ولهذا الأصل العالم أثر حاسم في اكتساب المعرفة، حسية وعقلية؛ فإن هذا الاكتساب رهين بفعل أعضاء الحواس، فمن المعلوم أن من عدم حاسة ما من أول أمره عدم معارفها، كالأكمة لا يتمثل الألوان مهما توصف له. وليس يغني القول مع أفلاطون وابن سينا وديكارت أن الحواس ضرورية لتنبيه العقل إلى المعاني؛ فإن النفس عند الغريزيين جوهر قائم بذاته، فيكون في وسع العقل استثارة مدركات الحواس المعطلة، وذلك إما بالتأمل في مدركات حاسة سليمة، أو بالاتجاه إلى العقل الفعال، أو بخطاب مخاطب، ولكنه لا ينتبه بوسيلة من هذه الوسائل. بل إن تربية الصم البكم الكمه لتدل على أن تفتح فكرهم وترقيه تابعان لاكتسابهم الإشارات الحسية، وهي عندهم لمسية تقوم مقام الإشارات الممتنعة عليهم. لذا لا يجدي الاحتجاج على قول الحسيين «إن المعاني ألفاظ» بأن الصم البكم الكمه يحصلون على معان بغير وساطة الألفاظ؛ فإنهم يحصلون على معان بإشارات حسية على كل حال.
وثمة أثر آخر للارتباط بين الحياة العقلية والحياة الحسية، هو أن تعقلنا مصحوب دائما بصورة خيالية، فلا يتعقل عقلنا موضوعا ما إلا وفي ذات الوقت تتمثل المخيلة صورة ما، حتى ولو كان المعقول روحيا. فمتى كان المعقول ماهية شيء مادي تمثلت المخيلة صورة جزئي من جزئيات تلك الماهية، حقيقي أو مركب. ومتى كان المعقول مجردا أو روحيا تمثلت المخيلة صورة رمزية، أو لم تتمثل شيئا، واقتصر الأمر على صورة لفظية، أي على اسم ذلك المعقول. فإن الألفاظ تسمع وتقرأ وتلفظ فتخلف في المخيلة صورا سمعية وبصرية وعضلية تصاحب تعقل الموضوع الدالة على مصاحبة الظل للشيء. وإليك نتائج التجارب العديدة التي أجراها علماء النفس بهذا الصدد: فقد سأل بعضهم لفيفا من الأشخاص عما يخطر لخيالهم عند سماعهم لفظ «كلب» مثلا، فقال أحدهم: «كلب جيراني يركض»، وقال غيره صورا خيالية أخرى. وكان من بين الأجوبة بصدد لفظ «قانون»: كتاب قانوني، قضاة يرتدون الأحمر، سيدة رافعة ميزانا، خطوط متوازية، تعريف القانون لمونتسكيو. ومن بين الأجوبة بصدد لفظ «لانهاية»: حفرة مظلمة، كتب رياضية، العلامة الرياضية، دوائر ساطعة، شيء شبيه بالقبة، أفق يبتعد باستمرار. ومن بين الأجوبة بصدد المجردات العالية «لا شيء» يعني: لا صورة خيالية أو رمزية، بل مجرد اللفظ، كلفظ الله أو النفس حين نفكر في النفس أو في الله.
2
ولا تفسر مقارنة التخيل للتعقل على هذه الأنحاء إلا بأن عقلنا متجه أولا إلى الماديات، يستخلص ماهياتها مما يغشيها من أعراض مشخصة، وأنه يتوصل إلى الروحيات ابتداء من الماديات، بعكس ما يتصور التصوريون.
هذا الاستخلاص أو التجريد يبدو واضحا في كون الأعم متقدما على الأخص في معرفتنا، سواء منها العقلية والحسية: فالعلم بالجسم يحصل في عقلنا قبل العلم بالحيوان، والعلم بالحيوان قبل العلم بالإنسان، والعلم بالإنسان قبل العلم بشخص معين. ونحن نرى الأطفال في أول أمرهم يميزون الإنسان من اللاإنسان قبل أن يميزوا هذا الإنسان أو ذاك؛ فيسمون كل رجل أبا وكل امرأة أما، ثم يأخذون بتمييز الأشخاص بعضهم من بعض.
3
والوجه الذي يتم عليه التجريد لا يدرك بالوجدان، بل يستدل عليه بالعقل، وأول ما يثبته العقل أن ماهيات المحسوسات ليست موجودة مفارقة للمادة على نحو ما نتعقلها؛ كما ظن أفلاطون، ولكنها موجودة في مادة المحسوسات مغطاة بأعراضها، وهي بهذا الاعتبار غير معقولة، فيظل العقل محتاجا إلى موضوع يتعقله، وهو يتعقل بالفعل موضوعات كثيرة، فيلزم أن في النفس قوة تجرد الماهيات عن المادة البادية في الصور الخيالية وتجعلها معقولة بالفعل، فتنفعل بها قوة أخرى وتتعقلها، كما ينفعل الحس بموضوعه فيحسه.
