعمل إنما هو «حدوث الشيء في الخارج» وفقا لمقتضيات تلك الأحكام. يتبين من ذلك أن الأحكام الشرعية لا تتقيد بما هو «موجود في الخارج»، بل بعكس ذلك تتطلب «مطابقة ما في الخارج لها»، خلافا لما هو الحال في العلوم العقلية التي لا تعتبر أحكامها صحيحة ما لم تكن «مطابقة لما في الخارج».
ولهذا السبب قال ابن خلدون إن التجريح والتعديل وحده يكفي لتمحيص الأخبار الشرعية، غير أنه لا يكفي لتمحيص الأخبار التاريخية. (4)
يفهم من التفاصيل الآنفة الذكر أن أول ما يجب عمله على المؤرخ لتمحيص خبر من الأخبار هو - في رأي ابن خلدون - النظر فيما إذا كان الخبر المذكور ممكنا في حد ذاته أو مستحيلا. وأما البت في هذا الأمر فمما يتطلب معرفة طبائع العمران. يقول ابن خلدون في هذا الصدد: «تمحيصه (أي تمحيص الخبر) إنما هو بمعرفة طبائع العمران، وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار، وتمييز صدقها من كذبها، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يرجع إلى تعديل الرواة، حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان مستحيلا، فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح» (ص37).
إن الإمكان الذي يشير إليه ابن خلدون في هذه الأبحاث لم يكن الإمكان العقلي المطلق، بل هو الإمكان العادي الطبيعي، كما يصرح بذلك في موضع آخر من المقدمة: «فليرجع الإنسان إلى أصوله، وليكن مهيمنا على نفسه ، ومميزا بين طبيعة الممكن والمستحيل بصريح عقله ومستقيم فطرته، فما دخل في نطاق الإمكان قبله، وما خرج عنه رفضه.» «وليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق، فإن نطاقه أوسع شيء، فلا يفرض حدا بين الواقعات، وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة للشيء» (ص182). (وبتعبير آخر: بحسب طبيعة الأشياء، أو بالأحرى بحسب طبيعة العمران.) «فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة، أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضا لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له. وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه» (ص37-38). (5)
لا يكتفي ابن خلدون بسرد هذه القواعد العامة، بل يطبقها على بعض الأخبار، ويستعرض سلسلة من الروايات والأخبار المتنوعة عن الأزمنة الماضية (ص10-27، و36-37).
5
وأما تعليل الوقائع - بعد التأكد من صحتها - والبحث في «أسباب حدوثها وتزاحمها وتعاقبها»، فابن خلدون يعتبر ذلك من أهم واجبات المؤرخين، ويؤكد ضرورتها عدة مرات، غير أنه لا يفكر في تدوين قواعد هذا التعليل، ولا يحاول تعيين طرقه ومناهجه، ومع هذا فإنه يقدم على تعليلات كثيرة في معظم فصول المقدمة، وإذا استعرضنا التعليلات المسطورة في تلك الفصول؛ وجدنا أنها تسير - في الأكثر - على طريقة استقرائية؛ إنها تعتمد على استقراء الوقائع والحادثات، وتشمل استقراءاتها هذه إلى ما يحدث في الحال الحاضر، أو ما حدث في الماضي القريب من جهة، وإلى ما حدث في الأزمنة الغابرة من جهة أخرى.
إن الدراسات التالية ستعطي نماذج عديدة على التعليلات المذكورة، وستسعى إلى تعيين قيم التعليلات من الوجهة العلمية.
طبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم
يقرر ابن خلدون في المقدمة الأولى من الباب الأول ثلاثة مبادئ أساسية: (أ)
ضرورة الاجتماع للبشر، واستحالة معيشتهم منفردين. (ب)
ضرورة وجود الوازع للبشر، وامتناع بقائهم بلا وازع يدفع عدوان بعضهم عن بعض. (ج)
عدم ضرورة وجود الشرع للبشر، وإمكان دفع العدوان بسطوة الملك ولو لم يكن شرع.
يشرح ابن خلدون المبدأ الأول بتفصيل واف في المقدمة المذكورة؛ ولذلك لا يرى لزوما للتوسع فيه عندما يشير إليه في الفصول الأخرى.
غير أنه يعرض المبدءين الآخرين في المقدمة المذكورة على وجه الإجمال، فيضطر إلى شرحهما وتوسيعهما في عدة فصول من الكتاب، ولا سيما المبدأ الثاني، فإنه يعود إليه مرات عديدة في فصول كثيرة، ويتناوله بالبحث والشرح والتفصيل، في كل مرة من وجوه جديدة.
فلأجل أن نحيط علما برأي ابن خلدون في «طبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم» حق الإحاطة، يجب أن نبدأ بقراءة المقدمة الأولى التي أشرنا إليها، ونسعى لتحليل مضامنها بإنعام، ثم نقدم على تتبع الشروح والتفاصيل الواردة عن كل منها - ولا سيما عن الثاني والثالث منها - في الفصول المختلفة من الكتاب، وعلى وجه الأخص في الفصول التالية:
فصل في أن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية، فصل في حقيقة الملك وأصنافه، فصل في معنى الخلافة والإمامة، فصل في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب.
1 (1)
يبدأ ابن خلدون أبحاثه الاجتماعية في المقدمة الأولى بقوله: «إن الاجتماع الإنساني ضروري» (ص40).
ويبرهن على هذه الضرورة بأمرين هامين: (أ)
إن الإنسان مضطر إلى التعاون مع بني جنسه؛ للحصول على الغذاء الذي يحتاج إليه. (ب)
ومضطر إلى الاستعانة بأبناء جنسه؛ لدفع تعدي الحيوانات عليه.
وذلك لأن «قدرة الواحد من البشر قاصرة على تحصيل حاجته من الغذاء»، «فلا بد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه؛ ليحصل القوت له ولهم»، كما أن «الواحد من البشر لا تقاوم قدرته الواحد من الحيوانات العجم، سيما المفترسة، فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة». وأما الأسلحة المعدة لدفع الحيوانات المفترسة فقدرة الواحد من البشر لا تكفي لصنعها؛ «فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه»، وما لم يكن هذا التعاون لا يستطيع الإنسان أن يحصل على الغذاء، وأن يدافع عن نفسه؛ فيكون فريسة للحيوانات (ص42).
يتبين من ذلك كله «أن الاجتماع ضروري للنوع الإنساني» (ص42)، وأنه «يستحيل على البشر أن يعيشوا منفردين» (ص151). (2)
بعد سرد هذا المبدأ، «وتقرير» طبيعية الاجتماع وضروريته للإنسان، ينتقل ابن خلدون إلى المبدأ الثاني، ويقرر ضرورة وجود وازع في كل اجتماع، قائلا: «ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر، فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض؛ لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم» (ص43).
إن دفع هذا العدوان لا يمكن أن يتم بالأسلحة التي تستعمل لدفع عدوان الحيوانات العجم؛ لأن تلك الأسلحة «موجودة لجميعهم»، فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض، ومن البديهي أن هذا الوازع لا يمكن أن يكون من غير الإنسان، فمن الضروري أن يكون «واحدا منهم، يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة، حتى لا يصل إلى غيره بعدوان. وهذا هو معنى الملك» (ص43).
ابن خلدون يكرر هذا المبدأ - مبدأ عدوان البشر بعضهم على بعض - ويؤكد هذه الضرورة - ضرورة وجود وازع يدفع هذا العدوان، في عدة مواضع من المقدمة، بعبارات متنوعة وبوضوح أعظم.
يقول في أحد الفصول: «فمن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض، فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه، امتدت يده إلى أخذه إلى أن يصده وازع.» كما قال: «والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم» (ص128).
كما يقول في فصل آخر: «إن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضرورياتهم، وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات، ومد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه؛ لما في الطباع الحيوانية من الظلم والعدوان بعضهم على بعض، ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة، ومقتضى القوة البشرية في ذلك، فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة، وهي تؤدي إلى الهرج، وسفك الدماء، وإذهاب النفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النوع؛ ولذلك استحال بقاؤهم فوضى دون وازع يزع بعضهم عن بعض، واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم، وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم» (ص187).
ولهذا لا يشك ابن خلدون بأن «الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض» (ص139). (3)
هذا هو الأساس الذي يبني عليه ابن خلدون نظريته في «الاجتماع والملك والدولة».
لا حاجة للبيان أن ابن خلدون لم يكن مبتكرا لجميع أقسام هذه النظرية؛ فإن الشطر الأول منها لمما كان يقول به الحكماء من قديم الزمان، كما يشير إلى ذلك هو بنفسه، فإنه عندما يقول «إن الاجتماع الإنساني ضروري»، يعقب على ذلك بالعبارات التالية: «ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم: الإنسان مدني بالطبع؛ أي لا بد له من الاجتماع، الذي هو المدنية في اصطلاحهم، وهو معنى العمران» (ص41).
إن هذا الرأي كان قد ساد على أذهان جميع المفكرين - في الشرق والغرب - منذ عهد أرسطو الذي قال: «إن الإنسان حيوان سياسي، ومخلوق مدني اجتماعي»، غير أن الفيلسوف الإنجليزي «هوبز»
Hobbes - الذي عاش وكتب في أواسط القرن السابع عشر - اعترض على رأي أرسطو في «اجتماعية الإنسان»، و«طبيعية الاجتماع الإنساني» اعتراضا شديدا، وادعى بأن الحالة الطبيعية في الإنسان هي «الحرب والعدوان»، وتمسك بالنظرية القائلة «إن الإنسان ذئب للإنسان»، وزعم بأن الاجتماع ما هو إلا نتيجة من نتائج هذه الحرب والعدوان.
يتبين من ذلك أن ابن خلدون اقتبس القسم الأول من نظريته هذه من المفكرين الذين سبقوه، غير أنه لاحظ - في الوقت نفسه - ما سيلاحظه «هوبز» بعده بثلاثة قرون، وبنى القسم الثاني من نظريته على مبدأ «عدوان الإنسان على الإنسان»، و«التنازع الدائم بين بني الإنسان». فنستطيع أن نقول - لذلك - إن نظرية ابن خلدون في هذا الصدد كانت بمثابة خط واصل بين نظرية أرسطو القديمة، وبين نظرية هوبز المقبلة، لقد سبق ابن خلدون المفكر الإنجليزي هوبز في تقدير أفعولة العدوان والتنازع في الحياة الاجتماعية، كما أنه تفوق على المشار إليه؛ لعدم اعتباره ذلك منافيا لاجتماعية الإنسان.
فقد اعتبر ابن خلدون «الاجتماع» أو «العمران» طبيعيا في البشر، مثل «العدوان»، فربط فكرة «الدولة والملك»، و«الوازع والحاكم»، بمبدأ العمران من جهة، وبمبدأ العدوان من جهة أخرى، كما يتجلى بكل وضوح من الفقرة التالية التي تلخص ما شرحه وفصله في فصول مختلفة: «الدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دون الدولة والملك متعذر؛ لما في طبع البشر من العدوان الداعي إلى التنازع» (ص376).
وإذا أردنا أن نعبر عن آراء ابن خلدون في هذا الصدد بالتعبيرات المألوفة في زماننا هذا - دون أن نخرج عن نطاق تفكيره، ومن غير أن نغير شيئا من مميزات رأيه - نستطيع أن نقول:
إن الطبيعة البشرية تستلزم الحياة الاجتماعية، كما أنها تحمل على التعدي، وتؤدي إلى التنازع بين الأفراد. فالحياة الاجتماعية لا يمكن أن تستمر إلا بوجود وازع يمنع التعدي ويرفع التنازع، وهذا هو الذي يولد الحكم والملك بوجه عام، والدولة بوجه خاص.
2 (1)
أما علاقة المجتمع بالشرائع الدينية، فيبدي ابن خلدون رأيه فيها بوضوح؛ أولا في مقدمة الباب الأول، وثانيا في فصل الخلافة.
إنه يعترض بشدة على رجال الدين الذين يزعمون بأن «الحكم الوازع للإنسان يكون بشرع مفروض من عند الله، يأتي به واحد من البشر، يكون متميزا عنهم بما يودع الله فيه من خواص هدايته؛ ليقع التسليم له والقبول منه، حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزييف» (ص43).
يفند ابن خلدون هذه المزاعم قائلا: «إن الوجود والحياة للبشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته.» ويبرهن على ذلك بقوله: «أهل الكتاب المتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب، فإنهم أكثر أهل العالم، ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار فضلا عن الحياة» (ص43-44).
يعود ابن خلدون إلى هذه المسألة في فصل الخلافة والإمامة، ويكرر رأيه فيها بوضوح أكبر وأسلوب أحسم:
إن القول «بأن الوازع إنما يكون بشرع من الله يسلم له الكافة تسليم إيمان واعتقاد»، لا يستند إلى أساس صحيح؛ «لأن الوازع قد يكون بسطوة الملك، وقهر أهل الشوكة، ولو لم يكن شرع» (ص192). (2)
يتبين من ذلك أن ابن خلدون يميز تمييزا صريحا الوازع الباطني الذي ينشأ من الاعتقاد الديني، من الوازع الخارجي الذي يستند إلى سطوة الحكام وسلطتهم.
إنه يكرر هذا التمييز في عدة مواضع من المقدمة، حتى إنه يسمي كلا منهما باسم خاص؛ يسمي النوع الأول باسم «الوازع الديني»، كما يسمي النوع الثاني باسم «الوازع السلطاني والعصباني» (ص221). ويلاحظ في الوقت نفسه أن الوازع الديني وازع ذاتي، وأما الوازع السلطاني فأجنبي؛ بمعنى أن الوازع الديني يكون عند كل أحد من أفراد المجتمع - من نفسه وفي نفسه - في حين أن الوازع السلطاني يكون في خارج الفرد «أجنبيا» عنه. (3)
وزيادة على هذين النوعين من الوازع، قد لمح ابن خلدون نوعا ثالثا؛ هو الوازع الذي ينشأ «من حكم العقل»؛ لأنه كتب في فصل الإمامة والخلافة - بعد الفقرة التي نقلناها آنفا - عقب قوله: «إن الوازع قد يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشوكة، ولو لم يكن شرع»، العبارة التالية: «ونقول: يكفي في رفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه، بحكم العقل» (ص192).
ومن البديهي أن هذه العبارة تشير إشارة صريحة إلى الوازع الذي يمكن أن يسمى «الوازع العقلي»، ومما يؤيد ذلك أن ابن خلدون يذكر الأنواع الثلاثة في عبارة واحدة، وإن لم يسمها بأسماء خاصة: «فادعاؤهم بأن ارتفاع التنازع إنما يكون بوجود الشرع هناك، ونصب الإمام هذا غير صحيح، بل كما يكون بنصب الإمام، يكون بوجود الرؤساء أهل الشوكة، أو بامتناع الناس عن التنازع والتظالم» (ص192).
يعود ابن خلدون إلى البحث في «الوازع الديني» في عدة فصول، ويتوسع في شرحه بعض التوسع، كما أنه يعود إلى البحث في الوازع السلطاني والعصباني في فصول كثيرة، ويتوسع في شرحه توسعا كبيرا، غير أنه لا يعود إلى فكرة «الوازع العقلي»، ولا يتناوله بالبحث والتفصيل بعد هذه اللمحة الواضحة والإشارة الصريحة.
3 (1)
إن أنواع الوازع السلطاني والعصباني وأشكاله المختلفة من المواضيع التي درسها ابن خلدون، وشرحها بتفصيل واف في فصول عديدة.
لعل أهم هذه الفصول - من هذه الوجهة - هو الفصل القائل «بأن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية»؛ لأن ابن خلدون يستعرض في هذا الفصل أنواع العدوان، ويشير إلى أهم القوى الوازعة لها.
بما أنه يقسم أبناء البشر إلى صنفين أساسين؛ البدو والحضر، فإنه يدرس الوسائل الوازعة في كل من هذين الصنفين على حدة.
إن أهل المدن والأمصار معرضون لنوعين من العدوان: (أ)
العدوان الذي يحدث داخلها. (ب)
والعدوان الذي يأتي من خارجها. «إن عدوان أهل المدن بعضهم على بعض تدفعه الحكام والدولة، وأما العدوان الذي من خارج المدينة فيدفعه سياج الأسوار، وذياد الحامية، وأعوان الدولة» (ص127).
وأما أحياء البدو فإنهم أيضا معرضون لنوعين من العدوان ؛ داخلي وخارجي.
وهناك وسيلة خاصة لدفع كل واحد من هذين النوعين من العدوان على حدة. «أحياء البدو يزع بعضهم عن بعض مشائخهم وكبراؤهم، بما وقر في نفوس الكافة لهم من الوقار والتجلة.
وأما حللهم فيذود عنها حامية الحي، من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة» (ص118). (2)
وعلاوة على ما تقدم يتكلم ابن خلدون - في فصل آخر - عن العدوان الذي يحدث بين أهل الأمصار وبين أحياء البدو أيضا.
إنه يقرر في عنوان الفصل «أن البوادي من القبائل والعصائب مغلوبون لأهل الأمصار»، ثم يشرح حاجة البدو إلى الأمصار، وحاجة الأمصار إلى البدو، ويبرهن على اضطرار البدو لإطاعة الأمصار والخضوع لها، ويشرح العوامل التي تحمل هؤلاء على الطاعة والخضوع: «إن كان في المصر ملك كان خضوعهم وغلبهم لغلب الملك، وإن لم يكن في المصر ملك، فلا بد فيه من نوع رئاسة، ونوع استبداد من بعض أهله على الباقين. وذلك الرئيس يحملهم على طاعته، والسعي في مصالحه، إما طوعا ببذل المال لهم، وإما كرها إن تمت قدرته على ذلك» (ص153). (3)
إن الفقرات التي ذكرناها آنفا عن الوازع في أحياء البدو وحللهم، تتضمن ملاحظة ثمينة جدا من وجهة النظريات العلمية؛ لأن علماء الاجتماع يقسمون «الحكم والسلطة» في الحياة الاجتماعية إلى نوعين أساسيين: (أ)
السلطة المنتثرة
Diffuse : التي لا يختص بها أشخاص معينون، ولا تتعهدها هيئات منظمة. (ب)
السلطة المتعضية
Organisé : التي يختص بها أشخاص معينون، وتتعهدها هيئات متعضية وفق أنظمة معينة.
إن ما كتبه ابن خلدون عن الوازع في أحياء البدو وحللهم يدل دلالة قاطعة على أنه قد لاحظ «الحكم المنتثر، والسلطة المنتثرة» ملاحظة صريحة، وميزها من «الحكم المتعضي والسلطة المتعضية» تمييزا تاما، وإن لم يسم هذين النوعين بأسماء خاصة.
فإن سلطة المشائخ والكبراء، تلك السلطة التي لا تستند إلى قوة غير «ما وقر في نفوس الكافة لهم من الوقار والتجلة»، تعطينا مثالا من أوضح الأمثلة على «السلطة المنتثرة» التي تختلف اختلافا جوهريا عن السلطة المتعضية، تلك السلطة المنظمة التي تكون بيد الدولة.
كما أن مهمة الذياد التي يقوم بها «الأنجاد والفتيان المعروفون بالشجاعة»، تعطينا مثالا من أوضح الأمثلة على «القوة الحربية المنتثرة» التي تختلف اختلافا جوهريا عن «القوة الحربية المتعضية»، تلك القوة التي تتألف من حاميات الدولة. (4)
إن ما كتبه ابن خلدون عن الوازع في أحياء البدو مهم جدا من وجهة أخرى أيضا؛ لأنه كان قد أكثر الكلام عن الوازع الذي يستند إلى القهر والغلب، ويعمل بالسطوة والشوكة، غير أن ما يقوله هنا يصحح ويتمم ما كان قد قاله في هذا الصدد عدة مرات.
إنه يعلمنا - بهذه العبارات - بأن الوازع والحاكم قد يستند إلى «ما وقر في النفوس من التجلة والوقار»، من غير قهر وغلب أيضا.
يكرر ابن خلدون هذه الملاحظة في عدة مواضع من المقدمة، ويعبر عنها بصراحة تامة في بعض الفصول.
وإذا استعرضنا ما كتبه عن الحكم وأنواعه؛ نجد أنه يميز بين الرئاسة والملك تمييزا دقيقا: «إن الرئاسة إنما هي سؤدد، وصاحبها متبوع، وليس له عليهم قهر في أحكامه، وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر» (ص139).
ومع هذا لا يغفل ابن خلدون العلاقة الموجودة بين هذين النوعين من الحكم، إذ يصرح بأن الرئاسة قد تنتهي إلى الملك: «لأن الملك أمر زائد على الرئاسة، والإنسان إذا بلغ إلى رتبة؛ طلب ما فوقها، وإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع، ووجد السبيل إلى التغلب والقهر؛ لا يتركه» (ص139). (وأما رأي ابن خلدون في تطور الحكم، فشرحناه بالتفصيل في الدراسة التي خصصناها لعرض وتحليل نظرية الدولة في مقدمة ابن خلدون.)
القسر الاجتماعي والتقليد
1
إن أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر كانت عهد توسع كبير، وتطور وثاب في تاريخ علم الاجتماع.
وقد لعب علماء فرنسا آنئذ دورا هاما في هذا التوسع والتطور؛ لأنهم أكبوا على دراسة الأحوال والحوادث الاجتماعية من وجوه عديدة ومناح متنوعة، وأسسوا نظريات عامة مختلفة، والمناقشات التي جرت بين أصحاب هذه النظريات حملتهم على التعمق في أبحاثهم؛ فأدت بهم إلى اكتشاف قوانين هامة.
لعل أهم المناقشات التي جرت عندئذ في هذا المضمار كانت تلك التي احتدمت بين جبرائيل تارد
Gábriel Tarde ، وبين إميل دوركهايم
Emile Durckheim .
لقد زعم الأول - تارد - أن أهم الأفاعيل في الحياة الاجتماعية هي أفعولة التقليد والمحاكاة؛ لأن الابتكار والاختراع - في مختلف ميادين التفكير والعمل والحياة - يتم على يد بعض الأفراد، غير أن ما يبتكره هؤلاء الأفراد المعدودون لا ينتشر بين سائر الأفراد، ولا يعم المجتمع إلا عن طريق التقليد. وقال تارد لذلك: «إن المجتمع إنما هو نسيج، لحمته الابتكار وسداه التقليد.»
وهذا الاعتقاد حمل تارد على التعمق والتوسع في درس «قوانين التقليد»؛ لتأسيس نظريته الاجتماعية على هذا الأساس.
ولكن «دوركهايم» زعم أن الأوصاف التي تميز الواقعات الاجتماعية من الأمور الفردية، هي «القسر على الأفراد»، وأن الحادث الاجتماعي هو «ما يجري ويحدث تحت ضغط المجتمع وقسره»؛ ذلك لأن العوائد والمؤسسات تحيط بالأفراد «إحاطة الأشياء الخارجية»، وتضغط عليهم «ضغط الأشياء الخارجية»؛ فتقسرهم على «الحس والتفكير والعمل» في اتجاهات خاصة، وفق أساليب معينة.
فالتشابه الذي يلاحظ بين أفراد المجتمع لا يتأتى - على رأي دوركهايم - من «تقليد بعضهم لبعضهم الآخر»، كما زعم تارد، بل إنما يتأتى من «ضغط المجتمع على جميع الأفراد» على وتيرة واحدة وحد سواء.
إن هذا الضغط الاجتماعي - أو القسر الاجتماعي - يعمل عمله علانية، وفي عنف في بعض الأحوال، وفي الخفاء وبلطف في بعض الأحوال الأخرى، فهو يصد الأفراد عن الأعمال المختلفة، وإذا لم يستطع صد بعضهم عن مباشرة العمل فيعاقبهم على مخالفتهم بصور شتى؛ مثلا إذا خالف الفرد في ملبسه العادات المتبعة في بلاده وبين أفراد صنفه وطبقته؛ ضحك الناس منه، وهزئوا به، وتباعدوا عنه، ولا حاجة للبيان أن ذلك يقوم مقام عقوبة «من المجتمع» على تلك المخالفة. ومن المعلوم أن الأفراد يخضعون عادة للعرف والتقاليد؛ خشية مثل هذه النتائج المؤلمة، بقطع النظر عما قد يصيبهم من العقوبات الزاجرة مباشرة.
ولهذه الملاحظات الجوهرية اهتم إميل دوركهايم بأفعولة «القسر الاجتماعي» اهتماما كبيرا، وبذل جهودا فكرية جبارة لإظهار آثار هذه الأفعولة في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية.
إن الاختلاف بين هذين الرأيين يدل - في حقيقة الأمر - على اختلاف جوهري في تقدير «كنه الحادثات الاجتماعية وطبيعتها»؛ لأن نظرية «تارد» تعزو دورا هاما إلى «الفرد» في تسيير أمور المجتمع؛ لأنها تعتبر أعمال الأفراد - من ابتكار عند بعضهم وتقليد عند الآخرين - مصدرا للحوادث الاجتماعية، في حين أن نظرية دوركهايم - بعكس ذلك - تعتبر «المجتمع» حاكما على «الفرد»، ومسيطرا على أعمال الأفراد وأفكارهم وعواطفهم.
ولهذا السبب احتدم النقاش بين الرأيين بشدة وعنف، والتزم بعض المفكرين جانب تارد، وتشيع بعض العلماء لنظرية دوركهايم، واستمر النقاش مدة طويلة.
وقام خلال هذه المناقشات جماعة ثالثة قالوا: «إن كلتا النظريتين مشوبتان بالنقص والتطرف؛ لأن كل واحدة منهما لا ترى إلا وجها واحدا من وجوه الحقيقة، وتهمل وجوهها الأخرى.»
ولذلك اعتقد هؤلاء أن النظرية الأولى لا تتنافى مع النظرية الثانية، وأنه من السهل التأليف بينهما.
وقد أبدى العالم الاجتماعي «رنه فورمس»
René Wormes - مثلا - الرأي التالي في هذا الصدد؛ إن المشابهة والمماثلة التي تشاهد بين جميع أفراد المجتمع الواحد - من حيث السلوك - تتأتى في بعض الأحوال من «أن الأفراد يقلد بعضهم بعضا تقليدا تلقائيا»، كما تتأتى في أحوال أخرى من «أن المجتمع يضغط على جميع الأفراد في وقت واحد وعلى نمط واحد، فيقسرهم على سلوك مسلك واحد». ومن الطبيعي أن الحالة الأولى تنطبق على نظرية تارد، في حين أن الحالة الثانية تنطبق على نظرية دوركهايم.
وكذلك كان قد قال المؤرخ المفكر «بول لاكومب»
: «إن المجتمع إنما هو جماعة من الأفراد، يقلد بعضهم بعضا، ويضغط بعضهم على بعض بصورة متقابلة.»
نحن لا نرى لزوما لتفصيل هذه الآراء والنظريات والمناقشات في هذا المقام، ولكننا إذا لاحظنا التطورات التي حدثت في الأبحاث الاجتماعية منذ بداية هذا القرن، نستطيع أن نقول إن نظرية دوركهايم كانت أكثر إنتاجا من نظرية تارد، كما أنها ظهرت أكثر نفوذا إلى حقيقة الحياة الاجتماعية. ومع هذا فإن آراء تارد أيضا أتت ببعض الحقائق الهامة؛ فما من عالم اجتماعي - في الحالة الحاضرة - يستطيع أن يهمل «أفعولة التقليد»، أو يغض النظر عن عمل «الضغط الاجتماعي» في الحياة الاجتماعية.
2
ومن الغريب أن ابن خلدون كان قد انتبه إلى هاتين الأفعولتين الهامتين، وذكرهما في مقدمته بصراحة، قبل المناقشات التي أشرنا إليها آنفا، بمدة تزيد على خمسة قرون.
إن آراء ابن خلدون في «التقليد» صارت موضوع أبحاث عديدة؛ لأنها مذكورة في بعض الفصول بصورة مباشرة، غير أن آراءه في الضغط الاجتماعي لم تستلفت أنظار الباحثين؛ لأنها لم تكن معروضة في المقدمة إلا بصورة عرضية، وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك: (أ)
لقد كتب ابن خلدون العبارات التالية في الفصل الذي يقرر: «إن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع»: «فإن من أدرك مثلا أباه وأكثر أهل بيته يلبسون الحرير والديباج، ويتحلون بالذهب في السلاح والمراكب، ويحتجبون عن الناس في المجالس والصلوات، فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللباس والزي، والاختلاط بالناس؛ إذ العوائد حينئذ تمنعه وتقبح عليه مرتكبه، ولو فعله لرمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة، وخشي عليه عائدة ذلك وعاقبته في سلطانه» (ص294).
نحن نرى في هذه الفقرات مثالا بارزا لفكرة الضغط والقسر الاجتماعي، ونقول لذلك بلا تردد إن ابن خلدون قد لاحظ آثار هذا «الضغط الاجتماعي» بصراحة، وإن لم يسمه باسم خاص، ولزيادة التأكيد ندرج فيما يلي فقرة مقتبسة مما كتبه إميل دوركهايم نفسه، في صدد شرح القسر الاجتماعي بأمثلة وشواهد حية: «إذا لم آخذ بنظر الاعتبار في ملبسي - مثلا - العادات المتبعة في بلادي وبين أبناء صنفي؛ ضحك الناس مني، وأعرضوا عني.»
ومن غرائب الصدف أن هذا المثال الذي ذكره دوركهايم في أواخر القرن التاسع عشر، لا يختلف اختلافا يذكر عما كان لاحظه وكتبه ابن خلدون في القرن الرابع عشر. (ب)
وفي الفصل الذي يلي الفصل المذكور، عندما يشرح ابن خلدون «كيفية طروق الخلل للدولة» يقول: «تستغني الدولة عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل أيالتها، وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة، التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها، فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة، فلا يكاد أحد يتصور عصيانا أو خروجا إلا والجمهور منكرون عليه مخالفون له، فلا يقدر على التصدي لذلك ولو جهد جهده، فلا تكاد النفوس تحدث سرها بمخالفة، ولا يختلج في ضميرها انحراف عن الطاعة» (ص296).
ومن الواضح أن ابن خلدون يلاحظ هنا أيضا عمل الضغط الاجتماعي ملاحظة دقيقة، ويعبر عن آثار هذا الضغط والقسر تعبيرا صحيحا. (ج)
يكتب ابن خلدون الفقرات التالية في الفصل الذي يبرهن فيه على أنه «قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية»: «لا يطمعون في مشاركته في شيء من سلطانه، تسليما لعصبيته، وانقيادا لما استحكم له ولقومه من صبغة الغلب في العالم، وعقيدة إيمانية استقرت في الإذعان لهم، فلو راموها معه، أو دونه؛ لزلزلت الأرض زلزالها» (ص156، 157). (د)
وفي الفصل الذي يقرر «أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانقراضها»، يكتب ابن خلدون الفقرات التالية: «إذا صار المصر الذي كان كرسيا للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة، ونقصت أحوال الترف فيها؛ نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر؛ لأن الرعايا تبع للدولة، فيرجعون إلى خلق الدولة، إما طوعا؛ لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم، أو كرها؛ لما يدعو إليه خلق الدولة من الانقباض عن الترف في جميع الأحوال» (374).
ولا حاجة للبيان أن العبارة الأخيرة تشير بصراحة إلى «الإكراه الذي يتأتى من خلق الدولة وطبيعتها»، كما أن مجموع الفقرة تدل دلالة قاطعة على أن ابن خلدون قد لاحظ في هذه الحوادث الاجتماعية عمل «التقليد الطوعي» من جهة، وأثر «التكيف القسري» من جهة أخرى.
3
يتكلم ابن خلدون عن التقليد في عدة فصول من المقدمة، ويسميه أحيانا بأسماء أخرى، مثل؛ المحاكاة، والتشبه، والاقتداء، والتلقن، ويوضح تأثير ذلك في الحياة الاجتماعية بوجه عام، وفي انتشار الحضارة وفي التربية والتعليم بوجه خاص.
إنه يقول: «إن الالتباس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة.» (ص29) ويذكر أنواعا كثيرة للتقليد والمحاكاة؛ من تقليد الأفراد للأفراد، إلى تقليد الجماعات للجماعات، تقليد الأبناء للآباء، تقليد المتعلمين للمعلمين، تقليد الرعية للحكام، تقليد الأخلاف للأسلاف، تقليد المغلوب للغالب، تقليد الغالب للمغلوب، تقليد الأفراد والأمم لمن يخالطونهم من الأفراد والأجيال. (1)
يفرد ابن خلدون فصلا خاصا لشرح تقليد المغلوب للغالب، فيقول في عنوان الفصل: «إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده» (ص147).
كما يقول في متن الفصل: «ترى المغلوب أبدا يتشبه بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه - في اتخاذها وأشكالها - بل وفي سائر أحواله.»
ويصرح بأن «النفس تنتحل جميع مذاهب الغالب وتتشبه به، وذلك هو الاقتداء.»
وأما أسباب هذا التقليد فيردها ابن خلدون إلى تأثير «نزعة نفسية» يعبر عنها بقوله: «إن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه.»
وهذا الاعتقاد النفسي يتولد - على رأي ابن خلدون - من ثلاثة أسباب: (أ) «إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه.» (ب) «أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب.» (ج) «أو لما تراه من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، إنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب.»
هذه الأسباب النفسية هي التي تحمل المغلوب على الاقتداء بالغالب، وعلى انتحال كل ما يراه فيه من العوائد والمذاهب.
ولتأييد هذا التعليل يذكر ابن خلدون تقليد الأبناء للآباء: «انظر ذلك في الأبناء مع آبائهم، كيف تجدهم متشبهين بهم دائما، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم» (ص147).
كما يذكر تقليد الناس للحامية: «وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر؛ لأنهم الغالبون لهم.»
ويذكر كذلك سراية بعض العادات والأحوال من أمة إلى من يجاورها ويخالطها: «حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها، فيسري فيهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير.»
ويستشهد على ذلك بما لاحظه في الأندلس: «كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة ؛ فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم، والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت.»
ويستنتج من هذه الملاحظة العاقبة المؤلمة التي تنتظر أهل الأندلس: «حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، والأمر لله.»
ثم يقرن بكل ذلك كلمة من الكلمات الحكمية، ويختم الفصل بقوله: «وتأمل في هذا سر قولهم: العامة على دين الملك، فإنه من بابه؛ إذ الملك غالب لمن تحت يده، والرعية مقتدون به؛ لاعتقادهم الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم، والمتعلمين بمعلميهم» (147). (2)
يقول ابن خلدون في فصل انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة: «أهل الدول أبدا يقلدون في طور الحضارة وأحوالها للدولة السابقة قبلهم، فأحوالهم يشاهدون، ومنهم في الغالب يأخذون» (ص172).
ويستشهد على ذلك بما «وقع للعرب لما كان الفتح، وملكوا فارس والروم، ويستعرض ما حدث في المشرق والمغرب، ثم يقول: «تنتقل الحضارة من الدول السابقة إلى الدول الخالفة» (ص174).
ويذكر كيف انتقلت حضارة الفرس للعرب بني أمية وبني العباس، وانتقلت حضارة بني أمية بالأندلس إلى «ملوك المغرب من الموحدين وزنانة لهذا العهد»، وانتقلت حضارة بني العباس إلى الديلم، ثم إلى الترك، ثم إلى السلجوقية، ثم إلى الترك المماليك بمصر والتتر بالعراقين» (ص174). (3)
يكرر ابن خلدون في عدة مواضيع تقليد الرعية للسلطان من جهة، وتقليد الدولة الجديدة للدولة السابقة من جهة أخرى.
فنراه يقول في مقدمة الكتاب: «إن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه، كما يقال في الأمثال الحكمية: الناس على دين الملك، وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة والأمر، فلا بد أن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم، ويأخذون الكثير منها» (ص39).
ويقول كذلك في الفصل الذي يقرر «أن من طبيعة الملك الترف»: «إن الأمة إذا تغلبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها؛ يذهبون إلى اتباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم، ويناغي خلفهم في ذلك سلفهم»، إلى أن تبلغ الدولة غايتها «بحسب قوتها وعوائد من قبلها» (ص167).
ويقول ابن خلدون في فصل «خراب الأمصار بخراب الدولة» ما يأتي: «الرعايا تبع للدولة؛ فيرجعون إلى خلق الدولة، إما طوعا لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم» (ص374).
كما يقول في فصل طروق الخلل للدولة: «يقلد الآخر من أهل الدولة في ذلك الأول، مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف الذي قدمناه» (ص295).
ويقول عند شرح زيادة النفقات وتعمم الإسراف: «يستفحل الملك، فيدعو إلى الترف، فيكثر الإنفاق بسببه، فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم، بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر، ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف في النفقات، وينتشر ذلك في الرعية؛ لأن الناس على دين ملوكها وعوائدها» (ص397).
ويشير ابن خلدون - في فصل أطوار الدولة - إلى تقليد الخلف للسلف إشارة صريحة؛ لأنه - عندما يشرح الطور السابع الذي يسميه باسم طور القنوع والمسالمة - يقول ما يلي: «يكون صاحب الدولة في هذا الطور قانعا بما بنى أولوه سلما لأنظاره من الملوك وأقتاله، مقلدا للماضين من سلفه، فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل، ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء، ويرى أن الخروج عن تقليدهم فساد أمره، وأنهم أبصر بما بنوا من مجده» (ص174). (4)
يلاحظ ابن خلدون عمل التقليد والمحاكاة في التربية والتعليم أيضا، فإنه يعبر عن رأيه في هذا الصدد بصراحة تامة في الفصل الذي يقرر «أن الرحلة في طلب العلم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم»: «والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل، تارة تعليما وإلقاء، وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة، إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما ورسوخا» (ص541).
يلاحظ بأن هذه الفقرة تشير بوضوح إلى مهمة التقليد والمحاكاة في اكتساب المعارف من جهة، واكتساب الفضائل من جهة أخرى، وبتعبير آخر في التربية الفكرية من جهة، والتربية الأخلاقية من جهة ثانية.
هذا ويشرح ابن خلدون في فصل «العقل التجربي» عمل الزمان والتجربة في تعليم ما ينبغي للإنسان في معاملة أبناء جنسه - فلا وتركا - ثم يقول: «وقد يسهل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب من زمن التجربة، إذا قلد فيها الآباء والمشيخة والأكابر، ولقن عنهم، ووعى تعليمهم؛ فيستغني عن طول المعاناة في تتبع الوقائع واقتناص هذا المعنى من بينها. ومن فقد العلم في ذلك والتقليد فيه، وأعرض عن حسن استماعه واتباعه؛ طال عناؤه في التأديب بذلك» (إن هذا الفصل غير موجود في الطبعات الشرقية، فيجب مراجعة الطبعة الباريسية، ج2، ص370).
ومن الواضح الجلي أن هذه الفقرة أيضا تشير بصراحة إلى أهمية التقليد في التربية وفي الحياة الاجتماعية. (5)
ابن خلدون يذكر عمل التقليد والمحاكاة في تعلم اللغة واكتسابها أيضا.
إنه يقول في صدد الكلام عن علم النحو والبحث في كلام العرب: «إن اللغة ملكة في ألسنتهم، يأخذها الآخر عن الأول، كما تأخذ صبياننا لغاتنا لهذا العهد» (ص546).
ويقول كذلك - في الفصل الذي يقرر «أن اللغة ملكة صناعية» - ما يلي: «فالمتكلم من العرب حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة فيهم، يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك، ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة، ويكون كأحدهم؛ هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل، وتعلمها العجم والأطفال» (ص554-555).
ويقول ابن خلدون في الفصل الذي يقرر فيه «أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير»: «إن هذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل، بل هي متوارثة فيهم متعاقبة» (ص558).
كما يقول - بعد أن يشرح كيفية النطق بالقاف عند القبائل البدوية: «إن من يريد التقرب والانتساب إلى الجيل، والدخول فيه، يحاكيهم بالنطق بها» (ص557).
إن رأي ابن خلدون في هذا الصدد يتكرر في جميع الفصول المتعلقة باللغة وبتعلم اللغة. (6)
يشرح ابن خلدون - في فصل علم الكلام - كيفية تكون المعلومات عند البشر، ويتطرق خلال هذا الشرح إلى معلومات العميان وتصوراتهم، ويشير إلى عمل التقليد في هذا الصدد أيضا، حيث يقول: «الأعمى يسقط عنده صنف المرئيات، ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافة، لما أقروا به، ولكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف، لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم» (ص459).
التطور التدريجي في الطبيعة والمجتمعات
1
إن مسألة «أصل الأنواع» النباتية والحيوانية من المسائل التي استرعت أنظار العلماء والمفكرين ، وأثارت اهتمامهم منذ عصور طويلة.
وقد ظنوا في بادئ الأمر أن كل نوع من الأنواع يخلق مستقلا عن غيره، وأن الأوصاف التي تميز هذه الأنواع بعضها من بعض تبقى ثابتة فلا تتغير أبدا، فكل نوع من الأنواع النباتية والحيوانية ينشأ على حدة، ويبقى على حاله من تاريخ نشأته إلى حين انقراضه.
غير أن بعض العلماء والمفكرين ذهبوا إلى عكس ذلك تماما، قالوا إن الأوصاف التي تميز الأنواع بعضها من بعض لا تدوم على وتيرة واحدة، بل تتطور تطورا تدريجيا؛ يؤدي إلى تكوين أنواع جديدة؛ فإن الأنواع التي تراها الآن متخالفة، تنحدر في حقيقة الأمر من أصل واحد، إنها لم تصل إلى أشكالها الحالية إلا بعد سلسلة طويلة من التطورات.
إن ذلك لا ينحصر بالأنواع النباتية والحيوانية وحدها، بل يشمل النوع البشري أيضا، فإن الإنسان نشأ من تطور بعض الأنواع الحيوانية، وهو ينحدر من أصل حيواني مع أنواع القردة.
إن هذا الرأي نشأ تدريجيا، ثم كون «نظرية علمية» مستندة إلى مشاهدات وملاحظات كثيرة في أواسط القرن التاسع عشر، عندما نشر «داروين»
Darwin
كتابه المشهور عن «أصل الأنواع».
ولذلك عرفت هذه النظرية باسم «الداروينية»
Darwinisme
بالنسبة إلى اسم مؤسسها، كما عرفت باسم «نظرية التطور»،
Transformisme
أو
Evolutionnisme
بالنسبة إلى موضوعها، وقد سماها بعض المترجمين باسم نظرية «النشوء والارتقاء»، مع أن فكرة التطور تختلف في حد ذاتها عن فكرة الارتقاء؛ لأن التطور قد يكون ارتقائيا، وقد يكون انحطاطيا.
إن انتشار كتاب داروين وذيوع نظريته أوجد حركة فكرية خصبة، لم تلبث أن أثرت في آراء علماء الاجتماع، وأدت إلى تطبيق نظرية التطور على الحياة الاجتماعية؛ فأوجدت بذلك المذهب الذي عرف باسم «مذهب التطور» في علم الاجتماع
Transformisme social, Sociologie évolutionniste .
إن مقدمة ابن خلدون تتضمن بعض الآراء والملاحظات التي تنطبق على نظرية التطور تمام الانطباق، والباحث المدقق يجد بين تلك الآراء والملاحظات ما يمكن أن يعتبر رشيما لهذه النظرية على شكلها الحياتي العام
biologique
وما يجب أن يعتبر تعبيرا صريحا ومكتملا لشكلها الاجتماعي الخاص.
2
لقد كتب ابن خلدون في فصل حقيقة البنوة ما يلي: «إنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات، واتصال الأكوان بالأكوان، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض، لا تنقضي عجائبه في ذلك، ولا تنتهي غاياته.» «وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني أولا، عالم العناصر المشاهدة، كيف يتدرج صاعدا من الأرض إلى الماء، ثم إلى الهواء، ثم إلى النار، متصلا بعضها ببعض، وكل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعدا وهابطا، ويستحيل بعض الأوقات» (ص95). «ثم انظر إلى عالم التكوين، كيف ابتدأ من المعادن، ثم النبات، ثم الحيوان، على هيئة بديعة من التدريج؛ آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات، وآخر أفق النبات متصل بأول أفق الحيوان، ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد القريب لأن يصير أول أفق الذي بعده.» «واتسع عالم الحيوان، وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان - صاحب الفكر والروية - ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل، وكان ذلك أول أفق من الإنسان» (ص96).
يلاحظ أن هذه الفقرات تتضمن فكرة التطور التدريجي بكل صراحة، ولا سيما الفقرة الأخيرة منها؛ فإنها تمت بصلة قوية إلى «النظرية الداروينية» بمعناها الخاص.
من الغريب أن الطبعات الشرقية مسخت تعبير «عالم القردة» إلى شكل «عالم القدرة»، وجردت بهذه الصورة الفقرة الأخيرة المذكورة من معناها الهام، كما حرمتها من كل معنى معقول، إذ ليس في استطاعة أحد أن يستخرج أي معنى كان من عبارة تنص على «أن أنواع الحيوان ترتفع إلى الإنسان من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم تنته إلى الروية والفكر بالفعل.»
هذا ومما تجب ملاحظته أن ابن خلدون تطرق إلى هذه النظرية في فصل من فصول الباب السادس أيضا، يكرر ابن خلدون هناك رأيه «الدارويني» بصراحة أعظم، قائلا: «وقد تقدم لنا الكلام في الوحي في أول فصل المدركين للغيب، وبينا هنالك أن الوجود كله، في عوالمه البسيطة والمركبة، على ترتيب طبيعي، من أعلاها وأسفلها متصلة كلها اتصالا لا ينخرم، وأن الذوات التي في آخر كل أفق من العوالم مستعدة لأن تنقلب إلى الذات التي تجاورها، من الأسفل والأعلى، استعدادا طبيعيا، كما في العناصر الجسمانية البسيطة، وكما في النخل والكرم آخر أفق النبات، مع الحلزون والصدف من أفق الحيوان، وكما في القردة التي استجمع فيها الكيس والإدراك، مع الإنسان صاحب الفكر والروية» (طبعة كاترمير، ج2، ص373).
3
غير أن نظرية التطور تظهر في مقدمة ابن خلدون بوضوح أعظم من ذلك، وبشكل أتم، من خلال المباحث المتعلقة بالحياة الاجتماعية، والوقائع التاريخية: (1)
أولا، يقول ابن خلدون في المقدمة الباحثة عن فضل علم التاريخ: «ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال، بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة.» «وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول» (ص28).
لا يكتفي ابن خلدون بذكر هذا التطور التدريجي، بل يحاول تعليله أيضا قائلا: «والسبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد؛ أن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه، كما يقال في الأمثال الحكمية: الناس على دين الملك. وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة والأمر، فلا بد من أن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم، ويأخذوا الكثير منها، ولا يغفلون عوائد جيلهم مع ذلك، فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول. فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم، ومزجت من عوائدهم وعوائدها؛ خالفت أيضا بعض الشيء، وكانت للأولى أشد مخالفة. ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة» (ص29).
هذه العبارات تدل دلالة صريحة على أن ابن خلدون قد فهم التطور التدريجي في الحياة الاجتماعية فهما واضحا. (2)
يعود ابن خلدون إلى هذا المبدأ في عدة فصول، ويطبقه على عدة أنواع من الحادثات الاجتماعية والتاريخية.
إنه يخصص فصلا كاملا لشرح «أطوار الدولة، واختلاف أحوالها، وخلق أهلها باختلاف الأطوار» (ص170).
كما أنه يشرح آثار التطور التدريجي في فصول عديدة؛ منها فصل «انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة» (ص172)، ومنها «فصل انقلاب الخلافة إلى الملك» (ص202)، وفصل طروق الخلل للدولة (ص294)، وفصل خراب الأمصار (359)، ومنها الفصل القائل: «إن رسوخ الصنائع في الأمصار، إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها» (ص401). (3)
يلاحظ ابن خلدون أن الأمور الناتجة من طور من الأطوار لا تزول تماما بمجرد زوال ذلك الطور، بل تترك بعض الآثار بعد ذلك أيضا: «إن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها، والسبب في ذلك ظاهر وهو أن هذه كلها عوائد للعمران وألوان، والعوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار وطول الأمد، فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الأجيال، وإذا استحكمت الصبغة عسر نزعها. ولهذا تجد في الأمصار التي كانت استبحرت في الحضارة لما تراجع عمرانها وتناقص؛ بقيت فيها آثار من هذه الصنائع ليست في غيرها من المدن المستحدثة العمران، ولو بلغت مبالغها في الوفور والكثرة.» «وما ذاك إلا لأن أحوال تلك القديمة العمران مستحكمة راسخة، بطول الأحقاب وتداول الأحوال وتكرارها، وهذه لم تبلغ الغاية بعد، وهذا كالحال في الأندلس لهذا العهد» (ص401-402).
وبعد ذلك يشرح ابن خلدون وفرة العمران والصنائع في الأندلس، ثم يقول: «ونجد صنائعها مستحكمة لديهم، فهم على حصة موفورة من ذلك، وحظ متميز بين جميع الأمصار، وما ذاك إلا لما قدمناه من رسوخ الحضارة فيهم، فاستحكمت فيها الصنائع وكملت جميع أصنافها على الاستجادة والتنميق، وبقيت صبغتها ثابتة في ذلك العمران، لا تفارقه إلى أن ينتقص بالكلية، حال الصبغ إذا رسخ في الثوب» (ص402).
يستشهد ابن خلدون على ذلك بأحوال تونس أيضا، ثم يقول: «إلا أن الصبغة إذا استحكمت فقليلا ما تحول إلا بزوال محلها، وكذا نجد بالقيروان ومراكش وقلعة ابن حماد أثرا باقيا من ذلك، وإن كانت هذه كلها اليوم خرابا أو في حكم الخراب ، ولا يتفطن لها إلا البصير من الناس، فيجد في هذه الصنائع آثارا تدل على ما كان بها، كأثر الخط الممحو في الكتاب» (ص403).
وكذلك يقول ابن خلدون في الفصل الذي يشرح «أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول، ترسخ باتصال الدولة ورسوخها» - خلال البحث في أحوال إفريقية: «تغلب بدو العرب الهلاليين عليها، وخربوها، وبقي أثر خفي من حضارة العمران فيها، وإلى هذا العهد يؤنس فيمن سلف له بالقلعة، أو القيروان، أو المهدية سلف، فتجد له من الحضارة في شئون منزله وعوائد أحواله آثارا ملتبسة بغيرها، يميزها الحضري البصير بها» (ص370).
إن هذه العبارات تدل دلالة صريحة على أن ابن خلدون كان قد أدرك إدراكا واضحا ما يسميه «التطوريون»
évolutionnistes
باسم ال «التخلف»
survivance
في الحياة الاجتماعية. (4)
يلاحظ ابن خلدون أن أحوال الأمم تتبدل أحيانا تبدلا كليا، على الرغم من التدريج الذي ذكرناه آنفا، ويعبر عن هذا التبدل الكلي بقوله: «إذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، كأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة، وعالم محدث» (ص33).
يلاحظ ابن خلدون، أن أحوال الأمم والأجيال لا يقع فيها «كثير انتقال ولا عظيم تغير» في بعض العهود، ولكن تلك الأحوال تنقلب انقلابا كليا في بعض العهود، وتتبدل بالجملة.
إن ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد يذكرنا ما قاله سان سيمون
Saint Simon
في «أدوار الأزمات» في حياة المجتمعات.
ملاحظة
إن فكرة «التطور التدريجي في الطبيعة» لم تكن من ابتكارات ابن خلدون؛ لأنها كانت موجودة عند إخوان الصفا أيضا، إلا أن رأي ابن خلدون في اعتبار القردة بمثابة النوع الواصل بين الإنسان وبين سائر أنواع الحيوان، أكسب هذه الفكرة طرافة كبيرة، وأما رأيه في «التطور التدريجي في المجتمعات» فقد زادها طرافة واتساعا، وحولها إلى نظرية هامة.
طبائع الأمم وسجاياها
1
كل من يشاهد أفرادا من أمم مختلفة، ويلاحظ أفعالهم وحركاتهم ولو بصورة سطحية؛ يضطر إلى القول إن الأمم يختلف بعضها عن بعض ببعض الطبائع والسجايا، وإذا كان ممن يتشوقون إلى معرفة العلل والأسباب، يرى من الضروري أن يتساءل: لماذا تختلف الأمم بعضها عن بعض على هذه الصورة؟ كيف تتكون طبائع الأمم وسجاياها؟ ما هي أنواع العوامل التي تؤثر في تكوين طبائع الأمم والسجايا؟ وما هو أهم هذه العوامل؟
إن أمثال هذه الأسئلة قامت في أذهان الكثيرين من المفكرين منذ أقدم أزمنة التفكير، وحملتهم على القول بآراء متنوعة، ومذاهب مختلفة في هذا الصدد. (1)
إن أقدم هذه الآراء والمذاهب يستند إلى فكرة «الخلقة والفطرة»؛ إن طبائع الأمم وسجاياها من الأمور الفطرية التي تحدث بطبيعتها، فكل أمة مجبولة على بعض الطبائع الخاصة بها، ومفطورة على بعض السجايا المميزة لها، فاختلاف الأمم في الطبائع والسجايا، إنما هو نتيجة طبيعية لاختلافها في الخلقة والفطرة.
هذه النظرية الابتدائية عندما توسعت بعض التوسع، واصطبغت بصبغة علمية - نوعا ما - ولدت نظرية «العروق (الرسوس) البشرية»
Races ، و«الفروق العرقية (الرسية)»
Racial .
وهذه النظرية تتلخص بما يلي؛ ينقسم النوع البشري إلى عروق (رسوس) مختلفة، يمتاز كل عرق (رس) منها ببعض الخصائص الثابتة، وهذه الخصائص تنتقل من الآباء إلى الأولاد عن طريق الوراثة بواسطة الدم؛ ولهذا السبب نجد أن تلك الخصائص تشمل الأمة بأسرها، وتتجلى في جميع أفرادها. (2)
غير أن تواريخ الأمم وعنعناتها تدل على أن بعض الأمم تنحدر من أصل واحد، ومع هذا نجد أن هذه الأمم أيضا يختلف بعضها عن بعض ببعض الخصائص والفروق، على الرغم من أنها تنحدر من أصل واحد.
ومن البديهي أن الوراثة العرقية وحدها لا تكفي لتفسير وتعليل مثل هذه الفروق بين الأمم، فيجب أن يكون هناك عامل آخر، أو عوامل أخرى عديدة غير عامل الفطرة والتكوين العرقي.
والعامل الذي استلفت أنظار المفكرين - بعد فكرة الفطرة والخلقة - هو الطبيعة التي تحيط بالإنسان، وبتعبير آخر: البيئة الطبيعية التي تعيش فيها الأمة.
إن تأثير الحرارة والبرودة في بعض الجمادات والنباتات والحيوانات من الأمور التي تظهر للعيان، من غير أن تحتاج إلى بحث عميق وتفكير طويل؛ فكان من الطبيعي أن يقدم المفكرون على تعميم هذا التأثير على حياة الإنسان ، وأن يحاولوا تفسير اختلاف طبائع الأمم بتأثير الإقليم بوجه عام، كما كان من الطبيعي أن يتوسع طائفة منهم في هذا المضمار، وأن يبحثوا عن تأثير سائر عناصر الطبيعة - من الأنهر والجبال والبحار والنباتات والحيوانات والمعادن - في حياة الأمم وطبائعها. (3)
إلا أن التاريخ يشهد على أن الأمة الواحدة كثيرا ما تنتقل من حال إلى حال خلال الأدوار والأطوار التي تتوالى عليها، فقد تكتسب بعض السجايا الجديدة، حتى حينما لا يتغير شيء من بيئتها الطبيعية، وهذا يدل دلالة قاطعة على أن هناك عوامل أخرى - غير عاملي العرق والطبيعة اللذين ذكرناهما - تؤثر بدورها في طبائع الأمم وسجاياها.
هذه العوامل التي استلفتت أنظار المفكرين - بعد العاملين السالفين الذكر - هي الأحوال الاجتماعية، والوقائع التاريخية. (4)
يظهر من هذه الملاحظات السريعة أن العوامل التي تؤثر في طبائع الأمم وسجاياها، يمكن أن ترد إلى ثلاثة أنواع أساسية؛ العوامل العرقية، العوامل الطبيعية، العوامل الاجتماعية.
فما هو أهم هذه العوامل الأساسية؟
لقد اختلف الباحثون والمفكرون في هذا الصدد اختلافا كبيرا، فقد زعم بعضهم أن العوامل العرقية هي التي تلعب أهم الأدوار وتؤثر أشد التأثيرات، كما قال بعضهم إن البيئة الطبيعية هي التي تسيطر على العوامل الأخرى بأجمعها، وادعى بعضهم أن العوامل الاجتماعية تكون أشد خطورة وأقوى تأثيرا من جميعها.
نحن لا نرى مجالا لتفصيل هذه المذاهب ومناقشتها في هذا المقام، ومع هذا نرى من الضروري أن نقول إن الأبحاث العلمية التي تمت منذ قرن وجهت الأذهان - على الأخص - نحو المذهب الأخير، وأيدته إلى حد كبير؛ فإن نزعة الاهتمام بالأحوال والعوامل الاجتماعية، والتوسع والتعمق في درسها هي التي أكسبتنا أثبت النتائج وأثمن الثمرات في هذا المضمار.
لقد ظهر من الأبحاث العلمية بكل جلاء أن الصفات الوراثية العرقية في الأقوام، أقل مما يظهر في الوهلة الأولى، وهي أضيق نطاقا مما كان يظن قبلا.
إن الأذهان تميل عادة إلى الظن، بل إلى الجزم بأن جميع الصفات التي تظهر مشتركة بين الآباء والأولاد تكون وراثية، كما أن جميع الخصال المشتركة بين الأفراد تكون عرقية .
غير أن ذلك وإن كان صحيحا بالنسبة إلى الحيوانات التي تعيش عيشة انفرادية، فإنه غير صحيح البتة بالنسبة إلى الإنسان الذي يحيا حياة اجتماعية؛ لأن حياة الانفراد في الحيوانات لا تفسح مجالا لانتقال الأوصاف من الآباء إلى الأبناء عن طريق غير طريق الوراثة، وبواسطة غير واسطة الدم، فإذا شاهدنا أوصافا مشتركة بين أفراد جنس من أجناس الحيوانات؛ حق لنا أن نعتبر تلك الأوصاف وراثية، وساغ لنا أن ننعتها بنعت «العرقية».
ولكن أحوال الإنسان تختلف عن كل ذلك اختلافا جوهريا؛ لأن حياة الاجتماع عند الإنسان تفسح مجالا واسعا جدا لانتقال الأوصاف من الآباء إلى الأبناء من غير وساطة الدم أيضا؛ فإن الأولاد ينشئون نشأة اجتماعية منذ ولادتهم، فيكتسبون من آبائهم كثيرا من الخصال والصفات عن طريق المعاشرة، والمحاكاة، والتعلم، والاقتباس. ولهذا السبب نجد أن الأوصاف تنتقل عند الإنسان من الآباء إلى الأبناء، من غير وساطة الوراثة الفسلجية أيضا.
ولذلك نخطئ خطأ فظيعا إذا قسنا الإنسان بالحيوان في هذا المضمار، نخطئ خطأ عظيما إذا زعمنا أن جميع الأوصاف المشتركة بين الآباء والأبناء تأتيهم عن طريق الوراثة، وراثة فسلجية، كما نخطئ خطأ فظيعا إذا ذهبنا إلى أن جميع الأوصاف المشتركة بين أفراد الأمة تكون عرقية.
فيجب علينا أن نميز بين الأوصاف التي تنتقل من جيل إلى جيل عن طريق الوراثة والدم، من التي تنتقل عن طريق المعاشرة والاقتباس، يجوز لنا أن نسمي هذا النوع من الانتقال أيضا باسم «الوراثة»، غير أنه يتحتم علينا في هذه الحالة أن نفرق بين هذا النوع من الوراثة، وبين النوع الأول منها، كما يترتب علينا أن نسمي الوراثة التي تتأتى من الدم والولادة باسم «الوراثة الفسلجية»، والتي تتأتى من الحياة الاجتماعية باسم «الوراثة الاجتماعية».
ولا نرانا في حاجة إلى التدليل على أن الأوصاف التي تنتقل من جيل إلى جيل بواسطة الدم وبصورة فسلجية، أقل بكثير من التي تنتقل عن طريق الحياة الاجتماعية. ويجب علينا أن نعلم علم اليقين أن شروط الوراثة الفسلجية أشد وأعضل بكثير من شروط الوراثة الاجتماعية، فإن المكتسبات الفردية لا تنتقل انتقالا فسلجيا فتصبح وراثية ما لم تتهيأ لها ظروف خاصة، وتتوفر فيها شروط معقدة، في حين أن انتقال المكتسبات الفردية عن طريق الأفاعيل والمؤثرات الاجتماعية يتم بمنتهى السهولة.
ولهذا السبب نجد أن آثار النوع الأول من الوراثة لا تتجلى إلا في نطاق ضيق وساحة محدودة، في حين أن أفاعيل النوع الثاني من الوراثة تتجلى على مقياس واسع جدا في ساحة تكاد تكون غير محدودة.
هذا ونستطيع أن نقول إن السبب الأساسي في تقدم النوع البشري بسرعة خارقة - بالنسبة إلى سرعة تحول الحيوانات - ليس إلا ما ذكرناه آنفا: سهولة انتقال المكتسبات الفردية من جيل إلى جيل، بفضل الحياة الاجتماعية البشرية وأفاعيلها، بجانب صعوبة انتقال تلك المكتسبات عن طريق الوراثة الفسلجية وحدها.
إن عدم التمييز بين هذين النوعين من الانتقال - وبتعبير آخر: بين هذين النوعين من الوراثة - ولد أخطاء كبيرة في تقدير منشأ الطبائع، وحمل الناس - كما حمل عددا غير قليل من العلماء - على توهم «عمل الوراثة» في الكثير من الأمور التي لا تمت إليها بأدنى صلة.
إن الأبحاث التي قام بها علماء الاجتماع لم تترك مجالا للشك في هذه القضية بوجه من الوجوه. (5)
وأما قضية تأثير العوامل الطبيعية في الطبائع فهي أيضا تحتاج إلى إنعام النظر؛ إن على كل باحث أن يسلم مبدئيا بتأثير الطبيعة في الإنسان، لكن عليه أيضا أن يلاحظ في الوقت نفسه أن علاقة الإنسان بالطبيعة لم تكن علاقة «المنفعل المتأثر» فحسب، بل هي علاقة «الفاعل المؤثر» أيضا، فالإنسان ينفعل ويتأثر من الطبيعة من جهة، ويفعل ويؤثر فيها من جهة أخرى. إنه يحاول التخلص من سيطرة الطبيعة بصور شتى، وإذا لم يتمكن من التخلص منها بصورة نهائية فهو يتوصل - على كل حال - إلى تخفيف تأثيراتها فيه إلى حد كبير، كما أنه يحاول أن يسيطر عليها - إلى درجة ما - ويسعى إلى استخدام بعض قواها في صور شتى.
إن آثار ونتائج الحياة الاجتماعية التي يحياها الإنسان منذ أجيال وأجيال، قد تلاحقت وتراكمت وتبلورت على شكل بعض الأمور المعنوية من جهة ، وعلى شكل بعض الأشياء المادية من جهة أخرى. إن هذه الأمور المعنوية - كالتقاليد، والمعتقدات، والعلوم، والأذواق، والصناعات، والنظم الاجتماعية، على اختلاف أنواعها - وهذه الأشياء المادية - كالآلات، والماكينات، والبيوت، والمدن، والطرق، والمرافئ، والحقول، والكتب، والتماثيل، إلى آخر ما هنالك من معالم الحضارة ووسائلها - كلها تتضافر لتكوين «بيئة اجتماعية» خاصة، تعمل عمل «العازل» نوعا ما بين الإنسان وبين الطبيعة؛ ولهذا السبب نجد أن عناصر البيئة الطبيعية لا تؤثر في أمور الإنسان إلا من خلال هذه البيئة الاجتماعية.
فنستطيع أن نقول لذلك إن تأثير الطبيعة في الإنسان مما يتبع الأحوال الاجتماعية، ويقول بتحولها.
ولهذا السبب يترتب علينا أن نضع الأحوال الاجتماعية نصب أعيننا، حتى عندما نحاول استكناه تأثيرات الطبيعة المحيطة بنا. (6)
وإذا أردنا أن نجمل البحث في هذا الصدد، استطعنا أن نقول إن تأثير البيئة الطبيعية لا يخرج عن نطاق «تعين بعض الاتجاهات، وتحديد بعض الإمكانيات»، غير أن السير في تلك الاتجاهات، والاستفادة من تلك الإمكانيات مما لا يتم إلا تبعا للأحوال والعوامل الاجتماعية، والوقائع والدوافع التاريخية.
ولهذه الملاحظات الهامة زاد اهتمام علماء الاجتماع بالبحث في العوامل الاجتماعية عن طريق درس «البيئة الاجتماعية» من جهة، وتتبع «تواريخ المؤسسات الاجتماعية» من جهة أخرى.
بعد هذا الاستعراض السريع للمذاهب المختلفة التي قامت حول مسألة طبائع الأمم، نستطيع أن ننتقل إلى مقدمة ابن خلدون، فنتساءل: ماذا كان موقف ابن خلدون في هذه المسألة الأساسية؟ ماذا كان الاتجاه الذي اتجهه لتعليل اختلاف الأمم في الطبائع والسجايا؟ وإلى أي حد تعمق في درس هذه المسألة، وفي تحليل العوامل المؤثرة فيها؟
لم يعالج ابن خلدون مسألة طبائع الأمم في فصل خاص، ومع هذا فقد تطرق إليها، وتأمل فيها، وكتب عنها في مواضع كثيرة من فصول عديدة وبوسائل شتى.
إننا نجد في فصول المقدمة عدة «آراء صريحة» حول هذه القضية، وإذا جمعنا هذه الآراء؛ وجدنا أن ابن خلدون كان ذا مذهب واضح تام في هذا الصدد.
2
يعزو ابن خلدون إلى الأقاليم والطبيعة بعض التأثير في أخلاق البشر وأحوالهم، ويدون آراءه في هذا الصدد في المقدمات الثالثة والرابعة والخامسة من الباب الأول. (1)
إنه يشرح أولا تأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم.
من المعلوم أن الجغرافيين القدماء كانوا يقسمون الأرض إلى سبعة أقاليم، كما يقسمون كل إقليم إلى عشرة أجزاء، حسب درجة العرض الجغرافي. إن ابن خلدون ينقل عنهم هذه التقسيمات، ثم يتحرى كيفية توزع العمران البشري في هذه الأقاليم.
تتميز الأقاليم بعضها عن بعض بدرجة الحرارة والبرودة، فهذه الدرجة تكون في غاية التوسط والاعتدال في الإقليم الرابع الذي يقع في وسط الأقاليم السبعة تماما، وتكون أقرب إلى الاعتدال في الإقليمين الثالث والخامس، اللذين يجاوران هذا الإقليم المتوسط، غير أنها تكون بعيدة عن الاعتدال في الإقليمين الثاني والسادس، وأبعد من ذلك بكثير في الإقليمين الأول والسابع.
ولهذا يعتبر ابن خلدون الأقاليم الثلاثة المتوسطة «معتدلة»، وينعت الأقاليم الباقية ب «المنحرفة»؛ لإفراط الحرارة في الإقليمين الأول والثاني، وإفراط البرودة في السادس والسابع.
إن اعتدال الحرارة والبرودة يساعد على وفرة العمران، وأما إفراط الحرارة فيتساوى مع إفراط البرودة في عدم المساعدة على ذلك؛ ولهذا فإن الأقاليم المتوسطة المعتدلة تختص بكثرة المدن والأمصار، وتمتاز بكثرة الأمم «المنتحلين للعلوم والصنائع والملل والشرائع والسياسة والملك» (ص85).
إن ابن خلدون يعبر عن رأيه هذا بعبارات صريحة، في عدة مواضع من المقدمة: «أهل الأقاليم المتوسطة يمتازون بالاعتدال في خلقهم وخلقهم وسيرهم، وكافة الأحوال الطبيعية للاعتمار لديهم، من المعاش والمساكن والصنائع والعلوم والرئاسات والملك، فكانت فيهم النبوءات والملك والدول والشرائع والعلوم والبلدان والأمصار والمباني والفراسة والصنائع الفائقة» (ص85).
وكذلك هم «أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا، حتى النبوءات إنما توجد في الأكثر فيها.» «إن أهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال فيهم، فنجدهم على غاية من التوسط في مساكنهم وأقواتهم وصنائعهم، يتخذون البيوت المنجدة بالحجارة المنمقة بالصناعة، ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين، ويذهبون في ذلك إلى الغاية» (ص82).
وأما الأقاليم المنحرفة فهي قليلة العمران بوجه عام إن أممها «ليست لهم الكثرة البالغة ومدنها كذلك» (ص49).
أهل هذه الأقاليم متأخرون «في جميع أحوالهم؛ فبناؤهم بالطين والقصب، وأقواتهم من الذرة والعشب، وملابسهم من أوراق الشجر، أو الجلود، وأكثرهم عرايا من اللباس، وأخلاقهم قريبة من خلق الحيوانات العجم» (ص83).
ولا سيما الإقليم الأول؛ ففيه أقوام «يسكنون الكهوف والغياض»، ويأكلون «العشب والحبوب غير مهيأة، وربما يأكل بعضهم بعضا»، «يقرب أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العجم»، وهم «أقرب إلى الحيوان الأعجم من الناطق، وليسوا في عداد البشر» (ص54 و83).
إن أحوال أهل الأقاليم المنحرفة في الديانة أيضا على غرار ذلك؛ فإنهم «لا يعرفون نبوءة ولا يدينون بشريعة، إلا من قرب منهم من جوانب الاعتدال وهو في الأقل النادر.»
يذكر ابن خلدون أسماء هؤلاء الأقوام النادرة، ثم يقول: «من سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم المنحرفة جنوبا وشمالا، فالدين مجهول عندهم، والعلم مفقود بينهم، وجميع أحوالهم بعيدة عن أحوال الأناسي، قريبة من أحوال البهائم» (ص83).
ومما يجب ملاحظته في هذا الصدد أن ابن خلدون لا يغفل عن وقوع جزيرة العرب في الأقاليم المنحرفة، ويقدر الاعتراض الذي قد يخطر على البال من جراء ذلك؛ فيتدارك الأمر قائلا: «ولا يعترض على هذا القول بوجود اليمن وحضرموت والأحقاف وبلاد الحجاز واليمامة وما يليها في جزيرة العرب في الإقليم الأول والثاني؛ فإن جزيرة العرب كلها أحاطت بها البحار من الجهات الثلاث - كما ذكرنا - فكان لرطوبتها أثر في رطوبة هوائها؛ فنقص ذلك من اليبس والانحراف الذي يقتضيه الحر، وصار فيها بعض الاعتدال؛ بسبب رطوبة البحر» (ص83). (2)
حينما ذكر ابن خلدون اعتدال أهل الأقاليم المتوسطة، كتب فيما كتبه من الفقرات التي نقلناها آنفا: «إنهم أعدل ألوانا وأخلاقا»، وبهذه الصورة أشار إلى تأثير الإقليم والهواء في اللون والأخلاق أيضا. غير أنه لم يكتف بهذه الإشارة إلى هذين النوعين من التأثير، بل إنه عاد إلى كل واحد منهما، وتناولهما بالشرح والتفصيل:
فقد صرح أولا: «أن اللون تابع لمزاج الهواء»، وأن «شدة الحرارة تسود جلود الناس»، في حين أن إفراط البرودة يؤدي إلى «بياض اللون»، وأن هذا البياض قد يصل إلى درجة «الزعورة»، كما أنه «يتبع ذلك زرقة العيون ، وبرش الجلود، وصهوبة الشعور» (ص84)؛ ولهذا السبب إذا سكن جماعة من السودان في الأقاليم المعتدلة أو الباردة «تبيض ألوان أعقابهم بالتدريج»، وبعكس ذلك إذا سكن جماعة من أهل الشمال بالجنوب «تسود ألوان أعقابهم». ويستشهد ابن خلدون على ذلك برأي ابن سينا، ويذكر بيتين من أرجوزته في الطب، كما أنه ينتقد بشدة مزاعم بعض النسابة الذين يتوهمون أن «السودان هم ولد حام بن نوح، اختصوا بلون السواد؛ لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه، وفيما جعل الله من الرق في عقبه». إنه يعتبر ما ينقلونه في هذا الصدد من «خرافات القصاص»، ويتهم هؤلاء بعدم «العلم بطبائع الكائنات» (ص83)، ويقول إن هذا الزعم «من الأغاليط التي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات»، وإن هذه كلها تتبدل في الأعقاب (ص85). (3)
وأما مسألة تأثير الطبيعة في الأخلاق فيتوسع فيها ابن خلدون بعض التوسع في فصل خاص - أي في المقدمة الرابعة من الباب الأول - تحت عنوان «أثر الهواء في أخلاق البشر».
إنه يلاحظ أن السودان متصفون «على العموم بالخفة والطيش وكثرة الطرب»، وأنهم مولعون «بالرقص على كل توقيع في كل قطر»، ويعلل ذلك بتأثير شدة الحرارة، ويوضح هذا التعليل كما يلي:
من الأمور المقررة في الحكمة «أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه»، وطبيعة الحزن بالعكس، هي «انقباضه وتكاثفه». ومن الأمور المقررة أيضا «أن الحرارة مفشية للهواء والبخار ومخلخلة له، زائدة في كميته»؛ ولهذا السبب نجد أن الحرارة تؤدي إلى «تفشي الروح الحيوانية»، وتولد في النفس من جراء ذلك «الفرح والسرور» (ص86).
ويدعم ابن خلدون هذا الرأي بذكر مشاهدتين من المشاهدات المألوفة؛ الأولى ما يحدث من الفرح والسرور في سورة الخمر، والثانية ما يحدث من السرور والانبساط في الحمامات.
لأن سورة الخمر «تبعث حرارة غريزية في القلب؛ فيتفشى الروح»، وينتج من ذلك «من الفرح والسرور ما لا يعبر عنه»، كما أن المتنعمين بالحمامات يتأثرون من حرارة الهواء، فيشعرون بفرح، وربما انبعث الكثير منهم بالغناء الناشئ عن السرور .
ولما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار ؛ «استولى الحر على أمزجتهم» فصارت أرواحهم «أشد حرا من أرواح أهل الإقليم الرابع وأكثر تفشيا»، ومن ثم كان السودان «أكثر فرحا وسرورا وأكثر انبساطا»، وأما الطيش «فقد جاءهم على أثر ذلك» (ص86).
يرى ابن خلدون وجها للمشابهة بين السودان وأهل البلاد البحرية بهذا الاعتبار، فيقول: «ويلحق بهم قليلا أهل البلاد البحرية؛ لما كان هواؤها متضاعف الحرارة، بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته، كانت حصتهم من توابع الحرارة والفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التلول والجبال الباردة» (ص86).
وفي الأخير يشبه مصر نوعا ما بالبلاد الجزيرية، ويقول: «اعتبر ذلك أيضا بأهل مصر؛ فإنها مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريبا منها، كيف غلب الفرح عليهم، والخفة والغفلة عن العواقب، حتى إنهم لا يدخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم، وعامة مأكلهم من أسواقهم. ولما كانت فاس بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل التلول الباردة، كيف نرى أهلها مطرقين إطراق الحزن؟ وكيف أفرطوا في نظر العواقب؟ حتى إن الرجل منهم ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة، ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه؛ مخافة أن يرزأ شيئا من مدخره» (ص86-87).
ويختم ابن خلدون بحثه هذا بقوله: «تتبع ذلك في الأقاليم والبلدان؛ تجد في الأخلاق أثرا من كيفيات الهواء» (ص87). (4)
يفرد ابن خلدون فصلا من الباب الأول لشرح نوع آخر من التأثير، هو تأثير الطبيعة في الإنسان، عن طريق المواد الغذائية التي توفرها له.
من المعلوم أن الأقطار لا تتساوى في الخصب، والأقوام لا تتمتع بدرجة واحدة من رغد العيش؛ لأن هناك أقطارا وأقاليم توفر لأهلها «خصب العيش، من الحبوب والأدم والحنطة والفواكه؛ لزكاء المنابت، واعتدال الطينة، ووفور العمران»، وهنالك أقطار لا توفر ذلك لأهلها، فسكان تلك الأقطار يكونون في حالة «شظف من العيش»، إنهم «يفقدون الحبوب والأدم جملة»، ويقتاتون في الغالب «بالألبان واللحوم» (ص87).
يرى ابن خلدون أن خصائص الأقوام تختلف باختلاف «خصب الأراضي التي يعيشون عليها، ونوع الأغذية التي يتغذون بها»؛ فإن أهل القفار «الفاقدين للحبوب والأدم » يكونون بوجه عام «أحسن حالا في جسومهم وأخلاقهم من أهل التلول المنغمسين في العيش»، فتجد «ألوانهم أصفى، وأبدانهم أنقى، وأشكالهم أتم وأحسن، وأخلاقهم أبعد من الانحراف، وأذهانهم أثقب في المعارف والإدراكات» (ص88).
والسبب في ذلك «أن كثرة الأغذية وكثرة الأخلاط الفاسدة العفنة ورطوباتها تولد في الجسم فضلات رديئة تنشأ عنها بعد أقطارها في غير نسبة»، ويتبع ذلك «انكساف الألوان وقبح الأشكال من كثرة اللحم»، «وتغطي الرطوبات على الأذهان والأفكار بما يصعد إلى الدماغ من أبخرتها الردية»، وينتج من ذلك «البلادة والغفلة والانحراف عن الاعتدال بالجملة» (88).
ولزيادة الإقناع يقارن ابن خلدون حيوانات القفار بحيوانات التلول، فيقول: «واعتبر ذلك في حيوان القفار ومواطن الجدب، من الغزال والنعام والمها والزرافة والحمر الوحشية والبقر، مع أمثالها من حيوان التلول والأرياف والمراعي الخصبة، كيف تجد بينها بونا بعيدا في صفاء أديمها وحسن رونقها، وأشكالها، وتناسب أعضائها، وحدة مداركها؛ وما ذلك إلا لأجل أن الخصب في التلول فعل في أبدان هذه من الفضلات الردية والأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها أثره. والجوع لحيوان القفر حسن في خلقها وأشكالها ما شاء» (ص88).
ولهذه الأسباب يرى ابن خلدون أن كثرة الأغذية تؤثر تأثيرا سيئا في الأجسام والأخلاق.
ومع هذا فهو لا يغفل عن حقيقة تظهر مخالفة لهذا الرأي في الوهلة الأولى: «إن جسوم أهل الأمصار ألطف من جسوم أهل البوادي»، وكذلك أذهانهم أثقب من أذهان هؤلاء، مع أنهم أرغد عيشا منهم بوجه عام.
ولكن ابن خلدون يحاول تعليل ذلك من غير أن يغير رأيه الأصلي في الأمر: «إن أهل الأمصار وإن كانوا مكثرين من الأدم، ومخصبين في العيش، إلا أن استعمالهم إياها بعد العلاج بالطبخ والتلطيف - بما يخلطون معها - فيذهب لذلك غلظتها ويرق قوامها؛ فتقل الرطوبات لذلك في أغذيتهم، ويخف ما تؤديه إلى أجسامهم من الفضلات الردية» (ص88).
ولهذا السبب تبقى جسومهم بعيدة عن الغلظة، بالرغم من كثرة الأغذية التي يتناولونها.
وفي الأخير يضيف ابن خلدون إلى التأثيرات الآنفة الذكر تأثيرا آخر هو الذي يظهر في حال الدين والعبادة ، حيث يقول: «إن أثر هذا الخصب في البدن وأحواله يظهر حتى في حال العبادة، فتجد المتقشفين من أهل البادية والحاضرة، ممن يأخذ نفسه بالجوع والتجافي عن الملاذ، أحسن دينا وإقبالا على العبادة من أهل الترف والخصب، بل نجد أهل الدين قليلين في المدن والأمصار؛ لما يعمها من القساوة والغفلة المتصلة بالإكثار من اللحمان والأدم ولباب البر، ويختص وجود العباد والزهاد لذلك بالمتقشفين في غذائهم من أهل البوادي» (ص89).
3
أما رأي ابن خلدون في مسألة الأوصاف الفطرية والعرقية (الرسية)، فمما يتطلب البحث والنظر بكل تأمل وإمعان. (1)
لقد زعم بعض الباحثين أن ابن خلدون يعزو أهمية كبرى إلى تأثير الدم والجنس في حياة الأمم، وبنوا زعمهم هذا على نظرية العصبية التي وضعها، وقالوا يذهب ابن خلدون إلى أن العصبية هي العامل الأساسي في الحياة السياسية، ومن المعلوم أن العصبية إنما هي نتيجة طبيعية لرابطة الدم والنسب، فيظهر من ذلك أنه يعزو دورا هاما إلى هذه الرابطة، شأن القائلين بنظرية الأجناس، وبأهمية الأوصاف العرقية (الرسية).
غير أني أعتقد أن هذا الزعم لا ينطبق على الواقع انطباقا كافيا، بل يخالف روح آراء ابن خلدون مخالفة كلية، إنه يعزو - في الواقع - إلى العصبية أهمية كبرى، ويعتبرها نتيجة القرابة والنسب في الدرجة الأولى، ولكنه لا يذهب إلى أنها مربوطة بوحدة الدم ارتباطا لا محيد عنه أبدا.
فأولا:
إنه يصرح بأن «النسب وهمي (يريد معنويا وذهنيا) وإن كان طبيعيا» (ص184)، كما يقول «إن النسب أمر وهمي لا حقيقة له» (ص129)، ويصرح أيضا: «إذا كان النسب يستفاد من الخبر البعيد؛ ضعف فيه الوهم وذهبت فائدته» (ص129)، كما يقول: «إن النسب إذا خرج عن الوضوح، وصار من قبيل العلوم؛ ذهبت فائدة الوهم فيه عن النفس، وانتفت النعرة التي تحمل عليها العصبية»
1 (ص129).
يظهر من ذلك بكل وضوح أن ابن خلدون لم يقل بأن وجود القرابة يكفي لتوليد العصبية.
ثانيا:
عندما يشير ابن خلدون إلى منشأ العصبية، يقول إنها تكون «من الالتحام بالنسب أو ما في معناه»، ثم يصرح بأن الولاء يعمل عمل النسب؛ «لأن اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريبة منها» (ص129).
وفي محل آخر يصرح بذلك بوضوح أكبر: «إن المقصود في العصبية من المدافعة والمغالبة، إنما يتم بالنسب؛ لأجل التناصر في ذوي الأرحام والقربى، والتخاذل في الأجانب والبعداء. والولاية والمخالطة بالرق أو بالحلف تنزل منزلة ذلك.» وبعد ذلك يحلل أسباب تكون العصبية من القرابة فيقول: «المعنى الذي كان به الالتحام، إنما هو العشرة والمدافعة وطول الممارسة والصحبة بالمربى والرضاع، وسائر أحوال الموت والحياة» (ص184).
يتبين من ذلك أن ابن خلدون يحصر عمل «القرابة» في نطاق «العشرة والصحبة والممارسة» الناشئة عنها، فلا يرجع العصبية إلى وحدة الدم في حد ذاتها.
حتى إنه يقول بصراحة أعظم: «يحدث بين المصطنع ومن اصطنعه نسبة خاصة من الوصلة، تنزل هذه المنزلة وتؤكد اللحمة، فإن لم يكن نسب، فثمرات النسب موجودة» (ص184).
وإذا أردنا أن نلخص الآراء المستفادة من هذه العبارات، استطعنا أن نقول: إن وحدة الدم تولد العصبية من جراء العشرة والصحبة والممارسة التي تستتبعها؛ ولذلك نجد أن وحدة الدم والنسب إذا لم تؤد إلى وحدة المربى والعشرة والصحبة، فلا تولد اللحمة والعصبية، وبعكس ذلك العشرة والصحبة، إذا حصلت من سبب غير النسب فإنها توصل إلى نتائج مماثلة لما يحدث من قرابة الدم والنسب، فالعامل الأصلي في العصبية ليس القرابة في حد ذاتها. (2)
إن هذه النتيجة التي وصلنا إليها، من إنعام النظر في كنه نظرية العصبية، تتأيد وتتأكد لدينا كلما توغلنا في درس آراء ابن خلدون الأساسية في الحياة الاجتماعية.
فإننا نجده دائما يعزو أهمية كبيرة إلى أفاعيل المعاشرة والممارسة والألفة والاعتياد، ويبرز الأخلاق والنزعات التي تنجم عن ذلك بكل توسع واهتمام.
إن الآراء المندمجة في العبارات التالية أوضح دليل على ذلك وأقوى برهان: «الإنسان ابن عوائده ومألوفه، لا ابن طبيعته ومزاجه» (ص125). «إن تكون السجايا والطبائع إنما هو من المألوفات والعوائد» (ص138). «إن العوائد تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها، فهو ابن عوائده، لا ابن نسبه» (ص374).
4 (1)
يهتم ابن خلدون بوجه خاص بالعوامل الاجتماعية، ويتوسع ويتعمق في درس تأثير هذه العوامل في تكوين الطبائع والسجايا الخلقية والعقلية، فإنه يرى أن خصال البأس والشجاعة، والانقياد والطاعة، وجميع مذمومات الخلق ومحموداته، حتى الذكاء والكياسة والفطنة والنباهة، كلها تتأثر من الحياة الاجتماعية تأثرا شديدا.
ويتأتى هذا التأثير - في نظر ابن خلدون - من النحلة المعاشية في الدرجة الأولى؛ فإن المؤلف يفتتح الفصل الأول من الباب الثاني بتقرير المبدأ التالي: «إن اختلاف الأجيال في أحوالهم، إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش» (ص120).
ويبرهن على المبدأ المذكور بقوله: «فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله» (ص12).
وأما كيفية تأثير النحلة المعاشية في الطبائع والسجايا، فيوضحها ابن خلدون بفضل أفعولتين نفسيتين مهمتين:
الأولى: الألفة والاعتياد، والثانية: الممارسة والمران. (أ)
إن أثر الألفة والاعتياد في طبائع الإنسان يقرره ابن خلدون بالعبارات التالية: «إن النفس إذا ألفت شيئا صار من جبلتها وخلقتها» (ص90).
