العقل وإدراك الطبيعة
(1) النظريات التصورية
إلى هنا قصرنا حديثنا عن المذهب التصوري على مبدئه العام. والآن نعرض للنظريات الخاصة التي اصطنعها أركانه لتعليل علمنا بالطبيعة وتقدير قيمة هذا العلم، فإنهم، مع إيمانهم بباطنية المعرفة، مؤمنون بالعلم الطبيعي الدائر على الأجسام وتغيراتها، وأول اسم يذكر في هذه المسألة اسم أفلاطون. تحقق وجود معان في النفس بريئة عن المادة والتغير، إلى جانب صور المحسوسات المغمورة في المادة والمتغيرة باستمرار، وبحث عن أصل المعاني، فبدا له أنها غير مكتسبة من المحسوسات، وذلك بدليلين: أحدهما أن المعرفة شبه المعروف، فيلزم أن تكون موضوعات المعاني على نحو معرفتنا لها، والدليل الآخر أن النفس روحية مفارقة للمادة كالمعاني التي تعلقها. وليس يتأثر الروحي من المادي، حتى الحس، لكونه قوة نفسية؛ فهو لا يتأثر من المحسوسات، وإنما يقع تأثير المحسوسات على أعضاء الحواس فتكون النفس في ذاتها صورة المحسوس. وإذن ففوق المحسوسات أصول لها أو مثل شبيهة بمعانينا، عرفتها النفس في حياة سابقة في السماوات أو العالم المعقول. وكل إنسان يولد في هذه الدنيا تهبط نفسه إليه حاصلة على المعاني. فإلى المثل يتجه تعقلنا، إليها ترجع التعريفات، وعليها تدور العلوم.
ولما فكر القديس أوغسطين في هذه الأقوال تلقاها بالقبول، ما عدا قولا واحدا هو قيام المثل بأنفسها، فقد كان أفلاطون جعل منها أصول الجزئيات بضرب من مشاركة أجزاء المادة في مثال مثال، بحيث تتصور أو بحيث تصورها الأفلاطونيون كأنها خالقة، والمسيحية تقصر قوة الخلق على الله. فجمع أوغسطين المثل في العلم الإلهي، وأرجع علمنا إلى علم الله، قائلا: «إن عقلنا يرى كل حق في الحقائق الأزلية» أو الإلهية، دون أن يقول كلاما واضحا في كيفية هذه الرؤية. ولكنه تابع الأفلاطونيين في الاعتقاد بقصور المادة عن التأثير في الروح، وفي تكوين النفس لصور المحسوسات، وفي إدراك المعاني بغير اشتقاقها من الصور المحسوسة المقابلة لها، وفي هذا ما فيه من التصورية.
وظهر لدى الفلاسفة الإسلاميين مذهب في المعرفة يقارب المذهب السابق، ويبدو واضحا في قول الفارابي: «العقل الإنساني هيئة ما في مادة معدة لأن تقبل رسوم المعقولات، فهي بالقوة عقل، وسائر الأشياء التي في مادة معقولات بالقوة. والفاعل الذي ينقلها من القوة إلى الفعل هو ذات ما، جوهره عقل ما بالفعل ومفارق للمادة. وإذا حصل في القوة الناطقة عن العقل الفعال ذلك الشيء الذي منزلته منها منزلة الضوء من البصر، حصلت المحسوسات المحفوظة في القوة المتخيلة معقولات في القوة الناطقة.»
1
وهذا الجوهر «مرتبته في الأشياء المفارقة (أي عقول الأفلاك في عرف القدماء) التي ذكرت من دون السبب الأول (أي الله) المرتبة العاشرة»، يعني أنه عقل فلك القمر. لم يخرج ابن سينا عن هذا التعليم، بل يكاد يكون كلامه ترديدا لألفاظ الفارابي، فهو يقول مثلا في كتاب النجاة: «القوة النظرية تخرج من القوة إلى الفعل بإنارة جوهر هذا شأنه عليها. فإذن هنا شيء يفيد النفس ويطبع فيها من جوهره صورة المعقولات، ويسمى بالقياس إلى المعقول التي بالقوة، وتخرج منه إلى الفعل عقلا فعالا.» ويعين فعله بقوله: «هذا العقل الفعال يفيض منه قوة تسيح إلى الأشياء المتخيلة التي هي بالقوة معقولة لتجعلها معقولة بالفعل.» وكذلك ارتأى ابن رشد، فإنه يقول مثلا (في كتاب تلخيص ما بعد الطبيعة): «ماهية العقل الفاعل لهذا العقل منا تصوره هذه الأشياء التي ههنا.» ففي هذا المذهب ليست المعقولات مرئية في الله كما قال أوغسطين أو كما عزي إليه أنه قال، ولكنها نازلة من عقل مجرد في ذاته يسمونه العقل الفعال أو عقل فلك القمر، يصدر إلى العقل الإنساني ضوءا يجرد به الماهيات الحالة في المادة، أو يصدر صور هذه الماهيات، وصور الماهيات المجردة في أنفسها، فنعقلها.
