مقدمة
الكتاب الأول
1 - حفر زمزم
2 - التحكيم
3 - الفداء
4 - الإغراء
5 - البين
6 - القضاء
7 - الردة
8 - الطاغية
Página desconocida
9 - البشير
10 - راهب الإسكندرية
11 - اليتيم
12 - الحاضنة
13 - المراضع
14 - البر
الكتاب الثاني
1 - الفيلسوف الحائر
2 - راعي الغنم
3 - حديث باخوم
Página desconocida
4 - صاحب الحان
5 - نادي الشياطين
الكتاب الثالث
1 - صريع الحسد
2 - سيد الشهداء
3 - ذو الجناحين
4 - حديث عداس
5 - مصعب بن عمير
6 - طريد اليأس
7 - نزيل حمص
Página desconocida
8 - الوفاء المر
9 - طبيب النفوس
10 - شوق الحبيب إلى الحبيب
11 - القلب الرحيم
مقدمة
الكتاب الأول
1 - حفر زمزم
2 - التحكيم
3 - الفداء
4 - الإغراء
Página desconocida
5 - البين
6 - القضاء
7 - الردة
8 - الطاغية
9 - البشير
10 - راهب الإسكندرية
11 - اليتيم
12 - الحاضنة
13 - المراضع
14 - البر
Página desconocida
الكتاب الثاني
1 - الفيلسوف الحائر
2 - راعي الغنم
3 - حديث باخوم
4 - صاحب الحان
5 - نادي الشياطين
الكتاب الثالث
1 - صريع الحسد
2 - سيد الشهداء
3 - ذو الجناحين
Página desconocida
4 - حديث عداس
5 - مصعب بن عمير
6 - طريد اليأس
7 - نزيل حمص
8 - الوفاء المر
9 - طبيب النفوس
10 - شوق الحبيب إلى الحبيب
11 - القلب الرحيم
على هامش السيرة
على هامش السيرة
Página desconocida
تأليف
طه حسين
مقدمة
هذه صحف لم تكتب للعلماء ولا للمؤرخين؛ لأني لم أرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ. وإنما هي صورة عرضت لي أثناء قراءتي للسيرة فأثبتها مسرعا، ثم لم أر بنشرها بأسا. ولعلي رأيت في نشرها شيئا من الخير؛ فهي ترد على الناس أطرافا من الأدب القديم قد أفلتت منهم وامتنعت عليهم، فليس يقرؤها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة في الأدب العربي القديم. وإنك لتلتمس الذين يقرءون ما كتب القدماء في السيرة وحديث العرب قبل الإسلام فلا تكاد تظفر بهم.
إنما يقرأ الناس اليوم ما يكتب لهم المعاصرون في الأدب الحديث بلغتهم أو بلغة أجنبية من هذه اللغات المنتشرة في الشرق، يجدون في قراءة هذا الأدب من اليسر والسهولة، ومن اللذة والمتاع ما يغريهم به ويرغبهم فيه، فأما الأدب القديم فقراءته عسيرة، وفهمه أعسر، وتذوقه أشد عسرا. وأين هذا القارئ الذي يطمئن إلى قراءة الأسانيد المطولة، والأخبار التي يلتوي بها الاستطراد، وتجور بها لغتها القديمة الغريبة عن سبيل الفهم السهل والذوق الهين الذي لا يكلف مشقة ولا عناء!
ذلك إلى أن الأدب القديم لم ينشأ ليبقى كما هو ثابتا مستقرا، لا يتغير ولا يتبدل، ولا يلتمس الناس لذته إلا في نصوصه يقرءونها ويعيدون قراءتها، ويستظهرونها ويمعنون في استظهارها. إنما الأدب الخصب حقا، هو الذي يلذك حين تقرؤه؛ لأنه يقدم إليك ما يرضي عقلك وشعورك، ولأنه يوحي إليك ما ليس فيه، ويلهمك ما لم تشتمل عليه النصوص، ويعيرك من خصبه خصبا، ومن ثروته ثروة، ومن قوته قوة؛ وينطقك كما أنطق القدماء، ولا يستقر في قلبك حتى يتصور في صورة قلبك، أو يصور قلبك في صورته؛ وإذا أنت تعيده على الناس فتلقيه إليهم في شكل جديد يلائم حياتهم التي يحيونها، وعواطفهم التي تثور في قلوبهم، وخواطرهم التي تضطرب في عقولهم.
هذا هو الأدب الحي. هذا هو الأدب القادر على البقاء ومناهضة الأيام. فأما ذلك الأدب الذي ينتهي أثره عند قراءته، فقد تكون له قيمته، وقد يكون له غناؤه، ولكنه أدب موقوت يموت حين ينتهي العصر الذي نشأ فيه. ولو أنك نظرت في آداب القدماء والمحدثين لرأيت منها طائفة لا يمكن أن توصف بأنها آداب عصر من العصور أو بيئة من البيئات، أو جيل من الأجيال، وإنما هي آداب العصور كلها، والبيئات كلها، والأجيال كلها؛ لا لأنها تعجب الناس على اختلاف العصور والبيئات والأجيال فحسب، بل لأنها مع ذلك تلهم الناس وتوحي إليهم، وتجعل منهم الشعراء والكتاب والمتصرفين في ألوان الفن على اختلافها.
وليس خلود الإلياذة يأتيها من أنها تقرأ فتحدث اللذة وتثير الإعجاب في كل وقت وفي كل قطر؛ بل هو يأتيها من هذا، ومن أنها قد ألهمت وما زالت تلهم الكتاب والشعراء، وتوحي إليهم أروع ما أنشأ الناس من آيات البيان. ولقد كان «إيسكولوس» أبو التراجيديا اليونانية يقول إنه إنما يلتقط ما يسقط من مائدة «هوميروس». وما زال القصاص وشعراء التمثيل والغناء في الغرب خليقين أن يقولوا الآن ما كان يقوله «إيسكولوس» منذ خمسة وعشرين قرنا. ولم تكن قصص «إيسكولوس» وغيره من شعراء التمثيل اليوناني أقل خصبا من الإلياذة؛ بل هي قد ألهمت من الكتاب والشعراء قديما وحديثا، وما زالت قادرة على أن تلهمهم إلى اليوم وإلى الغد.
وإني لأذكر أني قرأت منذ أعوام قصة تمثيلية هي الثامنة والثلاثون من نوعها، وقد سماها صاحبها «جيرودو» بهذا الرقم؛ فوضع لها هذا العنوان «أنفيتريون رقم 38». كانت أسطورة تتصل بمولد هرقل فصورها سوفوكل قصة تمثيلية في القرن الخامس قبل المسيح. وما زال الشعراء والكتاب من اليونان والرومان والأوربيين المحدثين يتأثرون ويذهبون مذهبه أو غير مذهبه، في تصوير هذا الموضوع، حتى انتهت القصص التي كتبت فيه شعرا ونثرا إلى هذا العدد الضخم.
ولم يحجم فحول التمثيل عن طرق هذا الموضوع لأنهم سبقوا إليه، بل زادهم ذلك حرصا عليه ورغبة فيه. وكان بين الذين طرقوه الشاعر اللاتيني «بلوت» والشاعر الفرنسي «موليير». ثم لم يشفق جيرودو من أن يطرق موضوعا سبق إليه الفحول من شعراء التمثيل في العصور القديمة والحديثة، فصور قصته هذه الثامنة والثلاثين وعرضها على النظارة في باريس سنة 1929 فكان فوزها عظيما، وإعجاب النظارة والقراء بها لا حد له.
Página desconocida
وفي أدبنا العربي على قوته الخاصة، وما يكفل للناس من لذة ومتاع، قدرة على الوحي، وقدرة على الإلهام. فأحاديث العرب الجاهليين وأخبارهم لم تكتب مرة واحدة، ولم تحفظ في صورة بعينها، وإنما قصها الرواة في ألوان من القصص، وكتبها المؤلفون في صنوف من التأليف. وقل مثل ذلك في السيرة نفسها؛ فقد ألهمت الكتاب والشعراء في أكثر العصور الإسلامية وفي أكثر البلاد الإسلامية أيضا؛ فصوروها صورا مختلفة تتفاوت حظوظها من القوة والضعف والجمال الفني. وقل مثل هذا في الغزوات والفتوح، وقل مثل هذا في الفتن والمحن التي أصابت العرب في العصور المختلفة. ولم يقف إلهام هذا التراث الأدبي العظيم عند الكتاب والشعراء الذين ينمقون النثر ويقرضون الشعر، في اللغة العربية الفصحى، بل جاوزهم إلى جماعة من القصاص الشعبيين الذين تحدثوا إلى الناس في صور مختلفة وأشكال متباينة، بما كان لآبائهم من مجد مؤثل، وبما أصاب آباءهم من محن مظلمة وفتن مدلهمة، عرفوا كيف يثبتون لها ويصبرون عليها، ويخرجون منها كراما ظافرين. ولا خير في حياة القدماء إذا لم تلهم المحدثين ولم توح إليهم رائع البيان شعرا ونثرا. وليس القدماء خالدين حقا إذا لم يكن التماسهم إلا عند أنفسهم، ولا تعرف أنباؤهم إلا فيما تركوا من الدواوين والأشعار. إنما يحيا القدماء حقا، ويخلدون إذا امتلأت بصورهم وأعمالهم قلوب الأجيال مهما يبعد بها الزمن، وكانوا حديثا للناس إذا لقي بعضهم بعضا، وكنوزا يستثمرها الكتاب والشعراء لإحياء ما يعالجون من ألوان الشعر وفنون الكلام.
إلى هذا النحو من إحياء الأدب القديم، ومن إحياء ذكر العرب الأولين، قصدت حين أمليت فصول هذا الكتاب. ولست أريد أن أخدع القراء عن نفسي ولا عن هذا الكتاب؛ فإني لم أفكر فيه تفكيرا، ولا قدرته تقديرا، ولا تعمدت تأليفه وتصنيفه كما يتعمد المؤلفون؛ إنما دفعت إلى ذلك دفعا، وأكرهت عليه إكراها، ورأيتني أقرأ السيرة فتمتلئ بها نفسي، ويفيض بها قلبي، وينطلق بها لساني، وإذا أنا أملي هذه الفصول وفصولا أخرى أرجو أن تنشر بعد حين.
فليس في هذا الكتاب إذا تكلف ولا تصنع، ولا محاولة للإجادة، ولا اجتناب للتقصير، وإنما هو صورة يسيرة طبيعية صادقة لبعض ما أجد من الشعور حين أقرأ هذه الكتب التي لا أعدل بها كتبا أخرى مهما تكن، والتي لا أمل قراءتها والأنس إليها، والتي لا ينقضي حبي لها وإعجابي بها، وحرصي على أن يقرأها الناس. ولكن الناس مع الأسف لا يقرءونها؛ لأنهم لا يريدون أو لأنهم لا يستطيعون. فإذا استطاع هذا الكتاب أن يحبب إلى الشباب قراءة كتب السيرة خاصة، وكتب الأدب العربي القديم عامة، والتماس المتاع الفني في صحفها الخصبة، فأنا سعيد حقا، موفق حقا لأحب الأشياء إلي، وآثرها عندي.
وإذا استطاع هذا الكتاب أن يلقي في نفوس الشباب حب الحياة العربية الأولى، ويلفتهم إلى أن في سذاجتها ويسرها جمالا ليس أقل روعة ولا نفاذا إلى القلوب من هذا الجمال الذي يجدونه في الحياة الحديثة المعقدة، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد.
وإذا استطاع هذا الكتاب أن يدفع الشباب إلى استغلال الحياة العربية الأولى، واتخاذها موضوعا قيما خصبا لا للإنتاج العلمي في التاريخ والأدب الوصفي وحدهما، بل كذلك للإنتاج في الأدب الإنشائي الخالص، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد.