وإذا «ألف الإنسان بعض الأحوال» صار ذلك له خلقا وملكة وعادة، تنزل منزلة الطبيعة والجبلة (ص125). (ب)
وأما أثر الممارسة والمران في زيادة قابليات الإنسان، فيقرره ابن خلدون بالعبارات التالية: «إن الأفعال لا بد من عود آثارها على النفس» (ص399). «القريحة مثل الضرع تزيد بالامتراء، وتجف بالترك والإهمال» (ص575). «العلوم والصنائع يحصل منها زيادة عقل.» «كل صناعة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلا جديدا» (ص428).
النحلة المعاشية تولد بعض الطبائع والسجايا الخاصة بفضل هاتين الأفعولتين النفسيتين.
فإن الحياة الاجتماعية - ولا سيما النحلة المعاشية - تحمل الأفراد على القيام ببعض الأفعال والأعمال، وتكرر هذه الأفعال والأعمال طول حياة الأفراد - بل على مدى الأجيال والأحقاب - يؤدي إلى ترسيخ بعض الاعتيادات، وتوليد بعض الملكات، وتزييد بعض القابليات، وتنقيص بعض القوى، وكل ذلك يعني تكوين بعض الطبائع والسجايا، وتزييد بعض القوى والقابليات. (2)
ابن خلدون يتتبع نتائج هذه المبادئ، ويتوسع في درسها، ويتعمق في تعليلها بشكل يستثير الإعجاب.
ولأجل أن نحيط علما بآراء ابن خلدون في أثر النحلة المعاشية في تكوين الأخلاق والطبائع والسجايا حق الإحاطة، يجب علينا أولا أن نستعرض أنواع النحل المعاشية التي يشير إليها.
يشرح ابن خلدون وجوه المعاش في فصل خاص، ويحصر النحل المعاشية - من حيث الأساس - في الأمور التالية؛ الاصطياد، الفلاحة، الصناعة، والتجارة (ص383).
غير أنه يقسم الفلاحة - في فصل آخر - إلى نوعين أساسيين؛ الأول تربية الحيوانات، الثاني زراعة النباتات (ص120).
كما أنه يقسم الصناعة - في فصل آخر - إلى ثلاثة أقسام؛ الأول ما يختص بأمر المعاش، الثاني ما يختص بالأفكار، والثالث ما يختص بالسياسة (ص400). ويعتبر من الأول؛ الحياكة والجزارة والنجارة والحدادة وأمثالها، ومن الثاني؛ الوراقة (وهي معاناة الكتب بالاستنساخ والتجليد)، والغناء والشعر وتعليم العلم وأمثال ذلك، ومن الثالث؛ الجندية وأمثالها (ص400).
لا يهتم ابن خلدون لنحلة الاصطياد، ولا يعود إليها بعد أن يذكرها عرضا خلال بحثه عن وجوه المعاش، وأما بقية النحل المعاشية، فإنه يدرسها بتفصيل واف، ويقرر تأثيراتها في العقول والأخلاق بتوسع وتعمق في عدة فصول. (3)
وبما أن ابن خلدون يقسم البشر إلى «بدو وحضر» - بالنظر إلى نوع نحلتهم المعاشية وأسلوب حياتهم الاجتماعية - فإنه يتوسع بوجه خاص في إظهار تأثيرات حياة البداوة والحضارة في الأخلاق والعقول، ويقرر في هذا المضمار القضايا التالية:
أولا:
أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر.
ثانيا:
أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر.
ثالثا:
أهل الحضر أكثر ذكاء وفطنة من أهل البدو. (أ)
يقرر ابن خلدون القضية الأولى ويعللها في فصل خاص (ص125)، حيث يقول: «والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا في نعيم الترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى مواليهم، والحاكم الذي يسوسهم، والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم، والحرز الذي يحول دونهم، فلا تهيجهم هيعة، ولا ينفر لهم صيد، فهم غارون آمنون، قد ألقوا السلاح وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم، حتى صار ذلك لهم خلقا يتنزل منزلة الطبيعة.»
إلا أن أهل البدو فهم - «لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب - قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يكلونها إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم، دائما يحملون السلاح، ويلتفتون عن كل جانب في الطرق، ويتجافون عن الهجوع إلا غرارا في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتوجسون للنبآت والهيعات ، ويتفردون في القفر والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البأس خلقا، والشجاعة سجية، يرجعون إليها متى دعاهم داع واستفزهم صارخ» (ص125).
هذا ويلاحظ ابن خلدون - في فصل آخر - أن بين البداوة وبين الحضارة درجات عديدة، وأن بعض الأقوام تكون في حالة انتقال من البداوة إلى الحضارة، ويقرر أن الشجاعة تتناقص كلما زاد القوم اتصالا بحياة الحضارة وتباعدا عن حياة البداوة: «لما كانت البداوة سببا في الشجاعة، لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر، بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعصار، فكلما نزلوا الأرياف وتفنقوا النعيم، وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم؛ نقص من شجاعتهم بقدر ما نقص من توحشهم وبداوتهم» (ص138). (ب)
وأما القضية الثانية - وهي القائلة «إن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر» - فيشرحها ابن خلدون أيضا في فصل خاص: «وسببه؛ أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيأة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر، وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر، ويصعب عليها اكتسابه. فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير، وحصلت لها ملكته؛ بعد عن الشر، وصعب عليه طريقه، وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليه عوائده» (ص123). «وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ، وعوائد الترف، والإقبال على الدنيا، والعكوف على شهواتهم منها؛ قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه، بقدر ما حصل لهم من ذلك. حتى لقد ذهب عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم.»
وأما أهل البدو «وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم، إلا أنه في المقدار الضروري، لا في الترف ولا في شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها؛ فعوائدهم في معاملاتها على نسبتها، وما يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير، فهم أقرب إلى الفطرة الأولى، وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها» (ص123). (ج)
وأما القضية الثالثة - وهي القائلة بأن أهل الحضر أكثر ذكاء وفطنة من أهل البدو - فلا يفرد لها ابن خلدون فصلا خاصا بها، بل يذكرها عرضا في الفصل الذي يقرر «أن التعليم للعلم من جملة الصنائع» (ص430-434)؛ ولهذا السبب لم تستلفت هذه القضية أنظار الباحثين كثيرا، مع أنها مسرودة في أواخر الفصل المذكور بوضوح تام: «ألا ترى إلى أهل الحضر من أهل البدو؟ كيف تجد الحضري متحليا بالذكاء، ممتلئا من الكيس، حتى إن البدوي ليظنه أنه قد فاته في حقيقة إنسانيته وعقله، وليس كذلك، وما ذاك إلا لإجادته في ملكات الصنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضرية ما لا يعرفه البدوي. فلما امتلأ الحضري من الصنائع وملكاتها وحسن تعليماتها؛ ظن كل من قصر عن تلك الملكات أنها لكمال في عقله، وأن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وجبلتها عن فطرته، وليس كذلك؛ فإنا نجد من أهل البدو من هو أعلى رتبة في الفهم والكمال في عقله وفطرته، إنما الذي ظهر على أهل الحضر من ذلك هو رونق الصنائع والتعليم، فإن لها آثارا ترجع إلى النفس كما قدمنا» (ص433-434). (4)
يبحث ابن خلدون في تأثير التجارة والصناعة أيضا، ويظهر تأثير التجارة في الأخلاق، وتأثير الصناعة في العقول. (أ)
يقول في فصل خاص: «إن خلق التجار نازلة عن خلق الرؤساء، وبعيدة عن المروءة.» ويعلل ذلك بما يلي: «إن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع والشراء، وجلب الفوائد والأرباح، ولا بد في ذلك من المكايسة والمماحكة والتحذلق، وممارسة الخصومات واللجاج، وهي عوارض هذه الحرفة. وهذه الأوصاف نقص من الذكاء والمروءة وتجرح فيها؛ لأن الأفعال لا بد من عود آثارها على النفس، فأفعال الخير تعود بآثار الخير والزكاء، وأفعال الشر والسفسفة تعود بضد ذلك، فتتمكن وترسخ إن سبقت وتكررت، وتنقص خلال الخير إذا تأخرت عنها بما ينطبع من آثارها المذمومة في النفس، شأن الملكات الناشئة عن الأفعال.» «وتتفاوت هذه الآثار بتفاوت أصناف التجار في أطوارهم؛ فمن كان منهم سافل الطور، محالفا لأشرار الباعة أهل الفسق والخلاعة والفجور في الأثمان إقرارا وإنكارا؛ كانت رداءة تلك الخلق عنده أشد، وغلبت عليه السفسفة، وبعد عن المروءة واكتسابها بالجملة، وإلا فلا بد له من تأثير المكايسة والمماحكة في مروءته» (ص399). (ب)
ويقول ابن خلدون في فصل خاص: «إن الصنائع تكسب صاحبها عقلا، وخصوصا الكتابة والحساب» (ص428)، ويشرح ذلك ويعلله بما يلي: «إن النفس الناطقة للإنسان، إنما توجد فيه بالقوة، وإن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أولا، ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا، فتكون ذاتا روحانية، ويستكمل حينئذ وجودها، فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم والنظر يفيدها عقلا فريدا.» «والصنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة. فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلا، والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك؛ لأنها تشتمل على العلوم والأنظار، بخلاف الصنائع، وبيانه أن في الكتابة انتقالا من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس، ذلك دائما. فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات، وهو معنى النظر العقلي الذي يكسب العلوم المجهولة، فيكسب بذلك ملكة من التعقل تكون زيادة عقل، ويحصل به قوة فطنة وكيس في الأمور لما تعودوه من ذلك الانتقال.» «ويلحق بذلك الحساب؛ فإن في صناعة الحساب نوع تصرف بالعد وبالضم والتفريق، يحتاج فيه إلى استدلال كثير، فيبقى متعودا للاستدلال والنظر، وهو معنى العقل» (ص429).
5
إن التفاصيل التي ذكرناها آنفا تدلنا على رأي ابن خلدون في «آثار الحضارة» في الطبائع بوجه عام، فإنه يعتقد أن وصول الحضارة إلى غايتها يؤدي إلى فساد الأخلاق من جهة، وزيادة العقل من جهة أخرى.
إن تأثيرات الحضارة في الأخلاق مشروحة بتفصيل واف في الفصل الذي يقرر: «أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره ومؤذنة بفساده» (ص371-374).
نجتزئ من الفصل المذكور بالعبارات التالية؛ لنتبين رأي ابن خلدون في هذا الصدد: «إن الحضارة تؤدي إلى الترف، والترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها، والحضارة - كما علمت - هي التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه.» «وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية؛ تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة» (ص372).
إن استفحال الحضارة والترف يقترن بوجه عام بارتفاع أسعار الحاجيات، فتزداد عندئذ مشاكل المعيشة بقدر ازدياد الحاجات وارتفاع أسعارها. «فتعظم نفقات أهل الحضارة، وتخرج عن القصد إلى الإسراف، ولا يجدون وليجة عن ذلك لما ملكتهم من أثر العوائد وطاعتها، وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات، ويتتابعون في الإملاق والخصاصة، ويغلب عليهم الفقر، ويقل المستامون للمبايع؛ فتكسد الأسواق، ويفسد حال المدينة، وداعية ذلك كله إفراط الحضارة والترف.» «وهذه مفسدات في المدينة، وعلى العموم في الأسواق والعمران، وأما فساد أهلها في ذاتهم واحدا واحدا على الخصوص، فمن الكد والتعب في حاجات العوائد والتلون بألوان الشر في تحصيلها، وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها؛ ولذلك يكثر منهم الفسق والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه وغير وجهه، وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه، واستجماع الحيلة له (ص372). فتجدهم أجرياء على الكذب والمغامرة والغش والخلابة والسرقة والفجور في الأيمان والربا في البياعات، ثم تجدهم أبصر بطريق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به وبدواعيه، وتجدهم أيضا أبصر بالمكر والخديعة يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر، وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة وخلقا لأكثرهم.» «ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة، ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم» (ص373). «ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها، لكثرة الترف»، فيقع التفنن «في شهوات البطن من المآكل والملاذ، ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزنا واللواط»
2 (ص374).
ولهذه الأسباب كلها يقول ابن خلدون: «إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد» (ص374).
وأما رأي ابن خلدون في تأثير الحضارة في زيادة العقل وتقوية الذكاء، فمذكور في الفصل الذي يقرر فيه: «أن الصنائع تكسب صاحبها عقلا». فإنه يقول - في هذا الفصل - بعد أن يقرر أن الحنكة في التجربة تفيد عقلا: «والحضارة الكاملة تفيد عقلا؛ لأنها مجتمعة من صنائع في شأن تدبير المنزل ومعاشرة أبناء الجنس، وتحصيل الآداب في مخالطتهم، ثم القيام بأمور الدين، واعتبار آدابها وشرائطها، وهذه كلها قوانين تنتظم علوما، فيحصل منها زيادة عقل» (418).
6
يظهر مما تقدم كله أن ابن خلدون لا يغالي في تأثير البيئة الطبيعية، ولا يهتم بالأوصاف العرقية (الرسية)، بل يعتني كل الاعتناء بالبحث عن العوامل الاجتماعية، ويسعى كل السعي إلى إظهار أثر النحلة المعاشية، ويعطي هذه العوامل الموقع الأول في تكوين الطبائع والسجايا.
إننا نجد أن نظرية ابن خلدون في هذا الصدد ملخصة أحسن تلخيص، وموضحة أتم إيضاح، في سياق مقارنة أهل المشرق بأهل المغرب، في أحد فصول الباب السادس من المقدمة، وهو الفصل الذي يقرر «أن التعليم للعلم من جملة الصنائع» (ص430).
فإننا نجتزئ من الفصل المذكور بالعبارات والفقرات التي تتعلق بهذه النظرية: «أهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم وفي سائر الصنائع، حتى إنه ليظن كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أن عقولهم على الجملة أكمل من عقول أهل المغرب، وأنهم أشد نباهة وأعظم كيسا بفطرتهم الأولى، وأن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب، ويعتقدون التفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانية، ويتشيعون لذلك، ويولعون به؛ لما يرون من كيسهم في العلوم والصنائع، وليس كذلك.» «وليس بين قطر المشرق والمغرب تفاوت بهذا المقدار الذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة، اللهم إلا الأقاليم المنحرفة، مثل الأول والسابع؛ فالأمزجة فيها منحرفة، والنفوس على نسبتها كما ترى.» «وإنما الذي فضل أهل المشرق من أهل المغرب هو ما يحصل في النفس من آثار الحضارة من الفعل المزيد، كما تقدم في الصنائع.» «ونزيده الآن تحقيقا؛ وذلك أن الحضر لهم آداب في أحوالهم - في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدين والدنيا، وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرفاتهم - فلهم في ذلك كله آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبسون به، من أخذ وترك، حتى كأنها حدود لا تتعدى، وهي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم. ولا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر، يكسبها عقلا جديدا تستعد به لقبول صناعة أخرى، ويتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف.» «ولقد بلغنا في تعليم الصنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك؛ مثل أنهم يعلمون الحمر الإنسية والحيوانات العجم - من الماشي والطائر - مفردات من الكلام والأفعال يستغرب ندورها (صدورها)، ويعجز أهل المغرب عن فهمها.» «وحسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله، وإضاءة في فكره، بكثرة الملكات الحاصلة للنفس؛ إذ قدمنا أن النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يرجع إليها من الملكات، فيزدادون بذلك كيسا؛ لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية، فيظنه العامي تفاوتا في الحقيقة الإنسانية، وليس كذلك» (ص433).
بعد هذه الفقرات يقارن ابن خلدون الحضري بالبدوي من وجهة العقل والذكاء، ويكتب الفقرات التي نقلناها آنفا - عندما سردنا رأيه في الفروق العقلية التي تميز الحضر من البدو - ويعلل هذه بتأثير الصنائع والعلوم، ثم يعود إلى مقارنة أهل المشرق بأهل المغرب قائلا: «وكذا أهل المشرق، لما كانوا في التعليم والصنائع أرسخ رتبة وأعلى قدما، وكان أهل المغرب أقرب إلى البداوة؛ ظن المغفلون في بادئ الرأي أنه لكمال في الحقيقة الإنسانية اختصوا به عن أهل المغرب، وليس ذلك بصحيح» (ص334).
نحن نعتقد أن ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد ينم عن ملاحظات دقيقة جدا وصائبة تماما.
نظرية العصبية
إن نظرية العصبية من أهم وأطرف النظريات التي وضعها ابن خلدون، نستطيع أن نقول إنها بمثابة المحور الذي يدور حوله معظم المباحث الاجتماعية، وتتصل به جميع مباحث «الاجتماع السياسي» في المقدمة.
ولا نغالي إذا قلنا - بهذا الاعتبار - إنها تؤلف «أنظومة»
Systéme
تامة التكوين في الاجتماع بوجه عام، والاجتماع السياسي بوجه خاص.
لا يستطيع القارئ أن يحصل على فكرة تامة عن نظرية العصبية بقراءة فصل واحد أو بضعة فصول من المقدمة؛ لأن ابن خلدون يبني هذه النظرية بالتدريج، ويكون هذه الأنظومة قسما بعد قسم، شأن جميع المفكرين الذين يضعون النظريات المفصلة، ويؤسسون الأنظومات الكبيرة.
فلأجل أن نحصل على فكرة تامة عن هذه النظرية الاجتماعية والأنظومة السياسية، يجب علينا أن نستعرض ما جاء في معظم فصول البابين الثاني والثالث، وفي أحد فصول الباب الرابع، حول العصبية، وعلينا أن ننعم النظر - بوجه خاص - في الفصول التالية:
من الباب الثاني: الفصل الذي يقرر «أن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية»، والفصول الخمسة التي تليه (ص127-134)، ثم الفصل الذي يقرر «أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك» (ص139-140).
ومن الباب الثالث: الفصل القائل «إن الملك والدولة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية»، والفصول الستة التي تليه (ص154-162)، ثم الفصل الذي يقرر «أن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة»، والفصل الذي يليه (ص164-167)، ثم «الفصل الباحث في أحوال الموالي والمصطنعين في الدولة» (ص184)، وفصل حقيقة الملك (ص187)، ثم فصل «كيفية طروق الخلل للدولة» (ص294).
ومن الباب الرابع: فصل «وجود العصبية في الأمصار» (ص377).
1 (1)
إن الرابطة المعنوية التي تربط ذوي القربى والأرحام بعضهم ببعض من الأمور التي لم تخف على أنظار العقول السليمة في العالم العربي منذ العصور القديمة. ومما يدل على ذلك دلالة قوية؛ أن اللغة العربية تسمي ذوي القربى باسم «العصبة»، وهذه الكلمة تمت بصلة الاشتقاق إلى كلمة «العصب» بمعنى الشد والربط، وكلمة «العصابة» بمعنى «الرابطة»، كما أنها تسمي الخصال والأفعال الناجمة عن ذلك - من تعاضد وتشيع - باسم «العصبية».
أما ابن خلدون فيتخذ رابطة العصبية موضوعا لدراسة شاملة وعميقة، يستعرض أشكالها وصورها المختلفة، ويتتبع الأدوار التي في حياة المجتمعات بوجه عام، وفي حياة الدول بوجه خاص، بتوسع يستلفت الأنظار، وتعمق يستثير الإعجاب. (2)
يتكلم ابن خلدون أولا عن مصدر العصبية، ويردها إلى الطبيعة البشرية، وإلى أثر القرابة في الحياة الاجتماعية: «إن صلة الرحم طبيعية في البشر، إلا في الأقل، ومن صلتها؛ النعرة على ذوي القربى والأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة.» «فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك.» «نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا» (ص129).
إن هذه النزعة الطبيعية في البشر تؤدي إلى «الاتحاد والالتحام» بين أفراد النسب الواحد؛ لأنها تحملهم على «التعاضد والتناصر»، وتستلزم «استماتة كل واحد منهم دون صاحبه» (ص154).
ولهذا السبب نجد أن أفراد النسب الواحد يشتركون في «حمل الديات»، ويتعاونون على «دفع العدوان»، ويتناصرون في «تحقيق المطالبات». «وأما المنفردون في أنسابهم، فقل أن يصيب أحدا منهم نعرة على صاحبه. فإذا أظلم الشر يوم الحرب؛ تسلل كل واحد منهم يبغي النجاة لنفسه» (ص128).
يتبين مما تقدم أن العصبية تتولد من القرابة - من حيث الأساس - وهي تستند إلى وحدة النسب في الدرجة الأولى. (3)
غير أن القرابة والنسب من الأمور التي تحتاج إلى نظر وتأمل من وجوه عديدة.
أولا:
إن للقرابة درجات ومراتب متفاوتة، من التي بين أبناء الأب الواحد إلى التي بين أهل القبيلة الواحدة. إذ لا شك في أن القرابة التي تربط الإخوة المنحدرين من صلب أب واحد، تكون أقوى من التي تربط أهل البيت الواحد، كما أن هذه تكون أقوى من القرابة التي تربط أهل العشير الواحد، وخاصة من التي تربط بطون القبيلة الواحدة.
إن قوة العصبية المتولدة من القرابة تختلف باختلاف درجة هذه القرابة؛ ولذلك نجد أن الالتحام المتولد من وحدة النسب الخاص يكون أقوى من الالتحام المتأتي من وحدة النسب العام. «والنعرة تقع من أهل النسب الخاص والعام» في وقت واحد، غير أنها «تكون أشد في النسب الخاص» (ص131).
ثانيا:
إن رابطة النسب لا تنحصر في نطاق القرابة وحدها؛ لأن الفرد قد ينفصل من نسبه الأصلي، وينضم إلى نسب آخر. إن انتقال الفرد من نسب إلى آخر - أو سقوطه إلى نسب آخر حسب تعبير ابن خلدون - يحدث لأسباب عديدة وبصور شتى، أهمها: (أ) القرابة. (ب) الحلف. (ج) الولاء. (د) الدخالة. «من البين أن بعضا من أهل الأنساب يسقط إلى نسب آخر بقرابة إليهم أو حلف أو ولاء، أو لفرار من قومه بجناية أصابها، فيدعي بنسب هؤلاء، ويعد منهم في ثمراته من النعرة والقود وحمل الديات وسائر الأحوال. وإذا وجدت ثمرات النسب فكأنه وجد؛ لأنه لا معنى لكونه من هؤلاء أو من هؤلاء، إلا جريان أحكامهم وأحوالهم عليه، وكأنه التحم بهم. ثم إنه قد يتناسى النسب الأول بطول الزمن، ويذهب أهل العلم به، فيخفى على الأكثر.» «وما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب، ويلتحم قوم بآخرين في الجاهلية والإسلام، والعرب والعجم» (ص130).
ولهذا السبب يوسع ابن خلدون مفهوم «النسب» من معناه الضيق الدارج، ويشمله إلى الحلف والولاء أيضا، حتى إنه لا يتردد في استحداث تعبير «نسب الولاء» قياسا على تعبير «نسب الولادة». (4)
يفهم من ذلك كله أن العصبية في نظر ابن خلدون لا تنحصر بأصحاب النسب الواحد بمعناه الدارج - أو بأصحاب نسب الولادة، حسب تعبيره هو - بل يشمل أصحاب نسب الولاء أيضا.
ولذلك يقول ابن خلدون في عنوان أحد الفصول: «إن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه» (ص128)، كما يصرح في الفصل المذكور بأن «اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب، أو قريبا منها» (ص129).
ولا يكتفي ابن خلدون بسرد هذه الآراء - بصورة اختبارية فحسب - بل يسعى إلى تفسيرها وتعليلها بصورة علمية أيضا. «إن النسب أمر وهمي (أي ذهني ومعنوي) لا حقيقة له» (ص129)، «وإن كان طبيعيا» (ص184).
وأما تأثير وحدة النسب في توليد الالتحام، فهو نتيجة طبيعية للصحبة والعشرة التي تنجم عن تلك الوحدة.
فإن «المعنى الذي كان به الالتحام، إنما هو العشرة والمدافعة، وطول الممارسة والصحبة بالمربى والرضاع، وسائر أحوال الموت والحياة» (ص184).
ولهذا السبب نجد أن النسب إذا أصبح مجهولا بين أصحابه، وخرج عن الوضوح، وصار من قبيل العلوم؛ زال تأثيره، وذهبت فائدته من النفس، فلم تتولد منه عصبية ما، «وانتفت النعرة التي تحمل عليها العصبية» (ص129).
وأما بعكس ذلك إذا حصلت ثمرات النسب التي ذكرناها آنفا من أسباب غير سبب القرابة - كالحلف والولاء مثلا - تولد منها عصبية، ونتج عنها نعرة ولحمة، على الرغم من عدم وجود القرابة. (5)
إن النسب يبقى محفوظا وصريحا في الحياة البدوية، والعصبية المتولدة منه تكون قوية في تلك الحياة، إلا أن النسب يفقد صراحته، والعصبية تفقد قوتها في الحياة الحضرية؛ وذلك لسببين هامين:
أولا:
إن حياة البداوة تتضمن شيئا من الاعتزال، فاختلاط الأنساب يكون قليلا فيها بطبيعة الحال. «إن القفر مكان الشظف والسغب»، والعيش فيه «صار لهم إلفا وعادة، وربيت فيه أجيالهم حتى تمكنت خلقا وجبلة، فلا يترع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم، ولا يأنس بهم أحد من الأجيال؛ فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها» (ص129).
ثانيا:
إن حالة البداوة تقتضي بطبيعتها وجود عصبية قوية؛ لأن الدفاع عن الحي لا يتم إلا على أيدي «أنجادهم المعروفين بالشجاعة، ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد؛ لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم». أما المنفردون في أنسابهم، «فلا يقدرون على سكنى القفر»؛ لأنهم يصبحون «طعمة لمن يلتهمهم من الأمم سواهم» (ص128).
غير أن الأمر يختلف عن ذلك اختلافا كليا في الحياة الحضرية؛ لأن أهل الحضر يكلون «أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم، والحامية التي تولت حراستهم» (ص125)، فلا يكونون بحاجة شديدة إلى العصبية. (6) «إن مجموع الأفراد الذين يرتبطون برباط القرابة والولاء، فيدخلون في نطاق عصبية واحدة، ينزلون «منزلة الوحدان» بالنسبة إلى العصبيات الأخرى، ويحدث بين هذه العصبيات من التناصر والتخاذل، والتنازع والتغلب ما يحدث بين الأفراد» (ص139).
فإن «القبيل الواحد يتألف من بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة»، ومع ذلك تكون واحدة منها - عادة - أقوى من سائرها، تغلبها وتستتبعها، وتلتحم جميع العصبيات فيها، وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى (ص139).
قد تكون العصبية «متألفة من عصائب كثيرة»، ولكنه «لا بد من أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الكل، حتى تجمعها وتؤلفها، وتصيرها عصبية واحدة شاملة لجميع العصائب، وهي موجودة في ضمنها» (ص166).
يظهر من ذلك أن العصبيات التي تربط الأفراد بعضهم ببعض لا تبقى منفردة ومستقلة تماما، بل إنها - بدورها - تترابط وتتلاحم، فتكون نوعا أكبر وأشمل من العصبيات.
وإذا أردنا أن نعبر عن رأي ابن خلدون في هذا الصدد بالتعبيرات المألوفة الآن، يجب أن نسمي العصائب الاعتيادية التي تتألف من التحام الأفراد بعضهم ببعض باسم «العصائب البسيطة»، كما نسمي تلك التي تتكون من التحام العصائب البسيطة بعضها ببعض باسم «العصائب المركبة».
إن رأي ابن خلدون في هذا الصدد يظهر بوضوح أعظم وجلاء أتم من فقرة كتبها في فصل «الحرب ومذاهب الأمم في ترتيبها»؛ لأنه قال في الفصل المذكور عندما استعرض أسباب الغلب في الحروب: «إذا كان في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم، وفي الجانب الآخر عصائب متعددة»، فالجانب الذي تكون «عصابته متعددة لا يستطيع أن يقاوم الجانب الذي عصبته واحدة»؛ لأن «العصائب إذا كانت متعددة؛ يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية، تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحد» (ص278). (7)
رأينا مما تقدم أن ابن خلدون فسر العصبية أولا برابطة القرابة والنسب، ثم وسعها إلى الولاء والحلف.
غير أنه لم يكتف بذلك أيضا، بل وسع مفهوم العصبية أكثر من ذلك، وشملها إلى الرق والاصطناع، وقد قال: «إذا اصطنع أهل العصبية قوما من غير نسبهم، أو استرقوا العبدان والموالي والتحموا به؛ ضرب معهم أولئك الموالي المصطنعون بنسبهم في تلك العصبية، ولبسوا جلدتها كأنها عصبيتهم، وحصل لهم من الانتظام في العصبية مساهمة في نسبها» (ص135).
كما أنه قال: «إن المصطنعين في الدول يتفاوتون بالالتحام بصاحب الدولة، يتفاوت قديمهم وحديثهم في الالتحام بصاحبها، والسبب في ذلك أن المقصود من العصبية من المدافعة والمغالبة إنما يتم بالنسب لأجل التناصر في ذوي الأرحام والقربى، والتخاذل في الأجانب البعداء كما قدمناه. والولاية والمخالطة بالرق أو بالتحالف تتنزل منزلة ذلك؛ لأن أمر النسب وإن كان طبيعيا فإنما هو وهمي، والمعنى الذي كان به الالتحام إنما هو العشرة والمدافعة وطول الممارسة والصحبة بالمربى والرضاع وسائر أحوال الموت والحياة. وإذا حصل الالتحام بذلك جاءت النعرة والتناصر، وهذا مشاهد بين الناس.» «واعتبر مثله في الاصطناع؛ فإنه يحدث بين المصطنع وبين من اصطنعه نسبة خاصة من الوصلة، فتنزل هذه المنزلة وتؤكد اللحمة، وإن لم يكن نسب فثمرات النسب موجودة.» «فإذا كانت هذه الولاية بين القبيل وبين أوليائهم قبل حصول الملك لهم، كانت عروقها أوشج، وعقائدها أصح، ونسبها أصرح؛ لوجهين:
أحدهما:
أنهم قبل الملك أسوة في حالهم، فلا يتميز النسب عن الولاية إلا عند الأقل منهم، فيتنزلون منهم منزلة ذوي قرابتهم وأهل أرحامهم». وأما إذا «اصطنعوهم بعد الملك؛ كانت مرتبة الملك مميزة للسيد عن المولى، ولأهل القرابة عن أهل الولاية والاصطناع؛ لما تقتضيه أحوال الرئاسة والملك من تميز الرتب وتفاوتها. فتتميز حالتهم، ويتنزلون منزلة الأجانب، ويكون الالتحام بينهم أضعف، والتناصر لذلك أبعد، وذلك أنقص من الاصطناع قبل الملك.
الوجه الثاني:
أن الاصطناع قبل الملك يبعد عهده عن أهل الدولة بطول الزمان، ويخفي شأن تلك اللحمة، ويظن بها في الأكثر النسب، فيقوى حال العصبية. وأما بعد الملك فيقرب العهد، ويستوي في معرفته الأكثر، فتتبين اللحمة، وتتميز عن النسب؛ فتضعف العصبية بالنسبة إلى الولاية التي كانت قبل الدولة» (ص184). (8)
رأينا فيما سبق أن ابن خلدون قد اعتبر العصبية من خصائص البادية، وصرح بأن الحياة الحضرية تؤدي إلى دثور العصبية وتلاشيها، مع كل هذا فإنه لم يغفل عن وجود العصبية في الأمصار أيضا، وعنون أحد فصول الباب الرابع بالعنوان التالي: «وجود العصبية في الأمصار، وتغلب بعضهم على بعض» (ص377).
يبدأ هذا الفصل بالعبارة التالية: «من البين أن الالتحام والاتصال موجود في طباع البشر، وإن لم يكونوا أهل نسب واحد، إلا أنه - كما قدمناه - أضعف مما يكون بالنسب.»
إننا نعتبر هذه العبارة مهمة جدا لتعيين مدى توسع ابن خلدون في ملاحظة آثار الالتحام والاتصال في الحياة الاجتماعية، ولفهم ما يقصده من العصبية والنسب حق الفهم.
يقول ابن خلدون - بعد العبارة الآنفة الذكر - ما يلي: «أهل الأمصار كثير منهم ملتحمون بالصهر، يجذب بعضهم بعضا إلى أن يكونوا لحما لحما، وقرابة قرابة، وتجد بينهم من العداوة والصداقة ما يكون بين القبائل والعشائر مثله؛ فيفترقون شيعا وعصائب.» «فإذا نزل الهرم بالدولة، وتقلص ظل الدولة عن القاصية؛ احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم، والنظر في حماية بلدهم، ورجعوا إلى الشورى، وتميز العلية عن السفلة، والنفوس بطباعها متطاولة إلى الغلب والرئاسة، فتطمح المشيخة - لخلاء الجو من السلطان والدولة القاهرة - إلى الاستبداد، وينازع كل صاحبه، ويستوصلون بالأتباع من الموالي والشيع والأحلاف، ويبذلون ما في أيديهم للأوغاد والأوشاب؛ فيعصوصب كل لصاحبه، ويتعين الغلب لبعضهم» (ص377).
وبعد أن يشرح ابن خلدون الملك الذي قد يتأسس من جراء هذا الغلب، يقول: «إنما دفعهم إلى ذلك تقلص ظل الدولة، والتحام بعض القرابات، حتى صارت عصبية» (ص378).
2 (1)
وأما الأدوار التي تلعبها العصبية في الحياة الاجتماعية فهي كثيرة ومهمة جدا في نظر ابن خلدون، كما يظهر بكل وضوح من العبارات التالية: «العصبية تحمل الأفراد على التناصر والتعاضد في المدافعة والحماية والمقاتلة.»
إنها ضرورية «في كل أمر يحمل الناس عليه من نبوة أو إقامة ملك أو دعوة؛ إذ بلوغ الغرض من ذلك كله إنما يتم بالقتال عليه؛ لما في طباع البشر من الاستعصاء، ولا بد في القتال من العصبية» (ص128). «الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية» (ص157). «الرئاسة لا تكون إلا بالغلب، والغلب إنما يكون بالعصبية» (ص132). «إن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة، وكل أمر يجتمع عليه» (ص139). «كل امرئ يحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية» (ص159). «إن المطالبات كلها والمدافعات لا تتم إلا بالعصبية» (ص187).
يشرح ابن خلدون هذه الأمور والتأثيرات المختلفة بتفصيل واف من فصول مختلفة، ويتوسع بوجه خاص في أمر تأثير العصبية في تكوين الدول.
ونحن نرى أن نتعمق في درس رأي ابن خلدون في علاقة العصبية بالدولة أولا، وبالديانة ثانيا. (2)
تلعب العصبية دورا هاما في تأسيس الملك وتكوين الدولة؛ لأن «الغاية التي تجري بها العصبية هي الملك» (ص139)، «والملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية» (ص157).
إن قوة العصبية تنزع بطبعها إلى الحكم والسيادة، والتوسع في الحكم والسيادة. «وصاحب العصبية إذا بلغ رتبة طلب ما فوقها، فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع، ووجد السبيل إلى التغلب والقهر؛ لا يتركه؛ لأنه مطلوب للنفس، ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعا، فالتغلب الملكي غاية للعصبية» (ص139). «ثم إن القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة، فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها تغلبها وتستتبعها ...» «ثم إذا حصل التغلب بتلك العصبية على قومها، طلبت بطبيعتها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها، فإن كافأتها أو مانعتها كانوا أقتالا وأنظارا، ولكل واحدة منهما التغلب على حوزتها وقومها، شأن القبائل المتفرقة في العالم، وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضا، وزادت قوة في التغلب إلى قوتها، وطلبت غاية في التغلب والتحكم أعلى من الغاية الأولى وأبعد.» «وهكذا دائما حتى تكافئ بقوتها قوة الدولة.» «فإن أدركت الدولة
1
في هرمها، ولم يكن لها ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات؛ استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها، وصار الملك أجمع لها.» «وإن انتهت إلى قوتها ولم يقارن ذلك هرم الدولة، وإنما قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات؛ انتظمتها الدولة في أوليائها، تستظهر بها على ما بقي من مقاصدها.»
وخلاصة القول: «إن الملك هو غاية العصبية، وإنها إذا بلغت غايتها حصل للقبيلة الملك، إما بالاستبداد أو بالمظاهرة، حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك، وإن عاقها عن بلوغ الغاية عوائق - كما نبينه - وقفت في مقامها» (ص139-140).
إن الملك يحصل بهذه الصورة، والدولة تتأسس على هذا المنوال، ولا يحصل الملك إلا بهذه الصورة، ولا تتأسس الدولة إلا على هذا المنوال: «لأن الملك منصب شريف ملذوذ، يشتمل جميع الخيرات الدنيوية، والشهوات البدنية، والملاذ النفسانية، فيقع فيه التنافس غالبا، وقل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا غلب عليه، فتقع المنازعة، وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة.» ومن المعلوم «أن شيئا منها لا يقع إلا بالعصبية» (ص154). (3)
يظهر من ذلك كله أن العصبية ضرورية لتأسيس الملك والدولة.
غير أن الضرورة تنحصر في دور التأسيس والتمهيد، وأما بعد ذلك - «إذا استقرت الدولة وتمهدت» - فقد تستغني عن العصبية للأسباب التالية: «إن الدولة العامة في أولها تكون غريبة على الناس، غير مألوفة لديهم؛ ولذلك «يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب»، وذلك لا يتم إلا بوجود عصبية قوية بطبيعة الحال.
ولكن الرئاسة «إذا استقرت في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة»، وتوارثوه واحدا بعد آخر «في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة»؛ ألف الناس ملكها واعتادوه، و«نسيت النفوس شأن الأولية، واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة، ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية، فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة، بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل ولا يعلم خلافه» (ص154-155). «ويكون حينئذ استظهارهم على سلطانهم ودولتهم المخصوصة» بالوسائط الثلاث التالية: (أ) «إما بالموالي والمصطنعين الذين نشئوا في ظل العصبية.» (ب) «وإما بالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها.» (ج) «وإما بالجند المرتزقة المستخدمين بالأجرة» (ص155-156).
يبرهن ابن خلدون على رأيه هذا بعدة شواهد تاريخية، وينتقد «الطرطوشي» الذي كان قد ظن «أن حامية الدول بإطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الأهلة»، قائلا: «إن كلامه لا يتناول تأسيس الدول العامة، وإنما هو مخصوص بالدول الأخيرة، بعد التمهيد واستقرار الملك في النصاب، واستحكام الصبغة لأهله». فالرجل - أي الطرطوشي - إنما أدرك الدولة عند هرمها وخلق جدتها، ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصنائع، ثم إلى المستخدمين من ورائها بالأجر على المدافعة». فأطلق الطرطوشي القول في ذلك مستندا إلى أحوال «دول الطوائف» التي أدركها، و«لم يتفطن لكيفية الأمر منذ أول الدولة» (ص156).
بعد هذا النقد والتعليل والتوجيه يؤكد ابن خلدون رأيه الأصلي قائلا: «إن الأمر في أول الدولة لا يتم إلا لأهل العصبية، فتفطن أنت له، وافهم سر الله فيه» (ص156). (4)
لا يكتفي ابن خلدون بالقول «إن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية»، بل يذهب إلى أن «اتساع الدولة يكون متناسبا مع قوة تلك العصبية»، فيقول: «إن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها» (ص161). ويبرهن على ذلك بالملاحظات التالية: «إن عصابة الدولة وقومها القائمين بها الممهدين لها، لا بد من توزيعهم حصصا على الممالك والثغور التي تصير إليهم ويستولون عليها؛ لحمايتها من العدو، وإمضاء أحكام الدولة فيها - من جباية وردع وغير ذلك - فإذا توزعت العصائب كلها على الثغور والممالك فلا بد من نفاد عددها»، وتكون الممالك قد بلغت «حينئذ إلى حد يكون ثغرا للدولة، وتخما لوطنها، ونطاقا لمركز ملكها، فإذا تكلفت الدولة بعد ذلك زيادة على ما بيدها؛ بقي بدون حامية، وكان موضعا لانتهاز الفرصة من العدو والمجاور» (ص161).
ابن خلدون يواصل التعمق في التعليل قائلا: «والعلة الطبيعية في ذلك؛ هي أن قوة العصبية (مثل) سائر القوى الطبيعية، وكل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها، والدولة في مركزها أشد مما يكون في الطرف والنطاق، وإذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية؛ عجزت وأقصرت عما وراءه، شأن الأشعة والأنوار إذا انبعثت من المراكز، والدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه» (ص162). (5)
بينما يقرر ابن خلدون - من جهة - أن العصبية ضرورية لتأسيس الدولة، يلاحظ - من جهة أخرى - أنها قد تعرقل تأسيس الدولة، وذلك إذا كانت متعددة ومتخالفة؛ لأنه يقول في عنوان فصل من الفصول: «إن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة» (ص164)، ويعلل ذلك بالملاحظات التالية: «والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها؛ فيكثر الانتقاض على الدولة، والخروج عليها في كل وقت، وإن كانت ذات عصبية؛ لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعة وقوة» (ص164).
يستشهد ابن خلدون على ذلك بما حدث في «إفريقية والمغرب منذ أول الإسلام». «فإن ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيات، فلم يغن فيهم الغلب الأول شيئا، وعادوا بعد ذلك إلى الثورة والردة مرة بعد أخرى، وعظم إثخان المسلمين فيهم. ولما استقر الدين عندهم؛ عادوا إلى الثورة والخروج، والأخذ بدين الخوارج مرات عديدة» (ص164). لأن قبائلهم بالمغرب كانت «أكثر من أن تحصى، وكلهم بادية وأهل عصائب وعشائر، وكلما هلكت قبيلة عادت الأخرى إلى مكانها، وإلى دينها من الخلاف والردة، فطال أمر العرب في تمهيد الدولة بوطن إفريقية والمغرب» (ص165).
وذلك يدل دلالة واضحة على أن «كثرة العصائب والقبائل تحمل على عدم الإذعان والانقياد للدولة» (ص164).
وبعكس ذلك فإن «الأوطان الخالية من العصبيات، يسهل تمهيد الدولة فيها»؛ لأن سلطانها يكون «وازعا لقلة الهرج والانتقاض، ولا تحتاج الدولة فيها إلى كثير من العصبية» (ص156).
ويستشهد ابن خلدون على ذلك أولا بما حدث في الشام والعراق في أول الإسلام؛ لم يكن هناك عندئذ قبائل وعصائب مثل ما كان في إفريقية والمغرب، «لم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصفة ولا الشام، وإنما كانت حاميتها من فارس والروم والكافة دهماء، أهل مدن وأمصار، فلما غلبهم المسلمون على الأمر، وانتزعوه من أيديهم؛ لم يبق فيها ممانع ولا مشاق» (ص164).
كما يستشهد بأحوال مصر والشام والأندلس في عهد كتابة المقدمة: «إن ملك مصر في غاية الدعة والرسوخ؛ لقلة الخوارج وأهل العصائب»، و«كذا أهل الأندلس لهذا العهد (ص165)؛ فإن قطر الأندلس لقلة العصائب والقبائل فيه، يغني عن كثرة العصبية في التغلب عليهم» (ص166).
3 (1)
يلاحظ ابن خلدون بعض العلائق الهامة بين قوة العصبية وبين أمور الديانة والدعوة الدينية أيضا، فإنه يقول أولا: «إن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم» (ص159)؛ لأن هذه الدعوة تتضمن حمل الناس على السير وفق ما تقتضيه الأوامر الدينية؛ ولذلك لا تخرج عن نطاق الأمور التي تحتاج إلى عصبية. «إن الشرائع والديانات وكل أمر يحمل عليه الجمهور، فلا بد فيه من العصبية؛ إذ المطالبة لا تتم إلا بها. فالعصبية ضرورية للملة» (ص202).
يضيف ابن خلدون إلى هذا التعليل العقلي تعليلا نقليا أيضا، إذ يقول: «وفي الحديث: ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه. وإذا كان هذا في الأنبياء، وهم أولى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم ألا تخرق لهم العادة في الغلب بغير العصبية» (ص159).
ولا يكتفي ابن خلدون بهذه الدلائل العقلية والنقلية، بل يستشهد على هذه القضية بوقائع تاريخية؛ من فتنة طاهر في بغداد أيام الأمين والمأمون، إلى خروج التوبذري في سوس، ودعوة العباس في الغمارة، في العصر الذي عاش فيه المؤلف نفسه.
يعتقد ابن خلدون أن بعض هؤلاء الدعاة كانوا مخلصين في قيامهم، وكانوا يقصدون حقيقة إقامة الحق والنهي عن المنكر، غير أنهم لم ينجحوا في دعوتهم؛ لعدم معرفتهم ما تحتاج إليه مثل هذه الدعوات من العصبية.
غير أنه يرى - في الوقت نفسه - أن أكثر هؤلاء الدعاة كانوا موسوسين، أو مجانين، أو ملبسين، وهؤلاء الأخيرون كانوا «يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم، وعجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية، فيحسون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤملونه من ذلك، ولا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة، فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة، وتسوء عاقبة مكرهم» (ص161). (2)
بينما يقرر ابن خلدون - من جهة - ضرورة العصبية للدعوة الدينية - كما أسلفنا، يلاحظ من جهة أخرى نوعا من المشابهة بين تأثير الدين، وبين تأثير العصبية في الحياة الاجتماعية:
لأن الديانة تؤلف القلوب، وتوجهها إلى «وجهة واحدة»، وتذهب بالتنافس والتحاسد، وتؤدي إلى اتفاق الأهواء، وتحمل على التعاون والتعاضد (ص157).
وإذا تذكرنا ما قاله ابن خلدون عن الدور الذي تلعبه العصبية في حمل الناس على التعاون والتعاضد؛ فهمنا بكل جلاء أن عمل الدين في هذا الصدد يشبه عمل العصبية؛ ولهذا السبب يقول ابن خلدون بصراحة تامة: «إن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على العصبية التي كانت لها من عددها» (ص158).
كما يقول: «إن الاجتماع الديني يضاعف قوة العصبية.»
فإذا حصل «الاجتماع الديني» في قوم من الأقوام ضمن لهم التغلب على من هم أوفر عددا، وأقوى عصبية منهم إذا ما فقد القوم بعدئذ هذا «الاجتماع الديني»، وبتعبير آخر: «إذا حالت صبغة الدين وفسدت» عند هؤلاء؛ زال التغلب الذي كان قد حصل بفضل ذلك الاجتماع، وبتأثير تلك الصبغة؛ عندئذ «ينتقض الأمر، فيصير الغلب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين»؛ فتتغلب على «الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها، أو الزائدة القوة عليها»، بعد أن كانت الدولة المذكورة قد «غلبتهم بمضاعفة الدين لقوتها»، على الرغم من أنهم كانوا «أكثر عصبية وأشد بداوة منها» (ص158).
يستشهد ابن خلدون على ذلك بوقائع تاريخية عديدة كلها مستنبطة من تاريخ الإسلام، ويذكر على الأخص «ما وقع للعرب في صدر الإسلام» بالقادسية واليرموك، حيث غلبت جيوش المسلمين «جموع فارس وجموع هرقل»، مع أن عددهم كان بضعة وثلاثين ألفا، في حين أن جموع فارس كانت نحو مائة وعشرين ألفا بالقادسية، وجموع هرقل كانت - على ما قاله الواقدي - أربعمائة ألف باليرموك.
كما أنه يذكر ما حدث بين المصامدة وزنانة في دولة الموحدين: «لما كانت زناتة أبدى من المصامدة وأشد توحشا، وكان للمصامدة الدعوة الدينية باتباع المهدي، فلبسوا صبغتها، وتضاعفت قوة عصبيتهم، فغلبوا على زناتة أولا فاستتبعوهم، وإن كانوا من حيث العصبية والبداوة أشد منهم. فلما خلوا من تلك الصبغة؛ انتفضت عليهم زناتة من كل جانب، وغلبوهم على الأمر، وانتزعوه منهم» (ص158). (3)
يتوسع ابن خلدون بوجه خاص في شرح تأثير الدين بين القبائل البدوية العربية:
إن هذه القبائل العربية «أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض؛ للغلظة والأنفة وبعد الهمة، والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين - بالنبوة أو الولاية - كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، وسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة، الوازع عن التحاسد والتنافس.»
ومن الطبيعي أنه «إذا تألفت كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم، وحصل التغلب والملك» (ص151).
يظهر من ذلك أيضا أن الدين يؤثر - في نظر ابن خلدون - تأثيرا مماثلا لتأثير العصبية في جمع القبائل، وتأليف كلمتهم، وحملهم على التعاضد الذي يضمن الغلبة والملك. (4)
يتبين من التفصيلات التي سردناها آنفا أن نظرية ابن خلدون في «علاقة العصبية بالدولة»، ونظريته في «علاقة العصبية بالدين» يتمم بعضهما بعضا، وتنسجمان تمام الانسجام في نطاق أنظومة واسعة الخطوط.
إن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية.
إن الدعوة الدينية أيضا لا تتم من غير عصبية.
إلا أن هذه الدعوة إذا ما تمت بمساعدة القوة العصبية؛ ضاعفت تلك القوة، وجعلتها أقوى بكثير مما كانت عليه قبلا.
ولهذا نجد أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها.
وكل ذلك يدل على أن أقوى الدول وأوسعها إنما تتكون بانضمام الدعوة الدينية إلى قوة العصبية؛ ولهذا يقول ابن خلدون بصراحة: «إن الدولة العامة الاستيلاء، العظيمة الملك، أصلها الدين، إما من نبوة أو دعوة حق» (ص157). (إن نظرية ابن خلدون في الدولة بصورة عامة مسرودة في الدراسة التي تلي هذه الدراسة.)
4
بعد أن استعرضنا آراء ابن خلدون في العصبية، ولخصنا نظريته فيها وفي آثارها، يجدر بنا أن نتساءل: ما هو موقع هذه الآراء وهذه النظرية، من مباحث علم الاجتماع الحديث؟
كان البارون دو سلان - عندما نقل مقدمة ابن خلدون إلى الفرنسية - قد ترجم كلمة العصبية بتعبير
Esprit de corps ، إن هذا التعبير يدل في الأصل على «روح التكاتف الذي يظهر بين الأشخاص المنتسبين إلى المهنة الواحدة». إن كثيرين من علماء النفس وعلماء الاجتماع اتخذوا ذلك موضوع أبحاث ودراسات خاصة، وكتبوا عنه الفصول المطولة. وإذا نظرنا إلى آراء ابن خلدون في العصبية على ضوء تلك البحوث؛ نضطر إلى التسليم بأن الآراء المذكورة تتضمن عدة ملاحظات صائبة وهامة، وتنم عن نزعة علمية قوية في استقراء الحوادث والوقائع، على اختلاف أنواعها.
غير أننا نلاحظ في الوقت نفسه أن التعبير الذي ترجم به البارون دو سلان كلمة العصبية قاصر عن مقابلة مقاصد ابن خلدون مقابلة كافية.
ولقد كان لاحظ «غوتيه» - الأستاذ في جامعة الجزائر - هذا التقصير؛ فاقترح لذلك استبدال التعبير المذكور بتعبير آخر هو:
esprit de clan . إن هذا التعبير يدل - في الأصل - على «روح التكاتف الذي يظهر بين أفراد القبيلة الواحدة، أو الطائفة الواحدة».
نحن لا نشك في أن التعبير الذي اقترحه غوتيه أقرب إلى معنى العصبية من التعبير الذي كان قد اختاره البارون دو سلان في ترجمة المقدمة، ومع هذا نعتقد أن هذا التعبير أيضا قاصر عن أداء المفهوم الذي قصده ابن خلدون في النظرية التي سردناها ولخصناها آنفا حق الأداء.
نحن نسلم بأن العصبية في أصلها نوع من ال
esprit de clan ، غير أننا نلاحظ في الوقت نفسه أن ابن خلدون لم يستعمل هذه الكلمة بمعناها اللغوي البحت، بل استعملها بمعنى أوسع من ذلك بكثير؛ لأنه أدخل في نطاق مفهوم العصبية كثيرا من أنواع الروابط الاجتماعية والظواهر التكاتفية.
ولهذا السبب يحق لنا أن نقول إن نظرية ابن خلدون في العصبية هي بمثابة محاولة جريئة لدرس «الرابطة الاجتماعية»
le lien social
بوجه عام، و«التكاتف الاجتماعي»
isprit de corps
بوجه خاص.
لا ننكر بأن هذه النظرية مشوبة بنقائص كبيرة، بالنظر إلى ما نعرفه عن أفاعيل الحياة الاجتماعية في الحالة الحاضرة، ولكننا لا نشك في أنها أوسع نطاقا من مفهوم ال
solidarité sociale
أو ال
esprit de clan .
وأما نقائص هذه النظرية فمتولدة من «محدودية ساحة نظر» ابن خلدون بحدود الحالة الاجتماعية والسياسية التي شاهدها وعاش فيها، وبحدود الوقائع التاريخية التي اطلع على تفاصيلها وحاول شرحها وتعليلها.
فإن البيئة الاجتماعية والسياسية التي عاش فيها ابن خلدون كانت بيئة خاصة، تمت بصلات وثيقة إلى الحياة البدوية من جهة، والحياة الحضرية من جهة أخرى. إنها كانت بيئة تجمع بين الحواضر والبوادي؛ لأنها كانت تتألف من مدن وأمصار داخلة في نطاق تأثير القبائل و«العشائر الرحالة»، أو قريبة من ميادين فعالياتها؛ ولذلك كانت الدول القائمة فيها تتأثر تأثرا شديدا من القبائل والعشائر، حتى إنها كثيرا ما كانت تتكون وتنحل، وتتوسع وتتقلص، وتقوم وتنهار من جراء تألب العشائر أو تشتتها.
لذلك لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن نظرية ابن خلدون كانت نظرية موفقة إلى حد كبير في إظهار أوثق أنواع «الروابط الاجتماعية»، وتعيين أهم أشكال «التكاتف الاجتماعي » في مثل تلك البيئات الجغرافية، وتلك العهود التاريخية، وهي تدل على تفكير فاحص ونافذ، محيط ومتعمق، في درس الحوادث الاجتماعية، وتعليل الوقائع التاريخية، فلا بد لكل من يريد أن يتتبع تطور الآراء الاجتماعية والسياسية، ويؤرخ نظريات الرابطة الاجتماعية والتكاتف الاجتماعي، أن يخصص مقاما هاما جدا لنظرية العصبية التي وضعها ابن خلدون قبل مدة تقرب من ستة قرون. •••
هذا ونحن نود أن نشير في هذا المقام إلى أمرين فرعيين من الأمور التي استوقفت أنظارنا خلال هذا الدرس والتحليل: (أ)
كنا ذكرنا رأي ابن خلدون في «العصبية الكبرى» المؤلفة من عصبيات متعددة، وقلنا إذا أردنا أن نعبر عن رأي ابن خلدون في هذا الصدد بتعبيرات عصرية؛ وجب أن نسمي العصبية الكبرى باسم «العصبية المركبة»، والعصبيات الأخرى باسم «العصبية البسيطة»؛ لأن كل عصبية تتألف - على رأي ابن خلدون - من ترابط جماعة من الأفراد، غير أن العصبيات أيضا يرتبط بعضها ببعض، وتكون «عصبيات مركبة» من درجة أعلى.
فنود أن نشير هنا إلى العلاقة القوية الموجودة بين رأي ابن خلدون في هذا الصدد، وبين رأي الاجتماعي الفرنسي الشهير «إميل دوركهايم» في «المجتمعات المركبة»
sociétés composées
و«المجتمعات الحلقية»
sociétés polysegmentaires . (ب)
لقد أشار ابن خلدون في الفصل الذي يقرر «أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك»، إلى تأثير حالة الدولة المقارنة لوصول العصبية إلى غايتها من القوة، وقال: «إن انتهت إلى قوتها «ولم يقارن» ذلك هرم الدولة، وإنما «قارن» حاجتها إلى الاستظهار». كما قال: «حصل الملك إما بالاستبداد أو بالمظاهرة حسب ما يسعه «الوقت المقارن» لذلك» (140).
إن هذه الملاحظة تذكرنا برأي المفكر المؤرخ «هيبوليت تين»
H. Taine
في عمل ال «آن»
le moment
في التاريخ؛ لأن المفكر المومأ إليه حينما استعرض عوامل التاريخ - السياسي والأدبي - أضاف إلى عامل العرق (الرس) والبيئة - اللذين كانا استلفتا أنظار الباحثين والمفكرين منذ مدة طويلة - عاملا ثالثا أسماه باسم ال
moment ، بمعنى «آن» و«زمان»، وقصد بذلك الإشارة إلى الأحوال التي تختلف من زمان إلى زمان، على الرغم من عدم تغير شيء من عاملي البيئة والعرق (الرس).
إن تعبير «الوقت المقارن» الذي ابتدعه ابن خلدون في المواضع التي أشرنا إليها آنفا ربما كان أحسن تعبير يقابل مفهوم ال
moment
على رأي هيبوليت تن في هذا الصدد.
ولذلك لا نتردد في القول بأن ابن خلدون كان قد لمح هذه الحقيقة الهامة قبل تن بمدة تزيد على خمسة قرون.
الدولة وتطوراتها
الدولة من المواضيع التي اعتنى ابن خلدون ببحثها اعتناء كبيرا، لقد خصص ما يقرب من ثلث المقدمة لهذا البحث؛ فإن مباحث الباب الثالث كلها تحوم حول «الدولة العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال»، ومن المعلوم أن هذا الباب من أطول أبواب المقدمة؛ لأنه يتألف من ثلاثة وخمسين فصلا، تقع في ثمانية وثمانين ومائة صفحة، زد على ذلك أن اثني عشر فصلا من فصول الباب الثاني أيضا تمت بصلة قوية إلى أمور الدولة؛ لأنها تبحث في منشأ الحكم وأسس الملك.
ابن خلدون يعرض ويشرح في هذه الفصول الكثيرة آراءه في كيفية تأسس الدولة، وتوسعها وتقلصها، وانقسامها، وانقراضها، وتطورها، ويستقصي أحوالها في كل دور من أدوارها وكل طور من أطوارها، ويتحرى العوامل التي تؤثر في كل ذلك؛ بتفصيل واف وتعمق كبير.
إننا حللنا وعرضنا آراء ابن خلدون في أسس الدولة في الدراستين اللتين كتبناهما «عن طبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم»، وعن «نظرية العصبية»، فنود أن نتم هذا البحث هنا بدرس رأي ابن خلدون في كيفية تطور الدول. (1) نظرات تمهيدية (1)
لا يعرف ابن خلدون الدولة، بل يتكلم عنها كأنه يعتبرها من الأمور المعلومة والمفهومة التي لا تحتاج إلى تعريف، وكثيرا ما يردفها بكلمة «الملك»، ويقول في مواضع كثيرة جدا «الدولة والملك»، ومع هذا يستدل من بعض العبارات التي يكتبها أنه لا يعتبر هاتين الكلمتين مترادفتين تمام الترادف، بل يستعمل كلمة الملك في بعض المواضع بمعنى أخص من معنى كلمة الدولة، فيقول لذلك عن بعض الأمراء إنهم «ملوك على قومهم، يدينون بطاعة الدولة»: «من كان فوقه حكم غيره كان ملكه ملكا ناقصا، مثل أمراء النواحي ورؤساء الجهات الذين تجمعهم دولة واحدة. وكثيرا ما يوجد هذا في الدولة المتسعة النطاق، أعني يوجد ملوك على قومهم في النواحي القاصية يدينون بطاعة الدولة التي جمعتهم، مثل صنهاجة مع العبيديين، وزنانة مع الأمويين تارة، والعبيديين تارة أخرى، ومثل ملوك العجم في دولة بني العباس، ومثل ملوك الطوائف من الفرس مع الإسكندر وقومه اليونانيين» (ص188).
يظهر من ذلك أن الدولة في نظر ابن خلدون هي «الملك التام» الذي لا يكون فوقه حكم آخر، وأنها قد تجمع تحت حكم واحد عدة أقوام، وعدة ملوك على تلك الأقوام؛ ولهذا السبب كثيرا ما نرى ابن خلدون يضيف إلى كلمة الدولة صفة «العامة»؛ للدلالة على مقصوده هذا بوضوح أتم، فيقول «الدولة العامة» في مواضع كثيرة؛ تمييزا لها عن «الدولة» على وجه الإطلاق.
فنستطيع أن نقول: إن مفهوم الملك - في نظر ابن خلدون - ينطبق على مفهوم «الدولة» تمام الانطباق، ويختلف عن مفهوم «الدولة العامة» و«الدولة المتسعة النطاق» بعض الاختلاف.
وأما مفهوم «الملك» نفسه فيعرفه ابن خلدون في فصل الخلافة عندما يرى لزوما لتمييزه منها: «الملك السياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار.» «والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها» (ص191). (2)
يلاحظ ابن خلدون أهمية الدولة بالنسبة إلى المجتمع، ويقرر أن الحياة الاجتماعية تستلزم الملك والدولة؛ لأنه يقول: «الدولة والملك للعمران (أي للاجتماع) بمثابة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها، وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر (أي انفكاك الصورة عن المادة)، فالدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دون الدولة والملك متعذر؛ لما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع» (ص376).
يشرح ابن خلدون هذا التأثير المتقابل - بين الدولة والعمران - بعض الشرح، ويستعمل خلال هذا الشرح تعبيرين جديدين؛ الدولة الكلية والدولة الشخصية. يقصد ابن خلدون بالدولة الكلية: الدولة في عهد أمة أو أسرة بأجمعها - على اختلاف أفراد الملوك - في حين أنه يقصد بالدولة الشخصية: الدولة في عهد ملك واحد من ملوك القوم، أو من أفراد الأسرة المالكة، إذ يقول: «فإذا كان «الملك والعمران» لا ينفكان، فاختلال أحدهما مؤثر في اختلال الآخر، كما أن عدمه مؤثر في عدمه.» «والخلل العظيم إنما يكون في خلل الدولة الكلية، مثل دولة الروم أو الفرس أو العرب على العموم، أو بني أمية أو بني العباس كذلك، وأما الدولة الشخصية - مثل دولة أنوشروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد - فأشخاصها متعاقبة على العمران، حافظة لوجود بقائه، وقريبة الشبه بعضها من بعض. فلا يؤثر اختلالها في العمران تأثيرا كبيرا؛ لأن الدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران، إنما هي العصبية والشوكة، وهي مستمرة على أشخاص الدولة، فإذا ذهبت تلك العصبية ودفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران؛ ذهب أهل الشوكة بأجمعهم، وعظم الخلل» (ص371).
غير أن ابن خلدون لا يعود إلى استعمال هذين التعبيرين في موضع آخر غير الموضع الذي ذكرناه. (3)
إن الدولة - في نظر ابن خلدون - لا تبقى طول حياتها على حالة واحدة، بل إنها تتطور تطورا مستمرا من نشأتها إلى انقراضها - من تمهيد أمرها إلى اختلال أحوالها وزوال كيانها - إن هذا التطور يشمل نواحي عديدة، ويحدث في اتجاه معين وفق نظام ثابت؛ فإن كل دولة تنتقل من حالة إلى حالة ومن طور إلى طور، وهذه الحالات وهذه الأطوار تتوالى على وتيرة واحدة، تشمل جميع الدول في جميع الأقطار وجميع الأدوار بلا استثناء.
يتبع ابن خلدون التطورات التي تطرأ على الدول من ناحيتين أساسيتين: (أ)
التطورات التي تحدث في الدولة من ناحية الأحوال العامة والأخلاق. (ب)
التطورات التي تحدث في الدولة من ناحية العظم واتساع النطاق.
يقرر ابن خلدون - من الناحية الأولى - أن كل دولة تنتقل في أطوار مختلفة، لا تعدو في الغالب الخمسة؛ الأول: طور الظفر بالبغية، الثاني: طور الانفراد بالمجد، الثالث: طور الفراغ والدعة، الرابع: طور القنوع والمسالمة، والخامس: طور الإسراف والتبذير.
ويقرر - من الناحية الثانية - أن كل دولة يتسع نطاقها أولا إلى نهايته، ثم يأخذ هذا النطاق في التقلص والتضايق طورا بعد طور، إلى فناء الدولة واضمحلالها. (4)
إن نظرية ابن خلدون في أطوار الدول وفي اتساع نطاقها، تستند - في حقيقة الأمر - إلى نظرية أخرى هي نظرية عمر الدولة، غير أن هذه النظرية أيضا تستند إلى نظرية أخرى أعم منها هي «نظرية الحسب».
ولذلك يجدر بنا أن ندرس هاتين النظريتين قبل أن نمعن النظر في نظرية تطور الدول نفسها. (2) عمر الدولة (1)
يقرر ابن خلدون في أحد فصول الباب الثاني «أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء» (ص136)، ويشرح هذه القضية ويعللها كما يأتي: «الحسب من العوارض التي تعرض للآدميين، فهو كائن فاسد لا محالة» (ص136). وبتعبير آخر: هو حادث وزائل حتما، إنه يكون ثم يفسد، يحدث ثم يزول. «فإن كل رئاسة وشرف وحسب تسبقه - حتما - حالة من الضعة والابتذال وعدم الحسب» (ص137). كما أنه ينتهي في آخر الأمر إلى الضعة والابتذال وعدم الحسب، وهذا الحسب يستمر عادة من أربعة أجيال، وينتهي في أربعة آباء.
وذلك لأن «باني المجد عالم بما عاناه في بنائه، ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه.
وابنه من بعده مباشر لأبيه، فقد سمع منه ذلك وأخذه عنه، إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاين له.
ثم إن جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة، فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المباشر.
ثم إن جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة، وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها، وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف، وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم، وليس بعصابة ولا بخلال.» إنه يتوهم ذلك «لما يرى من التجلة بين الناس»، من غير أن يعلم «كيف كان حدوثها ولا سببها»، ويذهب إلى أن سبب ذلك هو «النسب فقط، فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته، ويرى الفضل له عليهم؛ وثوقا بما ربي فيه من استتباعهم، وجهلا بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال»، ولا يدرك أن من تلك الخلال «التواضع لهم، والأخذ بمجامع قلوبهم»؛ فيحتقرهم لذلك. ومن الطبيعي أن هذا السلوك الذي يسلكه نحوهم يضطرهم إلى تغيير سلوكهم نحوه، إنهم «ينغصون عليه ويحتقرونه ويديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب»؛ وذلك إذعانا لعصبيتهم «بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله»؛ ولهذا السبب «تنمو فروع هذا وتذوي فروع الأول، وينهدم بناء بيته» (ص137).
إن هذا القانون يشمل - على رأي ابن خلدون - جميع أنواع الحسب؛ فيصح في الملوك كما يصح في بيوت القبائل والأمراء وأهل العصبية أجمع، كما أنه يشمل بيوت أهل الأمصار أيضا.
ومع هذا يصرح ابن خلدون أن «اشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب، وإلا فقد يندثر البيت من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم، وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس»، إلا أن ذلك يكون في حالة «انحطاط وذهاب».
إن هذه الأجيال الأربعة بمثابة الباني، والمباشر، والمقلد، والهادم (ص137). (2)
بما أن ابن خلدون كان يقول بصحة نظرية الحسب هذه بالنسبة إلى جميع أنواع البيوت - بما فيها البيوت المالكة - وبما أنه كان يعتقد في الوقت نفسه أن الدول تقوم - بوجه عام - على عواتق البيوت المالكة؛ كان من الطبيعي أن يطبق أسس هذه النظرية على حياة الدول أيضا.
فإنه يقرر في فصل من فصول الباب الثالث «أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص» (ص170-171)، ويذهب إلى «أن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال»، ويشرح رأيه هذا، ويعلله كما يلي: «لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها ووحشتها، من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم، فحدهم مرهف وجانبهم مرهوب والناس لهم مغلوبون.»
وأما الجيل الثاني فقد «تحول حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة والخضوع»، ومع هذا «يبقى لهم الكثير من ذلك، بما أدركوا من الجيل الأول وباشروا أحوالهم وشاهدوا اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ، ومراميهم في المدافعة والحماية؛ فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية وإن ذهب منه ما ذهب» (ص170-171).
زد على ذلك أنهم «يكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول، أو على ظن من وجودها فيهم» (ص171). «أما الجيل الثالث، فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته بما يتبنقوه من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عالة على الدولة، ويفقدون «العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة». في الواقع إنهم يحاولون التظاهر بمظهر القوة؛ «يلبسون على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل، وحسن الثقافة، يموهون بها، وهم في الأكثر أجبن من النساء على ظهورها.» «فإذا جاء المطالب لهم» - أي إذا قام قائم عليهم - «لم يقاوموا مدافعته»، فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر بالموالي، ويصطنع من يغني عن «أهل» الدولة بعض الغناء ، حتى يتأذن الله بانقراضها؛ فتذهب الدولة بما حملت. «هذه ثلاثة أجيال، فيها يكون هرم الدولة وتخلقها؛ ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع، كما مر من أن المجد والحسب إنما هو أربعة آباء.»
إن عمر هذه الأجيال الثلاثة يبلغ مائة وعشرين سنة على وجه التقريب، «ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر، إلا إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب»، وفي هذه الحالة يكون الهرم حاصلا ومستوليا، والطالب لم يحضرها، ولو قد جاء الطالب لما وجد مدافعا، ولانقرضت الدولة وزالت من عالم الوجود.
إن «هذا العمر للدولة بمثابة عمر الشخص، من التزيد إلى سن الوقوف، ثم إلى سن الرجوع؛ ولهذا يجري على ألسنة الناس في المشهور أن عمر الدولة مائة سنة» (ص171). (3)
لا مجال للإنكار أن الآراء التي يسردها ابن خلدون في هذا الصدد - والنظرية التي يضعها على هذا المنوال - طريفة وممتعة جدا، زد على ذلك أنها تنطوي على نظرة فلسفية أيضا؛ لأنها تقرر أن الدولة كائن حي، يتطور على الدوام وفق نظام ثابت، كما تتطور جميع الكائنات الحية.
غير أن هذه النظرية - على الرغم من طرافتها - لا تنطبق على الحقائق الواقعة كثيرا؛ لأنها تحصر الحسب عادة في أربعة آباء، وتقول بانقراض الدولة في الجيل الرابع، وتقرر أن عمر الدولة يكون في الغالب مائة وعشرين سنة. ومن الواضح أن كل ذلك مما لا ينطبق إلا على بعض الدويلات البدوية وملوك الطوائف الصغيرة، وأما الدول الكبيرة، فتواريخها لا تؤيد أبدا النتائج التي يتوصل إليها ابن خلدون في نظريته هذه.
غير أننا نلاحظ أن ابن خلدون نفسه كتب في عدة فصول من المقدمة ما يناقض هذه النظرية، أو ما يصححها ويكملها: (أ)
يقول ابن خلدون في الفصل الذي يقرر أنه «إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة؛ أقبلت الدولة على الهرم» (ص168-170): «ربما يحدث في الدولة إذا طرقها الهرم بالترف والراحة، أن يتخير صاحب الدولة أنصارا وشيعة من غير جلدتهم، ممن تعود الخشونة، فيتخذهم جندا يكون أصبر على الحرب وأقدر على معاناة الشدائد من الجوع والشظف، ويكون ذلك دواء للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها» (ص169).
ثم يستشهد على ذلك ببعض الأمثلة التاريخية، وبعد ذلك يختتم الفصل المذكور بقوله: «فتستجد الدولة بذلك عمرا آخر سالما من الهرم» (ص170).
إن العبارة الأخيرة يجب أن تستوقف الأنظار؛ إذ من الواضح أن «العمر الآخر» إذا انضم إلى العمر الأول يؤدي إلى إطالة عمر الدولة فيجعله أطول من المدة المقررة في النظرية الأصلية.
نحن نلمح في هذه العبارة رأيا لابن خلدون مكملا ومصححا لرأيه المسرود في النظرية الآنفة الذكر. (ب)
يشير ابن خلدون في أحد الفصول الناقصة في طبعات البلاد العربية - وهو الفصل المتعلق باتساع نطاق الدولة - إلى إمكان تجديد الدولة: «يضيق نطاق الدولة عما كانت انتهت إليه في أولها، وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه، إلى أن يحدث في النطاق الثاني ما حدث في الأول بعينه، فيذهب القائم بالدولة إلى تغيير القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة.» «إن كل واحد من هؤلاء المغيرين للقوانين قبلهم كأنهم منشئون دولة أخرى ومجددون» (طبعة كاترمير، ج2، ص155 ).
ومن الواضح أن «تجديد الملك» الذي يكون بمثابة «إنشاء دولة أخرى» يتضمن إكساب الدولة عمرا جديدا. (ج)
يقول ابن خلدون في فصل طروق الخلل للدولة - حينما يتكلم عن انقسام الدولة: «تضعف الدولة المنقسمة كلها، وربما طال أمدها بعد ذلك، فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل أيالتها، وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها، فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة» (ص296).
يلاحظ أن ابن خلدون يقرر هنا إمكان طول أمد الدولة عند استغنائها عن العصبية، ويشير إلى السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها. من البديهي أن هذه العبارات لا يمكن أن تنصرف إلى المدة المقررة في فصل عمر الدولة. (د)
يعطينا ابن خلدون دستورا صريحا لتعيين «أمد الدولة» في الفصل الذي يقرر أن «عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة» (ص163-164)، وهذا الدستور لا يتفق مع المائة والعشرين سنة المذكورة في فصل عمر الدولة.
يوضح ابن خلدون رأيه في هذا الصدد كما يلي: «أما طول أمدها أيضا فعلى تلك النسبة (أي على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة)؛ لأن عمر الحادث من قوة مزاجه، ومزاج الدول إنما هو بالعصبية، فإذا كانت العصبية قوية؛ كان المزاج تابعا لها، وكان أمد العمر طويلا. والعصبية إنما هي بكثرة العدد ووفوره كما قلناه» (ص163).
ثم يزيد ذلك إيضاحا وتعليلا بقوله: «والسبب الصحيح في ذلك أن النقص إنما يبدو في الدولة من الأطراف، فإذا كانت ممالكها كثيرة؛ كانت أطرافها بعيدة عن مركزها وكثيرة، وكل نقص يقع لا بد له من زمن. فتكثر أزمان النقص لكثرة الممالك واختصاص كل واحد منها بنقص وزمان، فيكون أمدها طويلا. وانظر ذلك في دولة العرب الإسلامية كيف كان أمدها أطول، لا بنو العباس أهل المركز، ولا بنو أمية المستبدون في الأندلس، لم ينقص أمر جميعهم إلا بعد الأربعمائة من الهجرة، ودولة العبيدين كان أمدها قريبا من مائتين وثمانين سنة، ودولة الموحدين لهذا العهد تناهز مائتين وسبعين» (ص164).
وفي الأخير يكرر ابن خلدون القاعدة التي وضعها في هذا الصدد بصراحة تامة: «وهكذا نسب الدولة في أعمارها على نسبة القائمين بها، سنة الله قد خلت في عباده» (ص164).
يلاحظ أن ابن خلدون يتباعد هنا عن مبدأ الأجيال الثلاثة أو الأربعة، وعن مدة المائة والعشرين سنة تباعدا كبيرا. (4)
إن الباحثين الذين درسوا نظريات ابن خلدون تكلموا كثيرا عما دونه في فصل عمر الدولة، ولكنهم قلما لاحظوا ما جاء حول هذا الموضوع في الفصول الأخرى.
إن الفرق بين أحكام الفصل المذكور وبين مقتضيات تلك الفصول كبير جدا، فيجدر بنا أن نتساءل: هل يجب علينا أن نعتبر الآراء الأخيرة مناقضة للأولى؟ أم يجب علينا أن نعتبرها متممة ومكملة لها؟ إننا نميل إلى ترجيح الشق الثاني؛ فإن النظرية التي وضعها ابن خلدون عن عمر الدولة، إنما تستند إلى ملاحظاته حول تطور أحوال العصبية بتوالي الأجيال. وبما أن ابن خلدون يقرر مبدئيا «أن الدولة قد تستغني عن العصبية، فإن الدولة التي تصل إلى طور الاستغناء عن العصبية يجب أن تخرج عن مصداق نظرية العمر التي ذكرناها.
فيحق لنا أن نقول: إن النظرية الأولى - أي نظرية العمر - تتعلق بالدول العادية، وأما النظرية الأخيرة - أي نظرية الأمد - فتحوم حول أحوال «الدول العامة»، و«الدول المتسعة النطاق»، كما يحق لنا أن نقول لذلك: إن ابن خلدون نفسه قد صحح وكمل نظريته الأولى بنظريته الأخيرة.
ولكن هل كتب ابن خلدون هذه الفصول المختلفة منذ البداية، ووضع هاتين النظريتين في وقت واحد؟ أم أنه توصل إلى الأخيرة بعد مرور مدة على توصله إلى الأولى؟ إننا لا نجد مجالا للإجابة على هذا السؤال ما لم ندرس نسخ المقدمة ونقارنها - على طريقة النقد الخارجي - وفقا للخطة التي كنا رسمناها في الدراسة التي كتبناها عن تاريخ كتابة المقدمة. (3) أطوار الدولة
يعرض ابن خلدون نظريته في تطور الدول من وجهة الأحوال العامة والأخلاق - بصورة مجملة - في فصل خاص من فصول الباب الثالث ؛ هو فصل «أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوار» (ص175)، ولكنه يتكلم - قبل هذا الفصل الإجمالي العام - عن كل طور من تلك الأطوار، وكل حالة من تلك الأحوال، في فصل خاص، أو في عدة فصول.
مثلا إن الفصل الذي يقرر «أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد» (ص161)، إنما يشرح - في حقيقة الأمر - طورا من أطوار الدولة، هو الطور الذي ينعت في الفصل الإجمالي المذكور باسم «الطور الثاني». وأما الفصول الثلاثة التي تلي ذلك، والتي تقرر «أن من طبيعة الملك الترف» (ص167)، وأن «من طبيعة الملك الدعة والسكون» (ص167)، و«أنه إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة؛ أقبلت الدولة على الهرم» (ص167)؛ «فهي تشرح وتعلل الأحوال التي ترافق الطور المذكور. فهذه الفصول الأربعة يجب أن تقرأ ككل، ويجب ألا يغرب عن البال أن فصل الأطوار يستند - في حقيقة الأمر - إلى أبحاث هذه الفصول الأربعة، ويلخصها نوعا ما.
وأما الفصول التي تقرر «أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك» (ص139)، و«أن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية» (ص154)، و«أن من عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم» (ص140)، و«أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة» (ص142)؛ فكلها تشرح الطور الأول من الأطوار المذكورة، وهو الطور الذي يسميه ابن خلدون باسم «طور الظفر بالبغية».
وأما مباحث الفصول التي تقرر «أن الدولة لها أعمار كما للأشخاص» (ص170)، و«أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة على قوتها» (ص174)، والتي تشرح كيفية «انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة» (ص172)، و«استظهار صاحب الدولة على قومه وأهل عصبيته بالموالي والمصطنعين» (ص183)؛ كلها تمت بصلة قوية لهذا الموضوع، وتتمم نظرية ابن خلدون في أطوار الدولة.
ثم إن مباحث الفصل الذي يقرر «أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع» (ص293)، والذي يشرح «كيفية طروق الخلل للدولة» (ص294)، توضح آراء ابن خلدون في هذا الصدد تمام الإيضاح. كما أن مباحث الفصل الذي يقرر «أن الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة» (ص297)، أيضا تمت إلى موضوع أطوار الدولة بصلات قوية. •••
يقرر ابن خلدون في فصل «أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوار» (ص175-177): «إن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة، ويكتسب القائمون بها في كل طور خلقا من أحوال ذلك الطور، لا يكون مثله في الطور الآخر.»
ويقول: «إن حالات الدولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار.»
ثم يشرح الأحوال التي يمتاز بها كل طور من هذه الأطوار، والأخلاق التي تنشأ عن طور منها. (1)
الطور الأول: هو طور الظفر بالبغية؛ في هذا الطور يتم تأسيس الدولة بانتزاع الملك من أيدي الدولة السابقة، وبالتغلب على المدافعين عنها (ص175)، ومن المعلوم أن ذلك لا يتيسر إلا بقوة العصبية، وصاحب الدولة الجديدة «إنما ينال الملك بمعاضدة قومه وعصابته وظهرائه على شأنه»؛ ولذلك يضطر إلى محاسنتهم، ويعتد عليهم، «وبهم يقارع الخوارج على دولته، ومنهم يقلد عمال مملكته ووزراء دولته وجباة أمواله؛ لأنهم أعوانه على الغلب، وشركاؤه في الأمر، ومساهموه في سائر مهماته» (ص183). فيكون الملك في هذا الطور «أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية، لا ينفرد دونهم بشيء؛ لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب، وهي لم تزل بعد على حالتها الأصلية» (ص175).
وخلاصة القول: يكون الحكم - في هذا الطور - مشتركا نوعا ما بين الملك وبين قومه وعشيرته. (2)
غير أن هذا الطور لا بد أن يتبعه - بعد مدة - طور ثان، هو طور «الانفراد بالمجد».
فإن صاحب الدولة بعد أن ينال الملك بمعاضدة قومه، ينزع إلى الاستبداد عليهم، ويسعى إلى الانفراد بالمجد دونهم: «يأنف صاحب الدولة من المساهمة والمشاركة في استتباع أهل العصبية، وينفرد بالحكم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، حتى لا يترك لأحد منهم من الأمر لا ناقة ولا جملا، فينفرد بذلك المجد بكليته، ويدفعهم من مساهمته» (ص167). ويوصل الأمر إلى درجة قتل «وإهلاك من استراب به من قرابته المرشحين لمنصبه» (ص292).
من الطبيعي أن ذلك لا يتم بسهولة، ولا من غير منازعة؛ لأن ظهراء صاحب الدولة الذين ساهموا في تأسيس الملك هم أيضا ينزعون إلى الاحتفاظ بمكانتهم، إنهم يسعون إلى الاستمرار في مشاركته في المجد، ومساهمته في ثمرات الملك، فيحدث بينهم وبينه ما يشبه العداء. إنهم كانوا ظهراءه وكانوا «يستطيبون الموت في بناء مجدهم، ويؤثرون الهلكة على فساده» (ص168)، ولكن «إذا انفرد الواحد منهم بالمجد وقرع عصبتهم وكبح من أعنتهم، واستأثر بالأموال دونهم؛ انقطعوا عن مساعدته»، هذا إذا لم يخرجوا عليه.
وصاحب الدولة لا يستطيع أن يتغلب على هذه المشاكل، ويستظهر على هؤلاء الممانعين إلا بالموالي والمصطنعين، فيحتاج إلى أولياء آخرين «من غير جلدتهم» (ص183). «فيعنى بوجه خاص باصطناع الرجال، واتخاذ الموالي، والاستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيته وعشيرته، وصدهم عن موارده، وردهم على أعقابهم، وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة» (ص175)، ويعاني من مدافعتهم ومغالبتهم «ما عاناه الأولون في طلب الأمر» وتأسيس الملك، بل أشد من ذلك؛ «وذلك لأن الأولين دافعوا الأجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبية بأجمعهم»، في حين أن هذا «يدافع الأقارب، ولا يظاهره على مدافعتهم إلا الأقل من الأباعد، فيركب صعبا من الأمور» (ص176).
كان في الطور الأول أهل العصبية بأجمعهم ظهراء لصاحب الدولة، وأما في الطور الجديد فتنقلب الأمور رأسا على عقب؛ فإن أقارب صاحب الدولة ينقبلون عليه، ويعارضون أعماله، ولا يظاهره إلا الأقل من الأباعد. «صار أعوانه السابقون في حقيقة الأمر من بعض أعدائه، واحتاج في مدافعتهم عن الأمر وصدهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم، يستظهر بهم عليهم، ويتولاهم دونهم؛ فيكونون أقرب إليه من سائرهم، وأخص به قربا واصطناعا، وأولى إيثارا وجاها؛ لما أنهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الذي كان لهم، والرتبة التي ألفوها في مشاركتهم، فيستخلصهم صاحب الدولة، ويخصهم بمزيد التكرمة والإيثار، ويقسم لهم مثل ما للكثير من قومه، ويقلدهم جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية» (ص183).
إن أهل الدولة يحقدون عليه من جراء كل ذلك؛ «فيضطغنون عليه، ويتربصون به الدوائر» (ص183 ).
إن هذا التنازع الذي يحدث بين صاحب الدولة وبين ظهرائه الأولين يستمر مدة من الزمن، إلى أن ينتصر صاحب الدولة عليهم، وينفرد بالمجد دونهم.
إن ذلك «قد يتم للأول من ملوك الدولة، وقد لا يتم إلا للثاني والثالث»، وذلك «على قدر ممانعة العصبيات وقوتها، إلا أنه أمر لا بد منه في الدول» (ص167). (3)
وإذا تم تغلب صاحب الدولة على ظهرائه الأولين، وانفرد بالمجد بلا مانع؛ دخلت الدولة في الطور الثالث، وهو «طور الفراغ والدعة»: «طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصيت، فيستفرغ» صاحب الدولة «وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج، وإحصاء النفقات والقصد فيها، وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة، وإجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل، وبث المعروف في أهله، هذا مع التوسعة على صنائعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه، واغتراض جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في أعطياتهم لكل هلال، حتى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم وشكبهم وشاراتهم يوم الزينة، فيباهي بهم الدول المسالمة، ويرهب الدول المحاربة» (ص176).
يكون أهل الدولة - في هذا الطور - قد تخلصوا من «المتاعب التي كانوا يتكلفونها في طلب الملك، وآثروا الراحة والسكون والدعة، ورجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس، فيبنون القصور، ويجرون المياه، ويغرسون الرياض، ويستمتعون بأحوال الدنيا، ويؤثرون الراحة على المتاعب، ويتأنقون في أحوال الملابس والمطاعم والآنية والفرش ما استطاعوا، ويألفون ذلك ويورثونه «من يأتي» من بعدهم من أجيالهم» (ص167).
إن هذا الطور هو آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة؛ لأنهم في هذه الأطوار كلها مستقلون بآرائهم، بانون لعزهم، موضحون الطرق لمن «يأتي» بعدهم» (ص176). (4)
عندئذ يبدأ الطور الرابع، وهو طور «القنوع والمسالمة»: «يكون صاحب الدولة في هذا الطور قانعا بما بنى أولوه، سلما لأنظاره من الملوك وأقتاله، مقلدا للماضين من سلفه، فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل، ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء، ويرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره»، ويعتقد «أنهم أبصر بما بنوا من مجده» (ص176).