ففي النفس عقلان: أحدهما المتعقل، وهو الذي نسميه العقل اختصارا، وقد سمي بالعقل المنفعل للدلالة على أنه خلو من المعقولات في الأصل ومضطر لقبولها بعد التجربة. والعقل الآخر هو المجرد، وقد سمي بالعقل الفعال بالقياس إلى المنفعل؛ لأنه هو الذي يجرد ماهيات المحسوسات ويعرضها على العقل المنفعل فيخرجه من القوة إلى الفعل. ولا سبيل إلى الاستغناء عن هذا العقل الفعال بإضافة التجريد إلى العقل المنفعل نفسه؛ لأنه ما دام منفعلا ومنتظرا القبول كي يفعل، فليس في وسعه ولا في وسع أي موجود، أن يخرج بذاته من القوة على الفعل. إنما نستغني عنه لو اعتقدنا مع أفلاطون أن المثل قائمة بأنفسها ومؤثرة في النفس كما تؤثر المحسوسات في الحواس؛ وهذا اعتقاد باطل. على أن التسليم به تسليم بوجوده فقط وبمفعوله الذي هو الماهية المجردة، ولا ينطوي على العلم بطريقة فعله، فإن هذه الطريقة خافية علينا كل الخفاء. وقد شبهه أرسطو بضوء الشمس الذي هو واحد بعينه ويبرز ألوانا وأشكالا مختلفة باختلاف الأشياء الواقع عليها. فنستطيع أن نقول إن العقل الفعال عبارة عن ضوء روحي، وإن فعله هو «إضاءة» الصورة الخيالية وإبراز الماهية الكامنة فيها. العقل الفعال علة رئيسية، والصورة الرئيسية علة مرءوسة، مثلها مثل قلم الكاتب أو ريشة المصور أو أي آلة أخرى تقبل من الفاعل قوة، فتحدث معلولا أرقى منها ما دامت في يده. والماهية المجردة روحية معقولة، فهي أرقى من الصورة الخيالية المحسوسة، وليست تكفي هذه لإحداث المعقول.
هذه النظرية فريدة بين النظريات العارضة لتفسير أصل المعاني؛ فإنها تدع للمعاني طبيعتها العقلية، وتبين كيفية الانتقال من المحسوس إلى المعقول بتجريد عقلي، فتضمن موضوعية المعقول. بينما النظريات الحسية لا ترى في المعاني سوى أنها مختصرات للمحسوسات مكتسبة بتجريد حسي ، أي بتفصيل المحسوس إلى أجزائه كما هي في الواقع. وبينما النظريات التصورية تضع المعاني في النفس وضعا، أو في عقل مفارق يفيضها على النفس، دون أن توفر للعقل أية صلة بالحس، اللهم إلا تلك الصلة التي نجدها عند أفلاطون بين المعنى الغريزي وبين الإحساس، والتي تقضي في الحقيقة على الغريزية، من حيث إنها تتضمن أننا نتعرف على المعنى في الإحساس نفسه، فنتذكر الإنسان مثلا عند رؤية زيد من الناس، فلا يبقى وجه حاجة لقيام المثل بأنفسها ومشاهدتنا لها في حياة سابقة.
كما لا يبقى وجه لدعوى التصوريين المحدثين أن المعنى محض صورة معقولة دون مقابل في الخارج؛ فإن المسألة لا تعدو أحد أمرين: فإما أننا نتعقل المعنى بمناسبة الإحساس دون أن نراه متحققا فيه، وحينئذ فلا يسوغ لنا أن نطلق المعنى على جزئياته وتكون جميع أحكامنا باطلة؛ وإما أننا نرى المعنى متحققا في الإحساس، وحينئذ فلا تعود بنا حاجة لاعتباره سابقا على التجربة أو آتيا من مصدر آخر. إن هؤلاء التصوريين اسميون في الواقع مع اعترافهم بوجود المعاني في الذهن؛ فإنهم يصلون إلى نفس النتيجة، وهي قطع الصلة بين العقل والأشياء. قلنا ضد الحسيين: إن الألفاظ دلالات على المعاني، ونقول الآن ضدهم وضد التصوريين: إن المعاني دلالات على الأشياء نطبقها عليها بقولنا مثلا: «زيد إنسان» و«عمرو إنسان». وهذا التطبيق دليل على المطابقة بين الطرفين، وتقرير للعلم؛ إذ كان العلم إدراكا لحقائق الأشياء في معانيها الكلية، وكان الحكم العلمي كليا ضروريا، لا بتطبيق العقل على الحدين مقولة جوفاء غريزية فيه دون إدراك ضرورة الارتباط بينهما، بل لكون ذلك الحكم يضيف إلى الموضوع محمولا يخص ماهية الموضوع الممثلة في الذهن بالمعنى المجرد، وهكذا تفسر نظرية التجريد أيضا الأحكام المستفادة من التجربة والمرفوعة إلى مقام القوانين الثابتة التي هي أركان العلم. (3) الرد على كنط
Página desconocida