ثم إذا استطاع هذا الكتاب أن يلقي في نفوس الشباب أن القديم لا ينبغي أن يهجر لأنه قديم، وأن الجديد لا ينبغي أن يطلب لأنه جديد، وإنما يهجر القديم إذا برئ من النفع وخلا من الفائدة، فإن كان نافعا مفيدا فليس الناس أقل حاجة إليه منهم إلى الجديد، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد.
وأنا أعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم محدثون يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه. وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها. وهم يشكون ويلحون في الشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الأخبار، وجده في طلبها، وحرصه على قراءتها والاستماع لها. وهم يجاهدون في صرف الشعب عن هذه الأخبار والأحاديث، واستنقاذه من سلطانها الخطر المفسد للعقول. هؤلاء سيضيقون بهذا الكتاب بعض الشيء؛ لأنهم سيقرءون فيه طائفة من هذه الأخبار والأحاديث التي نصبوا أنفسهم لحربها ومحوها من نفوس الناس. وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل، وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل، ولم يرضها المنطق، ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمي، فإن في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم وميلهم إلى السذاجة، واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها، ما يحبب إليهم هذه الأخبار ويرغبهم فيها، ويدفعهم إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على النفس حين تشق عليهم الحياة. وفرق عظيم بين من يتحدث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يقرها العلم وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يقدمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرة لعواطف الخير، صارفة عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش.
وأحب أن يعلم الناس أيضا أني وسعت على نفسي في القصص، ومنحتها من الحرية في رواية الأخبار واختراع الحديث ما لم أجد به بأسا، إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي، أو بنحو من أنحاء الدين؛ فإني لم أبح لنفسي في ذلك حرية ولا سعة، وإنما التزمت ما التزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث، ورجال الرواية، وعلماء الدين.
ولن يتعب الذين يريدون أن يردوا فصول هذا الكتاب القديم في جوهره وأصله، الجديد في صورته وشكله، إلى مصادره القديمة التي أخذ منها. فهذه المصادر قليلة جدا؛ لا تكاد تتجاوز «سيرة ابن هشام»، و«طبقات ابن سعد»، و«تاريخ الطبري». وليس في هذا الكتاب فصل أو نبأ أو حديث إلا وهو يدور حول خبر من الأخبار ورد في كتاب من هذه الكتب. فإذا اتصل الخبر بشخص النبي فإني أرده إلى مصدره ليستطيع من شاء أن يرجع إليه، لا أحتمل في ذلك تبعة خاصة؛ لأني لا أذهب فيه مذهبا خاصا، إلا أن يكون تبسطا في الشرح والتفسير واستنباط العبرة والوصول بها إلى قلوب الناس.
فلييسر الله سبيل هذا الكتاب إلى النفوس، وليحسن الله موقعه في القلوب.
Página desconocida
طه حسين
ديسمبر سنة 1933
الكتاب الأول
الفصل الأول
حفر زمزم
كان عبد المطلب سمح الطبع رضي النفس، سخي اليد، حلو العشرة عذب الحديث. وكان عبد المطلب أيضا قوي الإيمان، تملك قلبه وتسيطر على نفسه نزعة دينية حادة عنيفة، ولكنها غامضة، يحسها ويخضع لها، ولكنه لا يتبينها ولا يستطيع لها فهما ولا تفسيرا. وأبوه من مكة، حيث التجارة والثروة، وحيث المكر والدهاء، وحيث الوثنية السهلة التي لا تحرج فيها ولا مشقة. وأمه من يثرب، حيث الزراعة والصناعة اليسيرة، وحيث اليهودية تجاوز الوثنية فتضعفها، وتنقص من ظلها وتكاد تمحوها، وحيث الأخلاق اللينة والشمائل الحلوة، وحيث الظرف ونعومة الحياة.
ولد في يثرب، ومات عنه أبوه فلم ينقله إلى مكة، فنشأ بين أخواله وتأثر بحياتهم وتخلق بأخلاقهم وسار سيرتهم، حتى بلغ الشباب أو كاد. ثم أقبل عمه فانتزعه من إقليمه السهل الهين، إلى إقليم آخر صعب عسير، تجدب فيه الأرض، ولا تبتسم له السماء إلا قليلا، ويرحل أهله إلى الآفاق ويفد على أهله الناس من جميع الآفاق، فهم يأخذون من الناس ويعطونهم ويبادلونهم الأخلاق والشمائل كما يبادلونهم المنافع وعروض التجارة. ولعل أخلاق يثرب وخصال مكة قد اختصمت في نفس هذا الغلام. ولعل اختصامها قد طال، ولعل اختصامها قد قصر، ولكنها على كل حال قد انتهت إلى شيء من الاعتدال آخر الأمر. فلم يكتمل للفتى شبابه حتى كان فتى من قريش، ولكنه يمتاز من بقية فتيان قريش؛ فيه ذكاؤهم وفطنتهم، وفيه إباؤهم وعزتهم، ولكن فيه دعة لم تكن مألوفة عندهم، وفيه شدة في الدين قلما كانوا يرضونها أو يبسمون لها. على أن خصلة أخرى ميزته منهم أشد التمييز؛ فلم يكن يصدر في حياته، كما كانوا يصدرون، عن الروية والتفكير وطول التدبر، وإنما كانت تدفعه إلى العمل والاضطراب في الحياة قوة خفية يحسها ويأبى عليها ويغلو في الإباء، ولكنه يضطر إلى أن يذعن لها ويأتمر أمرها. وكانت هذه القوة تصدر إليه أمرها في أشكال مختلفة: تدفعه إلى العمل حينا وكأنها إرادته الخاصة، قد ملكت عليه حسه وشعوره، فهو لا يستطيع عنها انصرافا، ولا يملك لها خلافا. وتتمثل له حينا آخر شخصا واضح المخايل، بين الصورة، يلم به إذا اشتمله النوم، فيأمره أن يأتي كذا وكذا من الأمر. وتنتهي إليه مرة ثالثة صوتا رفيقا، ولكنه ملح يملأ أذنيه يقظان، ويملأ أذنيه نائما، يحثه على أن يأتي كذا وكذا من الأمر. وكان في هذا الصوت غموض، وكان في هذا الصوت إبهام، وكان في هذا الصوت جلال مصدره هذا الغموض والإبهام. وكان الفتى ينكره ويرتاع له، وكان الصوت يغمره ويلح عليه. وكان الفتى يخاف هذا الصوت ويهواه، وكان الصوت يتجنب الفتى حتى يؤيسه من نفسه، ويلم به فيكثر الإلمام. ولم يكن هذا الصوت يقع في أذن الفتى بألفاظ كالتي تقع في آذان الناس إنما كان يصطنع ألفاظا خاصة غريبة الجرس غريبة المعنى.
كانت إليه رفادة الحاج وسقايته بعد عمه المطلب، فكان يطعم الناس إذا حجوا البيت ويسقيهم، يجمع لهم الماء في أحواض من الأدم. وكان يجد في جمع هذا الماء لسقاية الحجيج جهدا وعسرا. فبينا هو نائم ذات يوم أو ذات ليلة أتاه آت رأى شخصه ولم يتبين له سمة ولا شكلا، وقال له في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة: «احفر طيبة.» قال: «وما طيبة؟» فانصرف الشخص، وانقطع الصوت. وأفاق الفتى وفي نفسه ذعر وعجب وأمل، وحاول أن يعود إلى النوم، لعله يرى هذا الشخص، أو يسمع هذا الصوت، أو يتبين هذا الحديث، ولكن كان النوم قد خاصم عينيه، وانصرف عنه مع هذا الشخص الغريب. ففكر وأطال التفكير، وقدر وأطال التقدير، وتقلب في مضجعه فأكثر التقلب، حتى ضاق بالنوم واليقظة وسئم مضجعه، فجلس يرقى ببصره الحائر إلى السماء، لعل شمس النهار أو نجوم الليل تفسر له هذه الرؤيا. ويخفض بصره إلى الأرض لعله يجد في إطراقه تفسير هذه الرؤيا. ويمد بصره نحو الكعبة، لعل صنما من هذه الأصنام المنصوبة يوحي إليه تعبير هذه الرؤيا. ولكن السماء صامتة والأرض ساكنة، وعلى أصنام الكعبة شيء كأنه الوجوم، فيرتد إلى الفتى بصره متعبا مكدودا. وتهوي نفسه إلى قرارة ضميره، لعلها تجد لهذا الرمز تأويلا فلا تجد شيئا؛ فيشتد بها الذعر، ويزداد فيها العجب. ويبقى الأمل. وينهض الفتى فيضطرب مع الناس فيما يضطربون فيه من أمور الحياة.
ثم يقبل الليل ويأوي الفتى إلى مضجعه، وقد أنسي كل شيء، إلا أنه قد مشى كثيرا، وأجهد نفسه كثيرا، وأنه أشد ما يكون حاجة إلى أن يبسط عليه النوم جناحيه. ها هو ذا مغرق في نوم هادئ مطمئن، وقد هدأ من حوله كل شيء، واطمأن في نفسه وجسمه كل شيء. ولكن ما هذا الشخص الغريب يقبل ساعيا إليه في أناة، حتى إذا دنا منه قال له في صوت رفيق غريب فيه أنس وفيه وحشة: «احفر برة!» وجسم الفتى هادئ مطمئن، ولكن نفسه ثائرة مضطربة، ولسانه يتحرك في ثقل وصوته ينبعث من بين شفتيه خفيفا رقيقا بهذه الكلمة: «وما برة؟» فينصرف الشخص، وينقطع الصوت، ويفيق النائم وجلا مذعورا، معجبا آملا، ويفكر ويقدر ويتقلب. ثم ينهض فيسأل السماء ولكنها صامتة، ويسأل الأرض ولكنها ساكنة، ويسأل أصنام الكعبة ولكنها مغرقة في البله والوجوم. ويضيق الفتى بنفسه وبالسماء والأرض والأصنام؛ فيهيم على وجهه يلتمس في الحركة والاضطراب نسيان هذا الطائف الذي يفزعه ويغريه.