فيترك التعب والكد في توسيع الصيت والمجد، وينصرف إلى التنعم من نعم الحالة التي ورثها من أجداده. (5)
ولكن هذا الطور إذا بدأ لا بد أن يؤدي بعد مدة إلى طور آخر، هو طور التبذير والإسراف: «يكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفا لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته وفي مجالسه»، إنه يقرب من يخدم شهواته، ويغدق عليه العطاء، ويقلده عظائم الأمور، ويبعد صنائع سلفه «حتى يضطغنوا عليه، ويتخاذلوا عن نصرته». إن ما ينفقه على شهواته وملاذه يضطره إلى تقليل أعطيات جنده، وكل ذلك يؤدي إلى قلة عدد الجنود من جهة، وفساد حالتهم من جهة أخرى.
وخلاصة القول: إن صاحب الدولة في هذا الطور يكون «مخربا لما كان سلفه يؤسسون، وهادما لما كانوا يبنون.»
ولهذا السبب تحصل في الدولة في هذا الطور «طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه، ولا يكون لها معه برء إلى أن تنقرض» (ص176). (6)
من المعلوم أن ابن خلدون شبه عمر الدول بعمر الأشخاص، فقال: إن الدول - كالأشخاص - تنتقل في حياتها من سن التزيد إلى سن الوقوف، ثم إلى سن الرجوع.
وإذا نظرنا إلى الأطوار الخمسة الآنفة الذكر من هذه الوجهة؛ وجدنا أن دور التزيد في الدولة ينحصر في الطورين الأوليين، وأما الطور الثالث فيوافق سن الوقوف، والطوران الأخيران يشبهان سن الرجوع.
ومع ذلك فإن عوامل الخلل تبدأ في الظهور والتأثير منذ الطور الثاني.
يدرس ابن خلدون هذه العوامل على حدة في فصل من فصول الباب الثالث؛ هو فصل «كيفية طروق الخلل للدولة» (ص294-297).
يبدأ الفصل المذكور بتقرير المبدأ التالي: «إن مبنى الملك على أساسين لا بد منهما؛ فالأول: الشوكة والعصبية، وهو المعبر عنه بالجند، والثاني: المال الذي هو قوام أولئك الجند، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال.» «والخلل إذا طرق للدولة طرقها من هذين الأساسين.»
وبعد تقرير هذا المبدأ يأخذ ابن خلدون في شرح كيفية طروق الخلل للدولة، من كل واحد من هذين الأساسين، ويذكرنا أولا بالدور الهام الذي تلعبه العصبية في تمهيد الدولة وتأسيسها: «إن تمهيد الدولة وتأسيسها - كما قلنا - إنما يكون بالعصبية، وإنه لا بد من عصبية كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها، وهي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة وقبيلة.»
إن هذه العصبية الأساسية تتعرض للخلل والانتقاص بعد تأسس الدولة في الطور الثاني من الأطوار الخمسة التي ذكرناها آنفا، وذلك لسببين مهمين؛ أولا: لاستبداد صاحب الدولة عليهم، وثانيا: لتأثير الترف في نفوسهم.
لأن صاحب الملك عندما ينزع إلى الانفراد بالمجد، ويعمل في سبيل ذلك الانفراد، يبدأ من «جدع أنوف عشيرته وذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك، فيستبد في جدع أنوفهم أكثر من سواهم،
1 «ويأخذهم الترف أيضا أكثر من سواهم»؛ لمكانهم من الملك والعز والغلب»، وهذا الترف يفقدهم العصبية والمنعة؛ ولذلك «يحيط بهم هادمان، وهما؛ الترف والقهر»، والقهر يؤدي - آخر الأمر - إلى القتل؛ «لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر، فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه؛ فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة والترف الذي تعودوا الكثير منه؛ فيهلكون لذلك ويقلون» (ص295).
وبهذه الصورة «تفسد عصبية صاحب الدولة منهم، وهي العصبية الكبرى التي كانت تجمع بها العصائب وتستتبعها؛ فتنحل عروتها، وتضعف شكيمتها»؛ فيضطر صاحب الدولة إلى الاستعاضة عنها «بالبطانة من موالي النعمة وصنائع الإحسان»، ويتخذ منهم عصبية، إلا أن هذه العصبية المستحدثة لا تكون في مثل «تلك الشدة الشكيمية»؛ لفقدان الرحم والقرابة منها» (195)، فتكون أضعف من العصبية الأولى الأصلية بطبيعة الحال.
ولذلك «ينفرد صاحب الدولة عن العشير والأنصار الطبيعية، ويحس بذلك أهل العصائب الأخرى فيتجاسرون عليه وعلى بطانته تجاسرا طبيعيا؛ فيهلكهم صاحب الدولة، ويتتبعهم بالقتل واحدا بعد واحد» (ص295). «ويقلد الآخر من أهل الدولة في ذلك الأول، مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف الذي قدمنا، فيستولي عليهم الهلاك بالترف والقتل، حتى يخرجوا من صبغة تلك العصبية ويفشوا بعزتها وثورتها، ويصيروا أوجز على الحماية ويقلون لذلك، فتقل الحامية التي تنزل بالأطراف والثغور، فيتجاسر الرعايا على بعض الدعوة في الأطراف ، ويبادر الخوارج على الدولة من الأعياص وغيرهم إلى تلك الأطراف؛ لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم، وأمنهم من وصول الحامية إليهم. ولا يزال ذلك يتدرج، ونطاق الدولة يتضايق، حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة، وربما انقسمت الدولة عندئذ بدولتين أو ثلاث، على قدر قوتها في الأصل» (ص195).
وأما قوة الدولة فتنحصر عندئذ في الحاميات المؤلفة من الجنود المرتزقة: «وربما طال أمد الدولة بعد ذلك؛ فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل أيالتها من صبغة الانقياد والتسليم، منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها. فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة، فيستغني بذلك عن قوة العصائب، ويكفي صاحبها - بما حصل لها في تمهيد أمرها - الإجراء على الحامية من جندي ومرتزق، ويعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم.» «وربما كانت الدولة في هذه الحال أسلم من الخوارج والمنازعة لاستحكام صبغة التسليم والانقياد لهم.» «ثم لا يزال أمر الدولة كذلك، وهي تتلاشى في ذاتها شأن الحرارة الغريزية في البدن العادم للغذاء، إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور» (ص296).
إن الخلل الذي يطرق للدولة من وجهة القوة والعصبية على هذا المنوال يترافق مع خلل يطرقها من جهة المال أيضا.
لأن «الدولة في أولها تكون بدوية، فيكون خلق الرفق بالرعايا والقصد في النفقات والتعفف عن الأموال، فتتجافى الدولة عن الإمعان في الجباية، والتحذلق والكيس في جمع الأموال وحسبان العمال» (ص296). ولا داعية حينئذ إلى الإسراف في النفقة، فلا تحتاج الدولة إلى كثرة المال» (ص297).
ولكن الأمور لا تستمر كثيرا على هذا المنوال؛ وذلك لأن «عندما يحصل الاستيلاء ويستفحل الملك» يبدأ الترف «ويكثر الإنفاق بسببه؛ فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم، بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر، ويدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند، وأرزاق أهل الدولة، ثم يعظم الترف، فيكثر الإسراف في النفقات، وينتشر ذلك في الرعية» أيضا (ص297).
تعظم نفقات الدولة بهذه الصورة يوما عن يوم ؛ فتزداد حاجتها إلى المال شيئا فشيئا، فيضطر صاحب الدولة إلى التفنن في جمع المال بوسائل وطرق شتى، حتى إنه يلجأ في آخر الأمر إلى وسائل الظلم والإرهاق، وذلك يزيد الخلل، وزيادة الخلل تزيد الحاجة إلى الجند وإلى المال، وهكذا يشتد الخلل شيئا فشيئا إلى أن يصبح كليا، ويؤدي إلى الانقراض.
يتتبع ابن خلدون سلسلة هذه التحولات باهتمام، ويشرحها بتفصيل: «يحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق؛ لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة - الشاهد عليه بالرفه - ولما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه وأرزاق جنده. ثم تزيد عوائد الترف، فلا تفي بها المكوس، وتكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرعايا، فتمتد أيديهم إلى جمع المال من أموال الرعايا من مكس أو تجارة أو نقد. ويكون الجند في ذلك الطور قد تجاسر على الدولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبية، فتتوقع ذلك منهم، وتداوي بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم، وتكون جباة الأموال في الدولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطور، بكثرة الجباية، وكونها بأيديهم وبما اتسع لذلك من جاههم. فيتوجه إليهم باحتجان الأموال من الجباية، وتفشو السعاية فيهم بعضهم من بعض للمنافسة والحقد، فتعمهم النكبات والمصادرات واحدا واحدا إلى أن تذهب ثروتهم وتتلاشى أحوالهم، ويفقد ما كان للدولة من الأبهة والجمال بهم. وإذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدولة إلى أهل الثروة من الرعايا سواهم، ويكون الوهن في هذا الطور قد لحق الشوكة وضعفت عن الاستطالة والقهر؛ فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال، ويراه أرفع من السيف لقلة غنائه، فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النفقات وأرزاق الجند، ولا يغني فيما يريد. ويعظم الهرم بالدولة، ويتجاسر عليها أهل النواحي، والدولة تنحل عراها في كل طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلاك، فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها، وإلا بقيت وهي تتلاشى إلا أن تضمحل، كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفئ» (ص297). (4) اتساع نطاق الدولة
إن نظرية ابن خلدون في أمر اتساع نطاق الدولة مشروحة في الفصول التالية:
فصل في أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها (ص161)، فصل في أن عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة (ص163)، فصل في انقسام الدولة الواحدة بدولتين (ص292)، فصل في كيفية طروق الخلل للدولة (ص294)، فصل في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع (ص298).
غير أن هذه النظرية مجملة في فصل واحد، هو من الفصول الناقصة في طبعات البلاد العربية.
فصل في اتساع نطاق الدولة أولا إلى نهايته، ثم تضايقه طورا بعد طور إلى فناء الدولة واضمحلالها (ص114-117، ج2، طبعة كاترمير). (1)
يرى ابن خلدون أن «نطاق الدولة واتساعها» يتحول ويتطور وفق نظام ثابت؛ تتوسع الدولة في بادئ الأمر إلى أن تصل إلى أقصى حدودها، وبعد ذلك تأخذ في التقلص فتتراجع عن تلك الحدود، ويتضايق نطاقها شيئا فشيئا.
إن تضايق نطاق الدولة على هذا المنوال يبدأ من الأطراف، ويسير نحو المركز تدريجا، والدولة تحافظ على كيانها - على الرغم من تقلص نطاقها - ما بقي مركزها محفوظا، وأما إذا غلبت الدولة على أمرها في مركزها، فإنها تفقد حينئذ كيانها وتنقرض.
وقد تنقسم الدولة - قبل انقراضها، خلال تضايق نطاقها - إلى دولتين أو ثلاث دول، غير أن كل قسم من هذه الأقسام يتعرض إلى تحولات مماثلة لما ذكرناه آنفا، فنطاق كل واحد منها أيضا يتضايق شيئا فشيئا، إلى أن يختل أمر مركزها، وينتهي بها إلى الانقراض.
إن هذه القوانين التي تعين نطاق الدولة واتساعها، يقررها ابن خلدون ويشرحها ويعللها واحدا فواحدا. (2)
أولا: يقرر ابن خلدون في فصل خاص «أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها» (ص161).
فإن نطاق الدولة يتوسع في بادئ الأمر إلى أن يبلغ حدا يكون طبيعيا بالنسبة إلى قوتها. ونستطيع أن نقول لذلك: إن اتساع نطاق الدولة يكون محدودا بحد طبيعي، وهذا الحد يتعين بقوة الدولة نفسها.
ابن خلدون يشرح هذا القانون ويعلله كما يلي: «لأن عصابة الدولة وقومها القائمين بها، الممهدين لها، لا بد من توزيعهم حصصا على الممالك والثغور؛ لحمايتها من العدو، ولإمضاء أحكام الدولة فيها» (ص161). «فإذا توزعت العصائب كلها على الثغور والممالك، فلا بد من نفاد عددها»، وتكون الممالك «قد بلغت حينئذ إلى حد يكون ثغرا للدولة وتخما لوطنها، ونطاقا لمركز ملكها». وإذا «تكفلت الدولة بعد ذلك زيادة على ما بيدها؛ بقي دون حامية، وكان موضعا لانتهاز الفرصة من العدو والمجاور» (ص161).
وبعكس ذلك «إذا كانت العصابة موفورة، ولم ينفد عددها في توزيع الحصص على الثغور والنواحي؛ بقي في الدولة قوة على تناول ما وراء الغاية»، فتتوسع الدولة إلى أن «ينفسح نطاقها إلى غايته» (ص162).
ابن خلدون يعلل ذلك بقانون طبيعي عام: «والعلة الطبيعية في ذلك هي أن قوة العصبية «مثل» سائر القوى الطبيعية، وكل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال، فشأنها ذلك في فعلها». إن قوة الدولة في مركزها تكون أشد مما هي في الطرف والنطاق، «وإذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية عجزت وأقصرت عما وراءه.»
ثم يوضح ذلك بتشبيه مادي دقيق: «شأن الأشعة والأنوار إذا انبعثت من المراكز، والدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه» (ص162).
ولذلك «على نسبة أعداد المتغلبين لأول الملك يكون اتساع الدولة ونطاقها» (ص163). «كل دولة على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة، وعند نفاد عددهم بالتوزيع ينقطع لهم الفتح والاستيلاء» (ص162).
ولهذه الأسباب كلها نجد «أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها.» (3)
إن هذه الحصة لا تكون متساوية في جميع الدول، بل بعكس ذلك «تكون متفاوتة ومتناسبة مع قوة القائمين بها.»
يقرر ابن خلدون هذا القانون في فصل خاص (ص163-164)، ويعلله بالملاحظات التالية: «لأن الملك إنما يكون بالعصبية، وأهل العصبية هم الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة وأقطارها وينقسمون عليها»، فمن الطبيعي أن يكون اتساع الدولة وقوتها متناسبا مع عدد القائمين بأمرها، فكلما «كانت عصابة الدولة أكثر، كان ملكها أوسع» (ص163). (4)
إن قوة الدولة لا يمكن أن تستمر على وتيرة واحدة، بل إنها تأخذ في التناقص بعد مدة؛ للأسباب التي شرحناها آنفا عندما تتبعنا أطوار الدولة، ودرسنا كيفية طروق الخلل إليها.
وإذا ضعفت عصابة الدولة ونقصت قوتها؛ تضايق النطاق الذي تستطيع أن تحتفظ به وتدافع عنه، عندئذ «يتجاسر عليها من يجاورها من الدول، أو من هو تحت يديها من العصائب» (ص169)، ويستولي على قسم من ممالكها.
ولهذا السبب نجد أن تناقص قوة الدولة - وضعف حاميتها - يؤدي إلى تراجع حدودها وتضايق نطاقها.
وحينما يأخذ نطاق الدولة في التضايق - من جراء ضعف قوتها - «يبدأ التراجع عادة من أطرافها» (ص162).
وذلك لأن قوة الدولة تضعف وتقل بالأطراف قبل المركز، والخروج عليها بالأطراف يكون أسهل من الخروج عليها في المركز، كما أن الاستيلاء على أقاصي الدولة يكون أقل إشكالا من الاستيلاء على مركزها؛ ولهذا السبب عندما تضعف حامية الدولة في الأطراف يتجاسر عليها العدو المجاور، ويستولي على قسم من بلادها، وهذا التجاسر قد يقع من رعايا الدولة نفسها؛ يخرج خارج عليها، ويستقل بحكم قاصية من أقاصيها، وهذا الخارج قد يكون من أقارب صاحب الدولة، كما أنه قد يكون من عمال الدولة؛ وذلك يؤدي إلى انقسام الدولة إلى دولتين أو إلى ثلاث دول.
يوضح ابن خلدون كل ذلك بتفصيل واف في فصول عظم الدولة (ص163)، وانقسام الدولة (ص392)، وخلل الدولة (ص294)، ونطاق الدولة (راجعوا ذيل هذا البحث).
ومما كتبه ابن خلدون حول هذه القضايا في الفصول المذكورة: «إن أول ما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها؛ وذلك أن الملك عندما يستفحل، ويستبد صاحب الدولة بالمجد وينفرد به، ويصير إلى إهلاك من استراب به من ذي قرابته المرشحين لمنصبه؛ فربما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم ونزعوا إلى القاصية، «وانضم» إليهم من يلحق بهم «ممن له» مثل حالهم من الغرور والاسترابة. ويكون نطاق الدولة قد أخذ في التضايق ورجع عن القاصية؛ فيستبد ذلك النازع من القرابة فيها، ولا يزال أمره يعظم بتراجع نطاق الدولة، حتى يقاسم الدولة أو يكاد» (ص292). «وقد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين أو ثلاث، وفي غير أعياص الملك من قومه» (ص293). «وهكذا شأن كل دولة، لا بد وأن يعرض فيها عوارض الهرم بالترف والدعة وتقلص ظل الغلب، فيقتسم أعياصها، أو من يغلب من رجال دولتها الأمر، وتتعدد فيها الدول» (ص293). «كما وقع في ملوك الطوائف بالأندلس، وملوك العجم بالمشرق، وفي ملك صنهاجة بإفريقية، فقد كان - لآخر دولتهم - في كل حصن من حصونه ثائر مستقل بأمره» (ص293). (5)
إن خروج الأقاصي والأطراف عن حكم الدولة وحوزتها لا يخل بكيانها ما دام مركزها محفوظا، «ولكن إذا غلب على الدولة في مركزها؛ فلا ينفعها بقاء الأطراف والنطاق، بل تضمحل الدولة لوقتها؛ لأن المركز كالقلب الذي تنبعث منه الروح، فإذا غلب القلب وملك؛ انهزم جميع الأطراف» (ص162). (6)
يظهر من هذه التفصيلات أن الدولة المستقرة «إذا أخذت في الهرم والانتقاص»، قامت على أنقاضها دول جديدة.
إن «نشأة هذه الدول الجديدة وبداءتها» تكون على نوعين: (أ)
النوع الأول هو أن يستبد ولاة الأعمال في الدولة بالقاصية عندما يتقلص ظلها عنهم، فيكون لكل واحد منها دولة يستجدها لقومه، وما يستقر في نصابه يرثه عنه أبناؤه أو مواليه، ويستفحل لهم الملك بالتدريج. «وربما يزدحمون على ذلك الملك ويتقارعون عليه، ويتنازعون في الاستئثار به، ويغلب منهم من يكون له فضل قوة على صاحبه وينتزع ما في يده» (ص298).
وفي هذا النوع «لا يكون بينهم وبين الدولة المستقرة (الأصلية) حرب؛ لأنهم مستقرون في رياستهم، ولا يطمعون في الاستيلاء على الدولة المستقرة في حرب. وإنما الدولة أدركها الهرم، وتقلص ظلها عن القاصية، وعجزت عن الوصول إليها» (ص298). (ب)
وأما النوع الثاني فهو «بأن يخرج على الدولة خارج ممن يجاورها من الأمم والقبائل، إما بدعوة يحمل الناس عليها - كما أشرنا إليه - أو يكون صاحب شوكة وعصبية، كبيرا في قومه، استفحل أمره، فيسمو بهم إلى الملك، وقد حدثوا به أنفسهم بما حصل لهم من الاعتزاز على الدولة المستقرة، وما نزل بها من الهرم؛ فيتعين له ولقومه الاستيلاء عليها، ويمارسونها بالمطالبة إلى أن يظفروا بها» (ص298).
وخلاصة القول: إن الدولة الحادثة (المستجدة) تكون على نوعين؛ «نوع من ولاية الأطراف، إذا تقلص ظل الدولة عنهم وانحسر تيارها، وهؤلاء لا يقع لهم مطالبة للدولة في الأكثر؛ لأن قصاراهم القنوع بما في أيديهم، وهو نهاية قوتهم» (ص298). «والنوع الثاني نوع الدعاة والخوارج على الدولة، وهؤلاء لا بد لهم من المطالبة؛ لأن قوتهم وافية بها، فإن ذلك إنما يكون في نصاب يكون له من العصبية والاعتزاز ما هو كفاء ذلك وواف به، فيقع بينهم وبين الدولة المستقرة حروب سجال، وتتصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظفر بالمطلوب» (ص299). (7)
لا يكتفي ابن خلدون بسرد وتعليل هذه القواعد والقوانين بصورة نظرية مجردة، بل يدعم كل واحد منها بعدة شواهد تاريخية.
فهو مثلا حينما يقرر أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها، يقول: «انظر أيضا شأن العرب أول الإسلام، لما كانت عصائبهم موفورة، كيف غلبوا على ما جاورهم من الشام والعراق ومصر لأسرع وقت، ثم تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السند والحبشة وإفريقية والمغرب، ثم إلى الأندلس. فلما تفرقوا حصصا على الممالك والثغور، ونزلوها حامية، ونفد عددهم في تلك التوزيعات؛ أقصروا عن الفتوحات بعد، وانتهى أمر الإسلام، ولم يتجاوزوا تلك الحدود، ومنها تراجعت الدولة» (ص162).
وكذلك عندما يبدي ابن خلدون رأيه في النتائج التي تترتب على مغلوبية الدولة في مركزها يقول: «انظر هذا في الدولة الفارسية؛ كان مركزها المدائن، ولما غلبها المسلمون على المدائن؛ انقرض أمر فارس أجمع، ولم ينفع «يزدجرد » ما بقي في يده من أطراف ممالكه. وبالعكس من ذلك الدولة الرومية في الشام، لما كان مركزها القسطنطينية وغلبهم المسلمون بالشام؛ اتجهوا إلى مركزهم بالقسطنطينية، ولم يضرهم انتزاع الشام من أيديهم، فلم يزل ملكهم مستقلا بها» (ص162).
وهكذا في سائر القضايا والقوانين، فإن ابن خلدون يستشهد على كل واحدة منها بعدة وقائع تاريخية، تارة يشير إليها إجمالا، وطورا يسردها تفصيلا.
ومما يجدر بالذكر أن جميع الشواهد التاريخية التي يذكرها ابن خلدون في هذا الصدد مستمدة من تاريخ العرب والإسلام. (8)
إن آراء ابن خلدون في اتساع نطاق الدولة مجملة أحسن إجمال في فصل خاص، غير أن هذا الفصل ناقص في طبعات البلاد العربية؛ ولذلك رأينا من المفيد أن نذيل هذه الدراسة بنقل الفصل المذكور بنصه الكامل، مع تحليل أقسامه المختلفة وتوضيحها على ضوء أبحاث الفصول الأخرى. (4-1) اتساع نطاق الدولة وتضايقه
يعنون ابن خلدون أحد فصول المقدمة بالعنوان التالي: «فصل في اتساع نطاق الدولة أولا إلى نهايته، ثم تضايقه طورا بعد طور، إلى فناء الدولة واضمحلالها.»
هذا الفصل من أهم الفصول الموجودة في طبعة كاترمير وترجمة دو سلان، والمفقودة في طبعة بولاق، وسائر طبعات مصر وبيروت المتداولة بين الأيدي.
يأتي الفصل في الباب الثالث بعد فصل «طروق الخلل للدولة»، والآراء الواردة فيه إنما هي بمثابة «توضيح وتوسيع» للآراء المسرودة في الفصل المذكور. (1)
يبدأ ابن خلدون هذا الفصل بتذكير وتلخيص ما كان كتبه في أحد الفصول من الباب الثالث: «قد كان تقدم لنا في فصل الخلافة والملك - وهو الثالث من هذه المقدمة - أن كل دولة لها حصة من الممالك والعمالات لا تزيد عليها، واعتبر ذلك بتوزيع عصابة الدولة على أقطارها وجهاتها، فحيث نفد عددهم، فالطرف الذي انتهى عنده هو الثغر، ويحيط الدولة من سائر جهاتها كالنطاق.»
يلاحظ أن الفصل الذي يشير إليه هنا هو الفصل الذي يقرر «أن كل دولة لها حصة من الأوطان لا تزيد عليها»، والفرق بين هذا الملخص وبين الفصل المذكور ينحصر فيما يلي: يستعمل ابن خلدون هنا تعبير «الممالك والعمالات »، عوضا عن تعبير «الممالك والأوطان» الذي كان قد استعمله هناك، كما أنه يعرف هنا مفهوم «الثغر» تعريفا واضحا، بعد أن كان قد استعمله هناك من غير تعريف. (2)
بعد هذه الفقرة التمهيدية تأتي فقرة تشير إلى سعة الدولة الجديدة بالنسبة إلى سابقتها: «وقد تكون النهاية هي نطاق الدولة الأول، وقد يكون أوسع منه إذا كان عدد العصابة أوفر من الدولة فيها، وهذا كله عندما تكون الدولة في شعار البداوة وخشونة البأس.»
هنا نجد تأكيدا من ابن خلدون على ما يذهب إليه من أن قوة الدولة وسعتها مشروطة باتصافها بشعار البداوة وخشونتها. (3)
يعقب ذلك فقرتان طويلتان في كيفية اختلال أحوال الدولة: «فإذا استفحل العز والغلب، وتوفرت النعم والأرزاق بدرور الجبايات، وزخر بحر الترف والحضارة، ونشأت الأجيال على اعتياد ذلك؛ لطفت أخلاق الحامية، ورقت حواشيهم، وعادت من ذلك إلى نفوسهم هيأة الجبن والكسل، بما يعانونه من حنث الحضارة المؤدي إلى الانسلاخ من شعائر البأس والرجولية، بمفارقة البداوة وخشونتها. ويأخذهم العز بالتطاول إلى الرئاسة والتنازع فيها؛ فيفضي إلى قتل بعضهم بعضهم، ويكبحهم السلطان عن ذلك، بما يؤدي إلى قتل أكابرهم وإهلاك رؤسائهم؛ فتفقد الأمراء والكبراء، ويكثر التابع والمرءوس؛ فيفل ذلك من حد الدولة، ويكسر من شوكتها، ويقع الخلل الأول في الدولة، وهو الذي من جهة الجند والحامية كما تقدم. «ويساوق ذلك السرف في النفقات، بما يعتريهم من أبهة العز وتجاوز الحدود في البذخ بالمناغاة في المطاعم والملابس وتشييد القصور واستجادة السلاح وارتباط الخيول، فيقصر حينئذ دخل الدولة من خرجها، ويطرق الخلل الثاني في الدولة، وهو الذي من جهة المال والجباية.»
إن ما جاء في هاتين الفقرتين بمثابة تلخيص موجز لما ذكر في الفصل السابق عن كيفية طروق الخلل للدولة. كان قال ابن خلدون هناك: إن الخلل يأتي إما من جهة الجند والحامية، وإما من جهة المال والجباية. ونراه يسمي هنا كل جهة من هاتين الجهتين باسم خاص؛ ينعت الخلل المتأتي من أحوال الجند الحامية باسم «الخلل الأول»، كما ينعت الخلل المتأتي من جهة المال والجباية باسم «الثاني». (4)
بعد ذلك يشرح ابن خلدون ما يحدث من اجتماع هذين الخللين: «ويحصل العجز والانتقاص بوجود الخللين، وبما تنافس رؤساؤهم وتنازعوا وعجزوا عن مغالبة المجاورين والمنازعين ومدافعتهم، وربما اغتر أهل الثغور والأطراف بما يحسون من ضعف الدولة وراءهم، ويعجز صاحب الدولة عن حملهم على الجادة؛ فيضيق نطاق الدولة عما كانت انتهت إليه في أولها، وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه، إلى أن يحدث في النطاق الثاني ما حدث في الأول بعينه؛ من العجز والكسل في العصابة، وقلة الأموال والجباية.» «فيذهب القائم بالدولة إلى تغيير القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة من قبل الجند والمال والولايات؛ ليجري حالها على استقامة، بتكافؤ الدخل والخرج والحامية والعمالات وتوزيع الجباية على الأرزاق، ومقايسة ذلك بأول الدول في سائر الأحوال.» «والمفاسد مع ذلك متوقعة من كل جهة، فيحدث في هذا الطور من بعد، ما حدث في الأول من قبل، ويعتبر صاحب الدولة ما اعتبره الأول، ويقايس بالوزان الأول أحوالها الثانية، يروم دفع مفاسد الخلل الذي يتجدد في كل طور، ويأخذ من كل طرف حتى يضيق نطاقها إلى نطاق دونه كذلك، ويقع فيه ما وقع في الأول.»
يلاحظ أن ابن خلدون يذكر هنا «القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة»، ويشير إلى تغيير تلك القوانين.
ومع ذلك فإنه لا يذهب إلى أن هذا التدبير يكون علاجا شافيا تماما، مع أنه يعتبر تغيير تلك القوانين بمثابة إنشاء دولة وتجديد ملك: «وكل واحد من هؤلاء المغيرين للقوانين قبلهم كأنهم منشئون دولة أخرى، ومجددون ملكا حتى تنقرض الدولة وتتطاول الأمم حولها إلى التغلب عليها، وإنشاء دولة أخرى لهم، فيقع في ذلك ما قدر الله وقوعه.» (5)
بعد سرد هذا النظرية وشرحها على هذا المنوال يستشهد ابن خلدون على صحتها بتاريخ الإسلام، ويرسم لنا لوحة ممتعة للتاريخ المذكور: «واعتبر ذلك في الدولة الإسلامية، كيف اتسع نطاقها بالفتوحات والتغلب على الأمم، تزايد الحامية وتكاثر عددهم بما تخولوه من النعم والأرزاق، إلى أن انقرض أمر بني أمية، وغلب بنو العباس. ثم تزايد الترف، ونشأت الحضارة، وطرق الخلل، وضاق النطاق من الأندلس والمغرب بحدوث الدولة الأموية المروانية والعلوية، واقتطعوا ذينك الثغرين من نطاقها. إلى أن وقع الخلاف بين بني الرشيد، وظهر دعاة العلوية في كل جانب، وتمهد لهم دول. ثم قتل المتوكل، واستبد الأمراء على الخلفاء وحجروهم، واستقل الولاة بالعمالات والأطراف، وانقطع الخراج منها وتزايد الترف.» «وجاء المعتضد فغير قوانين الدولة إلى قانون آخر من السياسة؛ أقطع فيه ولاة الأطراف ما غلبوا عليه مثل بني سامان وراء النهر، وبني طاهر العراق وخراسان، وبني الصفار السند وفارس، وبني طولون مصر، وبني الأغلب إفريقية. إلى أن افترق أمر العرب وغلب العجم، واستبد بنو بويه والديلم بدولة الإسلام، وحجروا الخلافة، وبقي بنو سامان في استبدادهم وراء النهر، وتطاول الفاطميون من المغرب إلى مصر والشام فملكوه.» «ثم قامت الدولة السلجوقية من الترك، فاستولوا على ممالك الإسلام، وأبقوا الخلفاء في حجرهم إلى أن تلاشت دولتهم.» «واستبد الخلفاء منذ عهد الناصر في نطاق أضيق من هالة القمر، وهو عراق العرب إلى أصبهان وفارس والبحرين، وأقامت الدولة كذلك بعض الشيء، إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن طولى بن دوش خان ملك التتر والمغول، حين غلبوا السلجوقية وملكوا ما كان في أيديهم من ممالك الإسلام.»
يلاحظ أن هذه اللوحة التاريخية أتم من جميع التلخيصات التي نشاهدها في الأقسام المختلفة من المقدمة ومن التاريخ نفسه. (6)
بعد الانتهاء من هذا الاستعراض التاريخي، يعمم ابن خلدون هذه الأحوال على جميع الدول، وينهي أحكامه في هذا المضمار بهذه الأحكام القطعية: «وهكذا يتضايق نطاق كل دولة على نسبة نطاقها الأول، ولا يزال طورا بعد طور، إلى أن تنقرض الدولة.» «واعتبر ذلك في كل دولة عظمت أو صغرت.»
وفي الأخير يذكر ابن خلدون سنة الله في الدول، وينهي الفصل بآية قرآنية وفق عادته العامة: «فهكذا سنة الله في الدول، إلى أن يأتي ما قدر الله من الفناء على خلقه، وكل شيء هالك إلا وجهه.» (هذا الفصل منقول من طبعة كاترمير، ج2، ص114-117.) (5) قيام الدول المستجدة
يقرر ابن خلدون في فصل خاص «أن الدولة المستجدة» إنما تستولي على الدولة المستقرة - وتظفر بمطلوبها منها - «بالمطاولة لا بالمناجزة»، ويعني بذلك أن هذا الاستيلاء إنما يتم بالتدريج وبمرور الزمان لا فورا.
من المعلوم أن ابن خلدون يذهب إلى أن الدول المستجدة نوعان؛ النوع الأول من ولاية الأطراف، والنوع الثاني من الدعاة والخوارج على الدولة. ويقول إن ولاة الأطراف حينما يستقلون بالأمر يقنعون عادة بما في أيديهم، وهو نهاية قوتهم، فلا يقع منهم مطالبة للدولة، ولكن «الدعاة والخوارج على الدولة لا بد لهم من المطالبة؛ لأن قوتهم وافية بها. فإن ذلك إنما يكون في نصاب يكون له من العصبية والاعتزاز ما هو كفاء ذلك وواف به؛ فيقع بينهم وبين الدولة المستقرة حروب سجال، تتكرر وتتصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظفر بالمطلوب، ولا يحصل لهم ظفر في الغالب بالمناجزة» (ص299).
وأما أسباب ذلك فإن ابن خلدون يشرحها بتفصيل:
إنه يذكرنا أولا بما قاله عن أسباب الغلب في الحروب: «إن الظفر في الحروب إنما يقع - كما قدمناه - بأمور نفسانية وهمية، وإن كان العدد والسلاح وصدق القتال كفيلا به، ولكنه قاصر مع تلك الأمور الوهمية كما مر؛ ولذلك كان الخداع من أرفع ما يستعمل في الحرب، وأكثر ما يقع الظفر به، وفي الحديث: الحرب خدعة» (ص299).
إن الخدع التي تضمن الظفر والغلب على الدولة المستقرة لا تعمل عملها دفعة، بل إنها تحتاج إلى زمان، كما يتضح من التفاصيل التالية:
أولا: «إن العوائد المألوفة» تصير طاعة الدولة المستقرة «ضرورية واجبة»، كما تقدم في غير موضع؛ «فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدولة المستجدة». والتغلب على تلك العوائد والعوائق إنما يتطلب زيادة الهمم من أتباعه وأهل شوكته، ويحتاج إلى زمان. «وإن كان الأقربون من بطانة صاحب الدولة المستجدة على بصيرة في طاعته ومؤازرته»، إلا أن الآخرين يكونون تحت تأثير «عقائد التسليم للدولة المستقرة، فيحصل بعض الفتور منهم»، ولا يكاد صاحب الدولة المستجدة «يقاوم صاحب الدولة المستقرة»،
2
ويرجع إلى الصبر والمطاولة، حتى يتضح هرم الدولة المستقرة، وتضمحل عقائد التسليم لها من قومه، وتنبعث منهم الهمم لصدق المطالبة معه؛ فيقع الظفر والاستيلاء» (ص299).
ثانيا:
إن الدولة المستقرة تكون - عادة - «كثيرة الرزق بما استحكم لهم من الملك وتوسع النعيم واللذات، واختصوا به دون غيرهم من أموال الجباية، فيكثر عندهم ارتباط الخيول، واستجادة الأسلحة، ويعظم فيهم الأبهة الملكية، ويفيض العطاء بينهم من ملوكهم اختيارا واضطرارا؛ فيرهبون بذلك كله عدوهم»، في حين أن «أهل الدولة المستجدة بمعزل عن ذلك؛ لما هم فيه من البداوة وأحوال الفقر والخصاصة ، فتسبق إلى قلوبهم أوهام الرعب بما يبلغهم من أحوال الدولة المستقرة، ويحجمون عن قتالهم من أجل ذلك؛ فيصير أمرهم إلى المطاولة، حتى تأخذ المستقرة مأخذها من الهرم، ويستحكم الخلل فيها من العصبية والجباية، فينتهز حينئذ صاحب الدولة المستجدة فرصته في الاستيلاء عليها»، وذلك بعد مرور مدة على بدء المطالبة (ص299).
ثالثا:
يصعب على أهل الدولة المستجدة أن يطلعوا على أحوال الدولة المستقرة اطلاعا يضمن لهم إصابة الغرة؛ وذلك لأن «أهل الدولة المستجدة كلهم مباينون للدولة المستقرة بأنسابهم وعوائدهم وسائر مناصبهم، ثم هم مفاخرون لهم، ومنابذون بما وقع من هذه المطالبة وبطمعهم في الاستيلاء. فتتمكن المباعدة بين أهل الدولتين سرا وجهرا، ولا يصل إلى أهل الدولة المستجدة خبر عن أهل الدولة المستقرة يصيبون منه غرة باطنا وظاهرا؛ لانقطاع المداخلة بين الدولتين فيقيمون على المطالبة» وهم في إحجام، و«ينكلون عن المناجزة» (ص300).
ويستمر الحال على هذا المنوال من المطالبة إلى أن يزداد الخلل في جميع جهات الدولة المستقرة، ويتضح لأهل الدولة المستجدة مع الأيام ما كان يخفى عنهم من هرمها وتلاشيها.
والدولة المستجدة تقتطع من الدولة المستقرة بعض أعمالها وأطرافها مرة بعد أخرى، ولكل مرة تعظم قوة الدولة المستجدة وتنقص قوة المستقرة بطبيعة الحال، وإذا استمرت الأمور على هذا المنوال مدة من الزمن، «تنبعث همم» أهل الدولة المستجدة «يدا واحدة للمناجزة، ويذهب ما كان بث في عزائمهم من التوهمات، وتنتهي المطاولة إلى حدها، ويقع الاستيلاء آخرا بالمعاجلة» (ص300).
بعد سرد هذه الدلائل والملاحظات العقلية يستشهد ابن خلدون بسلسلة من الوقائع التاريخية، ويذكر ما حدث من أمثال ذلك في الدول الإسلامية المختلفة، منذ قيام بني العباس على الدولة الأموية، مشيرا إلى مطالبات وفتوحات العلويين والعبيديين والسلجوقيين والمرابطين والموحدين. وبعد ذلك يقول: «فهكذا حال الدولة المستجدة مع المستقرة في المطالبة والمطاولة، سنة الله في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا» (ص301).
ولكنه يلاحظ في الوقت نفسه أن هناك واقعة تاريخية منافية لما قرره في هذا الصدد؛ وهي الفتوحات التي حدثت في صدر الإسلام ، ومع هذا إنه يبقى متمسكا بالقانون الذي قرره؛ لأنه يعتقد أن تلك الفتوحات كانت من آثار المعجزات: «ولا يعارض ذلك بما وقع في الفتوحات الإسلامية، وكيف كان استيلاؤهم على فارس والروم لثلاث أو أربع من وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم ، واعلم أن ذلك إنما كان معجزة من معجزات نبينا، سرها استماتة المسلمين في جهاد عدوهم؛ استبعادا بالإيمان، وما أوقع الله في قلوب عدوهم من الرعب والتخاذل، فكان ذلك كله خارقا للعادة المقررة في مطاولة الدول المستجدة للمستقرة. وإذا كان ذلك خارقا فهو من معجزات نبينا - صلوات الله عليه - المتعارف ظهورها في الملة الإسلامية، والمعجزات لا يقاس عليها الأمور العادية ولا يعترض بها» (ص301).
الحروب
يخصص ابن خلدون فصلا طويلا من فصول الباب الثالث للحروب، يتكلم فيه عن منشأ الحروب، ويشرح «مذاهب الأمم في ترتيبها»، ويتحرى أسباب الغلبة والظفر فيها (ص270-279).
زد على ذلك أنه يتطرق إلى مسائل الحروب والجيوش في بعض الفصول الأخرى أيضا: (أ)
يبحث في الأساطيل وفي قيادة الأساطيل، في فصل مراتب الملك والسلطان (ص252-256). (ب)
يتكلم عن تأثير الموسيقى والرايات في الحروب، في بحث الآلة (ص258-270) من فصل شارات الملك والسلطان. (ج)
يتكلم عن الفساطيط والسياج (ص268-269) في الفصل نفسه. (د)
يتطرق إلى بعض قضايا الحرب في الفصل الذي يتكلم فيه عن «التفاوت بين مراتب السيف والقلم» (ص257). (ه)
يشرح الحروب التي تنشب بين الدول المستجدة وبين الدول المستقرة، في الفصل الذي يقرر «أن الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة» (ص298-301).
إن هذه المباحث والفصول يجب أن تعتبر متممة لفصل الحروب الآنف الذكر.
1 (1)
يبدأ ابن خلدون فصل «الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها» ببيان أصل الحروب، ويقول إن الحرب أمر طبيعي في البشر: «اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله.» «وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصب لكل منها أهل عصبيته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان - إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع - كانت الحرب، وهو أمر طبعي في البشر، لا تخلو عنه أمة ولا جيل» (ص271). (2)
ثم ينتقل إلى ذكر أسباب الحروب، ويردها إلى أربعة أصول: «وسبب هذا الانتقام في الأكثر»: (أ) «إما غيرة ومنافسة.» (ب) «وإما عدوان.» (ج) «وإما غضب لله ودينه.» (د) «وإما غضب للملك وسعي لتمهيده.» «فالأول أكثر ما يجارى بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة.» «والثاني - فهو العدوان - أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين بالقفر؛ كالعرب والتركمان والأكراد وأشباههم؛ لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم، ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم، ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب، ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك، وإنما همهم ونصب أعينهم، غلب الناس على ما في أيديهم.» «والثالث هو المسمى في الشريعة بالجهاد.» «والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها، والمانعين لطاعتها.» «وهذه أربعة أصناف من الحروب؛ الصنفان الأولان منها حروب بغي وفتنة، والصنفان الأخيران حروب جهاد وعدل» (ص271). (3)
بعد تقرير غاية الحروب على هذا المنوال، يتكلم ابن خلدون عن كيفية جريان الحرب، ويقسمها من هذه الوجهة إلى نوعين أساسيين: «وصفة الحروب الواقعة بين أهل الخليفة منذ أول وجودهم على نوعين: (أ) «نوع بالزحف صفوفا.» (ب) «ونوع بالكر والفر.» «أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم، وأما الذي بالكر والفر فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب»» (ص271).
ثم يوازن بين هذين النوعين من الحروب من حيث النجاعة، ويبين رجحان قتال الزحف على قتال الكر والفر، ويشرح أسباب هذا الرجحان: «قتال الزحف أوثق وأشد من قتال الكر والفر؛ وذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف وتسوى كما تسوى القداح أو صفوف الصلاة، ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدما؛ فلذلك تكون أثبت عند المصارع، وأصدق في القتال، وأرهب للعدو؛ لأنه كالحائط الممتد والقصر المشيد لا يطمع في إزالته» (ص271).
وبعد ذلك يؤيد حكمه هذا بأدلة شرعية قائلا:
وفي التنزيل:
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ، أي يشد بعضهم بعضا بالثبات، وفي الحديث الكريم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.» «ومن هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثبات، وتحريم التولي في الزحف، فإن المقصود من الصف في القتال حفظ النظام كما قلناه، فمن ولى العدو ظهره فقد أخل بالمصاف، وباء بإثم الهزيمة إن وقعت، وصار كأنه جرها على المسلمين، وأمكن منهم عدوهم؛ فعظم الذنب لعموم المفسدة، وتعديها إلى الدين بخرق سياجه، فعد من الكبائر.» «يظهر من هذه الأدلة أن قتال الزحف أشد عند الشارع» (ص271). (4)
وبعد ذلك يوضح ابن خلدون كيفية جريان قتال الكر والفر: «وأما قتال الكر والفر فليس فيه من الشدة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزحف، إلا أنهم قد يتخذون وراءهم في القتال مصافا ثابتا، يلجئون إليه في الكر والفر، ويقوم لهم مقام قتال الزحف كما سنذكره بعد» (ص272).
وقد ذكر ذلك ابن خلدون في آخر الصفحة نفسها: «ومن مذاهب أهل الكر والفر في الحروب ضرب المصاف وراء عسكرهم، من الجمادات والحيوانات العجم، فيتخذونها ملجأ للخيالة في كرهم وفرهم، يطلبون به ثبات المقاتلة؛ ليكون أدوم للحرب وأقرب إلى الغلب» (ص273). (5)
ثم يوضح كيفية ترتيب الجنود في الحروب، ويبين أسباب وأهداف هذا الترتيب: «إن الدول القديمة الكثيرة الجنود المتسعة الممالك، كانوا يقسمون الجنود والعساكر أقساما يسمونها كراديس، ويسوون في كل كردوس صفوفه. وسبب ذلك؛ أنه لما كثرت جنودهم الكثرة البالغة، وحشدوا من قاصية النواحي، استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضا إذا اختلطوا في مجال الحرب، واعتوروا مع عدوهم الطعن والضرب، فيخشى من تدافعهم فيما بينهم؛ لأجل النكراء وجهل بعضهم ببعض. فلذلك كانوا يقسمون العساكر جموعا، ويضمون المتعارفين بعضهم لبعض، ويرتبونها قريبا من الترتيب الطبيعي في الجهات الأربع، ورئيس العساكر كلها - من سلطان أو قائد - في القلب، ويسمون هذا الترتيب التعبئة، وهو مذكور في أخبار فارس والروم والدولتين وصدر الإسلام.» «فيجعلون بين يدي الملك عسكرا منفردا بصفوفه، متميزا بقائده ورايته وشعاره، يسمونه المقدمة. ثم عسكرا آخر من ناحية اليمين عن موقف الملك وعلى سمته، يسمونه الميمنة. وعسكرا آخر من ناحية الشمال يسمونه الميسرة، ثم عسكرا آخر من وراء العسكر يسمونه الساقة. ويقف الملك وأصحابه في الوسط بين هذه الأربع ويسمون موقفه القلب.» «فإذا تم لهم هذا الترتيب المحكم، إما في مدى واحد للبصر، أو على مسافة بعيدة - أكثرها اليوم واليومان - بين كل عسكرين منهما، أو كيفما اقتضاه حال العساكر في القلة والكثرة؛ فحينئذ يكون الزحف من بعد هذه التعبئة» (ص272).
وبعد هذه التفاصيل يقول ابن خلدون إن هذا الترتيب قد أهمل في زمانه، ويشرح أسباب هذا الإهمال: «وانظر ذلك في أخبار الفتوحات وأخبار الدولتين بالمشرق، وكيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخلف عن رحيله لبعد المدى في التعبئة، فاحتيج لمن يسوقها من خلفه، وعين لذلك الحجاج بن يوسف، كما أشرنا إليه، وكما هو معروف في أخباره. وكان في الدولة الأموية بالأندلس أيضا كثير منه، وهو مجهول فيما لدينا؛ لأنا إنما أدركنا دولا قليلة العساكر، لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر، بل أكثر الجيوش من الطائفتين معا يجمعهم لدينا حلة أو مدينة، ويعرف كل واحد منهم قرنه، ويناديه في حومة الحرب باسمه ولقبه، فاستغني عن تلك التعبئة» (ص272). (6)
وبعد الانتهاء من بحث التعبئة، ينتقل ابن خلدون إلى طريقة «ضرب المصاف وراء المعسكر»:
هذه طريقة يلجأ إليها في كلا النوعين من الحرب - أي في حرب الزحف وحرب الكر والفر - ويقصد منها في كلتا الحالتين «تقوية النفوس، وشد العزائم، وزيادة الوثوق خلال الحرب».
يتألف هذا المصاف عند أهل الكر والفر - من الأمم البدوية الرحالة - من إبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم، ويتألف عند أهل الزحف من الفيلة، أو من سرير الملك.
يوضح ابن خلدون كل نوع من هذه الأنواع على حدة: (أ) «قد كان الفرس من أهل الزحف يتخذون الفيلة في الحروب، ويحملون عليها أبراجا من الخشب أمثال الصروح مشحونة بالمقاتلة والسلاح والرايات، ويصفونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون، فتقوى بذلك نفوسهم ويزداد وثوقهم.» (ب) «وأما الروم وملوك القوط بالأندلس وأكثر العجم، فكانوا يتخذون لذلك الأسرة، ينصبون للملك سريره في حومة الحرب، يحف به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه. وترفع الرايات في أركان السرير، ويحدق به سياج آخر من الرماة والرجالة، فيعظم هيكل السرير، ويصير فئة للمقاتلة وملجأ للكر والفر.» (ج) «وأما أهل الكر والفر من العرب، وأكثر الأمم البدوية الرحالة، فيصفون لذلك إبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم، فيكون فئة لهم، ويسمونها مجبودة» (ص273). «وليس أمة من الأمم إلا وهي تفعل ذلك في حروبها، وتراه أوثق في الجولة وآمن من الغرة والهزيمة.»
يذكر ابن خلدون بهذه المناسبة ما كان قد حدث في حرب القادسية، ويعلمنا أن الفرس كانوا لجئوا إلى اتخاذ الفيلة ونصب السرير في وقت واحد. «وانظر ما وقع من ذلك في حرب القادسية، وأن فارس في اليوم الثالث اشتدوا بهم (أي بالفيلة) على المسلمين، حتى اشتدت رجالات من العرب، فخالطوهم وبعجوها بالسيوف على خراطيمها، فنفرت ونكصت على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن، فجفا معسكر فارس لذلك وانهزموا في اليوم الرابع» (ص273).
وخلال هذه الحرب «كان رستم جالسا على سرير نصبه لجلوسه، حتى اختلفت صفوف فارس وخالطه العرب في سريره، فتحول عنه إلى الفرات وقتل» (ص273).
ومع ذلك يخبرنا ابن خلدون بأن في عهده هذا الأمر أيضا كان قد أهمل إهمالا كليا: «وقد أغفلته الدول لعهدنا بالجملة، واعتاضوا عنه بالظهر الحامل للأثقال والفساطيط، يجعلونها ساقة من خلفهم، ولكن تلك الأشياء «لا تغني غناء الفيلة والإبل»؛ ولذلك صارت العساكر عرضة للهزائم، ومستشعرة للفرار في المواقف» (ص273). (7)
يتوسع ابن خلدون بوجه خاص في وصف الحروب التي حدثت أول الإسلام: «كان الحرب أول الإسلام كله زحفا، وكان العرب إنما يعرفون الكر والفر، ولكن حملهم على ذلك (أي على اختيار طريقة الحرب زحفا) أمران؛ أحدهما أن أعداءهم كانوا يقاتلون زحفا، فيضطرون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم. الثاني أنهم كانوا مستميتين في جهادهم؛ لما رغبوا فيه من الصبر، ولما رسخ فيهم من الإيمان، والزحف إلى الاستماتة أقرب» (ص273).
ومع هذا إنه يعلمنا أن أصول المصاف في الحروب أهملت فيما بعد، ويذكر تاريخ ذلك: «وأول من أبطل الصف في الحروب وصار إلى التعبئة كراديس؛ مروان بن الحكم في قتال الضحاك الخارجي والجبيري بعده. قال الطبري لما ذكر قتال الضحاك: فولى الخوارج عليهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري - ويلقب بأبي الدلفاء - قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصف من يومئذ؛ فتنوسي قتال الزحف بإبطال الصف، ثم تنوسي الصف وراء المقاتلة بما داخل الدول من الترف. وذلك أنها حينما كانت بدوية وسكناهم الخيام كانوا يستكثرون من الإبل، وسكنى النساء والولدان معهم في الأحياء، فلما حصلوا على ترف الملك وألفوا سكنى القصور والحواضر، وتركوا شأن البادية والقفر؛ نسوا لذلك عهد الإبل والظعائن، وصعب عليهم اتخاذها، فخلفوا النساء في الأسفار، وحملهم الملك والترف على اتخاذ الفساطيط والأخبية، فاقتصروا على الظهر الحامل للأثقال والأبنية» (ص274). «وكان ذلك صفتهم في الحرب، ولا يغني كل الغناء؛ لأنه لا يدعو إلى الاستماتة كما يدعو إليها الأهل والمال، فيخف الصبر من أجل ذلك، وتصرفهم الهيعات وتخرم صفوفهم» (ص274).
ثم يذكر ابن خلدون الخطة التي كان قد اتخذها ملوك الغرب من ضرب المصاف باستخدام جنود من طائفة الإفرنج: «ولما ذكرناه من ضرب المصاف وراء العساكر، وتأكده في قتال الكر والفر؛ صار ملوك المغرب يتخذون طائفة من الإفرنج في جندهم، واختصوا بذلك؛ لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر والفر، والسلطان يتأكد في حقه ضرب المصاف ليكون ردءا للمقاتلة أمامه، فلا بد من أن يكون أهل ذلك الصف من قوم متعودين للثبات في الزحف، وإلا أجفلوا على طريقة أهل الكر والفر؛ فانهزم السلطان والعساكر بإجفالهم. فاحتاج الملوك بالمغرب أن يتخذوا جندا من هذه الأمة المتعودة الثبات في الزحف وهم الإفرنج، ويرتبون مصافهم المحدق بهم منها، هذا على ما فيه من الاستعانة بأهل الكفر. إنهم استخفوا ذلك للضرورة التي أريناكها من تخوف الإجفال على مصاف السلطان، والإفرنج لا يعرفون غير الثبات في ذلك؛ لأن عادتهم في القتال الزحف، فكانوا أقوم بذلك من غيرهم. مع أن الملوك في المغرب إنما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب والبربر، وقتالهم على الطاعة. وأما في الجهاد فلا يستعينون بهم حذرا من ممالأتهم على المسلمين، هذا هو الواقع لهذا العهد» (ص274). (8)
بعد هذه التفاصيل حول طرائق الحرب في المغرب، يذكر ابن خلدون ما بلغه عن طرق القتال عند أمم الترك: «وبلغنا أن أمم الترك لهذا العهد، قتالهم مناضلة بالسهام، وأن تعبئة الحرب عندهم بالمصاف، وأنهم يقسمون بثلاثة يضربون صفا وراء صف، ويترجلون عن خيولهم، ويفرغون سهامهم بين أيديهم، ثم يتناضلون جلوسا، وكل صف ردء للذي أمامه أن يكبسهم العدو، إلى أن يتهيأ النصر لإحدى الطائفتين على الأخرى، وهي تعبئة محكمة غريبة» (ص274-275). (9)
ثم يعود إلى طرائق الحرب العامة، ويصف طريقة «حفر الخنادق على المعسكرات»، ويبين فوائد تلك الخنادق وغاياتها: «كان من مذاهب الأول في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عندما يتقاربون للزحف؛ وذلك حذرا من معرة البيات والهجوم على العسكر في الليل؛ لما في ظلمته ووحشته من مضاعفة الخوف، فيلوذ الجيش بالفرار، وتجد النفوس في الظلمة سترا من عاره، فإذا تساووا في ذلك أرجف العسكر ووقعت الهزيمة.» «فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم، ويديرون الحفائر نطاقا من جميع جهاتهم؛ حرصا أن يخالطهم العدو بالبيات فيتخاذلوا» (ص275).
يلاحظ أن التعليلات التي يسردها ابن خلدون في هذا الصدد تنطوي على ملاحظات نفسية قيمة؛ فإنها تشير أولا إلى أثر الإجفال والإرجاف في الحروب، وهو ما يعرف بال
panique ، ثم إنها تقرر تأثير الليل في نفوس الجنود؛ إن ظلمة الليل تضاعف الخوف، وتحفز إلى الفرار، كما أن هذه الظلمة تكون في نظر الجنود سترا من عار الفرار، وتسهل عليهم الإقدام على الفرار. يظهر من ذلك كله أن ابن خلدون قد انتبه إلى تأثير العدوى المعشرية، وعمل الرأي العام في مقاومة الجنود أو انهزامهم. (10)
يعلمنا ابن خلدون بعد ذلك أن طريقة حفر الخنادق أيضا أهملت في زمانه، ويعزو أسباب هذا الإهمال إلى صغر الدول؛ وذلك لأن أمثال هذه الأعمال العسكرية مما لا يمكن إنجازها إلا بكثرة الأيدي العاملة والمحاربة: «وكانت للدول في أمثال هذا قوة، وعليه اقتدار باحتشاد الرجال وجمع الأيدي عليه في كل منزل من منازلهم، بما كانوا عليه من وفور العمران وضخامة الملك، فلما خرب العمران، وتبعه ضعف الدولة وقلة الجنود وعدم الفعلة، نسي هذا الشأن جملة كأنه لم يكن» (ص275).
ثم يذكر ابن خلدون «وصية علي - رضي الله عنه - وتحريضه لأصحابه يوم صفين»؛ لأنه يجد فيها الشيء الكثير «من علم الحرب»، ويقول: «لم يكن أحد أبصر بها منه» (ص275).
كما أنه يذكر ما قاله الأشتر يومئذ تحريضا للأزد، ثم ينقل قسما من القصيدة التي كتبها «أبو بكر الصيرفي، شاعر لمتونة وأهل الأندلس»، يمدح بها تاشفين بن علي بن يوسف، و«يصف ثباته في حرب شهدها»؛ لأن القصيدة المذكورة تتضمن «من الوصايا والتحذيرات ما يساعد على معرفة الشيء الكثير من أمور الحرب، وسياسة الحرب» (ص275).
ينقل ابن خلدون من هذه القصيدة واحدا وعشرين بيتا، ويقول الصيرفي في مطلع القصيدة:
يا أيها الملأ الذي يتقنع
من منكم الملك الهمام الأروع
ومن الذي غدر العدو به دجى
فانفض كل وهو لا يتزعزع
ويبدأ قسمها المتعلق بسياسة الحرب بما يلي:
أهديك من أدب السياسة ما به
كانت ملوك الفرس قبلك تولع
لا أنني أدرى بها، لكنها
ذكرى تحض المؤمنين وتنفع
ومما جاء في هذا القسم من القصيدة:
خندق عليك إذا ضربت محلة
سيان تتبع ظافرا أو تتبع
والواد لا تعبره، وانزل عنده
بين العدو وبين جيشك يقطع
ينتقد ابن خلدون قول الصيرفي في أحد أبيات القصيدة: «واصدمه أول وهلة لا تكترث»؛ لأنه يرى بأن «التثاقل في الحرب أولى من الخفوف، حتى يتبين حال تلك الحرب، وذلك عكس ما قاله الصيرفي، إلا أن يريد أن الصدم بعد البيان، فله وجه» (ص277).
2 (1)
بعد الانتهاء من شرح وتفصيل مذاهب الأمم في الحروب، ينتقل ابن خلدون إلى الكلام في أسباب الغلب والظفر، ويقرر أولا المبدأ التالي: «لا وثوق في الحرب بالظفر، وإن حصلت أسبابه من العدة والعديد، وإنما الظفر فيها والغلب من قبيل البخت والاتفاق» (ص277).
غير أنه لا يقصد من كلمة البخت هنا ما يقصد الناس منها عادة ، فلا يعني بذلك حصول الظفر بلا سبب، بل يعني حصول ذلك لأسباب نجهلها نحن، إذ يقول بصراحة: «وقوع الأشياء عن الأسباب الخفية هو معنى البخت» (ص277). «كل ما يحصل بسبب خفي، فهو الذي يعبر عنه بالبخت» (ص279). (2)
بعد تقرير هذه القضية مبدئيا يوضح ابن خلدون رأيه في هذا الأمر باستعراض أسباب الظفر في الحروب: «إن أسباب الغلب في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة، ومن أمور خفية.»
والأمور الظاهرة: هي «الجيوش ووفورها، وكمال الأسلحة واستجادتها، وكثرة الشجعان، وترتيب المصاف، ومنه صدق القتال وما جرى مجرى ذلك.»
وأما الأمور الخفية فهي أولا: «خدع البشر وحيلهم في الإرجاف والتشانيع التي يقع بها التخذيل، وفي التقدم إلى الأماكن المرتفعة لتكون الحرب من أعلى فيتوهم المنخفض لذلك، وفي الكمون في الغياض ومطمئن الأرض، والتواري بالكدي حول العدو حتى يتداولهم العسكر دفعة وقد تورطوا، فيتلمسون إلى النجاة وأمثال ذلك.»
وهناك أسباب خفية من نوع آخر؛ «فهي أمور سماوية لا قدرة للبشر على اكتسابها»، وهذه الأمور السماوية «تلقى في القلوب؛ فيستولي الرهب عليهم لأجلها، فتختل مراكزهم فتقع الهزيمة» (ص277). «وأكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفية؛ لكثرة ما يعتمل لكل واحد من الفريقين فيها حرصا على الغلب، فلا بد من وقوع التأثير في ذلك على أحدهما ضرورة؛ ولذلك قال
صلى الله عليه وسلم : «الحرب خدعة»، ومن أمثال العرب: «رب حيلة أنفع من قبيلة»» (ص277).
يتبين من ذلك كله «أن وقوع الغلب في الحروب - غالبا - عن أسباب خفية غير ظاهرة، ووقوع الأشياء عن الأسباب الخفية هو معنى البخت» (ص277).
وأما تأثير الأمور السماوية في الغلب، فهو قد تجلى في فتوحات صدر الإسلام: «وتفهم من وقوع الغلب على أمور سماوية كما شرحناه معنى قوله
صلى الله عليه وسلم : نصرت «بالرعب مسيرة شهر». وما وقع من غلبه للمشركين في حياته بالعدد القليل، وغلب المسلمون من بعده كذلك في الفتوحات. فإن الله سبحانه وتعالى تكفل لنبيه بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين؛ حتى يستولي على قلوبهم، فينهزموا معجزة لرسوله
صلى الله عليه وسلم . فكان الرعب في قلوبهم سببا في ذلك للفتوحات الإسلامية كلها، إلا أنه خفي عن العيون» (ص277). (3)
يذكر ابن خلدون رأي الطرطوشي في أسباب الغلبة في الحروب، وينتقد هذا الرأي انتقادا شديدا: «وقد ذكر الطرطوشي أن من أسباب الغلب في الحروب أن تفضل عدة الفرسان المشاهير من الشجعان في أحد الجانبين على عدتهم في الجانب الآخر؛ مثل أن يكون أحد الجانبين فيه عشرة أو عشرون من الشجعان المشاهير، وفي الجانب الآخر ثمانية أو ستة عشر، فالجانب الزائد ولو بواحد يكون له الغلب.»
غير أن ابن خلدون يعتقد أن ذلك «ليس بصحيح، وإنما الصحيح المعتبر في الغالب حال العصبية؛ مثل أن يكون في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم، وفي الجانب الآخر عصائب متعددة؛ لأن العصائب إذا كانت متعددة يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية؛ إذ تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحد، ويكون الجانب الذي عصابته متعددة لا يقاوم الجانب الذي عصابته واحدة لأجل ذلك. فتفهمه واعلم أنه أصح في الاعتبار مما ذهب إليه الطرطوشي.»
وأما سبب خطأ الطرطوشي في هذه القضية، فيعود إلى عدم تقديره لعمل العصبية: «ولم يحمله على ذلك إلا نسيان شأن العصبية في حلة وبلدة، وأنهم إنما يردون ذلك الدفاع والحماية والمطالبة إلى الوحدان والجماعة الناشئة عنهم، لا يعتبرون في ذلك عصبية ولا نسبا» (ص278).
يلاحظ أن ابن خلدون يضيف - بملاحظاته هذه - سببا جديدا إلى أسباب الغلب التي ذكرناها آنفا؛ وهو «وحدة العصبية» - وبتعبير آخر «وحدة الجيش» - من وجهة اتفاق الآراء والأهواء (ص164)، وتآلف القلوب، وحسن التعاون والتعاضد (ص157). (4)
وإذا لخصنا آراء ابن خلدون في هذا الصدد؛ وجدنا أنه يقسم أسباب الغلب والظفر في الحروب إلى صنفين أساسيين؛ الأسباب الظاهرة والأسباب الخفية، كما أنه يقسم الأسباب الخفية إلى نوعين أساسيين؛ الأسباب الطبيعية والأسباب السماوية.
يحصر ابن خلدون تأثير الأسباب السماوية في عهد النبوات والمعجزات؛ ولذلك يرد أسباب الغلبة في الأوقات الاعتيادية إلى الأسباب الظاهرية، والخفية الطبيعية.
ولكن - مما يجب الانتباه إليه - أن ما يعنيه ابن خلدون من تعبيري الأسباب الظاهرة والأسباب الخفية، لم يكن الأسباب المادية والأسباب المعنوية كما قد يخطر على البال في الوهلة الأولى؛ وذلك لأنه يذكر بين الأسباب الظاهرة صدق القتال وكثرة الشجعان، كما يذكر بين الأسباب الخفية التقدم إلى الأماكن المرتفعة، والتوسل إلى الخدع الحربية.
وإذا تأملنا في تفاصيل الأمثلة التي يذكرها ابن خلدون؛ وجدنا أن الأسباب التي يذكرها تحت اسم الخفية كلها تتعلق بمعنويات العدو، إنها الأسباب التي تولد في نفوس الأعداء الخوف والفزع والرعب؛ فتؤدي إلى انهزامهم من جراء انكسار معنوياتهم حسب التعبير المألوف في الحالة الحاضرة.
يعزو ابن خلدون إلى هذا النوع من الأسباب دورا هاما في تقرير الظفر والغلب، حتى إنه يميل إلى القول بأن تأثير هذه الأسباب يفوق تأثير الأسباب الظاهرة أيضا.
ويقرر في الوقت نفسه أن الظفر والغلب إنما يكون من نوع البخت والاتفاق؛ لكثرة الأسباب الخفية التي تؤثر فيها.
كما أنه يقرر أن الفتوحات التي تمت في صدر الإسلام مما لا يمكن تفسيره إلا بالمعجزات، وبتعبير آخر إلا بالأسباب السماوية التي تلقي الرعب والخوف في قلوب الأعداء.
3 (1)
يدون ابن خلدون - في فصل «مراتب الملك والسلطان» (ص252-256) - معلومات قيمة جدا عن القوى البحرية والأساطيل، ويبدي بعض الملاحظات والتعليلات خلال تلك المعلومات.
فيقول أولا: إن قيادة الأساطيل «من مراتب الدولة وخططها في ملك المغرب وإفريقية، ومرءوسة لصاحب السيف وتحت حكمه في كثير من الأحوال».
ثم يبين أسباب اختصاص هذه الرتبة بإفريقية والمغرب قائلا: «إنما اختصت هذه الرتبة بملك إفريقية والمغرب؛ لأنهما جميعا على ضفة البحر الرومي.»
وبعد ذلك يشرح الدور الذي لعبه البحر المذكور - الذي يسمى البحر الشامي أيضا - في تكوين الأساطيل وفي فتوحات الأمم: «والساكنون بسيف هذا البحر وسواحله وعدوتيه يعانون من أحواله ما لا تعانيه أمة من أمم البحار.» «إن الروم استولوا على إفريقية، والقوط على المغرب بفضل أساطيلهم، وكان صاحب قرطاجنة من قبلهم يحارب صاحب روما، ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد، فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر الساكنين حفافيه، معروفة في القديم والحديث» (ص252). (2)
بعد هذه المقدمات يتكلم ابن خلدون عن نشوء الأساطيل في الدول العربية الإسلامية:
إن العرب اتصلوا بالبحر الرومي (أي الشامي) عندما ملكوا مصر، ولكنهم لم يقدموا على ركوبه في بادئ الأمر، بل أحجموا عن ذلك إحجاما. «والسبب في ذلك أن العرب - لبداوتهم - لم يكونوا مهرة في ثقافته وركوبه»، في حين «أن الروم والإفرنجة - لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على أعواده - مرنوا وأحكموا الدراية بثقافته» (ص253).
ولكن إحجام العرب عن ركوب البحر لم يستمر طويلا؛ لأن اتصالهم بالبحر الرومي زاد وتوسع توسعا كبيرا بعدما ملكوا الشام أيضا؛ ولذلك أخذوا يهتمون بالسفن والأساطيل شيئا فشيئا.
إن هذا الاهتمام بدأ من عهد معاوية: «لما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم، وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم، وتقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته، واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما، وتكررت ممارستهم للبحر وثقافته، واستحدثوا بصراء بها، فشرهوا إلى الجهاد فيه، وأنشئوا السفن فيه والشواني، وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح، وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر، واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته، مثل الشام وإفريقية والمغرب والأندلس.» «وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسان بن نعمان عامل إفريقية، بإنجاز دار صناعة بتونس؛ لإنشاء الآلات البحرية حرصا على مراسم الجهاد، ومنها كان فتح صقلية، وقوصرة» (ص253). «وكانت من بعد ذلك أساطيل إفريقية والأندلس في دولة العبيدين والأمويين تتعاقب إلى بلادهما، «وانتهى أسطول الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب أو نحوها، وأسطول إفريقية كذلك مثله أو قريبا منه»» (ص253). (3)
ثم يشرح ابن خلدون كيفية إدارة الأساطيل في الأندلس، قائلا: «وكان قائد الأساطيل في الأندلس ابن رماحس، ومرفأها للحط والإقلاع بجاية والمرية، وكانت أساطيلها مجتمعة من سائر الممالك، من كل بلد تتخذ فيه السفن أسطولا، يرجع نظره إلى قائد من النواتية يدبر أمر حربه وسلاحه ومقاتلته، ورئيس يدبر أمر جريه بالريح أو بالمجاذيف، وأمر إرسائه في مرفئه. فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطاني مهم، عسكرت بمرفئها المعلوم، وشحنها السلطان برجاله وأنجاد عساكره ومواليه، وجعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته، يرجعون كلهم إليه، ثم يسرحهم لوجههم، وينتظرون إيابهم بالفتح والغنيمة» (ص254). (4)
بعد ذلك يقرر ابن خلدون أن المسلمين كانوا قد سيطروا على البحر الرومي من جميع جوانبه: «كان المسلمون لعهدة الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه، وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه، وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم، فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم، وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه؛ مثل ميورقة، ومنورقة، ويابسة سردانية، وصقلية، وقوصرة، ومالطة، وأقريطش، وقبرص، وسائر ممالك الروم والإفرنج. وكان أبو قاسم الشيعي وأولاده يغزون أساطيلهم من المهدية جزيرة جنوة، فتنقلب بالظفر والغنيمة.» «والمسلمون خلال ذلك كله قد تغلبوا على كثير من لجة هذا البحر، وصارت أساطيلهم فيه جائية وذاهبة، والعساكر الإسلامية تجيز البحر في الأساطيل من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية، فتوقع بملوك الإفرنج، وتثخن في ممالكهم» (ص254). «وانحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي منه من سواحل الإفرنجة والصقالبة وجزائر الرومانية لا يعدونها، وأساطيل المسلمين قد ضريت عليهم ضراء الأسد على فريسته، وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدة وعددا، واختلفت في طرقه سلما وحربا، فلم تسبح للنصرانية فيه ألواح» (ص254). (5)
ولكن بعد ذلك انقلبت الأمور رأسا على عقب؛ فالفرنجة أخذوا يسيطرون أولا على القسم الشرقي من البحر الرومي، وأما القسم الغربي منه فبقي مدة أخرى تحت سيطرة المسلمين، إلى أن أخذ الفرنجة يتغلبون عليهم في هذا القسم أيضا. «حتى إذا أدرك الدولة العبيدية الفشل والوهن وطرقها الاعتلال؛ مد النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية؛ مثل صقلية، وأقريطش، ومالطة، فملكوها، ثم ألحوا على سواحل الشام في تلك الفترة، وملكوا طرابلس وعسقلان وصور وعكاء، واستولوا على جميع الثغور بسواحل الشام.» «ثم غلبوا بني خزرون على طرابلس ثم على قابس وصفاقس، ووضعوا عليهم الجزية ثم ملكوا المهدية مقر ملوك العبيديين» (ص254). «وضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن انقطع، ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد، كما هو معروف في أخبارهم، فبطل رسم هذه الوظيفة (وظيفة قيادة الأساطيل)، وبقيت في إفريقية والمغرب، وصارت مختصة بها» (ص255).
يشرح ابن خلدون بعد ذلك كيف أن أساطيل المسلمين ظلت موفورة وقوية «في الجانب الغربي من البحر الرومي» في عهد الموحدين، وكيف أنها انتهت في عهد يوسف بن عبد المؤمن «في الكثرة والإجادة ما لم تبلغ به من قبل ولا بعد فيما عهدناه»، وكيف أنها أخذت تتراجع «لما اعتلت دولة الموحدين». «ولما هلك أبو يعقوب المنصور واعتلت دولة الموحدين، واستولت أمم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس، وألجئوا المسلمين إلى سيف البحر، وملكوا الجزائر التي بالجانب الغربي من البحر الرومي؛ قويت ريحهم في بسيط هذا البر واشتدت شوكتهم، وكثرت فيه أساطيلهم، وتراجعت قوة المسلمين فيه إلى المساواة معهم، كما وقع لعهد السلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب، فإن أساطيلهم كانت - عند مرامه الجهاد - مثل النصرانية وعديدهم.» «ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل؛ لضعف الدولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب، وانقطاع العوائد الأندلسية. ورجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه والمران عليه والبصر بأحواله، وغلب الأمم في لجته على أعواده، وصار المسلمون فيه كالأجانب، إلا قليلا من أهل البلاد الساحلية لهم المران عليه» (ص256). (6)
يعتقد ابن خلدون أن كل ذلك من نتائج الإهمال وعدم العناية، ويقول بأن الأمور قد ترجع إلى ما كانت عليه لو أن الذين لهم المران على ركوب البحر «وجدوا كثرة من الأنصار والأعوان، أو قوة من الدولة تستجيش لهم أعوانا، وتوضح لهم في هذا الغرض مسلكا» (ص256).
ويكرر ابن خلدون بعد ذلك ما كان قاله عن قيادة الأساطيل: «بقيت الرتبة لهذا العهد في الدولة المغربية محفوظة، والرسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء والركوب معهودا؛ لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السلطانية في البلاد البحرية، والمسلمون يستهبون الريح على الكفر وأهله» (ص256).
ويعلمنا في الأخير أن أهل المغرب كانوا يعتقدون أن الإسلام سيعود إلى ما كان عليه من القوة في تلك الربوع: «فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الحدثان أنه لا بد للمسلمين من الكرة على النصرانية وافتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة، وأن ذلك يكون في الأساطيل» (ص256).
4 (1)
يتكلم ابن خلدون - في فصل من فصول الباب الثالث - عن «شارات الملك والسلطان الخاصة به» (258-270)، ويذكر من هذه الشارات أولا ما يسميها باسم «الآلة» - ويقصد بها الرايات والآلات الموسيقية - ويشرح تأثيرها في الحروب: «فمن شارات الملك اتخاذ الآلة من نشر الألوية والرايات، وقرع الطبول، والنفخ في الأبواق والقرون.» «وقد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السياسة أن السر في ذلك إرهاب العدو في الحرب، فإن الأصوات الهائلة لها تأثير في النفوس بالروعة، ولعمري أنه أمر وجداني في مواطن الحرب، يجده كل واحد في نفسه، وهذا السبب الذي ذكره أرسطو - إن كان ذكره
1 - فهو صحيح ببعض الاعتبارات.» «وأما الحق في ذلك؛ فهو أن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك، فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب، ويستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه، وهذا موجود حتى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء، والخيل بالصفير والصريخ كما علمت.» «ويزيد ذلك تأثيرا إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء، وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى؛ لأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقية، لا طبلا ولا بوقا. فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة» (ص258). «ولقد رأينا في حروب العرب من يتغنى أمام الموكب بالشعر ويطرب، فتجيش همم الأبطال بما فيها، ويسارعون إلى مجال الحرب، وينبعث كل قرن إلى قرنه.» «وكذلك زناتة من أمم المغرب، يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف ويتغنى، فيحرك بغنائه الجبال الرواسي ويبعث على الاستماتة.» «وأما أصل كل ذلك؛ فهو فرح يحدث في النفس؛ فتنبعث عنه الشجاعة، كما تنبعث عن نشوة الخمر بما حدث عنها من الفرح.» «وأما تكثير الرايات وتلوينها وإطالتها، فالقصد به التهويل لا أكثر، وربما تحدث في النفوس من التهويل زيادة في الإقدام، وأحوال النفوس وتلويناتها غريبة» (ص258). (2)
بعد ذلك يشرح ابن خلدون خطط الملوك والدول في أمر هذه الشارات، ويتتبع بوجه خاص تطورها في الدول الإسلامية المختلفة، ويستعرض أنواعها - بهذه المناسبة - من حيث العدد واللون والشكل: «إن الملوك والدول يختلفون في اتخاذ هذه الشارات؛ فمنهم مكثر ومنهم مقل، بحسب اتساع الدولة وعظمها.» «فأما الرايات فإنها شعار الحروب من عهد الخليقة، ولم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب والغزوات لعهد النبي
صلى الله عليه وسلم
ومن بعده من الخلفاء.» «وأما قرع الطبول، والنفخ في الأبواق، فكان المسلمون - لأول الملة - متجافين عنه؛ تنزها عن غلظة الملك، ورفضا لأحواله، واحتقارا لأبهته التي ليست من الحق في شيء. حتى إذا انقلبت الخلافة ملكا، وتبحبحوا بزهرة الدنيا ونعيمها، ولابسهم الموالي من الفرس والروم أهل الدول السالفة، وأروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ والترف؛ فكان مما استحسنوه اتخاذ الآلة فأخذوها، وأذنوا لعمالهم في اتخاذها تنويها بالملك وأهله» (ص259).
بعد هذه النظرة العامة يتوسع ابن خلدون في الكلام عن أنواع الرايات: «إن رايات بني العباس كانت سودا؛ حزنا على شهدائهم من بني الهاشم، ونعيا على بني أمية في قتلهم؛ ولذلك سموا المسودة.» «ولما افترق أمر الهاشميين، وخرج الطالبيون على العباسيين من كل جهة، ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك، فاتخذوا الرايات بيضا، وسموا المبيضة لذلك سائر أيام العبيديين ومن خرج من الطالبيين في ذلك العهد بالمشرق.» «ولما نزع المأمون عن لبس السواد وشعاره في دولته، عدل إلى لون الخضرة فجعل رايته خضراء.» «وأما ملوك البربر بالمغرب - من صنهاجة وغيرها - فلم يختصوا بلون واحد، بل وشوها بالذهب، واتخذوها من الحرير الخالص ملونة» (ص259).
وأما عدد الآلة - من رايات وبنود - فيتكلم ابن خلدون عنها كما يلي: «وأما الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حد، وقد كانت آلة العبيديين - لما خرج العزيز إلى فتح الشام - خمسمائة من البنود وخمس مئة من الأبواق.» «وأما ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة وغيرها، فهم فيه بين مكثر ومقل باختلاف مذاهب الدول في ذلك؛ فمنهم من يقتصر على سبعة من العدد تبركا بالسبعة - كما هو في دولة الموحدين وبني الأحمر بالأندلس - ومنهم من يبلغ العشرة والعشرين - كما هو عند زناتة (ص259). وقد بلغت في أيام السلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائة من الطبول ومائة من البنود، ملونة بالحرير، منسوجة بالذهب، ما بين كبير وصغير» (ص260).
وأما رايات أصحاب الثغور وقواد الجيش، فيعطينا ابن خلدون عنها المعلومات التالية: «حينما بدأ الخلفاء في اتخاذ الآلة أذنوا لعمالهم أيضا في اتخاذها تنويها بالملك وأهله، فكثيرا ما كان العامل - صاحب الثغر أو قائد الجيش - يعقد له الخليفة من العباسيين أو العبيديين لواءه، ويخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرايات، فلا يميز بين موكب العامل والخليفة إلا بكثرة الألوية وقلتها، أو ما اختص به الخليفة من الألوان لرايته» (ص259). «وأما ملوك البربر في المغرب - من صنهاجة وغيرها - فقد استمروا على الإذن فيها لعمالهم، حتى إذا جاءت دولة الموحدين ومن بعدهم من زنانة، قصروا الآلة من الطبول والبنود على السلطان، وحظروها على من سواه من عماله، وجعلوا لها موكبا خاصا يتبع أثر السلطان في سيره يسمى الساقة» (ص259). «ولكنهم كانوا يأذنون للولاة والعمال في اتخاذ راية واحدة صغيرة من الكتان بيضاء، وطبل صغير أيام الحرب، لا يتجاوزون ذلك» (ص260). (3)
يذكر ابن خلدون خطة الأتراك والجلالقة أيضا في هذا الشأن: «وأما دولة الترك لهذا العهد بالمشرق، فيتخذون راية واحدة عظيمة، وفي رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش والجتر، وهي شعار السلطان عندهم، ثم تتعدد الرايات ويسمونها السناجق، واحدها سنجق، وهي الراية بلسانهم. وأما الطبول فيبالغون في الاستكثار منها، ويسمونها الكوسات، ويبيحون لكل أمير أو قائد عسكر أن يتخذ من ذلك ما يشاء إلا الجتر فإنه خاص بالسلطان.» «وأما الجلالقة لهذا العهد في أمم الإفرنجة بالأندلس فأكثر شأنهم اتخاذ الألوية القليلة ذاهبة في الجو صعدا، ومعها قرع الأوتار من الطنابير ونفخ الغيطات، فيذهبون فيها مذاهب الغناء وطريقه في مواطن حروبهم، هكذا يبلغنا عنهم وعمن وراءهم من ملوك العجم» (ص260).
5 (1)
يتكلم ابن خلدون في بحث الفساطيط والسياج من فصل شارات الملك أيضا عن بعض الأمور المتعلقة بالحروب والعساكر (ص267-269): «كان العرب لعهد الخلفاء الأولين من بني أمية، إنما يسكنون بيوتهم التي كانت لهم خياما من الوبر والصوف، ولم يزل العرب لذلك العهد بادين إلا الأقل منهم، فكانت أسفارهم لغزواتهم وحروبهم بظعونهم وسائر حللهم وأحيائهم من الأهل والولد، كما هو شأن العرب لهذا العهد. وكانت عساكرهم لذلك كثيرة الحلل بعيدة ما بين المنازل متفرقة الأحياء، يغيب كل واحدة منها عن نظر صاحبه من الأخرى كشأن العرب»؛ ولذلك «كان عبد الملك يحتاج إلى ساقة تحشد الناس على أثره أن يقيموا إذا ظعن. ونقل أنه استعمل في ذلك الحجاج حين أشار به روح بن زنباع، وقصتهما في إحراق فساطيط روح وخيامه لأول ولايته حين وجدهم مقيمين في يوم رحيل عبد الملك قصة مشهورة» (ص268). «فلما تفننت الدولة العربية في مذاهب الحضارة والبذخ، ونزلوا المدن والأمصار، وانتقلوا من سكنى الخيام إلى سكنى القصور، ومن ظهر الخف إلى ظهر الحافر؛ اتخذوا للسكنى في أسفارهم ثياب الكتان، يستعملون منها بيوتا مختلفة الأشكال مقدرة الأمثال - من القوراء والمستطيلة والمربعة - ويحتفلون فيها بأبلغ مذاهب الاحتفال والزينة. ويدير الأمير والقائد للعساكر على فساطيطه وفاراته من بينهم سياجا من الكتان، يختص به السلطان بذلك القطر لا يكون لغيره. وأما في المشرق فيتخذه كل أمير وإن كان دون السلطان.» «ثم جنحت الدعة بالنساء والولدان إلى المقام بقصورهم ومنازلهم؛ فخف لذلك ظهرهم، وتقاربت السياج بين منازل العسكر، واجتمع الجيش والسلطان في معسكر واحد، يحصره البصر في بسيطة زهوا أنيقا لاختلاف ألوانه. واستمر الحال على ذلك في مذاهب الدول في بذخها وترفها» (ص268).
يقرر ابن خلدون أن مثل ذلك حدث في دولة الموحدين وزناتة أيضا، ويختم ببيان المحاذير التي تنشأ عن ذلك: «العساكر به تصير عرضة للبيات؛ لاجتماعهم في مكان واحد، تشملهم فيه الصيحة، وخفتهم من الأهل والولد الذين تكون الاستماتة دونهم، فيحتاج في ذلك إلى تحفظ آخر» (ص268-269). (2)
يخصص ابن خلدون فصلا صغيرا من فصول الباب الثالث لذكر «التفاوت بين أصحاب السيف والقلم في الدول» (ص257).
يقرر في هذا الفصل أن مراتب السيف تكون أهم من مراتب القلم في عهد تأسس الدولة وفي أواخر حياتها. وبعكس ذلك؛ فإن مراتب القلم تكون أهم من مراتب السيف في أواسط الدولة. وأما أسباب ذلك فهو ما يلي: «إن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بها على أمره، إلا أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف - ما دام أهلها في تمهيد أمرهم - أشد من الحاجة إلى القلم؛ لأن القلم في تلك الحالة خادم فقط، ومنفذ للحكم السلطاني، والسيف شريك في المعونة. وكذلك في آخر الدولة، حيث تضعف عصبيتها كما ذكرناه، ويقل أهلها بما ينالهم من الهرم الذي قدمناه، فتحتاج الدولة إلى الاستظهار بأرباب السيوف، وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدولة والمدافعة عنها، كما كان الشأن أول الأمر في تمهيدها. فيكون للسيف مزية على القلم في الحالتين، ويكون أرباب السيف حينئذ أوسع جاها، وأكثر نعمة، وأسنى إقطاعا.» «وأما في وسط الدولة، فيستغني صاحب الدولة بعض الشيء عن السيف؛ لأنه قد تمهد أمره، ولم يبق همه إلا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضبط، ومباهاة الدول، وتنفيذ الأحكام، والقلم هو المعين له في ذلك؛ فتعظم الحاجة إلى تصريفه، وتكون السيوف مهملة في مضاجع أغمادها، إلا إذا أنابت نائبة، أو دعيت إلى سد فرجة، وما سوى ذلك فلا حاجة إليها. فيكون أرباب الأقلام في هذه الحالة أوسع جاها، وأعلى رتبة، وأعظم نعمة وثروة، وأقرب من السلطان مجلسا، وأكثر إليه ترددا، وفي خلواته نجيا؛ لأنه حينئذ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه، والنظر إلى أعطافه، وتثقيف أطرافه، والمباهاة بأحواله. ويكون الوزراء حينئذ وأهل السيوف مستغنى عنهم، ومبعدين عن باطن السلطان، حذرين على أنفسهم من بوادره» (ص257).
6
ومما يجب أن يلفت الأنظار، أن تقسيم الحروب إلى نوعي الزحف والكر والفر، مما لا يخلو من الانطباق على أحوال الحروب الحديثة أيضا؛ فإن الحروب في زماننا هذا تكون من نوع حروب الزحف من حيث الأساس، غير أن حركات الكر والفر أيضا تقوم بأدوار هامة على هامش الحروب؛ فإن أعمال قطع الاستكشاف وحركات كتائب التدمير تدخل في نطاق حروب الكر والفر بطبيعة الحال.
