وعندنا أن رأيه في المردة والملكية أنهما حزبان سياسيان لا دينيان أوثق من غيره من الآراء؛ فإن معنى الكلمتين يدل على ذلك دلالة واضحة.
ثم إنه في السنة 65 الهجرية الموافقة السنة 685 المسيحية بويع لعبد الملك بن مروان في الشام، فأمر الناس أن يحجوا إلى بيت المقدس، وكان في ذلك الحين أمير الجبل يوحنا؛ فجهز هذا الأمير اثني عشر ألف فارس ونزل بهم في قب إلياس عند البقاع، وجعل يغزو الجبل الشرقي ويسطو على الحجاج؛ فقطع الطرق. وحدث في تلك السنة نفسها أن توفي قسطنطين اللحياني وخلفه يوستينيان وله من العمر 16 سنة، فأمر يوستينيان قائد الجيش لاون أن يزحف بالجيوش إلى أنحاء المشرق، فلما بلغ القائد عساكر الجبل انضمت هاته العساكر إليه؛ فغزا العرب واسترد منهم أرمينية وإيبارية والبانية وهرقانية ومادية؛ فكتب عبد الملك بن مروان إلى يوستينيان يهنئه بالملك، ويسأله تجديد الهدنة متعهدا له في مقابلة ذلك أن يدفع إليه في كل يوم ألف ذهب وفرسا ومملوكا ويقاسمه خراج قبرس وأرمينية وإيبارية، وذلك على شرط أن يخرج اللبنانيين من جبلهم، فأجابه يوستينيان إلى ذلك وأنفذ إليه القائد بولس للتداول في تلك الأمور وتقريرها على وجه ما تكون فيه المصلحة. ولما تم ذلك أرسل يوستينيان إلى يوحنا أمير جبل لبنان ينهاه عن مناوأة عبد الملك والتعرض له بشيء، ويأمره بالمسير بجيشه إلى الغرب، فأبى الأمير أن يسير بجيشه لعلة الشتاء. فغضب يوستينيان من تلك الإباءة وحسب الأمير وقومه من العصاة المتمردين؛ فنوى أن يبطش بهم فأمر في الحال بتجهيز الجيوش وتوجيهها عليهم وأشاع احتيالا أنه يسير تلك الجيوش لقتال العرب، وأوصى القائد أن يذهب بنفسه إلى قب إلياس يحتال على الأمير يوحنا ويقتله.
فلما بلغت عساكر الروم البقاع تخلف عنهم قائدهم وسار إلى قب إلياس بنفر قليل، فخلا بالأمير يوحنا وغره بما دفع إليه من هدية الملك يوستينيان إليه وكتبه، وجعل يحدثه في الزحفة على العرب ويسأله النجدة حتى اطمأنت نفسه، ثم دعاه إلى مؤاكلته، فما راع الأمير إلا نفر القائد قد وثبوا عليه فقتلوه غيلة، فاشتبك جيش الأمير بجيوش الروم فانجلت الواقعة عن انهزام المردة لاغتيالهم، ولما قتل الأمير يوحنا خلفه سمعان ابن أخته؛ فسار سمعان باثني عشر ألف مقاتل إلى أنحاء أرمينية فهدم السد النحاسي، ثم اجتاز إلى بلاد ثراكية المعروفة الآن بالروملي، وتوطن هو وعسكره بالقرب من الجبل الأسود في أنحاء الأرنابود حيث يوجد قوم هنالك يدعون إلى الآن مرديت أي مردة، فمن ذلك الحين قال العلامة الدويهي: «لقب اللبنانيون بالمردة أي العصاة؛ لكونهم عصوا أمر يوستينيان الملك في عدم التعرض للعرب وشخوصهم إلى بلاد المغرب.» وقال شدران المؤرخ: «إن جميع البلاد التي كانت في يد العرب من المصيصة إلى بلاد الأرمن كانت بسبب غزو المردة وسطوهم خالية خاوية، فلما نزع الملك يوستينيان شوكتهم بقتل أميرهم وجلاء عساكرهم جلب بذلك على مملكته الخراب والدمار.» وقال بكنتاب: «وخرب يوستينيان المملكة بغروره وسوء تدبيره؛ إذ جلا عن لبنان المردة، وقد كانوا للروم عونا في كل أمر هام وكانوا يرهبون بهم العرب.» وقد ذكر المؤلف الرومي تاوفان فيما قال العلامة السمعاني حكاية جلاء المردة عن لبنان، فقال: «إن يوستينيان الملك لما سار إلى أرمينيا أمر معسكر المردة الذي أخرجه من لبنان أن يوجه إليها؛ أي: إلى أرمينيا. وقال أحد ملوك الروم - قسطنطين السابع: إن المردة نقلوا إلى بمفيليه وجعل قائدهم في مدينة أضالية، وكانوا هناك من عصر يوستينيان إلى عصره أي عصر المؤلف، وذلك في أواسط القرن العاشر. وقال هذا الملك أيضا: إن الملك القسطنطيني كان يجعل على المردة واليا منهم في أضالية يسمى قبطانا، وأن أباه الملك لاون جعل عليهم رجلا اسمه إستاوراسيوس، وكان ينصب لهم - فيما قال العلامة السمعاني - قاض يسمى قاضي أضالية، وفي أيام الملك ميخائيل سنة 1074 كان اسم أحد أولئك القضاة مخائيل، ألف في القانون كتابا طبع في فرنكفورت سنة 1453، وكان في قسطنطينية لكبير المردة مرتبة خصوصية بدليل ما رواه غريغوريوس كوريتوس كوربالات الذي كان في القسطنطينية عندما افتتحها العثمانيون؛ إذ قال: إن كبير المردة كان يحمل عكازا من الفضة مموها بالذهب، وبدليل ما أثبته الكاهن الراهب متى جاز في كتابه المتعلق بوظائف القصر القسطنطيني؛ حيث قال: إن كبير المردة كان يجيء في الرتبة السابعة عشرة بعد الملك.»
من أمعن النظر في جميع ما تقدم من الأقوال والحكايات على ما فيها من الاختلاف ير رأي العلامة السمعاني بأن المردة والملكية هما في الأصل حزبان سياسيان، فإن الملامة على يوستينيان من شدران المؤرخ وبكنتاب مسوقة من وجه سياسي؛ لأنهما أظهرا سوء تدبيره وقصر مداركه، ولم يتعرضا لذكر الدين بشيء ما من ملامتهما، ثم إن قصة قتل الأمير يوحنا تدل بتفاصيلها على ذلك دلالة واضحة، وعلى أن المردة كانوا ممتازين عن بقية الدائنين لسلطة المملكة الرومانية. والحاصل من ذلك كله أنه لا ينبغي أن يتخذ لفظ المردة بمعنى مرادف للموارنة، كما أنه لا ينبغي أن يتخذ لفظ الملكية بمعنى مقابل للموارنة في أمر الاعتقاد، وأن الطائفة المارونية إنما اتخذت هذا الاسم من رئيسها يوحنا مارون الذي اتخذ اسم مارون من القديس مارون صاحب الدير الذي على النهر العاصي في بلاد حماة، وأما إطلاق هذين اللقبين على حزبين دينيين فقد كان بعد وضعهما، وذلك مثل كثير من الأوضاع التي بعد وضعها يتناولها التغيير والتبديل لعلة ما.
ثم إن الموارنة لما كانت أحوالهم مرتبطا سيرها بسير أحوال المردة أمرائهم رأينا من الضرورة أن لا نفصل بينهما في الذكر في هذا الكتاب؛ حفظا للانتساب في الحوادث التاريخية.
قال العلامة الدويهي في الكلام على أصل المردة ما مضمونه: إن الذين أوقعوا الرعب في قلوب الفرس والعرب وسموا مردة لا موارنة يتبين أصلهم من قصة يوحنا البطريرك؛ إذ جاء فيها أنه أرسل إلى القسطنطينية ثلاثة من نخبة القوم ليحملوا المظلة فوق رأس الملك، وأنه تناسل من هؤلاء الثلاثة كثير من الملوك، وقد أثبت العلامة المشار إليه شيئا من أسمائهم وأخبارهم مأخوذا عن كتاب قديم لم يذكر اسمه، ولكنه يقول إنه تركه له سلفه البطريرك جرجس، وكان قد نسخه داود بن إبراهيم في السنة 1315 المسيحية، فقال: إنه في ابتداء دولة العرب كان يوسف ملكا على جبيل وكسرى على الداخلة، ومن اسمه سميت كسروان، وكان أيوب متوليا قيصرية فيلبس وبيت المقدس في خلافة عمر رضي الله عنه. وبعد أيوب قام إلياس وهذا أنجد هرقل عند قدومه إلى بلاد الشام (وهرقل ملك الروم بعد فوقا سنة 610ب.