ثم يعمل الناس في أمور الحياة، وينقضي النهار بخيره وشره، وحلوه ومره؛ ويقبل الليل شيئا فشيئا، فيبسط أرديته السود على ما يحيط بمكة من جبال وآكام، وما يزال يمد في هذه الأردية حتى يغمر كل شيء ويستر كل شيء، لولا هذه المصابيح الضئيلة التي تشب في الأرض، وهذه النجوم القليلة التي تضطرب في السماء. وقد سمر الفتى مع السامرين، فسمع أحاديث التجار عن غرائب الأقطار: هذا يحدث عن صور بصرى وعظمتها، وهذا عن الخورنق والسدير، وهذا يذكر غمدان، وهذا يصف أخلاق اليمانيين ومكرهم بالتجار، وهذا يتحدث عن سذاجة أهل الشام وانخداعهم لغربان العرب، وهذا يذكر ما أفاد من ربح حين باع الأدم في الحبشة، وهذا يذكر للقوم ما حمل لهم من خمر بيسان. وهم في أثناء هذا كله يتندرون على العجم والأعراب، ويتفكهون بأحاديث أولئك وهؤلاء، ويسخرون من أولئك وهؤلاء. حتى إذا تقدم الليل واطمأن كل شيء تفرقوا، ونهض الفتى ثقيلا، فمشى إلى بيته متباطئا يود لو فر من النوم، ويود مع ذلك لو نام فألم به هذا الطائف. انظر إليه! إنه ليتردد: أيقذف بنفسه في أمواج النوم هذه التي تتمثل أمام عينيه؟ أم يبقى على الشاطئ يقظان يداعبه النوم ولا ينام؟ ليتردد ما استطاع، ليمتنع على النوم ما وسعه الامتناع؛ فإن هذه الأمواج المصطخبة أمامه تستطيع أن تطغى على الشاطئ فتغمره، وتغمر معه كل شيء. وكيف يستطيع هذا الفتى أن يمتنع عليها، وما استطاعت أن تمتنع عليها جبال مكة هذه التي تحيط بها من كل ناحية! انظر! أترى حركة؟ اسمع! أتحس نبأة؟ كل شيء هادئ، كل شيء مطمئن؛ فما نبوك وما امتناعك! هلم إلى النوم لا تخف شيئا؛ إن هذه الأمواج تريح ولا تغرق. أقبل إلى هاتين الذراعين اللتين تمتدان إليك، فستنسى بينهما كل شيء. ومن يدري! لعلك تجد بينهما شفاء لنفسك الحائرة. وأطبق الفتى جفنيه واندفع أمامه، فاشتملت عليه أمواج النوم كما اشتملت على غيره من الناس والأشياء. ولكن ماذا؟ هذا شخص يتقدم ساعيا هادئا كأنه يمشي على الهواء، حتى إذا دنا من الفتى، قال في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة: «احفر المضنونة.» جسم الفتى هادئ ولكن صورة من الحيرة قد ارتسمت على جبهته، وهذا صوت خفيف رقيق ينبعث بين شفتيه وهو يقول: «ما المضنونة؟» فينصرف الشخص. ويفيق الفتى مذعورا مأخوذا، قد أظلم في نفسه كل شيء، وأحاط اليأس بعقله وقلبه وضميره، لا يرتفع بصره إلى السماء، ولا ينخفض إلى الأرض. ولا يمتد إلى أصنام الكعبة، ولكنه يدور حائرا. وينهض الفتى وهو يقول: ما أرى إلا أني سأجن؛ لئن أصبحت لآتين الكاهن، فلعلي أجد عنده من هذا العارض شفاء.
Página desconocida
أقبل أيها الصبح! أسرع في الخطو، ارفق بهذه النفس الحائرة؛ هلم إلى سوطك المشرق المضيء، فبدد به هذه الأشخاص الماثلة، فرق به هذه الظلال المضطربة من حولي. ويقضي الفتى ليلا طويلا ثقيلا، حتى إذا كست الشمس بضوئها النقي ظواهر مكة وبطاحها، أسرع الفتى إلى المسجد يريد أن يقص أمره على الكاهن. ولكنه لا يكاد يبلغ مجالس قريش في فناء المسجد، حتى تذهب عنه حيرته، ويفارقه وجومه، ويمتلئ قلبه اطمئنانا وثباتا. ماذا؟ أأزعم للكاهن أني مجنون، وتشيع في هذه المقالة. ويضحك مني حرب بن أمية ولداته، ويتندر علي فتيان مخزوم! كلا! ما أكثر هذه الخيالات التي تسكن إلى نفسها في قبور الموتى، وتختبئ في الكهوف والأغوار ما أضاءت الشمس واستيقظت الطبيعة، فإذا أظلم الليل ونام الكون، انتشرت هذه الخيالات في الجو، فمنها ما يصعد في السماء يرعى النجوم، ومنها ما يهبط الأرض يروع الناس. وما أرى أن هذا الطائف الذي يؤرقني منذ ثلاث إلا خيالا من هذه الخيالات، لعله ظل ميت من موتى قريش قد أنسيه قومه، فهم لا يزورونه ولا يقربونه إليه. لعله شيطان من هذه الشياطين التي تلح على الإنس فتتقاضاهم الطاعة وتخضعهم لسلطانها كرها. لعله نذير من أحد الآلهة يطالب بالتضحية والقربان. لقد مضت أيام ولم تقدم إلى الآلهة شاة ولم ينحر لهم جزور، ولم تصطبغ أرض المسجد بهذا الدم الحار القانئ الذي تحب الآلهة لونه ورائحته. إيه يا عبد المطلب؛ تقرب إلى الآلهة بضحية ترضيهم لعلهم يرضون، ولعلهم يكفون عنك هذا الشر. وأقبل الفتى على مجلس من مجالس قريش، فتحدث وسمع، ولكنه كان شارد النفس، فلم يطل الحديث ولا الاستماع ونهض موليا. فلما انصرف عن القوم قال حرب بن أمية لمن حوله: أرأيتم إلى سري بني هاشم! إني لأراه محزونا، وإني لأعرف في وجهه الهم، لم يحدثنا اليوم عن مآثر أبيه ومفاخر عمه.
ومضى الفتى إلى أهله. فلما دخل على امرأته أنكرت عودته إليها من الضحى، فاستقبلته دهشة وهي تقول: إيه يا شيبة! ما خطبك؟ إني لأنكرك منذ أيام، أراك مؤرق الليل، قلق النهار، قليل الحديث، طويل التفكير. ولقد هممت أن أسألك مرات، ولكني خشيت ردك علي وانتهارك لي؛ فإني لأعلم فيكم معشر قريش رقة للنساء، ودعابة معهن، ولكني لا أجد عندك ما أجد عند قومك؛ فأنت صامت إذا خلوت إلى أهلك، وأنت مقطب الجبين إن ظلك معهم سقف. تحدث! ما يحزنك؟ اخرج عن هذا الصمت الذي لزمته، كن رجلا من قريش، أشرك أهلك فيما يعنيك. لقد أذكر يوم أنبأني أبي أنك خطبتني إليه. لقد فرحت بهذا النبأ، لقد كنت أتحدث إلى أترابي في البادية بأني سأصبح امرأة من قريش، أجد من نعمة الحياة ولينها، ومن ظرف الزوج ورقته ما لا يجدن تحت خيام بني عامر بن صعصعة. ولكني وجدت نعمة ولينا، ووجدت حبا وعطفا، ووجدت عناية لا تعدلها عناية، ولم أجد أحب ما كنت أطمح إليه: لم أجد منك ابتسام الثغر، ولا انبساط الجبين، ولا انطلاق اللسان.
قالت ذلك وانتظرت هنيهة. فأجابها زوجها بصوت هادئ حزين: عزيز علي يا سمراء ما تجدين من حزن، وما تحسين من خيبة أمل! إني لأحبك كما يحب الظمآن ما ينقع غلته من الماء العذب، إني لآنس إليك أنسا يزيل عن نفسي كل هم، ويحبب إلي الحياة ويرغبني فيها. إني لأشتاق إلى التحدث إليك والاستماع لك والأنس بك. ولو خيرت لما عدلت بمجلسك مجلس قريش، ولا ببيتك فناء المسجد ودار الندوة. ولكن قوة خفية عاتية طاغية تملك علي نفسي، وتأخذ علي كل سبيل وتدفعني إلى حيث لا أدري ولا أريد. إيه يا سمراء! إني لمؤرق الليل، قلق النهار، مفرق النفس منذ ليال، وإني لأخشى على نفسي شرا. هذا طائف يلم بي إذا أغرقت في النوم، فيأمرني بصوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة، أن أحفر شيئا يسميه طيبة، ويسميه برة، ويسميه المضنونة. فإذا سألته عما يريد، انصرف شخصه، وانقطع صوته، وأفقت حائرا مذعورا لقد هممت يا سمراء أن أقص رؤياي هذه على الكاهن، وأن أصف له ما أرى وما أجد، ولكني أشفقت أن يتحدث الناس عني أني مجنون، أو أن يتندر بي فتيان قريش فيقولون: إن له رئيا من الجن. أشيري ماذا ترين؟ قالت سمراء: هون عليك ولا تغل في الخوف ولا تسرف في الإشفاق. ما أكثر ما يلم أمثال هذا الطيف بالناس عندنا في البادية، فلا يحفلون ولا يأبهون. ومع ذلك فما يمنعك أن تتقرب أنت إلى الآلهة في غير توسط للكاهن ولا توسل به؛ قم فضح لهم، وقرب إليهم، فسيرضون وسيرضى الفقراء والجائعون، وسيغيظ ذلك قوما من قريش.
وما هي إلا ساعات حتى كان فناء المسجد يموج بالناس، فيهم الفقراء قد أقبلوا من البطاح والظواهر، وفيهم الأغنياء قد أقبلوا يقدمون الضحايا بين أيديهم. هؤلاء يتنافسون أيهم يغلي الضحايا ويكثر منها، وأولئك ينتظرون ويمنون أنفسهم بغريض اللحم وجيده. لقد سمعوا أن عبد المطلب يريد أن يضحي، وأن بني هاشم قد حفلت لذلك؛ فكرهت أمية ألا تفعل فعلهم، وكرهت مخزوم أن تسبقها عبد مناف، فأقبل أشراف قريش يستبقون في التضحية ويتنافسون في القربان. تنافسوا! تنافسوا أيها الأشراف! استبقوا أيها الأغنياء! فإن في ذلك شبع الفقراء وسعادة الأشقياء.
وقضت مكة يوما داميا سمينا ، كثر فيه الطعام، وكثر فيه الشراب، ورضيت فيه الأصنام. وسعد الفتى بما رأى، ونسي الفتى ما كان يهمه وينغصه، وقدر الفتى أن قد صرف عنه الشر، ورد عنه المكروه. ورضيت سمراء، فتحدثت كثيرا وسمعت كثيرا، وأضحكت زوجها وابنها الحارث بملح الأعراب ونوادر البادية، وقالت لزوجها وهي تمسح رأسه: أحبب إلي بهذا الطائف الذي أرقك وأضناك؛ فقد حقق أملي وأراني ما كنت أطمح إليه، ورسم في قلبي صورتك جميلة خلابة، فلن أراك منذ اليوم - مهما تكن الخطوب - إلا باسم الثغر، منبسط الجبين، منطلق اللسان. وهل السعادة إلا لحظات قصار، تصيبنا ولم ننتظرها ولم نقدر لها حسابا؛ فما أسعد القلب الذي يحتفظ بهذه اللحظات حين تمر، ويتخذها ذخرا للأيام وما يعرض فيها من الخطوب!
قال عبد المطلب: إذا فأنت راضية يا سمراء. إن رضاك ليقع من نفسي المخزونة موقع الماء من الأرض المجدبة. انعمي بما أنت فيه، وانتظري أن يقدر الله لك خيرا منه. فلو قد صرفت عني هذه القوة العاتية الطاغية، لأريتك يا سمراء كيف تطيب الحياة، وكيف ترق حواشي العيش!
وأوى الفتى إلى مضجعه راضيا مسرورا، واستقبل النوم مبتهجا له راغبا فيه. ولكن هذا الشخص يقدم عليه ساعيا في هدوء، كأنما يمشي في الهواء، حتى إذا دنا منه انحنى عليه، ووضع على جبهته يدا باردة خفيفة وقال في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة: «احفر زمزم.» واضطرب جسم الفتى كله، واضطربت نفس الفتي كلها، وانفتحت شفتاه عن هذه الكلمة: «وما زمزم؟» قال الطيف بصوت رفيق مؤنس، قد فارقته الغرابة والوحشة، ومازجته سخرية ورحمة: «لا تنزح ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم.» قال الفتى: «الآن قد وعيت.» فتولى عنه الطيف باسما وهو يقول: «لله أنتم أيها الناس؛ لا يكفيكم الوحي، ولا تفقهون إلا سجع الكهان! رويدا! عما قريب سيضيء الصبح!» ونهض الفتى مبتهجا مسرورا. فلما أصبح دخل على سمراء مشرق الوجه مضيء الأسارير.
قالت وهي تسعى إليه: أيهما أحب إلى نفسي إشراق وجهك أم إشراق الشمس؟! ما أرى إلا أنك قضيت ليلا هادئا.