وكذلك معظم أعمال الأساطيل، وجميع حركات الغواصات تشبه حروب الكر والفر تماما. وأما الغارات الجوية فكلها مما ينطبق عليها جميع أوصاف حروب الكر والفر التي ذكرها ابن خلدون، ولا تختلف عنها إلا من جراء جريانها في الجو عوضا عن سطح الأرض.
النفس الإنسانية
1
لم يتخذ ابن خلدون النفس الإنسانية موضوعا لبحث خاص، غير أنه تطرق إلى بعض المسائل النفسية بصورة عرضية، وبمناسبات شتى؛ ولهذا السبب قد دون في ثنايا بعض الفصول كثيرا من الآراء والمعلومات عن النفس وقوى النفس.
يفهم من استعراض هذه الآراء والمعلومات أن ابن خلدون كان من الروحيين
Spiritualistes ، الذين يعتقدون بوجود روح منفصل عن البدن. «إن الإنسان مركب من جزءين؛ أحدهما جسماني، والآخر روحاني ممتزج به، والمدرك فيهما واحد، وهو الجزء الروحاني» (ص517).
وهذا الجزء الروحاني «يدرك تارة مدارك روحانية، وتارة مدارك جسمانية، إلا أن المدارك الروحانية يدركها بذاته وبغير واسطة، والمدارك الجسمانية يدركها بواسطة آلات الجسم، من الدماغ والحواس» (ص517).
إن الجزء الروحاني من الإنسان هو ما يعرف باسم «النفس»: «هذه النفس الإنسانية غائبة عن العيان، وآثارها ظاهرة في البدن، فكأنه وجميع أجزائه - مجتمعة ومتفرقة - آلات للنفس ولقواها» (ص96).
إن الأهم من بين هذين الجزءين من الإنسان هو النفس. «إن الفلاسفة كلها مدحت النفس، وزعمت أنها المدبرة للجسد، والحاصلة له، والدافعة عنه، والفاعلة فيه» (ص506).
ومما يبرهن على ذلك: «أن الجسد إذا خرجت منه النفس مات وبرد، ولم يقدر على الحركة والامتناع من غيره؛ لأنه لا حياة فيه ولا نور» (ص506).
يظهر من ذلك أن الحياة قائمة بوجود النفس في الجسد، والموت ما هو إلا نتيجة افتراق النفس عن الجسد» (ص495).
إن هذه النفس مصدر الإدراك والفكر والفعل في وقت واحد، مما يدل على أنها ذات قوى عديدة ومتنوعة.
يذكر ابن خلدون في موضع «القوى الإدراكية» و«القوى النزوعية»، ويتكلم في موضع آخر عن «القوة المدركة والقوة المحركة والقوة المفكرة»، ويستعمل في بعض الأحيان تعابير؛ «النفس المدركة، والنفس الفاعلة، والنفس الناطقة»، ويسمي أحيانا القوة المحركة والفاعلة باسم «الفاعلية»، والقوة المفكرة باسم «الناطقية»، ويعرف ويوضح كل واحدة من هذه القوى على حدة:
إن آثار الفاعلية هي؛ «البطش باليد، والمشي بالرجل، والكلام باللسان، والحركة الكلية بالبدن متدافعا» (ص96).
وأما الإدراك فهو «شعور المدرك في ذاته بما هو خارج عن ذاته» (طبعة كاترمير، ص364).
إن هذا الإدراك على نوعين؛ إدراك بالظاهر (أي بواسطة الحواس الخمس)، وإدراك بالباطن (أي بواسطة القوى الدماغية) (ص154).
الحواس الخمس هي؛ البصر، والسمع، والشم، والذوق، واللمس. وأما القوى الباطنة فهي؛ الحس المشترك، والمخيلة، والواهمة، والحافظة، والمفكرة.
الحس المشترك هو «جامع الحواس الظاهرة»، والنفس تدرك بواسطته «المحسوسات مبصرة ومسموعة وملموسة وغيرها في حالة واحدة» (ص97).
وأما المخيلة فهي «قوة تمثل الشيء المحسوس في النفس كما هو، مجردا عن المواد الخارجية» (ص97).
والواهمة قوة تدرك «المعاني المتعلقة بالشخصيات» (ص97).
وأما الحافظة فهي قوة «تخزن المدركات كلها متخيلة لوقت الحاجة إليها» (ص97).
إن الأصل في الإدراك إنما هو «المحسوسات بالحواس الخمس» (ص186 و489).
والفكر يتناول هذه المحسوسات والمدركات بالتركيب والتحليل (ص140)، ويتمثل صورا خيالية منتزعة من المدركات المتعاهدة، فيتوصل بذلك إلى الكليات والمعقولات. «إن المعاني الكلية تتكون في الذهن عن طريق الانتزاع والتجريد من المحسوسات» (ص489).
والمعقولات الذهنية تتولد عن طريق التجريد من «الموجودات الخارجية الشخصية» (ص516). «الخيال ينتزع من الصور المحسوسة صورا خيالية، ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها إلى وقت الحاجة إليها عند النظر والاستدلال، وكذلك تجرد النفس منها صورا أخرى نفسانية عقلية، فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول» (ص476).
إن إدراك الكليات والمعقولات على هذا المنوال من الأمور التي يختص بها الإنسان دون سائر الحيوانات.
فإن الحيوانات تحس وتدرك مثل الإنسان، ولكن الإنسان يتميز منها بإدراك المعاني الكلية، بالإضافة إلى إدراك «المحسوسات الخارجية الشخصية» (ص489). «إن الحيوانات إنما تدرك بالحواس، ومدركاتها خلية من الربط؛ لأنه لا يكون إلا بالفكر» (طبعة كاترمير، ج2، ص364). «إن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء والسكن وغير ذلك، إنما تميز (الإنسان) منها بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه، والتعاون عليه بأبناء جنسه، والاجتماع المهيئ لذلك التعاون، وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى، والعمل به، واتباع صلاح أخراه، وهو مفكر في ذلك كله، لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين. بل إن اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر، وعن هذا الفكر تنشأ العلوم والصنائع» (ص429). «وذلك لأن الفكر الإنساني تارة يكون مبدءا للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب، وتارة يكون مبدءا لعلم ما لم يكن حاصلا» (ص535).
يتكلم ابن خلدون عن «الفكر الإنساني» في فصل خاص من الفصول الناقصة في طبعات البلاد العربية، ومما يقوله في ذلك الفصل: «اعلم أن الله سبحانه وتعالى ميز البشر عن سائر الحيوانات بالفكر الذي جعله مبدأ كماله ونهاية فضله وشرفه؛ وذلك أن الإدراك - وهو شعور المدرك بذاته بما هو خارج عن ذاته - خاص بالحيوان فقط من بين سائر الكائنات والموجودات. فالحيوانات تشعر بما هو خارج عن ذاتها بما ركب الله فيها من الحواس الظاهرة (السمع والبصر والشم والذوق واللمس)، ويزيد الإنسان من بينها أنه يدرك الخارج عن ذاته بالفكر الذي وراء حسه، وذلك بقوى جعلت له في بطون دماغه، ينتزع بها صور المحسوسات، ويجول بذهنه فيها، فيجرد منها صورا أخرى. والفكر هو التصرف في تلك الصور وراء الحس، وجولان الذهن فيها بالانتزاع والتركيب» (طبعة كاترمير، ج2، ص364).
إن الفكر الإنساني هذا على ثلاث مراتب؛ كل مرتبة منها تدل على نوع خاص من العقل؛ العقل التمييزي، والعقل التجريبي، والعقل النظري.
العقل التمييزي: يدرك الأشياء الخارجية وخواصها، ويضمن جلب منافعها ودفع مضارها.
والعقل التجريبي: يميز لصالح من الفاسد في معاملة أبناء الجنس، ويقرر «ما يجب وما ينبغي فعلا وتركا» خلال تلك المعاملات.
والعقل النظري: يفيد «العلم أو الظن بمطلوب وراء الحس، لا يتعلق به عمل»، ويضمن «تصور الموجودات» على ما هي عليه «غائبا وشاهدا». وأما «غاية إفادته» فهي «تصور الوجود على ما هو عليه، بأجناسه وفصوله وأسبابه وعلله.» «إن «الحقيقة الإنسانية» إنما تتم بهذا النوع من العقل وبهذه المرتبة من الفكر» (طبعة كاترمير، ج2، ص364).
2
هذه هي الخطوط الأساسية لنظرية «النفس الإنسانية» التي تلوح للأنظار من ثنايا الفصول المختلفة في مقدمة ابن خلدون.
يلاحظ أنها لا تخرج - من حيث الأساس - عن نطاق الآراء الشائعة بين مفكري الإسلام في عهد ابن خلدون، ومن المعلوم أنها تنحدر من نظرية أرسطو في النفس.
فنستطيع أن نقول إن ابن خلدون قد اقتدى بأسلافه واتبعهم في هذا الأمر، وقبل كل ما كان يقول به معاصروه في هذا الصدد، وكلما احتاج إلى «دليل نفسي» في أبحاثه الاجتماعية؛ رجع إلى الآراء التي كانت منتشرة في زمانه، واقتبس منها ما شاء اقتباسه من الحجج والبراهين.
ومع هذا كله فقد توصل ابن خلدون - بنظره الثاقب وحدسه العبقري - إلى بعض الملاحظات القيمة في الحوادث النفسية، ودون بعض الآراء الطريفة داخل نطاق هذه النظرية القديمة.
إن طائفة من هذه الآراء تظهر منفردة ومتفرقة، غير أن بعضها ينسجم في سلك نظريات عامة مبتكرة.
ولعل أطرف هذه الآراء هي النظرية التي وضعها ابن خلدون عن «عمل الفكر واليد» في حياة الإنسان.
يتكلم ابن خلدون في عدة مواضع من المقدمة عن خصائص الإنسان، ويمعن النظر في الفروق التي تميزه من الحيوان.
إن الإنسان من «جنس الحيوان»، ولكنه يمتاز عن سائر الحيوانات بعدة خصائص، منها؛ «الفكر والنطق»، و«العلوم والصنائع» (ص40)، ومنها «الحاجة إلى الحكم الوازع والسلطان القاهر، ومنها السعي في المعاش والاعتمال لتحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه، ومنها العمران، أي التنازل والتساكن في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات» (ص40).
يلاحظ ابن خلدون أن هذه الفروق لم تكن مطلقة كل الإطلاق؛ لأن الاجتماع والحكم من الأمور التي تشاهد عند بعض الحيوانات العجم أيضا؛ مثلا يوجد عند النحل والجراد نوع «من الحكم والانقياد لرئيس من أشخاصها متميز عنهم في خلقه وجثمانه» (ص43)، غير أن ابن خلدون يلاحظ في الوقت نفسه أن ذلك موجود «لغير الإنسان بمقتضى الفطرة والهداية، لا بمقتضى الفكرة والسياسة» (ص43)، وأن كل ذلك يحصل للحيوانات المذكورة «بطريق إلهامي لا بفكر وروية» كما يحدث للإنسان (ص41).
ومن الواضح الجلي أن ما يقصده ابن خلدون من «الفطرة والهداية والإلهام» في هذا المقام، يقابل تماما ما نسميه اليوم تارة باسم «الغريزة»، وطورا باسم «سوق الطبيعة»، كما أن ما يعانيه من «الفكرة والسياسة والروية» في هذا المضمار يقابل ما نسميه باسم العقل والذكاء.
يظهر من ذلك أن ابن خلدون يميز العقل من الغريزة، والأفعال المفكورة الإرادية من الأفعال الانسياقية الاضطرارية، فنجده يقرر - لذلك - «أن أفعال الإنسان تصدر بالفكر والروية لا بالطبع» (ص390)، ويرد - بهذه الصورة - الفروق التي تلاحظ بين الإنسان والحيوان من جهة «الاجتماع والحكم» أيضا إلى عامل «الفكر».
هذا ويقرر ابن خلدون من جهة أخرى «أن العلوم نتيجة الفكر، و«أن الصنائع محصول اليد في خدمة الفكر.»
ولذلك نستطيع أن نقول إن جميع الفروق التي تميز الإنسان من الحيوان ترجع - في نظر ابن خلدون - إلى هذين العاملين الأساسيين؛ الفكر واليد؛ الفكر الذي يدرك الكليات ويتناولها بالتحليل والتركيب، واليد التي تعمل في خدمة الفكر.
يتتبع ابن خلدون بهذه الصورة عمل الفكر واليد في حياة الإنسان بكل اهتمام، ويظهر الفرق الموجود بين الإنسان والحيوان بوضوح تام.
إن الحيوانات تعمل بتأثير الإلهام والهداية، وتستخدم خلال أفعالها هذه جوارحها الطبيعية وحدها، ولكن الإنسان يعمل بالفكر والروية، ويستخدم خلال أعماله هذه الآلات التي يصنعها بيديه، عوضا عن الجوارح الطبيعية التي يستعملها الحيوان. «لما كان العدوان طبيعيا في الحيوان، جعل (الله سبحانه) لكل واحد منها عضوا يختص بمدافعته ما يصل ليه من عادة غيره، وجعل للإنسان - عوضا عن ذلك كله - الفكر واليد. فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر، والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع، مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة، والسيوف النائبة عن المخالب الجارحة، والتراس النائبة عن البشرات الجاسية، إلى غير ذلك» (ص42).
إن الملاحظات التي يبديها ابن خلدون في هذا الصدد تنطوي على نظرة فلسفية هامة.
في الواقع إن امتياز الإنسان بالفكر كان من الأمور التي قال بها المفكرون منذ الأزمنة القديمة، كما أن اختصاص الإنسان باليد كان من الحقائق التي انتبه إليها العلماء منذ عهد أرسطو، غير أن الحكيم المشار إليه كان قد اعتبر «اليد» كوصف من الأوصاف البدنية التي تميز نوع الإنسان عن سائر صنوف الحيوان، ولم ينظر إلى «عمل اليد في الحياة النفسية والاجتماعية، بمثل هذا النظر الدقيق الشامل أبدا.»
وأما ابن خلدون فقد قرن «الفكر باليد» بكل وضوح، وأظهر «عمل اليد الأساسي» في خدمة الفكر، وفي صنع الآلات التي تنوب عن الجوارح بكل اهتمام.
إن ملاحظات ابن خلدون في هذا المضمار ترفعه إلى مصاف مفكري القرن العشرين؛ فإن البحاثة الإنجليزي «توينبي»، عندما استعرض عمل اليد في الحياة - في المجلد الثالث من دراسته القيمة - قد ذكر رأي الفيلسوف الشهير «برغسون»
Bergson
في هذا الصدد، وقرر في الوقت نفسه أن نظرية برغسون هذه كانت مسرودة في مقدمة ابن خلدون بكل وضوح (هامش الصفحة 86 من المجلد الثالث).
وفي الواقع لقد كتب برغسون في الكتاب الذي نشره سنة 1932 بعنوان «ينبوعا الأخلاق والدين» العبارات التالية: «إن الحياة إنما هي بعض الجهد للحصول على بعض الأشياء من الطبيعة الخام، والغريزة والذكاء - في حالتهما المكتملة - إنما هما واسطتان تستخدمان آلة لهذا الغرض»؛ ففي الغريزة تكون الآلة المستعملة جزءا من الكائن الحي، وفي الذكاء تكون الآلة من الجمادات (الأجنبية على الكائن الحي)، وهذه الآلة الجامدة كان لا بد من اختراعها وصنعها وتعلم استعمالها» (ص122 من كتاب برغسون).
إذا قارنا هذه الفقرات التي نقلناها عن كتاب برغسون بالفقرات التي أدرجناها آنفا نقلا عن مقدمة ابن خلدون؛ وجدنا أن مضمون الأولى لا يختلف عن مضمون الثانية من حيث الأساس، وأن كل واحدة منهما تعبر عن نظرية واحدة، ولكن بأسلوب خاص بها.
وإذا تذكرنا أن برغسون كتب ما كتبه في هذا الصدد قبل مدة تقل كثيرا عن نصف قرن، في حين أن ابن خلدون كتب ما كتبه في هذا المضمار قبل مدة تناهز ستة قرون؛ اضطررنا إلى القول بأن نظرية ابن خلدون في هذه القضية كانت من نوع «حدس العبقرية» تماما.
3
إذا تتبعنا فصول المقدمة - من وجهة مباحثها النفسية - وجدنا فيها نظرية واسعة النطاق عن «الملكات»، تتناول كيفية تكونها من جهة، وعملها في حياة الإنسان العقلية والعملية من جهة أخرى. (1)
الملكة - التي يتكلم عنها ابن خلدون - هي «الصفة الراسخة» التي تكتسبها النفس من جراء التكرار والممارسة، والتي تؤدي إلى حصول الأعمال الفكرية والجسدية بسرعة وسهولة، إذ تجعلها بمثابة «الجبلة والفطرة». «الملكة صفة راسخة في النفس، تحصل عن استعمال الفكر وتكرره مرة بعد أخرى» (ص400). «الصناعة ملكة في أمر عملي فكري» (ص399). «اللغة ملكة في اللسان. الخط صناعة ملكتها في اليد.» «اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة؛ إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني» (ص554). «إن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه، إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده، والوقوف على مسائله، واستنباط فروعه على أصوله. وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلا. وهذه الملكة هي غير الفهم والوعي؛ لأننا نجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد ووعيها مشتركا بين من شدا في ذلك الفن، وبين من هو مبتدئ فيه، وبين العامي الذي لم يعرف علما، وبين العالم النحرير. والملكة إنما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون من سواهما» (ص430). «المطلوب من التكاليف كلها (أي التكاليف الدينية) حصول ملكة راسخة في النفس، يحصل عنها علم اضطراري للنفس وهو العقيدة الإيمانية» (ص361). «إن ملكة الإيمان إذا استقرت؛ عسر على النفس مخالفتها، شأن الملكات إذا استقرت؛ فإنها بمثابة الجبلة والفطرة» (ص462). (2)
إن نظرية ابن خلدون في الملكات تستند إلى ملاحظة مبدأ نفسي عام؛ إن كل فعل - ماديا كان أو معنويا، فكريا كان أو بدنيا - لا بد من أن يترك أثرا في النفس، فإذا تكرر الفعل، وتكرر أثره في النفس؛ تولد من ذلك صفة، ثم رسخت تلك الصفة فكونت ملكة، والملكة التي تحدث - على هذا المنوال - من جراء تكرر الفعل تنمو شيئا فشيئا تبعا لهذا التكرر كأنها تتغذى به.
يعبر ابن خلدون عن ذلك بعبارات واضحة تماما: «إن الأفعال لا بد من عود آثارها على النفس» (ص399). «إن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكرره» (ص534). «الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال؛ لأن الفعل يقع أولا، وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالا. ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة، أي صفة راسخة» (ص554). «تنمو قوى الملكة بتغذيتها» (ص575). «إن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها؛ ظهرت وكأنها طبيعة وجبلة لذلك المحل» (ص562). (3)
لا يكتفي ابن خلدون بتقرير هذه الأمور، بل يعللها بردها إلى قانون نفسي عام؛ إن النفس الإنسانية - وقواها المختلفة - لا تظهر دفعة، ولا كاملة، بل إنها تخرج من القوة إلى الفعل شيئا فشيئا، فتنمو وتنشأ تدريجا: «إن النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يرجع إليها من الملكات» (ص433). «إن النفس الناطقة للإنسان إنما توجد فيه بالقوة، وإن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات» (ص428). «الفكر يخرج أصنافها ومركباتها من القوة إلى الفعل بالاستنباط شيئا فشيئا على التدريج حتى تكمل، ولا يحصل ذلك دفعة، وإنما يحصل في أزمان وأجيال. إن خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة، ولا سيما في الأمور الصناعية» (ص400). «إن النفس وإن كانت في جبلتها واحدة بالنوع، فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف في الإدراكات، واختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والألوان التي تكيفها من خارج؛ فبهذه يتم وجودها، وتخرج من القوة إلى الفعل صورتها» (ص578). (4)
يتتبع ابن خلدون كيفية تكون الملكات في شتى الميادين من الأخلاق إلى العلوم والصنائع والعبادات: «الملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر، وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسيل، والعلمية بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار، والفقهية بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول، والتصوفية الربانية بالعبادات والأذكار وتعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة والانفراد عن الخلق ما استطاع» (ص578). (5)
يلاحظ ابن خلدون «أن الصنائع والملكات لا تزدحم » (ص569)، ويعلل ذلك بما يلي: إن الملكات صفات للنفس، والنفس إذا اتصفت بصفة ما؛ يصعب عليها أن تتصف بصفة أخرى، ولا سيما إذا كانت هذه الصفة مخالفة للأولى، وبتعبير آخر: إن النفس تتلون بالملكات، فإذا تلونت بلون من الألوان؛ يصعب عليها قبول لون آخر غير اللون الأول.
ويستنتج ابن خلدون من هذه الملاحظة الأساسية القاعدة الجوهرية التالية: «من كان على الفطرة كان أسهل لقبول الملكات، وأحسن استعدادا لحصولها» (ص405).
ويقول بالاستناد إلى ذلك: «إن من سبقت له إجادة في صناعة، فقل أن يجيد في أخرى، أو يستولي فيها على الغاية» (ص569).
و«إن من حصلت له ملكة في صناعة، قل أن يجيد بعد في ملكة أخرى» (ص405).
يخصص ابن خلدون فصلا كاملا لشرح هذه القضية وتعليلها: «مثال ذلك الخياط، إذا أجاد ملكة الخياطة وأحكمها ورسخت في نفسه؛ فلا يجيد من بعدها ملكة النجارة أو البناء، إلا أن تكون الأولى لم تستحكم بعد ولم ترسخ صبغتها.» «والسبب في ذلك أن الملكات صفات للنفس وألوان، فلا تزدحم دفعة. ومن كان على الفطرة كان أسهل لقبول الملكات وأحسن استعدادا لحصولها. فإذا تلونت النفس بالملكة الأخرى وخرجت عن الفطرة؛ ضعف فيها الاستعداد باللون الحاصل من هذه الملكة، فكان قبولها للملكة أضعف. وهذا بين يشهد له الوجود، فقل أن تجد صاحب صناعة يحكمها، ثم يحكم من بعدها أخرى، ويكون فيهما معا على رتبة واحدة من الإجادة» (ص405).
إن هذا المبدأ لا يختص بالصنائع العملية وحدها، بل يشمل الأعمال الفكرية؛ ولذلك يعقب ابن خلدون على العبارة الأخيرة بقوله: «حتى إن أهل العلم الذين ملكتهم فكرية، فهم بهذه المثابة، ومن حصل منهم على ملكة علم من العلوم وأجادها في الغاية، فقل أن يجيد ملكة علم آخر على نسبته، بل يكون مقصرا فيه إن طلبه، إلا في أقل النادر من الأحوال» (ص405).
يطبق ابن خلدون هذا المبدأ على شئون اللغة والأدب أيضا، فيقرر في أحد فصول الباب السادس «أن الذوق لا يحصل غالبا لمستعربين من العجم» (ص562). كما يقرر في فصل آخر من الباب المذكور «أن أهل الأمصار قاصرون في تحصيل ملكة اللسان المضري» (ص564). وفي فصل آخر: «ولا تتفق الإجادة في فني المنظوم والمنثور معا إلا للأقل» (ص568).
ويقول كذلك في أحد الفصول الناقصة في طبعات البلاد العربية: «إن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي» (طبعة كاترمير، ج3، ص274-287). ويستند في شرح وتعليل ذلك كله إلى القاعدة التي ذكرناها آنفا.
وزد على ذلك أنه يطبق المبدأ المذكور على قضايا الأخلاق أيضا في بعض الأحيان: «إن الأفعال لا بد من عود آثارها على النفس؛ فأفعال الخير تعود بآثار الخير والذكاء، وأفعال الشر تعود بضد ذلك، فتتمكن وترسخ إن سبقت وتكررت، وتنقص خلال الخير إن تأخرت عنها بما ينطبع من آثارها المذمومة من النفس، شأن الملكات الناشئة عن الأفعال» (ص399). «إن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير وشر.» «وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر، ويصعب عليها اكتسابه؛ فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير، وحصلت لها ملكته؛ بعد عن الشر، وصعبت عليه طريقه. وكذا صاحب الشر، إذا سبقت إليه أيضا عوائده» (ص123). (6)
لا شك أن نظرية ابن خلدون هذه تنطوي على ملاحظات صائبة وهامة جدا، غير أنها لا تنطبق على الحقائق تماما إذا أطلقت إطلاقا.
ويظهر لنا أن ابن خلدون نفسه كان قد لاحظ بعض الأمور التي تنافي هذه القاعدة بعض المنافاة، فتستوجب تقييدها ببعض القيود.
لأنه قد قرر أن «كل صناعة مرتبة، يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلا جديدا، تستعد به لقبول صناعة أخرى، يتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف» (ص433).
ولا شك أن في هذه القضية ما يقيد ويتمم القاعدة الآنفة الذكر؛ إن إجادة صناعة من الصناعات قد تحول دون الإجادة في الصناعات الأخرى، غير أنها قد تكون مرحلة تعد النفس لقبول صناعة أخرى. ومن الطبيعي أن ذلك يختلف باختلاف أنواع تلك الصناعات.
هذا ولا بد لنا من أن نشير في هذا المقام إلى ما يقرره ابن خلدون عن زيادة العقل من جراء كثرة العلوم والصنائع: «إن حسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية، يزيد الإنسان ذكاء في عقله، وإضاءة في فكره، بكثرة الملكات الحاصلة للنفس؛ إذ قدمنا أن النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يرجع إليها من الملكات، فيزدادون بذلك كيسا لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية» (ص433).
إننا نعتقد أن هذه الملاحظة أيضا تقيد وتتمم القاعدة المذكورة آنفا.
فيجب علينا أن ننظر إلى هذه الأبحاث كملاحظات متممة لنظرية الملكات بوجه عام، ونظرية «عدم ازدحام الملكات» بوجه خاص.
ولا نرانا في حاجة إلى القول بأن نظرية الملكات التي لخصناها آنفا لهي من أهم الأسس التي يبني عليها ابن خلدون آراءه في التربية والتعليم.
4
وأما الملاحظات النفسية المتفرقة المبثوثة في مختلف فصول المقدمة فكثيرة ومتنوعة؛ ولذلك رأينا أن نكتفي باستعراض أهمها، كما يلي: (أ)
يلاحظ ابن خلدون أن النفس تبتهج من الإدراك: «كل مدرك له ابتهاج بما يدركه، واعتبره بحال الصبي في أول مداركه الجسمانية، كيف يبتهج بما يبصره من الضوء، وبما يسمعه من الأصوات» (ص517). (ب)
يقرر ابن خلدون تأثير «التشيع» في المحاكمات الذهنية، ويعتبر عن هذا التأثير بكل وضوح: «إن النفس إذا كانت في حالة الاعتدال في قبول الخبر؛ أعطته حقه من التمحيص والنظر، حتى تتبين صدقه من كذبه. وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة؛ قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص» (ص35). (ج)
يلاحظ ابن خلدون تأثير الأحوال النفسية في الأفعال البدنية عن طريق «الإيحاء الذاتي» حسب تعبير علماء النفس الحاليين: «إن الماشي على حائط أو حبل منتصب إذا قوي عنده توهم السقوط سقط بلا شك؛ ولذلك نجد كثيرا من الناس يعودون أنفسهم ذلك، حتى يذهب عنهم هذا الوهم، فتجدهم يمشون على حرف الحائط والحبل المنتصب، فلا يخافون السقوط. إن ذلك من آثار النفس الإنسانية وتصورها للسقوط من أجل الوهم» (ص501).
لا يغفل ابن خلدون عن حوادث «الإيحاء الخارجي» أيضا؛ لأنه يتكلم في فصل السحر والطلسمات عن تأثير المشعوذين في القوى المتخيلة تأثيرا يشبه تأثير الإيحاء في التنويم شبها تاما.
إن أحد أنواع السحر يتأتى من تأثير الساحر في القوى المتخيلة؛ «يعتمد صاحب هذا التأثير إلى القوى المتخيلة، فيتصرف فيها بنوع من التصرف، ويلقي فيها أنواعا من الخيالات والمحاكاة، وصورا مما يقصده من ذلك، ثم ينزلها إلى الحس من الرائين بقوة نفسه المؤثرة فيه، فينظر الراءون كأنها في الخارج، وليس هناك شيء من ذلك. كما يحكى عن بعضهم أنه يرى البساتين والأنهار والقصور وليس هناك شيء من ذلك» (ص498). (د)
يقرر ابن خلدون العلاقة القوية التي تربط العمل بالفكر:
إن «وجود الصنائع دون الفكر ممتنع؛ لأنها ثمرته وتابعة له» (ص411). «الفعل الصناعي مسبوق بتصورات» (ص527). «التصور والإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصورات سابقة يتلو بعضها بعضا» (ص458). «من شروط الصناعة أبدا تصور ما يقصد إليه بالصنعة، فمن الأمثال السائرة للحكماء: إن أول العمل آخر الفكرة، وآخر الفكرة أول العمل» (ص528).
يتكلم ابن خلدون عن هذه القضية بتفصيل أوفى في فصل خاص، وهو من الفصول الناقصة في طبعات البلاد العربية: «فصل في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر» (طبعة كاترمير، ج2، ص364-367).
ومما يقرره ابن خلدون في الفصل المذكور؛ أن عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة وأفعال، والأفعال البشرية تمتاز عن أفعال سائر الحيوانات بكونها «منظمة ومرتبة»؛ فإن الفكر يدرك الترتيب الطبيعي الموجود بين الحوادث، ويراعي ذلك الترتيب في أعماله، فإذا قصد المرء إيجاد شيء من الأشياء تتبع سلسلة الأسباب التي تؤدي إلى حدوث ذلك الشيء، وسلسلة الشروط التي يتوقف عليها تكوينه، وإذا وصل إلى السبب الأخير والشرط الأصلي؛ بدأ العمل منه. «مثلا لو فكر في إيجاد سقف يكنه؛ انتقل بذهنه إلى الحائط الذي يدعمه، ثم إلى الأساس الذي يقف عليه الحائط، فهو آخر الفكر، ثم يبدأ في العمل بالأساس، ثم بالحائط، ثم بالسقف وهو آخر العمل، وهذا معنى قولهم: أول العمل آخر الفكرة، وأول الفكرة آخر العمل» (طبعة كاترمير، ج2، ص364). (ه)
يميز ابن خلدون العلم النظري البحت من العلم المقرون بالنزوع والدافع إلى العمل (ص461)، كما يميز بين معرفة صناعة من الصنائع علما، وبين إحكامها عملا (ص560). «إن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها، وليست نفس الملكة، وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علما، ولا يحكمها عملا، مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها: الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة، ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين، ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا، ثم يردها إلى حيث ابتدأت، ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين، ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل. ويعطي صورة الحبك والتثبيت والتفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها، وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئا.» «وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه، وآخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر، وتتعاقبانه بينكما وأطرافه المضرسة الممددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة وجائية، إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة. وهو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه» (ص560).
يطبق ابن خلدون هذا المبدأ على مسائل الأخلاق والسلوك، ويميز العلم من الاتصاف من هذه الوجهة أيضا، ويقول: «إن الفرق بين الحال والعلم في العقائد فرق ما بين العلم والاتصاف»، ويوضح ذلك بما يلي: «إن كثيرا من الناس يعلم أن رحمة اليتيم والمسكين قربة إلى الله تعالى، مندوب إليها، ويقول بذلك ويعترف به ، ويذكر مأخذه من الشريعة، وهو لو رأى يتيما أو مسكينا من أبناء المستضعفين لفر عنه واستنكف أن يباشره، فضلا عن المسح عليه للرحمة وما بعد ذلك من مقامات العطف والحنو والصدقة. فهذا إنما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم، ولم يحصل له مقام الحال والاتصاف» (ص460-461). «ومن الناس من يحصل له مع مقام العلم والاعتراف بأن رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأول، وهو الاتصاف بالرحمة وحصول ملكتها، فمتى رأى يتيما أو مسكينا بادر إليه ومسح عليه، والتمس الثواب في الشفقة عليه، لا يكاد يصبر عن ذلك ولو دفع عنه، ثم يتصدق عليه بما حضره من ذات يده» (ص461). «وليس الاتصاف بحاصل مجرد العلم، حتى يقع العمل ويتكرر مرارا غير منحصرة، فترسخ الملكة، ويحصل الاتصاف.» «إن العلم الأول المجرد عن الاتصاف قليل الجدوى والنفع، والمطلوب إنما هو العلم الحالي الناشئ عن العادة» (ص461). (و)
يتكلم ابن خلدون عن كيفية تكون الطبائع والسجايا من جراء الألفة والمران: «الإنسان ابن عوائده ومألوفه، لا ابن طبيعته ومزاجه» (ص125). «إن تكون السجايا والطبائع إنما هو من المألوف والعوائد» (ص138). «إن العوائد تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها، فهو ابن عوائده لا ابن نسبه» (ص384). «إن النفس إذا ألفت شيئا صار من جبلتها وخلقتها» (ص90). «إذا ألف الإنسان بعض الأحوال صار ذلك له خلقا وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة» (ص125). «إن القريحة مثل الضرع؛ تزيد بالامتراء، وتجف بالترك والإهمال» (ص575). (ز)
يقدر ابن خلدون أهمية التجريد في الحياة الفكرية، ويعتبر النظر في الكليات من أهم ميزات الإنسان، ومع هذا يرى أن استرسال الذهن في ذلك، واعتياده له، لا يخلو من بعض المحاذير في الأمور العملية والسياسية؛ ولذلك يقرر في فصل خاص «أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها» (ص542)، ويعلل ذلك بالملاحظات التالية: «والسبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري، والغوص على المعاني، وانتزاعها من المحسوسات، وتجريدها في الذهن أمورا كلية عامة؛ ليحكم عليها بأمر العموم، لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس. ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات»، كما أنهم «يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي،
1
ولا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن، ولا تصير إلى المطابقة (أي لا تطبق على الخارج المحسوس) إلا بعد الفراغ من البحث والنظر، ولا تصير بالجملة إلى المطابقة، وإنما يتفرع ما في الخارج عما في الذهن من ذلك، كالأحكام الشرعية، فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب والسنة، فتطلب مطابقة ما في الخارج لها، عكس الأنظار في العلوم العقلية التي تطلب من صحتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية والأنظار الفكرية، لا يعرفون سواها، والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنها خفية. ولعل أن يكون فيها ما يمنع إلحاقها بشبه أو مثال، وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها. ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر، كما اشتبها في أمر واحد، فلعلهما اختلفا في أمور. فيكون العلماء - لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام، وقياس الأمور بعضها على بعض - إذا نظروا في السياسة؛ أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم، فيقعون في الغلط كثيرا» (ص542). (ح)
يميز ابن خلدون الحوادث النفسية الاطلاعية عن الانفعالية في فصل علم التصوف، ويوضح كلا منها على حدة: «إن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك، وإدراكه نوعان؛ إدراك للعلوم والمعارف، من اليقين والشك والظن والوهم، وإدراك للأحوال القائمة، من الفرح والحزن، والقبض والبسط، والرضا والغضب، والصبر والشكر، وأمثال ذلك. فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات وإرادات وأحوال، وهي التي يميز بها الإنسان، وبعضها ينشأ من بعض، كما ينشأ العلم من الأدلة، والفرح والحزن عن إدراك المؤلم والمتلذذ به، والنشاط عن الجمام والكسل عن الإعياء» (ص468). (ط)
يدون ابن خلدون عدة ملاحظات هامة عن «اللذة» وعن «الحسن والجمال» في فصل الغناء: «إن اللذة - كما تقرر في موضعه - هي إدراك الملائم، والمحسوس إنما تدرك منه كيفية. فإذا كانت مناسبة للمدرك وملائمة كانت ملذوذة، وإذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة؛ فالملائم من الطعوم ما ناسبت كيفيته حاسة الذوق في مزاجها، وكذا الملائم في الملموسات وفي الروائح، ما ناسب مزاج الروح القلبي البخاري؛ لأنه المدرك وإليه تؤديه الحاسة؛ ولهذا كانت الرياحين والأزهار والعطريات أحسن رائحة، وأشد ملاءمة للروح لغلبة الحرارة فيها - التي هي مزاج الروح القلبي - وأما المرئيات والمسموعات فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها وكيفياتها، فهو أنسب عند النفس وأشد ملاءمة لها. فإذا كان المرئي متناسبا في أشكاله وتخاطيطه - التي له بحسب مادته - بحيث لا تخرج عما تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة والوضع - وذلك هو معنى الجمال والحسن في كل مدرك - كان ذلك حينئذ مناسبا للنفس المدركة؛ فتلتذ بإدراك ملائمها؛ ولهذا تجد العاشقين المستهترين في المحبة يعبرون عن غاية محبتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب. وفي هذا سر تفهمه إن كنت من أهله، وهو اتحاد المبدأ وإن كل ما سواك إذا نظرته وتأملته رأيت بينك وبينه اتحادا في البداءة، يشهد لك به اتحادكما في الكون. ومعناه من وجه آخر؛ أن الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء، فتود أن يمتزج بما شاهدت فيه الكمال لتتحد به، بل تروم النفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة التي هي اتحاد المبدأ والكون.» «ولما كان أنسب الأشياء إلى الإنسان وأقربها إلى أن يدرك الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنساني، كان إدراكه للجمال والحسن في تخاطيطه وأصواته من المدارك التي هي أقرب إلى فطرته، فيلهج كل إنسان بالحسن من المرئي أو المسموع بمقتضى الفطرة. والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة، وذلك أن الأصوات لها كيفيات من الهمس والجهر، والرخاوة والشدة، والقلة والضغط، وغير ذلك، والتناسب فيها هو الذي يوجب لها الحسن» (ص424-425). (ي)
يلمح ابن خلدون مبدأ نسبية الإدراكات، ويعبر عن هذه النسبية بأصرح العبارات في فصل علم الكلام: «إن الوجود كله عند كل مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه، لا يعدوها، والأمر في نفسه خلاف ذلك، والحق من ورائه؛ ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات، ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات؟ وكذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيات.» «ولو سئل الحيوان العجم ونطق؛ لوجدناه منكرا للمعقولات، وساقطة لديه بالكلية» (ص459).
يلاحظ ابن خلدون آثار هذه النسبية حتى في أنواع الرؤيا وأحلام المنام، ويصرح بها في فصل تعبير الرؤيا: «إن الخيال إذا ألقى إليه الروح مدركه، فإنما يصوره في القوالب المعتادة للحس، وما لم يكن الحس إدراكه قط، فلا يصور فيه؛ فلا يمكن من ولد أعمى أن يصور له السلطان بالبحر، والعدو بالحية، ولا النساء بالأواني؛ لأنه لم يدرك شيئا من هذه، وإنما يصور له الخيال أمثال هذه في شبهها ومناسبها من جنس مداركه، التي هي المسموعات والمشمومات» (ص477).
5
لا يكتفي ابن خلدون بملاحظة الحوادث النفسية المتعلقة بالأفراد وحدها، بل يتطرق إلى «النفسيات الاجتماعية والمعشرية» أيضا في بعض الأحيان، ويسعى لتعليل الأمور الاجتماعية بالنزعات النفسية في عدة فصول.
فإنه عندما يقرر: «إن الظلم مؤذن بخراب العمران» (ص286)، وحينما يقول: «إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده» (ص147)، يدعم رأيه في هذا الصدد ببعض الملاحظات المتعلقة بالنفس الإنسانية.
وكذلك في كثير من الفصول؛ فإنه عندما يقرر «أن البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر» (ص123)، وأقرب إلى الشجاعة منهم (125)، وأن معاناة أهل الحضارة للأحكام مفسدة للبأس فيهم، وذاهبة بالمنفعة منهم (ص125)، وأن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية (ص154)، وحينما يقول إن الدولة إذا تمهدت واستقرت فقد تستغني عن العصبية (ص154)، وعندما يشرح تأثير الدين في تكوين الدولة العظيمة (ص157)، وحينما يقول «إن من طبيعة الملك الترف والدعة والسكون» (ص167)؛ يستند إلى ملاحظات نفسية خاصة.
وكذلك حينما يبين تأثير التجارة (ص386)، والصناعة (ص280)، والحضارة (ص383) في الذكاء والأخلاق، يشرح ويعلل الآراء التي يبديها في هذا الصدد بمباحث نفسية، كما أنه يدون كثيرا من الملاحظات النفسية الاجتماعية في أبحاث الحروب والعصبية، والتعلم والتعليم أيضا.
التربية والتعليم
في مقدمة ابن خلدون آراء وملاحظات كثيرة عن التربية والتعليم.
إن قسما من هذه الآراء مدون في فصول خاصة في الباب السادس - باب العلم والتعليم - وهذه الفصول الخاصة هي التي تستلفت عادة أنظار الذين يدرسون المقدمة من وجهة التربية والتعليم. فإن المؤلفات الباحثة في تاريخ التربية بوجه عام، وتاريخ التربية عند العرب بوجه خاص، إنما تشير إلى آراء ابن خلدون في التربية والتعليم، حسب ما جاء في الفصول المذكورة وحدها.
ولكنا نلاحظ أن آراء ابن خلدون في التربية والتعليم لا تنحصر فيما جاء في الفصول المذكورة، حتى إنها لا تتمثل تمثيلا كافيا بمباحث هذه الفصول؛ لأن ابن خلدون قد دون كثيرا من الآراء والملاحظات التربوية في ثنايا الفصول المختلفة بصورة عرضية. فإذا أردنا أن نحيط علما بكل ما كتبه في التربية والتعليم، يجب علينا أن نقوم بأبحاث واسعة النطاق في سائر فصول المقدمة. (1)
إن الفصول التي تحوم مواضيعها حول التربية والتعليم بصورة مباشرة تبلغ خمسة عشر، وهي:
فصل في أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري (ص426)، في وجه الصواب في تعليم العلوم وطرق إفادته (ص533)، في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في مذاهبه (ص537)، في أن الشدة بالمتعلمين مضرة بهم (ص540)، في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل (ص531)، في أن كثرة الاختصارات المؤلفة بالعلوم مخلة بالتعليم (ص532)، في أن العلوم الآلية لا توسع فيها الأنظار، ولا تفرع المسائل (ص536)، في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع (ص430)، في أن الرحلة في طلب العلم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم (ص541)، في تعليم اللسان المضري (ص559)، في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية، ومستغنية عنها في التعليم (ص560)، في صناعة الشعر ووجه تعلمه (ص569)، في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ، وجودتها بجودة المحفوظ (ص578)، في أن الصنائع لا بد لها من التعليم (ص399)، فيمن حصلت له ملكة في صناعة، فقل أن يجيد بعدها في ملكة أخرى (ص455).
وأما الفصول التي تحوي في ثناياها ملاحظات هامة في التربية والتعليم، فهي أيضا كثيرة، وأهمها هو؛ فصل في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلا، وخصوصا الكتابة والحساب (ص447)، في أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية (ص417)، في أن اللغة ملكة صناعية (ص554)، في أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها (ص403)، في تفسير الذوق في مصطلح أهل البيان (ص562)، في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة (ص564)، في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنظوم والمنثور إلا للأقل (ص568)، في صناعة الغناء (ص423)، في العلوم العددية (ص482)، في العلوم الهندسية (ص485)، في إبطال الفلسفة (ص514). (2)
إن أهم هذه الفصول - من وجهة كثرة الملاحظات التربوية الواردة فيها - هو فصل «تعليم العلوم» (ص533)، ثم فصل «تعليم الولدان» (ص537).
يقرر ابن خلدون في فصل تعليم العلوم بعض القواعد العامة التي يجب اتباعها في التعليم بوجه عام، ويعرض في فصل تعليم الولدان الطرائق المتبعة في تعليم الصغار في مختلف البلدان بوجه خاص، ويقارن بين هذه الطرق ويبين محسناتها ومحاذيرها.
هذا وإننا نجد من جهة أخرى أنه يتكلم في فصل تعليم العلوم عن أصول التعليم، من غير أن يلتفت إلى مواد التعليم، في حين أنه يبحث في فصل تعليم الولدان عن مناهج الدراسة ومواد التدريس، من غير أن يتطرق إلى كيفية تعليم وتدريس تلك المواد.
وفي الأخير نجد أنه يستعمل في فصل «تعليم الولدان» تعبيري «التعليم الأول» (ص538)، و«التعليم الثاني» (ص539)، ويقصد بالتعليم الأول ما يكون في سن الصبا قبل سن البلوغ، وبالتعليم الثاني ما يتم بعد ذلك، أي بعد تعليم الصبا (ص539).
ولذلك نستطيع أن نعتبر الفصلين المذكورين بمثابة العمود الفقري من مباحث ابن خلدون في التربية والتعليم. (3)
إذا استعرضنا ما ورد في هذين الفصلين وفي الفصول الأخرى من مقدمة ابن خلدون، من الآراء والمعلومات المتعلقة بالتربية والتعليم؛ استطعنا أن نجمعها في الأنواع والصنوف الثلاثة التالية: (أ)
المعلومات النفسية التي تقوم عليها وتستند إليها نظريات التربية والتعليم. (ب)
المعلومات التاريخية التي تبين الطرق المتبعة في التربية والتعليم في البلاد المختلفة. (ج)
الوصايا العملية التي ترشد المعلمين والمربين إلى القواعد التي يجب اتباعها في التربية والتعليم، والمبادئ النظرية التي تستند إليها تلك الوصايا العملية.
وبما أننا اتخذنا المباحث النفسية موضوعا لدراسة خاصة (راجعوا البحث السابق لهذا)؛ فإننا سنحصر نطاق بحثنا هنا في الصفنين الثاني والثالث من المواضيع التربوية التي ذكرناها آنفا.
ومع هذا نود أن نشير إلى أن الدراسة الآنفة الذكر - عن النفس الإنسانية - يجب أن تعتبر ممهدة لهذه، فالتفاصيل الواردة في تلك الدراسة يجب أن توضع نصب الأعين عند مطالعة هذه، ويجب أن يلاحظ بوجه خاص أن المباحث التي تشرح «نظرية الملكات» (ص87)، والتي تبين رأي ابن خلدون في وجوب تمييز العلم النظري البحت من العلم المقرون بالنزوع، وفي وجوب التفريق بين معرفة صناعة من الصنائع علما، وبين إحكامها عملا (ص99)، مما يجب أن يعتبر جزءا من هذه الدراسة بقدر ما هو جزء من تلك. ونحن نعتقد بأننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن ما يقرره ابن خلدون في هذين البحثين إنما هو بمثابة «سكلجة العلم والتعليم» من أبحاث «التربية والتعليم». (1) نظرات عامة
1 (1)
لا يحاول ابن خلدون تعريف التربية ولا التعليم، بل يتكلم عن ذلك كأنه يتكلم عن أمور معلومة لا تحتاج إلى تعريف.
إنه كثيرا ما يتكلم عن التعليم وحده، يتكلم عن تعليم الصنائع، أو تعليم العلوم، أو تعليم اللغة، من غير أن يذكر التربية، ومع هذا فإنه يتطرق في بعض الأحيان إلى مسائل التربية أيضا، وإن لم يسمها باسم خاص.
فإنه يقول مثلا في فصل «الرحلة في طلب العلم» ما يأتي: «إن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارة علما وتعليما وإلقاء، وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات من المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا» (ص541).
يلاحظ أن ابن خلدون - في هذه الفقرات - يقرن المعارف والمذاهب بالأخلاق والفضائل، ويقرر أن البشر يأخذون ذلك تارة علما وتعلما وإلقاء - يعني عن طرق الفكر - وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة - يعني عن طرق الفعل - وأنه ينظر بهذه الصورة إلى التربية والتعليم نظرة شاملة جدا، نظرة تشمل العلوم والأخلاق، وتتناول طرق اكتسابها من التعليم إلى التلقين والمباشرة والممارسة. (2)
زد على ذلك، فإن ابن خلدون حينما يتكلم عن الصنائع والعلوم في بعض الفصول يبين تأثير العلم في العقل، ويدخل بذلك في مباحث تشبه مباحث التربية العقلية شبها كبيرا.
فإنه يقرر في فصل خاص «أن الصنائع تكسب صاحبها عقلا جديدا»، ثم يوضح ذلك بقوله: «إن اكتساب العلوم والصنائع يؤدي إلى «زيادة عقل» الإنسان، ويفيد «النفس الناطقة عقلا فريدا»، والصنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها «قانون علمي مستفاد من تلك الملكة؛ فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلا، والحضارة الكاملة تفيد عقلا، «والصنائع والعلوم يحصل منها زيادة عقل»» (ص428).
يشرح ابن خلدون رأيه هذا في موضع آخر بوضوح أكبر، إذ يقول في الفصل الذي يقرر «أن التعليم للعلم من جملة الصنائع»: «كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلا جديدا، تستعد به لقبول صناعة أخرى، ويتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف.» «حسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله، وإضاءة في فكره، بكثرة الملكات الحاصلة للنفس» (ص433).
إن ما يظهر على أهل الحضر من آثار الذكاء والكمال في العقل، «إنما هو من رونق الصنائع والتعليم، فإن لها آثارا ترجع إلى النفس» (ص434). (3)
لا يكتفي ابن خلدون بتقرير هذا المبدأ العام، بل يتوسع في تطبيقه على عدة مواضيع في عدة علوم: (أ)
يقرر في فصل الخط والكتابة «أن الكتابة أكثر إفادة لزيادة العقل وتقوية ملكات الإدراك والانتقال»، ويعلل ذلك بما يلي: «لأنها تشمل على العلوم والأنظار، بخلاف الصنائع؛ وبيانه أن في الكتابة انتقالا من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس، ذلك دائما؛ فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات. وهو معنى النظر العقلي الذي يكسب العلوم المجهولة، فيكسب بذلك ملكة من التعقل تكون زيادة عقل، ويحصل به قوة فطنة وكيس في الأمور؛ لما تعودوه من الانتقال» (ص429). (ب)
وفي فصل الهندسة يقرر ابن خلدون أنها تفيد صاحبها «إضاءة في عقله واستقامة في فكره»، ويعلل ذلك بما يلي: «لأن براهينها كلها بينة النظام، جلية الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل في أقيستها؛ لترتيبها وانتظامها؛ فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ، وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع» (486). «وقد زعموا أنه كان مكتوبا على باب أفلاطون: من لم يكن مهندسا فلا يدخلن منزلنا. وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: ممارسة علم الهندسة للفكر، بمناسبة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار، وينقيه من الأوضار والأدران. وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه» (ص486). (ج)
يقرر ابن خلدون فائدة الحساب أيضا على هذا المنوال، ويوصي - لذلك - بالبدء بالحساب في تعليم الولدان. فإنه يقول في فصل العلوم العددية ما يلي: «هذه الصناعة (صناعة الحساب) حادثة، احتيج إليها للحساب في المعاملات، وألف الناس فيها كثيرا، وتداولوها في الأمصار بالتعليم للولدان، ومن أحسن التعليم عندهم الابتداء بها؛ لأنها معارف متضحة وبراهين منتظمة، فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصواب، وقد يقال: من أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره يغلب عليه الصدق؛ لما في الحساب من صحة المباني، ومناقشة النفس، فيصير ذلك خلقا، ويتعود الصدق ويلازمه مذهبا» (ص483). (د)
ويقول ابن خلدون في بحث الفلسفة - بعد أن يوصي بإبطالها: «ليس له في علمنا إلا ثمرة واحدة، وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجج؛ لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين. وذلك أن نظم المقاييس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان، هو كما شرطوه في صناعتهم المنطقية، وقولهم بذلك في العلوم الطبيعية، وهم كثيرا ما يستعملونها في علومهم الحكمية - من الطبيعيات والتعاليم وما بعدها - فيستولي على الناظر فيها - بكثرة استعمال البراهين بشروطها - على ملكة الإتقان والصواب في الحجج والاستدلالات» (ص519). (4)
يتبين من كل ذلك أن ابن خلدون كان معتقدا بتأثير العلم «التربوي»، وإن لم يسم ذلك بتعبير خاص؛ ولذلك لا نغالي إذا قلنا إن نظرياته هذه وإن حامت على الأكثر حول التعليم، فإنها لا تخلو من نظرات في التربية أيضا.
زد على ذلك، فإننا نفهم من هذه العبارات أن ابن خلدون - خلال كلامه عن التعليم - يلاحظ ما يحصل في نفس المتعلم من «الانتقال»
Transfert - حسب تعبير العلم الحاضر - من جراء التعلم، ويقرر أن تأثير التعلم لا ينحصر في العقل وحده، بل يتعداه إلى الأخلاق أيضا، وبتعبير آخر: إن «الانتقال» من التعلم يكون فكريا وخلقيا في وقت واحد.
2 (1)
يبحث ابن خلدون عن منشأ التعليم - بجانب منشأ العلم - ويقرر «أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري» (ص429-430)، ويعلل ذلك بما يلي: «إن الإنسان تميز عن الحيوانات بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه، والتعاون عليه بأبناء جنسه، والاجتماع المهيئ لذلك التعاون، وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى، والعمل به، واتباع صلاح أخراه، فهو مفكر في ذلك كله دائما، لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين، بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر، وعن هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدمناه من الصنائع.» «ثم من أجل هذا الفكر وما جبل عليه الإنسان، بل الحيوان، من تحصيل ما تستدعيه الطباع، فيكون الفكر راغبا في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات، فيرجع إلى من سبقه بعلم، أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك، أو أخذه ممن تقدمه من الأنبياء - الذين يبلغونه لمن تلقاه - فيلقن ذلك عنهم، ويحرص على أخذه وعلمه» (ص429-430). «ثم إن فكره ونظره يتوجه إلى واحد واحد من الحقائق، وينظر ما يعرض لذاته واحدا بعد الآخر، ويتمرن على ذلك حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة ملكة له، فيكون حينئذ علمه بما يعرض لتلك الحقيقة علما مخصوصا.» «وتتشوف نفوس أهل الجيل الناشئ إلى تحصيل ذلك، فيفزعون إلى أهل معرفته، ويجيء التعليم من هذا.»
ثم يختم ابن خلدون بحثه هذا بقوله: «فقد تبين بذلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر» (ص430). (2)
يظهر من هذه الملاحظات بكل وضوح أن ابن خلدون ينظر هنا إلى «التعليم» من زاوية «عمله الاجتماعي »، ويقرر بأنه «أفعولة اجتماعية» حسب تعبيراتنا الحالية.
من المعلوم أن المفكرين كانوا يعرفون التربية والتعليم تارة حسب غاياتها، وطورا حسب وسائطها، ولكنهم في آخر الأمر صاروا يلاحظون أنها أفعولة اجتماعية، فأخذوا يعرفونها حسب علاقاتها بالحياة الاجتماعية، حتى إن المفكر الاجتماعي المشهور «إميل دوركهايم» عرف التربية في أوائل القرن الحالي بقوله: «التأثير الذي يجريه الجيل الراشد في الجيل الناشئ.»
إن ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد - في الربع الأخير من القرن الرابع عشر - يكتسب خطورة خاصة من هذه الوجهة؛ لأنه يدل دلالة واضحة على أنه نظر إلى القضية نظر «المفكر الاجتماعي»، ولاحظ أن الجيل الناشئ يتشوق إلى تلقي العلوم والمعارف من الجيل الذي سبقه، فرد بذلك منشأ التعليم إلى هذا «الواقع الاجتماعي». (3)
يلاحظ ابن خلدون أمرا مماثلا لذلك في الصناعات والآداب والتقاليد أيضا؛ لأنه يقول ما يلي في الفصل الذي يقرر «أن التعليم للعلم من جملة الصنائع»: «إن الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدين والدنيا، وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرفاتهم، فلهم في ذلك كله آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبسون به من أخذ وترك، حتى كأنها حدود لا تتعدى، وهي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم» (ص433).
ومن الواضح البديهي أن قوله: «يتلقاها الآخر عن الأول»، لا يختلف معنى ومدلولا عن قولنا: «يتلقاها الجيل الناشئ عن الجيل الراشد.» (4)
يجد ابن خلدون علاقة قوية بين العلوم وبين الصنائع، ويستعمل كلمة التعليم بمعنى شامل، يتناول العلوم من جهة، والصنائع من جهة أخرى:
إنه يقرر في أحد فصول الباب الخامس - الباحث عن أمور المعاش والصنائع - «إن الصنائع لا بد لها من العلم» (ص399)، كما يقرر في أحد فصول الباب السادس - الباحث عن أمور العلم والتعليم - «إن التعليم للعلم من جملة الصنائع» (ص430).
ويعرف ابن خلدون ماهية الصناعة بقوله: «الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري» (ص399)، كما أنه يوضح نظره إلى العلم بقوله: «الحذق في العلم هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئ ذلك العلم وقواعده» (ص430). وبما أنه يعتقد أن الملكات كلها - سواء كانت في البدن أو في الدماغ - تفتقر إلى التعليم، يقول: «ولهذا كان السند في التعليم - في كل علم أو صناعة - إلى مشاهير المعلمين فيها، معتبرا في كل أفق وجيل» (ص430).
3 (1)
لا يكتفي ابن خلدون بتقرير منشأ التعليم بنزعة اجتماعية - كما يفعله كل مفكر اجتماعي - «بل ينظر إلى تطور التعليم ونشوئه» أيضا بنزعة اجتماعية مثلها؛ فإنه يلاحظ أن التعليم يتأثر بأحوال المجتمع إلى حد كبير، ويتقدم ويتأخر مع تقدم أو تأخر الأحوال المذكورة، وذلك في ميداني العلوم والصنائع على حد سواء.
ولذلك نجده يقرر في فصل من فصول الباب الخامس «أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته» (ص400)، وفي فصل آخر من الباب نفسه «أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها» (ص403)، كما أنه يقرر في فصل من فصول الباب السادس «أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة» (ص434). (أ)
يقول ابن خلدون في فصل الصنائع: «والسبب في ذلك» أولا؛ «أن الناس ما لم يستوف العمران الحضري، وتتمدن المدينة ، فإنما همهم في الضروري من المعاش، وهو تحصيل الأقوات. فإذا تمدنت المدينة وتزايدت فيها الأعمال، ووفت بالضروري وزادت عليه، صرف الزائد حينئذ إلى الكمالات من المعاش.»
وثانيا: «أن الصنائع والعلوم إنما هي للإنسان من حيث فكره الذي يتميز به عن الحيوانات، والقوت له من حيث الحيوانية والغذائية، فهو مقدم عليه لضروريته على العلوم والصنائع، وهي متأخرة عن الضروري. وعلى مقدار العمران تكون جودة الصنائع للتأنق فيها حينئذ، واستجادة ما يطلب منها، بحيث تتوفر دواعي الترف والثروة. وأما العمران البدوي أو القليل فلا يحتاج من الصنائع إلا البسيط، خاصة المستعمل في الضروريات. وإذا وجدت هذه لا توجد فيه كاملة ولا مستجادة، وإنما توجد فيها بمقدار الضرورة، إذ هي كلها وسائل إلى غيرها، وليست مقصودة لذاتها.» «وإذا زخر بحر العمران، وطلبت فيه الكمالات، كان من جملتها التأنق في الصنائع واستجادتها، فكملت بجميع متمماتها، وتزايدت صنائع أخرى معها، مما تدعو إليه عوائد الترف وأحواله.» «وقد تنتهي هذه الأصناف - إذا استبحر العمران - إلى أن يوجد منها كثير من الكمالات والتأنق فيها في الغاية، وتكون من وجوه المعاش في المصر لمنتحلها، بل تكون فائدتها من أعظم فوائد الأعمال؛ لما يدعو إليه الترف في المدينة، مثل الدهان، ومعلم الغناء والرقص، ومثل الوراقين الذين يعانون صناعة انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها. فإن هذه الصناعة إنما يدعو إليها الترف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكرية وأمثال ذلك. وقد تخرج عن الحد - إذا كان العمران خارجا عن الحد - كما يبلغنا عن أهل مصر؛ إن فيهم من يعلم الطيور العجم والحمر الإنسية، ويتخيل أشياء من العجائب بإيهام قلب الأعيان، وتعليم الحداء والرقص، والمشي على الخيوط في الهواء، ورفع الأثقال من الحيوان والحجارة، وغير ذلك من الصنائع التي لا توجد عندنا بالمغرب؛ لأن عمران أمصاره لم يبلغ عمران مصر والقاهرة» (ص401). (ب)
ويقول ابن خلدون في فصل آخر: «إن الصنائع تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها»، ويعلل ذلك بما يلي: «والسبب في ذلك ظاهر؛ وهو أن الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجانا؛ لأنه كسبه ومعاشه منه، إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيء مما سواه، فلا يصرفه إلا فيما له قيمة في مصره؛ ليعود عليه بالنفع. وإن كانت الصناعة مطلوبة، وتوجه إليها النفاق، كانت حينئذ الصناعة بمثابة السلعة التي تنفق سوقها وتجلب للبيع، فتجتهد الناس في المدينة لتعلم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم. وإذا لم تكن الصناعة مطلوبة؛ لم تنفق سوقها، ولا يوجه قصد إلى تعلمها، فاختصت بالترك، وفقدت للإهمال» (ص403). (ج)
ويقول في الفصل الذي يقرر «أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة»: «إن تعليم العلم من جملة الصنائع، وقد كنا قدمنا أن الصنائع فإنما تكثر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة، والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة؛ لأنه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم؛ انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان ، وهي العلوم والصنائع. ومن تشوف بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدنة، فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي؛ لفقدان الصنائع في أهل البدو كما قدمناه، ولا بد من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة، شأن الصنائع كلها» (ص434).
ويستشهد على ذلك بأحوال المدن الإسلامية الكبيرة: «واعتبر ما قررناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة، لما كثر عمرانها صدر الإسلام واستوت فيها الحضارة؛ كيف زخرت فيها بحار العلم، وتفننوا في اصطلاحات التعليم. ولما تناقض عمرانها وانذعر سكانها؛ انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفقد العلم بها والتعليم» (ص434).
ويقرر ابن خلدون بعد ذلك أن «العلم والتعليم» كان زاخرا في عهده في مصر القاهرة، قائلا: «ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر.» ويعزو استبحار العلم والتعليم هناك لأسباب تاريخية واجتماعية واقتصادية: «لما أن عمرانها (أي عمران القاهرة) مستبحر، وحضارتها مستحكمة منذ آلاف السنين؛ فاستحكمت فيها الصنائع وتفننت، ومن جملتها تعليم العلم.»
وأكد ذلك فيها وحفظه ما وقع لهذه العصور منذ مائتين من السنين - منذ أيام صلاح الدين بن أيوب - وذلك «أن أمراء الترك في دولتهم يخشون عادية سلطانهم على من يتخلفونه من ذريتهم؛ لما له عليهم من الرق أو الولاء، ولما يخشى من معاطب الملك ونكباته؛ فاستكثروا من بناء المدارس والزوايا والربط، وربطوا عليها الأوقاف المغلة، يجعلون فيها شركا لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها، مع ما فيهم غالبا من الجنوح إلى الخير والتماس الأجور في المقاصد والأفعال. فكثرت الأوقاف لذلك، وعظمت الغلات والفوائد، وكثر طالب العلم ومعلمه بكثرة جريانهم منها، وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب، ونفقت بها أسواق العلوم، وزخرت بحارها» (ص434-435).
إننا نجد في القسم الأخير من هذه الفقرات مثالا بارعا وقيما على «عمل الاقتصاد في التاريخ والعلم والتعليم»، وتعليلا جريئا لكثرة الأوقاف، تعليلا يستند إلى إظهار الدوافع النفعية التي كانت تستتر وراء الكثير من المعاملات الوقفية. (د)
يكرر ابن خلدون ويؤكد المبادئ المقررة في هذين الفصلين في عدة فصول لمناسبات شتى، أهمها ما جاء في فصول الخط والكتابة (ص417)، والغناء (ص423). (2) أصول التعليم
1
لقد خص ابن خلدون فصلا من الباب السادس لتقرير «وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته» (ص533-534)، وعرض في الفصل المذكور عدة قواعد تربوية، استنادا إلى بعض المبادئ النظرية العامة. (1)
إن المبادئ الأساسية التي يستند إليها ابن خلدون في تقرير قواعد التعليم، والملاحظات الجوهرية التي بنى عليها القواعد المذكورة، تتلخص فيما يلي: (أ)
إن الاستعدادات لقبول العلم وفهمه تنشأ تدريجا، ويكون المتعلم في أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة، إلا في الأقل، وعلى سبيل التقريب والإجمال والأمثلة الحسية. (ب)
إن المتعلم إذا حصل على ملكة ما في علم من العلوم؛ استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق، حتى يستولي على غايات العلم. (ج)
إذا عجز الطالب عن فهم ما يلقى عليه في بادئ الأمر - من جراء سوء ترتيب المباحث - حسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه؛ فكل ذهنه عنها وتكاسل عن العلم، وانحرف عن قبوله، وتمادى في هجرانه.
وبتعبير آخر: «أدركه الكلال وانطمس فكره، ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم.» (د)
إن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكرره، وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه. (ه)
إن تقسيم البال بين مسألتين مختلفتين يصعب الفهم، وبعكس ذلك، إن تفرغ الفكر إلى مسألة واحدة، واقتصاره عليها - قبل الانتقال إلى غيرها - يسهل الفهم والتحصيل. (2)
وأما القواعد الأساسية التي يقررها ابن خلدون، فأولها وأهمها هي هذه القاعدة الجامعة: «التدرج مع التكرار، والتوسع المتمركز، مراعاة لعقل المتعلم واستعداده.»
يشرح ابن خلدون هذه القاعدة بتفصيل واف، ويعللها بوضوح تام: «إن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا، وقليلا قليلا.» «يلقي عليه أولا مسائل من كل باب من الفن، هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، وتراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن؛ وعند ذلك يحصل له ملكة في العلم، إلا أنها جزئية وضيقة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله.» «ثم يرجع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن؛ فتجود ملكته.» «ثم يرجع به - وقد شدا - فلا يترك له عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته.» «وهذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك، بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه» (ص523).
إن معظم المعلمين لا يراعون هذا المبدأ، ويسلكون مسلكا يخالفه كل المخالفة. ابن خلدون ينتقد مسلك هؤلاء بشدة: «وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد - الذي أدركنا - يجهلون طرق التعليم وإفادته، ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه، ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله، ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعد لفهمها» (ص533).
يؤيد ابن خلدون رأيه في القاعدة الأساسية بملاحظات نفسية هامة: «فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا، ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة، إلا في الأقل، وعلى سبيل التقريب والإجمال والأمثال الحسية، ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا «بمخالطة» مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه، [والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في]
1
الاستعداد في التحصيل، ويحيط هو بمسائل الفن» (ص534).
ويرى أن النتائج التي تتولد من إهمال قاعدة التدريج في التعليم لا تنحصر في تصعيب الفهم فقط، بل تؤدي - في الوقت نفسه - إلى كلال الذهن وتكاسله، وتستوجب الانحراف عن العلم وهجرانه أيضا: «وإذا ألقيت عليه الغايات في البداءات - وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي، وبعيد عن الاستعداد له - كل ذهنه عنها، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه؛ فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله، وتمادى في هجرانه. وإنما أتى ذلك من سوء التعليم» (ص534). (3)
يلاحظ أن هذه الآراء والملاحظات قيمة جدا، وهي مما أقره علماء التربية في القرن الأخير من حيث العموم.
ومما يستلفت النظر بوجه خاص، أن ما قرره ابن خلدون في هذه القاعدة الأساسية، يشبه تمام الشبه الفكرة الأساسية التي سيطرت على تنظيم الدراسة الابتدائية في فرنسا وفي كثير من البلدان الأوروبية منذ أوائل القرن التاسع عشر.
إذ من المعلوم أن برامج التدريس - رتبت في البلاد المختلفة - في القرن التاسع عشر على أحد النمطين التاليين؛ نمط الدراسة المتسلسلة، ونمط الدروس المتوسعة المتمركزة.
2
في النمط الأول تتوالى المباحث - من أول الدراسة إلى آخرها - كما تتوالى الزرود في سلسلة واحدة، فكل بحث يتصل بما قبله من جهة، وبما بعده من جهة أخرى، شأن زرود السلسلة. وأما في النمط الثاني فتترتب المباحث على هيئة حلقات متحددة المركز، متدرجة الاتساع، فتدخل الحلقة الأولى في الثانية، والثانية في الثالثة، ويكون المركز - أي مبدأ الأقطار - مشتركا في كل هذه الحلقات.
فالمباحث تتوالى - في الترتيب الأول - من غير أن تتكرر، ولا أن تتوسع، في حين أنها تتكرر وتتوسع في الترتيب الثاني بقدر عدد الحلقات.
والدراسة الابتدائية في فرنسا مثلا لا تزال مقسمة إلى ثلاث دورات؛ أولى، ومتوسطة، وعليا. ففي الدورة الأولى يدرس العلم من أوله إلى آخره على شكل مختصر إجمالي، مقتصرا على النقاط الأساسية والبسيطة. وفي الدورة المتوسطة تعاد الأبحاث كلها - من الأول إلى الآخر - بمقياس أوسع مع تفصيل أزيد. وفي الدورة الأخيرة والعليا تعاد المباحث للمرة الثالثة على شكل أوسع وأتم من كل ما سبق. فإذا استعرضنا سلسلة كتب الدراسة الابتدائية - من الحساب والقواعد إلى التاريخ مثلا - نجدها مؤلفة من ثلاث درجات، كل واحدة منها قائمة بنفسها، ولكنها أكثر تفصيلا، وأوسع نطاقا من التي تسبقها، وأشد إجمالا من التي تليها. فنستطيع أن نقول في شأنها ما قاله ابن خلدون في الطريقة التي اقترحها: «هذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنما يحصل بثلاث تكرارات» (ص534). (4)
بعد هذه القاعدة الأساسية يقرر ابن خلدون ثلاث قواعد عامة أخرى:
أولا:
على المعلم ألا يخلط مباحث الكتاب الواحد بكتاب آخر.
ثانيا:
عليه ألا يطول الفواصل بين درس ودرس.
ثالثا:
عليه ألا يخلط على المتعلم علمين معا.
يشرح ابن خلدون كل واحدة من هذه القواعد على حدة، ويبين الأسباب الموجبة لها: (أ)
لا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتعليم - مبتدئا كان أو منتهيا - وألا يخلط مسائل الكتاب بغيرها، حتى يعيه من أوله إلى آخره، ويحصل أغراضه ويستولي منها على ملكة بها ينفذ في غيره.» «لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق، حتى يستولي على غايات العلم. وإذا خلط عليه الأمر؛ عجز عن الفهم، وأدركه الكلال، وانطمس فكره، ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم» (ص654). (ب) «ينبغي ألا تطول على المتعلم في فن واحد بتفريق المجالس وتقطع ما بينها؛ لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها . وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة - مجانبة للنسيان - كانت الملكة أيسر حصولا، وأحكم ارتباطا، وأقرب صبغة؛ لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكرره، وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه» (ص534). (ج) «ومن الطرق الواجبة في التعليم ألا يخلط على المتعلم علمان معا، فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما؛ لما فيه من تقسيم البال، وانصرافه عن كل واحد منهما بالخيبة. وإذا تفرغ الفكر لتعلم ما هو بسبيله مقتصرا عليه؛ ربما كان ذلك أجدر لتحصيله» (ص534).
2
إن القواعد التي يضعها، والطرائق التي يقترحها ابن خلدون في التربية والتعليم، لا تنحصر في ما جاء في الفصل الأساسي السالف الذكر، بل إن الفصول الأخرى أيضا تقرر قواعد عديدة يراها ابن خلدون ضرورية لنجاح التعلم والتعليم. (1)
يتوسع ابن خلدون بعض التوسع في شرح مفهوم التعليم وتعيين غايته، في الفصل الذي يقرر «أن التعليم للعلم من جملة الصنائع» (ص430-434).
إن التعليم لا يستهدف «الفهم والوعي» فقط، فلا يتم ب «الحفظ» وحده، بل إنما يتم بتكوين «ملكة التصرف في العلم والتعليم» (ص442).
فيجب على الطالب أن يحذق في العلم، ويتفنن فيه، ويستولي عليه (ص430)، ويصبح قادرا على المفاوضة والمناظرة فيه (ص432)، وذلك إنما يتم «بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئ العلم وقواعده، والوقوف على مسائله، واستنباط فروعه من أصوله» (ص437).
يسمي ابن خلدون هذه الملكة باسم «الملكة العلمية» (ص432)، ويقرر أنها لا تحصل بمجرد حفظ مباحث العلم، حتى ولا بفهم تلك المباحث ووعيها، بل إنما تحصل «بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة في مواضيع العلم»؛ فإن المحاورة والمناظرة هي التي تولد «ملكة التصرف»، و«ملكة استنباط الفروع من الأصول».
ولهذا السبب ينتقد ابن خلدون كثرة الحفظ، ويقول بلزوم اتباع طريقة المحاورة والمناظرة في العلم والتعليم: «إن أيسر طرق هذه الملكة (أي ملكة العلم) فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها» (ص431). «فتجد طالب العلم منهم - بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية - سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة، فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم. ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل؛ نجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم، وما أتاهم القصور إلا من قبيل» رداءة طريقة «التعليم وانقطاع سنده، وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به، وظنهم أنه المقصود في الملكة العلمية، وليس كذلك» (ص432).
يتبين من ذلك أن الطريقة التي تتبع في التعلم والتعليم تأتي بنتائج هامة حسب جودتها أو رداءتها. يستشهد ابن خلدون على ذلك بمقارنة مدارس تونس بمدارس المغرب: «ومما يشهد بذلك في المغرب أن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ست عشرة سنة، وهي بتونس خمس سنين. فطال أمدها في المغرب لهذه المدة لأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة ، لا مما سوى ذلك» (ص432). (2)
يقرر ابن خلدون في فصل خاص «أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم» (ص540)، ويشرح ذلك بقوله: «وذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم، سيما في أصاغر الولد». ثم يعلل هذه القاعدة بما يلي:
إن الشدة على المتعلم تؤدي إلى ثلاث نتائج سيئة: (أ)
إنها تذهب بالنشاط وتدعو إلى الكسل. (ب)
إنها تحمل على الكذب والخبث. (ج)
إنها تعلم المكر والخديعة.
لا يحصر ابن خلدون ذلك بالمتعلمين وحدهم، بل يشمل ويعم هذه القاعدة على المماليك والخدم أيضا، إذ إنه يقول: «من كان مرباه بالعسف والقهر - من المتعلمين أو المماليك أو الخدم - سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث - وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه - وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالا على غيره في ذلك.» «بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين» (ص540).
إن هذه القاعدة تنطبق على أحوال الأمم أيضا: «وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر، ونال منها العسف. واعتبره في كل من يملك أمره عليه، ولا تكون الملكة الكافلة رفيقة به، وتجد ذلك فيهم استقراء» (ص540). «وانظره في اليهود، وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء، حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج، ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد، وسببه ما قلناه» (ص547).
وبعد ذلك يكرر ابن خلدون القاعدة ويؤكدها بقوله: «فينبغي للمعلم في متعلمه، والوالد في ولده، ألا يستبدا عليهما في التأديب» (ص540).
ثم يذكر ما قاله محمد بن أبي زيد في الكتاب الذي ألفه «في حكم المعلمين والمتعلمين»: «لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم - إذا احتاجوا إليه - على ثلاثة أشواط شيئا.»
وفي الأخير يذكر ابن خلدون وصية الرشيد لمعلم ولده وينقل منها العبارة التالية: «لا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته؛ فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما، فعليك بالشدة والغلطة» (ص541).
يعتبر ابن خلدون مضمون هذه الوصية «من أحسن مذاهب التعليم».
ومما يجدر بالملاحظة أن هذه الوصية لا تكتفي بالنهي عن الشدة، بل إنها تطلب في الوقت نفسه «عدم الإمعان في المسامحة»؛ لأنها ترى أن في الشدة إماتة للذهن، وفي المسامحة الزائدة التعويد على الفراغ والبطالة.
هذا ويقرر ابن خلدون في فصل من فصول الباب الثالث الباحث عن الدولة العامة، «أن إرهاف الحد مضر بالملك، ومفسد له على الأكثر» (ص188). ويبرهن بذلك على أن تأثير القهر والشدة لا ينحصر في أخلاق الأفراد، بل يتعداها إلى الأمم أيضا. «فإن الملك إذا كان قاهرا باطشا بالعقوبات، منقبا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم؛ شملهم الخوف والذل، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة، وتخلقوا بها وفسدت بصائرهم» (ص188). (3)
يقرر ابن خلدون في فصل خاص «أن الرحلة في طلب العلم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم» (ص541)، ويشرح ذلك ويعلله كما يلي: «لأن الرحلة في طلب العلم تمكن الطالب من لقاء شيوخ كثيرين، ومن المعلوم أن لكل شيخ من مشاهير الشيوخ - سيما في البلاد المختلفة - اصطلاحات خاصة، ومنهجا خاصا، وطريقة خاصة في البحث والنظر والتعليم. فإذا خالطهم الطالب واحدا بعد آخر، وتلقن من كل واحد منهم اصطلاحاته الخاصة، واطلع على الطرائق المختلفة التي يتبعها هؤلاء المشايخ في أبحاثهم وأنظارهم؛ حصل الطالب على ملكة علمية أقوى وأتم من التي يستطيع الحصول عليها من شيخ واحد في مدينة واحدة.»
زد على ذلك أن الطالب يستطيع حينئذ أن يميز اصطلاحات العلوم من العلوم نفسها، ويتوصل بذلك إلى مرتبة أعلى من الملكات العلمية؛ ولذلك يؤكد ابن خلدون: «إن الرحلة لا بد منها في طلب العلم، واكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال» (ص541). (4)
لا يتكلم ابن خلدون في العلوم الواجب تدريسها، ولا يحاول تقرير برنامج للدروس حسب مصطلحاتنا الحالية.
ومع هذا فإنه يقرر العلوم التي يجب التوسع فيها، ويميزها من التي يجب الاقتصار على الضروري منها، إنه يميز «العلوم الآلية» من «العلوم المقصودة بالذات» - وفقا لما كان متعاهدا في زمانه - ويبين محاذير التوسع في العلوم الآلية، وذلك في فصل خاص يعنونه بالعنوان التالي: «فصل في أن العلوم الآلية لا توسع فيها الأنظار، ولا تفرع المسائل» (ص537).
يقول ابن خلدون في هذا الفصل: «إن العلوم المتعارفة بين أهل العمران صنفان: (أ)
علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير، والحديث، والفقه، وعلم الكلام؛ وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة. (ب)
وعلوم هي وسيلة آلية لهذه العلوم: كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات، وكالمنطق للفلسفة، وربما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين» (ص537). «فإما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها، وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار؛ فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته، وإيضاحا لمعانيها المقصودة. وأما العلوم التي هي آلة لغيرها - مثل العربية والمنطق وأمثالها - «فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط»، فيجب الاجتناب من توسيع الكلام وتفريع المسائل بها؛ وذلك للسببين التاليين: (أ) «لأن التوسع في العلوم الآلية يخرجها عن المقصود، إذ المقصود منها ما هو إلا الاستفادة منها كآلة لا غير.»
إن العلوم المذكورة كثيرة الفروع والمباحث، غير أن قسما كبيرا من تلك المباحث مما لا حاجة إليها في العلوم المقصودة، فالاشتغال بها يكون من نوع اللغو.» (ب)
زد على ذلك، فإن التوسع في العلوم الآلية يضيع أوقات الطلاب، ولم يترك أمامهم مجالا كافيا «لتحصيل العلوم المقصودة بالذات، مع أن شأنها أهم.»
فعلى المعلمين «أن يهتموا بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها»، فإنهم «إذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل»؛ لا يجدون متسعا من الوقت «للظفر بالمقاصد» (ص537). «لأن العمر يقصر عن تحصيل جميع هذه العلوم على هذه الصورة، فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر، وشغلا بما لا يغني.»
ولذلك ينتقد ابن خلدون التقاليد السائدة في زمانه في هذا الصدد انتقادا شديدا: «هذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه؛ لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها، وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها على كونها آلة، وصيرها من المقاصد.»
ولذلك يقرر أنه «يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية ألا يستبحروا في شأنها»، وينبهوا المتعلم إلى الغرض منها، ويقفوا به «عند ذلك الغرض».
يقول ابن خلدون ذلك بالنسبة إلى طلبة العلم بوجه عام، ولكنه لا ينهى عن التخصص في تلك العلوم، وعن التوغل في فروعها لجماعة من العلماء؛ لأنه يقول بعد ذلك: «فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل، فليرق له ما شاء من المراقي، صعبا أو سهلا» (ص537).
3
إن الطرائق والقواعد التي ذكرناها إلى الآن تعود إلى «تعليم العلوم» بوجه عام، فلا تختص بعلم من العلوم بوجه خاص.
فإن ابن خلدون لا يبحث عن القواعد الخاصة التي تجب مراعاتها في تعليم كل علم على حدة، إلا في موضوع واحد هو موضوع «اللسان المصري». إنه يشرح الطريقة التي يجب اتباعها لتعليم «اللسان المضري» في فصل خاص (ص59)، ثم يوسع ويوضح الملاحظات التي يبديها في الفصل المذكور في عدة فصول أخرى: (1)
إن ما نسميه نحو اليوم باسم «اللغة الفصحى» كان يسميه ابن خلدون في مقدمته باسم «لسان العرب»، و«اللسان العربي»، أو «لغة مضر»، أو «اللسان المضري»، وقد سماه مرة «اللسان المدون» (ص56) أيضا. وأما ما نسميه اليوم باسم «اللغة العامية» فكان يشير إليها ابن خلدون بتعبير «لغة الأمصار» بالنسبة إلى الحضر، و«لغة الجيل» أو «لغة العرب لهذا العهد» بالنسبة إلى البدو.
يقول ابن خلدون: «إن اللسان المدون يختلف عن اللسان الدارج في الإعراب وفي كثير من الموضوعات اللغوية وفي بناء الكلمات» (ص558). غير أنه يقرر في الوقت نفسه أن الفارق الأساسي الذي يميز الثاني من الأول إنما هو وجود أو عدم وجود الإعراب في أواخر الكلم. (2)
ثم إنه يبين العامل الأصلي الذي استوجب الاهتمام بلغة مضر، وأدى إلى تمسك الأدباء والعلماء بها؛ لأن القرآن نزل بلغة مضر، والحديث النبوي نقل فيه، فأصبحت معرفة هذه اللغة ضرورية لفهم «كتاب الله وسنة رسوله»، ومن المعلوم أنهما «أصلا الدين والملة» (ص556).
إن لغة مضر هذه كانت - فيما مضى - دارجة عند القوم؛ إذ إنها كانت لغة التخاطب فيما بينهم. إنها كانت «ملكة في ألسنتهم، يأخذها الآخر عن الأول، كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا» (ص546).
غير أن الأحوال تبدلت بعد ظهور الإسلام تبدلا كليا: «لما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول» (ص546)، واستولوا «على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب» (ص551)، وخالطوا الأمم في هذه البلاد المفتوحة؛ تغيرت ملكة اللسان المضري وفسدت؛ فتكونت في الأمصار والبوادي لغات جديدة تختلف عن «لغة مضر» الذي نزل بها القرآن في الإعراب، وفي كثير من الموضوعات «اللغوية وبناء الكلمات» (ص582)؛ فأصبحت لغة مضر مما لا يمكن اكتسابها بالمعاشرة والمخالطة والمباشرة، وصارت مما يفتقر إلى تعليم خاص. (3)
ولهذا السبب يهتم ابن خلدون باللسان المضري، ويقرر الطريقة التي تضمن تعليمه.
من المعلوم أنه يعتبر اللغات بمثابة «ملكات في اللسان»، ويلاحظ أن الملكات لا تتكون - بوجه عام - إلا بالممارسة والتكرار - [القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته - التربية والتعليم - النفس الإنسانية] - ولذلك يبني نظريته في «طريقة تعليم اللسان المضري» على هذا الأساس: «وجه التعليم لمن يبتغي» ملكة اللسان المضري «ويروم تحصيلها؛ أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث وكلام السلف ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم، حتى يتنزل - لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور - منزلة من نشأ بينهم، ولقن العبارة عن المقاصد منهم.» «ثم ينصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عباراتهم وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم؛ فتحل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتها رسوخا وقوة» (559).
ومع هذا يرى ابن خلدون أن هذا «الحفظ والاستعمال» يجب أن يترافق مع «سلامة الطبع» و«التفهم الحسن»، فيعقب على العبارة الأخيرة بقوله: «ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع والتفهم الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب، ومراعاة التطبيق بينها وبين مقتضيات الأحوال» (ص559). «ومن حصل على هذه الملكات، فقد حصل على لغة مضر، وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها.» «وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها» (ص559).
ثم يختم الفصل قائلا: «وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما ونثرا.» (4)
يكرر ابن خلدون هذه الملاحظات في عدة فصول أخرى بوسائل شتى، ويزيدها وضوحا خلال هذا التكرار.
فإنه يوضح في فصل آخر كيفية تولد هذه الملكة بتشبيه مادي جذاب: «إن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم، فينسج هو عليه. وينزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم، حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم» (ص561).
ثم يقرر ابن خلدون - في فصل آخر - وجوب الفهم قبل الحفظ من جهة، ووجوب التفطن لخواص التراكيب خلال الحفظ والاستعمال من جهة أخرى.
فيقول في فصل علم الأدب: «يجب ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة.» ويصرح بأن «المقصود من ذلك كله ألا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب، وأساليبهم، ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه.» ويعلل ذلك بقوله: «لئلا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه» (ص573).
ثم يؤكد على ذلك قائلا: «فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه» (ص553).
ويقول ابن خلدون في فصل «تفسير الذوق»: «إن هذه الملكة إنما تحصل بممارسة كلام العرب، وتكرره على السمع، والتفطن لخواص تراكيبه» (ص562). (5)
يتبين من كل ذلك أن سبيل الحصول على ملكة اللسان المضري - في نظر ابن خلدون - هو «الحفظ الكثير من كلام العرب مع فهمه، وممارسة ذلك الكلام مع التفطن لخواص تراكيبه.»
