قال الراهب: بل أنت لا تستطيع هذا يا بني! لأن نفسك عاجزة عن أن تحيا بغير إيمان، كما أن جسمك عاجز عن أن يحيا بغير الطعام والشراب.
إن جسمك لا يستطيع أن يقيم على الجوع، وإن نفسك لا تستطيع أن تقيم على الجحود، وإنك مضطر إلى أن تؤمن بآلهتك القدماء، أو بإلهنا هذا الجديد القديم الأبدي الخالد. فاختر لنفسك بينه وبينهم، وانظر أي الدينين أقرب إلى ما تحتاج إليه نفسك من الحب والرحمة، ومن العطف والحنان، ومن البر والتقوى. وأي الدينين أولى إلى ما يحتاج إليه عقلك من الارتفاع عن الصغائر، والتنزه عن الآثام، والتطهر من الرجس.
قال «كلكراتيس»: ما أشد ما أفسدت علي أمري! وما أشد ما سلطت علي من الاضطراب.
قال الراهب الشيخ: قلت لك يا بني إني لم أفسد عليك شيئا؛ لأن أمرك كان كله فاسدا؛ إنما رأيت الأمور قد اختلطت عليك، فاجتهدت في أن أهون عليك التمييز بين المختلط منها. وما أظن أن ذلك يستقيم لك في هذه اللحظة التي أنت فيها! ولكنك في حاجة إلى الأناة والروية ، وإلى التلبث وطول التفكير. فأمهل نفسك ورضها على عبادة «دينوزوس» وأصحابه، فما أراها تستجيب لك. ثم رضها على الكفر المطلق والجحود الخالص، فما أراها تقيم على ذلك أو تطمئن إليه. ثم رضها على حب هذا الإله الجديد الذي يبشر به الإنجيل، وانظر فلعل رحمة الله أن تمسها، ولعل قلبك أن يذوق حلاوة هذا الإيمان الذي أنعم به منذ انتهيت إلى ذلك الدير.
وإني، يا بني، راحل عنك وعن صديقيك منذ اليوم، وكاره أن يظن بي صاحبك ما ظنه حين كان يزعم أني قد أتيت أخطفك من بينهما. فاستقبل أمرك هادئا مطمئنا، وانظر إلى أي شيء ينتهي بك النظر والتفكير.
قال «كلكراتيس»: فما أرى أني سأدعك ترتحل عني، وما أرى أني أستطيع في هذه الأرض مقاما.
قال الراهب: فما أستطيع يا بني أن أقيم.
قال «كلكراتيس»: لن ترحل وحدك.
قال الراهب مشرق الوجه: فأنت إذا تريد أن تتبعني؟
قال «كلكراتيس»: نعم! لا لأني آمنت بما تؤمن به، واطمأننت إلى ما تطمئن إليه، ولكن لأني أجد في حديثك أنسا لم أجده في حديث إنسان قط، وأرى في قربك رحمة وحنانا لم أجدهما في قرب إنسان قط، وأرى أن هذه الدار تنبو بي، وأن الناس من حولي عدو لي، وأنك وحدك الصديق، وأن دارك وحدها هي دار الخفض والدعة والهدوء.
Página desconocida