قال: انعمي صباحا يا سمراء! لقد طابت الحياة منذ اليوم. إن هذا الطائف الذي يلم بي منذ ليالي، طائف خير يأتي بالنعمة والغيث. إنه يأمرني أن أحتفر في فناء المسجد بئرا، فلأفعلن منذ اليوم. ولئن ظفرت بها ليشربن الحجيج في غير جهد ولا عسر. هلم يا حارث خذ معولا
1
Página desconocida
ومكتلا
2
ومسحاة
3
واتبع أباك.
الفصل الثاني
التحكيم
لاهم قد لبيت من دعاني
وجئت سعي المسرع العجلان
ثبت اليقين صادق الإيمان
Página desconocida
يتبعني الحارث غير وان
جذلان لم يحفل بما يعاني
لاهم فلتصدق لنا الأماني
ما لي بما لم ترضه يدان
كان صوت عبد المطلب يندفع بهذا الرجز عريضا يملأ الفضاء من حوله، نقيا يكاد يبعث الحنان فيما يحيط به من الأشياء. وكان كل شيء مستقرا لا يضطرب فيه إلا هذا الصوت العريض النقي، وإلا هذه الذراع التي ترتفع بالمعول قوية، ثم تهوي به محتفرة، ثم تدعه إلى المسحاة فتغرف بها التراب في المكتل، وإلا هذا الغلام الناشئ يرقب حركة أبيه، ويسمع صوته ويرد عليه رجع هذا الصوت كلما وصل في الدعاء إلى هذا البيت:
لاهم فلتصدق لنا الأماني!
حتى إذا امتلأ المكتل حمله بذراعيه الضعيفتين، وأسرع في شيء من الجهد إلى خارج المسجد، فألقى ما فيه ثم عاد، وأبوه يرفع المعول في الجو ويهبط به إلى الأرض، ويملأ فضاء البيت بصوته العريض، والعرق يتصبب على جبينه، ولكنه لا يحس جهدا ولا يجد إعياء. وكانت الشمس قد ألقت على الأرض رداء من النور نقيا، ولكنه ثقيل همد له كل شيء، وأوى له الناس إلى بيوتهم يقيلون، وانقطعت له الحركة، وخفتت الأصوات، إلا هذه الجنادب التي يروقها وهج الشمس، ويسكرها لهب القيظ، فتصدح بالغناء إذا سكت كل شيء. وقد أخذ الغلام يحس لذع الجوع وحر الظمأ، ولكنه لا يقول شيئا، بل لا يكاد يفكر في شيء، إنما سمعه وقلبه لصوت أبيه، وعيناه للمكتل والتراب، ونشاطه لإفراغ المكتل إذا امتلأت. وهما في ذلك، إذا غلام يسعى قد أرسلته سمراء، يحمل إلى الرجل والغلام شيئا من طعام وشراب، حتى إذا انتهى إليهما وضع ثقله وقال: مولاي، هذا غذاؤك وغذاء الصبي، قد أعدته سيدتي العامرية، هيأته بيدها، وهي تعزم عليك لتصيبن منه، ولترفقن بنفسك ولترفهن على هذا الصبي الحدث! لقد قال الناس جميعا، وهدأ كل شيء لهذا الوهج الذي يصهر الأبدان ويحرق الجلود، وأنت فيما أنت فيه من جد يضني، وجهد يهلك، لا تقيل ولا تستريح، ولا تريح هذا الطفل الذي لم يتعود الجهد والعناء، بعض هذا يبلغك ما تريد. ولكن عبد المطلب لم يسمع للغلام إلا بأذن معرضة، ولم يستقبله إلا بوجه مشيح، إنما هو ماض في رجزه واضطراب يده بالمعول ارتفاعا في الجو وهبوطا إلى الأرض، والصبي يتبعه بسمعه وقلبه، ولكن عينه ربما اختلست نظرة قصيرة ملؤها الجوع والظمأ والنهم إلى هذه السلة وما فيها، وربما وقف ذهنه الصغير عن متابعة أبيه. وانصرف إلى ما في هذه السلة يعدده ويحصيه ويتمثله: إن فيها لشواء غريضا وإن فيها للبنا يمازجه عسل هذيل الذي حمله خاله فيما حمل من هدايا البادية حين أقبل يزور أخته منذ أيام، وإن فيها لماء عذبا. ومن يدري! لعل سمراء قد نقعت فيه شيئا من زبيب الطائف؛ فإنها تجيد ذلك وتحسنه. وعبد المطلب ماض في رجزه وفي حركة يديه بالمعول والمسحاة، وقد امتلأ المكتل، فيهم الصبي أن يحمله ليلقي ما فيه. ويدنو الغلام يريد أن يعينه في ذلك، ولكن عبد المطلب ينهره نهرا عنيفا: «إليك يا غلام! فما لهذا الأمر إلا عبد المطلب وابنه.»
ويمضي الصبي بالمكتل ويعود، ولكن الرجز قد انقطع، وذراع عبد المطلب لا تضطرب بالمعول صعودا وهبوطا، وإنما هو مطرق إلى الحفرة ينظر فيها فيطيل النظر، ثم يرفع بصره إلى السماء فيطيل رفعه، ثم يدير عينيه من حوله كأنه يريد أن يلتمس شيئا أو أن يلتمس أحدا، ثم يدعو ابنه في صوت ملؤه الدهش والحيرة والرضا والإشفاق: هلم يا حارث انظر! أترى ماء؟ - كلا يا أبت! وإنما أرى ذهبا وسلاحا. - ومع ذلك فلم أوعد بذهب ولا سلاح، وإنما وعدت بالماء لسقي الحجيج. إن وراء هذا الأمر لسرا! ولكن هلم يا بني، فما أرى إلا أن الظمأ والجوع قد أجهداك.
وأقبل الرجل وابنه على السلة فأصابا مما فيها ذاهلين واجمين، ما أحسب أنهما وجدا لما يصيبان طعما أو حسا له ذوقا، يصرفهما عنه هذا الذهب الذي يتوهج في الحفرة، وهذا السلاح الذي يظهر أنه كثير ثقيل. حتى إذا فرغا من طعامهما عاد عبد المطلب إلى الحفرة فيستخرج ما فيها، فإذا غزالان من ذهب نقي ثقيل، وإذا سيوف ودروع فيكبر، ويرفع صوته بالتكبير ويسرع إليه أفراد قليلون كانوا قد بدءوا يفدون إلى المسجد، كدأب قريش حين كانت تخف وطأة القيظ، فإذا رأوا هذا الكنز دهشوا ثم تصايحوا، ثم يفيض الخبر فيتجاوز المسجد، وإذا شباب قريش وشيوخها يقبلون سراعا مزدحمين، يسرع ببعضهم حب الاستطلاع، ويسرع ببعضهم الآخر الطمع في الغنيمة، ويسرع بفريق منهم باعث ديني غامض، فيه خوف وفيه رجاء وفيه إكبار للآلهة، وتوقع للمعجزة الخارقة. حتى إذا توافوا جميعا، واستوثقوا من أن عبد المطلب قد وجد كنزا، وعرفوا حقيقة هذا الكنز، وقوموا ذهبه الخالص، وصناعته البارعة، وما فيه من سيوف ودروع، أداروا أمرهم بينهم: لمن يكون الكنز؟ قال هشام بن المغيرة: إنما هو لقريش! فقد وجد في المسجد، وكل ما وجد داخل الحرم في أرض عامة فهو لقريش. وقال حرب بن أمية: إنما هو لبني عبد مناف خاصة؛ فهم الذين احتفروا وهم الذين ظفروا، وما ينبغي لقريش أن تغلبنا على خير ساقته إلينا الآلهة.
وتنازع القوم وطال النزاع، واختصم القوم واشتدت الخصومة، وعبد المطلب صامت مطرق، لا ينطق بكلمة ولا يأتي بحركة. هنالك صاح به حرب: ما لك لا تقول وأنت الذي وجد الكنز، وأنت أحقنا بأن ترى رأيك فيه؟! قال عبد المطلب في هدوء وأناة: ما ينبغي أن يكون الكنز لأحد حتى نستشير الآلهة؛ فما حفرت ولا ظفرت إلا بأمر خفي، وما أرى إلا أن للآلهة في ذلك إرادة وقدرا لا نبلغهما حتى نسأل الكهان. هنالك وجمت قريش وغضب بنو عبد مناف، وأنكروا جميعا في أنفسهم أن يشرك عبد المطلب معهم الآلهة في هذا الكنز الدفين. ولكنهم لم يقولوا شيئا، وما كان لهم أن يقولوا شيئا. ومن الذي يستطيع أن يرد قضاء الآلهة؟ حمل الكنز إذا إلى الكعبة. وأقبل القوم إلى الكاهن يسألونه أن يضرب بالقداح. وها هو ذا يضرب بقداحه، ثم يضرب، ثم يضرب بين قريش والكعبة، فتخرج القداح للكعبة ثلاثا، فيصيح عبد المطلب: لقد ظهر قضاء الله، فليكن ما أراد! تفرقوا يا معشر قريش؛ تفرقوا يا بني عبد مناف! فليس لأحد منكم في هذا الكنز نصيب! أما هذا الذهب فسيضرب صفائح على باب الكعبة. وأما هذه السيوف فستعلق عليها. وأما هذه الدروع فستدخر في خزائنها. ثم التفت إلى ابنه وقال: هلم يا حارث، اتبعني لنمضي فيما كنا فيه. وتفرقت قريش وفي صدورها غل وحنق. ولكن ثلاثة نفر من أهل الظواهر انتحوا ناحية، وأقاموا يرددون الطرف بين الكنز والكعبة وعبد المطلب، ثم انصرفوا وقد فهم بعضهم بعضا. وأصبح الناس ذات يوم وإذا بالكعبة قد جردت مما علق عليها من ذهب وسلاح.
Página desconocida
وراح عبد المطلب مع المساء إلى أهله محزونا مكدودا، راضيا مع ذلك، لم يفارق قلبه الأمل. فاستقبلته سمراء فاترة لم تسع إليه ولم تبتسم له، ولكنها لم تعرض عنه ولم تتجهم له. فلما سألها عن هذا الفتور أطالت الصمت. ولما ألح في السؤال، قالت: وبم تريد أن أبتهج؟ ولم تريد أن أبتسم؟ لقد علمت منذ زفني أبي إليك أني قد تزوجت رجلا لا كالرجال. لقد أحببتك ولكني أنكرتك. لقد أملت فيك ويئست منك، ثم عاد إلي الأمل أول أمس، ثم ها أنت ذا ترد إلي اليأس مظلما حالكا قبيح الوجه، بشع المنظر كأنه الغول. ماذا؟! يلم بك الطائف أربع ليال، يهيب بك ويلح عليك، رمزا حينا ومصرحا حينا ومصرا دائما، حتى إذا أذعنت لأمره وانتهيت إلى ما سيق إليك من خير وادخر لك في الأرض من غنى زهدت فيه وانصرفت عنه، وأشفقت أن تسلمه إلى قريش أو إلى بني عبد مناف، فيقال: ألقى بيده ونزل عن غنيمته؛ فصرفت ذلك عنك وعنهم إلى هذه البنية
1
تحليها بالذهب وتعزها بالسلاح! وماذا تصنع الأحجار القائمة بذهبك وسلاحك! لله أنتم يا معشر قريش! إنكم لتكبرون من هذا البناء المنصوب ما لا نكبر نحن في البادية. ولولا حاجاتنا ومنافعنا لما هبطنا بطاحكم حاجين ولا معتمرين، ولكنكم قوم ضعاف تكبرون ما لا يكبر، ويغركم أن أفئدة الناس تهوي إليكم، تحسبونهم يقبلون إليكم بالدين وينصرفون عنكم بالطاعة. وإنما يقبلون عليكم بما عندهم من عروض، وينصرفون عنكم بما تحملون لهم من الآفاق.