ثم كان ديكارت أول من أظهر التصورية مذهبا واضح المعالم بين المبادئ والنتائج كما ذكرنا، لم يقل كأفلاطون يسبق وجود النفس، ولكنه اعتقد مثله أنها مشتملة منذ وجودها على معان غريزية أو فطرة بسيطة أولية، ومن ثمة جليلة متميزة، تؤلف منها أشياء كثيرة، ومن الأشياء عوالم كثيرة، فلا تحتاج إلى التجربة إلا لتعلم أي عالم هو موجود فعلا، فهي مستكفية بذاتها، مستغنية عن الطبيعة في إقامة العلم الطبيعي، ما دامت واثقة أن الله ضامن صدق المعاني واتساق ترتيبها. وإلى الله اتجه أيضا ليبنتز ومالبرانش وباركلي، على النحو الذي قلنا؛ لأنهم لم يجدوا وسيلة أخرى لتفسير معارفنا وتأييد ثقتنا بها. ولم يفطنوا إلى أن المبدأ التصوري الذي اعتنقوه، إن لم يمنع من تصور الله، فإنه يمنع من الاعتقاد بوجود الله، لأنه يمنع من الاعتقاد بأي وجود.
وفطن كنط إلى وهن هذا الأساس، وأخذ على عاقته أن يشيد نظرية العلم حسب مقتضيات المذهب التصوري؛ لكن لا التصورية المطلقة الجاحدة للوجود الخارجي، وإلا فاتتنا مادة العلم، بل التصورية المعتدلة تعترف بحقيقة الوجود، بدليل أن الإحساس انفعال، وأن المنفعل خاضع لتأثير شيء فعال، وإن كنا لا ندرك من الأشياء سوى انفعالنا بها. فمضى كنط من القول المأثور: إن العلم مؤلف من قضايا كلية ضرورية، والتجربة جزئية متغيرة. وساءل نفسه عن السبب في إمكان القضية العلمية، فوجد أن الكلية والضرورة إن لم تأتيا من التجربة، وهذا مسلم من العقليين والحسيين على السواء، فلا يبقى إلا أنهما آتيتان من العقل الذي يجحده الحسيون فيقضون على العلم؛ فمتى آمنا بالعلم آمنا بالعقل حتما لأنه هو الذي يحيل التجربة الجزئية الحادثة إلى قضية كلية ضرورية، وذلك بأن يضيف إلى التجربة رابطة من عنده؛ التجربة مثل قولنا: «الشمس تسطع، وهذا الحجر يسخن»، والقضية العلمية مثل قولنا: «ضوء الشمس يسخن الحجر». التجربة جمع بين إحساسين وإخبار بحال شعورية للحاس، والقضية العلمية تعبير عن علاقة ضرورية بينهما مستقلة عن الشخص الذي يحسهما، والعلاقة هنا علاقة العلية زائدة على التجربة الصرف ومعطية إياها الكلية والضرورة، بمعنى أن ضوء الشمس «علة» سخونة الحجر. وفي العقل اثنتا عشرة علاقة أو «معقولة» يؤلف بها شتى القضايا، دون أن تكون هي موضوعا للفكر كالمعاني الغريزية عند أفلاطون وديكارت وليبنتز؛ فإن وظيفة العقل هذا الربط فقط، لا الحكم على حقائق الأشياء. ويطبق العقل هذه العلاقات على الإحساسات بواسطة رسوم في المخيلة، لكن علاقة رسم هو العلامة الدالة على أنها هي التي يجب تطبيقها: فرسم الجوهر تصور البقاء في الزمان، ورسم العلية تصور التعاقب المطرد في الزمان. هكذا يتلاقى العقل والحس، ويتكون العلم الطبيعي، فيجيء موضوعيا من هذه التجربة، وكليا ضروريا من جهة العلاقة العقلية. وهكذا اعتقد كنط أنه أصاب الحق الذي يظل محجوبا عن الإنسانية إلى عهده، واهتدى إلى المذهب الوسط بين الحسية العاجزة عن تسويغ الكلية والضرورية اللازمتين للعلم، وبين التصورية المطلقة العاجزة عن توفير مادة العلم. (2) الرد على التصوريين عامة
بعد هذا العرض لأشهر النظريات التصورية في أصل المعاني وفي الصلة بين العقل والحس، نعرض النظرية التي نرى فيها الحق، فنعلن على الفور أنها نظرية التجريد الأرسطوطالية التي طالما أشرنا إليها. وهي تعارض تصور النفس الإنسانية كأنها ملك كريم هبط من السماء حاملا المعاني، أو على استعداد لقبولها من روح علوي. وتقرر أن الحس متصل بالأشياء اتصالا مباشرا، وأن العقل لا يكتسب معرفة ما إلا إذا تلقى مادتها من الحس، بحيث تكون الحياة العقلية مرتبطة بالحياة الحسية بل البدنية، مع تمايزها منهما بالطبيعة والفعل. وآية ذلك أن سوء تركيب الدماغ أو توقف نموها أو ضعف هذا النمو، يجعل من صاحبه إنسانا غبيا أو أبله أو مجنونا، وأن ما ينتاب البدن، وبخاصة الدماغ، من تعب أو مرض أو جرح أو بتر؛ يعطل الذاكرة بل الحياة الفكرية على العموم قليلا أو كثيرا، وأن إدمان التدخين أو السكر أو التخدير يؤدي إلى عواقب من هذا القبيل. ولم يكن شيء من هذا ليحدث لو كانت النفس قائمة في البدن بذاتها ولذاتها من كل وجه، فاعلة وحدها جميع أفعالها دون مشاركة ما من جانب البدن.
Página desconocida