يلاحظ أن الطريقة التي يقررها ابن خلدون بهذه الصورة لتعليم اللسان المضري هي من نوع «التعليم بالممارسة والمباشرة»، ومخالفة لطريقة «التعليم بالقواعد والقوانين». إنه يصرح بذلك في فصل آخر بتعبير أوضح، حيث يقول: «إن ملكة هذا اللسان هي غير صناعة العربية، ومستغنية عنها في التعليم» (ص561).
إن المقصود من تعبير «صناعة العربية» المذكور هنا هو «علم النحو»، كما يصرح بذلك ابن خلدون في عدة مواضع.
إنه يشرح أسباب تكوين هذا العلم بإسهاب: حينما أخذت ملكة اللغة المضرية تفسد شيئا فشيئا، حتى خشي أهل العلوم أن تفسد تماما، ويطول العهد بها فتنسى؛ «فينغلق القرآن والحديث على الأفهام»؛ ولذلك قد شعروا بحاجة ماسة إلى «تدوين أحكام اللسان المضري، ووضع مقاييسه واستنباط قوانينه»، وأوجدوا بذلك علما «ذا فصول وأبواب ومقدمات ومسائل، سماه أهله بعلم النحو وبصناعة العربية» (ص556).
فأصبح هذا العلم «فنا محفوظا وعلما مكتوبا، وسلما إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله وافيا» (ص557).
يقرر ابن خلدون أن معرفة صناعة العربية لا تضمن حصول ملكة اللسان العربي، ويعلل رأيه بالملاحظات التالية: «والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة.»
فإن من يتعلم هذه القوانين من غير أن يسعى إلى اكتساب هذه الملكة يكون «بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علما، ولا يحكمها عملا» (ص560). وتوضيحا لرأيه هذا يشير إلى الفرق «بين معرفة أصول الخياطة أو النجارة نظريا، وبين إحكامها عمليا» (راجعوا الصفحة 430 من هذه الدراسات). ثم يقول: «وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل؛ ولذلك نجد كثيرا من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علما بتلك القوانين، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته، أو شكوى ظلامة، أو قصد من قصوده؛ أخطأ فيها عن الصواب وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي» (ص650).
وبعكس ذلك «نجد كثيرا ممن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المفعول من المجرور، ولا شيئا من قوانين صناعة العربية» (ص560). «فمن هذا تعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة» (ص560). (6)
لا ينكر ابن خلدون إمكان اجتماع معرفة قوانين الإعراب مع ملكة اللسان المضري، ولكنه يلاحظ أن ذلك يتأتى على الأكثر من الجمع بين الطريقتين، ولا سيما خلال درس كتاب سيبويه.
لأن سيبويه «لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة، فنجد العاكف عليه والمحصل له قد حصل على حظ من كلام العرب، واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته، فتنبه به شأن الملكة، فاستوفى تعليمها؛ فكان أبلغ في الإفادة.» «ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه من يغفل عن التفطن لهذا، فيحصل على علم اللسان صناعة، ولا يحصل عليه ملكة» (ص561).
ولكن كتب المتأخرين قد حادت عن سواء السبيل، فاقتصرت على «ذكر القوانين النحوية مجردة عن أشعار العرب وكلامهم»؛ ففقدت بذلك إمكان الإفادة البتة. «أما المخالطون لكتب المتأخرين العارية عن ذلك، إلا من القوانين النحوية مجردة عن أشعار العرب وكلامهم، فقل ما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها، فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب، وهم أبعد الناس عنها» (ص561). (7)
يوازن ابن خلدون بين طريقة أهل الأندلس وبين طريقة أهالي سائر البلاد في تعليم صناعة العربية، ويقرر أن طريقة الأندلسيين أكثر إفادة؛ وذلك لاهتمامهم بالإكثار من الشواهد والتفقه في التراكيب: «أهل صناعة العربية في الأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها من سواهم؛ لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم، والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم، فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم؛ فتنقطع النفس لها، وتستعد إلى تحصيلها وقبولها.» «وأما من سواهم من أهل المغرب وإفريقية وغيرهم، فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثا، وقطعوا النظر عن التفقه في كلام العرب، إلا إن أعربوا شاهدا، أو رجحوا مذهبا من جهة الاقتضاء الذهني، لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه، وأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان وملكته، وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتركيبه وتمييز أساليبه، وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم، فهو من أحسن ما تفيده الملكة في اللسان. وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم، ولكنهم أجروها على غير ما قصد بها، وأصاروها علما بحتا، وبعدوا عن ثمرتها» (ص561). (8)
يتبين من كل ما سبق أن ابن خلدون ينتقد طريقة التعليم المستندة إلى قواعد النحو انتقادا مرا، ويؤكد وجوب ترك هذه الطريقة، ويقول بوجوب اتباع طريقة التعليم المستندة إلى تحفيظ كلام العرب وأشعارهم، والتمرين على النسج على منوالهم.
4
إن هذه الآراء والملاحظات الأساسية لا يحصرها ابن خلدون بقواعد النحو وحدها، بل يعممها على قوانين البيان والعروض، ويطبقها على فنون الأدب - من المنثور والمنظوم - بوجه عام. (1)
يبين ابن خلدون كيفية تكون ملكة البلاغة في فصل «تفسير الذوق» (ص562-564)، ويشرح كيفية تكون ملكة الشعر في فصل «صناعة الشعر ووجه تعلمه» (ص569-577)، ويقرر في كلا الفصلين أن ذلك لا يتم إلا بكثرة الحفظ والممارسة.
وفي الواقع إن العلماء استنبطوا قوانين النحو والبلاغة والعروض عن طريق النظر في كلام العرب وأشعارهم، فدونوا العلوم المعروفة باسم النحو والبيان والعروض. ولكن ابن خلدون يعتقد أن تعلم وتعليم هذه القوانين وهذه العلوم لا يضمن حصول «ملكة البلاغة» ولا «ملكة الشعر»، حتى إنه يدعي مرة «بأن تعليم هذه القوانين لا يفيد شيئا»، ويؤكد أن هاتين الملكتين لا تحصلان إلا بكثرة الحفظ من كلام العرب - بين منظوم ومنثور - وبكثرة الممارسة والعمل على منوالها، فإن «مخالطة كلام العرب» على هذه الصورة هي التي تكون «الذوق»، وهي التي تكسب «الأسلوب».
فإن اكتساب الذوق يعني الحصول على ملكة البلاغة (ص564)، وأما اكتساب الأسلوب فيعني الحصول على المنوال الذي تنسج عليه التراكيب، أو القالب الذي يفرغ فيه الكلام (ص570).
إن معرفة قوانين البلاغة والنحو لا تكفي لتكوين الذوق (ص572)، كما أن معرفة قوانين العروض - علاوة على قوانين النحو والبلاغة - لا تكفي لتحصيل ملكة الشعر، وهذه الملكات إنما تحصل بالممارسة والاعتياد والتكرار لكلام العرب من منظوم ومنثور. «لا تقولن إن معرفة قوانين البلاغة كافية لتكوين ملكة البلاغة والذوق» (ص579).
واعلم أن «من عرف تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب لا يكون قد حصل عليها، إنما يكون قد حصل على أحكامها فقط» (ص563). (2)
يتوسع ابن خلدون في بحث ملكة الشعر، ويتتبع عمل الحفظ من جهة، وعمل الممارسة من جهة أخرى في تكوين هذه الملكة، فيقول إن كثرة الحفظ تكون في الذهن قالبا يبنى فيه، ومنوالا ينسج عليه؛ لأن الذهن ينتزع من أعيان التراكيب وأشخاصها صورة ذهنية عامة تصير في الخيال كالقالب أو المنوال. ومؤلف الكلام إنما هو كالبناء أو النساج، والصورة الذهنية العامة كالقالب الذي يبنى فيه، أو المنوال الذي ينسج عليه. فعلى من يريد نظم الشعر أن يحفظ الكثير من الأشعار، وأن يكثر من النظم حتى تستحكم فيه ملكة الشعر وترسخ.
وخلاصة القول: إن تعلم الأدب - مثل اكتساب ملكة اللسان المضري بوجه عام - لا يكون بتعليم قواعد البلاغة وأمثالها، بل إنما يكون بالإكثار من حفظ كلام العرب وأشعارهم بممارسة النسج على منوالها.
يكرر ابن خلدون هذه المبادئ والقواعد عدة مرات، ويشرحها بتفصيل واف في عدة محلات. (3)
ونحن ننقل فيما يلي أهم الفقرات التي تشرح وتؤيد رأي ابن خلدون في هذا الصدد: (أ) «إن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان، ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان.»
وأما البلاغة فإنها «مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه، بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك، فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه، يتحرى الهيئة المفيدة لذلك، على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم، وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده. فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب؛ حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه، وسهل عليه أمر التركيب، حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب. وإن سمع تركيبا غير جار على ذلك مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر، إلا بما استفاد من حصول هذه الملكة» (ص562). (ب) «إن الملكات إذا استقرت ورسخت في محلها؛ ظهرت كأنها طبيعة وجبلة لذلك المحل»؛ ولذلك «يظن كثير من المغفلين - ممن لم يعرف شأن الملكات - أن الصواب للعرب في لغتهم - إعرابا وبلاغة - أمر طبيعي، ويقول: كانت العرب تنطق بالطبع. وليس كذلك. وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت، فظهر في بادئ الرأي أنها جبلة وطبع، وهذه الملكة إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع، والتفطن لخواص تراكيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية التي استنبطها أهل صناعة اللسان؛ فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان، ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها» (ص562).
إن «ملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم وحسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم، ولو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السبل المعينة، والتراكيب المخصوصة لما قدر عليه، ولا وافقه عليه لسانه؛ لأنه يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده. وإذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم؛ أعرض عنه ومجه، وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم، وربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما يفعل أهل القوانين النحوية والبيانية» (ص562). (ج)
يرجع في صناعة الشعر «إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية - باعتبار انطباقها على تركيب خاص - وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها، ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب - باعتبار الإعراب والبيان - فيرصها فيها رصا، كما يفعله البناء في القالب والنساج في المنوال» (ص571). (د) «وهذه الأساليب التي نقررها ليست من القياس في شيء، إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان، حتى تستحكم صورتها، فيستفيد بها العمل على مثالها، والاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر» (ص572). «إن مؤلف الكلام كالبناء أو النساج، والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبنى فيه، أو المنوال الذي ينسج عليه» (ص572).
إن الأساليب المستعملة في لسان العرب لا يعرفها «إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة قالب كلي مطلق، يحذو حذوه في التأليف، كما يحذو البناء على القالب، والنساج على المنوال» (ص572-573). «نعم، إن مراعاة قوانين هذه العلوم (أي علوم النحو والبيان والعروض) شرط فيه لا يتم بدونها، فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام؛ اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها أساليب، ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظما ونثرا» (ص573). «إن المحصل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم، وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور» (ص573). (ه) «اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطا؛ أولها الحفظ من جنسه - أي من جنس شعر العرب - حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها، ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب، وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من فحول الإسلاميين، وأكثرها شعر كتاب الأغاني» (ص574). «ثم بعد الامتلاء عن الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال، يقبل على النظم، وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ. وربما يقال من شرطه نسيان ذلك المحفوظ؛ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة، إذ هي صادرة عن استعمالها بعينها، فإذا نسيها - وقد تكيفت النفس بها - انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يؤخذ بالنسج عليه بأمثالها من الكلمات الأخرى» (ص574). (و) «إن حصول ملكة الشعر بكثرة الحفظ، وجودتها بجودة المحفوظ. لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي، وعلى قدر جودة المحفوظ تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ.» «وعلى مقدار المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام؛ ترتقي الملكة الحاصلة؛ لأن الطبع إنما ينسج على منوالها، وتنمو قوى الملكة بتغذيتها» (ص574). (4)
يلاحظ أن الآراء التي يبديها ابن خلدون في هذا الصدد تنطوي على ملاحظات نفسية دقيقة وقيمة.
إننا نود أن نلفت الأنظار - بوجه خاص - إلى الأقسام التالية منها:
أولا:
في آخر الفقرة «أ» المنقولة آنفا، يصف ابن خلدون حالة من يحصل على ملكة البلاغة، ويقول إنه إذا سمع تركيبا غير جار على منحى البلاغة التي للعرب؛ مجه بأدنى فكر، بل وبغير فكر.
ثانيا:
في آخر الفقرة «ب» المنقولة آنفا، يتكلم ابن خلدون عن صاحب ملكة البلاغة، ويقول إذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب وبلاغتهم؛ أعرض عنه ومجه، مع إنه ربما يعجز عن بيان أسباب ذلك.
ثالثا:
في آخر الفقرة «ه» يوضح ابن خلدون عمل الحفظ في تكوين ملكة الشعر، ثم يقول: «ربما يقال من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة، فإذا نسيها - وقد تكيفت النفس بها - انتقش الأسلوب فيها، كأنه منوال يؤخذ بالنسج عليه بأمثالها.»
يلاحظ أن جميع هذه العبارات تدل على ملاحظة دقيقة في عمل اللاشعوريات في تكوين الملكات بوجه عام، وملكة البلاغة وملكة الشعر بوجه خاص. فإن ما يتم «بأدنى فكر، بل وبغير فكر»، يكون مثالا جيدا على عمل اللاشعور، وعلى عمل التكرار والممارسة التي تجعل الأمر لا شعوريا.
وكذلك إن الحكم الذي يصدره الإنسان عن أمر من الأمور، من غير أن يتمكن من تعليل حكمه، ومن إقامة الحجة عليه، يكون مثالا بارزا للتقدير اللاشعوري.
وفي الأخير فإن الأثر الذي يبقى في النفس من جراء الحفظ - بعد نسيان المحفوظ - من أهم الملاحظات النفسية التي تؤثر تأثيرا عميقا في نظريات التربية والتعليم.
ولهذا السبب نحن نعد الفقرة المذكورة من أهم العبارات التي تدل على نفوذ نظر ابن خلدون: «ربما يقال من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة بعد أن تكيفت النفس بها.»
إن هذه الملاحظة تشير أولا إلى ما يبقى في الذهن وفي النفس من الأثر اللاشعوري من جراء كثرة الحفظ، حتى بعد نسيان المحفوظ، وتقرر ثانيا أن ذلك أوفق لمصلحة الناظم ؛ لأن الشعر الذي يبقى في البال بحروفه، قد يحمل على التقليد، ويحول دون الابتكار. غير أنه إذا نسي - بعد أن تكيفت النفس بها، وانتقش الأسلوب فيها - يكون قد ترك أثرا «تربويا» يعمل عملا ناجعا في نظم الشعر على منوال المحفوظ المنسي، فيفسح بذلك ميدانا واسعا للابتكار.
إن هذه الملاحظة تنطبق على الكثير من أمور التربية في ساحة أوسع من ساحة الشعر، بل إنها تنطبق على كل ما يتعلق بأمور الثقافة، وقد عرف أحد المفكرين المعاصرين الثقافة بقوله: «هي ما ينساه المرء بعد أن يتعلمه.» من المعلوم أن هذا القول ينطوي على حصة كبيرة من الحقيقة، على الرغم من الغرابة التي تبدو عليه عند الوهلة الأولى.
فنستطيع أن نقول لذلك إن ملاحظة ابن خلدون في هذه القضية كانت ملاحظة عميقة ودقيقة جدا.
5
يتكلم ابن خلدون عن «تعليم الصنائع» أيضا في الفصل القائل «إن الصنائع لا بد لها من العمل» (ص399-400).
إنه يقرر في الفصل المذكور مبدءين أساسيين لهذا التعليم: (أ)
إن تعليم الصناعة لا يكون إلا بالمباشرة والممارسة. (ب)
إن تعليم الصناعة إنما يكون بالتدريج من البسيط إلى المركب.
يوضح ابن خلدون كل واحد من هذين المبدءين بتفصيلات وافية:
أولا: «إن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري، وبكونه عمليا هو جسماني محسوس، والأحوال الجسمانية المحسوسة فنقلها بالمباشرة أوعب لها وأكمل؛ لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية أتم فائدة.
والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرة بعد أخرى، حتى ترسخ صورته، وعلى نسبة الأصل تكون الملكة.
ونقل المعاينة أوعب وأتم من نقل الخبر والعلم؛ فالملكة الحاصلة [أكمل وأرسخ من الملكة الحاصلة] عن الخبر، وعلى قدر جودة التعليم وملكة المتعلم [يكون حذق المتعلم]
3
في الصناعة وحصول ملكته» (ص200).
ثانيا: «إن الصنائع منها البسيطة ومنها المركب، والبسيط هو الذي يختص بالضروريات، والمركب هو الذي يكون للكماليات، والمتقدم منها في التعليم هو البسيط؛ لبساطته أولا «لأنه مختص بالضروري الذي تتوفر الدواعي على نقله، فيكون سابقا في التعليم» (ص400). (3) معلومات تاريخية عن أحوال التعليم
إذا بحثنا في طيات مقدمة ابن خلدون عن المواد والمباحث التي تهم «تاريخ التربية والتعليم»؛ استطعنا أن نقتطف المعلومات التالية عن أمور المدارس، وأحوال التعليم في عهد كتابة المقدمة:
1 (1)
إن التعليم والتدريس كان حرا، وكان لكل من يجد في نفسه الكفاءة أن يزاول التعليم في المحل الذي يختاره على الطريقة التي يرتئيها، من غير أن يتقيد بقيد حكومي وسلطاني، غير القيود التي يقررها ويفرضها العرف والعادة.
وكان له أن يفعل ذلك في المساجد أيضا: «للمدرس الانتصاب لتعليم العلم وبثه، والجلوس لذلك في المساجد» (ص220).
ولكن من المعلوم «أن المساجد في المدينة صنفان؛ مساجد عظيمة كثيرة الغاشية، معدة للصلوات المشهودة، وأخرى دونها، مختصة بقوم أو محلة، وليست للصلوات العامة. فأما المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوض إليه من سلطان أو وزير أو قاض، وأما المساجد المختصة بقوم أو محلة، فأمرها راجع إلى الجيران، ولا تحتاج إلى نظر خليفة أو سلطان» (ص219).
فإذا أراد المدرس التدريس في مسجد من الصنف الأول من المساجد «التي للسلطان الولاية عليها والنظر في أئمتها كما مر، كان لا بد من استئذانه في ذلك»، ولكنه إذا أراد التدريس في مسجد من الصنف الثاني «فلا يتوقف ذلك على إذن» (ص220). ومع هذا يقرر ابن خلدون أنه: «ينبغي أن يكون لكل أحد من المفتين والمدرسين زاجر من نفسه، يمنعه عن التصدي لما ليس له بأهل» (ص200). «ولم يكن هناك شيء يشبه المراقبة الرسمية على المدرسين والمعلمين سوى ما يدخل في وظائف «الحسبة»» (ص225).
من المعلوم «أن الحسبة وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، والموظفون الذين يعهد إليهم بها «يبحثون عن المنكرات، ويعزرون ويؤيدون على قدرها، ويحملون الناس على المصالح العامة في المدينة.»
يعدد ابن خلدون المصالح العامة التي تدخل في نطاق مراقبة الحسبة، ويذكر بينها «الضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها، في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين» (ص225). (2)
ومما يجدر بالذكر أن أصحاب الخير من الأغنياء - من السلاطين والأمراء وغيرهم - كانوا يشيدون بعض البنايات المختصة للتدريس، ويربطون لها «الأوقاف المغلة للجراية على معلميها ومتعلميها» (ص435 و437).
ومن البديهي أن صلاحية التعليم في تلك المدارس كانت تتعين وفق الشروط التي يشترطها الواقفون. (3)
إن مدة الدراسة لم تكن معينة في المدارس، كبيرة كانت أو صغيرة، غير أن المدة المعينة «لسكنى طلبة العلم بالمدارس كانت محدودة؛ إنها كانت «ست عشرة سنة في المغرب، وخمس سنين بتونس» (ص432). «وهذه المدة بالمدارس على المتعارف، هي أقل مما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكية العلمية، أو اليأس منها» (ص432).
وأما طول المدة المعينة لذلك في مدارس المغرب، فتأتي من رداءة طرق التعليم المتبعة فيها: «طال أمدها في المغرب لهذه المدة؛ لأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة، لا من سوى ذلك» (ص432). (4)
إن مهنة التعليم في عهد ابن خلدون كانت من مهن المستضعفين: «إن التعليم لهذا العهد من جملة الصنائع المعاشية البعيدة من اعتزاز أهل العصبية، والمعلم مستضعف مسكين منقطع الجذم» (ص29).
مع أن الأمر لم يكن كذلك في صدر الإسلام وفي عهد الدولتين: «ولم يكن العلم بالجملة - حينئذ - صناعة، إنما كان نقلا لما سمع من الشارع، وتعليما لما جهل من الدين على جهة البلاغ. فكان أهل الأنساب والعصبية الذين قاموا بالملة هم الذين يعلمون كتاب الله وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم
على معنى التبليغ الخبري، لا على وجه التعليم الصناعي» (ص30). «وكانوا يحرصون على تبليغ ذلك وتفهيمه للأمة، لا تصدمهم عنه لائمة الكبر، ولا يزعهم عاذل الأنفة.» «ولكن حينما استقر الإسلام ووشجت عروق الملة حتى تناولها الأمم البعيدة من أيدي أهلها، واستحالت بمرور الأيام وأحوالها، وكثر استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لتعدد الوقائع وتلاحقها؛ فاحتاج ذلك لقانون يحفظه من الخطأ، وصار العلم ملكة تحتاج إلى تعلم، فأصبح من جملة الصنائع والحرف.» «واشتغل أهل العصبية بالقيام بالملك والسلطان، فدفع العلم لمن قام به من سواهم، وأصبح حرفة للمعاش، وشمخت أنوف المترفين وأهل السلطان للتصدي للتعليم، واختص انتحاله بالمستضعفين، وصار منتحله محتقرا عند أهل العصبية والملك» (ص30).
2 (1)
إن تعليم الولدان في البلاد الإسلامية كان يستهدف قبل كل شيء تمكين المتعلمين من قراءة القرآن الكريم، مع حفظه قسما أو كاملا؛ ولذلك اعتبر القرآن «أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات» (ص537) في جميع الأمصار الإسلامية، على اختلاف أقطارها ومذاهبها.
والسبب في ذلك هو أن أهل الملة متفقون في القول بأن القرآن يجب أن يسبق كل شيء إلى قلوب المتعلمين؛ ليرسخ في نفوسهم الإيمان وعقائده، كما أنهم متفقون في القول بأن ذلك مما يجب أن يتم في الصغر. «اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين، أخذته أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم؛ لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده، من آيات القرآن ومتون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه مما يحصل بعد من الملكات؛ وسبب ذلك أن التعليم في الصغر أشد رسوخا، وهو أصل لما بعده؛ لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبني عليه» (ص538).
ومع ذلك فقد رأوا في بعض البلاد أن يضيفوا إلى تعليم القرآن؛ (أ) شيئا من الحديث والفقه، (ب) ثم الخط والكتابة، (ج) ثم أصول الشعر واللغة والأدب، (د) وقد أضافوا إلى كل ذلك في بعض البلاد الحساب أيضا.
ولذلك اختلفت مذاهب الأمصار الإسلامية في طرق تعليم الولدان. (2)
يميز ابن خلدون في هذا المضمار أربعة مذاهب أساسية، اختص بكل منها أحد الأقطار الإسلامية؛ الأندلس، المغرب «إفريقية»، والمشرق. (أ)
أهل المغرب «مذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله، واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب، إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه. فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة، وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم، إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى سن الشبيبة. وكذا في الكبر، إذا رجع إلى مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره، فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم» (ص538). (ب)
وأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم، إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه، ومنبع الدين والعلوم، جعلوه أصلا في التعليم، فلا يقتصرون لذلك عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل، وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب، ولا تختص عنايتهم [في التعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم]
4
فيه بالخط أكثر من جميعها، إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة، وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما، وبرز في الخط والكتابة، وتعلق بأذيال العلم على الجملة» (ص538). (ج) «وأما أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب، ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها، إلا أن عنايتهم بالقرآن و«استظهار» الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه، وعنايتهم بالخط تبع ذلك.» «وبالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس؛ [لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس و]
5
استقروا بتونس، وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك» (ص538). (د) «وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا، ولا أدري بم عنايتهم منها، والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة، ولا يخلطون بتعليم الخط، بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده، كما نتعلم سائر الصنائع، ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان، وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر على الإجادة، ومن أراد تعلم الخط، فعلى قدر ما يسمح له بعد ذلك من الهمة في طلبه، ويبتغيه من أهل معرفته» (ص529). (3)
يلاحظ من هذه التفصيلات أن جميع المذاهب تتفق في اعتبار القرآن أساسا للتعليم، ويضيف إليها أهل المغرب الخط فقط، وأهل إفريقية الحديث والخط مع شيء من قوانين العلوم، وأهل الأندلس الحديث والخط والشعر والترسل وقوانين العربية، وأما أهل المشرق فيضيفون إلى القرآن صحف العلم وقوانينه، لا يهتمون كثيرا بالخط.
لا يذكر ابن خلدون الحساب خلال وصف هذه المذاهب التعليمية، ولكنه يشير إلى ضرورته في فصل العلوم العددية، كما أنه يذكر الحساب في الطريقة التي يقترحها القاضي أبو بكر بن العربي (ص539).
يقارن ابن خلدون هذه المذاهب بعضها ببعض من حيث النتائج، ويبرز تأثير هذه الطرائق المختلفة في تكوين ملكة اللسان العربي. إن أهل الأندلس برعوا في هذه الملكة من جراء تفننهم في التعليم، واشتغالهم برواية الشعر والترسل، ومدارسة العربية من أول العمر. ولكن أهل المغرب بقوا قاصرين في ملكة اللسان جملة؛ لاقتصارهم على تعلم القرآن في صغرهم؛ لأن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة؛ «لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها». وبما أنهم لا يدرسون شيئا من كلام العرب في صغرهم؛ «فلا يحصل لهم ملكة في اللسان العربي»، فيكون حظهم «الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام». وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب؛ لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه، فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل، إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة» (ص539). (4)
يذكر ابن خلدون في نهاية فصل تعليم الولدان المنهاج الذي يقترحه القاضي أبو بكر العربي في كتاب رحلته (ص539).
يقول المشار إليه: إن تعليم العربية والشعر يجب أن يتقدم على القرآن وسائر العلوم على الإطلاق، ويجب أن يلي ذلك تعليم الحساب، وأما القرآن فيجب ألا يبدأ بتعليمه إلا بعد ذلك - أي بعد العربية والحساب - وفي الأخير يشرع في تعليم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم الجدل، ثم الحديث وعلومه.
يدعم القاضي «أبو بكر بن العربي هذه الاقتراحات بالملاحظات التالية؛ إن اللغة فسدت، فيجب الاعتناء بتعليمها وتقديمها على سائر العلوم، كما هو مذهب أهل الأندلس؛ لأن الشعر ديوان العرب، زد على ذلك فإن الصغير لا يستطيع أن يفهم القرآن، فيجب تأخير تعليمه إلى أن تزداد قابليته للفهم والتعلم».
إن القاضي المومأ إليه يعبر عن رأيه الأخير بعبارة واضحة شديدة: «ويا غفلة أهل بلادنا من أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في [أول أمره]،
6
يقرأ ما لا يفهم، وينصب في أمر غيره أهم ما عليه» (ص539).
ابن خلدون يستحسن هذا المنهاج من حيث الأساس ، ولكنه يراه صعب التطبيق بسبب تحكم العوائد؛ فإن العوائد تقضي بتقديم تعليم القرآن لسببين هامين؛ أولا إيثارا للتبرك والثواب، وثانيا خشية ما يعرض للولد في جنون الصبا، من الآفات والقواطع التي قد تحول دون تعلمه القرآن فيما بعد.
فإن الولد «ما دام في الحجر منقاد للحكم، فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر؛ فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة» (ص540). «فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن؛ لئلا يذهب خلوا منه.» «ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله؛ لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أول ما أخذ به أهل المغرب والمشرق» (ص540).
3
وأما حالة تعليم العلوم والصنائع في البلاد المختلفة، فإن ابن خلدون يتطرق إليها غير مرة في فصول كثيرة، حينما يتكلم عن العلوم والصنائع بوجه عام من جهة، وحينما يشرح بعض الصنائع والعلوم والكتب بوجه خاص من جهة أخرى.
نحن لا نرى لزوما لاستعراض كل ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد، ولكننا نرى أن نشير إلى ما كتبه عن حالة تعليم العلوم في الأندلس والمغرب والمشرق بوجه عام.
يعلمنا ابن خلدون أن الاهتمام بالعلم والتعليم كان على وشك الزوال من بلاد المغرب: «فقد كاد العلم ينقطع بالكلية من المغرب» (ص422). «إن سند تعليم العلم لهذا العهد كاد ينقطع عن أهل المغرب» (ص430). «لقد كسدت لهذا العهد أسواق العلم بالمغرب؛ لتناقص العمران فيه، وانقطاع سند العلم والتعليم» (ص436).
وكذلك الأمر في الأندلس: «أما أهل الأندلس فذهب رسم التعليم من بينهم.» «وذهبت عنايتهم بالعلوم؛ لتناقض عمران المسلمين بها منذ مئين من السنين، ولم يبق من رسم العلم فيهم إلا فن العربية والأدب، اقتصروا عليه، وانحفظ سند تعليمه بينهم فانحفظ بحفظه. وأما الفقه بينهم فرسم خلو وأثر بعد عين. وأما العقليات فلا أثر ولا عين.» «وما ذاك إلا لانقطاع سند التعليم فيها بتناقص العمران ، وتغلب العدو على عامتها إلا قليلا بسيف البحر، شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها» (ص32).
وأما المشرق فكان أرقى البلاد الإسلامية في ذلك العهد من وجهة العلم والتعليم: «المشرق، والظن به نفاق العلم فيه، واتصال التعليم في العلوم وسائر الصنائع الضرورية والكمالية؛ لكثرة عمرانه والحضارة، ووجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف التي اتسعت بها أرزاقهم» (ص437). «يبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة، وخصوصا في عراق العجم وما بعده في ما وراء النهر، وأنهم على أبح من العلوم العقلية؛ لتوفر عمرانهم، واستحكام الحضارة فيهم» (ص481).
هذا ونرى من المفيد أن نسجل هنا ما أشار إليه ابن خلدون عن حالة تعليم العلوم الفلسفية في أوروبا في ذلك العهد: «بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة - من أرض روما وما إليها من العدوة الشمالية - نافقة الأسواق، وأن رسومها هناك متجددة، ومجالس تعليمها متعددة، ودواوينها جامعة متوفرة، وطلبتها متكثرة» (ص481). (4) التأليف والتعليم
يتكلم ابن خلدون عن الكتب التي يؤلفها العلماء والمعلمون، ويدرسها الطلاب والمتعلمون، كلاما عاما في ثلاثة فصول؛ ويقرر في أحدها «أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل» (ص153)، وفي الثاني منها «أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم» (ص532)، ويعين في ثالثها «المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف وإلغاء ما سواها» (من طبعة كاترمير، ج3، ص241). (1) «إن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل»، إن هذه القضية تبدو غريبة في الوهلة الأولى؛ نظرا للمعاني التي ألفناها الآن، ولكننا إذا تأملنا ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد تأييدا لقوله هذا، نجد أنه ينتقد حالة خاصة - كانت متعاهدة في عصره - ونضطر إلى التسليم بأنه كان مصيبا في نقده هذا؛ وذلك لأن العرف كان يحتم على الطلاب درس وحفظ جميع تلك المؤلفات واحدا بعد آخر. «اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلوم والوقوف على غاياتها كثرة التآليف، واختلاف الاصطلاحات في التعاليم وتعدد طرقها، ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك، وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها، ومراعاة طرقها، ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها؛ فيقع القصور ولا بد دون رتبة التحصيل» (ص531).
ويذكر ابن خلدون مثالا على ذلك ما كان متعارفا في شأن الفقه في المذهب المالكي، ويشير إلى «الكتب المدونة مثلا، وما كتب عليها من الشروحات الفقهية مثل؛ كتاب ابن يونس، واللخمي، وابن بشير، والتنبيهات، والمقدمات، والبيان، والتحصيل على التنبيه، وكذلك كتاب ابن الحاجب، وما كتب عليه». ويعلمنا أن الطالب كان يحتاج إلى دراسة هذه المؤلفات كلها، كما كان يحتاج إلى تمييز «الطريقة القيروانية من القرطبية، والبغدادية والمصرية، وطرق المتأخرين عنهم، والإحاطة بذلك كله»، مع أن مواضيع هذه المؤلفات «كلها متكررة، والمعنى واحد». والمتعلم يطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها، والعمر ينقضي في واحد منها. ويقول ابن خلدون لذلك: «لو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط؛ لكان الأمر دون ذلك بكثير، وكان التعليم سهلا ومأخذه قريبا» (ص531).
ولكنه يدرك حكم التقاليد في مثل هذه الأمور، فيقول: «ولكنه داء لا يرتفع؛ لاستقرار العوائد عليه، فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها ولا تحويلها» (ص532).
ثم يذكر ابن خلدون مثالا آخر من علم العربية: «يمثل أيضا علم العربية من كتاب سيبويه وجميع ما كتب عليه، وطرق البصريين والكوفيين، والبغداديين والأندلسيين من بعدهم، وطرق المتقدمين والمتأخرين؛ مثل ابن الحاجب، وابن مالك، وجميع ما كتب في ذلك. كيف يطالب به المتعلم، ويقضي عمره دونه، ولا يطمع أحد في الغاية منه، إلا في القليل النادر» (ص533).
ولذلك كله يقول ابن خلدون: «فالظاهر أن المتعلم ولو قطع عمره في هذا كله فلا يفي له بتحصيل العلوم العربية - مثلا - الذي هو آلة من الآلات ووسيلة، فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة؟» (ص533). (2)
وأما القاعدة القائلة: «إن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم»، فيشرحها ابن خلدون ويعللها كما يلي: «ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم، يولعون بها ويدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم، يشتمل على حصر مسائله وأدلتها، باختصار في الألفاظ، وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن؛ وصار ذلك مخلا بالبلاغة، وعسرا على الفهم. وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون - للتفسير والبيان - فاختصروها تقريبا للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه، وابن مالك في العربية، والخونجي في المنطق وأمثاله. وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل: (أ) «وذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو سوء التعليم» (ص532). (ب) «ثم فيه شغل كثير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل من بينها؛ لأن ألفاظ المختصرات تجدها لذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت» (ص532-533). (ج) «ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات - إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة - فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة، بكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحاطة المفيدين لحصول الملكة التامة. وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته، كشأن هذه الموضوعات المختصرة» (ص533).
ولذلك كله يرى ابن خلدون أن هذه الخطة سيئة وخاطئة، فيقول: «قصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين، فأركبوهم صعبا يعطلهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها» (ص533).
التفكير والإيمان
العقل والنقل
1
إن مقدمة ابن خلدون - بهيئتها المجموعة - تدل دلالة واضحة على أن مؤلفها مؤمن قوي الإيمان؛ إنه يؤمن بالله وبالإسلام إيمانا راسخا عميقا.
وآثار هذا الإيمان ودلائله بارزة للعيان في جميع فصول المقدمة، ولا يوجد في تلك الفصول فقرة واحدة يمكن أن تعتبر دليلا على أن ابن خلدون قد خامره شك في الله والدين، ولو لحظة واحدة في مسألة واحدة. (1)
يخصص ابن خلدون فصولا كثيرة لبحث بعض المسائل الدينية والشرعية؛ إنه يتكلم في إحدى مقدمات الباب الأول عن الوحي والنبوة (ص96-119). ويخصص عدة فصول من الباب الثالث لمسائل الخلافة والإمامة، والأمور المتفرعة منها (190-226). كما أنه يخصص عدة فصول من الباب السادس لعلوم الدين والشريعة؛ من علوم القرآن والحديث، إلى علم الفقه وأصول الفقه، وعلم الكلام، والتصوف (ص437-475).
إن ما يكتبه ابن خلدون في جميع هذه الفصول الخاصة بالأمور الدينية والشرعية ينم عن إيمان راسخ صادق. (2)
زد على ذلك أن ابن خلدون يختتم كل فصل من فصول المقدمة - تقريبا - بذكر الله، وبنقل آية من آيات القرآن المناسبة للمقام. إنه لا يحيد عن هذه الخطة إلا في بضعة فصول، لا يتجاوز عددها الاثني عشر، ولكنه - مقابل ذلك - يطبق هذه الخطبة في بعض الفصول الطويلة بمقياس أوسع؛ إنه يختتم كل قسم من أقسام الفصل أيضا بذكر الله، وبنقل شيء من كلام الله.
هذه الكلمات الختامية تكون في بعض الفصول قصيرة، مثل: «والله أعلم، والله الموفق، وهو على كل شيء قدير.»
ولكنها تكون في بعض الفصول طويلة، مثل قوله: «والله يخلق ما يشاء لا شريك له. له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله.»
وقوله: «والله مدبر الأمور ومصرفها بحكمته. لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين.»
وقد تكون الكلمة الختامية في بعض الفصول من قبيل الدعاء إلى الله، مثل قوله: «رب زدني علما، وأنت أرحم الراحمين.» (3)
إن الكلمات الختامية التي يذكر ابن خلدون فيها «الله»، تشير على الأكثر إلى علمه وقدرته ومشيئته ووحدانيته.
ومما جاء في وحدانية الله: هو الواحد القهار، لا رب سواه، لا شريك له، لا معبود سواه، لا إله إلا هو، هو رب الأولين والآخرين، هو الواحد الأحد القهار.
ومما يذكره حول مشيئة الله: يخلق ما يشاء ويحكم ما يريد يؤتي ملكه من يشاء، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، مصرف الأمور كيف يشاء، مولي الأمور لمن يشاء، وهو الفعال لما يريد، يرزق من يشاء بغير حساب.
ومما يذكره عن علم الله: والله بكل شيء عليم، والله أعلم بالصواب، وما العلم إلا من عند الله، وهو الحكيم الخبير، والعليم الحكيم، والخلاق العليم، والله أعلم بما في القلوب ومطلع على ما في الضمائر، والله علام الغيوب، عالم الغيب والشهادة، وفوق كل ذي علم عليم.
ومما كتبه حول قدرة الله: والله على كل شيء قدير، وعلى كل شيء رقيب، والله يحكم لا معقب له، هو الرزاق ذو القوة المتين، وهو القوي العزيز، الواحد القهار، العزيز الجبار، والله غالب على أمره، وهو رب العرش العظيم، مالك الأمور كلها، بيده ملكوت كل شيء، والله يقبض ويبسط، وهو القاهر فوق عباده، مقلب الليل والنهار، الخلاق العظيم، مدبر الأمور ومصرفها بحكمته. (4)
ونرى أن ننقل فيما يلي طائفة من الكلمات الجامعة التي تنتهي بها الفصول:
والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء إلى صراط مستقيم. وهو العلي الكبير.
إنه على كل شيء قدير، وإليه الملجأ والمصير، والله تعالى أعلم.
والله الموفق لما يحب ويرضاه، لا معبود سواه.
والله مقدر الليل والنهار، وهو الواحد القهار، لا شريك له.
والله مقلب الليل والنهار، وهو العزيز الجبار، والله تعالى أعلم.
والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه، وهو رب الأولين والآخرين.
والله يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
والله قاهر فوق عباده، وهو الواحد القهار.
والله قادر على ما يشاء، وهو بكل شيء عليم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والله ولي المؤمنين، وهو على كل شيء وكيل.
والله الملهم، وبه المستعان وعليه التكلان، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
والله الموفق للصواب بعلمه وفضله وكرمه.
والله سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن، لا يشغله شأن عن شأن.
سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا. (5)
يذكر ابن خلدون في متون بعض الفصول أيضا بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويكتب أحيانا بعض العبارات التي تتجلى فيها حماسة الدين ورعشة الإيمان بكل وضوح وجلاء.
ويقول مثلا في فصل علم الكلام - حينما يتكلم عن الذين يحاولون معرفة حقيقة النبوة وحقائق صفات الله عن طريق الفكر وحده: إنهم قد يصبحون «من الضالين الهالكين». ثم يعقب على ذلك بقوله: «نعوذ بالله من الحرمان والخسران المبين» (ص458).
ويقول - حينما يتكلم عن العابد الذي يجد في الصلاة منتهى لذته وقرة عينه: «وأين هذا من صلاة الناس؟ «وأنى لهم بها؟» فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون. اللهم وفقنا واهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المعضوب عليهم ولا الضالين» (ص461).
ويقول حينما يتكلم عن سر تحريم المخيط في الحج: «إن مشروعية الحج مشتملة على نبذ العلائق الدنيوية كلها، والرجوع إلى الله تعالى كما خلقنا أول مرة، حتى لا يعلق العبد قلبه بشيء من عوائد ترفه، لا طيبا ولا نساء ولا مخيطا ولا خفا، ولا يتعرض لصيد ولا لشيء من عوائده التي تلوثت بها نفسه وخلقه، مع أنه يفقدها بالموت ضرورة، وإنما يجيء كأنه وارد إلى المحشر ضارعا بقلبه مخلصا لربه. وكان جزاؤه إن تم له إخلاصه في ذلك أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.»
ثم يعقب ابن خلدون على ذلك بالعبارة التالية: «سبحانك ما أرفقك بعبادك، وأرحمك بهم في طلب هدايتهم إليك!» (ص412). (6)
لا نرانا في حاجة إلى القول أن هذه الكلمات والعبارات كلها تدل على عقيدة راسخة، وإيمان عميق، وعاطفة دينية شديدة.
ولذلك كله يحق لنا أن نقرر أن ابن خلدون كان مؤمنا إيمانا صادقا، لا يشوبه شيء من الشك في الله أو في الدين أبدا.
2 (1)
ومما تجدر ملاحظته أن ابن خلدون - مع هذا الإيمان القوي الذي يختلج في جوانبه - لم يذهب إلى ما ذهب إليه الكثيرون من رجال الدين الذين يحاولون تحكيم الشريعة في كل شيء، ولا ينفكون عن السعي وراء إرجاع كل الأمور إلى أحكام الدين.
وذلك لأنه يعتقد أن مقاصد الشريعة وغاياتها محدودة بحدود لا تتعداها، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم
إنما بعث ليعلمنا مسائل التوحيد والمعاد التي لا سبيل إلى معرفتها بالأنظار العقلية وحدها. فيرى ابن خلدون لذلك أنه من العبث أن نرجع إلى الأحكام الشرعية والمصادر الدينية في الأمور التي لا تدخل في نطاق هذه المقاصد والغايات.
إن رأي ابن خلدون في هذا الصدد يلوح من مباحث فصول كثيرة، ولكنه يتجلى بوضوح تام من بعض العبارات التي كتبها خلال بعض المباحث بوجه خاص. (2)
وهو مثلا حينما يتكلم عن علم الطب ينتقد بشدة رأي الذين يذهبون إلى وجود «طب نبوي»، ويصرح أن النبي إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب أو غيره من العاديات: «وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، متوارثا عن مشايخ الحي وعجائزه. كان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون، كالحارث بن كلدة وغيره» (ص493). «والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديا للعرب، ووقع في ذكره أحوال النبي
صلى الله عليه وسلم
من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه
صلى الله عليه وسلم
إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات» (ص494).
يؤيد ابن خلدون رأيه هذا بذكر حديث نبوي ورد في هذا الموضوع: «وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم. فلا ينبغي أن يحمل بشيء من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع؛ فليس هناك ما يدل عليه» (ص494).
ومع هذا يلاحظ ابن خلدون عمل الإيحاء في مثل هذه الأمور، فيقول: «اللهم إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع، وليس ذلك من الطب المزاجي، إنما هو من آثار الكلمة الإيمانية» (ص494). (3)
يقرر ابن خلدون أمرا مماثلا لذلك في قضية علاقة الدين بالاجتماع أيضا، فإنه يعترض بشدة على الذين يقولون إن الحياة الاجتماعية لا تقوم إلا بالدين، وإن السياسة لا تنهض إلا بالشرع: «يقول بعض الفلاسفة: لا بد للبشر من الحكم الوازع، وإن ذلك الحكم يكون بشرع مفروض من الله، يأتي به واحد من البشر. غير أن الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك، بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته. فأهل الكتب والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب، فإنهم أكثر أهل العالم، ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار، فضلا عن الحياة، وكذلك هي لهم في هذا العهد ، في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب» (ص43-44). «إن الوازع قد يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشوكة لو لم يكن شرع، كما في أمم المجوس وغيرهم مما ليس له كتاب، أو لم تبلغه الدعوة. أو نقول: يكفي في رفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه بحكم العقل. فادعاؤهم أن ارتفاع التنازع إنما يكون بوجود الشرع هناك، ولقب الإمام هنا غير صحيح، بل كما يكون بنصب الإمام، يكون بوجود الرؤساء أهل الشوكة، أو بامتناع الناس عن التنازع والتظلم» (ص191).
إن تنظيم الحياة الاجتماعية وتصريف أمور الملك يتطلب الرجوع إلى قوانين سياسية مفروضة، يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها. وهذه القوانين قد تكون «مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها»، وقد تكون مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها» (ص190). «إن الملك السياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار» (ص191). «والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها» (ص191). (4)
يظهر من كل ذلك بوضوح تام أن الشريعة - على رأي ابن خلدون - لا تشتغل بكل شيء، فلا تستهدف جميع شئون الحياة؛ فإن ساحة عملها محدودة بحدود، هي ما تقتضيه المصالح الأخروية. وأما الأمور التي هي خارجة عن نطاق تلك الحدود، فمتروكة إلى بحث الفكر وحكم العقل. وهذا العقل إنما هو نعمة من نعم الله على البشر؛ لأن «الله سبحانه وتعالى» هو الذي ميز الإنسان من الحيوان بهذا العقل. والإنسان يستطيع أن يستنبط سنة الله في خلقه بقوة العقل، كما أنه يستطيع أن يستفيد من تلك السنن الثابتة في «جلب المنافع ودفع المضار» في حياته الشخصية والاجتماعية، وفي تقرير سياسة عقلية. (5)
إن هذه النزعة الفكرية - بجانب ذلك الإيمان الديني - هي التي تحمل ابن خلدون على السير في تفكيره سيرا عقلانيا مستقلا عن أحكام الدين.
فإننا إذا استثنيا الفصول التي تحوم مواضيعها حول المسائل الدينية والشرعية مباشرة، نجد أن ابن خلدون يستند في جميع أبحاثه وتعليلاته على الدلائل العقلية والمنطقية وحدها. وأما الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فلا يذكرها عادة إلا بعد الانتهاء من التفكير والتعليل، وإذا ذكرها أحيانا خلال البحث فإنما يذكرها في غالب الأحوال بقصد تأييد القضايا التي كان قد توصل إليها بنظره العقلي، كما يذكرها في بعض الأحيان بقصد دفع الاعتراضات التي قد توجه إليه مستندا إلى مضامين تلك الآيات والأحاديث.
ونحن نستطيع أن نقول بناء على كل ما سبق، إن ابن خلدون كان من المفكرين الذين يعتمدون على العقل ويثقون به، ويرون لزوما للاستناد إليه.
3 (1)
ولكن ابن خلدون لا يسترسل في الاعتماد على العقل استرسالا كليا، بل يقرر أن نطاق مدركات العقل أيضا محدود بحدود طبيعية لا سبيل إلى اجتيازها بالمحاكمات النظرية وحدها. فإن العقل البشري عاجز عن إدراك ما يقع وراء الحس؛ من أمور التوحيد، ومسائل المعاد، وحقائق صفات الله، وسائر أمور الروحانيات.
إنه يقرر ذلك بعبارة صريحة تماما: «لا تثقن بما يزعم لك العقل من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها، والوقوف على تفصيل الوجود كله» (ص459).
ويبرهن على رأيه هذا بسلسلة محاكمات عقلية:
إن مدركاتنا العقلية تعتمد على حواسنا، وحواسنا محدودة، فمن الطبيعي أن تكون مدركاتنا أيضا محدودة.
ونحن نعلم أن الأعمى لا يدرك المبصرات، والأصم لا يعرف شيئا عن المسموعات، فيجب علينا أن نسائل أنفسنا - قياسا على ذلك - ألا يوجد في الكون ما يبقى خارجا عن إدراك جميع حواسنا، كما تبقى المبصرات خارجة عن إدراك الأعمى؟ إننا إذا أجبنا على ذلك بالنفي - وأنكرنا هذا الاحتمال - نكون كالأعمى الذي ينكر المبصرات لحرمانه من حاسة البصر، وكالأصم الذي ينكر وجود المسموعات لحرمانه من نعمة السمع. فلا يجوز لنا أن ننكر ما يقع وراء الحس والإدراك، بل يجب علينا أن نعتمد في هذا المضمار على الشرع وحده، وأن نؤمن بكل ما جاء به في هذا الصدد من غير أن نلجأ إلى تحكيم عقولنا فيه.
ابن خلدون يقرر ذلك بكل وضوح: «اعلم أن الوجود عند كل مدرك - في بادئ رأيه - منحصر في مداركه لا يعدوها، والأمر في نفسه بخلاف ذلك، والحق من ورائه؛ ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربعة والمعقولات، ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات؟ وكذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيات. ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافة لما أقروا به، لكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف، لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم. ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكرا للمعقولات، وساقطة لديه بالكلية. فإذا علمت هذا فلعل هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا؛ لأن إدراكاتنا مخلوقة ومحدثة، وخلق الله أكبر من خلق الناس. والحصر مجهول، والوجود أوسع نطاقا من ذلك، والله من ورائهم محيط. فاتهم إدراكك ومدركاتك في الحصر، واتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك، فهو أحرص على سعادتك، وأعلم بنفعك؛ لأنه من طور فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك» (ص460). (2)
عندما يقرر ابن خلدون المبادئ الآنفة الذكر، لا يجد فيها قدحا في العقل أو حطا من شأنه؛ فإن شأن العقل في هذه القضية هو شأن الميزان؛ لأن كل ميزان - مهما كان صحيحا ودقيقا - لا يستطيع أن يزن إلا مقدارا محدودا من الأثقال. إن عمل العقل مثل عمل الميزان، محدود بحدود، فمن الضروري الرجوع إلى الديانة والشريعة في كل ما يقع وراء تلك الحدود. «ليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره؛ فإن ذلك طمع في محال. ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب، فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا يدرك على أن الميزان في أحكامه غير صادق، ولكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدى طوره. «وأنى يكون له» أن يحيط بالله وبصفاته؟ فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه. وتفطن في هذا «غلط» من يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا، وقصور فهمه واضمحلال رأيه» (ص460). (3)
يفهم من ملاحظة الآراء الأساسية التي نقلناها آنفا أن ابن خلدون يقرر من جهة، أن هدف الدين محدود، ويرى من جهة أخرى أن قدرة العقل محدودة؛ ولذلك نجده يسعى إلى تمييز نطاق العقل من نطاق الدين.
وبما أن الدين يستند إلى «النقل والسمع»، فإنه يقول يترتب على الإنسان أن يرجح السمع والنقل على العقل في بعض القضايا، وأن يعتمد على العقل دون مراجعة النقل في بعض القضايا.
إن القضايا التي تدخل في نطاق الصنف الأول - على ما يستدل من مجموع كتابات ابن خلدون - هي التي تتعلق بالآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق صفات الله. وأما ما سوى ذلك فيدخل في الصنف الثاني بوجه عام.
ولكن من البديهي أن هذا التمييز لم يكن من السهل في كل الأحوال؛ لأن الأمور الدنيوية لا تخلو من الارتباط بالأمور الأخروية، والنصوص الشرعية تذكر أحيانا بعض القضايا المتعلقة بحقائق الكون وبأمور الدنيا. زد على ذلك أن طائفة من هذه النصوص الشرعية تظهر - عند الوهلة الأولى - منافية لحكم العقل فيها، فما العمل في مثل هذه الأحوال؟
إن ابن خلدون لا يسأل هذا السؤال بصراحة؛ ولذلك لا يجيب عليه جوابا مباشرا، ولكننا نستطيع أن نستدل على نزعته الفكرية في هذا المضمار من السلوك الذي يسلكه في معالجة مثل هذه القضايا، فإنه حينما يجد في بعض النصوص المذكورة ما يخالف نتائج المحاكمات العقلية، يلجأ إلى تأويل النصوص الشرعية وفق ما تقتضيه المحاكمات العقلية، كما يتضح من الأمثلة التالية:
4 (1)
من المعلوم أن ابن خلدون توسع كثيرا في بحث العصبية، وقرر أنها ضرورية لتأسيس الملك وتنظيم الاجتماع، حتى إنه ذهب إلى أن الدعوة الدينية أيضا تحتاج إلى عصبية.
ولكنه يعرف أن هناك بعض النصوص الشرعية التي تذم العصبية، وتدعو إلى تركها، وأن هذه الأقوال الشرعية تبدو مخالفة للحقائق التي توصل إليها بأبحاثه النظرية ومحاكماته العقلية. تجاه هذا التعارض نجد أن ابن خلدون يرجح حكم العقل، ويلجأ إلى تأويل الأقوال الشرعية المذكورة بملاحظات نظرية، فيقول إن الشريعة لم تذم العصبية لذاتها، بل إنها ذمت توجيهها إلى الباطل، وإلا فمن المؤكد أن العصبية لو بطلت؛ لبطلت معها الشرائع نفسها. «إن الشارع قد ذم العصبية وندب إلى تركها، وقال:
لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم ، فإن مراده حيث تكون العصبية على الباطل وأحواله، كما كانت في الجاهلية، وأن يكون لأحد فخر بها أو حق على أحد؛ لأن ذلك كان مجان من أفعال العقلاء، وغير نافع في الآخرة التي هي دار القرار. فأما إذا كانت العصبية في الحق وإقامة أمر الله، فأمر مطلوب، ولو بطل لبطلت الشرائع؛ إذ لا يتم قوامها إلا بالعصبية كما قلناه من قبل» (ص203). (2)
وكذلك الأمر في الملك، فإن ابن خلدون يقرر أنه طبيعي في العمران، وأنه ضروري للبشر، ولكنه يعرف في الوقت نفسه أن علماء الدين يذكرون كثيرا من النصوص الشرعية الواردة في ذم الملك؛ ولذلك لا يتردد في تأويل تلك النصوص أيضا وفقا لما تقتضيه المحاكمات العقلية. «إن الشريعة ممتلئة بذم «الملك ومذاهبه من الاستطالة والتغلب والاستمتاع بالدنيا»، والنعي على أهله، ومرغبة في رفضه. واعلم أن الشرع لم يذم الملك لذاته، ولا حظر القيام به، وإنما ذم المفاسد الناشئة عنه، من القهر والظلم والتمتع باللذات. ولا شك أن في هذه مفاسد محظورة، وهي من توابعه. كما أثنى على العدل والنصفة، وإقامة مراسم الدين والذب عنه، وأوجب بإزائها الثواب، وهي كلها من توابع الملك. فإذن إنما وقع الذم للملك على صفة وحال دون أخرى» (ص192). «ولم يذمه (الشارع) لذاته، ولا طلب تركه - كما ذم الشهوة والغضب من المكلفين - وليس مراده تركهما بالكلية؛ لدعاية الضرورة إليها. وأما المراد تصريفهما على مقتضى الحق» (ص192).
ويكرر ابن خلدون القول بأن الشرع «لما ذم الملك لم يذم منه التغلب بالحق وقهر الكافة على الدين ومراعاة المصالح، وإنما ذمه لما فيه من الغلب بالباطل وتصريف الآدميين طوع الأغراض والشهوات». فلو كان الملك مخلصا في غلبه للناس، وأنه لله، ولحملهم على عبادة الله وجهاد عدوه، لم يكن ذلك مذموما (ص203).
يذكر ابن خلدون سببا آخر لذم الملك في صدر الإسلام:
في عهد الخلفاء الأولين «لم يجر ذكر للملك؛ لما أنه كان مظنة للباطل، ونحلة يومئذ لأهل الكفر وأعداء الدين». والصحابة كانوا يرفضون الملك وأحواله؛ حذارا من التباسها بالباطل (ص203). (3)
يقرر ابن خلدون مبدءا عاما في مقاصد الشرع في ذم بعض الأفعال البشرية أو النهي عنها، فيقول إن مراد الشريعة من ذلك لم يكن ترك الأفعال المذكورة بالكلية، أو اقتلاع النزعات التي تولد تلك الأفعال من أصولها، بل إن مرادها من ذلك هو توجيه القوى والأفعال المذكورة نحو الحق. إن كل ما ورد في الشرع من ذم الغضب والشهوة والنهي عن استكثار متاع الدنيا هو من هذا القبيل. «ليس مراد «الشرع» فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه، إهماله بالكلية، أو اقتلاعه من أصله، وتعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية؛ إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعة، حتى تصير المقاصد كلها حقا، وتتحد الوجهة» (ص202).
إن ذم الغضب في الشرع إنما هو لهذا الغرض وحده: «فلم يذم الشرع الغضب، وهو يقصد نزعه من الإنسان، فإنه لو زالت منه قوة الغضب لفقد منه الانتصار للحق، وبطل الجهاد وإعلاء كلمة الله. وإنما يذم الغضب للشيطان وللأغراض الذميمة. وإذا كان الغضب لذلك كان مذموما، وإذا كان الغضب لله وفي الله كان ممدوحا» (ص202).
وكذا الشهوات، فإن الشارع عنى بذمها أيضا معنى مماثلا لما سبق. «وكذلك ذم الشهوات أيضا ليس المراد إبطالها بالكلية، فإن من بطلت شهوته كان نقصا في حقه، وإنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح؛ ليكون الإنسان عبدا متصرفا طور الأوامر الإلهية» (ص202-203).
وكذلك الأمر في ذم الاستكثار من الدنيا والاستمتاع بملذاتها. «وإن كان الاستكثار من الدنيا مذموما، فإنما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف والخروج عن القصد، وإذا كان حالهم قصدا، ونفقاتهم في سبيل الحق ومذاهبه، كان ذلك الاستكثار عونا لهم على طريق الحق، واكتساب الدار الآخرة» (ص205).
يعزز ابن خلدون رأيه في هذه القضايا كلها بملاحظة جوهرية يعبر عنها بكلمة وجيزة: «إن الدنيا وأحوالها كلها مطية للأخرى ، ومن فقد المطية فقد الوصول» (ص202).
ويظهر من ذلك أن الإنسان إذا أهمل دنياه؛ فلا يمكن أن يصل إلى السعادة في أخراه.
5 (1)
وأما القضايا الشرعية البحتة، والمسائل الإيمانية الصرفة - كأمور التوحيد والآخرة، وحقيقة النبوة، وكنه الصفات الإلهية، وكل ما وراء طور العقل - فإن ابن خلدون يسلك إزاءها مسلكا يخالف المسلك الذي ذكرناه آنفا مخالفة كلية؛ إنه يمسك عن التفكير في شأنها، ويقول بوجوب قبولها والعمل بها مباشرة، من غير إدخال العقل في أمرها، وإشغال الفكر بها؛ لأنها خارجة عن نطاق مداركنا، ولأن الشارع أعرف بها منا. «مقصود الشارع بالناس هو إصلاح آخرتهم» (ص190). «إن الشارع أعلم بمصالح الكافة، فيما هو مغيب عنهم عن أمور آخرتهم. وأمور البشر كلها عائدة عليهم في معادهم» (ص190). «الشارع أعرف بمصالح ديننا وطرق سعادتنا؛ لاطلاعه على ما وراء الحس» (ص169). «إن مدارك صاحب الشريعة أوسع من مدارك الأنظار العقلية؛ لاستمدادها من الأنوار الإلهية» (ص194).
ولذلك يوصي ابن خلدون باتباع أوامر الشرع - في الاعتقاد والعمل - من غير تردد ولا تشكك. «اتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك، فهو أحرص على سعادتك وأعلم بنفعك؛ لأنه من طور فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك» (ص460).
ويقول بوجوب الاستسلام إلى أحكام الشريعة استسلاما مطلقا، حتى ولو لم نفهم حكمة تلك الأوامر والأحكام. «إن مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية، فهي فوقها ومحيطة بها؛ لاستمدادها من الأنوار الإلهية، فلا تدخل تحت النظر الضعيف والمدارك المحاط بها. فإذا هدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أن نقدمه على مداركنا، ونثق به دونها، ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه، بل نعتمد ما أمرنا به اعتقادا وعلما، ونسكت عما لم نفهم من ذلك، ونفوضه إلى الشارع، ونعزل العقل عنه» (ص495-496). (2)
في الواقع إن هناك علما يسمى علم الكلام، وهو يتضمن «الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة، المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة» (ص458). ولكن المقصود من هذا العلم ومن الأدلة العقلية المسرودة فيه لم يكن إثبات تلك العقائد، بل هو الرد على معارضيها؛ وذلك لأن العقائد المذكورة لا تثبت إلا بالنقل، وأما عمل العقل في شأنها فينحصر في الرد على خصومها. «إن مسائل الكلام إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف، من غير رجوع فيها إلى العقل، ولا تعويل عليه، بمعنى أنها لا تثبت إلا به، فإن العقل معزول عن الشرع وأنظاره. وما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن الحق فيها - فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة - بل إنما هو التماس حجة تعضد العقائد الإيمانية ومذاهب السلف فيها، وتدفع شبه أهل البدع عنها، وذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية، كما تلقاها السلف واعتقدوها» (ص495). (3)
يقول ابن خلدون في فصل الفلسفة، إن الفلاسفة يذهبون إلى عكس ذلك تماما، فإنهم يقولون إن العقائد الإيمانية لا تخرج عن نطاق مدارك العقل، وإنها مما يمكن التوصل إليها بالأنظار الفكرية. «إن قوما من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله - الحسي منه وما وراء الحسي - تدرك ذاته وأحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية، وأن تصحيح العقائد الإيمانية يكون من قبل النظر لا من جهة السمع، فإنها بعض من مدارك العقل» (ص514).
ولكن ابن خلدون يفند رأي هؤلاء الفلاسفة في هذا الصدد، ويقول: «إن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه» (ص516)؛ لأن العقل البشري قاصر عن إدراك ما يقع وراء الحس ووراء المادة. إن الرأي الذي نحن بصدده كان يصح لو صح قول الطبيعيين «المعتقدين أن ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء» (ص516)، ولكن طالما ثبت أن قول هؤلاء غير صحيح، وأن نطاق الموجودات لا ينحصر بنطاق الماديات المحسوسة، بل يتعداه إلى الروحانيات غير المحسوسة، فلا مجال للشك في أن رأي هؤلاء الفلاسفة باطل من أساسه. «لأن من لا مادة له، لا يمكن البرهان عليه.» «إن الموجودات التي وراء الحس - وهي الروحانيات - فإن ذواتها مجهولة رأسا، ولا يمكن التوصل إليها، ولا البرهان عليها .» «لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا، ونحن لا ندرك الذوات الروحانيات حتى نجرد منها ماهيات أخرى [محجوبة] بحجاب الحس بيننا وبينها، فلا يتأتى لنا برهان عليها. ولا مدرك لنا في إثبات وجوها على الجملة، إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها» (ص516).
ومن المعلوم أن الإيمان باليوم الآخر من أمهات العقائد الإيمانية، وهو يتضمن الإيمان «بنعيم جنة وشقاء جهنم»، وكل ذلك مما يتعدى نطاق إدراكنا، فلا سبيل لنا إلى معرفة هذه الأمور إلا بالرجوع إلى ما جاء عنها في الشريعة المحمدية. «إن السعادة التي وعدنا بها الشارع على امتثال ما أمر به من الأعمال والأخلاق، فأمر لا تحيط به مدارك المدركين.» «وقد تنبه إليها زعيمهم (أي زعيم الفلاسفة) أبو علي بن سينا فقال - في كتاب المبدأ والمعاد - ما معناه: إن المعاد الروحاني وأحواله، هو مما يتوصل إليه بالبراهين العقلية والمقاييس (أي القياسات المنطقية)؛ لأنه على نسبة طبيعية محفوظة، ووتيرة واحدة، فلنا في البراهين عليه سعة. وأما المعاد الجسماني وأحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان؛ لأنه ليس على نسبة واحدة، وقد بسطته لنا الشريعة المحمدية الحقة، فلينظر فيها، وليرجع في أحواله إليها» (ص519). (4)
يشير ابن خلدون بهذه المناسبة إلى الفرق القائم بين علم الكلام وبين الفلسفة، إذ يقول: «التعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة» (ص495). وأما مهمة علم الكلام فهي البحث عن حجج عقلية لأمر كان قد ثبت بالأدلة النقلية، وذلك يعني أن الفلسفة تسعى إلى الحصول على علم عن الشيء وتعليله عن طرق عقلية. وأما علم الكلام فيتحرى الحجج على شيء تم علمه بطرق نقلية، وبتعبير آخر؛ إن الفيلسوف لا يقرر شيئا إلا بعد التفكير بالأدلة العقلية، وأما المتكلم فإنه يقرر أولا، ثم يبحث عن الدلائل المؤيدة لما قرره قبلا. «موضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية، بعد فرضها صحيحة من الشرع، من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية؛ فترفع البدع وتزول الشكوك والشبه عن العقائد.» «إن جميع علماء الكلام يتحدون في هذه الخطة، كل واحد منهم يفرض العقائد صحيحة، ثم يستنهض الحجج والأدلة عليها» (ص461).
ولهذه الملاحظة الأساسية يرى ابن خلدون أن علم الكلام أصبح غير ضروري وإن كان مفيدا. «إن علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم؛ إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا، وأما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه الباري عن كثير من إيهاماته وإطلاقه. ولقد سئل الجنيد عن قوم مر بهم بعض المتكلمين يفيضون فيه، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقص. فقال: نفي العيب حيث يستحيل العيب، عيب.» «ولكن فائدته في آحاد الناس وطلبة العلم فائدة معتبرة؛ إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها» (ص467). (5)
يتكلم ابن خلدون عن أسباب الحوادث الكونية والأفعال البشرية، ويقرر أنها تتسلسل إلى أن تصل إلى مسبب الأسباب الذي هو خالق الكون.
إن كل حادث لا بد له من سبب، وهذا السبب يكون عادة حادث آخر متقدم عليه، ولهذا الحادث أيضا سبب متقدم عليه. وهكذا تتسلسل الأسباب بالتدريج إلى أن تنتهي إلى مسبب الأسباب. «إن الحوادث في عالم الكائنات - سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية - فلا بد لها من أسباب متقدمة عليها، بها تقع في مستقر العادة، وعنها يتم كونه.» «وكل واحد من هذه الأسباب أيضا حادث، فلا بد له من أسباب أخر، ولا تزال الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب وموجدها وخالقها سبحانه لا إله إلا هو» (ص457). «وتلك الأسباب في ارتقائها تتفسح وتتصاعد طولا وعرضا، ويحار العقل في إدراكها وتعديدها، فإذن لا يحصرها إلا العلم المحيط، سيما الأفعال البشرية والحيوانية، فإن من جملة أسبابها في الشاهد القصود والإرادات؛ إذ لا يتم كون الفعل إلا بإرادته والقصد إليه. والقصود والإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصورات سابقة يتلو بعضها بعضا، وتلك التصورات هي أسباب قصد الفعل، وقد تكون أسباب تلك التصورات تصورات أخرى. وكل ما يقع في النفس من التصورات مجهول سببه، إذ لا يطلع أحد على مبادئ الأمور النفسانية ولا ترتيبها، إنما هي أشياء يلقيها الله في الفكر يتبع بعضها بعضا، والإنسان عاجز عن معرفة مبادئها أو غاياتها، إنما يحيط علما في الغالب بالأسباب التي هي طبيعة ظاهرة، ويقع في مداركها على نظام وترتيب» (ص458).
يقرر ابن خلدون أن العقل يستطيع أن يتتبع سلسلة هذه الأسباب، ويكتشفها واحدا بعد آخر، ولكن هذا التتبع إنما يتيسر داخل نطاق العقل فقط. وأما الأسباب التي تقع خارج هذا النطاق، فلا سبيل إلى اكتشافها بالأنظار العقلية، فمن الضروري الالتجاء إلى النقل والسمع في أمرها. «فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا، خرجت من أن تكون مدركة، فيضل العقل في بيداء الأوهام، ويحار وينقطع.»
فإذن فإن السبيل السوي أمامنا هو «التوحيد المطلق»، والاعتراف بالعجز «عن إدراك الأسباب وكيفيات تأثيرها، وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها؛ إذ لا فاعل غيره، وكلها ترتقي إليه، وترجع إلى قدرته، وعلمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنه» (ص460). «وزد على ذلك، إن العقل عندما يتحرى سلسلة الأسباب، قد يقف في حلقة من حلقات السلسلة فيظنها منتهى الأسباب، وينكر ما وراءها، فيكون قد أنكر مسبب الأسباب؛ «فيصبح من الضالين الهالكين»» (ص459).
ثم يوالي ابن خلدون دلائله التحذيرية قائلا: «ولا تحسبن أن هذا الوقوف أو الرجوع عنه في قدرتك واختيارك، بل هو لون يحصل للنفس، وصفة تستحكم (فيها) من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها، إذ لو علمناها لتحرزنا منها. فلنتحرز من ذلك بقطع النظر عنها جملة» (ص459).
يرى ابن خلدون في هذه الملاحظات ما يوضح حكمة تحريم النظر في الأسباب. «فلذلك أمرنا الشارع بقطع النظر عنها وإلغائها جملة، والتوجه إلى مسبب الأسباب كلها وفاعلها وموجدها؛ لترسخ صفة التوحيد في النفس على ما علمنا الشارع، الذي هو أعرف بمصالح ديننا وطرق سعادتنا؛ لاطلاعه على ما وراء الحس. قال
صلى الله عليه وسلم : «من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة.» فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع وحقت عليه كلمة الكفر، وإن سبح في بحر النظر في البحث عنها وعن أسبابها، فأنا الضامن له ألا يعود إلا بالخيبة؛ فلذلك نهانا الشارع عن النظر في الأسباب، وأمرنا بالتوحيد المطلق:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد » (ص459). (6)
يلاحظ أن ابن خلدون كثيرا ما يشير في هذه الفقرات إلى نهي الشارع عن النظر في الأسباب على الإطلاق، ونحن نجد هنا أمرا جديرا بالبحث والاعتبار. إننا نعلم أن ابن خلدون نفسه كثيرا ما بحث عن الأسباب في كل فصل من فصول المقدمة، فإن تعبيرات؛ «السبب في ذلك»، و«سببه»، و«أما السبب في ذلك»، هي من أكثر التعبيرات المتكررة في المقدمة، فكيف يدعو ابن خلدون إلى «عدم النظر في الأسباب» في هذا المقام بعد كل تلك الأبحاث وبجانب تلك الأبحاث؟ فهل قصد من الأسباب هنا الأسباب الأصلية والبعيدة وحدها؟ أم أنه كتب هذه الفقرات - وفصل علم الكلام الذي يحتويها - بعد مرور مدة طويلة على كتابة سائر الفصول؟
إننا نميل إلى القول بأن كلا الأمرين عملا مشتركين في ما كتبه ابن خلدون في هذا المضمار؛ فإننا نجد أن أسلوب هذا الفصل أكثر نضوجا وأشد صقلا من أساليب الفصول الاعتيادية، كما أننا نستدل من سياق الكلام أنه يقصد في أبحاثه المذكورة - وفي فقراته الآنفة الذكر - الأسباب البعيدة الأصلية، لا الأسباب القريبة الاعتيادية. (7)
يتكلم ابن خلدون عن «الإيمان» أيضا، ويبدي بعض الملاحظات الطريفة في هذا الشأن.
إن التكاليف الشرعية نوعان؛ قلبية وبدنية. فالتكاليف القلبية هي الإيمان والاعتقادات، والتكاليف البدنية هي الأعمال والعبادات. «إن الشارع وصف لنا» ما يجب أن نؤمن به، «وعين أمورا مخصوصة كلفنا التصديق بها بقلوبنا، واعتقادها في أنفسنا، مع الإقرار بألسنتنا» (ص461). كما أنه عين العبادات المفروضة علينا.
ولكن مقصود الشارع ومطلوبه من الإيمان لم يكن الاعتقاد المجرد أو التصديق، بل هو «حصول صفة تتكيف بها النفس» من جراء ذلك التصديق والاعتقاد، كما أن مقصوده ومطلوبه من العبادات أيضا لم يكن العمل نفسه، والعبادة للعبادة نفسها، بل هو «حصول ملكة الطاعة والانقياد، وتفريغ القلب من شواغل ما سوى المعبود» (ص461)، من جراء المواظبة على تلك العبادات. وخلاصة القول: إن المطلوب من التكاليف كلها - سواء أكانت قلبية أم بدنية - إنما هو حصول ملكة راسخة في النفس. والكمال - عند الشارع - في كل ما كلف به، هو حصول هذه الملكة الراسخة. «فقد تبين لك من جميع ما قررناه أن المطلوب في التكاليف كلها حصول ملكة راسخة في النفس، يحصل منها علم اضطراري هو التوحيد، وهو العقيدة الإيمانية، وهو الذي تحصل به السعادة» (ص401).
ويظهر من ذلك أن الإيمان الذي هو أصل التكاليف وينبوعها ذو مراتب عديدة. «إن الإيمان الذي هو أصل التكاليف وينبوعها ذو مراتب؛ أولها التصديق القلبي الموافق للسان، وأعلاها حصول كيفية من ذلك الاعتقاد القلبي وما يتبعه من العمل مستولية على القلب، فيستتبع الجوارح، وتندرج في طاعتها جميع التصرفات حتى تنخرط الأفعال كلها في طاعة ذلك التصديق الإيماني. وهذا أرفع مراتب الإيمان، وهو الإيمان الكامل الذي لا يقارف المؤمن معه صغيرة ولا كبيرة؛ إذ حصول الملكة ورسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة عين» (ص461-462).
وهذه هي المرتبة العليا من الإيمان.
6
لقد تطرق ابن خلدون في عدة فصول من المقدمة إلى المذاهب الإسلامية، ودون بعض المعلومات والملحوظات عن تاريخ نشوئها وانتشارها، وقد فعل ذلك بوجه خاص في فصول الإمامة والخلافة والفقه وأصول الفقه.
فقد رأينا أن ندرج فيما يلي نموذجين من الآراء التي أبداها ابن خلدون في هذا الصدد؛ لنظهر خطة البحث التي سار عليها، والنزعة الفكرية التي استسلم إليها في مثل هذه الأمور: (1)
لقد أشار ابن خلدون إلى مسألة «علي ومعاوية» في فصل «انقلاب الخلافة إلى الملك». يستفاد من مطالعة هذا الفصل أنه يرى أن انقلاب الخلافة إلى الملك كان من الأمور الطبيعية المحتمة في الحياة الاجتماعية ؛ لأنه يقول: «إن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولا، ثم التبست معانيهما واختلطت، ثم انفرد الملك، حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة» (ص208).
كما أنه يعتقد أن «الفتنة» التي وقعت بين «علي ومعاوية» كانت طبيعية؛ ولذلك نجده لا يتعصب ولا يتشيع لأحدهما على الآخر، بل يقول كان كلاهما على حق. «لما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية - وهي مقتضى العصبية - كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد، ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي، أو لإيثار باطل واستشعار حقد، كما قد يتوهمه وينزع إليه ملحد. وإنما اختلف اجتهادهم في الحق، وسفه كل واحد نظر صاحبه باجتهاده في الحق؛ فاقتتلوا عليه. وإن كان المصيب عليا، فلم يكن معاوية قائما فيها بقصد الباطل، إنما قصد الحق وأخطأ، والكل كانوا في مقاصدهم على حق» (ص205). (2)
يتكلم ابن خلدون في فصل الفقه عن المذهب المالكي، ويبين كيفية نشأة هذا المذهب وانتشاره، ويعلل ذلك بعلل طبيعية واجتماعية: «إن الإمام مالك بن أنس الأصبحي كان إمام دار الهجرة - المدينة المنورة - وامتاز عن سائر أئمة السنة بإدخال «عمل أهل المدينة» في عداد الأدلة الشرعية.
إن الإمام مالك اختص بمدرك آخر للأحكام، غير المدارك المعتبرة عند غيره، وهو عمل أهل المدينة؛ لأنه رأى أنهم فيما ينفسون عليه من فعل أو ترك متابعون لمن قبلهم ضرورة لدينهم واقتدائهم، وهكذا إلى الجيل المباشر لفعل النبي
صلى الله عليه وسلم
الآخذين عنه، وصار ذلك عنده من أصول الأدلة الشرعية» (ص447). «وظن كثيرون أن ذلك من مسائل الإجماع، ولكن مالك أنكر ذلك قائلا: إن الإجماع لا يخص أهل المدينة دون سواهم، بل شامل للأمة.
واعلم أن الإجماع وهو الاتفاق على الأمر الديني عن اجتهاد، ومالك رحمه الله تعالى لم يعتبر أهل المدينة بهذا المعنى، وإنما اعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل، إلى أن ينتهي إلى الشارع صلوات الله وسلامه عليه» (ص448).
إن مذهب الإمام مالك انتشر بوجه خاص في الأندلس والمغرب؛ وذلك لأسباب جغرافية واجتماعية: أولا إن أهل المغرب كانوا يخالطون أهل الحجاز أكثر مما يخالطون أهل العراق، فكان من الطبيعي أن يأخذوا من الحجاز أكثر مما يأخذون من العراق. ثانيا: إن حالتهم الاجتماعية كانت أقرب إلى حالة أهل الحجاز بسبب بداوتهم، والأحكام التي قال بها الإمام مالك كانت أكثر ملاءمة لاحتياجاتهم من الأحكام التي وضعت في العراق. «وأما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم، إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل؛ لما أن رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق، ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا في الأخذ عن علماء المدينة، وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك، وشيوخه من قبله وتلاميذه بعده. فرجع إليه أهل الأندلس والمغرب، وقلدوه دون غيره ممن لم تصل إليهم طريقته» (ص449). «وأيضا فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل؛ ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضا عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب» (ص449).
يتبين من هذه الفقرات أن ابن خلدون لم يظهر في بحثه هذا أي تشيع للمذهب المالكي، مع أنه كان مالكيا، كما أنه صار فيما بعد قاضيا للقضاة المالكية في مصر. إنه لم يتشيع ولم يتعصب لهذا المذهب، ولا تردد في تعليل اختصاص أهل المغرب بهذا المذهب ببداوة المغرب من جهة، وبعلاقته الجغرافية بالحجاز من جهة أخرى.
وتعليل ابن خلدون في هذا الصدد إنما هو بمثابة «تفسير تاريخ المذاهب بتأثير العوامل الجغرافية والاجتماعية».
وهكذا يتبع ابن خلدون في هذه المسألة خطة عقلانية بحتة؛ مما يدل على أنه لم يعتبر مسائل المذاهب وتاريخها من الأمور التي تخرج عن نطاق مدارك العقل.
الخط والكتابة
يعنون ابن خلدون أحد فصول الباب الخامس من المقدمة بالعنوان التالي: «فصل في أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية» (ص417-421).
لقد رأينا أن نتخذ الفصل المذكور موضوعا لدراسة تحليلية خاصة للأسباب التالية:
أولا: إن الفصل المذكور من الفصول التي تنقصها في طبعات البلاد العربية فقرات عديدة، ومباحث مهمة - بالنسبة إلى طبعة كاترمير الباريسية - فالدراسة التحليلية التي سنكتبها عنه ستعطينا وسيلة ومجالا لنقل الفقرات الناقصة بنصوصها الكاملة؛ بغية إتمام الفصل المذكور، وإطلاع القراء على مبلغ تقصير الطبعات المصرية والبيروتية المتداولة بين الأيدي.
وزيادة على ما تقدم فإن الفصل المذكور من الفصول القائمة بنفسها (أي من التي تدرس الموضوع الواحد بتفصيل واف من وجوهه المختلفة)، كما أنه من أحسن الفصول التي تتجلى فيه نزعة ابن خلدون الفكرية، في جمع المعلومات المتعلقة بمختلف أنواع النشاط البشري، وعرضها بنظرة تاريخية اجتماعية. ونحن نعتقد بأن إظهار آثار هذه النزعة الفكرية الاجتماعية في موضوع ساذج كموضوع الخط - الذي لا يبدو وثيق الصلة بالمسائل الاجتماعية، ولا يظهر كثير الأهمية من الوجهة التاريخية - مما سيساعدنا على إعطاء فكرة واضحة تماما عما لابن خلدون من شمول النظر التاريخي، وعمق التفكير الاجتماعي.
1 (1)
يبدأ ابن خلدون الفصل المذكور بتعريف الخط والكتابة، فيقول: «وهو رسوم وأشكال حرفية، تدل على الكلمات المسموعة، الدالة على ما في النفس، وهو ثاني رتبة من الدلالة اللغوية» (ص471).
لا شك في أن هذا التعريف لا يخلو من التعقيد؛ لأنه يحاول أن يعبر عن معان عديدة بكلمات قليلة، على أن قليلا من إنعام النظر يكفل فهم المعنى المقصود من هذا التعريف الموجز.
ومع ذلك لقد عبر ابن خلدون عن رأيه هذا بتفصيل أوفى في مواضع أخرى من المقدمة، فقد قال - مثلا - في فصل آخر - وهو الفصل الذي يقرر أن الصنائع تكسب صاحبها عقلا: «إن في الكتابة انتقالا من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس» (ص429).
ومن الواضح أننا إذا اعتبرنا «الانتقال من الكلمات إلى المعاني» «الرتبة الأولى من الدلالة اللغوية»؛ نضطر إلى اعتبار «الانتقال من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية» الرتبة الثانية منها.
على أن ابن خلدون قد أوضح ذلك توضيحا تاما في فقرة كتبها في أحد الفصول الناقصة في طبعات البلاد العربية - وهو فصل «المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف» - فقد قال في الفصل المذكور ما يلي: «البيان إنما يكون بالعبارة، وهو الكلام المركب من الألفاظ النطقية، يتبين ضمائر المتكلمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم، وهذه رتبة أولى في البيان عما في الضمائر.» «بعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية يؤدى بها ما في الضمير لمن توارى، أو غاب شخصه، أو بعد، أو لمن يأتي بعده ولم يعاصره ولا لقيه. وهذا البيان منحصر في الكتابة، وهي رقوم باليد، تدل أشكالها وصورها بالتواضع على الألفاظ النطقية - حروفها بحروف وكلماتها بكلمات - فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقي؛ فلهذا كانت في الرتبة الثانية» (طبعة كاترمير، ج3، ص242). (2)
بعد تعريف الخط والكتابة على هذا المنوال، يشرح ابن خلدون أهمية الخط والكتابة في الحياة الفكرية والاجتماعية قائلا: «وهو صناعة شريفة؛ إذ الكتابة من خواص الإنسان التي يميز بها عن الحيوان.» «وأيضا فهي تطلع على ما في الضمائر، وتتأدى بها الأغراض إلى البلاد البعيدة؛ فتقضى الحاجات وقد دفعت مئونة المباشرة لها.» «ويطلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأولين وما كتبوه من علومهم وأخبارهم.» «فهي شريفة بهذه الوجوه والمنافع» (ص417). (3)
ثم يقرر ابن خلدون «تبعة الخط والكتابة للأحوال الاجتماعية»: «وعلى قدر الاجتماع والعمران والتناغي في الكمالات والطلب لذلك؛ تكون جودة الخط في المدينة.» «إذ هو من جملة الصنائع، وقد قدمنا أن هذا شأنها، وأنها تابعة للعمران.» «ولهذا نجد أكثر البدو أميين لا يكتبون ولا يقرءون، ومن قرأ منهم أو كتب، فيكون خطه قاصرا، أو كتابته غير نافذة.» (4)
وبعد ذلك ينتقل ابن خلدون إلى تعليم الخط: «ونجد تعليم الخط في الأمصار - الخارج عمرانها عن الحد - أبلغ وأحسن وأسهل طريقا؛ لاستحكام الصبغة فيها. كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد أن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط، يلقون على المتعلم قوانين وأحكاما في وضع كل حرف، ويزيدون إلى ذلك المباشرة بتعليم وضعه؛ فتعضد لديه رتبة العلم والحس في التعليم، وتأتي ملكته على أتم الوجوه، إنما هذا من كمال الصنائع ووفورها بكثرة العمران وانفساح الأعمال » (ص418). (5)
وبعد هذه المقدمات التمهيدية يبحث ابن خلدون في تاريخ الخط العربي، ويدون معلوماته وملحوظاته حول هذا التاريخ.
نفهم من مطالعة أبحاثه هذه أن مسألة منشأ الخط العربي كانت مثار خلاف في زمانه؛ إذ كان هناك رأيان مختلفان؛ الرأي القائل بأن الخط العربي نشأ في العراق، والرأي القائل بأنه نشأ في اليمن.
يستبعد ابن خلدون الرأي الأول، ويرجح عليه الرأي الثاني بالاستناد إلى الملاحظات التالية:
إن العرب في العراق كانوا أكثر بداوة وأقل حضارة من أهل اليمن، فالقول بأن الخط العربي نشأ في اليمن ثم انتقل من هناك إلى العراق، أقرب إلى المعقول والممكن، وأليق من القول بعكس ذلك.
لأن الكتابة - مثل الصنائع - «لا تبلغ من الإحكام والإتقان والجودة» إلا حيث تتوفر «الحضارة والترف»، وأما «إذا وقعت بالبدو، فلا تكون محكمة المذاهب، ولا ماثلة إلى الإتقان والتحقيق؛ لاستغناء البدو عنها في الأكثر.» «وقد كان الخط العربي بالغا من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة؛ لما بلغت من الحضارة والترف.» وكان يعرف باسم «الخط الحميري» أو «المسند».