هلا طاولت قريشا وانتظرت بهذا الكنز حتى تروح إلي! لقد كان فيه غنى لك ولهذا الصبي الذي تعنيه وتضنيه منذ ألم بك ذلك الطائف. هلا تريثت أو اصطنعت الأناة! إذا لاحتويت الكنز ولأصبحت أغنى قريش وأكثرهم مالا، ولما استطاع بنو عبد شمس أن يكاثروك بما يملأ خزائنها من الدراهم والدنانير. إذا لأقبلت إليك بنو عامر بقوتها وبأسها فأعزتك ومنعتك من قريش ولكنك أشفقت وملأ قلبك الفرق، وعبثت بنفسك بقية من كبرياء، فأفقرت نفسك، وقضيت على ابنك هذا أن يكون دون بني حرب ثروة ومالا. قال عبد المطلب محزونا: هوني عليك يا سمراء، وأقلي اللوم، فما أرى أنك تفقهين مما ترين شيئا. لا أحب لوجهك هذا النضر أن تعلوه غبرة الحرص على المال. وما أحب لصوتك هذا العذب أن تشوبه مرارة الحديث عن المال. وما أرضى وإن نسلتك أشراف بني عامر أن تغضي من أمر قريش. إن فيكم - أهل البادية - لطباعا غلاظا ونفوسا يملؤها الطمع. أنتم لا تحسبون الدين ولا تقدرون الغيب، ولا تؤمنون إلا بما ترون، ولا تخافون إلا القوة الظاهرة. لقد كنت أحسب أن مقامك الطويل بمكة قد غير نفسك بعض الشيء، فإذا أنت اليوم كما كنت يوم انحدرت من بادية نجد إلى هذه البطحاء. هوني عليك ولا تشغلي نفسك بما لست منه في قليل ولا كثير. لقد أمرني الطائف أن أحتفر، ووعدني أن أجد الماء لأسقي الحجيج لا أن أجد الذهب لأغنيك وأدخل الخصب على بني عامر؛ فليس هذا الذهب لي ولا لقريش وإنما هو مخبوء لأمر يراد. وإني لمن قوم لا يحبون الغضب ولا يستأثرون بما ليس لهم، ولا يمنعون الحقوق. فإن تكن غلظة الأعراب وجفوة البادية وجحودها قد شاقتك فزمي رحالك غدا وألمي بأهلك! فهم أحق بك وأدنى إليك. قال ذلك ونهض غاضبا، وتركها واجمة بهذا الحديث العنيف تقاوم غيظا لم يلبث أن استحال إلى دموع غلاظ تحدرت على خديها كأنها لؤلؤ العقد قد خانه النظام.
وارتفع صوت عبد المطلب بالتكبير حتى امتلأ به المسجد وفاض من حوله، وحتى اضطربت له مجالس قريش في فناء البيت، فخف الناس إليه وهم يقولون: ما نرى ابن هاشم هذا إلا مطروقا يلقى من الجن شططا، ويريد أن نلقي منه شططا. أقبلوا إليه سراعا يزدحمون وقد آلى أشرافهم لئن وجدوه قد ظفر بكنز وعثر على غنيمة، ليغبننه عليها، وليعطنه منها نصيب رجل من قريش. وانتهوا إليه وهو يكبر ويصيح: هذا طوي إسماعيل! هذه بئر زمزم! هذه سقاية الحاج! لقد صدق الوعد وتحقق الأمل.
فنظروا فإذا عبد المطلب قد وجد الماء، وإذا هو يستقي فيشرب ويسقي ابنه، ويرسل الماء بيديه من حوله كأنه يريد أن يسقي الأرض والهواء والناس. هنالك ابتسموا له ورفقوا به، وقالوا: لقد بررت بقومك يا شيبة، وأنبطت لهم هذا الماء يستقون منه، إذا ضنت عليهم الينابيع، فوصلتك رحم! لتعرفن لك قريش هذه اليد. قال: ما أنتم وذاك! هذه بئري قد حفرتها، وكشفت طيها بأمر هبط إلي من السماء. وهذا شرب ساقه الله إلي سأسقيكم منه إن أردت، ولكني أسقي الحجيج منه قبل أن أسقيكم، فبذلك أمرت وأنا على ذلك قائم. قالوا: يابن هاشم! إنك لتسرف على نفسك، وتشط على قومك، وتختلق على السماء! إن هذه الأرض ليست لك، وإنما هي لله ثم لقريش، وإن كل ما وجد فيها فهو لله ثم لقريش، وإنا لم نشهد أمر السماء حين تنزل إليك. ومتى تنزل أمر السماء على الناس إلا من طريق الكهان! فأين الكاهن الذي أمرك أن تحتفر؟ قال: يا قوم! خلوا بيني وبين الماء، فوالله لن تبلغوا مني شيئا. إنكم تكثرونني بعددكم وعديدكم، ولكن الذي أمرني باستنباط هذا الماء حري أن يرد عني كيدكم ويحميني من ظلمكم. إنكم تستضعفونني حين ترون أني أبو واحد، ولكن الذي سخرني لهذا الأمر خليق أن يمنحني من الولد من أكاثركم به. وإني أقسم لئن منحني من الولد عشرة ذكورا أراهم بين يدي لأضحين له بواحد! وسمع بنو عبد مناف مقالة عبد المطلب فثارت نفوسهم وتعصبوا له وقاموا من دونه يردون عنه عدوان قريش. وكاد الشر يقع بين القوم، ولكن عبد المطلب قال يا قوم فيم قطع الأرحام، وخفر الذمام، وإراقة الدماء! إني والله ما أوثر نفسي من دونكم بشيء. فإن أبيتم أن تؤمنوا لي فهلم إلى حكم فليقض بيننا. قال الملأ من قريش: لقد أنصفكم ابن أخيكم من نفسه، فليكف بعضكم عن بعض، ولنحتكم إلى كاهنة بني سعد هذيم، فما نعرف أبصر منها بمواقع الحكم.
وكانت قافلة قريش تتجهز للرحلة إلى الشام؛ فأجمع القوم أن يصحبها رسلهم إلى الكاهنة في معان. فلما فصلت العير صحبها عبد المطلب في عشرين من بني عبد مناف، وأرسلت قريش معها عشرين من بطونها المختلفة، ومضى القوم ترفعهم النجاد وتحطهم الوهاد حتى طال بهم السفر، ونفد ما كان معهم من ماء، واشتد بهم الظمأ وأحرق أكبادهم الصدى، وغدوا ذات يوم في فلاة مبسوطة يحار فيها الطرف دون أن يهتدي إلى أمد، ليس فيها عين ولا بئر، ولا شجرة ولا عشب، وإنما هي أرض ملساء جرداء تقع عليها أشعة الشمس الملتهبة فتلهبها تحت الأقدام. وقد يئس القوم من كل روح، وقنطوا من كل وجهة، فاجتمعوا يتشاورون. قال قائل منهم: يا قوم؛ إنما هو الموت فأنتم بين اثنتين: إما أن تموتوا ضيعة وتصبح أجسامكم نهبا لسباع الأرض والجو، لا تواريكم يد في التراب، ولا تأوي نفوسكم إلى جدث تطمئن فيه؛ وإما أن يقوم بعضكم على بعض، ويواري بعضكم بعضا، فيكون لكل منكم حفرته، وتعرف نفوسكم إذا هامت في الفضاء الواسع، وألمت بأهلها في بطاح مكة وظواهرها، كيف تهتدي إلى أجسادها فتلم بها وتسكن إليها. والرأي أن يحتفر كل منكم حفرته، وأن تقيموا، فأيكم ذهب الصدى بنفسه وأراه أصحابه وبكوا عليه، فلا يذهب منكم ضيعة إلا رجل واحد تمتد به الحياة إلى أقصى أجل.
قال ذلك قائلهم ونهض فأخذ يحفر حفرته؛ وتثاقل القوم بعض الشيء، يفكرون في أولادهم وآخرتهم، ويذكرون مكة ومن تركوا فيها من أهل وولد ومال، ويذكرون الشام وينظرون إلى ما كانوا يحملون إليها من تجارة، ويفكرون فيما كانوا ينتظرون أن يحققوا فيها من ربح. وتقدم رسل قريش إلى الكاهنة يتلاومون في البئر وفي خصومتهم لصاحب الحق. ثم ينهضون والموت يثقل نفوسهم، فيعمد كل منهم إلى سنان يخط به حفرته في الأرض.
كل ذلك وعبد المطلب ساكت ساكن لا يقول ولا يومئ، ولكنه نهض فجأة وقال بصوته العذب العريض: «يا معشر قريش، ما أعجزكم! ها أنتم أولاء تلقون بأيديكم وتنتظرون الموت، وتقطعون ما بينكم وبين أهلكم وولدكم من أسباب الحياة، وإن فيكم لبقية من قوة، وإن في إبلكم لقدرة على الحركة وفضلا من النشاط! لا والله ما أنا بمسلم نفسي للموت حتى يكرهني عليها. هلم فاضربوا في هذه الأرض! فلعل الله أن يجد لكم من هذا الضيق فرجا.»
ووقعت ألفاظ عبد المطلب هذه من نفوس الناس موقع الغيث، وإذا الآمال تحيا، وإذا النشاط يتجدد، وإذا القوم ينهضون إلى رواحلهم، وإذا هم يؤثرون أن يتخطفهم الموت على أن يسعوا هم إليه. وينهض عبد المطلب إلى راحلته، حتى إذا جلس عليها وزجرها نهضت وهمت لتندفع. ولكن ماذا! ماذا يسمع القوم؟ ماذا يرون؟ هذا عبد المطلب يصيح بأعلى صوته مكبرا وهم يلتفتون، فإذا عين غزيرة قد انفجرت تحت خف الراحلة، وإذا هي تفور، وإذا بالماء ينبسط من حولها فينقع غلة الأرض المحترقة قبل أن ينقع غلة القوم الظماء!
Página desconocida
هلم يا معشر قريش إلى الماء الرواء ! قد فجره الله لكم من الصخر الصلد هلم فاشربوا واسقوا إبلكم واملئوا مزادكم. هلم فانعموا بهذا الماء الصافي النقي البارد في هذه الفلاة القائمة المحرقة. والقوم يضجون بالرضا والغبطة، وإن للإبل من حولهم لأطيطا ملؤه الرضا والغبطة أيضا. ومن ذا الذي زعم أن نفوس الناس وحدها هي التي تجد اللذة والألم، وتشعر بالسرور والحزن! روي الناس، ورويت الإبل، ورويت الأرض. وقالت رسل قريش لعبد المطلب: عد بنا يا شيبة إلى مكة فقد قضي علينا، وإن الذي أسقاك في هذه الصحراء وأنقذنا بك من الهلاك، هو الذي أسقاك في مكة وساق إليك ما تروي به الحجيج.
وأقبل البشير على سمراء ينبئها بأن زوجها قد عاد إليها سالما موفورا مظفرا! فقالت وعلى ثغرها ابتسامة الكئيب المحزون: «حبذا شيبة مسافرا! وحبذا شيبة مقيما! ولكن شيبة لن يخلص لي منذ اليوم؛ إنه ليريد كثرة الولد! وأي نساء قريش تستطيع أن تمتنع عليه؟!»
ثم أشرقت شمس الغد على عبد المطلب وهو يسعى إلى عمرو بن عائذ المخزومي ليخطب إليه فاطمة، وهي أم جماعة من ولده بينهم عبد الله.
الفصل الثالث
الفداء
أصبحت سمراء محزونة كاسفة البال، تبدو على وجهها المتجعد وجبينها المقطب كآبة مظلمة، لم تحاول في هذا اليوم أن تخفيها أو تخفف من حدتها كما تعودت أن تفعل منذ أعوام وأعوام. فقد عرفت سمراء ألم الحزن منذ احتفرت زمزم، ومنذ ظهر حرص زوجها على الولد، ورغبته في كثرة العدد، ومنذ خطب فاطمة المخزومية فأحبها وكلف بها، وانصرف إليها عن كل شيء وعن كل إنسان، ومنذ كثر ولد فاطمة من البنين والبنات، واشتد لذلك حب عبد المطلب لها وكلفه بها وانصرافه إليها، وتجافيه عن زوجه الأولى، تلك التي أضاءت له سبيل الشباب، وأعانته على احتمال أثقال الحياة الأولى.