م ومات سنة 641) ومن بعد هؤلاء تولى أمر جبيل وجبل لبنان الملك يوسف، وهذا سار باثني عشر ألف فارس من الأبطال إلى بلاد أرمينية، وظفر بجيش سابور وقائد هذا الجيش سرجيس الأرمني، فهدم معاقله ودك حصونه وسلب نعمته، ثم أقفل راجعا. ثم إن عساكر الملك يوسف جازت سواحل البحر والبقاع إلى بلاد معاوية فتشتت أهلها في كل صقع، وقام بعد يوسف ملك اسمه يوحنا استولى على كل الأرض المقدسة، فخرج من جبل لبنان إلى الكرمل وفي صحبته جماعة عظيمة قاصدة المسير إلى أورشليم، فوثب عليه لصوص كثيرون من بلاد الغضبى، وأحاطوا به فوق برج الغرباء وأهلكوا من جماعته ثلاثة آلاف بالسيف؛ فتحول على الغضبى وعلى بلادهم، فقتل منهم تسعة آلاف وسلب الغنائم والبهائم والنساء والأطفال، ثم رجع إلى بلاده وسكن في بسكنتا، وروى ابن القلاعي أن مقر الملك كان بجبيل، وأنه لما كانت بلاد الداخلة يحف بها خطر عظيم من فرضة بيروت ومن الدرزي أمير الغرب اجتمع أربعون أسقفا فدهنوا سمعان ملكا عليها، فهزم الأعداء وجعل سكناه في بسكنتا بين الحدين، فامتنعت بشجاعته ومات شيخا؛ فخلفه كسرى على كسروان، وكان بطلا باسلا أتى ملك الروم بقسطنطينية، فأكرم الملك وفادته ووصله بالعطايا وأقامه ملكا على بلاد الداخلة، فعدل في حكمه وسميت كسروان باسمه.
وهذا ما ذكره ابن القلاعي في كتابه، قال: «كان الموارنة عندما دخل المسلمون بلاد الشام يسكنون جبل لبنان يتولون باقتدارهم وسطوتهم الأمر في الجبال وفي السواحل التي تجاورهم، وعقيدتهم عقيدة الكنيسة الرسولية الرومانية، وكانوا قائمين بأداء الطاعة لبطريركهم المقيم بينهم يحامون عن الدين القويم وينتصرون حبا بعقيدتهم لكل من لجأ إليهم فرارا من ظلم أصحاب الكفر وأهل البدع، أما بلادهم فكانت من حدود بلاد الشوف إلى بلاد الدريب. ولخوفهم من الدروز القاطنين في الشوف؛ ابتنوا الحصن المعروف بالقلعة الحجرية في أنطلياس والحصن المشهور في درجة بحرصاف، وأقاموا أسقفا لقرية رأس المتن وأسقفا لقرية بحرصاف وأسقفا لقرية بحنس، ثم سعوا في تجديد قرى وحقول بيروت القديمة وغرسوا بساتين وكروما على نهر العرعار، وكان أميرهم يسكن قرية بسكنتا ولكثرة رجاله وأبطاله تعظم بنفسه وانحدر إلى أرض البقاع ونهبها وقتل كثيرا من أهلها ولبث أياما في قرية قب إلياس بسفح الجبل، فلما اتصل خبره بعبد الملك بن مروان سنة 685، وذلك في أيام يوستينيان الأخرم أرسل عبد الملك هدية إليه كأنه يريد مصادقته، وكان في الواقع يريد بذلك اصطياده. ولم يزل يمكر به حتى قتله وقتل كثيرين من عسكره وأحرق القرى وأبعد الموارنة من البقاع، وكان ابن أخت الأمير أحد مقدمي العسكر يسمى سمعان، وكان بطلا شجاعا ذا مروءة ونخوة، غير راض عن أعمال خاله وفواحشه، وكان لذلك لما وقعت الواقعة قد فر مع جملة من المقدمين، فلم يذودوا عن أميرهم لشدة غيظهم منه، بل رجعوا بعد قتله فدفنوا جسده في قب إلياس وأمروا أن لا يذكر أحد اسمه البتة؛ وذلك لزعمهم أنه عاش ومات مرذولا، أما العسكر والمقدمون فصعدوا إلى الجبل، وكان المسلمون يضايقونهم كثيرا وتواقعوا في البقعة المعروفة بالمروج. ولم تزل الحروب منذ ذلك الحين ثائرة بين الفريقين من جميع الجهات إلى نحو ثلاثين سنة، وكان من نتيجة ذلك أن انقطعت الطرق، واستعصت الجبال كلها، وعجز الموارنة عن الإقامة بحصن أنطلياس لأنه طرف البلاد؛ فتركوه وأتوا ناحية نهر الكلب وشادوا فوقه حصنا. ووقعت أيضا هنالك موقعة هائلة جدا سمع صوت البنادق فيها وصراخ الأبطال من قرية بحرصاف، وكان المقدم سمعان يومئذ في بكفيا، فلما سمع ضجات الحرب انحدر بنحو ألف وخمسمائة رجل لمساعدة رجاله.»