ومن حمير تعلمت مضر الكتابة العربية، إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لها. «وكانت كتابة العرب بدوية، مثل كتابتهم أو قريبا من كتابتهم لهذا العهد. أو نقول إن كتابتهم لهذا العهد أحسن صناعة؛ لأن هؤلاء أقرب إلى الحضارة ومخالطة الأمصار والدول. وأما مضر فكانوا أعرق من البدو، وأبعد عن الحضر من أهل اليمن وأهل العراق وأهل الشام ومصر» (ص419). (6)
يهتم ابن خلدون بقضية «الخط العربي لأول الإسلام»، ويقول إنه «كان غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسط؛ لمكان العرب من البداوة والتوحش، وبعدهم عن الصنائع.»
ثم ينتقد بشدة «ما يزعمه بعض المغفلين» من أن الصحابة «كانوا محكمين لصناعة الخط» قائلا: «ما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط، وحسبوا أن الخط كمال، فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال في إجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من ذلك.» على أن ابن خلدون يرى أن «ذلك ليس بصحيح»؛ لأن «الخط ليس بكمال في حقهم؛ إذ إن الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، كما رأيته فيما مر، والكمال في الصنائع إضافي، وليس بكمال مطلق؛ إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود إلى أسباب المعاش.» (7)
وبعد هذا التأكيد عن «أن الخط العربي كان بعيدا عن الإجادة والإتقان» في أوائل الإسلام ، يصرح ابن خلدون بأن هذا الخط ترقى وتقدم وانتشر بعد الفتوحات الإسلامية، بفضل الفتوحات الإسلامية. «ثم لما جاء الملك للعرب، وفتحوا الأمصار وملكوا الممالك، واحتاجت الدولة إلى الكتابة، استعملوا الخط وطلبوا تعلمه، وتداولوه؛ فترقت الإجادة فيه، واستحكم ...» (ص420). «ترقت الخطوط» في بغداد «إلى الغاية؛ لما استبحرت في العمران، وكانت دار الإسلام ومركز الدولة العربية.» «وطما بحر العمران والحضارة في الدول الإسلامية في كل قطر، وعظم الملك، ونفقت أسواق العلوم، وانتسخت الكتب، وأجيد كتبها وتجليدها، وملئت بها القصور والخزائن الملوكية بما لا كفاء له، وتنافس أهل الأقطار في ذلك وتناغوا فيه» (ص420).
هذا وإذا علمنا أن وفرة العمران وقوة الدول تؤدي إلى تقدم الخط، يجب أن نعلم أيضا أن تناقص العمران وانحلال الدول يؤدي - بعكس ذلك - إلى انحطاطه. «ثم لما انحل نظام الدول الإسلامية وتناقصت؛ تناقص ذلك أجمع، ودرست معالم بغداد بدروس الخلافة، فانتقل شأنها من الخط والكتابة، بل والعلم إلى مصر والقاهرة، فلم تزل أسواقه بها نافقة لهذا العهد، وله بها معلمون يرسمون لتعليم الحروف.» (8)
يتطرق ابن خلدون إلى أنواع الخطوط العربية - خلال هذه المعلومات التاريخية - ويذكر بعد الخط الحميري الخط الكوفي والخط البغدادي، والمشرقي، والإفريقي، والأندلسي، ويتوسع بوجه خاص في الخطين الأندلسي والإفريقي.
عندما «تميز ملك الأندلس بالأمويين، فتميزا بأحوالهم من الحضارة والصنائع والخطوط، فتميز صنف خطهم الأندلسي، كما هو معروف لهذا العهد.»
وقد تقدم هذا الخط بتقدم الحضارة في الأندلس، غير أنه انتقل في الأخير إلى إفريقية - عندما هاجر أهل الأندلس إليها - وتغلب على الخط الإفريقي الذي كان دارجا هناك. «وأما أهل الأندلس فافترقوا في الأقطار عند تلاشي ملك العرب بها، ومن خلفهم من البربر، وتغلبت عليهم أمم النصرانية؛ فانتشروا في عدوة المغرب وإفريقية من لدن الدولة اللمتونية إلى هذا العهد، وشاركوا أهل العمران بما لديهم من الصنائع، وتعلقوا بأذيال الدولة، فتغلب خطهم على الخط الإفريقي وعفى عليه، ونسي خط القيروان والمهدية بنسيان عوائدهما وصنائعهما، وصارت خطوط أهل إفريقية كلها على الرسم الأندلسي بتونس وما إليها؛ لتوفر أهل الأندلس بها عند الجالية من شرق الأندلس. وبقي منه رسم ببلاد الجريد الذين لم يخالطوا كتاب الأندلس، ولا تمرسوا بجوارهم، إنما كانوا يفدون على دار الملك بتونس، فصار خط أهل إفريقية من أحسن خطوط أهل الأندلس.»
غير أن حال هذا الخط أيضا فسد مؤخرا من جراء تناقص العمران. «حتى إذا تقلص ظل الدولة الموحدية بعض الشيء، وتراجع أمر الحضارة والترف بتراجع العمران؛ نقص حينئذ حال الخط وفسدت رسومه، وجهل فيه وجه التعليم بفساد الحضارة وتناقص العمران.» «وبقيت فيه آثار الخط الأندلسي تشهد بما كان لهم من ذلك؛ لما قدمناه من أن الصنائع إذا رسخت بالحضارة فيعسر محوها.»
وفي الأخير يصف ابن خلدون حالة الانحطاط التي وصل إليها الخط في إفريقية والمغرب: «ونسي عهد الخط فيما بعد عن سدة الملك وداره، وكأنه لم يعرف، وصارت الخطوط بإفريقية والمغرب مائلة إلى الرداءة، بعيدة عن الجودة، وصارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل لمتصفحها منها، إلا العناء والمشقة؛ لكثرة ما يقع فيها من الفساد والتصحيف وتغيير الأشكال الخطية عن الجودة، حتى لا تكاد تقرأ إلا بعد عسر، ووقع فيه ما وقع في سائر الصنائع بنقص الحضارة وفساد الدول» (ص421).
2
هذه هي أهم الآراء والمعلومات المدرجة في فصل الخط والكتابة في طبعات البلاد العربية، غير أن الطبعة الباريسية من المقدمة تحتوي في هذا الفصل - زيادة على ما تقدم - أربع فقرات هامة، ننقلها فيما يلي بنصوصها الكاملة: (أ)
في بحث «تعليم الخط» - بعد عبارة «إنما هذا من كمال الصنائع ووفورها بكثرة العمران وانفساح الأعمال» - تأتي فقرة قصيرة، تبين كيفية تعليم الخط في الأندلس والمغرب : «وليس الشأن في تعليم الخط بالأندلس والمغرب كذلك في تعلم كل حرف بانفراده على قوانين يلقيها المعلم للمتعلم، وإنما بمحاكاة الخط في كتابة الكلمات جملة، ويكون ذلك من المتعلم ومطالعة المعلم له، إلى أن يحصل له الإجادة، ويتمكن في بنائه الملكة ويسمى مجيدا» (طبعة كاترمير، ج2، ص339).
إن هذه الفقرة مهمة جدا من وجهة تاريخ التربية والتعليم، فإننا نفهم منها أن المعلمين - في الأندلس والمغرب - كانوا يتبعون في تعليم الخط الطريقة التي تعرف الآن بين علماء التربية باسم «الطريقة المجموعية»
globale Méthode ، أو الطريقة الجميلة. (ب)
في خلال البحث عن منشأ الحروف العربية، وترجيح قول القائلين بأن أهل الحيرة اقتبسوا الخط من التبابعة وحمير، وعقب قوله «وهو الأليق من الأقوال»؛ ينقل ابن خلدون فقرة طويلة رآها في كتاب التكملة لابن الأبار: «ورأيت في كتاب التكملة لابن الأبار عند التعريف بابن فروخ القيرواني الفاسي الأندلسي من أصحاب مالك - رضي الله عنه - واسمه عبد الله بن فروخ عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن أبيه، قال»: «قلت لعبد الله بن عباس: يا معشر قريش، خبروني عن هذا الكتاب العربي، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله محمدا
صلى الله عليه وسلم ، تجمعون منه ما اجتمع، وتفرقون منه ما افترق، مثل الألف واللام والنون؟ قال: نعم. قلت: وممن أخذتموه؟ قال: عن حرب بن أمية. قلت: وممن أخذه حرب؟ قال: من عبد الله بن جدعان. قلت: وممن أخذه عبد الله بن جدعان؟ قال: من أهل الأنبار. قلت: وممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من طارئ طرأ عليهم من أهل اليمن. قلت: وممن أخذه ذلك الطارئ؟ قال: من الخلجان بن قسم، كاتب الوحي لهود النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي يقول:
أفي كل عام سنة تحدثونها
ورأي على غير الطريق يعبر؟
وللموت خير من حياة تسبنا
بها جرهم فيمن يسب وحمير» «انتهى ما نقله ابن الأبار في كتاب التكملة.» [يلي ذلك عنعنة هذه الرواية، وسلسلة أسماء نقلتها، لا نرى لزوما لذكرها في هذا المقام] (طبعة كاترمير ، ج2، ص340). (ج)
في بحث ترقي الخط في بغداد بعد قوله «لما استبحرت في العمران، وكانت دار الإسلام ومركز الدولة العربية»، تأتي فقرة طويلة تشرح كيفية تطور الخط عند انتقاله من الكوفة إلى بغداد، ومن بغداد إلى مصر، وتذكر أسماء بعض الخطاطين المشهورين: «وخالفت أوضاع الخط ببغداد أوضاعه بالكوفة، في الميل إلى إجادة الرسوم وجمال الرونق وحسن الرواء، واستحكمت هذه المخالفة في الأعصار، إلى أن رفع رايتها ببغداد علي بن مقلة الوزير، ثم تلاه في ذلك علي بن هلال الكاتب الشهير بابن البواب، ووقف سند تعليمها عليه في المائة الثالثة وما بعدها. وبعدت رسوم الخط البغدادي وأوضاعه عن الكوفة، حتى انتهت إلى المباينة، ثم ازدادت المخالفة بعد تلك العصور بتفنن الجهابذة في إحكام رسومه وأوضاعه، حتى انتهت إلى المتأخرين مثل ياقوت والولي علي العجمي، ووقف سند تعليم الخط عليهم. وانتقل ذلك إلى مصر، وخالفت طريقة العراق بعض الشيء، ولقنها العجم هنالك، فظهرت مخالفة لخط أهل مصر أو مباينة» (طبعة كاترمير، ج2، ص344).
نحن نرى في هذه الفقرة مثالا قيما ودليلا جديدا على رأي ابن خلدون في «التطور التدريجي» في كل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية وأحوالها المختلفة. (د)
بعد العبارات التي ينتهي بها فصل الخط والكتابة في طبعات البلاد العربية، يذكر ابن خلدون قصيدة طويلة في صناعة الخط. «وللأستاذ أبي الحسن علي بن هلال الكاتب البغدادي الشهير بابن البواب، قصيدة من بحر البسيط على روي الراء، يذكر فيها صناعة الخط ومواردها، من أحسن ما كتب في ذلك، رأيت إثباتها في هذا الباب من هذا الكتاب؛ لينتفع بها من يريد تعلم هذه الصناعة. وأولها:
يا من يريد إجادة التحرير
ويروم حسن الخط والتصوير
إن كان عزمك في الكتابة صادقا
فارغب إلى مولاك في التيسير
أعدد من الأقلام كل مثقف
صلب يصوغ صناعة التحبير
وإذا عمدت لبريه، فتوخه
عند القياس بأوسط التقدير
انظر إلى طرفيه، فاجعل بريه
من جانب التدقيق والتخصير
واجعل لجلفته قواما عادلا
يخلو عن التطويل والتقصير
والشق وسطه ليبقى بريه
من جانبيه مشاكل التقدير
حتى إذا أتقنت ذلك كله
إتقان طب بالمواد خبير
فاصرف لرأي القط عزمك كله
فالقط فيه جملة التدبير
لا تطمعن في أن أبوح بسره
إني أضن بسره المستور
لكن جملة ما أقول بأنه
ما بين تحريف إلى التدوير
وألق دواتك بالدخان مدبرا
بالخل أو بالحصرم المعصور
وأضف إليه مغرة قد صولت
مع أصفر الزرنيخ والكافور
حتى إذا ما خمرت فاعمد إلى ال
ورق النقي الناعم المخبور
فاكبسه بعد القطع بالمعصار كي
ينأى عن التشعيث والتغيير
ثم اجعل التمثيل دأبك صابرا
ما أدرك المأمول مثل صبور
ابدأ به في اللوح منتصبا له
عزما تجرده عن التشمير
لا تخجلن من الرديء تخطه
في أول التمثيل والتسطير
فالأمر يصعب ثم يرجع هينا
ولرب سهل جاء بعد عسير
حتى إذا أدركت ما أملته
أضحيت رب مسرة وحبور
فاشكر إلهك واتبع رضوانه
إن الإله يجيب كل شكور
وارغب لكفك أن تخط بنانها
خيرا تخلفه بدار غرور
فجميع فعل المرء يلقاه غدا
عند التقاء كتابه المنشور (طبعة كاترمير، ج2، ص346) (ه)
بعد هذه القصيدة يأتي بحث جديد تماما، يدون فيه ابن خلدون بعض المعلومات والملحوظات عن «خطوط الدواوين السلطانية»، وعن «الخطوط السرية»: ««واعلم» أن الخط بيان عن القول والكلام، كما أن القول والكلام بيان عما في النفس والضمير من المعاني، فلا بد لكل منهما أن يكون واضح الدلالة. قال الله تعالى:
خلق الإنسان * علمه البيان . وهو يشتمل على بيان الأدلة كلها، فالخط المجود كماله أن تكون دلالته واضحة بإبانة حروفه المتواضعة، وإجادة وضعها ورسمها كل واحد على حدة، متميز عن الآخر، إلا ما اصطلح عليه الكتاب في إيصال حرف الكلمة الواحدة بعضها ببعض، سوى حروف اصطلحوا على قطعها مثل الألف المتقدمة في الكلمة، وكذا الراء والزاي والدال والذال وغيرها، بخلاف ما إذا كانت متأخرة، وهكذا إلى آخرها.» «ثم إن المتأخرين من الكتاب اصطلحوا على وصل كلمات بعضها ببعض، وحذف حروف معروفة عندهم، لا يعرفها إلا أهل مصطلحهم، فتستعجم على غيرهم، وهؤلاء كتاب دواوين السلطان وسجلات القضاة، كأنهم انفردوا بهذا الاصطلاح عن غيرهم لكثرة موارد الكتابة عليهم، وشهرة كتابتهم، وإحاطة كثير من دونهم بمصطلحهم. فينبغي أن يعدلوا عن ذلك إلى البيان ما استطاعوا، وإلا كان بمثابة الخط الأعجمي؛ لأنها بمنزلة واحدة في عدم التواضع عليه. وليس يعذر في هذا القدر إلا كتاب الأعمال السلطانية في الأموال والجيوش؛ لأنهم مطلوبون بكتمان ذلك عن الناس، فإنه من الأسرار السلطانية التي يجب إخفاؤها. فيبالغون في رسم اصطلاح خاص بهم يصير بمثابة المعمى، وهو الاصطلاح على العبارة عن الحروف بكلمات من أسماء الطيب والفواكه والطيور والأزاهر، ووضع أشكال أخرى غير أشكال الحروف المتعارفة يصطلح عليها المتخاطبون؛ لتأدية ما في ضمائرهم بالكتابة، وربما وضع الكتاب للعثور على ذلك، وإن لم يضعوا له أولا قوانين بمقاييس، استخرجوها لذلك بمداركهم، يسمونها فك المعمى. وللناس في ذلك دواوين مشهورة، والله العليم الحكيم» (طبعة كاترمير، ج2، ص347).
يلاحظ أن جميع هذه الفقرات والأبحاث التي نقلناها عن طبعة باريس، تنسجم تمام الانسجام مع أبحاث الفصل، وخطة المقدمة، وعقلية المؤلف وأسلوبه، فلا نرى مجالا للشك في أنها من كتابات ابن خلدون نفسه.
ونعتقد أن عدم وجود مثل هذه الفقرات والمباحث الهامة في طبعات البلاد العربية، من أبرز الدلائل على فداحة تقصير الطبعات المذكورة، وعظم الواجب الملقى على عاتق الدوائر العلمية العربية، أمام تراث هذا المفكر العربي الخالد.
3
هذه هي الآراء والمعلومات الواردة في فصل الخط والكتابة من المقدمة، وقد سردنا أقسامها الموجودة في الطبعات المصرية والبيروتية تلخيصا، ونقلنا أقسامها الخاصة بالطبعة الباريسية نصا وتماما.
غير أن ابن خلدون قد تطرق إلى أمور الخط والكتابة في بعض الفصول الأخرى أيضا، فإذا أردنا أن نحصل على فكرة تامة عن كل ما كتبه عن الخط والكتابة، يجب علينا أن نراجع الفصول المذكورة أيضا: (1)
في الفصل الذي يقرر «أن الصنائع تكسب صاحبها عقلا، وخصوصا الكتابة والحساب» (ص427-429)، يتكلم ابن خلدون عن فائدة الكتابة. (2)
وفي فصل تعليم الولدان (ص537-540) يتطرق ابن خلدون إلى مسألة تعليم الخط والكتابة بجانب تعليم القرآن، ويذكر مذاهب أهل الأندلس والمغرب وإفريقية والمشرق في هذا الصدد. (3)
في فصل «المقاصد التي ينبغي اعتمادها في التأليف» (وهو من الفصول الناقصة في جميع طبعات البلاد العربية)، بعد تعريف الكتابة - حسب ما ذكرناه آنفا - يستعرض ابن خلدون أنواع الخطوط - من الحميري إلى السرياني والعبراني واللطيني - ويقول فيما يقوله: «الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها وأشكالها، ويسمى ذلك قلما أو خطا.» «فمنها الخط الحميري ويسمى المسند، وهو كتابة حمير وأهل اليمن الأقدمين، وهو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مضر، كما يخالف لغتهم، وإن كان الكل عربيا.» «ومنها الخط السرياني، وهو كتابة النبط والكلدانيين، وربما يزعم بعض أهل الجهل أنه الخط الطبيعي لقدمه، فإنهم كانوا أقدم الأمم، وهذا وهم ومذهب عامي؛ لأن الأفعال الاختيارية كلها ليس شيء منها بالطبع، وإنما هو يستمر بالقدم والمران، حتى يصير ملكة راسخة، فيظنها المشاهد طبيعية، كما هو رأي كثير من البلداء في اللغة العربية، فيقولون إن العرب كانت تعرب بالطبع، وتنطق بالطبع، وهذا وهم.» «ومنها الخط العبراني ... ومنها الخط اللطيني ...» «ولكل أمة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها، ويختص بها، مثل الترك والفرنج والهنود وغيرهم.» «إنما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى.» «أما السرياني؛ لقدمه كما ذكرنا. أما العربي والعبري؛ فلتنزل القرآن والتوراة بهما بلسانهما.» «وأما اللطيني فكان الروم - وهم أهل ذلك اللسان - لما أخذوا بدين النصرانية وهو كله من التوراة، ترجموا التوراة وكتب الأنبياء الإسرائيليين إلى لغتهم؛ ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق، وصارت عنايتهم بلغتهم وكتاباتهم آكد من سواها.»
وأما الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية، وإنما هي لكل أمة حسب اصطلاحها» (طبعة كاترمير، ج3، ص234). (4)
في الفصل الذي يقرر «أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي» (وهو من الفصول الناقصة في جميع طبعات البلاد العربية)، يتطرق ابن خلدون إلى الخط والكتابة خلال تكلمه عن الحجب التي تقوم بين المعاني والفهم، قائلا: «وأما إذا احتاج التعليم إلى الدراسة والتقييد بالكتاب، ومشافهة الرسوم الخطية في الدواوين بمسائل العلوم، كان هنالك حجاب آخر بين الخط ورسومه في الكتاب، وبين الألفاظ المقولة في الخيال؛ لأن رسوم الكتابة لها دلالة خاصة على الألفاظ المقولة، وما لم تعرف تلك الدلالة تعذرت معرفة العبارة، وإن عرفت بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضا قاصرة، ويزداد على الناظر والمتعلم بذلك حجاب آخر بينه وبين مطلوبه من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأول. وإذا كانت ملكته في الدلالة اللفظية والحيطة مستحكمة؛ ارتفعت الحجب بينه وبين المعاني، وصار إنما يعاني فهم مباحثها فقط . هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة» (طبعة كاترمير، ج3، ص375).
المدن والأمصار
يخصص ابن خلدون الباب الرابع من المقدمة إلى درس أحوال «المدن والأمصار وسائر العمران»، ويدخل في الباب المذكور اثنين وعشرين فصلا، هذه عناوينها: «في أن الدول أقدم من المدن والأمصار، وأنها إنما توجد ثانية عن الملك» (ص342). «في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار» (ص344). «في أن المدن العظيمة والهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير» (ص344). «في أن الهياكل العظيمة جدا لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة» (ص346). «فيما تجب مراعاته في أوضاع المدن، وما يحدث لو أغفل عن المراعاة» (ص347). «في المساجد والبيوت العظيمة في العالم» (ص349). «في أن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلة» (ص357). «في أن المباني والمصانع في الملة الإسلامية قليلة بالنسبة إلى قدرتها وإلى من كان قبلها من الدول» (ص358). «في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب، إلا في الأقل» (ص359). «في مبادئ الخراب في الأمصار» (ص359). «في أن تفاضل الأمصار والمدن في كثرة الرزق لأهلها، ونفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة» (ص360). «في أسعار المدن» (ص362). «في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران» (ص364). «في أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه والفقر مثل الأمصار» (ص365). «في تأثل العقار والضياع في الأمصار وفوائدها ومستغلاتها» (ص367). «في حاجات المتمولين من أهل الأمصار إلى الجاه والمدافعة» (ص368). «في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول، وأنها ترسخ باتصال الدولة ورسوخها» (ص368). «في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره، وأنها مؤذنة بفساده» (ص371). «في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانقراضها» (ص374). «في اختصاص بعض الأمصار ببعض الصنائع دون بعض» (ص376). «في وجود العصبية في الأمصار وتغلب بعضهم على بعض» (ص377). «في لغات أهل الأمصار» (ص379).
في هذه الفصول يدرس ابن خلدون المدن والأمصار من وجوه متعددة ومتنوعة؛ يظهر علاقتها بالدول من ناحية، وبالقبائل من ناحية أخرى، كما يبين شروط اختطاط المدن والأمصار، ويتتبع كيفية ازدهارها من ناحية، وانتقاضها من ناحية أخرى. ثم يستعرض خصائصها الاقتصادية والسياسية، ولا يهمل أمر لغات أهلها أيضا. (1) اختطاط المدن (1)
يقرر ابن خلدون «أن اختطاط المنازل من منازع الحضارة» (ص342)، ويلاحظ أن المباني القائمة في المدن لا تكون كلها خاصة بالأفراد، بل إن قسما منها يكون من المرافق العامة التي يشترك فيها ويستفيد منها جميع السكان، وطبيعي أن هذه المرافق العامة تحتاج إلى رعاية الدولة.
ولذلك يقول ابن خلدون: «لا بد في تمصير الأمصار واختطاط المدن من الدولة والملك» (ص343).
كما أنه يقرر «أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار، والاستيلاء عليها» (ص344).
فإن كل دولة تقوم في قطر من الأقطار تضطر إلى الاستيلاء على المدن المؤسسة قبلا، وقد لا تكتفي بذلك، بل تقدم على اختطاط بعض المدن الجديدة أيضا. إنها تفعل ذلك بوجه خاص عندما تقوم بفتوحات كبيرة، فإنها تكون حينئذ في حاجة إلى استحداث بعض المدن والثغور؛ لإيواء حامياتها، وحماية حدودها من غارات الدول المجاورة لها. (2)
ولكن المدينة التي تختطها الدولة بهذه الصورة لا يمكن أن تزدهر، ما لم تستجمع بعض الشروط التي تضمن لها البقاء والاستمرار.
يشرح ابن خلدون هذه الشروط في فصل خاص يعنونه بالعنوان التالي: «فصل فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن، وما يحدث إذا غفل عن المراعاة.»
ويستهل هذا البحث بقوله: «اعلم أن المدن قرار تتخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف ودواعيه، فتؤثر الدعة والسكون، وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار. ولما كان ذلك القرار والمأوى، وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها، وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها» (ص347).
يقسم ابن خلدون بهذه الصورة شروط بقاء المدن إلى نوعين أساسيين؛ الشروط التي تضمن الحماية من المضار، والشروط التي تكفل جلب المنافع.
ثم يسرد تفاصيل هذين النوعين من الشروط: (3)
الحماية من المضار تكون أولا باستكمال وسائل الوقاية من غارات الأعداء، ثانيا بملاحظة وسائل الوقاية من الآفات السماوية (أي الطبيعية).
وأما الحماية من غارات الأعداء فتتطلب مراعاة الأمور التالية:
يجب «أن يدار على منازلها جميعا سياج الأسوار، وأن يكون وضع ذلك في ممتنع من الأمكنة؛ إما على هضبة متوعرة من الجبل، وإما باستدارة بحر أو نهر بها، حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة؛ فيصعب منالها على العدو، ويتضاعف امتناعها وحصنها» (ص34). «وأما الوقاية من الآفات فلا يتم إلا إذا روعي «طيب الهواء للسلامة من الأمراض».» «وذلك «لأن الهواء إذا كان راكدا خبيثا، أو مجاورا للمياه الفاسدة»، أو قريبا من «منافع متعفنة أو مروج خبيثة»؛ «أسرع إليها العفن»، و«أسرع المرض للحيوان الكائن فيه» كما تفشت الأمراض بين السكان.» «وهذا مشاهد، والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء، كثيرة الأمراض في الغالب» (ص347). (4) «وأما جلب المنافع والمرافق للبلد» فيقتضي استكمال «الوسائل اللازمة لضمان حاجة الناس من الماء والحطب، والمزارع والمراعي»: (أ) «يجب أن يكون البلد على نهر أو بإزائها عيون عذبة ثرة، فإن وجود الماء قريبا من البلد يسهل على الساكن حاجة الماء، وهي ضرورية؛ فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة» (ص348). (ب)
ويجب أن يكون في جوار المدينة «مراع طيبة لسائمتهم؛ إذ صاحب كل قرار لا بد له من دوجن الحيوان للنتاج والضرع والركوب، ولا بد لها من المرعى، فإذا كان قريبا طيبا؛ كان ذلك أرفق بحالهم؛ لما يعانون من المشقة في بعده» (ص347). (ج)
ويجب أن تكون المدينة قريبة من المزارع؛ «فإن الزروع هي الأقوات، فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها، كان ذلك أسهل في اتخاذه ، وأقرب في تحصيله» (ص348). (د)
ويجب أن يكون بالقرب من المدينة مشاجر «للحطب والبناء، فإن الحطب مما تعم البلوى في اتخاذه لوقود النيران للاصطلاء والطبخ. والخشب أيضا ضروري لسقفهم، وكثير مما يستعمل فيه الخشب من ضرورياتهم» (ص348). (ه)
ويضيف ابن خلدون إلى كل ذلك شرطا آخر، مع التصريح بأنه لم يكن ضروريا كالشروط الآنفة الذكر: «وقد يراعى أيضا قرب «المدينة» من البحر؛ لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النائية، إلا أن ذلك ليس بمثابة الأول» (ص349). (5)
وبعد هذه الشروط العامة التي تشمل جميع المدن يبدي ابن خلدون بعض الملاحظات على «شروط اختطاط المدن الساحلية» بوجه خاص.
لأن هذه المدن تكون عرضة إلى غارات تأتي من البحر بواسطة الأساطيل؛ ولذلك إنها تحتاج إلى شروط خاصة ، فضلا عن الشروط العامة المذكورة آنفا: «إنها يجب أن تكون في جبل وعر المسالك، أو تكون مجاورة لقبائل قوية تستطيع أن تلبي صريخها، وتساعدها على دفع العدوان الذي قد يأتيها من الخارج؛ وذلك لأن أهل المدن يكونون عادة «متعودين للدعة، فيخرجون من حكم المقاتلة».»
يوضح ابن خلدون رأيه في هذا الصدد كما يلي: «إن المدينة إذا كانت حاضرة البحر ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيات، ولا موضعها متوعر من الجبل، كانت في غرة للبيات، وسهل على عدوها طروقها في الأساطيل البحرية.»
ولكن «متى كانت القبائل والعصائب موطنين بقربها، بحيث يبلغهم الصريخ والنفير، وكانت متوعرة المسالك على من يرومها»، وذلك من جراء «اختطاطها في هضبات الجبال وأسنمتها؛ كان لها بذلك منعة من العدو»، ويئس الأعداء من طروقها «لما يكابدونه من وعرها، وما يتوقعونه من إجابة صريخها» (ص349).
هنا يربط ابن خلدون أحوال المدينة بأوضاع القبائل المجاورة لها، ويشير إلى اشتراك تلك القبائل في الدفاع عن المدينة. (6)
يلاحظ ابن خلدون الدور الذي تلعبه المدن المحصنة في حياة الدول؛ لأنه يرى أن الحصون تقوم مقام عدد غير قليل من العساكر. «والمصر يقوم مقام العساكر المتعددة؛ لما فيه من الامتناع، ونكاية الحرب من وراء الجدران، من غير حاجة إلى كثير عدد ولا عظيم شوكة»؛ لأن الحامية تدافع عن المدينة من وراء الأسوار؛ ولذلك لا تحتاج إلى كبير عصابة، فإن وجود الحصون «يفت في عضد الأمة التي تروم الاستيلاء على المدينة، ويخضد شوكة استيلائها» (ص344). (2) ازدهار المدن وانتقاضها
لا تبقى المدن - بعدما تتأسس - جامدة على حالة واحدة، بل تتطور وتنتقل من حال إلى حال؛ تارة تتوسع وتزدهر، وطورا تتراجع وتسير نحو الخراب.
وابن خلدون يتتبع هذه التطورات بكل اهتمام: «ثم إذا بنيت المدينة وكمل تشييدها - بحسب نظر من شيدها، وبما اقتضته الأحوال السماوية والأرضية فيها - فعمر الدولة حينئذ عمر لها؛ فإن كان عمر الدولة قصيرا؛ وقف الحال فيها عند انتهاء الدولة، وتراجع عمرانها وخربت. وإن كان أمد الدولة طويلا، ومدتها منفسحة؛ فلا تزال المصانع (أي المباني ) فيها تشاد، والمنازل الرحيبة تكثر وتتعدد، ونطاق الأسواق يتباعد وينفسح، إلى أن تتسع الخطة وتبعد المسافة، وينفسح ذرع المساحة، كما وقع ببغداد وأمثالها» (ص343). «وأما بعد انقراض الدولة المشيدة للمدينة»، فتتغير الأمور بطبيعة الحال، وهذا التغير يتبع حالة المدينة وأوضاعها العامة.
فإذا كانت المدينة «كرسيا للملك»، فإنها تسير نحو الخراب بخطى سريعة.
يقول ابن خلدون في عنوان أحد فصول المقدمة: «إن الأمصار التي تكون كراسي للملك، تخرب بخراب الدولة وانقراضها» (ص374).
ويستهل الكلام في الفصل المذكور بقوله: «الدولة إذا اختلت وانتقضت فإن المصر الذي يكون كرسيا لسلطانها ينتقض عمرانه، وربما ينتهي انتقاضه إلى الخراب.»
ويذكر ابن خلدون لهذا الانتقاض أسبابا عديدة، يتلخص أهمها بما يلي:
إن معظم آثار العمران في أمثال هذه المدن يتأتى من كونها «كراسي للملك»؛ لأن رجال الدولة ورؤساء الحامية وأتباعهم الكثيرين، يجتمعون ويقطنون هناك، كما أن معظم ما تجبيه الدولة من جميع الأقطار والأمصار التي تدخل في حوزتها، ينفق هناك. فإذا لم تعد المدينة كرسيا للملك؛ انتفت منها جميع هذه العوامل الهامة، ولذلك تراجع عمرانها، وتناقصت ثروتها.
ولكن تراجع العمران لا يقف عند هذا الحد، بل يزداد لعوامل أخرى أيضا؛ لأن أعيان المصر يعتبرون «شيعة للدولة التي نشئوا فيها»، و«إن لم يكونوا» شيعة لها «بالشوكة والعصبية، فهم بالميل والمحبة والعقيدة»؛ ولذلك تخشى الدولة الجديدة انتقاضهم عليها، مستندين إلى أتباعهم الموجودين في المدينة، فترى من حسن السياسة أن تنقلهم إلى مدن أخرى كان حكمها متمكنا فيها ومستقرا، ولتطمئن على رسول حكمها في المدينة التي كانت كرسيا للدولة السابقة لها؛ ولذلك فإنها تنقل أعيان المدينة؛ «بعضهم على نوع التغريب والحبس، وبعضهم على نوع الكرامة والتلطف - بحيث لا يؤدي إلى النفرة - حتى لا يبقى في المصر الكرسي (السابق) إلا الباعة والهمل من أهل الفلح والعيارة وسواد العامة» (ص375-376).
ولكن المدينة تبقى مصونة من عوامل هذا التراجع إذا صارت كرسيا للدولة الجديدة أيضا. يقول ابن خلدون في هذا المضمار ما يلي: «ربما ينزل المدينة بعد انقراض مختطيها الأولين ملك آخر ودولة ثانية ، يتخذها قرارا وكرسيا، يستغني بها عن اختطاط مدينة ينزل بها؛ فتحفظ تلك الدولة سياجها، وتتزايد مبانيها ومصانعها بتزايد أحوال الدولة الثانية وترفها، وتستجد بعمرانها عمرا آخر، كما وقع بفاس والقاهرة لهذا العهد» (ص343).
وأما إذا لم تكن المدينة كرسيا للملك، فإن تأثرها من انقراض الدولة المشيدة لها يكون أخف وأقل بطبيعة الحال.
ويرى ابن خلدون أن مبلغ هذا التأثر يختلف باختلاف وسائل العمران التي تحيط بالمدينة. «وأما بعد انقراض الدولة المشيدة للمدينة، فإما أن يكون لضواحي تلك المدينة وما قاربها من الجبال والبسائط بادية، يمدها العمران دائما، فيكون ذلك حافظا لوجودها، ويستمر عمرها بعد الدولة، كما تراه بفاس وبجاية من المغرب، وبعمران العجم من المشرق الموجود لها العمران من الجبال؛ لأن أهل البداوة إذا انتهت أحوالهم إلى غاياتها من الرفه والكسب، تدعو إلى الدعة والسكون الذي في طبيعة البشر؛ فينزلون المدن والأمصار ويتأهلون.» «وأما إذا لم تكن لتلك المدينة المؤسسة مادة تفيدها العمران بترادف الساكن من بدوها؛ فيكون انقراض الدولة خرقا لسياجها؛ فيزول حفظها، ويتناقص عمرانها شيئا فشيئا، إلى أن يذعر ساكنها وتخرب، كما وقع بمصر وبغداد والكوفة بالمشرق، والقيروان والمهدية وقلعة ابن حماد بالمغرب وأمثالها» (ص343).
ابن خلدون يشير هنا أيضا إلى علاقة المدن بالبوادي، ويلاحظ أن أهل البداوة ينزعون - في بعض الأحوال - إلى نزول المدن والأمصار، وأن البادية كثيرا ما تمد المدن بالسكان. (7) إن تراجع عمران المدن لا يظهر في تقلص مساحتها وتناقص سكانها فقط، بل يظهر في تغير أحوال مبانيها أيضا.
لأن المدن التي تكون موفورة العمران وكثيرة الأعمال والمكاسب تكثر فيها المباني المشيدة بالحجر والجير، والمنمقة بشتى أساليب التنمق؛ من الرخام والزليج والفسيفساء والصدف. «وإذا تراجع عمرانها وخف ساكنها؛ قلت الصنائع لأجل ذلك، وفقدت الإجادة في البناء، والإحكام والمغالاة عليه بالتنميق. ثم تقل الأعمال لعدم الساكن؛ فيقل جلب الآلات
1
من الحجر والرخام وغيرهما، فتفقد، ويصير بناؤهم وتشييدهم من الآلات
2
التي في مبانيهم، فينقلونها من مصنع إلى مصنع؛ لأجل خلاء أكثر المصانع والقصور والمنازل بقلة العمران وقصوره عما كان أولا. ثم لا تزال تنقل من قصر إلى قصر، ومن دار إلى دار، إلى أن يفقد الكثير منها جملة؛ فيعودون إلى البداوة في البناء، واتخاذ الطوب عوضا عن الحجارة، والقصور عن التنميق بالكلية، فيعود بناء المدينة مثل بناء القرى والمدر، وتظهر عليها سيماء البداوة» (359-360).
الحياة الاقتصادية
إن آراء ابن خلدون في «الحياة الاقتصادية» كثيرة ومتنوعة ومهمة، إنها تشغل خمسين فصلا من فصول المقدمة، فإن فصول الباب الخامس بأجمعها تبحث في «المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع»، كما أن مواضيع فصل من فصول الباب الثاني، وعشرة من فصول الباب الثالث، وستة من فصول الباب الرابع أيضا، تحوم حول أمور الاقتصاد والمال. وفضلا عن ذلك فإن عددا غير قليل من الفصول الأخرى أيضا تتضمن بعض الأبحاث التي لا تخلو من صلات وثيقة بالأمور الاقتصادية.
إني كنت عرضت قسما من آراء ابن خلدون الاقتصادية في عدة دراسات سابقة بمناسبات مختلفة: (أ)
في [القسم الثاني: مكانة ابن خلدون في تاريخ فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع - ابن خلدون ومونتسكيو - .التاريخ والاقتصاد] (ب)
في [القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته - طبائع الأمم وسجاياها]. (ج)
في [القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته - الدولة وتطوراتها - أطوار الدولة]. (د)
في [القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته - التربية والتعليم - نظرات عامة].
والآن أود أن أضيف إلى تلك الأبحاث بعض الأمور التي تساعد على إظهار ميزات «تفكير ابن خلدون الاقتصادي» بأجلى مظاهرها.
إن الأبحاث التي تتصل بالأمور الاقتصادية - في البلاد الغربية - لم تأخذ شكلا علميا إلا في النصف الأخير من القرن الثامن عشر.
لأن قبل التاريخ المذكور كانت الأبحاث الاقتصادية لا تخرج عن نطاق «التصورات الطوبائية، والنصائح العملية، والمناقشات الفقهية الدينية»؛ كيف يجب أن توزع الأراضي والأموال بين الأهالي؟ هل يجوز بيع السلع بسعر يزيد على تكاليفها الحقيقية؟ هل يتفق ذلك مع مكارم الأخلاق؟ هل يسوغ أخذ «فائض» على المبالغ التي تقرض إلى الغير؟ هل يتفق ذلك مع تعاليم المسيح؟ ما هي أحسن المسالك التي يجب أن يسلكها الأمراء لزيادة ثروتهم وثروة بلادهم ؟
إن كل ما كتب عن الأمور الاقتصادية في البلاد الغربية - طول القرون الأولى والوسطى، وخلال عصور الانبعاث - كان بمثابة أجوبة على هذه الأسئلة وأمثالها الكثيرة.
وأما الاعتقاد بأن الأمور الاقتصادية تتبع قوانين ثابتة، مثل سائر الأمور الطبيعية. وأما السعي وراء اكتشاف هذه القوانين وتدوينها، فإن ذلك لم يبدأ إلا في النصف الأخير من القرن الثامن عشر.
ولكن ابن خلدون سبق كتاب الغرب ومفكريهم في هذا الاعتقاد مدة لا تقل عن أربعة قرون. •••
ومما يلفت النظر أن علم الاقتصاد تكون ونشأ قبل تولد علم الاجتماع بمدة تبلغ نحو نصف قرن، وعندما شرع «كونت» في وضع أسس علم الاجتماع، كان علماء الاقتصاد قد قطعوا أشواطا كبيرة في أبحاثهم المختلفة.
ولكن علماء الاجتماع أخذوا يدرسون الأمور الاقتصادية بنظرات جديدة، تختلف عن النظرات التي كان اعتادها علماء الاقتصاد؛ فإن هؤلاء كانوا ينظرون إلى الحادثات الاقتصادية كأنها قائمة بذاتها، ولكن علماء الاجتماع أخذوا ينظرون إليها كمظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية، وصاروا يتوسعون بوجه خاص في درس تفاعلاتها مع سائر الشئون الاجتماعية.
ولذلك صارت الأبحاث الاقتصادية - في أواخر القرن التاسع عشر - تدون في نوعين من المؤلفات: (أ)
المؤلفات التي تعرف باسم «علم الاقتصاد السياسي»
Economie politique . (ب)
المؤلفات التي تعرف باسم «الاجتماعيات الاقتصادية»
Sociologie économique .
إن الأبحاث الاقتصادية المدونة في مقدمة ابن خلدون تشبه النوع الثاني لا النوع الأول، إنها أقرب إلى مباحث «الاجتماعيات الاقتصادية» منها إلى مباحث «الاقتصاد السياسي».
ونستطيع أن نقول إن مزايا تفكير ابن خلدون في هذا المضمار تظهر - أكثر ما تظهر - في بحثه الأمور الاقتصادية بنظرات الباحث الاجتماعي، وفي اهتمامه بتتبع التفاعلات التي تتوالى بين الحوادث الاقتصادية، وبين سائر الأمور والحوادث الاجتماعية. •••
إن الأمثلة التالية تظهر هذه النزعة الفكرية بكل وضوح وجلاء.
يلاحظ ابن خلدون الدور الذي يلعبه قانون العرض والطلب في الأسواق والأسعار، ويصرح بأن الأسعار ترتفع عندما يزداد الطلب، وتنخفض عندما يقل الطلب، ولكنه لا يكتفي بتسجيل هذا القانون الاقتصادي بهذا الشكل المجرد، بل يتحرى العوامل الاجتماعية التي تؤدي إلى زيادة الطلب، كما أنه يتتبع النتائج الاجتماعية التي تنجم عن زيادة الطلب وارتفاع الأسعار.
إنه يقسم الأشياء والسلع - من وجهة علاقاتها بالإنسان - إلى ضروريات وكماليات، ولكنه يلاحظ في الوقت نفسه أن الحدود الفاصلة بين هذين الصنفين لم تكن مطلقة ولا ثابتة، بل هي نسبية ومتحولة؛ فإن ما يعتبر من الكماليات بالنسبة إلى السواد الأعظم من الناس، قد يصبح من الضروريات بالنسبة إلى بعض الناس، كما أنه ما يعد من الكماليات في بعض المدن، قد يكون من الضروريات في المدن الأخرى؛ لأن ازدياد العمران واستفحال الترف، يحول الكماليات إلى حاجيات ضرورية. «إن المصر الكثير العمران يكثر ترفه، وتكثر حاجيات ساكنه من أجل الترف، وتعتاد تلك الحاجات؛ فتنقلب إلى ضرورات، وتصير فيه الأعمال كلها مع ذلك عزيزة، والمرافق غالية، بازدحام الأغراض عليها من أجل الترف» (ص365). «ويعظم الغلاء في المرافق والأقوات والأعمال؛ فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبة عمرانه» (ص365).
ولكن النتائج التي تتولد من زيادة الطلب وازدحام الطالبين لا تنحصر في ارتفاع الأسعار، بل تشمل أمورا اجتماعية أخرى أيضا، أهمها؛ إقبال الناس على الصناعات التي تنتج السلع المطلوبة، وازدهار تلك الصناعات واستجادتها.
يقرر ابن خلدون في فصل خاص «أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها». ويوضح رأيه هذا بالتفاصيل التالية: «إذا كانت الصناعة مطلوبة، وتوجه إليها النفاق؛ كانت حينئذ الصناعة بمثابة السلعة التي تنفق سوقها وتجلب للبيع؛ فيجتهد الناس في المدينة لتعلم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم. وإذا لم تكن الصناعة مطلوبة؛ لم تنفق سوقها، ولا توجه قصد إلى تعلمها، فاختصت بالترك، وفقدت للإهمال» (ص403).
ويقول ابن خلدون في فصل آخر: «إن الصنائع إنما تستجاد إذا احتيج إليها وكثر طالبها، وإذا ضعفت أحوال المصر وأخذ في الهرم بانتقاض عمرانه وقلة ساكنه؛ تناقص فيه الترف، ورجعوا إلى الاقتصار على الضروري من أحوالهم، فتقل الصنائع التي كانت من توابع الترف» (ص403).
بهذه الصورة يربط ابن خلدون مسائل العرض والطلب بالأحوال الاجتماعية العامة، ويبحث في عوامل الأحوال الاقتصادية ونتائجها بنظرات شاملة، لا تتوقف في حدود الاقتصاديات المحضة وحدها، بل تتعداها إلى آفاق الحياة الاجتماعية بمجموعها. •••
يلاحظ ابن خلدون أن «قيم الأشياء» تتبع - من حيث الأساس - «العمل» الذي يبذل لإنتاجها. يقرر ذلك في عنوان الفصل الأول من الباب الخامس، حيث يقول: «إن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية» (ص380).
يكرر ابن خلدون رأيه هذا في عدة مواضع من المقدمة بمختلف العبارات: «الأعمال هي سبب الكسب» (ص365). «كثرة الأعمال سبب للثروة» (ص365). «إن المكاسب إنما هي قيم الأعمال» (ص360). «لا بد من أعمال إنسانية في كل مكسوب ومتمول.» «لا بد في الرزق من سعي وعمل، ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه» (ص381). «الرزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران» (ص289).
لكن ابن خلدون لا يكتفي بتثبيت هذه الحقيقة الأساسية، بل يلاحظ في الوقت نفسه أن العمل أيضا يتبع قانون العرض والطلب، وأن قيمة العمل ترتفع عند زيادة الطلب؛ ولذلك تكون أجور «المتعلمين مرتفعة - بوجه عام - في المدن المستبحرة في العمران.»
لأن مستوى المعيشة يكون - في تلك المدن - مرتفعا بوجه عام؛ فيحتاج العامل فيها إلى نفقات أزيد من التي يستطيع أن يكتفي بها أمثاله في المدن الصغيرة والأرياف. ثم إن المترفين في المدن يترفعون عن خدمة أنفسهم، فيستخدمون جماعة من بني جلدتهم لقضاء حاجاتهم. وفي الأخير، إن كثرة المترفين في المدن المذكورة تجعلهم يتنافسون لاجتذاب العمال، ويعرضون عليهم أجورا مغرية؛ ولذلك كله ترتفع أجور العمل ارتفاعا كبيرا. «إن الصنائع والأعمال أيضا» تكون غالية «في الأمصار الموفورة العمران»، والسبب في ذلك «أمور ثلاثة؛ الأول: كثرة الحاجة لمكان الترف في المصر بكثرة عمرانه. والثاني: اعتزاز أهل الأعمال لخدمتهم وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها. والثالث: كثرة المترفين وكثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم، وإلى استعمال الصناع في مهنهم. فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم، مزاحمة ومنافسة في الاستئثار بها، فيعتز العمال والصناع وأهل الحرف، وتغلو أعمالهم» (ص363).
وإذا أردنا أن نلخص آراء ابن خلدون هذه، استطعنا أن نقول إن الرزق والثروة نتيجة العمل من حيث الأساس، إلا أن قيمة الأعمال تختلف باختلاف الأحوال الاجتماعية العامة. •••
ولكن ملاحظات ابن خلدون «الاقتصادية-الاجتماعية» في هذه القضية لا تتوقف عند هذا الحد، بل إنه يلاحظ في الوقت نفسه أن بعض الظروف الاجتماعية تجعل بعض الناس يزدادون ثروة دون أن يعملوا عملا؛ وذلك يحدث من جراء تملك بعض الأراضي والعقارات.
لأن الدولة عندما تأخذ في الانحطاط والانحلال؛ تقل رغبة الناس في امتلاك الأراضي والضياع؛ وذلك يؤدي إلى انخفاض أسعارها؛ فيستطيع عندئذ أن يشتريها بعض الأغنياء بأثمان بخسة. ولكن إذا تغيرت الأحوال بعد مدة، وتوافرت للمدينة أسباب العمران؛ ارتفعت أسعار تلك الأراضي والضياع، وأصبح من جراء ذلك بعض الملاك من كبار الأغنياء، دون أن يكونوا قد قاموا بعمل يستوجب مثل هذا الغنى.
وهذه هي النصوص الواردة في مقدمة ابن خلدون حول هذه القضية الاقتصادية-الاجتماعية: «إن تأثل العقار والضياع الكثيرة لأهل الأمصار والمدن لا يكون دفعة واحدة، ولا في عصر واحد؛ إذ ليس يكون لأحد منهم من الثروة ما يملك به الأملاك التي تخرج قيمتها عن الحد، ولو بلغت أحوالهم في الرفه ما عسى أن تبلغ.» «وإنما يكون ملكهم وتأثلهم تدريجا؛ إما بالوراثة من آبائه وذوي رحمه حتى تتأدى أملاك الكثيرين منهم إلى الواحد وأكثر لذلك، أو يكون بحوالة الأسواق.» «فإن العقار في آخر الدولة وأول الأخرى عند فناء الحامية وخرق السياج وتداعي المصر إلى الخراب؛ تقل الغبطة به لقلة المنفعة فيها بتلاشي الأحوال؛ فترخص قيمتها، وتتملك بالأثمان اليسيرة، وتتخطى بالميراث إلى ملك آخر.» «ولكن المصر إذا «استجد شبابه» بعد مدة باستفحال الدولة الثانية، وانتظمت له أحوال رائقة حسنة، تحصل معها الغبطة في العقار والضياع لكثرة منافعها حينئذ؛ فتعظم قيمها، ويكون لها خطر لم يكن في الأول. وهذا معنى الحوالة فيها. ويصبح مالكها من أغنى أهل المصر، وليس ذلك بسعيه واكتسابه» (ص367).
إن هذه الملاحظة «الاقتصادية-الاجتماعية» مهمة جدا؛ لأن «تاريخ الآراء والمذاهب الاقتصادية لم يسجل ملاحظة مماثلة لها إلا في أوائل القرن التاسع عشر»، حيث وضع «ريكاردو» الإنجليزي نظريته المشهورة في «ريع الأرض»
Rente . •••
يلاحظ ابن خلدون اختلاف مستويات المعيشة بين المدن الكبيرة وبين المدن الصغيرة، وبين هذه المدن وبين القرى، كما يلاحظ تطور هذه المستويات بتطور الحضارة.
في الواقع إن مستوى المعيشة يختلف في المدينة الواحدة أيضا باختلاف طبقات الناس، ولكن الطبقات المتماثلة في المدن المختلفة تعيش في مستويات تختلف باختلاف عمران المدن المذكورة. «ما كان عمرانه أكثر وأوفر، كان حال أهله في الترف أبلغ» (ص361).
يبحث ابن خلدون هذه الأمور على وجه التفصيل في الفصل المعنون بالعنوان التالي: «في أن تفاضل الأمصار والمدن في كثرة الرزق لأهلها، ونفاق الأسواق إنما هو تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة» (ص360).
يقرر ابن خلدون في هذا الفصل «أن الدخل والخرج يتكافئان في جميع الأمصار؛ متى عظم الدخل عظم الخرج، وبالعكس، ومتى عظم الدخل والخرج اتسعت أحوال الساكن» (ص362).
فإننا إذا قارنا مختلف طبقات الناس في مدينة وافرة العمران مع أمثالهم الساكنين في مدينة قليلة العمران؛ وجدناهم «أوسع حالا وأكثر ترفا» منهم بوجه عام. نلاحظ ذلك بكل وضوح عندما نقارن «القاضي مع القاضي، والتاجر مع التاجر، والصانع مع الصانع، والسوقي مع السوقي، والأمير مع الأمير، والشرطي مع الشرطي» في مختلف المدن والأمصار.
يقول ابن خلدون في هذا الصدد ما نصه: «واعتبر ذلك في المغرب مثلا بحال فاس مع غيرها من أمصاره، مثل بجاية وتلمسان وسبتة، تجد بينهما بونا كثيرا على الجملة، ثم على الخصوصيات؛ فحال القاضي بفاس أوسع من حال القاضي بتلسمان. وهكذا كل صنف مع صنف أهله. وكذا أيضا حال تلمسان مع وهران أو الجزائر، وحال وهران والجزائر مع ما دونهما، إلى أن تنتهي إلى المدر الذين اعتمالهم في ضروريات معاشهم فقط، ويقصرون عنها.» «وما ذلك إلا لتفاوت الأعمال فيها، فكأنها كلها أسواق للأعمال، والخرج في كل سوق على نسبته. فالقاضي بفاس دخله كفاء خرجه، وكذا القاضي بتلمسان. وحيث الدخل والخرج أكثر، تكون الأحوال أعظم. وهما بفاس أكثر؛ لنفاق سوق الأعمال بما يدعو إليه الترف، فالأحوال أضخم. ثم كذا حال وهران وقسنطينة والجزائر وبيسكرة، حتى تنتهي - كما قلناه - إلى الأمصار التي لا توفي أعمالها بضروراتها، ولا تعد في الأمصار؛ إذ هي من قبيل القرى والمدر» (ص361).
ابن خلدون يشمل ملاحظاته هذه إلى طبقة الشحاذين أيضا، حيث يقول: «واعتبر ذلك حتى في أحوال الفقراء والسؤال؛ فإن السائل بفاس أحسن حالا من السائل بتلمسان أو وهران، ولقد شاهدت بفاس السؤال يسألون أيام الأضاحي أثمان ضحاياهم، ورأيتهم يسألون كثيرا من أحوال الترف واقتراح المآكل، مثل سؤال اللحم والسمن وعلاج المطبخ والملابس والماعون كالغربال والآنية، ولو سأل سائل مثل هذا بتلمسان أو وهران لاستنكر وعنف وزجر» (ص361-362).
ثم يتكلم ابن خلدون عن مستوى المعيشة في القاهرة: «ويبلغنا لهذا العهد عن أحوال القاهرة ومصر من الترف والغنى في عوائدهم ما يقضى منه العجب، حتى إن كثيرا من الفقراء بالمغرب ينزعون من النقلة إلى مصر لذلك؛ لما يبلغهم من أن شأن الرفه بمصر أكثر من غيرها. ويعتقد العامة من الناس أن ذلك لزيادة إيثار في أهل تلك الآفاق على غيرهم، أو أموال مختزنة لديهم، وأنهم أكثر صدقة وإيثارا من جميع أهل الأمصار. وليس كذلك، وإنما هو لما تعرفه من أن عمران مصر والقاهرة أكثر من عمران هذه الأمصار التي لديك؛ فعظمت لذلك أحوالهم» (ص362).
أعتقد أن هذه الأمثلة تكفي لتبيين مبلغ نفوذ نظر ابن خلدون وسعة ملاحظاته في الأمور الاقتصادية-الاجتماعية.
ومع هذا أرى أن أسجل هنا ملاحظة «اقتصادية-اجتماعية» غريبة، صادفتها في فصل من فصول الباب السادس من المقدمة.
يعنون ابن خلدون هذا الفصل الطويل بالعنوان التالي: «فصل في إنكار ثمرة الكيمياء، واستحالة وجودها، وما ينشأ عن المفاسد في انتحالها» (ص524).
ويتكلم في هذا الفصل عن «صناعة الكيمياء» التي كانت ترمي إلى تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة، و«تصيير النحاس والقصدير فضة، والفضة ذهبا»، حسب تعبيره هو، ويفند آراء القائلين بإمكان ذلك، ويسرد أدلة وملاحظات كثيرة للبرهنة على استحالة هذا التحويل. وفي الوقت نفسه يتحرى الأسباب التي تحمل بعض المفكرين على الاعتقاد بهذه الصناعة، وتدفع بعض الناس إلى الاشتغال بها، فيقول في مستهل الفصل: «إن كثيرا من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع على انتحال هذه الصنائع ، ويرون أنها أحد مذاهب المعاش ووجوهه، وأن اقتناء المال منها أيسر وأسهل على مبتغيه؛ فيرتكبون فيها المتاعب والمشاق، ومعاناة الصعاب، وعسف الحكام، وخسارة الأموال في النفقات» (ص524).
ويقول في آخر الفصل: «وأكثر ما يحمل على التماس هذه الصناعة وانتحالها هو - كما قلناه - العجز عن الطرق الطبيعية للمعاش، وابتغاؤه من غير وجوهه الطبيعية؛ كالفلاحة والنجارة والصناعة. فيستصعب العاجز ابتغاءه من هذه، ويروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعية من الكيمياء وغيرها» (ص531).
ثم يطبق ابن خلدون نظريته هذه على العلماء والمفكرين أيضا، ويذكر بهذه الوسيلة ابن سينا والفارابي، حيث يقول: «وأكثر من يعنى بذلك الفقراء من أهل العمران، حتى في الحكماء من المتكلمين في إنكارها واستحالتها.» «فإن ابن سينا القائل باستحالتها كان علية الوزراء، فكان من أهل الغنى والثروة. والفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر، الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش» (ص531).
وإذا أردنا أن نعبر عن رأي ابن خلدون في هذه القضية بتعبير آخر، قلنا إن ابن سينا أنكر الكيمياء وقال باستحالتها؛ لأنه كان غنيا، ولكن الفارابي اعتقد بالكيماء وقال بإمكانها؛ لأنه كان فقيرا ومحتاجا.
إن هذا التعليل على ما فيه من غرابة جدير بالتسجيل والتأمل؛ لأنه يدل على شدة ولع ابن خلدون بالبحث عن العلل والدوافع، وهو مما يمكن إلحاقه بالأمثلة الكثيرة التي يذكرها غلاة الماركسية، الذين يحاولون أن يعللوا بالعوامل الاقتصادية حتى الاكتشافات العلمية والتطورات الفكرية.
التشبيهات المادية
إذا أردنا أن نستدل على عقلية ابن خلدون من دراسة مقدمته، نستطيع أن نقول: إن أبرز صفات تلك العقلية هي شدة التشوف، ودقة الملاحظة، ونزعة البحث والتعميم، وقدرة الاستقراء.
فإننا نجد في المقدمة كثيرا من الاستقراءات المستندة إلى ملاحظة الواقعات، وقلما نعثر على آثار الاندفاع وراء المجردات، والاسترسال في سبيل الاستنتاجات.
ولعل من أبرز الأدلة على استقرائية ابن خلدون ومشخصية تفكيره؛ كثرة التشبيهات المادية والأمثلة الحسية المنبثة في أبحاث مقدمته.
يصرح ابن خلدون بفوائد الأمثلة الحسية في الكتاب الثاني من تاريخه؛ إنه يشرح الطريقة التي اختارها لعرض «الأنساب» في المقدمة الثانية من الكتاب المذكور، قائلا: «اخترنا - بعد الكلام على أنساب الأمة وشعوبها - أن نضع ذلك على شكل شجرة، نجعل أصلها وعمود نسبها باسم الأعظم من أولئك الشعوب، ومن له التقدم عليهم، فنجعل عمود نسبه أصلا لها، ونفرع الشعوب الأخرى على جانبه من كل جهة، كأنها فروع لتلك الشجرة، حتى تتصل تلك الأنساب عمودا أو فروعا بأصلها الجامع لها، ظاهرة للعيان في صفحة واحدة، فترسم في الخيال دفعة، ويكون ذلك أعون على تصور الأنساب وتشعبها.» «فإن الصور الحسية أقرب إلى الارتسام في الخيال من المعاني المتعلقة» (تاريخ ابن خلدون، ج1، ص21، طبعة محمد مهدي الحبابي).
لم يلجأ ابن خلدون في المقدمة إلى مثل هذه الصور الحسية، لكنه كثيرا ما لجأ إلى التشبيهات المادية التي تقوم مقام الصور الحسية، وتكون «أعون على تصور» القضية وفهمها.
إن هذه التشبيهات المادية تدل - في نظرنا - على خصيصتين من خصائص عقلية ابن خلدون؛ إنها تدل أولا على دقة الملاحظة وتنوعها، وثانيا على واقعية التفكير واستقرائيته.
ولذلك نستعرض فيما يلي أهم هذه التشبيهات: •••
يتكلم ابن خلدون في فصل التصوف عن «الكشف»، ويقول إنه «لا يكون صحيحا كاملا إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة»، ويشبه ذلك بما يحدث في المرآة، قائلا: «ومثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة، وحوذي بها جهة المرئي؛ فإنه يشكل فيها معوجا على غير صورته، وإن كانت مسطحة؛ تشكل فيها المرئي صحيحا.» «فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة، فيما ينطبع فيها من الأحوال» (ص470). •••
يشبه ابن خلدون قوة العصبية إلى سائر القوى الطبيعية، ويقول إن أثرها في مركز الدولة أشد منه في أطرافها، ويمثل ذلك بحادثتين طبيعيتين تتعلق إحداهما بقوانين التموجات، وتحوم الثانية حول قوانين انتشار النور: (أ) «شأن الأشعة والأنوار إذا انبعثت من المراكز.» (ب) «والدوائر المتفسحة على سطح الماء من النقر عليه» (ص160). •••
حينما يتكلم ابن خلدون عن النبوة يلتجئ إلى تشبيه مادي يستند إلى حوادث الضوء، فيقول: «النبوة هي النور الأعظم الذي يخفى معه كل نور ويذهب، كما تخمد الكواكب والسرج عند وجود الشمس » (ص101).
حينما يتكلم عن هرم الدول وانقراضها يشبه ذلك بأحوال الشعلة: «وهي تتلاشى إلى أن تضمحل، كالذبال في السراج إذا فني زيته» (ص297).
إنه لا يكتفي بهذا التشبيه الأولي، بل يمضي في سبيل التشبيه إلى أكثر من ذلك أيضا: «ربما يحدث في أواخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها، ويومض ذبالها إيماضة الخمود، كما يقع في الذبال المشتعل؛ فإنه عند مقاربة انطفائه، يومض إيماضة توهم أنه اشتعال، وهو انطفاء» (ص294). •••
يلاحظ ابن خلدون الآثار التي تتركها الوقائع والأحوال الماضية، ويشبه ذلك مرة بالصبغ الراسخ في الثوب، ومرة بأثر الخط الممحو في الكتاب. «إذا تقدمت الحضارة واستحكمت الصنائع في الأمصار؛ بقيت صبغتها ثابتة هناك، حتى عندما يتراجع عمرانها ويتناقص، لا تفارقه إلى أن ينتقض بالكلية حال الصبغ إذا رسخ في الثوب» (ص402).
وبعد أن يتتبع الآثار التي تبقى من عهود ازدهار سابقة على هذا المنوال يقول: «كذا نجد بالقيروان ومراكش وقلعة ابن حماد، أثرا باقيا من ذلك، وإن كانت هذه كلها اليوم خرابا أو في حكم الخراب، ولا يتفطن إليها إلا البصير من الناس، فيجد من هذه الصنائع آثارا تدله على ما كان بها، كأثر الخط الممحو في الكتاب» (ص403). •••
يشبه ابن خلدون - في عدة مواضع - الدولة والسلطان بالسوق، والعلوم والصنائع بالسلع والبضائع، ويقول: «إن الدولة والسلطان سوق للعالم، تجلب إليه بضائع العلوم والصنائع.»
كما أنه يشبه الروايات والأخبار أيضا بالبضائع في بعض الأحوال، حيث يقول: «إذا تنزهت الدولة عن التعسف والميل والأفن والسفسفة، وسلكت النهج الأمم، ولم تحد عن قصد السبيل؛ نفق في سوقها الإبريز الخالص، واللجين المصفى. وإن ذهبت مع الأغراض والحقود، وماجت بسماسرة البغي والباطل؛ نفق البهرج والزائف» (ص23). •••
في الفصل الباحث عن صناعة النظم والنثر، حينما يتكلم ابن خلدون عن عمل الألفاظ فيها، يلجأ إلى تشبيه مادي طريف: «الكلام بمثابة القوالب للمعاني؛ فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر؛ منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، والماء واحد في نفسه. وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها، لا باختلاف الماء، وكذلك جودة اللغة وبلاغتها» (ص577). •••
يتكلم ابن خلدون في عدة محلات عن القريحة، ويشبهها بالضرع قائلا: «القريحة مثل الضرع، تدر بالامتراء، وتجف بالترك والإهمال» (ص570).
ويكرر هذا التشبيه عندما يتكلم عن العيون أيضا: «إن فور العيون إنما يكون بالإنباط والامتراء، الذي هو بالعمل الإنساني، كالحال في ضروع الأنعام. فما لم يكن إنباط ولا امتراء؛ نضبت وغارت بالجملة، كما يجف الضرع إذا ترك امتراؤه» (ص382).
حينما يتكلم عن علاقة الحضارة بالدول يقول بوفور العمران في مركز الدولة والمدن المجاورة، ويحاول توضيح رأيه هذا بتشبيه مادي: «ما ذلك إلا لمجاورة السلطان لهم، وفيض أمواله فيهم، كالماء يخضر ما قرب منه من الأرض، إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد» (ص369). •••
يشرح ابن خلدون كيفية توصل الذهن إلى معرفة الأسباب والمسببات في الفصل الذي يقرر «أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر»، ويقول: «فمن الناس من تتوالى له السببية في مرتبتين أو ثلاث، ومنهم من لا يتجاوزها، ومنهم من ينتهي إلى خمس أو ست، فتكون إنسانيته أعلى.»
ثم يؤيد هذا الإيضاح بتشبيه مادي: «اعتبر ذلك بلاعب الشطرنج؛ فإن في اللاعبين من يتصور الثلاث حركات أو الخمس - التي ترتيبها وضعي - ومنهم من يقصر عن ذلك لقصور ذهنه» (طبعة كاترمير، ص367، ج2). •••
في الفصل الذي يقرر «أن تفاضل الأمصار والمدن في كثرة الرزق لأهلها، إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة»، يشرح ابن خلدون كيف «أن كثرة المكاسبة تسهل «البذل والإيثار لمبتغيه»»، ثم يلجأ إلى تشبيه مادي لتأييد رأيه في هذا الصدد وتقريبه إلى الأذهان، قائلا: «مثله بشأن الحيوانات العجم من بيوت المدينة الواحدة، كيف تختلف أحوالها في هجرانها وغشيانها.» «فإن بيوت أهل النعم والثروة والموائد الخصبة منها تكثر بساحتها وأفنيتها، بنثر الحبوب وسواقط الفتات، فيزدحم عليها غواشي النمل والخشاش، وتحلق فوقها عصائب الطيور، حتى تروح بطانا وتمتلئ شبعا وريا. وبيوت أهل الخصاصة والفقراء الكاسدة أرزاقهم لا يسري بساحتها دبيب، ولا يحلق بجوها طائر، ولا تأوي إلى زوايا بيوتهم فأرة ولا هرة، كما قال الشاعر:
يسقط الطير حيث يلتقط الحب
وتغشى منازل الكرماء
فتأمل سر الله تعالى في ذلك، واعتبر غاشية الأناسي بغاشية العجم من الحيوانات، وفتات الموائد بفضلات الرزق والترف وسهولتها على من يبذلها؛ لاستغنائهم عنها في الأكثر لوجود أمثالها لديهم» (ص362). •••
في الفصل الذي يقرر «أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانقراضها» (ص374)، يشرح ابن خلدون الأسباب التي تؤدي إلى انحطاط العاصمة القديمة وازدهار العاصمة الجديدة، ويستعين في هذا الشرح بتشبيه مادي طريف: «إنما ذلك بمثابة «من له بيت على أوصاف مخصوصة، فأظهر من قدرته على تغيير تلك الأوصاف»، وإعادة بنائها على ما يختاره ويقترحه، فيخرب ذلك البيت، ثم يعيد بناءه ثانيا» (ص376). (إن العبارات المحصورة بين قوسين وردت في طبعة كاترمير على الشكل التالي: «من يملك بيتا داخله البلى، والكثير من أوضاعه في مرافقه، لا توافق مقترحه وله قدرة على تغيير تلك الأوضاع») (ص214، ج2). •••
حينما يتكلم ابن خلدون عن صناعة الشعر يشبه الأسلوب بالقالب أو المنوال قائلا: «إن الذهن ينتزع من أعيان التراكيب وأشخاصها صورة ذهنية، يصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان، فيرصها فيه كما يفعل البناء في القالب، والنساج في المنوال» (ص571).
يكرر ابن خلدون هذا التشبيه عدة مرات، فيقول: «إن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج، والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبنى فيه، أو المنوال الذي ينسج عليه. فإن خرج عن القالب في بنائه، أو عن المنوال في نسجه؛ كان فاسدا» (ص572). •••
في الفصل الذي يقرر «أن العلماء من البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها»، يشرح ابن خلدون كيف أن العلماء وأهل الذكاء يعتادون الأنظار الفكرية، ويطيلون التفكير في الأمور المجردة والكلية، ويسترسلون في تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض، وكيف أنهم يتباعدون عن الحقائق الواقعة، في حين أن العامي المتوسط الذكاء لا يبتعد كثيرا عن المواد المحسوسة. ثم يوضح رأيه هذا بتشبيه مادي: «العامي السليم الطبع المتوسط الكيس - لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إياه - يقتصر لكل مادة على حكمها، وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به، ولا يعدي الحكم بقياس ولا تعميم، ولا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة، ولا يجاوزها في ذهنه.
كالسابح لا يفارق البر عند الموج. قال الشاعر:
فلا توغلن إذا ما سبحت
فإن السلامة في الساحل
فيكون مأمونا من النظر في سياسته، ومستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه» (ص451-543). •••
في فصل علم الكلام يشبه ابن خلدون العقل بالميزان، ويقول: «العقل ميزان صحيح، غير أنك لا تطمح أن تزن به أمور التوحيد والآخرة؛ فإن ذلك طمع في محال. ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب، فطمع أن يزن به الجبال» (ص460). •••
في الفصل الذي يقرر «أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها» (ص177-182)، يتكلم ابن خلدون عن الرحالة ابن بطوطة، وعما رواه عن أحوال الهند، ويحذر قراءه عن استنكار تلك الروايات، وتأييدا لرأيه هذا يذكر حكاية سمعها من الوزير فارس بن وردار: «قال لي الوزير فارس: إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره، فتكون كابن الوزير الناشئ في السجن؛ وذلك أن وزيرا اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين، ربى فيها ابنه في ذلك المحبس، فلما أدرك وعقل سأل عن اللحمان التي كان يتغذى بها، فقال له أبوه: هذا لحم الغنم. فقال: وما الغنم؟ فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها، فيقول: يا أبت، تراها مثل الفأر؟ فينكر عليه ويقول: أين الغنم من الفأر؟ وكذا في لحم الإبل والبقر؛ إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر، فيحسبها كلها أبناء جنس الفأر» (ص182). •••
إنني أعتقد أن كثرة هذه التشبيهات المادية وتنوعها تدل دلالة واضحة على نزعة من النزعات التي كانت تتصف بها عقلية ابن خلدون، كما ذكرناه في مستهل هذه الدراسة.
تكملة
جولة بين الكتب والمجلات
حول نسب ابن خلدون
لقد قلنا - في المقالة التي كتبناها عن حياة مؤلف المقدمة - إن ابن خلدون ينتسب إلى أسرة عربية من حضرموت، نزحت من اليمن إلى الأندلس عند الفتح، ومن الأندلس إلى تونس عند الجلاء. واستندنا في قولنا هذا إلى ما كتبه هو بنفسه في ترجمة حياته الملحقة بتاريخه، وإلى ما دونته جميع كتب التراجم القديمة، منذ عهد النسابة ابن حزم الأندلسي.
ومن الغريب أن بعض الكتاب المعاصرين في مصر أثاروا بعض الشكوك في هذا النسب، من غير أن يستندوا إلى أي دليل علمي كان.
إن أول من أثار هذه الشكوك كان الدكتور طه حسين؛ لأنه ادعى بأن ابن خلدون نفسه كان يشك في صحة نسبه المتواتر.
ثم قام الأستاذ عبد الله عنان، وادعى بأن ابن خلدون ينحدر من أصل بربري.
وأخذ بعد ذلك بعض الكتاب يقتدون بهذين الأستاذين، ويكررون أقوالهما، ويعملون لإدامة الشكوك في نسب ابن خلدون.
ولذلك رأينا من الضروري أن نستعرض الأدلة التي أوردها المشككون في هذا الصدد؛ لنتبين مبلغ حظها من الصحة والإصابة.
1
لقد ادعى الدكتور طه حسين في كتابه «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية»، أن مؤلف المقدمة نفسه كان يشك في صحة نسبه، واستند في ذلك إلى عبارة وردت في التعريف الذي كتبه عن نفسه.
غير أن كل من يقرأ العبارة المذكورة بإنعام؛ يضطر إلى التسليم بأنها لا تؤيد أبدا ما ذهب إليه الدكتور في هذا الصدد.
إن الأستاذ فؤاد أفرام البستاني كان قد فند زعم الدكتور - في الجزء الثالث عشر من الروائع، المنشور سنة 1927 - قائلا: «وهنا يجدر بي أن أزيل شبهة علقت بذهن الناقد العصري الشهير الدكتور طه حسين، فذهب إلى أن ابن خلدون يشك في صحة أصله العربي هذا؛ بدليل جملة أوردها في أول ترجمته. والواقع أن ابن خلدون يلاحظ نقصا في سرد أسماء جدوده بينه وبين خلدون فقط، ولكنه لا يتكلم عما وراء ذلك، ولا يشك قطعا في صحة نسبته إلى القبيلة الحضرمية. وحسما لكل خلاف نورد كلام ابن خلدون بحرفه:
قال - بعد ذكر جدوده العشرة: «لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هذه العشرة. ويغلب على الظن أنهم أكثر، وأنه سقط مثلهم عددا؛ لأن خلدون هذا هو الداخل الأندلس. فإن كان أول الفتح؛ فالمدة لهذا العهد سبعمائة سنة، فيكونون زهاء العشرين، ثلاثة لكل مائة، كما تقدم في أول الكتاب الأول. ونسبنا في حضرموت من عرب اليمن إلى وائل بن حجر من أقيال العرب معروف، وله صحبة» (الروائع 13 ابن خلدون، ب).
إننا نعتقد أن هذا النقد وجيه ومصيب تماما، فإن ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد صريح كل الصراحة، إنه لا يشك في انتسابه إلى وائل بن حجر من عرب اليمن في حضرموت، إنما يصرح بأنه يغلب على ظنه أن سلسلة الأجداد التي تربطه برأس الأسرة يجب أن تكون أطول من العشرة المذكورين في رواية النسابة. ومن البديهي أن ذلك لا يعني الشك في النسب بحد ذاته ومن أصله وأساسه. وبعكس ذلك فإن العبارة الأخيرة من الفقرة المذكورة تدل دلالة قطعية على أن ابن خلدون ما كان يشك أبدا في صحة انتسابه إلى عرب اليمن في حضرموت.
2
وأما الأستاذ عبد الله عنان فقد أثار مسألة النسب مباشرة، وتعدى حدود الشك أيضا؛ فإنه ادعى - في كتابه «ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري» - أن المؤرخ ينتمي إلى أصل بربري.
نشر الأستاذ عنان الكتاب المذكور سنة 1933؛ «لمناسبة انقضاء ستمائة عام على مولد» هذا المفكر العظيم، شرح فيه حياة ابن خلدون وتراثه الفكري والاجتماعي، وعني بتفصيل الحوادث السياسية التي اشترك فيها واتصل بها، كما أنه عني «عناية خاصة بحياته في مصر، وفصلها تفصيلا وافيا، وشرح علائق المؤرخ بالمجتمع المصري، وما وقع بينه وبين الكتاب المصريين من صنوف الخصومة والجدل شرحا ضافيا». وفي الأخير لخص وعرض ما كتبه الغربيون عن ابن خلدون.
إن الكتاب المذكور هو أوسع الدراسات العامة التي ظهرت عن ابن خلدون في اللغة العربية، فمؤلفه يستحق التقدير والثناء على هذه الخدمة العظيمة.
غير أن تقديرنا لخدمة الأستاذ عنان في هذا المضمار لا يمنعنا من انتقاده بشدة على الرأي الخاص الذي سرده في الكتاب المذكور عن نسب ابن خلدون.
فلنتتبع رأي الأستاذ عنان في هذه القضية بتفصيل.
يقول الأستاذ أولا في فصل «نشأة ابن خلدون» ما يلي: «يرجع ابن خلدون أصله إلى عرب اليمانية في حضرموت، ونسبه إلى وائل بن حجر، ويعتمد في ذلك على رواية النسابة الأندلسي ابن حزم.» «فابن خلدون طبقا لهذه النسبة سليل أصل من أعرق الأصول العربية اليمانية.» «ولكن هناك ما يحمل على الشك في صحة هذا النسب البعيد الذي يدونه ابن حزم لأول مرة في القرن الخامس الهجري، ويقوي هذا الشك لدينا ما نعرفه من ظروف الخصومة والتنافس بين العرب والبربر في الأندلس» (ص13). «وهناك أيضا ما يبعث على التأمل في تعلق ابن خلدون بهذه النسبة العربية؛ وهو أنه في مقدمته يضطرم نحو العرب بنزعة قوية من الخصومة والتحامل، بينا نراه في مكان آخر من تاريخه يمتدح البربر ويشيد بخلالهم وصفاتهم» (ص14).
يعود الأستاذ عنان إلى هذه القضية في الفصل الذي يتكلم فيه عن «علم العمران كما يعرضه ابن خلدون»، عندما يشرح رأي ابن خلدون في العرب، قائلا: «ثم يحدثنا ابن خلدون عن العرب، وحديث ابن خلدون عن العرب طريف شائق، رغم ما يطبعه من شدة وتحامل؛ فالعرب في نظره أمة وحشية، تقوم فتوحهم على النهب والعيث، ولا يتغلبون إلا على البسائط السهلة، ولا يقومون على اقتحام الجبال أو الهضبات لصعوبتها، وإذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب» (ص112).
وبعد إتمام هذا التلخيص على هذا المنوال يقول: «إذا كان ابن خلدون يعتمد في هذه الحملة على كثير من الأدلة والملاحظات الصادقة، فإنه مع ذلك يبالغ في حكمه على العرب، وتعوزه الحجة في كثير من آرائه، لا يتسع هنا المقام لمناقشته وتفنيد آرائه بإفاضة» (ص113).
ثم يذكر بعض الوقائع التاريخية التي تفند الآراء المذكورة، وبعد ذلك يسعى إلى «تعليل حملة ابن خلدون» هذه قائلا: «قد نفهم سر هذا التحامل الذي يطلق رأي ابن خلدون في العرب بمثل هذه الشدة، إذ ذكرنا أنه - رغم انتسابه إلى أصل عربي - ينتمي في الواقع إلى ذلك الشعب البربري الذي افتتح العرب بلاده بعد مقاومة عنيفة، وفرضوا عليه دينهم ولغتهم، واضطروه بعد طول النضال والمقاومة والانتقاض أن يندمج أخيرا في الكتلة الإسلامية، وأن يخضع راغما لرياسة العرب في إفريقية وإسبانيا، حتى تحين الفرصة لتحرره ونهوضه. والخصومة بين العرب والبربر في أفريقيا وإسبانيا شهيرة في التاريخ الإسلامي، وقد ورث البربر بغض العرب من بعيد. ونشأ ابن خلدون وترعرع في هذا المجتمع البربري، يضطرم بمشاعره وتقاليده وذكرياته، ونشأت فيه أسرته قبل ذلك بمائة عام، ونعمت برعاية الموحدين البرابرة، وتقلبت في نعمهم. فليس غريبا بعد ذلك أن نسمع منه أشد الأحكام وأقساها على العرب» (ص113-114).
ولهذا السبب يزعم الأستاذ عنان أن ابن خلدون «ينطق هنا بلسان الوطن البربري الذي غزاه العرب، وأثخنوا فيه مدى أحقاب، وبسطوا عليه سلطانهم الديني والسياسي، ولبث عصورا يقاتل في سبيل حرياته واستقلاله» (ص114).
وفي الأخير يعود الأستاذ عنان إلى هذه القضية مرة أخرى في فصل «كتاب العبر» أيضا. إنه يلاحظ أن ابن خلدون يفرد في تاريخ البربر فصلا خاصا للتكلم على خلال البربر، فيقول : «لم يعقد ابن خلدون مثل هذا الفصل للتحدث عن خلال أية أمة من الأمم الأخرى، فهو هنا ينم عن هوى خاص، ونعرة بربرية واضحة، وفي ذلك أيضا ما يفسر لنا صرامته في الحملة على العرب، غزاة إفريقية المتغلبين عليها» (ص134).
هذه هي الآراء التي يسطرها الأستاذ عنان حول نسب ابن خلدون.
3
يلاحظ من جميع ما تقدم أن الشك الذي يثيره الأستاذ عبد الله عنان حول نسب ابن خلدون يستند إلى دليل واحد، لا يمت - في حد ذاته - إلى قضية النسب نفسها بأية صلة مباشرة، هذا الدليل هو تحامل ابن خلدون على العرب ومدحه للبربر. كما أن النظرية التي يبديها الأستاذ في هذا الصدد لا تستند إلى دليل غير هذا الدليل.
فنستطيع أن نلخص رأي الأستاذ عبد الله عنان في هذه القضية بالعبارات التالية:
إن ابن خلدون يتحامل على العرب ويتشيع للبربر؛ وذلك يدل على أنه ينتمي إلى الشعب البربري، وأنه لم يكن من أصل عربي.
غير أنني أعتقد بأن الأستاذ عنان يتباعد عن الحقيقة حينما يزعم أن ابن خلدون يتحامل على العرب، كما أنه يتباعد أكثر من ذلك حينما يحاول تعليل هذا التحامل بالتشيع إلى البربر ، ويتباعد عن ساحة الحق تباعدا كليا حينما يستنتج من هاتين المقدمتين أن ابن خلدون ينتمي إلى الشعب البربري.
وأما مصدر هذه الأخطاء كلها، فيرجع - في نظري - إلى عدم انتباه الأستاذ إلى المعنى الخاص الذي يستعمل به ابن خلدون كلمة العرب في فصول مقدمته المختلفة. وبما أني شرحت المعنى المقصود من كلمة العرب في المقدمة في دراسة خاصة مسطورة في هذا الكتاب، وبرهنت فيها على أن ابن خلدون استعمل الكلمة المذكورة بمعنى الأعراب؛ فلا أرى لزوما للعودة إلى هذا الموضوع في هذا المقام.
ومع ذلك أرى من المفيد أن أترك قضية هذه الكلمة جانبا، وأن أرد على نظرية الأستاذ عنان بالدليل التالي:
إن معظم العبارات التي تتضمن التحامل على العرب في مقدمة ابن خلدون - مهما كان المعنى المقصود من كلمة العرب - تشمل البربر أيضا، تارة صراحة، وطورا ضمنا؛ وذلك لأن ابن خلدون يشبه العرب بالبربر في عدة مواضع، ويشمل ما قاله عن العرب إلى البربر أيضا بأصرح العبارات.
إنني أدرج فيما يلي طائفة من الفقرات التي تشهد على ذلك شهادة قطعية: (أ)
حينما يتكلم ابن خلدون عن الأمم البدوية التي تعيش على رعي الإبل، يقول: إنهم يكونون «أشد الناس توحشا، وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم. وهؤلاء هم العرب، وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد والتركمان والترك بالمشرق» (ص121).
يظهر من هذه العبارات بصراحة أن ابن خلدون يعزو إلى ظعون البربر وإلى زناتة «التوحش والنزول منزلة المفترس من الحيوان العجم» - مثل العرب - فكيف يجوز لنا مع ذلك أن نتهمه بالتشيع للبربر؟ (ب)
وحينما يقرر ابن خلدون «أنه إذا كانت الأمة وحشية؛ كان ملكها أوسع»، يعلل ذلك بقوله: «لأنهم ينزلون من الأهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم». ثم يوضح شمول كلامه هذا قائلا: «وهؤلاء مثل العرب وزناتة، ومن في معناهم من الأكراد والتركمان وأهل اللثام من صنهاجة». ويختتم البحث بهذا القول الصريح: «وهذا شأن هذه الأمم الوحشية» (ص145).
من المعلوم أن زناتة وصنهاجة هم من أقوى وأشهر قبائل البربر، فكيف يجوز أن يقال مع ذلك، إن ابن خلدون يتحامل على العرب تشيعا للبربر؟! (ج)
حينما يقول ابن خلدون «إن العرب أبعد الناس عن الصنائع»، يشمل قوله هذا إلى البربر أيضا بصراحة تامة، قائلا: «وعجم المغرب من البربر مثل العرب في ذلك؛ لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب من السنين» (ص404). (د)
وفي الفصل القائل «إن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلة»، يكتب ابن خلدون عدة فقرات تؤيد ما ذهبنا إليه آنفا بأصرح العبارات: «والسبب في ذلك أن هذه الأقطار كانت للبربر منذ آلاف السنين قبل الإسلام، وكان عمرانها كله بدويا، ولم تستمر فيهم الحضارة ...» «وأيضا فالصنائع بعيدة عن البربر؛ لأنهم أعرق في البدو، والصنائع من توابع الحضارة ...» «فلما لم يكن للبربر انتحال لها، لم يكن لهم تشوق للمباني فضلا عن المدن ... وأيضا فهم أهل عصبيات وأنساب، لا يخلو جمع منهم، والأنساب والعصبية أجنح إلى البدو» (ص357). (ه)
وزيادة على كل ذلك، فإن ابن خلدون يقرن اسم العرب باسم البربر خلال بحثه عن اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع (آخر الصفحة 87)، وفي أبحاثه عن حروب الكر والفر أيضا (ص271).
والحقيقة الناصعة التي لا مجال للشك فيها في هذا الصدد، أن ابن خلدون يقصد من كلمة العرب التي كتبها في هذه المواضع «البدو والأعراب»؛ ولهذا السبب لا يجد فرقا بينهم وبين البربر من وجهة القضايا التي يشرحها، ويتحامل على البربر أيضا بأقسى العبارات.
4
وأما وقائع عصيان البربر على العرب وانتقاضهم عليهم - تلك الوقائع التي أشار إليها الأستاذ عبد الله عنان - فابن خلدون يلاحظها بنزعة علمية خالصة، ويعللها بنظرة اجتماعية دقيقة. إنه يذكرها في الفصل الذي يقرر «أن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب، قل أن تستحكم فيها دولة.»
يعلل ابن خلدون هذه «القاعدة العامة» بقوله: «والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأي منها وهوى، عصبية تدافع دونها. فيكثر الانتقاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت وإن كانت ذات عصبية؛ لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعة وقوة» (ص164).