نعم! عرفت سمراء ألم الحزن في هذه الأعوام الطوال من حياتها، ولكنها كانت على بداوتها امرأة لبقة بارعة الجمال، ذكية القلب، تعرف كيف تخفي على زوجها ما يكره، وكيف تلقاه بما يحب.
وكانت توفق بفضل هذه اللباقة وهذا الذكاء؛ لأن تستميل إليها زوجها وربما اضطرته إلى أن ينقطع إليها وقتا ما، وينسى زوجه الأخرى إلى حين.
ولكن يوما أقبل يحمل إلى سمراء شرا ليس فوقه شر، وألما ليس بعده ألم؛ أصبح هذا اليوم مظلما، فما أمسى حتى أظلمت له حياة سمراء كلها. ذلك أنه مضى بموت ابنها الوحيد، فأذاقها مرارة الثكل واليتم والترمل جميعا. فقد كان الحارث لها ابنا تجد عنده قرة العين، وأبا تحس منه العطف وحنو الآباء: وكان هو يحس ألمها ويعرف أسراره، ويجد في الطب لهذا الألم؛ فكان يبالغ في رعاية أمه وحمايتها. وكان شديد الحرص على أن يلقاها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وعلى أن يطيل المكث معها والتحدث إليها، يشركها في جد أمره ولعبه، يستشيرها ويظهر قبول مشورتها والاستماع لنصحها. فكان يقوم منها في أكثر الأحيان مقام أبيه؛ وكان يعزيها بحبه وبره عما كانت تجد من الوحشة حين يصد عنها زوجها فيطيل الصدود. فلما مات الحارث مات معه أمل سمراء، ولم تلق الحياة إلا بوجه محزون كئيب يصور قلبا مكلوما مظلما. وقد جزعت سمراء لهذا الخطب واشتد جزعها وطال. ولكن أي شيء يبقى على الأيام! ولقد ذهبت الأيام الطوال بحدة هذا الجزع وشدته كما ذهبت بنضرة شباب سمراء، وكما ذهبت بحياة ابنها الحارث، وكما ذهبت بحب زوجها عبد المطلب وأصبحت وقد تقدمت بها السن وامتحنتها حوادث الدهر، امرأة مذعنة لحكم القضاء، لا تنكر شيئا، ولا يسرها شيء، محزونة ولكن في دعة، ملتاعة ولكن في هدوء!
وقد أحست إنكار الناس من حولها لما يرون من حزنها وكآبتها، وما يجدون من انقباضها عنهم، فجدت ما استطاعت في إخفاء ما تجد وكتمان ما تحس؛ واحتفظت لنفسها بهذا الكنز الحزين، كنز الذكرى وما تثيره من العواطف، وما تهيجه من اليأس. وتركت للناس من نفسها شخصا عاديا يبتسم حين يبتسمون، ويرضى حين يرضون، ويشاركهم في أكثر ما يجدون من عاطفة أو شعور. على أنها كانت تجد شيئا من الرضا وراحة النفس حين تجد من زوجها عطفا عليها وأنسا إليها.
Página desconocida
وكان زوجها منذ أصابها هذا الخطب شديد الرفق بها، كثير الزيارة لها، يصفيها مودة خالصة قوية، ولكنها خالية أو كالخالية من هذا الحب الذي يحيي قلوب النساء. أصبحت سمراء في هذا اليوم محزونة ظاهرة الحزن، كئيبة بادية الكآبة، أقبل عليها إماؤها الثلاث يحيينها تحية الصباح، فردت عليهن تحيتهن ردا فاترا؛ ثم جلست وجلسن، وأخذت مغزلها وأخذن مغازلهن، وعملت أيديهن في الغزل، وسكتت ألسنتهن عن الكلام. وكانت سمراء تدع مغزلها من حين إلى حين وتظل ساكنة واجمة، وربما انحدرت من إحدى عينيها دمعة حارة فأسرعت إليها تزيلها بيدها دون أن تقول شيئا. والإماء صامتات ينظرن في حزن عميق إلى مولاتهن الحزينة، ولا تستطيع واحدة منهن أن تبدأها بالكلام. فلما طال عليهن هذا الصمت وهذا الحزن، وثقل عليهن ما كن يجدن من ألم، وما كان يملأ قلوبهن من حب للاستطلاع، ورغبة في الكلام، وميل إلى تعزية مولاتهن، اجترأت «ناصعة» وكانت أشجعهن قلبا، وأطولهن لسانا - لأنها كانت تعرف مكانتها عند سمراء - فقالت: لقد أصبحت يا سيدتي على حال ما رأيناك عليها منذ زمن بعيد. فقد كنا نراك محزونة كئيبة، ولكنك كنت تجاهدين الحزن وتدافعين الكآبة وتتكلفين الرضا، وكنا نجد من ذلك ما يشجعنا على تسليتك وتلهيتك بالحديث حينا، وبالغناء حينا آخر؛ تقص عليك كل واحدة منا ما حفظت من أخبار بلادها، وتغنيك كل واحدة منا بما تعلمت من الغناء في رطانتها الأعجمية؛ وكذلك كنت تسمعين أقاصيص سورية، وأخرى حبشية وأخرى يونانية، وكنت تسمعين أغاني في لغات أجنبية قليلا ما تعجبك، ولكنها كانت ترسم على ثغرك الابتسام في أكثر الأحيان. أما اليوم فلم نر منك حزنا قاتما، ولم نسمع صوتك العذب، ولم يرعنا إلا هذه الدموع التي تسفحينها في صمت أليم! تكلمي يا مولاتي! أبيني! ماذا تجدين! ماذا أحزنك اليوم؟ تكلمي وأحسني ظنك بنا؛ فقد نستطيع أن نعينك على الحزن كما كنا نستطيع أن نبعث في قلبك السرور. نحن إماء، ولكننا نساء نجد الحزن كما تجدينه، ونحس اللوعة كما تحسينها! ولعل حبنا للبكاء أشد من حبنا للضحك! ولعل حرصنا على الحزن أشد من رغبتنا في السرور! ولعلنا إن شاركناك في الحزن والألم جارينا طبائعنا، وأرسلنا نفوسنا على سجاياها. فليس في حياتنا وإن كنت لنا مكرمة ما يسر أو يرضي. وأي شيء يسر أو يرضي في حياة الأمة الغريبة التي لا تملك نفسها، ولا تحس إلا ذل الرق، ولا تستطيع أن ترضى حقا، أو أن تسخط حقا، إلا إذا خلت إلى نفسها. وأنى لها أن تخلو إلى نفسها؛ تكلمي يا سيدتي! ماذا يسوءك؟ وماذا يغشي وجهك بهذا الغشاء الحزين؟
قالت «ناصعة» ذلك وانتظرت أن تجيبها سمراء، ولكنها لم تظفر بجواب، وإنما رأت دموعا تنحدر ثم تنهمر، ثم تستحيل إلى زفرات حارة ونحيب غير منقطع.
وهنا محا الحزن ما بين السيدة وإمائها من فروق، فأسرعن إليها يهدئنها ويرفقن بها: هذه تقبلها، وهذه تسمح دموعها، وهذه تمر يدها على رأسها، وهن جميعا يبكين لها ويبكين لأنفسهن. وقد هدأت سمراء بعض الشيء، وسكنت نفسها الثائرة إلى هؤلاء الإماء الرفيقات، فابتسمت لهن في حزن، وشكرت لهن ما أظهرن لها من مودة وعطف؛ وطلبت إليهن العودة إلى ما كن فيه من عمل، وأخذت هي مغزلها وجعلت تديره في يدها. ولكن «ناصعة» لم تلبث أن عادت إلى الكلام، فقالت وهي تتكلف الابتسام وتتصنع الضحك: ليس يغني عنك الصمت يا مولاتي؛ فإنا نعلم ما تسرين كما نعلم ما تعلنين. ولولا خوفنا منك وإكبارنا إياك لقصصنا عليك القصة التي تحزنك وتجري دموعك الحارة على خدك النقي؛ ولكن أنى لنا أن نبلغ منك هذه المكانة، وإنما أنت سيدة ونحن إماء!
قالت سمراء: كفي عن هذا الحديث يا ناصعة! فقد أنسيت اليوم أن بيني وبينكن فرق ما بين السيدة وإمائها، ولست أرى منكن الآن إلا نساء تعسات مثلي؛ إنما نحن أخوات في الشقاء والبؤس؛ وما ينفعني أنني حرة وأنا مثلكن مقيمة على الضيم، محتملة للذل، مذعنة لصروف القضاء، لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا، ولا أستطيع أن أبرح هذه الدار وإلى أين أبرحها ! لقد ذهبت غارة بني أسد بأبي وأخي، وأصبحت أمي وأخواتي إماء مثلكن، لا أعرف من أمرهن شيئا، ولم ينهض فتيان بني عامر وكماتهم للثأر! ليت شعري ماذا يصنع أبو براء بأسنته! ما له لا يلاعبها! لقد ذهب الموت بابني، وأصبحت أسيرة في يد عبد المطلب، أسيرة لا كالأسرى؛ يجفوني ولا أستطيع له بغضا ولا قلى كما يفعل الأسرى، وإنما أحبه ولا أجد عن داره منصرفا. ها هو ذا قد عاد من رحلته إلى اليمن منذ ثلاث. فلما بلغ مكة أسرع إلى هالة بنت وهيب، فقضى عندها أول لياليه وأول أيامه؛ لأنها أحدث زوجاته به عهدا. ثم أصبح فانتقل إلى نتيلة فأقام عندها يوما وليلة. ثم أصبح فانتقل إلى فاطمة فأقام عندها يوما وليلة. وما أرى إلا أنه سيقبل بعد حين فيلم بهذه الدار إلمامة قصيرة، ثم يسرع إلى هالة، فما أشد شوقه إليها! وقد حدثت أنه أقبل من اليمن كأحسن ما يكون الرجال سمة، وأبرع ما يكونون جمالا. وحدثت أن هالة أنكرته حين رأته؛ فقد ودعنا أبيض الرأس وعاد فاحم الشعر كأنه لم يتجاوز الثلاثين.
1
وقد أنكرته من الغد قريش كلها لما رأت من سواد لمته. ولكنه أزال عجب قريش حين أظهر لها هذا الخضاب الذي حمله من اليمن، والذي يرد الشيب شبابا، والذي أسرعت قريش إليه فاشترت منه، واختضب به شيبها فإذا أهل مكة كلهم شباب. كل ذلك ولم أر عبد المطلب، ولم أحس منه ذكرا لي وحنينا إلي. وماذا يصنع بي؟ ليس لي شباب هالة، ولا جمال نتيلة، ولا ولد فاطمة! وإنما أنا عجوز فانية، يتيمة وحيدة، ليس لها أب ولا أم ولا ولد. أنا هذا الحمل الثقيل الذي يضيق به صاحبه، ولكنه يأبى أن يلقيه ويتخفف منه مخافة أن يصفه الناس بالضعف أو القصور.