ثم انطلق المقدم سمعان يزور يوسف أمير مدينة جبيل فتلقاه البطريرك غريغوريوس الحالاتي الذي كان في عهد البابا إينوشنس الثاني الجالس يومئذ (سنة 1130) بالقرب من المدينة، ودعاه إلى ضيافته، وبعد تمام الوليمة سار معه إلى المدينة، فخرج الأمير لملاقاتهما في خارج السور، وبعد أن قدم واجب الاحترام للسيد البطريرك اعتنق سمعان وساروا جميعا ماشين إلى دار الأمير، ثم أرسلوا فجمعوا أساقفة البلاد من عكار إلى حدود الشوف، وكانت عدتهم نحو أربعين أسقفا وثبتوا سمعان أميرا على العاصية المسماة اليوم كسروان، وحدودها من نهر بيروت إلى نهر إبراهيم؛ فباركوه ودعوا له وانصرفوا، ثم إن أمير جبيل وهب للأمير سمعان عدة من الخيل والجمال، فودعه الأمير سمعان وخرج يحارب الأعداء، ولم يزل في طلب من هرب وصد من اقترب حتى مات ودفن في بسكنتا بشيخوخة مكرمة، وخلفه كسرى خال سمعان أخي المقتول في قب إلياس، وكان ذا سطوة وبأس، وجرت له وقائع عديدة مع أعدائه، وذهب إلى قسطنطينية وقابل ملك الروم وصادف منه أحسن قبول، ووهب له هبات جليلة وأقره على بلاد كسروان، وصرفه بسلام وعاد راجعا في البحر إلى مينا طبرجا؛ فلاقاه أهل البلاد وهنئوه بما لقي من الحظوة عند ملك الروم وسموا بلادهم كسروان باسمه، ثم بلغه عن كامل مقدم قرية لحفد أنه رجل شجاع يغزو أعداءه في ناحية بعلبك، فأحبه ورغب في مصادقته وأرسل له هدية مع بعض غلمانه، أما المقدم كامل فتريب منه؛ ولذلك بعد أن أكرم الرسل اعتذر لهم أنه لا يستطيع أن يقبل الهدية بسبب مولاه يوحنا أمير جبيل، ثم صرفهم من عنده بكلام لطيف وعادوا إلى الأمير مولاهم وأعلموه بحقيقة الحال؛ فازداد رغبة في مصادقته، وأرسل إليه ثانية يخطب إليه ابنته لابنه، فاستشار كامل أمير جبيل بذلك؛ فأذن له فعقد عقد الزواج. ومن ذلك الحين تمكنت المحبة بين أهالي جبيل وكسروان واستمروا على الولاء زمنا غير قليل. ا.ه. مأخوذا عن الدويهي.
إننا بعد البحث والتنقيب عن أحوال المردة في ما اتصل بنا من أقوال المؤرخين القدماء عنهم، وما وقع لدينا من تفصيل الحديثين لإخبارهم رأينا من المتعذر علينا تنسيق تلك الأحوال تنسيقا يصلح أن يركن إليه؛ لما أن في ذلك شيئا من المباينة في رواية الحوادث وضعف الإسناد، واختلاف الأزمنة عما أريد التطبيق عليه من أزمنة الملوك المعاصر لهم أولئك الأمراء، سواء كان أولئك الملوك من ملوك الروم أو من سواهم.
ومن أمعن النظر فيما نقلناه ير في الأمر رأينا؛ فلا يجد إلا أشتاتا من المعلومات يتعسر ربطها بروابط الترتيب التاريخي، وأيضا فإننا لم نر في تواريخ فتوح الإسلام ما مكننا من ذلك؛ ففي فتوح بيروت الأول قال محمد بن صالح في كتابه تاريخ بيروت: «ذكر النويري بإسناده إلى أبي الحسن بن الأثير في حوادث سنة ثلاث عشرة للهجرة (635 للمسيح) قال: لما استخلف أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان على دمشق، سار يزيد إلى بيروت وجبيل وعرقة وعلى مقدمته أخوه معاوية، ففتحها فتحا يسيرا وخلى كثيرا من أهلها، وتولى فتح عرقة معاوية بنفسه في ولايته، ثم غلب على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر وأول خلافة عثمان
Página desconocida