ثم يستشهد على ذلك أولا بما حدث في إفريقية والمغرب قائلا: «انظر ما وقع من ذلك في إفريقية والمغرب منذ أوائل الإسلام ولهذا العهد؛ فإن ساكني هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيات، فلم يغن فيهم الغلب الأول شيئا، وعاودوا بعد ذلك إلى الثورة والردة مرة بعد أخرى، وعظم إثخان المسلمين فيهم، ولما استقر فيهم الدين؛ عادوا إلى الثورة والخروج والأخذ بدين الخوارج مرات عديدة.» «وهذا معنى ما ينقل عن عمر أن إفريقية مفرقة لقلوب أهلها، إشارة إلى ما فيها من كثرة العصائب والقبائل، الحاملة لهم على عدم الإذعان والانقياد.» «ولم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصفة ولا الشام، إنما كانت حاميتها من فارس والروم، والكافة دهماء، أهل مدن وأمصار. فلما غلبهم المسلمون على الأمر وانتزعوه من أيديهم، لم يبق فيها ممانع ولا مشاق.» «والبربر قبائلهم بالمغرب أكثر من أن تحصى، وكلهم بادية أهل عصائب وعشائر، وكلما هلكت قبيلة عادت أخرى مكانها، وإلى دينها من الخلاف والردة. فطال أمر العرب في تمهيد الدولة بوطن إفريقية والمغرب» (ص164-165).
إنني أعتقد بأن هذا التحليل والتعليل مما يجوز اعتباره نموذجا راقيا للتفسير الاجتماعي البحت، ذلك التفسير والتعليل الذي يرد أهم العوامل الاجتماعية إلى بنية المجتمع، وفقا لما ذهب إليه جماعة من علماء الاجتماع، مثل إميل دوركهايم وأتباعه في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر.
يتبين من هذه العبارات ومن مجموع الفصل أن ابن خلدون يعلل أمر «مقاومة البربر» بكونهم «بادية وأهل عصائب وعشائر»، ويقول بصراحة تامة إن «كثرة العصائب والقبائل» هي التي حملتهم على عدم الإذعان والانقياد»، ويرى فيهم مثالا من أمثلة «قانون اجتماعي وتاريخي عام»، يقرره بنظرة شيئية
Objectif
بحتة. •••
والقول مع ذلك أن ابن خلدون يتشيع للبربر، ويهاجم العرب تشيعا للبربر، مما لا يتفق مع صراحة النصوص التي نقلناها آنفا. وأما الانتقال من ذلك كله إلى الشك في نسب ابن خلدون، والقول ببربريته - تعليلا لتشيعه المزعوم - فمما يخالف مقتضيات الأبحاث العلمية مخالفة كلية.
نقد كتاب فلسفة ابن خلدون الاجتماعية
كتب الدكتور طه حسين أطروحة باللغة الفرنسية عن «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» عندما كان يدرس في باريس، ونشرها سنة 1918، وقد نقلت الأطروحة المذكورة إلى العربية بقلم الأستاذ المحامي عبد الله عنان، ونشرت في مصر القاهرة سنة 1926.
إن الكتاب المذكور يكاد يكون المؤلف الوحيد الذي يشرح نظريات ابن خلدون في الفلسفة الاجتماعية والتاريخ، بشيء من التفصيل، باللغة العربية.
في الواقع إن الأستاذ عبد الله عنان نشر مؤخرا - سنة 1933 - كتابا بعنوان: «ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري»، وتوسع فيه بوجه خاص في شرح صفحات حياته المختلفة، كما اهتم بنقل وتلخيص ما قيل عنه في بلاد الغرب، وأدى بذلك إلى قراء العربية خدمة كبيرة، غير أنه التزم جانب الاختصار فيما يتعلق بآراء ابن خلدون في التاريخ والاجتماع، وحصر كلامه عن ذلك كله في فصل صغير لا يتجاوز عدد صفحاته العشرة؛ لأنه رأى أن يحيل قراءه إلى كتاب الدكتور طه حسين، قائلا: «يستطيع من يريد شرحا وافيا لمقدمة ابن خلدون ونظرياته الفلسفية والاجتماعية أن يرجع إلى رسالة صديقي الدكتور طه حسين «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية»، التي نقلتها إلى العربية» (ابن خلدون حياته وتراثه الفكري، ص110).
ولهذا السبب نستطيع أن نقول إن أطروحة الدكتور طه حسين لا تزال «المرجع الوحيد» لمن يريد الاطلاع على فلسفة ابن خلدون في التاريخ والاجتماع من مصادر عربية.
ومما يؤسف له كل الأسف أن الدكتور طه حسين كان قد كتب الأطروحة المذكورة، عندما كان حديث عهد بدراسة علم الاجتماع، فلم يكن قد أحاط علما - عندئذ - بنظريات علم الاجتماع وتاريخه الإحاطة الكافية. كما أنه لم يكن قد وجد متسعا من الوقت للتعمق في دراسة مقدمة ابن خلدون التعمق اللازم.
ويظهر أنه كان مدفوعا - في الوقت نفسه - بروح انتقاد عنيفة، حملته على نقد العلماء الغربيين الذين قد «بهرتهم طرافة ابن خلدون» - حسب تعبيره - وجعلتهم يرون فيه فيلسوفا حديثا (ص100).
لقد أخذ الدكتور طه حسين على عاتقه نقد آراء هؤلاء الغربيين المفتونين بابن خلدون وبمقدمة ابن خلدون.
فقد اعتقد جماعة منهم أن ابن خلدون كان «أول من أراد أن يجعل من التاريخ علما»، غير أن الدكتور اندفع في الاعتراض عليهم صائحا: «كلا، إن ابن خلدون لم يفكر في ذلك مطلقا.»
وكذلك «كان قد خلع جماعة منهم على ابن خلدون لقب «العالم الاجتماعي»، واعتبروا عمله «باكورة لما نسميه اليوم علم الاجتماع»، غير أن الدكتور انبرى للرد عليهم قائلا: «كلا، إن ذلك يكون مبالغة كبيرة.»
فيجدر بنا أن نقدم على تمحيص الآراء التي أدلى بها الدكتور طه حسين في كتابه الآنف الذكر بشيء من التفصيل.
1 (1)
لقد اعتقد عدد من العلماء - ما بين مستشرقين وفلاسفة - أن ابن خلدون «ذلك المفكر الذي ظهر في القرون الوسطى، قد سبق منذ القرن الرابع عشر المذاهب الحديثة التي ترمي إلى جعل التاريخ علما لا فنا أدبيا» (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، ص31).
غير أن الدكتور طه حسين اعترض عليهم بشدة، وزعم أن طريقة ابن خلدون في التاريخ خاطئة من أساسها.
وأما الأدلة التي يحاول الدكتور أن يدعم بها رأيه في هذا الصدد، فيمكن أن تلخص في الأمور الثلاثة التالية: (أ)
أن «فررو» كان أول من اعتقد أن ابن خلدون أراد أن يجعل من التاريخ علما. لا ريب في أنه خدع بعبارة وردت في المقدمة يسمي بها ابن خلدون التاريخ علما. وإلى نفس هذا الخطأ يجب أن ينسب تقدير الأستاذ فلينت الذي اعتمد على ترجمة دو سلان الفرنسية (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، ص34).
وهذا خطأ محض؛ لأن كلمة العلم في العربية لا تقابل كلمة
Science
بمعناها الغربي الحالي، بل إنها تدل على «المعرفة» بوجه عام. «فليس ثمة شك في تلك النقطة، وهي أن ابن خلدون لم يفكر مطلقا في أن يجعل من التاريخ علما بمعنى الكلمة. ويظهر ذلك ظهورا كافيا من خطته، وأكثر منه في مقدمته» (ص35). (ب) «وبعد، فما قيمة طريقة ابن خلدون التاريخية؟ إن المسألة الأساسية في التاريخ قد فاتته؛ فهو لا يعنى بالبحث عن المصادر ولا يفحصها، مع أن ذلك أول ما يجب على المؤرخ، ولا يهتم للشكل الذي يجب أن يعرض به المؤرخ الوثائق المستكشفة بعد استيفائها، مع ما لذلك من كبير أهمية» (ص48). «إن ابن خلدون يرى أن قواعد الفحص والتحقيق ترجع إلى أصل واحد، وهو وجوب البحث بطريقة نظرية عما إذا كانت واقعة من الوقائع ممكنة في ذاتها، وعما إذا لم تك مناقضة لطبائع العمران، وأما أن يستكشف الأثر المادي للوقائع، ثم يمتحنه ويستجوبه، فإن ابن خلدون لا يفكر في ذلك، وربما لا يعتقد أن ذلك في حيز الإمكان» (ص32). (ج)
فهذه الخطة التي يضعها ابن خلدون لم تكن ناقصة وغير وافية بالمرام فحسب، بل هي خطة تنطوي على شيء من الدور الباطل والتناقض المنطقي أيضا. «إن التاريخ بحث اجتماعي، وتجب لكتابته وفهمه معرفة المجتمع البشري. وكيف يدرس المجتمع البشري، أبالتاريخ الذي هو ملاحظة سطحية للوقائع؟ أم بالاستعانة بعلم آخر يتكون من ملاحظتها بطريق مباشر؟ يجيب ابن خلدون أن الوسيلة هي الطريقة الأولى. ولكن كيف يمكن الخروج من هذا الدور؟ إنه لا يحاول ذلك، ولو أنه حاول لما استطاع الفوز» (ص49).
وكل ذلك يدل دلالة قطعية - على رأي الدكتور طه حسين - أن طريقة ابن خلدون التاريخية كانت خاطئة من أساسها. (2)
فلندرس بإمعان كل واحد من هذه الأدلة التي بنى عليها الدكتور طه حسين حكمه البتار في هذا المضمار: (أ)
لا شك في أن استعمال كلمة «العلم» وحدها لا يبرر اعتبار ابن خلدون محاولا لتأسيس علم التاريخ، غير أنه لا مجال للشك أيضا في أن العلماء الذين يشير إليهم الدكتور لم يستندوا في حكمهم لابن خلدون في هذا الصدد إلى تعبير «علم التاريخ» وحده؛ فقد اشتغل الأستاذ فلينت - مثلا - أكثر من ربع قرن بدرس تاريخ فلسفة التاريخ وعلم التاريخ، فاستعرض ونقد كل ما كتب في هذا الصدد في مختلف اللغات، من عهد أرسطو وأفلاطون، حتى أواخر القرن التاسع عشر. فهل يعقل أن يكتب مؤرخ مفكر مثل فلينت ما كتبه عن ابن خلدون مستندا إلى تعبير علم التاريخ وحده، ويقول ما قاله في هذا الصدد مخدوعا بكلمة العلم وحدها؟! فكيف يسوغ لنا أن نزعم بأنه كان مخدوعا بترجمة دو سلان الذي لم ينتبه إلى معنى كلمة «العلم» العام؟
إنني لا أشك في أن من يدرس مؤلفات فلينت - من تاريخ فلسفة التاريخ في فرنسا وألمانيا، إلى تاريخ فلسفة التاريخ العام - ويطلع على انتقاداته المختلفة، لا يتردد في القول بأن ما كتبه عن ابن خلدون لا يمكن أن يكون مستندا إلى كلمة واحدة، بل لا بد من أن يكون مستندا إلى مجموع آراء ابن خلدون، ومجموع ما جاء في مقدمته المشهورة.
فلنترك «فلينت» وما قاله جانبا، ولننظر في القضية مباشرة؛ بماذا يمتاز العلم عن المعرفة؟ وبتعبير آخر: ما الفرق بين «المعرفة العلمية» وبين «المعرفة العادية»؟
من المعلوم أن «العلم» يتألف من معارف منسقة تنسيقا يربط الأسباب بالمسببات، ويظهر القوانين الترافقية أو التعاقبية
1
Iois de succession et de coexistence
التي تتجلى في الحادثات، والنظرة العلمية للحادثات إنما هي النظرة التي لا تكتفي بملاحظة الوقائع وتسجيلها، بل تسعى لاكتشاف القوانين المتعلقة بتلك الوقائع، وإظهار عللها الموجبة أيضا.
فلنتأمل في رأي ابن خلدون في التاريخ من هذه الوجهة؛ نجد أنه يعتقد بوجود علل وأسباب تؤدي إلى حدوث وقائع التاريخ، كما يعتقد بوجود قوانين عامة تشمل الأمم المختلفة في جميع الأقطار والأعصار، ونجد أيضا أنه يحاول - في مختلف فصول المقدمة - إظهار هذه القوانين العامة وتبيين تلك الأسباب الموجبة. ولا مجال للشك في أن كل ذلك إنما هو من الصفات الأساسية التي تميز «الأبحاث العلمية» من «المعارف الاعتيادية».
إن العلماء الذين قالوا إن ابن خلدون أراد أن يجعل من التاريخ علما، بنوا قولهم هذا على ما شاهدوه في المقدمة من الملاحظات والمحاولات التي استهدفت اكتشاف تلك القوانين، وبيان تلك العلل والأسباب، لا على معنى واحد من معاني كلمة واحدة، فمهما كان مدلول كلمة «العلم» التي استعملها ابن خلدون في هذا الصدد، فمما لا مجال للشك فيه أن المقدمة - بهيئتها العامة - كانت محاولة صريحة لبحث الوقائع التاريخية بحثا علميا، مهما كان حظ هذه المحاولة من النجاح والإصابة.
وهذا يبرر تماما قول القائلين بأن ابن خلدون كان أول من حاول جعل التاريخ علما. (ب)
لا شك في أن طرائق البحث التي لجأ إليها ابن خلدون كانت محدودة وناقصة، ومن الثابت أنه كان زعم أن المعلومات التاريخية تأتي من الأخبار - المكتوبة أو المروية - وحدها، وأنه كان بقي جاهلا لطريقة استنتاج التاريخ من الآثار.
غير أن كل ذلك لا ينزع صفة «العلمية» عن الأبحاث التي قام بها ابن خلدون، ولو كان في نطاق محدود، وبطريقة غير كاملة.
ومما لا يجهله أحد أن علماء الفلك يستفيدون الآن من وسائل رصد متنوعة، وطرائق بحث مختلفة، ما كان يعرف أسلافهم شيئا منها، بل ولا كانوا يحلمون بها؛ إنهم يبحثون في السماء وفي الأجرام السماوية تحت قبب مراصد مجهزة بجميع الوسائط الميكانيكية والآلات الرصدية، مستفيدين من التلسكوبات القوية والكرونومترات الدقيقة، ومن وسائل التصوير الضوئي، ومن اكتشافات التحليل الطيفي. ولا شك في أن علماء الفلك القدماء الذين خلدوا أسماءهم في تاريخ العلوم - مثل كوبرنيكوس وكبلر - كانوا يجهلون جميع هذه الطرق جهلا تاما. ولا نعدو الحقيقة أبدا إذا قلنا إنهم ما كانوا يتصورون قط أنه سيأتي يوم يتمكن فيه العلماء من مشاهدة العوارض الموجودة على سطح القمر، ويتوصل فيه البشر إلى معرفة المواد الموجودة في تركيب الشمس والكواكب والسدم. فهل يخطر على بال أحد أن يقول: «إن كبلر كان بعيدا عن فهم الفلك فهما علميا؛ لأنه كان يرى أن قواعد الفحص والبحث في الفلك تنحصر في مشاهدة الأجرام السماوية وتتبع حركاتها؟! وأما أن يحلل أنوار الأجرام السماوية، ويمتحن تلك الأنوار ويستجوبها لمعرفة المواد التي تتركب منها تلك الأجرام، فإن كبلر لا يفكر في ذلك أبدا، بل لم يعتقد بأن ذلك في حيز الإمكان.»
ونحن نقول بلا تردد - قياسا على ذلك - إن عدم توصل ابن خلدون إلى طريقة معرفة التاريخ من الآثار المادية، لا تجرد عمله من صبغته العلمية بوجه من الوجوه.
إن الأمر الذي يترتب علينا في هذا الصدد ليس أن نبحث فيما «إذا كان ابن خلدون قد عرف جميع طرائق البحث في التاريخ أم لم يعرفها»، بل هو أن نبحث فيما إذا كان «قد سار على طريقة علمية في الساحة التي لاحظها والوسائل التي اهتدى إليها، أم ظل بعيدا عن الطرائق العلمية حتى في تلك الساحة وتلك الوسائل نفسها.»
ونحن لا نشك في أن كل تفكير في هذا الاتجاه يضطر الباحث إلى التسليم بأن مقدمة ابن خلدون تستحق مكانا ممتازا جدا في تاريخ علم التاريخ أو تاريخ فلسفة التاريخ. (ج)
وأما الدليل الثالث الذي يسرده الدكتور طه حسين، فهو أهم وأخطر الدلائل التي يمكن تصورها في مثل هذه الأمور؛ لأنه يدعي بوجود تناقض منطقي في طريقة ابن خلدون، فلو صح وجود هذا التناقض؛ لنفى عن عمل ابن خلدون كل صفة علمية بطبيعة الحال.
غير أن ما يزعم الدكتور في هذا الصدد لا ينطبق على آراء ابن خلدون بوجه من الوجوه، كما أنه يخالف الحقائق التاريخية والاجتماعية أيضا من كل الوجوه.
فأولا: يدعي الدكتور طه حسين بأن ابن خلدون يرى أن الوسيلة لدرس المجتمع البشري هي ملاحظة الوقائع التاريخية؛ ولهذا السبب لا يفهم كيف يمكن الاستفادة من علم العمران في درس التاريخ، ما دام هذا العلم نفسه يستند إلى التاريخ!
غير أن ابن خلدون لم يقل أبدا إن وسيلة دراسة علم العمران هي درس الوقائع التاريخية، بل إنه قال بصراحة تامة إن الوسيلة المذكورة هي درس المجتمعات الحالية والوقائع المشهودة؛ لأنه تكلم في عدة مواضع من الديباجة والمقدمة عن شهادة الحاضر (ص10)، وعند الاستدلال بالماضي المشاهد والقريب المعروف (ص11)، وعن قياس الغائب بالشاهد والحاضر بالذاهب (ص9)، وعن التفطن لشواهد الواقعات وأدلة الأحوال (ص21). كما أنه كتب في معظم فصول الكتاب الأول نفسها أبحاثا كثيرة مستندة إلى ملاحظة المجتمعات الحالية وتطوراتها الحديثة.
في الواقع إن ابن خلدون - خلال أبحاثه المتنوعة - تطرق إلى الماضي البعيد أيضا، غير أن أساس تفكيره في هذا الصدد استند - قبل كل شيء - إلى ملاحظة الحال المشاهد، أو الماضي القريب.
ولهذا السبب نحن نرى أن الدكتور طه حسين عندما ادعى بأن ابن خلدون يستند في علم العمران إلى التاريخ، قد عزا إليه رأيا لم يقل به أبدا، وخطة لم يسلكها قطعا، كما أنه قد تباعد عن الحقيقة تباعدا كليا، عندما توصل من ذلك إلى القول بأن ابن خلدون دخل في مأزق فكري، ووقع في شباك دور باطل غير منطقي.
ونحن نعتقد بأن رأي ابن خلدون في هذه القضية يدل - بعكس ذلك - على عبقرية فذة؛ لأن الرأي المذكور يرفعه إلى مصاف علماء التاريخ والاجتماع الحديثين مباشرة.
ذلك لأن علاقة التاريخ بعلم الاجتماع من المسائل التي اهتم بها العلماء والمفكرون اهتماما شديدا منذ أوائل القرن الحاضر. إنها صارت مرارا موضوع أبحاث هامة في مؤتمرات التاريخ من جهة، وفي مؤتمرات علم الاجتماع من جهة أخرى. وقد خصص لها الكثيرون من علماء التاريخ والاجتماع مقالات كثيرة، وفصولا كبيرة في الكتب والمجلات. نحن لا نرى لزوما لاستعراض وشرح ما كتب في هذا الشأن، فنكتفي بالإشارة إلى ما كتبه في هذا الصدد أحد مشاهير علماء الاجتماع «سيميان»
Simiand ، وأحد مشاهير علماء التاريخ «سنيوبوس»
Seignobos ؛ فإن الأول نشر مقالا في مجلة «التركيب التاريخي» تحت عنوان «الطريقة التاريخية وعلم الاجتماع»، والثاني كتب مقالا في مجلة الجامعة بعنوان «علاقة علم الاجتماع بالتاريخ».
هذا وقد أشار سنيوبوس إلى هذه المسألة في الكتاب المشهور الذي ألفه بالاشتراك مع الأستاذ «لانغلوا»
Langlois
بعنوان «مدخل إلى دراسة التاريخ»
Introduction à I’étude de L’histoirs
قائلا: «لأجل أن نتصور الشروط والظروف التي حدثت تحتها وقائع الماضي، يجب أن نبحث عن الشروط والظروف التي تحدث تحتها الوقائع المماثلة لها في الحالة الحاضرة، وذلك بدرس الأحوال البشرية الحالية.»
كما قال «هانري سه»
Henri Sée
في كتابه عن «فلسفة التاريخ» هذا القول الصريح: «إن المؤرخ لا يمكن أن يفهم الماضي حق الفهم من غير أن يأخذ الحال بنظر الاعتبار.»
أليس من الغريب - والحالة هذه - أن يعتبر الدكتور طه حسين محاولة ابن خلدون للاستفادة من علم العمران بالتاريخ محاولة فاشلة، تنطوي على الدور الباطل والضلال المبين؟!
هذا وأستطيع أن أذكر في هذا الصدد دليلا أحسم من كل ذلك أيضا؛ إن كليات التاريخ التي تنشر في فرنسا بعنوان «تطور البشرية»
L’évolution de I’humanitè ، تحت رئاسة المؤرخ المفكر «هانري بر»
Henri Berr
خصصت أحد مجلداتها لدرس وشرح أوائل تاريخ الشرق القديم تحت عنوان «من القبائل إلى السلطنات»
Des clans aux empires ، وقد اشترك في كتابة هذا المجلد عالم اجتماعي هو الأستاذ «داوي»
Davy ، ومؤرخ اختصاصي هو الأستاذ «موره»
Moret . يبدأ المجلد المذكور بمدخل اجتماعي يتكلم عن خدمة علم الاجتماع في فهم التاريخ، ويعطي لذلك مثالا حيا من تاريخ مصر القديم، ونحن نجتزئ بالعبارة التالية من المدخل المذكور: «إن تكون الملكية المصرية كان من المسائل التي تظهر على شكل لغز غامض يصعب تفسيره وتعليله، غير أن هذه المسألة تنورت في السنين الأخيرة بنور كشاف، بفضل المعلومات التي توصل إليها علماء الاجتماع عن نظام الطوتمية
Totemisme
من دراسة المجتمعات البدائية الحالية.»
أفلا يحق لنا أن نقول لذلك إن رأي ابن خلدون في وجوب الاستفادة من علم العمران في التاريخ كان من إلهامات العبقرية، بعكس ما ذهب إليه الدكتور طه حسين تماما؟
إننا نعتقد أن ابن خلدون دل في هذه القضية على بصيرة فائقة، وعبقرية خارقة؛ إذ ابتدع طريقة جديدة في درس التاريخ وتفسيره، طريقة لم يقدر أهميتها علماء الغرب ومفكروه، إلا بعد مرور مدة تقرب من ستة قرون.
2 (1)
لقد اعتقد بعض العلماء الغربيين - ما بين مؤرخين واجتماعيين - أن ابن خلدون قد سبق المفكرين الذين أسسوا علم الاجتماع في القرن الأخير؛ ولذلك منحوه لقب «العالم الاجتماعي»، واعتبروا المقدمة التي كتبها في القرن الرابع عشر باكورة لما نسميه اليوم علم الاجتماع.
وأما الدكتور طه حسين فقد اعترض على آراء هؤلاء أيضا بشدة وقطعية، فلم يسلم باستحقاق ابن خلدون لقب العالم الاجتماعي، حتى إنه لم يوافق على اعتبار مقدمة ابن خلدون باكورة لعلم الاجتماع الحالي.
وأما الأدلة التي يسردها الدكتور في أطروحته لدعم رأيه في هذا المضمار، فيمكننا أن نصنفها ونلخصها كما يلي: (أ)
نرى من قراءة المقدمة أن ابن خلدون لا يشير إلا إلى شكل اجتماعي واحد، هو الدولة المنظمة التي يسميها أحيانا بالشعب، وأحيانا بالأمة.
فموضوع بحثه هو الدولة، وهو أضيق من أن يصلح موضوعا لعلم الاجتماع، فهو جزء منه، وأبعد من أن يكون كلا له (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، ص63). (ب)
يرى ابن خلدون أن الظواهر الاجتماعية لا تختلف عن الظواهر الفردية، وأن من الممكن دائما أن ترد إليها (ص68).
وهو لأجل أن يدرس المجتمع يعتمد على درس الفرد، وبالأخص على درس النظريات التي جاءت بها مباحث ما وراء الطبيعة، والمباحث الكلامية عن الروح البشرية (ص60). (ج)
يدرس ابن خلدون المجتمع ليشرح التاريخ، ولأجل أن يوصف الاجتماع بأنه علم؛ يجب أن يكون مستقلا (ص60).
في الواقع إن ابن خلدون يعتبر علم الاجتماع مستقلا، ومع ذلك يعترف بأنه ليس تام الاستقلال؛ إذ يقول إنه ليس ثمة باعث لوجوده «إلا إيضاح الوقائع التاريخية وتحقيقها» (ص56). (د)
إن واجب الاجتماعي هو أن يفهم المجتمع في حد ذاته مستقلا عن علاقاته بالزمن (ص65)، فكل الأبحاث التي تنظر إلى المجتمع من خلال التاريخ - الذي يمثل الأزمنة الماضية - لا يمكن أن تكون علما اجتماعيا، فلا تخولنا حق منح صاحبها لقب العالم الاجتماعي. (2)
إن هذه الأدلة تظهر لنا مكثفة ومركزة في العبارات التالية التي يلخص بها الدكتور طه حسين رأيه في مقدمة ابن خلدون من وجهة علم الاجتماع: «المجتمع في أحد أشكاله فقط يفهم على أشد الطرق سذاجة، ويدرس لأجل التاريخ، طبقا لمنهج شديد الاختلال في بعض المواطن، على أنه جم البراعة أيضا. هذه خلاصة ما تحتويه مقدمة ابن خلدون بصفة عامة» (ص62).
يقول الدكتور طه حسين كل ذلك، على الرغم مما قاله عدد كبير من علماء الغرب الذين «افتتنوا بمقدمة ابن خلدون افتتانا كبيرا»، ولم يترددوا في تلقيب مؤلفها بلقب «العالم الاجتماعي»، بل ورأوا وجوب تلقيبه بلقب «مؤسس علم الاجتماع» أيضا. (3)
فعلينا أن ننعم النظر في انتقادات الدكتور طه حسين؛ لنرى مبلغ حظها من الحق والصواب: (أ)
إن ما يدعيه الدكتور من أن موضوع بحث ابن خلدون هو الدولة، ومن أنه لا يشير إلا إلى شكل اجتماعي واحد هو الدولة المنظمة، يخالف الواقع مخالفة صريحة.
ذلك لأن أبحاث «الدولة المنظمة» في مقدمة ابن خلدون تنحصر في باب واحد من أبوابها، وأما الأبواب الأخرى من المقدمة، فتتضمن أبحاثا كثيرة وشائقة عن القبائل والعشائر، والمدن والأمصار، ووسائل الرزق والمعاش، والعلم والتعليم. فالقول - والحالة هذه - إن ابن خلدون لا يبحث إلا عن الدولة، ولا سيما الدولة المنظمة، لا ينطبق على الحقائق الراهنة بوجه من الوجوه. إن نظرة منصفة إلى فهرست فصول المقدمة تكفي لتفنيد هذا الزعم بصورة لا تترك مجالا لأدنى ريب في هذا الشأن. (ب)
وكذلك الأمر فيما يدعيه الدكتور من أن ابن خلدون يرى أن الظواهر الاجتماعية لا تختلف عن الظواهر الفردية، وأن من الممكن أن ترد إليها.
فإنني أعتقد أن هذا الادعاء أيضا يخالف الواقع مخالفة صريحة؛ فإن أبرز الانطباعات التي يحصل عليها علماء الاجتماع عندما يدرسون مقدمة ابن خلدون، هو اهتمام مؤلفها بالمظاهر الاجتماعية اهتماما بارزا، وإهماله العوامل الفردية إهمالا كليا. إن الدراسات التي كتبناها عن آراء ابن خلدون في القسر الاجتماعي من جهة، وطبائع الأمم من جهة أخرى، تبرهن على ذلك بكل وضوح وجلاء.
وأما القول بأن ابن خلدون لأجل أن يدرس المجتمع يعتمد على الفرد، وبالأخص على درس النظريات التي جاءت بها مباحث ما وراء الطبيعة والمباحث الكلامية عن الروح البشرية، فهو أيضا يخالف الحقائق الراهنة مخالفة كلية؛ لأن ابن خلدون لا يلتجئ إلى شيء من ذلك إلا في الأبحاث المتعلقة بالنبوة والخلافة والإمامة. ومن البديهي أنه لا يحق لأحد أن يحكم على مجموع المقدمة، قياسا على سياق تلك الأبحاث التي ترتبط بالأمور الدينية والأحكام الشرعية، بطبيعتها وموضوعها ارتباطا مباشرا، ولا سيما بعد أن يرى في المقدمة عشرات وعشرات من الأبحاث التي تسير على منهج يخالف ذلك مخالفة قطعية. عشرات من الأبحاث التي تحوم حول «العوائد» التي تتحكم على سلوك الأفراد، و«الأطوار» التي لا تتأثر بإرادات الأفراد، بل تحدث بمقتضى «طبيعة العمران».
إن الدراسة التي كتبناها عن «ابن خلدون وعلم الاجتماع» في هذا الكتاب تشرح ذلك بتفصيل واف، وتكفي لتفنيد رأي الدكتور في هذه المسألة. (ج)
أما قضية تبعية أم عدم تبعية علم الاجتماع للتاريخ، فمما يحتاج إلى تأمل بإمعان، في الواقع إن ابن خلدون فكر في «علم العمران» خلال أبحاثه التاريخية، ودون مسائل هذا العلم عندما تهيأ لكتابة التاريخ، غير أن ذلك لا يبرر القول بأن «ابن خلدون جعل علم العمران تابعا للتاريخ». فإن كل ما قاله وفعله في هذا المضمار يعلمنا بسلسلة الأفكار والملاحظات التي دفعته إلى دراسة علم العمران، ولكنه لا يجعل علم العمران تابعا للتاريخ في حد ذاته؛ لأن المؤلف قد صرح بأن علم العمران مستقل بنفسه، كما أنه جمع مباحث هذا العلم في كتاب خاص منفصل عن مباحث التاريخ الأصلية. إن كل من يدرس هذا الكتاب - الذي عرف باسم المقدمة - يضطر إلى التسليم بأنه لا يرتبط بالكتابين الثاني والثالث من التاريخ ارتباطا فعليا، وبأن فصل الكتاب الأول المذكور عن الكتابين الثاني والثالث، لا يغير شيئا من وضعه أبدا.
فلا يحق لأحد أن ينفي عن علم العمران صفة علم الاجتماع؛ بحجة أنه يكون جزءا من «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر»، طالما صرح واضع العلم المذكور بأنه مستقل بنفسه، وطالما عالج مسائل هذا العلم ومواضيعها أيضا بصورة مستقلة عن مباحث التاريخ.
يلوح لنا أن الدكتور طه حسين قد تأثر في هذه القضية تأثرا خاصا من عبارة وردت في المقدمة عن ثمرة علم العمران. قال ابن خلدون: إن ثمرة هذا العلم هي تصحيح الأخبار. واستشهد الدكتور بهذه العبارة عدة مرات، واستنتج منها النتيجة التالية: «علم العمران في نظر ابن خلدون ليس إلا واسطة لتصحيح الأخبار.»
إننا نعتقد أن الدكتور طه حسين تجاوز حدود الحق والحقيقة كثيرا بهذا الاستنتاج؛ لأن ابن خلدون كتب العبارة المذكورة خلال تكلمه عن ابتكار علم العمران. لقد صرح بأنه لم «يقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة»، وأظهر استغرابه لعدم تفكير الحكماء في مسائل هذا العلم قبله، وحاول أن يعلل ذلك من وجوه عديدة، فقال أولا: «لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه فلم يصل إلينا.» ثم قال بعد ذلك: «لكن الحكماء لعلهم لاحظوا في ذلك العناية بالثمرات، وهذا إنما ثمرته في الأخبار فقط كما رأيت ، وإن كانت مسائله في ذاتها واختصاصها شريفة، ولكن ثمرته تصحيح الأخبار وهي ضعيفة؛ ولهذا هجروه والله أعلم» (مقدمة ابن خلدون، ص38).
يظهر من مطالعة هذه الفقرة بإمعان أن ابن خلدون أشار فيها إلى الفائدة العملية المتوخاة من علم العمران - نقول الفائدة العملية؛ لأننا نجده يستعمل كلمة الثمرة بهذا المعنى في عدة مواضع من المقدمة مثل هذا الموضع - وقال: إن هذه الفائدة العملية هي تصحيح الأخبار التاريخية، وزعم أن هذه الفائدة البسيطة لم تكن كافية لحمل الحكماء على التفكير في مسائل العمران والاجتماع، مع أن هذه المسائل «شريفة في ذاتها واختصاصها».
فكيف يمكن أن يستنتج من ذلك أن ابن خلدون اعتبر علم العمران جزءا من التاريخ وواسطة للتاريخ؟
من الواضح الجلي أن مسائل العلم شيء، وثمراته شيء آخر. ومن البديهي أن القول بضعف الثمرة لا يستلزم القول بعدم استقلال الموضوع، فما قاله ابن خلدون عن أسلافه من أنهم «لاحظوا العناية بالثمرات»، لا يجوز أن يتخذ حجة عليه، على الرغم من اعتنائه بعلم العمران، وتصريحه باستقلال هذا العلم. (د)
أما زعم الدكتور طه حسين بأن «واجب الاجتماعي هو أن يفهم المجتمع في حد ذاته، مستقلا عن علاقاته بالزمن»، فمما يعود بنا إلى مسألة «التاريخ وعلم الاجتماع» التي أشرنا إليها آنفا، عندما انتقدنا رأي الدكتور في طريقة ابن خلدون في درس التاريخ. فنكرر القول مرة أخرى بأن رأي الدكتور في هذا الصدد لا يتفق مع الحقائق العلمية الاجتماعية الحديثة بوجه من الوجوه.
فإن واجب العالم الاجتماعي هو عكس ما يدعيه الدكتور طه حسين تماما؛ إن علماء الاجتماع الحديثين لا يدرسون «المجتمع» بصورة عامة مجردة من الزمان والمكان، بل إنهم يدرسون «المجتمعات» المختلفة كما هي موجودة الآن، وكما كانت وجدت في الأزمنة الماضية المختلفة، مع جميع الظروف التي تلابس كل واحد منها، سواء كان من وجهة الزمان أو من وجهة المكان. والمجتمع في وقت معين ومكان معين تحت ظروف معينة، هو الذي يكون موضع دراسة العالم الاجتماعي، وأما القوانين الاجتماعية العامة - التي تشمل عددا كبيرا من المجتمعات من أزمنة وأمكنة مختلفة - فلا يتوصل العلماء إلى اكتشافها إلا بعد دراسة المجتمعات دراسة علمية تامة، على النحو الذي ذكرناه آنفا.
فإذا كان ابن خلدون لم يجرد بعض المجتمعات التي درسها تجريدا تاما عن زمانها، فلا يسوغ لنا أن نعد ذلك منقصة عليه، بل يجب علينا أن نعتبر هذه الخطة مزية عقلية تزيده تقربا من ناحية الأبحاث العلمية الحديثة، بعكس ما زعمه الدكتور طه حسين.
3
إن ما قلناه عن رأي الدكتور طه حسين في هاتين القضيتين الأساسيتين - في قضية «ابن خلدون وعلم التاريخ» من جهة، وقضية «ابن خلدون وعلم الاجتماع» من جهة أخرى - يكشف لنا صفتين من الصفات التي تتميز بها الأطروحة التي كان نشرها سنة 1918 عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية:
أولا:
عدم التعمق في درس المقدمة درسا حياديا.
ثانيا:
عدم ملاحظة تطورات علم الاجتماع ملاحظة شاملة.
يظهر أن الدكتور طه حسين كان قد تمسك برأي واحد من الآراء المتضاربة التي قال بها علماء الاجتماع، واعتبر كل ما يخالف ذلك خارجا على العلم، ومنافيا لروح علم الاجتماع، من غير أن يلاحظ أن ذلك الرأي قد يكون مخالفا لآراء جماعات أخرى من علماء الاجتماع الحديثين، ومن غير أن يلاحظ أن استحقاق ابن خلدون لقب «العالم الاجتماعي» لا يتبع موافقته أو عدم موافقته لمذهب واحد من مذاهب علم الاجتماع الحديث.
إن مقارنة بسيطة بين المفكرين الذين يلقبون عادة بلقب العالم الاجتماعي - من «أوكوست كونت» الذي عمد علم الاجتماع باسم السوسيولوجي، إلى «إميل دوركهايم» الذي أوصل نظرية استقلال الواقعة الاجتماعية إلى أقصى حدودها، مارا ب «هربرت سبنسر» الإنجليزي، «وغبرييل تارد» الفرنسي، و«هنري بر» الألماني، و«جيدينس» الأمريكي، و«فيلفر دوباره تو» الإيطالي - إن مقارنة بسيطة بين هؤلاء العلماء تكفي لإقناعنا بأنه لا يحق لأحد أن ينكر هذا اللقب على ابن خلدون، مستندا إلى الملاحظات التي أبداها الدكتور طه حسين في أطروحته.
هذا ونحن نجد في كتاب الدكتور طه حسين عن «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» مآخذ كثيرة مماثلة لما ذكرناها آنفا ، ولكننا لا نرى لزوما لسردها وتفنيدها جميعا، بعد الانتقادات التي سردناها في هاتين القضيتين الأساسيتين؛ قضية ابن خلدون وعلم التاريخ من جهة، وقضية ابن خلدون وعلم الاجتماع من جهة أخرى.
ومع هذا نرى من الضروري أن نقف قليلا على ما جاء في الكتاب المذكور حول قضية المصادفة والمعجزة.
فقد قال الدكتور طه حسين بعد أن شرح رأي ابن خلدون في المصادفة: «ولئن لم يقر المصادفة فإنه يقر بمبدأ آخر، أبلغ تقويضا لقانون السبب من المصادفة، ويريد بذلك التأثير الخارق للعادة» (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، ص41).
صحيح أن ابن خلدون كان يعتقد بالمعجزات، وكان يقر بتأثيرها «الخارق للعادة »، ولكننا - مع اعترافنا بذلك - لا نوافق الدكتور على قوله: «إن إقرار هذا المبدأ هو أبلغ تقويضا لقانون السبب من المصادفة.»
لأن المصادفة - حسب المعنى المفهوم منها - قد تحدث في كل حين؛ ولذلك تناقض قانون السببية على خط مستقيم، ولكن المعجزة - حسب المعنى المتعارف عنها - لا تحدث إلا في بعض الأدوار، وفي أحوال نادرة جدا، فلا تنفي قانون السببية نفيا باتا، وإن خرجت عليه وشذت عنه.
فإن القول بالمصادفات يعني إنكار وجود قانون السبب من أساسه، ولكن القول بالمعجزات لا يعني إنكار هذا القانون، إنما يعني وجود «شواذ» تخرج عن نطاق شموله.
فإذا راجعنا تواريخ العلوم المختلفة؛ نجد فيها أمثلة كثيرة على ذلك؛ إن قانون السببية لم يتقرر - في ساحة من ساحات البحث والنظر - إلا بعد استبعاد مبدأ المصادفة من تلك الساحة. وأما فكرة المعجزة فقد عاشت بجانب قانون السببية في مختلف ساحات الطبيعة لمدد غير يسيرة.
إذا ألقينا نظرة عامة إلى تاريخ تقدم الأفكار البشرية؛ وجدنا أن المفكرين عندما قالوا بمبدأ السببية، وحاولوا أن يستكشفوا قوانين الطبيعة على ضوء هذا المبدأ، لم يعتبروه جاريا على كل شيء بدون أي استثناء في أي حال من الأحوال، بل إنهم قرروا هذا المبدأ تدريجيا، ووسعوا ساحة شموله شيئا فشيئا، حتى إن علماء الفلك أنفسهم عندما اكتشفوا قانون الجذب العام، وحاولوا تعليل وتفسير حركات الأجرام السماوية بهذا القانون - بعد ابن خلدون بعدة قرون - لاحظوا بعض الشذوذ في حركات الأجرام السماوية، ولما لم يستطيعوا تفسير هذه الحركات بمقتضيات قانون الجذب العام؛ ذهبوا إلى أن نظام العالم يسير إلى الاختلال لو لم تتعهده «قدرة خارقة» تنظمه وتشده من جديد من وقت إلى وقت، وبالأحرى من دهر إلى دهر، كما ننصب نحن ساعاتنا ونشدها؛ لضمان سيرها بدون توقف. إن «نيوتن» العظيم نفسه أبدى هذا الرأي إتماما لقانون الجذب العام الذي اكتشفه بعبقريته الفذة. فهل رأى الدكتور طه حسين من يقول إن نيوتن اكتشف قانون الجذب العام، غير أنه قرر نظرية تقوض هذا القانون؟
وكذلك علماء الكيمياء الذين اكتشفوا قوانين التفاعلات الكيماوية، وتتبعوا علل تلك التفاعلات، ظنوا - في بادئ الأمر - أن حدود تلك القوانين والعلل تقف عند عتبة الحياة، وبتعبير آخر: اعتقدوا أن الحياة تخرق قوانين الكيمياء، وأن القوى الحيوية لا تتقيد بقيود تلك القوانين. فهل رأينا من يقول إن هؤلاء العلماء كانوا يقرون بمبدأ يقوض قانون السببية؟
إن المفكرين والعلماء الذين اكتشفوا علل الحادثات الطبيعية لم ينفوا المعجزات نفيا باتا، حتى خلال القرن التاسع عشر؛ فإن «تقويض قانون السببية شيء»، وقبول مبدأ «المعجزة التي تشذ عن قوانين الطبيعة في أحوال فوق العادة، بإرادة الخالق ومشيئته» شيء آخر.
إنني لا أقول بوجوب قبول هذا المبدأ وهذا الرأي، غير أنني أود أن أشير إلى هذه الحقيقة الراهنة؛ إن علماء الطبيعة أنفسهم لم يتخلصوا من مثل هذه الاعتقادات والاستثناءات مدة قرون طوال، فلا يحق لنا أن نلوم ابن خلدون على اعتقاده بالمعجزات، إلى درجة اتهامه بقبول مبدأ «يقوض قانون السببية».
4
هذا ونرى من الواجب علينا أن نناقش كتاب الدكتور طه حسين من وجهة نظره إلى أخلاق ابن خلدون السياسية أيضا.
من المعلوم أن حياة ابن خلدون السياسية حياة معقدة مليئة بالمغامرات والتقلبات، والدكتور طه حسين يصف تلك الحياة بتعبيرات قاسية جدا، ويمضي في هذا السبيل إلى درجة القول: «إن الوطن في نظره (أي في نظر ابن خلدون) هو حيثما استطاع العيش في رغد واعتبار .»
إننا نعتقد أن قياس أخلاق رجال القرون الماضية - من وجهة السلوك السياسي والشعور الوطني - بمقاييسنا الحالية لا يتفق مع مقتضيات البحث العلمي بوجه من الوجوه؛ لأن مفهوم الوطن من المفهومات التي تطورت تطورا كبيرا على مر الأزمان، تبعا لتطور الأحوال السياسية والاجتماعية. فإن مفهوم الوطن في المدن اليونانية مثلا كان يختلف اختلافا كليا عما صار إليه في القرون الوسطى، كما أن مفهوم الوطن الحالي يختلف اختلافا جوهريا عما كان عليه خلال تلك القرون، وعما كان عليه في تلك المدن في وقت واحد.
ومن المفيد لنا أن نتذكر - في هذا الصدد - ما كان يحدث في أوروبا نفسها خلال العصور التي عاش فيها ابن خلدون؛ من المعلوم أن البلدان والأقطار كانت تنتقل عندئذ من حكم إلى حكم، ومن مملكة إلى مملكة؛ من جراء زواج الملوك ومصاهرة الأمراء والبيوت المالكة. وكانت المقاطعات ينضم بعضها إلى بعض، أو يفترق بعضها عن بعض، كما تنضم أو تفترق الأموال المنقولة أو غير المنقولة تبعا لحقوق الملوك والأمراء في الإرث من جهة الآباء أو من جهة الأمهات تارة، ومن جهة الأزواج أو من جهة الزوجات طورا. ومن الطبيعي أن هذه الحالة ما كانت تترك مجالا لتكوين «الروح الوطنية» بالمعنى الذي نفهمه الآن؛ ولذلك كان الأمراء يحاربون تحت أعلام مختلفة في خدمة ملوك مختلفين حسب ما تقتضيه الظروف، فكانوا يحاربون اليوم من كانوا يدافعون عنهم بالأمس، ويعادون من كانوا حاربوا تحت لوائهم قبل مدة وجيزة.
إن المؤرخ المعاصر «لويس هالفين»
Louis Halphen
يذكر مثالا بارزا على ذلك في سلوك «الكونت دو فلاندر»
Comte de Flandre ، ويعلمنا بأنه كان تابعا لملك فرنسا، ومع هذا كان قد حارب تحت راية إمبراطور ألمانيا فردريك بارباروس، كما أنه قدم يمين الطاعة إلى ابن ملك إنجلترا هانري الشاب، واشترك في بعض المؤتمرات والمؤامرات مع أمراء الألمان تارة، ومع أمراء الإنجليز طورا.
إن المؤرخ المومأ إليه عندما يذكر ذلك يقول: «إن في ذلك العهد، ما كان لأحد أن يستفظع هذا السلوك، حتى ولا أن يستغربه.»
L’essor de l’Europe, par Louis Halphen, page 237.
يقول لويس هالفن ذلك ؛ لأنه يدرك أن تلك الحالة كانت من خصائص عهد بأجمعه، لا من سوء خلق رجل خارج عن أخلاق عصره.
ويجدر بنا أن نذكر - كذلك - حياة مؤرخ أوروبي عاش في نفس العصر الذي عاش فيه ابن خلدون، نعني بذلك «فرواسار»
Froissart
الذي يعد من أشهر الإخباريين
Chroniqueur
الأوروبيين، ومن كبار الأدباء والشعراء الفرنسيين.
هناك موازاة غريبة بين حياة فرواسار وبين حياة ابن خلدون؛ لقد ولد فرواسار بعد ولادة ابن خلدون بخمس سنوات (1337)، ومات بعد موت ابن خلدون بأربع سنوات (1410)، وكتب «أخباره» عندما كان ابن خلدون يكتب «تاريخه». أتم فرواسار الكتاب الأول من «الأخبار» سنة 1378، وأتم الكتاب الرابع والأخير منها سنة 1390. فيحق لنا أن نقول لذلك إن فرواسار كان معاصرا لابن خلدون معاصرة تامة وإن لم يتعرف إليه، حتى ولو لم يسمع باسمه؛ بسبب الانفصال الكلي الذي كان قد حدث عندئذ بين العالم الإسلامي والعالم الأوروبي.
فلنلق نظرة عامة على حياة هذا الشاعر الإخباري الذي عاش وكتب في أوروبا، في نفس القرن الذي عاش وكتب فيه ابن خلدون في أفريقيا؛ نجد أن فرواسار كان قد تقلب في خدمة عدة بلاطات، وعاش تحت رعاية عدة أمراء من أجناس متحالفة ومتعادية؛ إذ كان بين الملوك والأمراء الذين خطب عطفهم وتملقهم وامتدحهم الإنجليزي والبافاري والبلجيكي والفرنسي. كما نجد في حياة المومأ إليه ما هو أخطر من ذلك أيضا؛ إنه كتب الكتاب الأول من الأخبار متشيعا للإنجليز في بادئ الأمر، ولكنه بعد خمس سنوات - أي بعدما تظلل بحماية أمير «نامور»، وعلى الأخص أمير «بلووا» - أعاد النظر فيها، وجعلها أكثر ملاءمة لأعداء هؤلاء!
إن الذين يكتبون ذلك في حياة فرواسار، يقولون إن في ذلك العهد ما كان في استطاعة أي كاتب ومفكر أن يعيش من غير أن يتظلل برعاية أحد من رجال الجاه والنفوذ.
ولا حاجة للبيان أن البيئة التي عاش وعمل فيها ابن خلدون، كانت أردأ بكثير من البيئة التي عاش وكتب فيها فرواسار، ولا حاجة للبرهان على أن مثل تلك البيئات ما كانت تساعد على تكوين شعور قومي وطني بالمعنى الذي نألفه الآن.
إن الشعور الوطني - في عهد ابن خلدون - كان ينصرف بطبيعته إلى أحد الأمرين التاليين؛ الوطن الأصغر الذي ينحصر في مسقط الرأس وموطن الأسرة ومسرح الصبا وحده، والوطن الأكبر الذي يشمل ديار الإسلام بأجمعه. وأما مفهوم الوطن الذي يتحدد بالوحدة القومية والوحدة السياسية، فما كان من الممكن أن ينشأ ويتكون خلال تلك العصور؛ نظرا لكثرة الأسر المالكة وقصر أعمارها، ونظرا لعدم استقرار حدود الممالك وسرعة تفكك أوصالها.
فإذ قلنا إن الوطن كان في نظر ابن خلدون «حيثما استطاع العيش في رغد واعتبار»، لا نكون قد تعدينا عليه تعديا فادحا فحسب، بل نكون في الوقت نفسه قد سهونا عن أهم الحقائق التاريخية والاجتماعية في تطور مفهوم الوطن.
يجب علينا ألا ننسى أن البلاد التي تنقل ابن خلدون فيها وتقلب بين حكوماتها، كانت كلها إسلامية عربية، فإذا وجدناه لا يفرق بين هذه الحكومات المختلفة؛ فلا يجوز لنا أن نعتبر ذلك دليلا على أنه ما كان يرمي إلى شيء غير العيش في رغد واعتبار.
وربما كان من الضروري أن نشير في هذا الصدد إلى ما حدث له عند سفره إلى إشبيلية؛ إن ملك القشتاليين طلب إليه أن يبقى في خدمته، ووعده بإعادة أملاك أسرته، ولكن ابن خلدون أبى الإجابة على هذا الطلب. ابن خلدون الذي لم يتردد في الانتقال من خدمة أسرة إلى أخرى من فاس إلى القاهرة، أبى أن ينتقل إلى خدمة ملوك قشتالة في إشبيلية، على الرغم من المنافع المادية التي عرضت عليه لإغرائه.
وذلك يدل دلالة واضحة على أن الوطن في نظر ابن خلدون لم يكن حيثما استطاع العيش في رغد واعتبار، وإن لم يكن أيضا ما نفهمه من هذه الكلمة الآن.
5
يوجه الدكتور طه حسين إلى ابن خلدون تهمة خطرة جدا من وجهة «الأمانة العلمية» أيضا. فيجدر بنا أن ندرس هذه التهمة بإنعام، ونناقشها باهتمام: (1)
لقد ذكر ابن خلدون في سيرة حياته العلوم التي تلقاها والكتب التي درسها في حداثته وصباه، ولكن الدكتور طه حسين يرتاب في صحة ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد، ويعتقد «أن ابن خلدون لم يعرف من بعض الكتب التي ذكرها إلا أسماءها»، ويدعي بأنه إنما ذكرها بقصد التمدح والتفاخر؛ «لكيلا يبدو أقل شأنا من منافسيه أساتذة الأزهر.»
يحاول الدكتور البرهنة على رأيه هذا بما جاء في مقدمة ابن خلدون من جهة، وفي ترجمته من جهة أخرى عن كتابين؛ أحدهما في الأدب، والثاني في الفقه.
فلنقرأ أولا ما كتبه الدكتور في هذا الصدد بكل إمعان: «يذكر لنا (ابن خلدون) في ترجمته أن الكتب التي درسها في حداثته وصباه كانت نادرة في تونس، وهذا هو السبب في أن عددها بالتفصيل، لا سيما وأنه كتب ترجمة حياته في القاهرة، حيث كان من المحتوم عليه ألا يبدو أقل شأنا من منافسيه أساتذة الأزهر. وقد أمدنا ابن خلدون نفسه بداعي ذلك الريب، وهو يقرر لنا مثلا أن مختصر ابن الحاجب (1175-1245) كان من بين الكتب التي يقول إنه درسها في تونس، ويعده ضمن كتب الفقه المالكي في ترجمته وفي مقدمته، مع أن مختصر ابن الحاجب ليس كتاب فقه، بل هو كتاب في «أصول الفقه»، وهو مؤلف جم الانتشار، لا يزال يدرس في الأزهر حتى يومنا هذا، ومؤلفه مالكي المذهب، ولكنه لم يقتصر على الكلام على الفقه المالكي، بل شرح مبادئ التشريع في المذاهب كلها، وهو علم خاص ...» «وفي وسعنا أن نرتاب أيضا في ما يقرره المؤلف بشأن كتاب الأغاني الشهير؛ فإنه في ترجمته يزعم أنه استظهر جزءا منه، وفي مقدمته يندب استحالة الحصول على نسخة منه. وعلى هذا فإنا نعتقد أن ابن خلدون لم يعرف منه سوى الاسم» (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، 12).
يظهر من ذلك أن نظرية الدكتور طه حسين في هذا الصدد تستند إلى القضيتين التاليتين:
أولا:
يزعم ابن خلدون أن مختصر ابن الحاجب كتاب في الفقه المالكي، في حين المختصر المذكور كتاب في أصول الفقه.
ثانيا:
يندب ابن خلدون في مقدمته استحالة الحصول على نسخة من كتاب الأغاني، وذلك يناقض ما قاله في ترجمته من أنه استظهر جزءا من الكتاب المذكور.
فلنرجع إلى المقدمة لنر مبلغ وجاهة ملاحظات الدكتور في هاتين القضيتين: (2)
لقد كتب ابن خلدون في فصل علم الفقه من المقدمة - بعد أن استعرض أمهات الكتب المتعلقة بالفقه بوجه عام، وبالفقه المالكي بوجه خاص - ما يأتي: «جمع ابن أبي زيد جميع ما في الأمهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النوادر، فاشتمل على جميع أقوال المذاهب، وفرع الأمهات كلها في هذا الكتاب، ونقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدونة، وزخرت بحار المذهب المالكي في الأفقين إلى انقراض دولة قرطبة وقيروان، ثم تمسك بها أهل المغرب بعد ذلك، إلى أن جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب، لخص فيه طرق أهل المذهب في كل باب، وتعديد أقوالهم في كل مسألة؛ فجاء كالبرنامج للمذهب.» «وكانت الطريقة المالكية بقيت في مصر من لدن الحارث بن مسكين وابن المبشر ...» «ولم أدر عمن أخذها أبو عمرو بن الحاجب، لكنه جاء بعد انقراض دولة العبيديين، وذهاب فقه أهل البيت، وظهور فقهاء السنة من الشافعية والمالكية. ولما جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السابعة؛ عكف عليه الكثير من طلبة المغرب، وخصوصا أهل بجاية، لما كان كبير مشيختهم أبو علي ناصر الدين الزواوي هو الذي جلبه إلى المغرب، فإنه كان قرأ على أصحابه بمصر، ونسخ مختصره ذلك فجاء به، وانتقل بقطر بجاية في تلاميذه، ومنهم انتقل إلى سائر الأمصار المغربية. وطلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون قراءته ويتدارسونه؛ لما يؤثر عن الشيخ ناصر الدين من الترغيب فيه. وقد شرحه جماعة من شيوخهم كابن عبد السلام، وابن رشد، وابن هارون» (ص450-451).
يلاحظ من هذه الفقرات أن ابن خلدون يدون تفصيلات وافية عن كتاب ابن الحاجب؛ يذكر تاريخ وصول الكتاب إلى البلاد المغربية، ويشرح كيفية ذيوعه فيها، حتى إنه لا يسهو عن ذكر اسم الشيخ الذي أتى به من مصر وعمل على نشره في المغرب، كما يذكر أسماء الذين شرحوا الكتاب المذكور من مشايخ تونس.
فنحن نستبعد جدا أن يكتب ابن خلدون كل هذه التفاصيل عن كتاب لم يقرأه، كما أننا نلاحظ أن ابن خلدون لا يذكر الكتاب المذكور بين أمهات الكتب، بل يصرح بأنه من المختصرات التي يتدارسها طلبة العلم في جميع أنحاء المغرب. فلا نفهم ما هو وجه «التفاخر» الذي يمكن أن يرمي إليه ابن خلدون من القول بأنه «درس الفقه المالكي في كتاب مختصر معروف ومتداول بين طلبة العلوم في المشرق والمغرب؟!»
ولذلك نرى من الضروري أن نتعمق في درس هذه القضية قبل أن نبت في نظرية الدكتور طه حسين؛ فنتساءل أولا: ألم يكتب أبو عمرو بن الحاجب كتابا غير هذا الكتاب الذي عرفه الدكتور، وقال عنه إنه جم الانتشار بين طلبة الأزهر، وإنه لا يزال يدرس حتى يومنا هذا؟
إن هذا السؤال البسيط يلقي على القضية نورا كاشفا، ويزيح عنها جميع دواعي الشكوك.
إننا نجد جوابا شافيا لهذا السؤال في فصول المقدمة نفسها؛ فقد قال ابن خلدون في فصل أصول الفقه، بعد أن استعرض أمهات الكتب المعلقة بها: «ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين، وهما الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتابه المحصول، وسيف الدين الآمدي في كتاب الإحكام.» «أما كتاب الإحكام للآمدي فهو أكثر تحقيقا للمسائل، فلخصه أبو عمرو بن الحاجب في كتابه المعروف بالمختصر الكبير، ثم اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم، وعني أهل المشرق والمغرب به، وبمطالعته وشرحه» (ص455-456).
يظهر من ذلك أن ابن خلدون ذكر أبا عمرو بن الحاجب مرة في عداد مؤلفي الفقه، ومرة في عداد مؤلفي أصول الفقه؛ لأن المؤلف المومأ إليه ألف كتابا في الفقه، وآخر في أصول الفقه!
ومما يزيد القضية وضوحا وغرابة، أن ابن خلدون ذكر ابن الحاجب في المقدمة في أربعة مواضع أخرى - غير الموضعين السالفي الذكر - (ص521 و532 و547 و579). ومن المهم جدا أن ننعم النظر فيما قاله ابن خلدون في الموضع الأخير.
يعترف ابن خلدون في فصل «ملكة الشعر» أنه «يجد استصعابا في نظم الشعر متى يرومه»، مع «بصره به وحفظه للجيد من الكلام في القرآن والحديث وفنون من كلام العرب»، ثم يعلل ذلك بتأثير ما سبق وحفظه من «الأشعار العلمية والقوانين التأليفية»، ويقول في سياق كلامه: «حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات، وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول» (ص579).
نفهم من كل ذلك بصراحة تامة أن ابن خلدون درس كتابين لأبي عمرو بن الحاجب؛ أحدهما في الفقه، والثاني في أصول الفقه، وقد أشار في فصل علم الفقه إلى الكتاب الأول، وفي فصل أصول الفقه إلى الكتاب الثاني، وحينما تكلم عن مباحث الكتاب الأول قال: «لا أدري عمن أخذها ابن الحاجب.» في حين أنه صرح في صدد البحث عن الكتاب الثاني بأنه «ملخص من كتاب الآمدي».
إن هذه النتيجة التي وصلنا إليها من دراسة مقدمة ابن خلدون نفسها تتأيد وتتأكد لدينا عندما نراجع كتب التراجم وقواميس الأعلام؛ لأنها تعلمنا بأن أبا عمرو بن الحاجب خلف لنا كتابا في الصرف، وكتابا في النحو، وكتابا في العروض، وكتابا في الفقه المالكي، وكتابا في أصول الفقه، وكتابا مختصرا من الكتاب الأخير. إن ابن خلدون قد أشار في مقدمته إلى أربعة من الكتب المذكورة.
وأما الدكتور طه حسين فلم يلاحظ ما ورد في مقدمة ابن خلدون عن أبي عمرو بن الحاجب إلا في موضع واحد، ولم يفكر في احتمال وجود كتاب لابن الحاجب غير «المختصر» الذي اطلع عليه هو؛ فتسرع في اتهام ابن خلدون بالكذب من غير أن يتعمق في درس مباحث المقدمة، ومن غير أن يتوسع في البحث عن مؤلفات ابن الحاجب! (3)
أما ما ذهب إليه الدكتور طه حسين في قضية كتاب الأغاني، فهو أشد خطرا وأوضح خطأ من ذلك أيضا.
إن مقدمة ابن خلدون تذكر الكتاب المذكور في ثلاثة مواضع مختلفة. إننا لم نجد في المواضع المذكورة فقرة تؤيد ما يدعيه الدكتور من «أن ابن خلدون يندب استحالة الحصول على نسخة من كتاب الأغاني»، ويبرر زعمه بأن ابن خلدون لم يعرف من الكتاب المذكور سوى الاسم.
وللتأكد من ذلك ننقل فيما يلي كل ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد: (أ)
في فصل علم الأدب يكتب ابن خلدون التفاصيل التالية عن كتاب الأغاني: «وقد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني كتابه في الأغاني، جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم، وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد. ولعمري إنه ديوان العرب، وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنى له بها؟» (ص554). (ب)
في الفصل الباحث عن «الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم»، يشير ابن خلدون إلى حال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية والعباسية، ويذكر شأنهم «في تمام هذه الملكة وإجادتها»، ويستشهد على كل ذلك بكتاب الأغاني قائلا: «وانظر ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم ونثرهم، فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم، وفيه لغتهم، وأخبارهم، وأيامهم، وملتهم العربية، وسيرتهم، وآثار خلفائهم وملوكهم، وأشعارهم، وغناؤهم، وسائر معانيهم له. فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب» (ص566). (ج)
في فصل صنعة الشعر ووجه تعلمه، يحدد ابن خلدون معنى الشعر وحقيقته، ثم يتكلم عن كيفية عمله، فيقول ما يلي: «اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطا؛ أولها الحفظ من جنسه - أي من جنس شعر العرب - حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج عن منوالها.
ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب، وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من فحول الإسلاميين - مثل ابن أبي ربيعة، وكثير، وذي الرمة، وجرير، وأبو نواس، وحبيب، والبحتري، والرضي، وأبي فراس - وأكثره شعر كتاب الأغاني؛ لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله، والمختار من شعر الجاهلية» (ص574).
يلاحظ من مطالعة هذه الفقرات بإنعام أنه لا يوجد فيها ما يؤيد الزعم القائل بأن ابن خلدون يندب استحالة الحصول على نسخة من كتاب الأغاني، وبأنه يتكلم عنه من غير أن يعرف منه شيئا سوى الاسم.
بل بعكس ذلك، إن جميع هذه الفقرات تدل دلالة قطعية على أنه كان مطلعا على كتاب الأغاني تمام الاطلاع، كما أنه كان يعلم أن الكتاب المذكور كان جم الانتشار في المشرق والمغرب؛ ولولا ذلك لما استطاع التوسع في وصفه كل هذا التوسع، ولما قال: «لا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه»، ولما استشهد به قائلا: «وانظر ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نثرهم ونظمهم»، وفي الأخير لما أوصى بحفظ شعر كتاب الأغاني لمن أراد إجادة الشعر وإحكامه؛ إذ ليس من المعقول أن يستشهد ابن خلدون بكتاب لم يقرأه هو، ولا يعرفه قراؤه، وليس من المعقول أن يوصي بحفظ الأشعار المدونة في كتاب «يندب استحالة الحصول على نسخة منه»!
إنني تأملت كثيرا لمعرفة السبب الذي حدا بالدكتور طه حسين إلى القول بأن «ابن خلدون يندب في مقدمته استحالة الحصول على نسخة من كتاب الأغاني»، وبعد إطالة النظر في الأمر؛ لاح لي أن ذلك قد نشأ من سوء تفسير العبارة التي تنتهي بها الفقرة الأولى «أ»: «وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنى له بها؟» (ص554).
ولكني اعتقدت أن مطالعة هذه الفقرة بقليل من الانتباه تكفي للتأكد من أن عبارة «أنى له بها؟» لا تعني استحالة الحصول على نسخة من كتاب الأغاني، إنما تعني استحالة الوصول إلى الغاية التي وصل إليها كتاب الأغاني؛ لأن لفظة بها لا يمكن أن تعود إلى «الكتاب»، بل تعود بصراحة إلى «الغاية».
فاستبعدت كل الاستبعاد أن يخطئ الدكتور طه حسين في فهم مضمون مثل هذه الفقرات، وخطر ببالي أن أراجع الترجمة الفرنسية، وعندئذ توصلت إلى معرفة مصدر هذه الغلطة؛ إن المترجم الفرنسي لم يفهم معنى هذه الفقرة كما يفهمها كل عربي متمرن على أساليب لغته الخاصة، فترجمها كما يلي: «ولكن كيف يمكن الحصول عليه؟»
Mais cemment pourra-t-on se le procurer? (vol 3. p. 331).
ومن أجل ذلك صرت أظن ظنا قويا بأن الزعم بوجود تناقض بين ما جاء في مقدمة ابن خلدون، وبين ما ورد في ترجمته عن كتاب الأغاني، قد بدا لأحد الغربيين الذين يدرسون المقدمة من ترجمتها الفرنسية، وانتقل هذا الزعم منه إلى الدكتور طه حسين حينما كان مشغولا بكتابة أطروحته. والدكتور أدخل هذا الرأي في كتابه من غير أن يراجع نصوص المقدمة وينعم النظر في معانيها، ومن غير أن ينتبه إلى غلطة المترجم في هذه القضية.
ولذلك وجه إلى ابن خلدون هذه التهمة الجائرة، التي تخالف الحق والحقيقة كل المخالفة.
ذيل
بين المعري والخيام
يثير الدكتور طه حسين في مقدمة الكتاب الذي اتخذناه موضوعا لهذه الدراسة الانتقادية، مسألة استطرادية لا تمت بصلة ما إلى مقدمة ابن خلدون، ولا إلى فلسفته الاجتماعية، ولا إلى الفلسفة الاجتماعية بوجه عام، وهذه المسألة الاستطرادية هي مسألة علاقة الخيام بالمعري.
من البديهي أن هذه المسألة خارجة عن موضوع أبحاثنا، مع هذا إننا رأينا أن نقف قليلا عليها؛ لأننا وجدنا فيها مثالا بارزا لأسلوب النظر الذي كثيرا ما يتجلى في كتاب «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية».
يقول الدكتور طه حسين في المقدمة القصيرة التي كتبها إلى كتابه المذكور، إنه كان قد تقدم إلى الجامعة المصرية بأطروحة عن المعري، إنه يقول ذلك بقصد شرح الأسباب التي حملته على اختيار موضوع دراسته الجديدة، غير أنه لا يكاد يذكر اسم المعري بهذه المناسبة، إلا ويسرع إلى كتابة التعليق التالي في ذيل الصفحة: «اعتقد بعضهم أن شعر عمر الخيام شاعر الفرس ينم عن تأثير أبي العلاء، ولكن ليس ثمة من دليل يؤيد أن عمر قرأ شعر أبي العلاء، هذا فضلا عن أنه بينما نجد تشاؤم الفلسفة العربية مظلما، إذا تشاؤم الفرس طروب بهيج، ولئن تشابهت كتاباتهما من بعض الوجوه، فإن أوجه اختلافهما واضحة، لا تسمح لنا بالإفاضة في المقارنة بينهما.»
فلننظر ما هو مبلغ إصابة الرأي الذي يبديه الدكتور في هذا الصدد؟
ولنجمع أولا الحقائق الراهنة التي من شأنها أن تلقي نورا كشافا على ساحة هذا البحث، وتسهل علينا حل المسألة المذكورة: (أ)
مات المعري سنة 1058، ومات الخيام سنة 1132، فالمدة التي انقضت بين موت الأول وبين موت الثاني عبارة عن 74 سنة فقط. (ب)
من المؤكد أن الخيام عاش أكثر من خمسة وسبعين عاما، ويظهر أنه كان في العقد الثاني من عمره عند موت المعري؛ لأنه قد اشترك في لجنة إصلاح التقويم سنة 1074، أي بعد مرور 16 سنة فقط على موت المعري، وعلى كل حال إن شباب الخيام يقع في العهد الذي كانت ذكريات المعري وصيته في أوج قوتها ورفعتها. (ج)
إن الشعر العربي كان شديد التأثير في الأدب الفارسي، وجم الانتشار بين شعراء الفرس خلال العهد الذي نشأ فيه عمر الخيام. كان شعراء الفرس يقرءون الأشعار العربية ويحفظونها، ويحاولون قرض الشعر على منوالها، حتى إنهم كثيرا ما كانوا يظهرون براعة فائقة في «الشعر الملمع» حسب تعبيرهم؛ يشطرون الأشعار العربية، ويضمنون عددا غير قليل من أبياتها في قصائدهم الفارسية. (د)
ومن أبرز الأدلة على هذا التأثير الشديد والانتشار الكبير، أن أساطين شعراء الفرس - مثل سعدي وحافظ - خلفوا دواوين شعر بالعربية، بجانب دواوينهم الفارسية. (ه)
من الحقائق الثابتة أن عمر الخيام كان يعرف العربية ويتقنها، وقد كتب كتبه العلمية والرياضية المشهورة باللغة العربية. (و)
ومن الثابت أن عمر الخيام كان متمكنا من الشعر العربي أيضا، وقد نقلت كتب التراجم نماذج عديدة من أشعاره وقصائده العربية.
فهل من حاجة إلى إقامة الدليل - بعد تثبيت هذه الحقائق الراهنة - على أن عمر الخيام قرأ المعري؟
إذ كيف يستطيع أحد أن يدعي - بصورة معقولة - أن الخيام لم يقرأ المعري بعد أن يلاحظ أنه كان يعرف العربية معرفة تامة، تمكنه من الكتابة بها، وقرض الشعر على منوال شعرائها؟ وبعد أن يلاحظ أنه نشأ عقب جيل المعري مباشرة، في إبان انتشار أشعار ذلك الشاعر الحكيم، وذيوع صيته الكبير؟
هذا وإذا تركنا جانبا هذه «الدلائل القبلانية»، والتجأنا إلى «الأبحاث البعدانية»، مستندين إلى مقارنة شعر الخيام بشعر المعري، لا نلبث أن نجد فيها أيضا دلائل قطعية على هذه العلاقة الوثيقة: (أ)
لقد جاء في إحدى رباعيات الخيام ما ترجمته حرفيا: «احذر، وضع قدمك على التراب بخفة؛ لأن ذلك كان حدقة عين غادة جميلة.»
يلاحظ أن مفهوم هذا البيت يمت بصلة قوية إلى قول المعري:
خفف الوطء، ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد
فالفكرة التي يتضمنها المصراع الأول من البيت الفارسي هي عين الفكرة الواردة في أول البيت العربي، ولا نغالي إذا قلنا إنها ترجمة حرفية للعبارة العربية؛ فإن عبارة «ضع قدمك على التراب بخفة»، ألا تعني تماما «خفف الوطء على الأرض» بالأسلوب العربي الوجيز؟
وأما التعليل الذي يتلو ذلك في شعر الخيام فهو أيضا محصول فكرة مشابهة لفكرة المعري تمام الشبه، وإن اختلف عنه شكلا؛ فالتعليل عند المعري تعليل متفكر متفلسف، في حين أنه عند الخيام تعليل شاعر متغزل، المعري يبرر قوله «خفف الوطء على الأرض» بفكرة فلسفية بحتة؛ «لأن أديم الأرض من هذه الأجساد»، يقول ذلك من غير أن يلتفت إلى جمال تلك الأجساد أو عدم جمالها. في حين أن الخيام يرمي إلى غاية غزلية، فيقول «إنها كانت حدقة عين غادة حسناء.» ولكن على الرغم من هذا الاختلاف الشكلي - الناشئ من اختلاف المزاج - لا مجال للإنكار أن فكرة الخيام منقولة من فكرة المعري نقلا، مع شيء من الزخرفة الشعرية والغزلية. (ب)
هذا وقد قال الخيام في إحدى رباعياته ما ترجمته حرفيا: «لو أعطيت نقدا القدح والخمر والساقي، وتجرعت الصهباء بشفتي؛ لتركت لك الفردوس الموعود، لا تصغ إلى قول أحد في الجنة وجهنم؛ إذ من ذهب إلى الجنة؟ ومن جاء من جهنم؟»
ومن الواضح الجلي أن هذه الرباعية تشبه تمام الشبه قول المعري، من حيث الفكرة والمعنى:
أتترك ها هنا الصهباء نقدا
لما وعدوك من لبن وخمر؟
حياة ثم موت ثم حشر
حديث خرافة يا أم عمرو
ومما يستلفت النظر أن كلمة «نقدا» موجودة في شعر الخيام أيضا، بشكلها العربي التام.
فهل من حاجة إلى دليل أقوى من الأدلة والأمثلة التي ذكرناها على «تأثر الخيام من المعري»؟
لا ننكر أن شعر الخيام يختلف عن شعر المعري بعض الاختلاف، من حيث النزعة الروحية، على الرغم من اتفاقه معه في أسلوب التفكير، غير أننا نرى أن هذا الاختلاف متولد من اختلاف المزاج، ومن اختلاف النظر إلى الحياة؛ المعري يعرض عن بهارج الحياة، ويدعو إلى التباعد عن الملذات، في حين أن الخيام يتغنى بملذات الحياة، ويدعو إلى التمتع بها. إن الفكرة الواحدة تولد نزعتين مختلفتين في أشعار الشاعرين المذكورين.
ومن البديهي أن وجود مثل هذا الاختلاف في المزاج لا ينفي «التأثر الفكري العميق» بوجه من الوجوه.
أخطاء في نقل وتلخيص الآراء
إن أول الواجبات التي تترتب على كل من يروم البحث في أحد المؤلفات القديمة، هو ملاحظة الآراء المدونة فيه ملاحظة دقيقة، والحذر من تغيير حقيقة تلك الآراء وحدودها الأصلية، خلال نقلها وتلخيصها.
ولكن البعض ممن كتبوا عن مقدمة ابن خلدون لم يراعوا - مع الأسف - «واجب الدقة والضبط» فيما نقلوه منها؛ ولذلك عزوا إلى ابن خلدون من الآراء ما لم يقل بها هو أبدا.
إني صادفت أمثلة كثيرة على ذلك في مختلف الكتب والمجلات، ولعل أبرز هذه الأمثلة كان في فقرة قرأتها في مقالة للأستاذ الدكتور محمد صالح.
لقد نشر الأستاذ المشار إليه في «مجلة القانون والاقتصاد» - التي تصدر في القاهرة - ثلاث مقالات عن «التفكير الاقتصادي العربي في القرن الخامس عشر»، وخصص الثانية والثالثة منها إلى آراء «عبد الرحمن بن خلدون».
وكان مما كتبه في المقالة الثانية ما نصه بالحرف الواحد:
إن ابن خلدون «أسقط الدين من عداد عناصر الحضارة؛ لأنه عدو للحضارة، يرى فيها الشر كله، وينصح الناس بالعودة إلى البداوة» (مجلة القانون والاقتصاد، العدد الثالث من السنة الثالثة 1933، ص330).
من الغريب أن كل ما ورد في هذه العبارات الأربع القصيرة يخالف آراء ابن خلدون الحقيقية مخالفة صريحة:
أولا:
إن ابن خلدون لم يسقط الدين من عداد عناصر الحضارة.
في الواقع أنه انتقد رأي القائلين بأن الحياة الاجتماعية «لا تقوم إلا على الدين»، ولكنه لم ينكر دور الدين في الحياة الاجتماعية، بل بعكس ذلك، إنه تكلم عن دور الدين في تلك الحياة، بعدة مناسبات.
إنه قال في فصل من فصول الباب الثاني: «إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية، من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة» (ص151).
كما قال في أحد فصول الباب الثالث: «إن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها» (ص158).
وفضلا عن ذلك إنه قرر في فصل «لغات أهل الأمصار» أن الدين الإسلامي كان السبب الأصلي في انتشار اللغة العربية في الأمصار الإسلامية، كما أنه صرح بأن القرآن كان السبب في «بقاء اللغة العربية المضرية» (ص153).
والقول - على الرغم من كل ذلك - بأن ابن خلدون «أسقط الدين من عداد عناصر الحضارة» لا يتفق مع «الحقائق الراهنة بوجه من الوجوه».
ثانيا:
إن ابن خلدون لم يقل إن الحضارة «كلها شر».
في الواقع قرر أن حياة الحضارة تؤدي إلى فساد الأخلاق، ولكنه قال في الوقت نفسه إن الحضارة تقوي الملكات العقلية، وتساعد على استجادة الصنائع واستبحار العلوم، وتكسب الإنسان «مزيد عقل وذكاء».
وقد قال ابن خلدون في أحد فصول الباب السادس ما نصه: «ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو؟ كيف تجد الحضري متحليا بالذكاء ممتلئا من الكيس؟ حتى إن البدوي ليظنه أنه قد فاقه في حقيقة إنسانيته وعقله، وليس كذلك, وما ذلك إلا لإجادته في ملكات الصنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضرية ما لا يعرفه البدوي» (ص433).
فإذا قلنا - مع كل ذلك - إن ابن خلدون «عدو للحضارة، يرى فيها الشر كله»؛ نكون قد خرجنا عن نطاق آرائه الحقيقية، وتباعدنا عنها بعدا كبيرا.
ثالثا:
لم ينصح ابن خلدون الناس بالعودة إلى البداوة، ولا يوجد في جميع صحائف المقدمة كلمة واحدة تدل على مثل هذه النصيحة.
وذلك لأن ابن خلدون يرى - في حقيقة الأمر - أن الحضارة من الأمور الطبيعية مثل البداوة، ويقرر بصراحة تامة أن النزوع «إلى الدعة والسكون من طبيعة البشر» (ص343)، ويرى أن نزول المدن والأمصار من الأمور التي تقتضيها الطبيعة البشرية.
فالقول - والحالة هذه - إن ابن خلدون ينصح الناس بالعودة إلى البداوة، يخالف أهم وأعم المبادئ المقررة في المقدمة.
ويلوح لي أن الأستاذ محمد صالح كتب ما كتبه في هذا الصدد متأثرا بما هو معلوم عن الرأي الذي كان أبداه جان جاك روسو في أواسط القرن الثامن عشر؛ إنه ادعى أن الحضارة تفسد الأخلاق؛ ولذلك دعى الناس إلى تركها ومحو آثارها.
وأما ابن خلدون فإنه رأى مفاسد الحضارة، ولكنه اكتفى بتسجيل ما لاحظه في هذا الصدد، دون أن يقرن ملاحظاته هذه بدعوة إلى ترك الحضارة؛ لأنه كان يدرك - من تأملاته الاجتماعية العامة - بأن ذلك يكون مخالفا لقوانين الطبيعة.
ومن الغريب أن الدكتور محمد صالح عاد إلى هذه القضية - بوسيلة أخرى - في مقالته الثالثة أيضا، حيث قال: إن ابن خلدون ينصح أهل البادية بعدم سكنى المدن، وإن كل من يتشوف منهم لسكنى المدن «فسريعا ما يظهر عجزه ويفتضح في استيطانه، إلا من تقدم منهم تأثل المال، وتحصل له منه فوق الحاجة» (المجلة المذكورة، ص793).
إن العبارة التي ينقلها الدكتور عن ابن خلدون في آخر هذه الفقرة موجودة في فصل المقدمة المعنون بالعنوان التالي: «في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران» (ص365).
وكل من يقرأ الفصل المذكور بإمعان يرى أن ابن خلدون يقرر فيها الأمر الواقع من غير أن يقدم نصيحة ما لأحد. وفضلا عن ذلك إنه لا ينكر على البدوي إمكان سكنى المصر «بعد تأثل المال»، كما جاء في العبارة التي نقلها الدكتور نفسه.
ومما هو جدير بالذكر والملاحظة في هذه القضية أن ابن خلدون يقول - عقب تلك العبارة مباشرة: «ويجري إلى الغاية الطبيعية لأهل العمران من الدعة والترف، فحينئذ ينتقل إلى المصر، وينتظم حاله مع أحوال أهله في عوائدهم وترفهم» (ص365).
فكيف يجوز أن يقال - والحالة هذه - إن ابن خلدون ينصح أهل البادية بعدم سكنى المدن؟!
أقسى الأحكام على مقدمة ابن خلدون
إن أقسى الأحكام على مقدمة ابن خلدون قرأتها في مقالة صادرة من قلم كاتب عربي ذائع الصيت؛ الأستاذ محمد فريد وجدي.
فقد نشر في مجلة المقتطف، سنة 1932، مقالة تحت عنوان «ابن خلدون في الميزان»، وذلك بمناسبة مرور ستمائة عام على ولادته.
وادعى الأستاذ محمد فريد وجدي في مقالته هذه:
أولا:
أن ابن خلدون نفسه يعترف بأنه «نسج على منوال المسعودي والطرطوشي وغيرهم، وأنه مسبوق بهم ومقلدهم.»
ثانيا:
أن مقدمة ابن خلدون ليست من فلسفة التاريخ، ولا من علم الاجتماع في شيء، بل إنما هي مجموعة أخطاء.
فلننعم النظر في هذه المزاعم والمدعيات. •••
قال الأستاذ محمد فريد وجدي: «بعد أن ذكر ابن خلدون ما ذكره من أنه واضع هذا العلم ومؤصل أصوله، وأنه لم يسبقه أحد إلى مثله، عاد فاعترف بأنه مقلد فيه وناسج على منوال غيره» (المقتطف، سنة 1932، ص1238). «والقارئ يفهم من هذا أن المسعودي والطرطوشي وغيرهما قد سبقوا ابن خلدون إلى هذا الفرع من العلم، وبوبوا كتبهم على مثال ما فعل هو، ولكنهم اقتصروا فيها على عصورهم، فجاء هو ناسجا على منوالهم، وهذا كله يدل على أن ابن خلدون يعترف لغيره بالسبق، ولكنه زاد عليهم في الإتقان، وبزهم في التدليل والتمحيص، فكيف يتفق هذا وقوله إنه اخترعه إلهاما؟»
إني أجد في هذه الفقرات مثالا بليغا على الأخطاء التي يقع فيها بعض الكتاب عندما يتكلمون عن آراء ابن خلدون من غير أن يكلفوا أنفسهم مئونة إنعام النظر في مضامين العبارات التي يقرءونها، فيسترسلون في ارتجال الأحكام والآراء.
فلنقرأ ما كتبه ابن خلدون عن كتاب الطرطوشي بعد أن قال عن كتابه هو: «لعمري، لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة.» «حوم القاضي أبو بكر الطرطوشي في كتاب سراج الملوك، وبوبه على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا ومسائله، لكنه لم يصادف فيه الرمية، ولا أصاب الشاكلة، ولا استوفى المسائل، ولا أوضح الأدلة، إنما يبوب الباب للمسألة، ثم يستكثر من الأحاديث والآثار، وينقل كلمات متفرقة لحكماء الفرس - مثل بزرجمهر والموبذان - وحكماء الهند، والمأثور عن دانيال وهرمس وغيرهم من أكابر الخليقة، ولا يكشف عن التحقيق قناعا، ولا يرفع بالبراهين الطبيعية حجابا، إنما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ» (ص40).
إذن فإن ابن خلدون يقول عن كتاب الطرطوشي إنه مجموعة كلمات شبيهة بالمواعظ، منقولة عن مختلف الحكماء، ومجردة عن الأدلة العقلية والبراهين الطبيعية.
ولا حاجة إلى القول أن ذلك يختلف عن المنحى الذي نحاه ابن خلدون في مقدمته اختلافا كليا.
أفليس من الغريب أن يعتبر الأستاذ محمد فريد وجدي كلمات ابن خلدون هذه بمثابة اعتراف منه على أنه «قلد الطرطوشي ونسج على منواله»؟ وأن يوصل الأمر إلى حد التساؤل: «كيف يتفق اعترافه هذا مع قوله إنه اخترع علم العمران اختراعا؟!» •••
وأما رأي الأستاذ المشار إليه في المقدمة نفسها فيتضح من العبارات التالية: «يكثر ابن خلدون من ذكر علم العمران والقوانين والعلل، فيخيل للقارئ أنه يعني العلم المعروف بهذا الاسم في عصرنا الراهن، أو يرمي إلى فلسفة التاريخ وإن لم يذكرها باللفظ. ولكن الحقيقة أن مقدمة ابن خلدون ليست من هذين العلمين في شيء.» «نعم إنه يكثر من عبارات طبيعة الاجتماع والقوانين، وهذا منه حوم صريح حول فلسفة التاريخ، يستحق ابن خلدون من أجله فقط أن يدعى عبقريا، ولكنه لم يوفق إلى توفية حقه، بل ولا الاتجاه بأبحاثه في وجهته؛ فكل ما أتى به هو معلومات عامة، كانت ذات قيمة في زمانه، ولكنها أصبحت اليوم مجموعة أخطاء لا حظ لنا منها إلا كحظنا في الآثار والعاديات» (المقتطف، السنة 1932، ص1238).
لا شك في أن مقدمة ابن خلدون تتضمن كثيرا من الآراء الخاطئة التي لا يقرها العلم الحاضر، شأنها في ذلك شأن جميع المؤلفات القديمة، من غربية وشرقية، ولكن القول بأنها «مجموعة أخطاء» لا يتفق مع حقائق الأمور بوجه من الوجوه. وأعتقد أن الأبحاث والدراسات المسطورة في كتابي هذا لا تترك مجالا لأدنى شك في هذا المضمار.
وأما مزاعم الأستاذ محمد فريد وجدي الأخرى فإنها تنافي ما قرره أعاظم علماء الغرب منافاة صريحة.
قال الأستاذ فريد وجدي إن مقدمة ابن خلدون ليست من علم الاجتماع في شيء، في حين أن البروفسور غاستون بوتول، الأستاذ في مدرسة الدراسات الاجتماعية العليا في باريس، خصص عدة صحائف لابن خلدون في فصل «تاريخ علم الاجتماع»، من كتابه «علم الاجتماع» المنشور سنة 1946.
وقال الأستاذ فريد وجدي إن مقدمة ابن خلدون ليست من فلسفة التاريخ في شيء، في حين أن البروفسور «توينبي » - الذي يعد أعظم فلاسفة التاريخ في العصر الحاضر - قال عنها ما يلي: «إن ابن خلدون - في المقدمة التي كتبها لتاريخه العام - قد أدرك وتصور وأنشأ فلسفة للتاريخ، هي بلا شك أعظم عمل من نوعه خلقه أي عقل في أي زمان ومكان.» •••
هذا ولإظهار مبلغ تعسف الأستاذ محمد فريد وجدي على ابن خلدون بوضوح أعظم، أنقل فيما يلي كلمة من مقالة نشرها المستشرق الفرنسي المشهور «هنري ماسه» - في المجلة الإفريقية سنة 1939:
إن مقدمة ابن خلدون تتعدى حدود الأدب العربي، لتتبوأ مكانة بين أروع الآثار الأدبية الخالدة على كل العصور والدهور؛ فإن عمق التفكير وقوة المحاكمة وسعة الاطلاع ورهافة حس الانتقاد ... التي تتجلى في ما كتبه هذا المؤلف في القرن الرابع عشر، لهي مما يحير العقول ويثير الإعجاب.