قالت ذلك وأغرقت في بكاء طويل شاركها فيه إماؤها الثلاث. ولكن «ناصعة» لم تلبث أن قالت: أهذا كل ما تعلمين من أمر زوجك يا سيدتي! إنك إذا لتجهلين كل شيء، ولا تعلمين إلا أقل أمره خطرا. وإن عندي من أمر سيدنا ما لو قصصته عليك لأرضاك، ولخفف لوعة الحزن هذه التي تحرق فؤادك الكئيب. لن ترى زوجك اليوم يا مولاتي فهو عنك في شغل. لقد كان راضيا مسرورا حين كان يرى نساءه ينكرن سواد لمته ويعجبن بشبابه الجديد، وحين كانت قريش تستبق إليه تشتري منه هذا الخضاب بما أحب من مال. ولكنه محزون منذ أمس، مغرق في حزن لا قرارة له، فهو خليق بالرثاء. إنك تحبينه يا سيدتي وستنسين إعراضه عنك وسترثين له، وإني أخشى أن تخفي إليه حين تعرفين نبأه. قالت سمراء في شيء من الجزع بدأ هادئا، ولكنه لم يلبث أن اشتد قليلا قليلا حتى بلغ أقصاه: ماذا تقولين؟ وبم تتحدثين؟ هو محزون؟ هو خليق بالرثاء! لماذا؟ أبيني متى علمت بذلك؟ كيف أخفيته علي؟ ما الذي يحزنه؟ ما الذي يسوءه؟ ما الذي يجعله أهلا للرثاء؟ ما الذي يضطرني إلى أن أخف إليه لأعزيه وأواسيه؟ قولي، أسرعي، لا تخفي علي شيئا.
قالت ناصعة: مهلا يا سيدتي! ارفقي بنفسك ولا تذهبي بها في الخيال كل مذهب! لا بأس عليه في نفسه ولا في ماله، ولكنه يمتحن منذ أمس في بنيه. هوني عليك! إن في هذه المحنة لعزاء لك عن فقد حارثك العزيز. أتذكرين يوم احتفر زمزم فنذر لئن أوتي من الولد عشرة ذكورا ... قالت سمراء: يراهم ليضحين بواحد. يا بؤس هذا اليوم! فقد عرفت هذا النذر فكان مصدر شقائي كله، عرفت أنه سيستكثر من النساء، ورأيت مدية التضحية ممدودة إلى عنق قد يكون عنق ابني العزيز. منذ ذلك اليوم كرهت النساء جميعا؛ لأني رأيت في كل واحدة منهن ضرة لي. ومنذ ذلك اليوم رأيت شبح الموت مقيما بهذا البيت ما أقام فيه ابني، مفارقا لهذا البيت ما فارقه ابني. ومنذ ذلك اليوم لم أر ابني في يقظة ولا في نوم إلا رأيت الموت ظلا. أتمي حديثك يا ناصعة.
قالت الفتاة: لقد ذكر زوجك أمس وهو يتحدث إلى فاطمة نذره هذا، وذكر أن أبناءه الذكور قد بلغوا عشرة أحياء يراهم بمولد طفله حمزة، فأقسم ليوفين نذره، وليضحين بأحد أبنائه، وليجعلنهم تسعة منذ اليوم، حتى تتمهم له هالة أو نتيلة أو غيرها عشرة أو تزيد بهم على العشرة، ولم يكد يعقد هذه اليمين حتى جزعت فاطمة وشاركها بناتها في الجزع. أشفقت على الزبير وأبي طالب وعبد الله وغيرهم من بنيها. وبلغ الخبر نتيلة فخافت على العباس. وبلغ الخبر هالة فجزعت على حمزة. وثارت لكل امرأة قبيلتها، وألح الناس على الشيخ: تأبى كل قبيلة أن تكون التضحية منها. ومضى الشيخ في يمينه، فجمع إليه بنيه وأنبأهم بنذره، فكلهم أقره، وكلهم أطاعه، وكلهم ألح عليه ليوفين بالنذر، وليقدمن التضحية. وليس لقريش منذ أمس حديث إلا هذا النبأ، هم يتناقلونه ويكبرونه وينكرونه، وقليل منهم من يقر الشيخ على هذا العزم الفظيع.
ثم قالت الفتاة: ثم أقبل الشيخ ببنيه إلى الكعبة مع الصبح، فأجال فيهم قداحه، فخرج القدح على أحب بنيه إليه وآثرهم عنده. قالت سمراء وهي مضطربة، وقد سالت من عينها دمعتان محرقتان: خرج القدح على عبد الله؟ قالت الفتاة: نعم! فأخذ الشيخ بيد ابنه يقوده إلى المذبح وفي يده المدية. ولكن بناته جميعا وأمهن قمن دون الفتى صائحات يستصرخن بني مخزوم، ويستصرخن قريشا كلها، ويمنعن الفتى بحياتهن. وأقبلت إحداهن إلى الشيخ ضارعة ثائرة معا فقالت: إذا كان قلبك قد استحال إلى صخر، فلا ترق لابنك الشاب، ولا لأمه الشيخة، ولا لأخواته البائسات، وإذا كانت شريعة قريش قد قست وجفت وغلظت، حتى جعلت للآباء على أبنائهم حق الحياة والموت كأنهم الرقيق أو الحيوان، فدعنا نحتكم في هذا الفتى إلى رب هذا البيت؛ فهو أوسع منك رحمة وأجدر منك أن يضن بهذا الشاب على الضياع، وأن يربأ بهذا الدم الزكي أن يراق. لنحتكم إلى رب هذا البيت في أمر هذا الفتى. لنقرع بينه وبين هذه الإبل الكثيرة التي تسميها في الحرم، ولنبلغن من ذلك ما يرضي رب هذا البيت.
Página desconocida
وكانت قلوب قريش قد تفطرت حزنا، وتصدعت أسى لقول هذه الفتاة وهي تبكي، وقد التزمت أخاها تعانقه وتقبله وتغسل وجهه الناصع بدمعها الغزير وهي تصيح: لأموتن قبل أن تموت! فما زالت قريش بالشيخ تلاينه حينا وتخاشنه حينا، حتى اضطرته أن يقبل تحكيم الآلهة.
قالت سمراء وقد بلغ بها الهلع أقصاه: ثم ماذا؟ قالت الفتاة: ثم لا أدري! تركتهم يتأهبون لإجالة القداح بين الفتى والإبل، وأقبلت أقص عليك النبأ فرأيتك فيما كنت فيه من حزن عميق.
قالت سمراء: يا بؤسا لهذه الحياة! لا يسعد فيها الناس بخير - مهما يكثر - كل السعادة، ولا يشقى فيها الناس بشر - مهما يعظم - كل الشقاء. أسعيدة أنا بموت الحارث أم شقية؟ لو قد عاش لذقت الآن ما تذوقه فاطمة من هذا الحزن اللاذع والخوف المهلك. ولكني كنت أوثر مع ذلك أن يعيش؛ فقد كان يمكن أن تخطئه القداح، وقد كان يمكن إن لم تخطئه في المرة الأولى أن تخرج على الإبل من دونه، وقد كنت أستمتع به أعواما. ولكن هلم لا مقام لنا الآن، لنسرع إلى حيث هم لنشاركهم فيما يجدون. وا حسرتاه! إني لصادقة الحزن! إني لصادقة الخوف! إني لشديدة الإشفاق! إني لشديدة الرجاء! ولكن فاطمة ستظن بي سوءا، وستقدر أني أقبلت غير بريئة النفس من الشماتة. قالت ذلك ونهضت يدفعها حزنها الخالص ويردها خوفها من سوء الظن. ولكنها أسرعت مع ذلك، وأسرع معها إماؤها. ولم تكد تتقدم في الطريق نحو المسجد حتى سمعت أصواتا ورأت اضطرابا، ثم تبينت في الأصوات فرحا، ورأت على الوجوه بشرا، وعرفت أن القدح قد خرج بعد لأي على مائة من الإبل، وأن عبد المطلب يؤذن في الناس أنه سينحر هذه الإبل بين الصفا والمروة، وأنها حرام عليه وعلى بني هاشم، مباحة لغيرهم من الناس والحيوان والطير.
فأسرعت سمراء حتى اختلطت بفاطمة وبناتها، وهن سائرات يحطن بالفتى، ويحلن بينه وبين غيره من الناس، حتى إذا بلغن البيت ألفين فيه امرأتين تبكيان، إحداهما هالة بنت وهيب أم حمزة وزوج عبد المطلب، والأخرى بنت عمها اليتيمة آمنة بنت وهب.
هنالك أقبلت سمراء هادئة باسمة إلى الفتاة، فكفكفت من دموعها، ضمتها إليها وقبلت جبينها الطلق. ثم التفتت إلى عبد الله وهي تقول: «هلم يا فتى فقبل أهلك، فمهما تغل لها في المهر فلن تبلغ هذه الدموع التي ذرفتها حزنا عليك.» ثم نظرت إلى فاطمة وهي تقول: «ألا ترين أنها أحق فتيات قريش أن تكون له زوجة!»
الفصل الرابع
الإغراء
أقبل أبناء عبد المطلب فهيئوا لأبيهم مجلسه في المسجد غير بعيد من بئره التي كشفت له. وأقبل الشيخ بعد قليل مشرق الوجه باسم الثغر، فأسرع إليه أبناؤه يلقونه بالتحية ويقرءون عليه السلام. وأقبل عليهم يحييهم ويدعو لهم، حتى إذا أخذ مكانه أشار إليهم فجلسوا من حوله، قال قائل منهم وعلى ثغره ابتسامة فيها حب وفيها دعابة، وفيها غيرة لا تكاد تبين: لم يأت بعد، وما علمناه منذ حين إلا نئوم الضحى. قال الشيخ وابتسم كالمغضب: حسبك! فكلكم قد أدركه الضحى ولما يرفع رأسه عن الوساد. ثم أخذوا في حديث القافلة التي كانت تتهيأ للرحلة إلى الشام، وأخذ أبناء الشيخ يتحدثون إلى أبيهم بما أعد أغنياء قريش من عروض التجارة لتحمل إلى بصرى وما يليها من بلاد الروم.
وهم في الحديث وإذا الفتى يقبل وسيما قسيما مستقيم القد معتدل القامة، قريب الخطى شاخصا بصره إلى السماء، حتى إذا دنا من أبيه أقبل عليه فحياه، وتلقاه الشيخ رفيقا به عطوفا عليه، ثم أذن له بالجلوس وأدنى مكانه منه، وأعرض عنه حينا كأنه يسمع لحديث أبنائه عن القافلة كيف تهيأ، وممن تكون، ومتى تفصل. ثم التفت إلى ابنه الشاب وقال له وهو يبتسم: ما أرى يا بني إلا أنك قد أحببت النعمة وآثرت لين العيش! وكلنا قد أحب النعمة كما تحبها، وكلنا آثر اللين كما تؤثره، وكلنا قد لزم أهله حتى كاد ينسى كل شيء، ولكن الأيام تنبه الغافل، وتوقظ النائم، وتذكر الناسي. وإني لأحب أن أنبهك قبل أن تنبهك الأيام، وأن أوقظك قبل أن توقظك الأحداث، وأن أذود عنك النسيان قبل أن تذوده عنك الخطوب. وخير لك يا بني أن تترك النعمة الآن لتعود إليها بعد حين من أن تظل فيها مغرقا وعليها حريصا ولها لازما، حتى تضيق بك وتنفر منك، وتنصرف عنك إلى غير رجعة. وفي الرحلة يا بني مع عمك الأدنيين رياضة لك يسيرة على احتمال الصعاب واقتحام العقاب، وتسلية لك هينة عن هذه اللذة المتصلة والنعيم المقيم. وما أشك في أنك ستترك أهلك كارها لذلك ضيقا به، ولكنك ستستعذب الفراق وتستلذ النوى، وتجد من ذكر أهلك على نزوح الدار وبعد المزار، مثل ما تجد من حب أهلك والدار قريبة والمزار يسير. فهيئ نفسك للرحيل مع العير، واحرص على ألا تعود أقل ثراء من أمثالك الذين سيرحلون إلى الشام من شباب قريش. وقد أجمعت وأجمع إخوتك أن نكل إليك ما عندنا من هذه العروض التي تجمعت لنا منذ أشهر لتحملها لنا إلى بلاد الروم، فتتاجر لنا فيها، وتقاسمنا ما تغل علينا من ربح. والرأي أن تسعى في أصهارك بني زهرة بمثل ذلك، فتحمل عنهم عروضهم وتقضي لهم حاجاتهم. وما أظن أنك صفر اليد؛ فقد تستطيع أن تتخذ لك حظا من تجارة تقصرها على نفسك، حتى إذا رجعت إلينا كنت موفور الحظ من المال بما يجتمع لك من ربح هذه التجارة كلها. كلنا يا بني قد رحل إلى الشام حينا وإلى اليمن حينا وإلى العراق حينا آخر، ومنا من أمعن في الرحلة حتى بلغ مصر. ومنا من أغذ
1
Página desconocida
السير حتى عبر البحر إلى بلاد الحبشة. ومنا من أبعد السفر حتى انتهى إلى أعماق فارس. ولكني أرى أن تمعن في غير إسراف، وأن تبعد دون أن تنقطع عن جماعة من قومك. والأيام خليقة أن تغريك بالأسفار البعيدة والرحلة المتصلة. فقم يا بني فأصلح من شأنك، وهيئ أهلك لهذا الفراق، فما أظن أن آمنة سترضاه أو تستريح إليه.
