Alto de la resolución
علو الهمة
Géneros
ولا مراء في أن "المقوقس" كان مستاء من وجود عبادة بن الصامت، ذلك العبد الأسود، وحسب أن اختيار عمرو له ليكون متكلم القوم إنما كان تصغيرا. لمقام المقوقس وتحقيرا لشأنه، فلما أجمع رسل المسلمين على أنه المتحدث باسمهم جميعا، لم ير المقوقس بدا من محادثة عبادة ومفاوضته، فأومأ إليه أن يتكلم برفق حتى لا يزعجه، فقال عبادة: "إن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود، كلهم أشد سوادا مني .. وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي، لو استقبلوني جميعا، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا في الجهاد في الله، واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا، ولا طلب للاستكثار منها؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله، وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوه" (¬2)، فوقع هذا القول في نفس المقوقس وقعا شديدا، وقال لأصحابه: "هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل .. إن هذا وأصحابه قد أخرجهم الله لخراب الأرض" ثم أقبل على عبادة، وأراد أن يسلك معه طريق الإرهاب المغلف في قالب من النصح، فقال له: "أيها الرجل الصالح! قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم وما ظهرتم على من ظهرتم عليه، إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معرفون بالنجدة والشدة، ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإننا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضوها، وتنصرفوا إلى بلادكم، قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به" (¬1).
Página 83