حول ابن خلدون وأوكوست كونت
لقد قلت في بحثي عن «ابن خلدون وعلم الاجتماع» [القسم الثاني: مكانة ابن خلدون في تاريخ فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع - ابن خلدون وعلم الاجتماع]، إن حق هذا المفكر العربي بلقب «مؤسس علم الاجتماع» أقوى من حق أوكوست كونت، ولكني لم أقل: «إن كونت اقتبس فكرة علم الاجتماع من ابن خلدون»؛ لعلمي بأن مقدمة ابن خلدون ظلت مجهولة لعالم التفكير الغربي حتى أواسط القرن التاسع عشر.
ولكن الأستاذ لطفي جمعة المحامي ادعى - في كتابه «تاريخ فلاسفة الإسلام» - أن أوكوست كونت كان قد اطلع على مقدمة ابن خلدون، وأنه اقتبس منها فكرة علم الاجتماع.
وهذا نص ما كتبه في هذا الصدد في الفصل المخصص لابن خلدون في الكتاب المذكور: «نحن لا نرتاب في أن أوكوست كونت وقف على مؤلف هذا الحكيم، وإن كان لم يذكره بكلمة واحدة في كتابه، واكتفى بذكر كوندورسه ومونتسكيو، ولا يمكن أن يجهل كونت فضل ابن خلدون، وقد كتب عنه شولز في المجلة الآسيوية في عام 1825، أي قبل ظهور فلسفة أوكوست كونت بسبع سنين، وكان كونت إذ ذاك في السابعة والعشرين من عمره، والمجلة المذكورة تنشر في باريس وطنه» (تاريخ فلاسفة الإسلام، ص240).
إني لا أجد في الدلائل المسرودة هنا أية وجاهة كانت.
أولا:
إن نشر المجلة الآسيوية في باريس لا يمكن أن يتخذ دليلا على اطلاع كونت عليها؛ لأنها من المجلات الاختصاصية التي لا يطالعها عادة إلا جماعة محدودة من المستشرقين.
ثانيا:
إن المقالة التي نشرها شولز في المجلة المذكورة كانت مقالة مختصرة لا تكفي لإعطاء فكرة واضحة عن مضامين مقدمة ابن خلدون، ولا شك في أن شولز نفسه لم يكن قد أدرك بعد أهمية المقدمة، من وجهة «علم الاجتماع» الذي كان لا يزال بعيدا عن أذهان المفكرين.
ثالثا:
من المعلوم أن كونت كان قد وضع خطة دراساته في رسالة نشرها سنة 1822، كما أنه قرر لنفسه - منذ تلك السنة - خطة صارمة في ما أسماه «حفظ الصحة العقلية»؛ قرر «الصيام عن المطالعة»؛ لكيلا يتأثر بما يطالعه، ولكي يسترسل في التأمل والتفكير، طليقا من كل تأثير خارجي. ولا يعقل أن يقرأ في تلك المدة ما تنشره مجلة خاصة بأبحاث المستشرقين.
رابعا:
من المعلوم أن كونت وضع أسس علم الاجتماع ضمن «أنظومة فلسفية» واسعة النطاق، تشمل جميع العلوم الأساسية، وترتبها حسب درجات إعضال مواضيعها، وتعين نظام نشوئها وفقا لهذا الترتيب. وقد قال كونت - عندما تكلم عن علم الاجتماع: «إنه كان من المستحيل أن يتأسس هذا العلم قبل أن يتأسس علم الحياة وسائر علوم الطبيعة المتقدمة عليه.» حتى إنه صرح بأنه «ما كان في استطاعة مونتسكيو أن يوجد علم الاجتماع - على الرغم من العبقرية الفذة التي أظهرها في أبحاثه - لأن علم الحياة لم يكن قد أخذ شكلا علميا بعد في زمانه.»
فلا شك في أنه لو كان اطلع على ما كان كتبه ابن خلدون قبل مدة تزيد على أربعة قرون ونصف قرن - ليس قبل تأسس علم الحياة فحسب، بل قبل تكون علمي الفيزياء والكيمياء أيضا - لما أبدى تلك النظرية، ولما تمسك بها كل ذلك التمسك.
إني أستطيع أن أقول - بناء على كل ما تقدم - إن الزعم بأن أوكوست كونت اقتبس فكرة علم الاجتماع من مقدمة ابن خلدون، لا يستند إلى أي دليل وبرهان.
وأزيد على ذلك فأقول: إن كونت لو كان اطلع على مقدمة ابن خلدون، وانتبه إلى الآراء والنظريات الاجتماعية المسرودة فيها؛ لاستطاع أن يتقدم بعلم الاجتماع إلى مدى أبعد بكثير من الذي أوصله إليه فعلا. •••
إني أعتقد أن ابن خلدون وضع أسس علم الاجتماع، وارتفع ببناء ذلك العلم ارتفاعا يستحق الإعجاب، إلا أن ذلك البناء نكب بالإهمال والنسيان، واندثر تحت رمال الزمان.
وعلم الاجتماع تأسس مرة أخرى في أوروبا على أسس جديدة تماما، مماثلة للأسس التي كان وضعها ابن خلدون، ولكنها مستقلة عنها استقلالا كليا.
أسلوب المقدمة ومفرداتها اللغوية
إن آراء أدباء وكتاب العرب المعاصرين في أسلوب المقدمة يختلف بعضها عن بعض اختلافا كبيرا؛ فبعضهم ينتقده أشد الانتقاد، في حين أن بعضهم الآخر يطريه كل الإطراء.
مثلا يقول الدكتور طه حسين في كتابه «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» ما يلي: «أسلوبه كأسلوب معاصريه، أسلوب مضمحل جدا، تكثر فيه العبارات المسجعة، والاستعارات والمقارنات التي يكثر فيها التكلف، والأغلاط في استعمال الكلمات، والخلط بين صحيح الألفاظ وعاميها، بل توجد فيه أغلاط نحوية. فقد أفلح في التعبير عن مذهب فلسفي كامل، ولكنه لم يستطع أن يسبغ على فلسفته لغة خاصة به؛ إذ كثيرا ما يعالج الفكرة بإسهاب ممل جدا، أو باختصار يدنو من الغموض» (ص28-29).
غير أن الأستاذ عبد الله عنان يرى في أسلوب ابن خلدون رأيا يخالف ذلك كل المخالفة؛ إذ يقول في مقدمة كتابه «ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري» ما يلي: «يجب أن يقرأ الشباب مقدمة ابن خلدون ويستعيدوها مرارا وتكرارا؛ لا ليعجب فقط بما حوت من رائع الفكر والبحث، ولكن أيضا ليستقي منها أساليب البيان والتعبير عن كثير من الآراء والخواطر الاجتماعية التي تجول بذهنه، وكثيرا ما يتعثر في التعبير عنها؛ ذلك أن مقدمة ابن خلدون إذا كانت ثروة لا تقدر في تراث التفكير العربي، فهي أيضا ثروة لا تقدر في تراث البيان العربي» (ص8).
كما أنه يقول في أحد فصول الكتاب المذكور ما يلي: «لابن خلدون أسلوب خاص في العرض والتعبير ، وكما أن مقدمته تمتاز بطرافة موضوعاتها، فهي أيضا تمتاز بروعة أسلوبها الأدبي الذي يجمع بين البساطة وقوة التعبير، ودقة التدليل وحسن الأداء والتناسق. وإذا كانت المقدمة مثلا أعلى للتفكير الناضج والابتكار الفائق، فهي في نظرنا أيضا مثل أعلى لحسن البيان، والفصاحة المرسلة، والعرض الشائق» (ص136).
في الواقع إن الأستاذ عنان لا ينكر أن لأسلوب المقدمة بعض النواقص؛ إذ إنه يعقب على العبارات الآنفة الذكر بالقيود التالية: «وذلك رغم ما يطرأ أحيانا على أسلوبها من ضعف في العبارة، وغرابة في التعبير، وشذوذ في اللفظ، ترجع إلى نشأة ابن خلدون البربرية، وتثقفه بآداب المغرب والأندلس، ولم تكن يومئذ في أوج قوتها.»
ومع هذا كله إنه لا يتردد في إنهاء بحثه في هذا الصدد بالعبارات التالية: «ويكتب ابن خلدون تاريخه بنفس الأسلوب القوي المرسل، وفي أحيان كثيرة يرتفع إلى ذروة القوة في التعبير، ولكنه في أحيان كثيرة يبالغ في الإيجاز والاتباع؛ فتبدو عبارته قاصرة عن بيان مقاصده، ويعتورها الغموض واللبس، أو يعتورها نوع من الركاكة والضعف، وتتخللها الألفاظ الغريبة. غير أنه دائما أستاذ موضوعه، يمتاز دائما بالبيان القوي الشائق» (ص137).
إذن نحن هنا أمام رأيين مختلفين عن أسلوب ابن خلدون في الكتابين العربيين المخصصين له؛ رأي الدكتور طه حسين، ورأي الأستاذ عبد الله عنان، فالأول يحمل على الأسلوب حملة شديدة لا هوادة فيها، والثاني يعجب بالأسلوب ويطريه، ويدعو الشبان إلى استقاء أساليب التعبير والبيان منه، على الرغم من بعض النواقص التي تبدو فيه.
فما هو وجه الصواب في هذه المسألة بين هذين الرأيين؟
إني أعتقد أن آثار «التسرع في التعميم» بادية للعيان في حكم الدكتور طه حسين في هذه القضية.
لأنه عندما يدعي بأن «أسلوب ابن خلدون أسلوب مضمحل جدا» يبرهن على رأيه هذا - أولا - بالعبارات التالية: «تكثر فيه العبارات المسجعة، والاستعارات والمقارنات التي يكثر فيها التكلف.»
في حين أن كل من يتصفح المقدمة يرى بكل وضوح أن ذلك لا ينطبق إلا على «الديباجة» وحدها؛ فإن هذه الديباجة مكتوبة فعلا بأسلوب مسجع تماما، وهي حقيقة كثيرة الاستعارات وشديدة التكلف، يختلف عدد الأسجاع المتتالية فيها من الاثنين (كما في دول وأول، أو سلطانه وشيطانه، أو مشاهير وجماهير ...) إلى الاثني عشر (كما في زاهد، محامد، شواهد، قلائد، ولائد، ساعد، مساعد، تالد، قواعد، مصاعد، فوائد، شوارد).
ومن الطبيعي أن كثرة هذه الأسجاع التي تتوالى من أول الديباجة إلى آخرها بدون انقطاع، لا تترك مجالا لتبيان المقاصد بالوضوح اللازم، حتى إنها كثيرا ما تجعلها غامضة جدا، تكاد تجردها من المعنى أيضا في بعض الأحيان.
غير أن هذه الديباجة تختلف من حيث الأسلوب عن سائر أقسام المقدمة اختلافا كليا، والحالة التي ذكرناها لا تشمل المقدمة نفسها أبدا. ويستطيع المرء أن يقرأ في المقدمة عشرات الصفحات من غير أن يعثر فيها على شيء من العبارات المسجعة والمنمقة، ومن غير أن يجد بين سطورها أثرا للسجع المقصود في العبارات، أو للتكلف والتصنع في الأسلوب، فالحكم على أسلوب الكتاب - والحالة هذه - من أسلوب الديباجة وحدها مما لا يتفق مع مقتضيات البحث العلمي بوجه من الوجوه؛ ولا سيما فإن عدد صفحات الديباجة لا يزيد إلا قليلا على واحد في المائة من مجموع صفحات الكتاب.
ومن الواضح الجلي أن الديباجة المذكورة كتبت بعد الكتاب مع عناء لفظي ولغوي طويل، وتكلف شاق وصريح، وفقا للنزعة السائدة بين الأدباء في العصر الذي عاش خلاله ابن خلدون. ومن المعلوم أن الديباجات كانت تعتبر وسيلة لإظهار براعة بهلوانية في اللعب على حبال الألفاظ؛ ولذلك كان يبذل فيها جهود شاقة للإكثار من الاستعارات، بقصد الإشارة إلى مواضيع الكتاب ومقاصده، بأساليب تكاد تكون جمبازية.
ولذلك أعتقد أن البحث في أسلوب المقدمة يتطلب التمييز بين الديباجة وبين سائر أقسام الكتاب تمييزا قاطعا.
وهذا ما يجعلني أن أميل إلى رأي الأستاذ عنان في هذا الشأن، مع علمي بأنه لا يخلو من المبالغة، وأعتقد أن أحسن وصف لأسلوب المقدمة هو القول بأنه «يتوسط بين الإجادة والقصور»، حسب ما قال ابن خلدون نفسه عن أشعاره في كتاب التعريف.
ولكني لا أشارك الأستاذ عنان في تعليله لما يطرأ أحيانا على أسلوب المقدمة من ضعف، ولما يظهر فيه «من غرابة في التعبير وشذوذ في اللفظ.»
لأن الأستاذ عنان يرجع أسباب ذلك في الدرجة الأولى إلى «نشأة ابن خلدون البربرية»، ولكن كل ما هو معلوم وثابت عن حياة ابن خلدون لا يبرر مطلقا وصف نشأته بالبربرية؛ لأنه نشأ في بيت علم، هاجر من الأندلس إلى تونس، وحافظ على مكانته العلمية جيلا بعد جيل. ومن المعلوم أن تونس نفسها كانت ولا تزال بعيدة عن البربرية.
وأما السبب الحقيقي في ذلك فيعود - على ما أعتقد - إلى أمرين مهمين؛ أولا: انحطاط الأدب في ذلك العصر بوجه عام، ثانيا - وعلى الأخص: كثرة الآراء الطريفة التي كانت تتوارد على ذهن ابن خلدون خلال كتابة المقدمة؛ تلك الآراء الطريفة كانت تتدفق وتتزاحم وتتشابك بصورة لم يبق معها مجال - في كثير من الأحيان - لصقل العبارات وتهذيبها. والتفاوت الذي يلاحظ في أسلوب بيان الفصول المختلفة إنما يرجع إلى التفاوت في ماهية المواضيع نفسها من ناحية، وفي مبلغ خضوع الكتابات إلى الصقل والتهذيب من ناحية أخرى. •••
ولكني أعتقد أن مقدمة ابن خلدون جديرة بالبحث والاقتداء من حيث المفردات والمصطلحات، أكثر مما هي جديرة بالبحث والاقتداء من حيث أسلوب البيان.
لأن المقدمة غنية جدا بالمفردات والمصطلحات، فقد دون ابن خلدون فيها كثيرا من الكلمات والتعابير التي كانت دارجة في مختلف الصنائع والمهن، كما أنه استعمل فيها كثيرا من المشتقات من غير أن يتقيد بحكم المعاجم فيها. إنه لم يتردد في استحداث الكلمات والمصطلحات عن طريق القياس، كلما شعر بحاجة إلى ذلك؛ للتعبير عما يفكر فيه تعبيرا واضحا ودقيقا. •••
ولذلك أقول إن المفردات اللغوية والاصطلاحات العلمية الواردة في مقدمة ابن خلدون جديرة بالبحث والدرس بحثا شاملا ودراسة مستفيضة.
اكتشاف ابن خلدون في البلاد الأوروبية
لقد نشر البروفسور «ناتانيل شميث» - أستاذ اللغات السامية والتاريخ الشرقي في جامعة كورنيل بالولايات المتحدة الأمريكية - كتابا عنوانه «ابن خلدون، مؤرخ واجتماعي وفيلسوف.»
يفتتح المؤلف أبحاث هذا الكتاب - المطبوع سنة 1930 - بفصل عنوانه «اكتشاف ابن خلدون »، ويستهل الكلام في هذا الفصل بالعبارات التالية: «أربعمائة سنة كانت قد انقضت على موت ابن خلدون عندما ظهرت إلى النور ونشرت - 1806 - بعض القطع من كتاباته، مترجمة إلى اللغة الفرنسية من قبل «سيلفستر دي ساسي»
De Sacy . خلال هذه القرون العديدة، كان أعظم مؤرخي العرب يكاد يكون مجهولا في أوروبا.»
إن هذا العنوان وهذه العبارات تدل على أن المؤلف كان ينظر إلى مقدمة ابن خلدون كقارة معنوية بقيت مجهولة مدة طويلة ، أو ككنز ثمين ظل مختفيا عن الأنظار مدة قرون عديدة؛ ولذلك رأى أن يتتبع تاريخ اكتشاف تلك القارة أو ذلك الكنز بكل تفصيل.
ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن المؤلف لا يخفي أسفه الشديد على تأخر هذا الاكتشاف؛ لأنه يقول في كتابه - كما ذكرنا ذلك سابقا: «إن المفكرين الذين وضعوا أسس علم الاجتماع من جديد، لو كانوا قد اطلعوا على مقدمة ابن خلدون في حينها، فاستعانوا بالحقائق التي كان قد اكتشفها، والطرائق التي كان أوجدها ذلك العبقري العربي قبلهم بمدة طويلة؛ لاستطاعوا أن يتقدموا بهذا العلم الجديد بسرعة أعظم مما تقدموا به فعلا.»
ولا حاجة إلى البيان أن الرأي الصريح الذي يبديه المؤلف بهذه الصورة يضاعف أهمية البحث الذي قام به حول «اكتشاف ابن خلدون».
ولذلك رأيت من المفيد أن أنقل فيما يلي بعض المعلومات المسرودة في الفصل المذكور، إتماما وتفصيلا لما كنت ذكرته في دراسة سابقة عن مقدمة ابن خلدون في نظر علماء الغرب. [القسم الثاني: مكانة ابن خلدون في تاريخ فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع - مقدمة ابن خلدون في نظر علماء الغرب.] ••• (1)
يعتقد «ناتانيل شميث» بأن آثار ابن خلدون كانت معلومة في إسبانيا خلال القرن الخامس عشر، ولا شك في أنه مصيب في هذا الاعتقاد؛ لأن ابن خلدون سافر إلى الأندلس مرتين، مكث فيها خلال سفرته الأولى عدة سنوات، اتصل بعدد غير قليل من أدبائها ومفكريها اتصالا مباشرا، ثم ظل يخابرهم بعد كتابة المقدمة أيضا مدة لا تقل عن عشرين عاما؛ فليس من المعقول أن تبقى أروع مؤلفاته مجهولة في الأندلس.
ولكن من المؤكد أنه لم ينتقل شيء من ابن خلدون إلى أوروبا عن طريق إسبانيا.
ويغلب على ظن البروفسور شميث أن السبب في ذلك يعود إلى إحراق الكتب العربية عند إجلاء العرب عن الأندلس.
إذ من المعلوم أن الكردينال كسيمنس كان أمر بإحراق الكتب العربية سنة 1499، وعملية الإحراق كانت تمت - تنفيذا لهذا الأمر - في ميدان باب الرملة بغرناطة.
ليس لدينا معلومات موثوقة عن عدد المجلدات التي تم إحراقها وإتلافها بهذه الصورة؛ لأن روايات المؤرخين الأوروبيين وتقديراتهم في هذه القضية يختلف بعضها عن بعض اختلافا كبيرا؛ فإن أحدهم يقول إن مجموع المجلدات التي أحرقت كان يزيد على المليون، وآخر يحصر هذا العدد في ثمانين ألفا، وآخر يزعم بأنه كان عبارة عن خمسة آلاف.
ولكن من المؤكد أن عدد المخطوطات العربية الباقية في دير إسكوريال - سنة 1583 - كان 261 فقط. ولما كان من المعلوم أن دور الكتب في الأندلس خلال العهد العربي كانت كثيرة وغنية جدا، فلا مجال للشك في أن المخطوطات العربية التي تلفت - خلال «الجلوة الكبرى» وفي أعقابها - كانت هائلة.
وهذا هو السبب في عدم انتقال أخبار ابن خلدون وآثاره إلى أوروبا عن طريق الأندلس. (2)
إن أول ذكر لاسم ابن خلدون في البلاد الأوروبية قد جرى بواسطة كتاب أحمد بن عربشاه، المشهور باسم «عجائب المقدور في أخبار تيمور»؛ فقد طبع نصه العربي سنة 1636 على يد غوليوس
Jacob Golius ، ونشرت ترجمته للفرنسية سنة 1658 على يد «بيار فاتيه»
، وترجمته إلى اللاتينية سنة 1767 على يد مانجر
Samuel Manger .
ومن المعلوم أن أحمد بن عربشاه وصف في كتابه هذا بين ما وصفه من أخبار تيمورلنك، ملاقاته مع ابن خلدون في دمشق. فكان هذا الوصف أول ذكر لاسم ابن خلدون في كتاب طبع ونشر في البلاد الأوروبية.
وأما الكتاب الثاني الذي نقل اسم ابن خلدون إلى الغرب فهو «كشف الظنون»؛ لأن الكتاب المذكور أثار اهتمام المستشرقين، فحملهم على ترجمته إلى اللاتينية من جهة، وإلى الفرنسية من جهة أخرى، ومن المعلوم أنه يذكر ابن خلدون مرات عديدة.
ولا حاجة إلى البيان أن ذكر اسم ابن خلدون بهذه الصورة العرضية في كتابين مترجمين من اللغة العربية، ما كان يكفي للفت أنظار الأوروبيين؛ ولذلك ظل ابن خلدون مغمورا ومجهولا في أوروبا حتى القرن التاسع عشر. (3)
لقد كتب بارتلمي دربلو
D’Herbelot
مقالة عن ابن خلدون في مكتبته الشرقية التي نشرت سنة 1697، ولكن المقالة المذكورة كانت مليئة بالأغلاط، وفضلا عن ذلك كانت بعيدة عن إظهار أهمية مؤلفات ابن خلدون.
ومما يبرهن على بعد المستشرقين عن تقدير أهمية ابن خلدون، أن المخطوطة رقم 769 المحفوظة في دار الكتب الملكية بباريس، كانت موصوفة في فهارس الدار كما يلي: «كتاب أخبار لابن خلدون الإفريقي المولود في حضرموت، والذي كان قاضيا في حلب عندما استولى تيمورلنك على المدينة المذكورة، مات سنة 808 في سمرقند.»
يلاحظ أن كل ما جاء في هذا الوصف مغلوط تماما؛ أولا: إن المخطوطة المذكورة لم تكن من مؤلفات ابن خلدون، بل هي من مؤلفات شهاب الدين الفاسي المقري. ثانيا: إن ابن خلدون لم يولد في حضرموت، ولم يكن قاضيا في حلب، ولم يمت في سمرقند.
وأما مقدمة ابن خلدون الحقيقية - والتي كانت محفوظة في الدار المذكورة تحت رقم 1015 - فلم تستلفت أنظار أحد من الباحثين.
ولذلك كله نستطيع أن نؤكد أن ابن خلدون لم يكن معلوما في أوروبا حتى القرن التاسع عشر. وأما الإشارات المسرودة آنفا فكانت بعيدة عن تفهيم الباحثين بأنها تعود «إلى مؤرخ عظيم من أعمق باحثي الظواهر الاجتماعية». (4)
أما أولى الترجمات عن مقدمة ابن خلدون فتعود إلى سنة 1806، حيث نشر «سيلفستر دي ساسي» ترجمة فرنسية لأبحاث البيعة وشارات الملك مع الفقرة الأخيرة من الديباجة، وقد نشر المشار إليه بعد ذلك سنة 1810 أيضا ترجمة بعض الأبحاث الأخرى، ولكن جميع تلك الأبحاث لم تكن مما يظهر أهمية المقدمة إظهارا كافيا.
وأما أول من قدر أهمية المقدمة حق التقدير، ولفت أنظار الباحثين إليها فكان المؤرخ المستشرق النمساوي المشهور «هاممر بورشتغال». قد نشر سنة 1812 رسالة باللغة الألمانية عن «اضمحلال الإسلام بعد القرون الثلاثة الأولى للهجرة»، أشار فيها إلى نظريات ابن خلدون، وخلع عليه لقب «مونتسكيو العرب»
ein arabische Montesquieu .
إن ما قاله «هاممر» عن ابن خلدون في رسالته هذه أثار استغراب المستشرقين، ومع هذا حملهم على زيادة الاهتمام بالمقدمة، وصارت تتوالى ترجمة المقتطفات منها، ونشر الأبحاث عنها.
وقد نشر «هاممر» نفسه سنة 1822 عناوين فصول الأبواب الخمسة الأولى من المقدمة، استنادا إلى ما اطلع عليه في إسطنبول، وبعد ذلك بسنتين نشر «غارسن دي تاسي» عناوين فصول الباب السادس أيضا، استنادا إلى المخطوطة التي عثر عليها في دار الكتب الملكية بباريس.
وفي سنة 1825 قام «شولتز» بدعاية قوية لمقدمة ابن خلدون، وتمنى أن يراها «مترجمة ترجمة كاملة».
بعد ذلك كثرت الأبحاث والترجمات عن ابن خلدون في مختلف البلاد الغربية بمختلف اللغات الأوروبية.
ولكن قلة «مخطوطات المقدمة» المحفوظة والمعلومة حينئذ في دور الكتب الأوروبية، كانت تحول دون توسع تلك الأبحاث التوسع اللازم.
ولذلك نستطيع أن نقول إن قيمة ابن خلدون ومقدمته لم تظهر للأوروبيين الظهور الكافي، إلا بعد أن طبع «كاترمير» نصها العربي، وجعلها بذلك تحت متناول أيدي المستشرقين، ولا سيما بعد أن نشر «دو سلان» ترجمتها الفرنسية، وجعلها بذلك تحت متناول جميع العلماء والباحثين، ولو كانوا من غير المستشرقين.
ومن المعلوم أن طبع النص العربي ونشر الترجمة الفرنسية كان تم خلال الربع الثالث من القرن التاسع عشر، بين سنة 1857 وسنة 1868. •••
يعطينا البروفسور شميث في فصله عن اكتشاف «ابن خلدون» تفاصيل كثيرة عما تم ترجمته من تاريخ ابن خلدون ومن مقدمته، وعما نشر من الأبحاث حول التاريخ والمقدمة بمختلف اللغات الغربية.
إني لا أرى لزوما إلى نقل تلك التفاصيل، إلا أني أرى من الضروري أن أقول:
إن اكتشاف ابن خلدون قد تم بالصورة التي لخصتها آنفا، إلا أن فرز وجرد وإظهار كل ما يضمه هذا الكنز القديم من الآراء والملاحظات الثمينة لما يتم بعد، وإنه لا يزال في حاجة إلى المزيد من البحوث والجهود.
ولا أراني في حاجة إلى القول بأن المساهمة في هذا الفرز والجرد والبحث كانت من أهم أغراض هذه الدراسات.
تأثير ابن خلدون في مؤرخي الأتراك
ومفكريهم
لقد قلت في بحث سابق «إن مقدمة ابن خلدون وجدت أكبر الصدى، وأثرت أشد التأثير في مؤلفات المؤرخين العثمانيين» [القسم الأول: نظرات وملاحظات عامة - طرافة المقدمة وتأثيرها].
وقد قدم أحد أساتذة جامعة إسطنبول - وهو البروفسور فندق أوغلو ضياء الدين فخري - إلى مؤتمر المستشرقين الثاني والعشرين المنعقد سنة 1951 تقريرا حول هذا الموضوع، عنونه باللغة الفرنسية:
L’Ecole Ibn-Haldounienne en Turquie
أي «المدرسة الابن خلدونية في تركيا»، ثم نشر ترجمة التقرير إلى التركية تحت عنوان «ابن خلدون في تاريخ التفكير التركي».
استهل الأستاذ ضياء الدين فخري تقريره هذا ببعض الملاحظات حول مساهمة الأتراك في تكوين الثقافة الإسلامية - ردا على بعض العبارات الواردة في كتاب عربي معاصر - ثم ذكر أسماء المؤلفين والمؤرخين العثمانيين الذين تأثروا بابن خلدون، وقال عنهم إنهم «ابن خلدونيين»، ونعت مذهبهم ب «ابن خلدونية» (ابن خلدونيزم). •••
ورأيت من المفيد أن أنقل فيما يلي بعض المعلومات عن هؤلاء، حسب ما جاء في التقرير المذكور: (أ)
إن أول من اهتم بابن خلدون وبمقدمته بين العلماء الأتراك كان «مصطفى بن عبد الله» المعروف في الغرب بلقب «حاجي خليفة»، وفي الشرق باسم «كاتب جلبي»، وهو من رجال النصف الأول من القرن السابع عشر (1609-1675).
اشتهر المشار إليه - أكثر ما اشتهر - بموسوعته الضخمة «كشف الظنون في أسماء العلوم والفنون»، ومما لا شك فيه أن المصدر الأساسي للموسوعة المذكورة هو الباب السادس من مقدمة ابن خلدون.
وعندما يستعرض المؤلف كتب التواريخ يذكر تاريخ ابن خلدون، ويقول: «وهو كبير عظيم النفع.» وعندما يعرف التاريخ يقتفي أثر ابن خلدون، ولكنه يضيف إلى ذلك ما يعتقده في فائدة التاريخ العملية، كما يتضح من النص الوارد في كشف الظنون: «وعلم التاريخ هو معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وأنسابهم ووفياتهم، إلى غير ذلك، وموضوعه أحوال الأشخاص الماضية، وفائدته العبرة بتلك الأحوال، والنصح بها، وحصول ملكة التجارب بالوقوف عن تقلبات الزمن؛ ليحترز عن أمثال ما نقل من المضار.»
هذا ولمؤلف كشف الظنون ثلاثة كتب خاصة بالتاريخ؛ أسمى اثنين منها «فذلكة التاريخ»، والثالث «تقويم التواريخ».
يبدأ كتاب الفذلكة ببحث عن ماهية التاريخ، يقتفي في ذلك أثر ابن خلدون تمام الاقتفاء.
وأما كتاب «تقويم التواريخ» فينتهي ببعض الملاحظات السياسية، يقول المؤلف - في آخرها: «إن تفاصيل هذه المعلومات موجودة في مقدمة ابن خلدون.» (إن كشف الظنون مكتوب باللغة العربية، وكذلك الكتاب الأول من فذلكة التاريخ.) (ب)
مصطفى نعيما من أشهر مؤرخي الدولة العثمانية، عاش في النصف الأخير من القرن السابع عشر، ومات سنة 1716.
وتاريخه المعروف باسم «تاريخ نعيما» مصدر بمقدمة مستلهمة من ابن خلدون.
يشير نعيما إلى «التاريخ الكبير الذي ألفه ابن خلدون المغربي» باسم «عنوان العبر»، ويقول: «إن مقدمة هذا الكتاب وحدها» بمثابة «كنز لا قعر له، ومليء بجواهر العلوم ولآلئ الحكم.»
يذكر نعيما في مقدمة تاريخه هذا نظرية ابن خلدون في الأطوار الخمسة، ولكنه يقول، بعد شرح الطور الخامس: «إن الرجال العظام يستطيعون أن يؤثروا في هذا الطور الخامس، وأن يخلصوا الهيئة الاجتماعية من الاضمحلال.» (ج)
المؤرخ «أحمد بن لطف الله» الذي عرف بلقب «منجم باشي (رئيس المنجمين)» كان معاصرا لنعيما السالف الذكر، عاش في النصف الأخير من القرن السابع عشر، ومات سنة 1702.
كتب تاريخه المشهور «جامع الدول» باللغة العربية، صدره بمقدمة مستلهمة من ابن خلدون، ونقل فيها بعض عباراته بنصوصها الأصلية. مثلا عندما تكلم عن أهم أسباب الخطأ عند المؤرخين، قال: «هو الذهول عن طبيعة العمران وأصول الاجتماع الإنساني على ما فصله ابن خلدون.» (د)
محمد صاحب، المعروف بلقب «بيري زاده»، عاش في الربع الأخير من القرن السابع عشر، والنصف الأول من القرن الثامن عشر (1674-1749).
إنه تبوأ مقام «المشيخة الإسلامية» في عهد السلطانين أحمد الثالث ومحمود الأول.
كان من أشد المعجبين بمقدمة ابن خلدون، وإعجابه هذا حمله على ترجمتها إلى اللغة التركية؛ «لتعم الاستفادة منها».
وعندما تكلم عن مؤلف المقدمة - في هذه الترجمة - قال عنه: «المؤرخ ذو الفنون، العلامة ابن خلدون، من فحول المغاربة ... ولي الدين عبد الرحمن الحضرمي، أحيا فن التاريخ ورفع شأنه.»
ولا حاجة إلى البيان أن هذه الترجمة ساعدت على انتشار آراء ابن خلدون بين الأتراك مساعدة كبيرة.
ظلت ترجمة بيري زاده مخطوطة حتى سنة 1857، حيث طبعت بمطبعة بولاق.
1 (ويقول البارون دو سلان، مترجم المقدمة إلى الفرنسية: إنه عندما علم بوجود نسخة مخطوطة من الترجمة التركية في دار الكتب الملكية ببرلين، كلف أحد أصدقائه باستنساخها. وإنه استفاد منها استفادة كبيرة، على الرغم من وصولها إليه بعد إنجاز ترجمة قسم كبير من المقدمة.) (ه)
أحمد جودت باشا، من أرقى وأشهر علماء الأتراك ومؤرخيهم الذين نبغوا خلال القرن التاسع عشر (1822-1895).
كان المؤرخ الرسمي للدولة العثمانية، وكان يقول إن أشد من أثروا في «تكوينه الفكري» هم: ميشله وتين من الغربيين، وابن تيمية وابن خلدون من الشرقيين.
ولفرط إعجابه بابن خلدون أتم الترجمة التي كان بدأها بيري زاده قبل مائة وثلاثين عاما. ترجم جميع فصول الباب السادس، وفضلا عن ذلك أضاف إليها كثيرا من الشروح والمعلومات، يبدؤها بقوله «للمترجم»، ويختمها بقوله «انتهى كلام المترجم.»
ويفهم مما ورد في آخر الكتاب أن جودت باشا أتم الترجمة سنة 1858، إلا أن طبعها لم يتيسر إلا سنة 1860. (و)
ويجب أن نضيف إلى ما سبق ذكره مؤرخين آخرين كانا من رجال القرن التاسع عشر، وهما: «خير الله أفندي» (1817-1866)، وعبد الله صبحي باشا (1818-1886).
كان خير الله أفندي أول المؤرخين العثمانيين الذين اتصلوا بالتواريخ والمصادر الغربية، سمى تاريخه الضخم «مفتاح العبر»، وصدره بمقدمة تكلم فيها عن آراء ابن خلدون في العصبية وفي أطوار الدول، وقال إنها لا تنطبق على أحوال الدول الأوروبية، وصرح بأن الدول المذكورة لم تكن سريعة الزوال مثل الدول الآسيوية.
وأما صبحي باشا فقال عن تاريخ ابن خلدون إنه: «كنز دقائق على كل شيء فائق»، ومع هذا رأى أنه «لا يغني من يود الاطلاع على التفاصيل»؛ ولذلك إنه يحتاج إلى «تكميل». وكتب تاريخه لتطمين هذا الاحتياج، وسماه «تكملة العبر»، وقصد بذلك أنه كتبه «تكملة» لكتاب العبر الذي كان ألفه ابن خلدون. •••
وبعد هذه المعلومات التي اقتبستها عن التقرير الآنف الذكر، أرى أن أضيف إلى ذلك بعض المعلومات عن تأثير مقدمة ابن خلدون في كتاب الأتراك المعاصرين: (1)
إن الأستاذ «عبد الرحمن شرف» - الذي صار آخر المؤرخين الرسميين للدولة العثمانية - كان نشر كتابا مدرسيا عنوانه «تاريخ الدولة العلية العثمانية».
وفي هذا الكتاب ذكر نظرية ابن خلدون في أعمار الدول - بمناسبة سرد حوادث «فاصلة السلطنة» التي أعقبت عهد بايزيد الأول رابع سلاطين آل عثمان - وقال: إن اضمحلال الدولة بعد السلطان الرابع، وانقسامها بين أولاده، كان آخر شاهد على صحة نظرية ابن خلدون. ولكن إعادة تأسيس السلطنة من جديد، واستمرارها بعد ذلك - منذ عهد مؤسسها الثاني محمد جلبي - صارت أول واقعة خالفت النظرية المذكورة. (ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن نظرية ابن خلدون في أعمار الدول وأطوارها، هي التي كانت استلفتت أنظار مؤرخي الأتراك أكثر من كل شيء آخر، كما أن هؤلاء المؤرخين - مثل غيرهم الكثيرين - لم ينتبهوا إلى ما ورد في المقدمة نفسها عن قيود وتحديدات على هذه النظرية.) (2)
إن جامعة إسطنبول تهتم بابن خلدون ونظرياته اهتماما بالغا؛ كليات الآداب والاقتصاد والحقوق، تخصص في دروسها ومحاضراتها حصة لا بأس بها لمقدمة ابن خلدون.
وقد نشر الأستاذ ضياء الدين فخري - كاتب التقرير الذي أشرنا إليه آنفا - عدة كتب ورسائل ومقالات عن ابن خلدون، وآراء ابن خلدون، نذكر أهمها فيما يلي:
كتاب عن «ابن خلدون، حياته وآثاره»، بالاشتراك مع أستاذ جامعي آخر هو البروفسور حلمي ضيائو لكن (وكان الغرض من تأليف ونشر هذا الكتاب تعريف ابن خلدون إلى طبقة المثقفين في البلاد).
رسالة في آراء ابن خلدون الحقوقية.
كتاب عنوانه: مفهوم التاريخ ومنهاجه عند ابن خلدون.
ورسالة في نظريات المعرفة والتاريخ عند ابن خلدون.
وأخرى في فلسفة ابن خلدون. (3)
إن مقدمة ابن خلدون أثارت اهتمام بعض الطلاب أيضا، وحملتهم على اتخاذ أبحاثها موضوعا لرسالاتهم الجامعية.
وقد ناقشت كلية الآداب وقبلت سنة 1945-1946 الرسالة التي قدمها «يوسف دميرقول» عن «فلسفة التاريخ، عند ابن خلدون».
كما أنها ناقشت وقبلت سنة 1947-1948 الرسالة التي قدمها «فخري باشر» عن «العامل الجغرافي عند أرسطو وابن خلدون وراتزل».
نقد كتاب البروفسور غاستون بوتول
إن البروفسور غاستون بوتول
Gaston Bouthoule
الأستاذ في مدرسة الدراسات الاجتماعية العليا بباريس، من أشد العلماء اهتماما بمقدمة ابن خلدون.
إنه نشر سنة 1930 كتابا عن «ابن خلدون، وفلسفته الاجتماعية»، وكتب سنة 1934 مقدمة قيمة للطبعة الثانية من ترجمة مقدمة ابن خلدون للغة الفرنسية. وعندما نشر كتابه في «علم الاجتماع» سنة 1946، خصص فيه لابن خلدون صحائف عديدة من فصل «تاريخ علم الاجتماع»، ثم ذكره أكثر من عشر مرات في مختلف فصول الكتاب بمختلف المناسبات.
وعندما نشر كتابه في «اجتماعيات الحروب» سنة 1951، أشار إلى آراء ابن خلدون في الحروب خلال مختلف الأبحاث.
وعندما نشر كتيبه في «تاريخ علم الاجتماع» سنة 1950 - في كليات «ماذا أعلم» الفرنسية - خصص لابن خلدون صحائف عديدة.
وبهذه الصور المختلفة ساعد على إشاعة ذكر ابن خلدون بين علماء الاجتماع من ناحية، وبين هواة العلم والأدب من ناحية أخرى.
إني أعتقد - لذلك كله - أن البروفسور بوتول يستحق التقدير على اهتمامه المتواصل بابن خلدون وبمقدمة ابن خلدون.
ولكن تقديري هذا لا يمنعني من انتقاده على بعض الآراء الخاطئة التي أبداها في كتابه عن ابن خلدون. (1) ابن خلدون والقدرية
يزعم البروفسور بوتول أن ابن خلدون كان من القدريين
Fatalistes ، وذلك يعني أنه ممن يعتقدون أن الأمور تحدث بحكم القضاء والقدر الذي لا يتغير.
إني أعتقد أن هذا الزعم يخالف حقائق الأمور مخالفة كلية؛ فإن كل من يدرس «المقدمة» بنظرة منصفة ومحايدة - مجردة عن النزعات والآراء القبلانية - يضطر إلى التسليم بأن نظريات ابن خلدون بعيدة عن نزعة القدرية بعدا كبيرا؛ لأنه لم يقل في أبحاثه «إن هذه الأمور تحدث؛ لأن ذلك كان في لوحة القدر»، بل إنما يقول دائما «إن هذه الأمور تحدث على هذا المنوال من جراء طبيعة الأشياء»، أو - بتعبير آخر - «بسبب الترتيب الطبيعي للأشياء.»
إن موقف ابن خلدون في هذا الشأن يشبه تمام الشبه مواقف العلماء والحكماء الحديثين، أمثال «هيبوليت تين»، و«إميل دوركهايم». إنه يقول - مثل هؤلاء - «إن كل حادثة من الحوادث إنما هي نتيجة طبيعية لعلل وأسباب معينة »، وبتعبير آخر: «إن الحادثات تتعين بصورة حتمية بالحوادث والأسباب السابقة لها». ومن المعلوم أن هذا الموقف الفكري والفلسفي يعرف باسم ال «حتمانية»
Déterminisme ، ويعتبر أس الأساس لجميع الأبحاث العلمية، وهو يختلف عما يسمى باسم «القدرية»
Fatalisme
اختلافا جوهريا.
وإني أظن ظنا قويا أن غاستون بوتول إنما انجرف إلى هذا الزعم الخاطئ متأثرا بآراء بعض المستشرقين الذين ذهبوا إلى أن «فكرة السببية التي تتجلى في مقدمة ابن خلدون، إنما هي مستمدة من فكرة القضاء والقدر والقسمة التي تكون أساس اللاهوت الإسلامي». وأما حجة هؤلاء في حكمهم هذا فهي الآيات القرآنية التي ينتهي بها كل فصل من فصول المقدمة.
ولكني أعتقد أن الدراسة المنشورة في هذا الكتاب تحت عنوان «التفكير والإيمان، العقل والنقل»، تبرهن على خطأ هؤلاء المستشرقين برهنة قاطعة. إن ابن خلدون لم يستخرج آراءه ونظرياته من تلك الآيات القرآنية كما ذهب إليه هؤلاء المستشرقون، إنما استنبطها من استقراء الوقائع والحوادث التي اطلع عليها ولاحظها ملاحظة دقيقة. فإننا إذا استثنينا الفصول التي تحوم مواضيعها حول المسائل الدينية والشرعية مباشرة؛ وجدنا أن ابن خلدون يستند في جميع أبحاثه وتعليلاته على الدلائل العقلية والمنطقية وحدها. وأما الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فإنه لا يذكرها عادة إلا بعد الانتهاء من التفكير والتعليل [القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته - التفكير والإيمان].
ولو حذفت تلك الآيات لما انقطعت سلسلة المحاكمات المسرودة في الفصل، ولما تغير شيء من نتائجها المنطقية.
ولذلك كله أقول بلا تردد: إن اتهام ابن خلدون ونظرياته بالقدرية، يكون تهمة جائرة لا تستند إلى أي دليل معقول.
إذا كان ابن خلدون قد قال عن كثير من الأمور الاجتماعية «إنها تقع حتما»، فقد قال مثل ذلك في كثير من الأمور، كثيرون من علماء الاجتماع الحديثين كما ذكرت ذلك آنفا.
إن غاستون بوتول لم يقل عن هؤلاء إنهم قدريون، فبأي حق يقول عن ابن خلدون إنه كان قدريا؟! (2) ابن خلدون وخرافة العمالقة
ولكن البروفسور بوتول يوجه إلى مؤلف المقدمة تهمة أخرى، أشد خطرا من التهمة المذكورة آنفا.
يقول في كتابه عن «ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية»، إنه كان يعرف عن التاريخ القديم شيئا قليلا جدا، وفكرته عن التاريخ المذكور كانت تلتقي أحيانا بسذاجة الخرافات الشعبية؛ لأنه كان يعتقد - مثل العوام - أن الآثار الرومانية من مباني العمالقة.
1
يكرر بوتول رأيه هذا في الكلمة التمهيدية التي كتبها لترجمة المقدمة الفرنسية، ويقول: «إن ضعف المحاكمة الذي أظهره ابن خلدون في هذا الشأن، مما يدعو إلى الاستغراب.
2
إني أسلم بأن ابن خلدون ما كان يعرف شيئا كثيرا عن التاريخ القديم بوجه عام، وعن تاريخ الرومان بوجه خاص، ولكني لا أسلم أبدا بأنه كان يعتقد بأن الآثار الرومانية من مباني العمالقة، وأستغرب كل الاستغراب كيف يقدم البروفسور بوتول على اتهام ابن خلدون بما هو براء منه كل البراءة، في هذه القضية؟
في الواقع إن ابن خلدون ذكر الروايات الشائعة بين الناس في هذا الشأن في أربعة فصول مختلفة من المقدمة، ولكنه لم يذكر تلك الروايات إلا ليفندها، ويبرهن على بطلانها. إنه نعتها بالأوهام الباطلة، والأخبار العريقة في الكذب، وقال عنها: «هذا رأي لا وجه له إلا التحكم، وليس له علة طبيعية ولا سبب برهاني» (ص178)، كما قال: «هذا رأي ولع به القصاص عن قوم عاد وثمود» (ص345).
وفضلا عن ذلك إنه تكلم عن العوامل النفسية التي أشاعت أمثال هذه الأوهام في أذهان الناس، وشرح الوسائل التي ساعدت على تشييد المباني العظيمة، مثل الأهرام المصرية، والقناطر الرومانية، وقال بصراحة تامة: إن تلك المباني تيسر تشييدها: (أ)
لأن البناة استعملوا الهندام والمخال التي تضاعف قوة الإنسان. (ب)
ولأن قوة الدولة التي أقدمت على تشييدها كانت ساعدت على حشد عدد كبير من الفعلة لإنجاز أعمال البناء. (ج)
ولأن أعمال الإنشاء استغرقت سنين طويلة، شملت أحيانا عهود عدة ملوك، توالوا على العرش، وواصلوا العمل لإنجاز ما كان بدأ به أسلافهم.
إن رأي ابن خلدون في هذه الأمور صريح كل الصراحة.
ولإزالة الشكوك التي قد تثيرها كلمات البروفسور بوتول في بعض الأذهان، أنقل فيما يلي بعض الفقرات من مقدمة ابن خلدون، بنصوصها الأصلية:
في الفصل الذي يقرر «أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها»، يقول ابن خلدون - بعد ذكر بعض المباني والهياكل العظيمة القديمة - ما يلي: «واعلم أن تلك الأفعال للأقدمين إنما كانت بالهندام، واجتماع الفعلة وكثرة الأيدي عليها؛ فبذلك شيدت تلك المصانع والهياكل. ولا تتوهم ما تتوهمه العامة أن ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها، فليس بين البشر في ذلك كبير بون ، كما نجد بين الهياكل والآثار.» «ولقد ولع القصاص بذلك وتغالوا فيه، وسطروا عن قوم عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخبارا عريقة في الكذب، من أغربها ما يحكون عن عوج ابن عناق، رجل من العمالقة الذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشام، زعموا أنه لطوله كان يتناول السمك من البحر ويشويه في الشمس» (ص177). «وإنما مثار غلطهم في هذا أنهم استعظموا آثار الأمم، ولم يفهموا حال الدول في الاجتماع والتعاون، وما يحصل بذلك وبالهندام من الآثار العظيمة، فصرفوه إلى قوة الأجسام وشدتها» (ص178).
وفي الفصل الذي يقرر «أن المدن العظيمة والهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير» يقول ابن خلدون ما يلي: «إن تشييد المدن إنما يحصل باجتماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم، فإذا كانت الدولة عظيمة متسعة الممالك، حشر الفعلة من أقطارها، وجمعت أيديهم على عملها، وربما استعين في ذلك في أكثر الأمر بالهندام الذي يضاعف القوى والقدر في حمل أثقال البناء؛ لعجز القوة البشرية وضعفها عن ذلك» (ص344). «وربما يتوهم كثير من الناس إذا نظر إلى آثار الأقدمين ومصانعهم العظيمة، فيتخيل لهم أجساما تناسب ذلك، ويغفل عن شأن الهندام والمخال وما اقتضته في ذلك الصناعة الهندسية» (ص345). «وأكثر آثار الأقدمين لهذا العهد تسميها العامة عادية بالنسبة إلى قوم عاد؛ لتوهمهم أن مباني عاد ومصانعهم إنما عظمت لعظم أجسامهم وتضاعف قدرهم. وليس كذلك؛ فقد نجد آثارا كبيرة من آثار الذين تعرف مقادير أجسامهم من الأمم، وهي في مثل ذلك العظم أو أعظم.» «وإنما هذا رأي ولع به القصاص عن قوم عاد وثمود والعمالقة» (ص345).
وفي الفصل الذي يقرر «أن الهياكل العظيمة جدا لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة»، يكرر ابن خلدون رأيه في هذه الأمور، ويقول: «وقد تكون للمباني في عظمها أكثر من القدر مفردة أو مضاعفة بالهندام كما قلناه، فيحتاج إلى معاودة قدر أخرى مثلها في أزمنة متعاقبة إلى أن تتم. فيبتدئ الأول منهم بالبناء، ويعقبه الثاني والثالث، وكل واحد منهم قد استكمل شأنه في حشر الفعلة وجمع الأيدي، حتى يتم القصد من ذلك ، ويكمل ويكون ماثلا للعيان.» «وانظر في ذلك ما نقله المؤرخون في بناء سد مأرب ... ومثل هذا ما نقل في بناء قرطاجنة وقناتها الراكبة على الحنايا العادية، وأكثر المباني العظيمة في الغالب هذا شأنها» (ص346).
وفي فصل صناعة البناء، يقول ابن خلدون ما يلي: «فإن الأجرام العظيمة إذا شيدت بالحجارة الكبيرة تعجز قدر الفعلة عن رفعها إلى مكانها من الحائط؛ فيتحيل لذلك بمضاعفة قوة الحبل بإدخاله المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية، تصير الثقيل عند معاناة الرفع خفيفا؛ فيتم المراد من ذلك بغير كلفة. وهذا إنما يتم بأصول هندسية معروفة متداولة بين البشر. وبمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد التي يحسب أنها من بناء الجاهلية، وأن أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسماني، وليس كذلك، وإنما تم لهم ذلك بالحيل الهندسية كما ذكرناه» (ص409). •••
يلاحظ أن مضامين جميع هذه الفقرات تدل على عكس ما ذهب إليه بوتول. إن ابن خلدون لم يشارك العوام في الخرافات القائلة بأن الآثار الرومانية من مباني الجان، بل بعكس ذلك انتقد تلك الخرافات بكل صراحة، وبشدة متناهية.
لذلك يجدر بنا أن نتساءل: كيف ولماذا ذهب البروفسور بوتول إلى ما ذهب إليه في هذا الصدد، على الرغم من صراحة كتابات ابن خلدون حول هذه القضية؟
إني لا أستطيع أن أفسر ذلك إلا بما يلي؛ عندما وقع نظر البروفسور بوتول على خرافة العمالقة في أحد فصول المقدمة، لم يكلف نفسه عناء قراءة الفصل بكامله؛ ولذلك لم يطلع على ما كتبه ابن خلدون في نقد وتجريح تلك الخرافات، فتوهم أنه كان يعتقد بصحتها؛ ولهذا السبب سجل على ابن خلدون تلك التهمة الباطلة، على الرغم من هذه الصراحة الصارخة. (إني شرحت هذا الخطأ العظيم في بلاغ قدمته إلى «المؤتمر الأممي الخامس عشر لعلم الاجتماع»، الذي انعقد صيف سنة 1952، وذكرت فيه الصحائف التي تقع فيها نصوص ابن خلدون في مجلدات الترجمة الفرنسية للبارون دو سلان.) (3) ابن خلدون وأوروبا النصرانية
يوجد في كتاب البروفسور بوتول نقطة هامة أخرى تستوقف النظر ، وتستلزم البحث والنقاش.
فإنه يزعم بأن ابن خلدون لم يهتم أبدا بما يخرج عن نطاق العالم الإسلامي والديانة الإسلامية، مستحقرا كل ما يعود إلى أوروبا وإلى النصرانية.
يقول بوتول: «إن ابن خلدون يلتزم السكوت عن أمور أوروبا والنصرانية سكوتا يكاد يكون مطلقا، وفي فقرة قصيرة من تاريخه العام يتطرق إلى تشكيلات البابوية، ولكنه يعتذر على الفور عن التكلم في أمر يخالف الدين الإسلامي. إنه لا يجعل هذه الأمور موضوع ملاحظة أو مقارنة. وعندما يقرأ الباحث مقدمة ابن خلدون يلوح له أن مؤلفها يجهل حتى وجود تلك الأمور.»
لا يرى بوتول إمكانا لتعليل هذه الحالة بجهل ابن خلدون؛ لأنه يعرف أن مؤلف المقدمة كان اتصل بعالم النصرانية اتصالا فعليا: «إنه مكث في مملكة نصرانية، في بلاط بطرس القاسي، حتى إنه استطاع أن يحمل القوم هناك على تقدير مزاياه؛ فإن الملك المشار إليه قدم له منصبا، ووعده بإعادة ما كان لأجداده من أملاك في إشبيلية.» ولذلك يقول بوتول: «يتحتم علينا أن نسلم بأن ابن خلدون كان يشارك سائر علماء الشرق في النزعة التي سادت عليهم، والتي راحت تبرز أكثر فأكثر بمرور الأيام، هذه النزعة هي عدم الاهتمام المطلق بكل مظاهر الفكر والعلم التي لا تكون من نوع فكرهم وعلمهم. هذا استحقار ربما كان له ما يبرره في أوائل القرون الوسطى، ولكنه دام، حتى عندما أصبح خاليا عن كل أنواع المبررات» (ص18 من كتاب بوتول).
Gaston Bouthoul-Ibn Khaldoun, Sa philosophie sociale, page 18.
هذا ما يذهب إليه البروفسور بوتول، ولكني أعتقد أن نصوص المقدمة والتاريخ لا تؤيد هذه المزاعم بوجه من الوجوه.
لأن ابن خلدون يذكر البلاد الأوروبية والنصرانية في كثير من فصول المقدمة بمناسبات متنوعة، وذكره هذا لم يكن قط مقرونا باستخفاف واستحقار، بل كثيرا ما يأتي مشفوعا بإطراء وإعجاب، كما يتضح من الأمثلة التالية: (أ)
في فصل الجغرافيا والأقاليم يذكر ابن خلدون مدينة القسطنطينية بقوله: «المدينة العظيمة التي كانت كرسي القياصرة، وبها من آثار البناء والفخامة ما كثرت عنه الأحاديث» (ص74). (ب)
وفي الفصل نفسه يقول عن روما ما يلي: «مدينة روما العظمى، كرسي ملك الفرنجة ومسكن البابا، بطركهم الأعظم، وفيها من المباني الضخمة، والهياكل الهائلة، والكنائس العادية ما هو معروف الأخبار. ومن عجائبها النهر الجاري في وسطها من الشرق إلى الغرب، مفروش قعره ببلاط النحاس. وفيها كنيسة بطرس وبولس من الحواريين، وهما مدفونان بها» (ص73). (ج)
ويقول في فصل الفلسفة ما يلي: «بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض روما وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق، وأن رسومها هناك متجددة، ومجالس تعليمها متعددة، ودواوينها جامعة متوفرة، وطلبتها متكثرة» (ص481). (د)
وفي الفصل الذي يقرر «أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه والفقر مثل الأمصار» يقول ما يلي: «اعتبر ذلك بأقطار ... وراء البحر الرومي، لما كثر عمرانها، كيف كثر المال فيهم، وعظمت دولتهم، وتعددت مدنهم وحواضرهم، وعظمت متاجرهم وأحوالهم. فالذي نشاهده لهذا العهد من تجار الأمم النصرانية الواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم واتساع أحوالهم، أكثر من أن يحيط به الوصف» (ص366). (ه)
وفي الفصل الذي يحوم حول الدفائن والكنوز يقول ما يلي، بعد انتقاد بعض الآراء الشائعة بين الناس عن مصير ثروة القدماء: «فإن نقص المال في المغرب وإفريقية، فلم ينقص في بلاد الصقالبة والإفرنج، وإن نقص في مصر والشام، فلم ينقص في الهند والصين» (ص388). (و)
وفي فصل شارات الملك والسلطان، يقول ابن خلدون ما يلي: «وأما الجلالقة لهذا العهد من أمم النصرانية بالأندلس، فأكثر شأنهم اتخاذ الألوية القليلة، ذاهبة في الجو صعدا، ومعها قرع الأوتار من الطنابير ونفخ الغيطات، يذهبون فيها مذهب الغناء وطريقه في مواطن حروبهم، هكذا ييلغنا عنهم وعن ما ورائهم من ملوك العجم» (ص260). (ز)
فصل في الحروب يقرر ابن خلدون أن قتال الفرنج يكون على طريق الزحف بوجه عام، وأن أمة الفرنج متعودة للثبات في الحرب، وأن ملوك المغرب صاروا يتخذون طائفة من الإفرنج في جندهم؛ للاستفادة من ثباتهم في الصفوف خلال القتال» (ص274). (ح)
وفي فصل الأساطيل يتكلم ابن خلدون طويلا عن المنافسة التي قامت بين أساطيل المسلمين وبين أساطيل الأمم النصرانية، ويقرر أن أساطيل الأمم المذكورة تفوقت - في آخر الأمر - على أساطيل المسلمين، ويقول: «رجع النصارى إلى دينهم المعروف من الدربة» في البحر، «والمران عليه، والبصر بأحواله، وغلب الأمم في لجته على أعواده، وصار المسلمون فيه كالأجانب» (ص253). (ط)
في فصل المساجد والبيوت العظيمة في العالم تفاصيل غير قليلة عن كيفية بناء كنيسة القيامة وبيت لحم، منها قوله: «ثم أخذ الروم بدين المسيح - عليه السلام - ودانوا بتعظيمه، ثم اختلف حال ملوك الروم في الأخذ بدين النصارى تارة، وتركه أخرى، إلى أن جاء قسطنطين وتنصرت أمه هيلانة، وارتحلت إلى القدس في طلب الخشبة التي صلب عليها المسيح بزعمهم» (ص355). (ي)
وفي المقدمة فصل كامل في «شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية، واسم الكوهن عند اليهود» (ص230-235)، وفي هذا الفصل معلومات أساسية عن نشوء المذاهب المختلفة عند النصارى.
ومما تجب ملاحظته أن الفصل المذكور يأتي عقب فصول الخلافة وإمارة المؤمنين، ويتضمن مقارنة بين الخلافة في الإسلام، وبين رئاسة الملة عند النصارى.
يبدأ الفصل بتقرير أمور تشمل جميع الأديان السماوية: «اعلم أن الملة لا بد لها من قائم عند غيبة النبي، يحملهم على أحكامها وشرائعها، ويكون كالخليفة فيهم للنبي فيما جاء به من التكاليف. والنوع الإنساني - أيضا - بما تقدم من ضرورة السياسة فيهم للاجتماع البشري، لا بد لهم من شخص يحملهم على مصالحهم، ويزعهم عن مفاسدهم بالقهر، وهو المسمى الملك» (ص230).
ثم يعقب ذلك مقارنة بين الملة الإسلامية والملل الأخرى، من جهة الرياسة الدينية والرئاسة السياسية؛ إن دعوة الدين الإسلامي تشمل جميع بني البشر وتتطلب الجهاد؛ ولذلك ترتبط الرئاسة الدينية بالرئاسة السياسية ارتباطا وثيقا، ولكن الديانات الأخرى لم تفرض الجهاد؛ ولذلك لا يشتغل القائم بأمر الدين فيها بشيء من أمور السياسة.
وفيما يلي نص ما جاء في هذه المقارنة: «والملة الإسلامية لما كان الجهاد فيها مشروعا لعموم الدعوة وحمل الكافة على دين الإسلام طوعا أو كرها، اتحدت فيها الخلافة والملك؛ لتوجه الشوكة من القائمين بها إليهما معا. وأما ما سوى الملة الإسلامية فلم تكن دعوتهم عامة، ولا الجهاد عندهم مشروعا، إلا في المدافعة فقط؛ فصار القائم بأمر الدين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك. وإنما وقع الملك لمن وقع منهم بالعرض ولأمر غير ديني، وهو ما اقتضته لهم العصبية؛ لما فيها من الطلب للملك بالطبع كما قدمناه؛ لأنهم غير مكلفين بالتغلب على الأمم كما في الملة الإسلامية، وإنما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصتهم» (ص231).
ويأتي في الفصل المذكور بعد ذلك تفاصيل كثيرة عن تطور الكنيسة المسيحية وانقسامها إلى طوائف الملكية واليعقوبية والنسطورية، وتستغرق هذه التفاصيل ثلاث صحائف كاملة. •••
أعتقد أن النصوص التي نقلتها، والأبحاث التي أشرت إليها آنفا تكفي للبرهنة على أن ما ذهب إليه البروفسور بوتول في هذا الصدد لا يستند إلى أي أساس صحيح.
ومع هذا أرى من المفيد أن أتوسع قليلا في هذا البحث بمراجعة مجلدات «التاريخ» نفسه أيضا؛ وذلك لأن الأبحاث المتعلقة بالممالك النصرانية في تاريخ ابن خلدون، أوسع بكثير مما في مقدمته، كما يتضح من الأمثلة التالية: (أ)
المجلد الثاني من تاريخ ابن خلدون يضم فصلا طويلا في «الخبر عن شأن عيسى ابن مريم - صلوات الله عليه - في ولادته وبعثته ورفعه من الأرض، والإلمام بشأن الحواريين بعده، وكتبهم الأناجيل الأربعة، وديانة النصارى بملته، واجتماع الأقسة على تدوين شريعته» (ص143-153).
يتتبع ابن خلدون في هذا الفصل نشوء الطائفة النصرانية، ويشرح الفروق التي تميز الطوائف المذكورة بعضها عن بعض، ولا يعتذر عن التكلم في أمور تخالف الديانة الإسلامية خلال هذه الأبحاث التي تشغل إحدى عشرة صحيفة. (ب)
وفي المجلد الثاني أيضا سلسلة فصول في دولة اليونان والروم واللطين والقوط، تشغل هذه الفصول ثلاثا وخمسين صفحة (ص184-236).
وأرى من المفيد أن أنقل - فيما يلي - ما يقوله ابن خلدون عن «الملوك القياصرة المتنصرين» في أحد هذه الفصول: «هؤلاء الملوك القياصرة المتنصرة من أعظم ملوك العالم وأشهرهم، وكان لهم الاستيلاء على جانب البحر الرومي من الأندلس إلى روما، إلى قسطنطينية، إلى الشام، إلى مصر والإسكندرية، إلى إفريقية والمغرب» (ص210). (ج)
في المجلد الرابع فصل عنوانه «الخبر عن ملوك بني أدفونش من الجلالقة، ملوك الأندلس بعد القوط ولعهد المسلمين، وأخبار من جاورهم من الفرنجة والبشكنس والبرتغال والإلمام ببعض أخبارهم»، يقع هذا الفصل في ست صحائف (ص179-185).
يقول ابن خلدون في بداية الفصل ما يلي: «والملوك لهذا العهد من النصرانية أربعة في العمالات المحيطة بعمالة المسلمين، قد ظهر إعجاز الملة في مقامهم معهم وراء البحر، بعدما استرجعوا من أيديهم ما نظمه الفتح الإسلامي أول الأمر. وأعظم هؤلاء الملوك الأربعة قشتالة، وعمالاته عظيمة متسعة.»
وبعد الانتهاء من استعراض أحوال الملوك الأربعة، يلاحظ التشابه في سير الأمور عندهم وعند ملوك المسلمين فيقول: «ثم ركبهم من الخلاف والمنافسة في أوقات ضعفهم واختلاف ملوكهم كالذي ركبه المسلمون» (ص184). (د)
ويوجد في مختلف مجلدات التاريخ كثير من المعلومات والأخبار المتعلقة بالإفرنج والنصارى، مسطورة بمناسبة الحروب التي قامت بينهم وبين المسلمين في مختلف الأدوار والعهود. •••
ويظهر من كل ما تقدم - بكل وضوح - أن البروفسور غاستون بوتول أخطأ كثيرا عندما زعم أن سكوت ابن خلدون عن أخبار أوروبا والنصرانية كان سكوتا يكاد يكون مطلقا.
وأخطأ عندما قال إن ابن خلدون لم يجعل شئون البلاد النصرانية موضوع ملاحظة أو مقارنة أبدا.
كما أخطأ عندما زعم أن ابن خلدون كان ممن لا يهتمون بكل ما هو خارج عن العالم الإسلامي، وممن يستخفون ويستحقرون العالم الأوروبي النصراني.
حول فقرة في مقدمة ابن خلدون
إن دراستي عن «التفكير والإيمان» عند ابن خلدون قد أظهرت أنه كان يسير في تفكيره سيرا عقلانيا، حتى في الأمور التي لا تخلو من الصلات بالدين [القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته - التفكير والإيمان].
مع هذا يجدر بنا أن نتساءل: هذه النزعة العلمية والشيئية ، هل كانت تشمل أمور أوروبا النصرانية أيضا؟ هل كان ينظر ابن خلدون إلى أحوال أوروبا النصرانية، كما ينظر إلى أحوال البلاد الإسلامية، بنظرات الباحث العلمي المتجرد عن التحيز والتشيع؟
إن آراء المستشرقين في هذه القضية لا تخلو من التضارب والاختلاف؛ بعضهم يعجب بروح الحياد التي أظهرها ابن خلدون فيما كتبه عن ملوك الدول النصرانية في الأندلس، وبعضهم يذهب إلى أن روح التعصب الإسلامي كان مسيطرا على ابن خلدون في كل ما يتعلق بالشئون الأوروبية والمسيحية.
فيجب علينا أن نبحث ما هو وجه الحقيقة بين هذه الآراء المتضاربة؟ •••
إني لم أجد في جميع فصول المقدمة وأبحاثها ما يدل على التعصب الديني، سوى فقرة واحدة وردت في الفصل الذي يشرح «اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية».
تأتي هذه الفقرة بعد ذكر الطوائف الثلاث التي انقسم إليها النصارى، وتنص على ما يلي: «ولم نر أن نسخم أوراق الكتاب بذكر مذهب كفرهم، فهي على الجملة معروفة، وكلها كفر كما صرح به القرآن الكريم، ولم يبق بيننا وبينهم في ذلك جدال ولا استدلال، إنما هو الإسلام أو الجزية أو القتل» (ص114 من طبعة بولاق، و260 من طبعة المطبعة الشرقية بمصر).
وبديهي أن هذه الفقرة تنم عن تعصب ديني يخالف روح البحث العلمي مخالفة صريحة.
ولكن مما لا مجال للشك فيه أيضا أن هذه الفقرة لا تنسجم مع سائر أبحاث المقدمة، وتشذ عنها شذوذا صارخا.
ولذلك رأيت من الضروري أن أتوسع وأتعمق في درس هذه القضية. •••
إن أول ما يلفت النظر في هذا المضمار، هو أن الفقرة المذكورة ليست موجودة في الطبعة البيروتية وفي طبعة مصطفى محمد المصرية المستنسخة منها، ولكنها موجودة في طبعة بولاق، وفي الطبعات المصرية المنقولة عنها، كما أنها موجودة في الترجمتين الفرنسية والتركية.
وذلك يضعنا أمام مسألة جديرة بالبحث؛ عدم وجود الفقرة المذكورة في طبعة بيروت، هل نتج من عدم وجودها في مخطوطة استندت إليها الطبعة المذكورة؟ أم نتج عن حذفها من قبل الناشرين عند الطبع عن قصد وتصميم؟
إننا لسنا في وضع يخولنا الإجابة على هذا السؤال بصيغة الجزم؛ لعدم علمنا بأصول الطبعات الموجودة بين أيدينا، ومع هذا لا نستبعد أن تكون الفقرة المذكورة قد حذفت خلال الطبع؛ مراعاة لشعور المواطنين المسيحيين. ولكن مهما يكن الأمر - وعلى فرض أنها موجودة في جميع الطبعات وفي المخطوطات التي صارت أساسا لتلك الطبعات - نستطيع أن نواصل بحث الأمر عن طريق «النقد الداخلي»، و«مقارنة أساليب التفكير والبيان». •••
فلننظر أولا: هل هي من صميم الموضوع أم دخيلة عليه؟
إذا طالعنا الفقرات التي سبقت الفقرة المذكورة من ناحية، والتي تلتها من ناحية أخرى؛ وجدنا أنها تكون فقرة استطرادية بكل معنى الكلمة؛ حذفها لا يخل بسير الأبحاث، بل يجعلها أكثر انسجاما.
وهذه هي الفقرات التي تسبقها: «ثم اختلفت النصارى في دينهم بعد ذلك، وفيما يعتقدونه في المسيح، وصاروا طوائف وفرقا، واستظهروا بملوك النصرانية كل على صاحبه. فاختلف الحال في العصور في ظهور فرقة دون فرقة، إلى أن استقرت لهم ثلاث طوائف هي فرقهم، ولا يلتفتون إلى غيرها، وهم: الملكية واليعقوبية والنسطورية.»
وهذه هي الفقرات التي تليها: «ثم اختصت كل فرقة منهم ببطرك، فبطرك روما اليوم المسمى بالبابا على رأي الملكية، وروما للإفرنجة وملكهم قائم بتلك الناحية، وبطرك المعاهدين بمصر على رأي اليعقوبية، وهو ساكن بين ظهرانيهم والحبشة يدينون بدينهم.»
يلاحظ أن القسم الأول من هذه النصوص ينتهي بتحديد أسماء الطوائف، وأما القسم الثاني فيبدأ بذكر رؤساء هذه الطوائف، والانسجام بين هذين القسمين تام. ولا شك في أن دخول الفقرة الآنفة الذكر بين هذين القسمين يقطع ما بينهما من ارتباط طبيعي وتسلسل منطقي.
ولذلك نستطيع أن نجزم بأن الفقرة المذكورة إنما هي فقرة استطرادية دخلت بين سطور البحث بعد كتابتها الأولى. •••
فلنبحث بعد ذلك في أسلوب الفقرة ومعانيها، هل تتناسب مع أسلوب سائر أقسام المقدمة ومعانيها؟
لا شك في أن كل من ينعم النظر في الفقرة المذكورة ويقارنها بما كتبه ابن خلدون في مواقف أخرى؛ يضطر إلى التسليم بأنها لا تتناسب مع سائر فقرات المقدمة، لا من حيث أسلوب البيان ، ولا من حيث طراز التفكير. «لم نر أن نسخم أوراق الكتاب ...» هذه عبارة ليس لها ما يماثلها في أية صحيفة من صحائف المقدمة. «لم يبق بيننا وبينهم في ذلك جدال ولا استدلال، إنما هو الإسلام أو الجزية أو القتل »، هذا قول لا ينسجم مع كتابات ابن خلدون الأخرى، ولا مع أحوال العصر الذي عاش خلاله.
هذا القول لو كان صدر من قلم أحد الكتاب في عهود الفتوحات الإسلامية؛ «لانسجم مع منطق الوقائع الجارية في تلك الأزمنة»، ولكن صدوره في عهد انحسار الإسلام عن كثير من البلاد - في عهد جلاء المسلمين من الأندلس إقليما بعد إقليم، واستطالة الدول النصرانية على بعض المدن الإسلامية من وقت إلى آخر - يكون خروجا على أوضح وأثبت مقتضيات العقل والمنطق.
ثم إن مثل هذا القول لو نسب إلى رجل غافل عن أحوال عصره؛ لما أثار أي استغراب، ولكن نسبته إلى مؤرخ مفكر مثل ابن خلدون الذي دون وقائع عصره - بما في ذلك الوقائع التي حدثت بين الدول الإسلامية وبين الدول النصرانية - بدقة تامة وحياد فكري شديد، مما يجب أن يقابل بالاستغراب، ويستبعد كل الاستبعاد. •••
ويجب علي أن أصرح في هذا المقام بأني بقيت مدة طويلة مترددا وحائرا في أمر هذه الفقرة الغريبة، ولم أقدم على تدوين رأيي فيها بهذه الصيغة الجازمة، إلا بعد أن حصلت على دليل لا يترك مجالا للشك في هذا المضمار؛ لقد كتب ابن خلدون في الجزء الثاني من تاريخه مذاهب كل طائفة من الطوائف النصرانية بشيء غير قليل من التفصيل.
وذلك يعني أن المذاهب التي تقول فيها الفقرة المذكورة آنفا «إنها لم تذكر؛ لكيلا تسخم أوراق الكتاب»، مسطورة فعلا وبتفصيل تام في موضع آخر من تاريخ ابن خلدون نفسه.
وها أنا أنقل فيما يلي قسما من تلك التفاصيل؛ لكي أزيل من الأذهان كل ما يمكن أن يعتريها من الشكوك في هذا المضمار:
يذكر ابن خلدون الخلافات التي أثارها بين النصارى الأسقف آريوش، والمناقشات التي جرت بين الأساقفة في مجتمع نيقية، ثم ينقل نص العقيدة التي تم الاتفاق عليها في المجتمع المذكور: «نؤمن بالله الواحد الأحد، الأب، مالك كل شيء، وصانع ما يرى وما لا يرى. وبالابن الوحيد يسوع المسيح، ابن الله، ذكر الخلائق كلها، وليس بمصنوع، إله حق من جوهر أبيه ، الذي بيده أتقنت العوالم وكل شيء، الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا بعث العوالم وكل شيء، الذي نزل من السماء وتجسد من ورح القدس وولد من مريم البتول، وصلب أيام فيلاطوس، ودفن ثم قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس على يمين أبيه. وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأحياء والأموات. ونؤمن بروح الواحد، روح الحق الذي يخرج من أبيه، وبعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة قدسية مسيحية جاثليقية، وبقيام أبداننا بالحياة الدائمة أبد الآبدين» (ج2، ص150).
وبعد ذلك ينقل ابن خلدون الحديث إلى الاختلافات التي حدثت بعد مجمع نيقية، وإلى المذاهب التي نشأت من هذه الاختلافات، ويذكر بين ما يذكره من المذاهب قول الأسقفين تاودوس وديودوس: «إن المولود من مريم هو المسيح، والمولود من الأب هو الابن الأزلي، والابن الأزلي حل في المسيح المحدث. فسمي المسيح ابن الله بالموهبة والكرامة، وإنما الاتحاد بالمشيئة والإرادة.» «فأثبتوا لله ولدين؛ أحدهما بالجوهر، والثاني بالنعمة» (ج2، ص152).
يلاحظ أن ابن خلدون كتب ونقل هذه الأمور الاعتقادية والمذهبية - وكثيرا من أمثالها - من غير أن يرى في ذلك أية غضاضة.
فهل من المعقول أن يقول في موضع آخر: «لم نر أن نسخم أوراق الكتاب بذكر تلك المذاهب؟!»
ما كتبه العرب المعاصرون عن ابن خلدون
فيما يلي قائمة بأهم الكتب والرسائل والبحوث التي نشرها العرب المعاصرون عن ابن خلدون؛ أولا باللغة العربية، ثانيا باللغات الأوروبية. (1) باللغة العربية (أ) الكتب والرسائل المستقلة
الدكتور طه حسين، فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، القاهرة، 1952، (ترجمها الأستاذ عبد الله عنان عن أطروحة الدكتوراه المقدمة لجامعة السوربون).
الأستاذ محمد عبد الله عنان، ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري، القاهرة، 1933.
الدكتور عمر فروخ، فلسفة ابن خلدون، بيروت 1942.
الدكتور محمد علي نشأت، رائد الاقتصاد ابن خلدون، القاهرة، 1944.
الأستاذ محمد الخضر حسين، محاضرة عن ابن خلدون، القاهرة.
السيد عبد القادر المغربي، ابن خلدون في المدرسة العادلية، دمشق.
الأستاذ أحمد محمد الحوفي، مع ابن خلدون، القاهرة، 1952.
السيد محمد بن تاويت الطنجي، التعريف بابن خلدون، ورحلته شرقا وغربا ، القاهرة، 1951. (ب) المختارات المصدرة بمقدمة
الأستاذ فؤاد أفرام البستاني، ابن خلدون (3 أجزاء من الروائع)، بيروت، 1928.
الدكتوران جميل صليب وكامل عياد، منتخبات من ابن خلدون، دمشق، 1934.
مكتبة صادر، ابن خلدون (خمسة أجزاء من مناهل الأدب)، بيروت، 1949. (ج) مقالات في المجلات وفصول في الكتب
كثيرا من المقالات في مختلف المجلات، وفصولا خاصة بابن خلدون في كتب تاريخ الأدب العربي، وتاريخ الفلسفة الإسلامية. (ذكرنا بعضها خلال الدراسات.) (2) باللغات الأوروبية
الدكتور طه حسين (مصر)، فلسفة ابن خلدون الاجتماعية - بالفرنسية - 1918.
Dr. Taha Hussein. La philosophie sociale d’Ibn Khaldoun-paris 1918.
الدكتور كامل عياد (دمشق)، نظرية ابن خلدون في التاريخ والاجتماع - بالألمانية - 1930.
Ayad, Kamil. Die Geschichte und guesellschafts lehre Ibn Haldhunns-Stuttgart 1930.
الدكتور صبحي محمصاني (بيروت)، آراء ابن خلدون الاقتصادية - بالفرنسية - 1932.
Mahmasani, Sobhi. Les idèes économiques d’Ibn Khaldon-Lyon 1932.
علي نور الدين العنسي (طرابلس الغرب)، التفكير الاقتصادي عند ابن خلدون - بالإيطالية - 1923.
Anesi (El) Aly Nureddine. Il pensiera économica di Ibn Khaldoun-in Rivista della colonie italiane 1932.
محمد عبد الله عنان (مصر)، ترجمة كتابه المذكور آنفا إلى اللغة الإنجليزية، 1941.
Inen Mohammed Abd Allah. Ibn Khaldoun his life and Work-Lahore 1941.
الدكتور عباس عمار (مصر)، مقدمة التاريخ لابن خلدون - بالإنجليزية - 1941.
Ammar Abbas. Ibn Khaldouns prolegomena to history-présented as a thesis at the university of Cambridge 1941.
شارل عيساوي (فلسطين)، عبد الرحمن بن خلدون - مقتطفات مترجمة للإنجليزية - 1950.
Charles Isawi. An Arab philosophy of History-Sélection from the prolègomena of Ibn Khaldoun of Tunisie-London 1950.
الدكتور عبد العزيز عزة (مصر)، ابن خلدون وعلمه الاجتماعي - بالفرنسية - 1947.
Dr Abd El Aziz Ezzat. Ibn-Khaldoun, et sa science sociale-Le Caire, 1947.
زاهدة حميد باشا (حلب)، ابن خلدون - العالم الاجتماعي - أطروحة جامعية (لم تطبع بعد).
Zahide Hamid Pasha. Ibn Khaldoun sociolagiste a fourteenthe century Pioner (thèsis inèdit).
رجاء هام من باحثي المخطوطات
(1) رجاء هام من الباحثين في المخطوطات العربية
إني أشرت في بحث «تاريخ المقدمة» إلى النسخة التونسية من مقدمة ابن خلدون، التي توهم الشيخ نصر الهوريني بأنها مختصرة من النسخة الفاسية، فأهملها من غير أن ينتبه إلى أنها النسخة التي قدمها المؤلف إلى السلطان الحفصي في تونس، قبل نزوحه إلى مصر، وقلت في نهاية تلك الدراسة: «إني أدعو الباحثين الذين يهتمون بأمر ابن خلدون ومقدمة ابن خلدون إلى الاهتمام بالنسخة المذكورة؛ لأن مقارنتها بالنسخ المطبوعة لا بد أن توصلنا إلى معلومات هامة عن تطور ابن خلدون الفكري» (ص132-134 من هذا الكتاب).
إني كنت نشرت الدراسة المذكورة في الجزء الأول من الدراسات التي طبعت في بيروت سنة 1943، وكنت أظن عندئذ أن النسخة المذكورة محفوظة في إحدى دور الكتب في القاهرة؛ ولذلك لم أكتف بما نشرته في الكتاب، بل كتبت في الوقت نفسه إلى بعض الباحثين، راجيا منهم أن يراجعوا النسخة التي أهملها الهوريني، ويزودوني ببعض المعلومات عنها، ولكني علمت من الأجوبة التي تلقيتها أن أذهان الجميع كانت تتوجه - على الدوام - إلى الأحدث فالأحدث من كتابات ابن خلدون، والأوسع فالأوسع من أبحاثه؛ ولذلك ما كان يهتم أحد الباحثين بالنسخ المختصرة، فلم ينتبه أحد منهم إلى حقيقة النسخة التي ذكرها الشيخ نصر الهوريني.
بعد ذلك سافرت إلى مصر وكلي أمل بأني سأجد النسخة المذكورة بسهولة، طالما كانت تحت يد الشيخ الهوريني عند طبع المقدمة، لكن أملي خاب تماما؛ لأني لم أحصل عليها لا في دار الكتب المصرية، ولا في المكتبة الأزهرية، ولم أصادف أحدا يستطيع أن يدلني على مصير المخطوطات التي كانت يراجعها الشيخ الهوريني عند طبع المقدمة.
ولذلك وجهت نظري إلى تونس، وخابرت بعض الباحثين في مخطوطات المقدمة، وفي الأخير سافرت إليها فعلا سنة 1950؛ لأبحث عنها بنفسي، ولكن مع الأسف الشديد لم أعثر عليها أو على ما هو مستنسخ منها هناك أيضا.
إني كنت أرفض إعادة طبع الجزء الأول من الدراسات - التي كانت نفدت نسخها منذ سنين عديدة - وذلك على الرغم من مراجعة ناشرين عديدين؛ لأني كنت أطمح في نشرها مصحوبة بدراسة عن النسخة التونسية، وبمقارنة بينها وبين النسخ المطبوعة.
ولم أقدم على إصدار هذه الطبعة الموسعة والموحدة إلا بعد أن قطعت الأمل من الحصول على النسخة المذكورة.
ولكن هذا الأمل إذا كان قد انقطع بالنسبة لي - بسبب أحوالي الخاصة - فإنه يجب ألا ينقطع من باحثي المخطوطات العربية وهواتها.
ولذلك أتقدم إليهم مرة أخرى راجيا منهم ومن أمثالهم ألا ينقطعوا عن مواصلة البحث عن نسخة المقدمة المهداة إلى السلطان الحفصي في تونس، مؤكدا لهم أن اكتشاف النسخة المذكورة سيكون ذا قيمة علمية وتاريخية كبيرة جدا.
تصنيف المباحث حسب تواريخ نشرها
(1) الدراسات التي كانت نشرت سنة 1943
توطئة (ص1-9) جولة بين التواريخ والمؤرخين: التاريخ والكهانة، التاريخ والنجامة، التاريخ والسحر، التاريخ ومشيئة الله، موقف ابن خلدون من هذه الأمور (12-40)، أبحاث المقدمة، الفصول المهملة (100-116)، تاريخ كتابة المقدمة (117-135)، طرافة المقدمة وتأثيرها (136-143)، لغة المقدمة (143-150)، كلمة العرب في المقدمة (151-168)، حول نسب ابن خلدون (552-559)، ابن خلدون وفلسفة التاريخ (170-177)، ابن خلدون وفيكو: حياة فيكو وآراؤه (178-193)، بين مقدمة التاريخ والعلم الجديد (194-200)، ابن خلدون ومونتسكيو، حياة مونتسكيو وآثاره (201-205)، التاريخ والاقتصاد (206-220)، ابن خلدون وعلم الاجتماع (230-231)، مقدمة ابن خلدون في نظر علماء الغرب (249-260)، موضوع التاريخ ومهمة المؤرخ (264-278)، طبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم (279-288)، القسر الاجتماعي والتقليد (289-299)، طبائع الأمم وسجاياها (307-332)، نظرية العصبية (333-352)، الخط والكتابة (509-522). (2) الدراسات التي كانت نشرت سنة 1944
التطور التدريجي في الطبيعة والمجتمعات (300-306)، المذاهب الأساسية في علم الاجتماع (242-248)، الدولة وتطوراتها: نظرات تمهيدية، عمر الدولة، أطوار الدولة، اتساع نطاق الدولة (355-389)، الحروب (390-414)، النفس الإنسانية (415-436)، التربية والتعليم، نظرات عامة، أصول التعليم، معلومات تاريخية عن أحوال التعليم، التأليف والتعليم (447-484)، التفكير والإيمان (485-508)، التشبيهات المادية (543-550)، نقد كتاب فلسفة ابن خلدون الاجتماعية (561-592). (3) الدراسات التي لم تنشر قبلا
مؤلف المقدمة (42-46)، أسرة ابن خلدون (47-52)، عصر ابن خلدون (53-68)، حياة ابن خلدون (69-94)، ابن خلدون في الذاكرة الشعبية (94-95)، آثار ابن خلدون (96-108)، التاريخ والطبيعة، «تكملة لأبحاث ابن خلدون ومونتسكيو» (220-229)، أساليب عرض الآراء (262-263)، المدن والأمصار (523-531)، الحياة الاقتصادية (532-542)، الأخطاء في نقل وتلخيص الآراء (593-596)، أقسى الأحكام على مقدمة ابن خلدون (597-600)، حول ابن خلدون وأوكوست كونت (601-603)، أسلوب المقدمة ومفرداتها اللغوية (644-608)، تأثير ابن خلدون في كتاب الأتراك ومؤرخيهم (615-625)، اكتشاف ابن خلدون في أوروبا (609-614)، نقد كتاب البروفسور غاستون بوتول: ابن خلدون والعمالقة، ابن خلدون والقدرية، ابن خلدون وأوروبا النصرانية (621-633)، حول فقرة من المقدمة (634-638)، رجاء من باحثي المخطوطات (644-645)، ما كتبه العرب المعاصرون عن ابن خلدون (639-642).
الخريطة التي تبين مسارح حياة ابن خلدون (70)، والرسم البياني الذي يقارن تواريخ ولادة أهم فلاسفة التاريخ وتواريخ وفاتهم بعد ابن خلدون (173).
الألواح الأربع التي تتعلق بصور ابن خلدون، والدار التي ولد فيها، والمدرسة التي درس فيها في صغره.
Página desconocida