قال ذلك في لهجة ملؤها الحنان المقنع، والجد الذي لا يحتمل الجدال ولا يبيح رجع الجواب. وكان الفتى يسمع له راضيا، تظهر على وجهه آثار الطاعة والثقة. حتى إذا فرغ من حديثه أطرق الفتى غير طويل، ثم رفع رأسه وهم أن يتكلم فلم يجد ما يقول، فنهض مسرعا حتى خرج من المسجد ومضى أمامه لا يلوي على شيء. وكانت شمس الضحى قد ارتفعت حتى قاربت أن تستوي في كبد السماء، وكانت أشعتها الحارة المحرقة قد أخذت تلح على الأرض والناس، حتى قهرتها وقهرتهم أو كادت. والفتى ماض في طريقه كأنه السهم لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا يكاد ينظر إلى أبعد من مواقع قدميه. وإنه لفي ذلك وإذا صوت عذب يأتيه من قريب بهذا البيت:
يا مسرعا والناس من حوله
يسعون لم يأن لغاد رواح
فيهم أن يقف، ولا يكاد يفعل حتى يأخذه صوت آخر ليس أقل عذوبة ولا حسن وقع في النفس من ذلك الصوت الأول:
يا مطرقا والأرض من حوله
يزينها حسن الوجوه الصباح
هنالك يقف الفتى ويلتفت صوب الصوت، ولكنه لا يكاد يفعل حتى يمسه صوت آخر فيه نعومة الحرير، وعذوبة الماء النمير:
عرج علينا فأقم ساعة
فعندنا إن شئت روح وراح
Página desconocida
هنالك وقف الفتى والتفت وهو يقول: ما رأيت كاليوم دعاء ولا إغراء! وقد اتصل طرفه بوجوه ثلاثة حسان، تشرق بها كوى ثلاث في دار فاطمة بنت مر الخثعمية. قال الفتى: ما خطبكن: قالت إحدى الفتيات: ما خطبك أنت؟ فيم إرقالك على هذا النحو ولم يئن لشباب قريش أن يروحوا إلى أهلهم؟ وفيم تركت أباك وإخوانك وأترابك في المسجد؟ هلا بقيت كما بقوا وانتظرت كما ينتظرون! قال الفتى في صوت فيه دعابة الطامع ويأس المضطر إلى الإسراع: ما أنت وذاك؟ إن أدعهم فلأمر ما. قالت فتاة أخرى؛ إن تدعهم فلتخل إلينا فتحدثنا وتسمع منا ساعة من نهار. قالت ثالثة: هلم يا فتى أقبل، فما هذه ساعة حديث يلقى من الكوى! إن الشمس لمحرقة وإن القيظ لشديد، وإني لأوثر ما كنت فيه من الإرقال آنفا على ما أنت فيه من الوقوف الآن. قالت إحداهن وكأنها تتغنى:
عرج علينا فأقم ساعة
فعندنا إن شئت روح وراح
وهم الفتى أن يأبى، ولكنهن ألححن عليه، ومضين يدعونه ويغرينه حتى استجاب لهن.
وما هي إلا أن دخل الدار وأغلق من دونه بابها، وأقبل الفتيات عليه مبتهجات له رفيقات به: هذه تمسح رأسه، وهذه تمس وجهه، وهذه تأخذ بطرف ردائه، وهو يحاول أن يتقيهن وأن يمتنع عليهن، فلا يجد إلى شيء من هذا سبيلا. وكانت فاطمة الخثعمية أطول هؤلاء الفتيات قامة، وأوسمهن وجها، وأعذبهن حديثا، وكانت على جمالها الرائع وحسنها البارع ذكية القلب، نافذة البصيرة، ضخمة الثروة، تعيش في مكة مترفة ناعمة، من حولها عدد غير قليل من الموالي والأحلاف والرقيق على اختلاف أجناسه وتباين حظوظه من المهارة في الفنون المختلفة التي كان يحسنها الرقيق بمكة في تلك الأيام.
وكانت فاطمة الخثعمية برزة
2
متبدية في مكة بعض الشيء، لا تكره أن تظهر للرجال وتأخذ معهم في ألوان الحديث. وكان شباب قريش يحبون منها ذلك ويكلفون به، ويختلفون إليها إذا كان المساء، فيقولون لها ويسمعون منها حتى يتقدم الليل، وربما أديرت عليهم في الشتاء أقداح من خمر بيسان، وفي الصيف أقداح من زبيب الطائف. ولم يكن عبد الله من هؤلاء الفتيان الذين يألفونها ويختلفون إلى مجلسها. وأين هو من ذلك وإنه لمن قوم حظهم من اللهو ونصيبهم من الاستمتاع بالحياة الفارغة الناعمة ضئيل! وكان عبد الله حديث مكة في هذه الأيام منذ هم أبوه أن يتقرب به إلى الآلهة وفاء بنذره القديم، فأنقذه الفداء من هذا الموت المنكر، كان حديث مكة وحديث نسائها خاصة، يذكرون شبابه الغض الذي كاد يذويه الموت، ويذكرون جماله الفاتن الذي كاد يحتويه القبر، ويذكرون هذا الخفر الجاد الصارم الذي لم يكن يعرف في فتيان قريش، ويذكرون هذه الفتاة السعيدة التي قدر لها أن تكون له زوجا. وكانت فاطمة الخثعمية أكثرهن حديثا عنه، وأعظمهن إعجابا به، وأشدهن شوقا إلى لقائه. رأته يوم الفداء جلدا صبورا مبتسما للموت، لا يظهر على وجهه أثر من آثار الجزع حين كان أبوه يقرع من دونه بالإبل؛ فكانت القداح تأبى أن تخرج إلا عليه. ورأته بعد أن تم الفداء ورفع عنه نذير الموت، فعاد بين أمه وإخوته مبتسما للحياة كما كان يبتسم للموت في هدوء واطمئنان، لا يزدهيه فرح ولا يستخفه طرب، ولا يخرجه عن طوره أمل في الحياة السعيدة والنعيم المقيم.
من ذلك اليوم وقع الفتى من نفس فاطمة موقع قطرة الندى من الزهرة الغضة عند إشراق الصبح، فأحبته وتمنته، وكلفت به وحرصت عليه. وقضت أياما لا تتحدث إلا عنه، وليالي لا تفكر إلا فيه. وقد تحدث إليها الناس من مساء ذلك اليوم بأن آمنة بنت وهب قد خطبت له وستزف إليه عما قريب، فرأى الناس على وجهها جزعا باديا وحزنا عميقا؛ وكانت كثيرا ما تتحدث إلى أترابها بما تجد من حب وما تحتمل من ألم. ولست أنا الذي شبه موقع الفتى من نفسها موقع قطرة الندى من الزهرة، إنما هي صاحبة هذا التشبيه. فقد كانت تقول لصاحبتها عاتكة بنت سهم: أتعرفين كيف تنعم الزهرة حين يمسها الندى إذا أسفر الصبح؟! فكذلك نعمت حين مسني حب هذا الفتى يوم الفداء. وكانت تقول لها: أتعرفين كيف تشتاق الزهرة إلى قطرة الندى إذا ارتفع الضحى واشتد عليها حر الشمس كلما تقدم النهار؟! فكذلك أشتاق أنا إلى هذا الفتى كلما بعد العهد بيني وبينه، وكانت تقول لها: أتعرفين كيف تهيم الزهرة بقطرة الندى إذا أظلها المساء وأقبل الليل، وأحست برد السحر وعرفت أن سقوط الندى قريب؟! فكذلك أنا أهيم بهذا الفتى إذا أشرق الصبح وقرب غدو قريش إلى مجالسها في المسجد، أو إذا اعتدل النهار وآن لقريش أن يروحوا إلى أهلهم. وكانت عاتكة بنت سهم ترثي لها وتشفق عليها، وربما بلغ منها الرثاء والإشفاق أن تسخر منها بعض الشيء، فكانت تقول؛ ويحك يا فاطمة! إنك لمن قوم بداة جفاة فيهم خشونة وغلظة، وما أعرف أن تجار قريش يخافون على أنفسهم وأموالهم في رحلة الشتاء أحدا كما يخافون هذا الحي من خثعم. ولولا خوفهم من هذا الحي، وإكبارهم لبأسه وبطشه، لما أيسر أبوك، ولما كان له هذا المال الضخم، وهذا العدد الكثير من الرقيق والأحلاف، ولما اتخذ لك هذه الدار الأنيقة الواسعة في مكة تقيمين فيها كما يقيم أغنى بنات قريش فكيف نبتت هذه الزهرة الرقيقة الأنيقة في تلك القبيلة التي لا تشتاق إلا إلى الدماء! وكانت فاطمة إذا سمعت هذا الحديث ابتسمت عن نفس حزينة وقالت: ما أشد جهلكم يا أهل المدر بما يظل الوبر من نفوس حية وقلوب رقيقة وأكباد يعبث بها الحب ويعصف بها الغرام.
فلما طال على الفتاة أمر هذا الحب وثقل عليها، رقت لها عاتكة بنت سهم، ورقت لها سلمى بنت خزيم، وقالت لها: أقلي عليك الخطب وهوني عليك الأمر، فليس هذا الفتى إلا غلاما من قريش له رقة قلوبهم وفيه حبهم للحياة وكلفهم بلين العيش. وقد أصهر اليوم إلى بني زهرة، وما أيسر أن يصهر غدا إلى خثعم. وما نحسبك أنك تكرهين أن تكوني زوجه الثانية. وما نحسب أنك تخافين أن تغلبك آمنة على قلبه؛ فقد يكون لآمنة جمالها ومكانها من قريش، ولكن لك جمالك، ومالك، ومكانتك من خثعم. فالرأي أن نجمع بينك وبين الفتى، وأن يحس منك حبا له وميلا إليه، فلعل ذلك أن يغريه بالخطبة. وأي شيء أحب إلى أبيه وإخوته من أن يصهروا إلى عظيم خثعم فيأمنوا شياطينها وشياطين مراد، وهذه الأحياء التي تأخذ عليهم طريقهم إلى بلاد اليمن! وكذلك دبر الفتيات أمرهن وجعلن يرصدن للفتى إذا غدا ويرصدن له إذا راح، حتى ظفرن به في هذا اليوم.
Página desconocida
فلما أغلق من دونه ومن دونهن الباب لم يلبثن إلا قليلا حتى نظر الفتى فإذا فاطمة وحدها قائمة أمامه، ترسل إليه من عينيها الحادتين نارا محرقة عذبة، فيها حب لا حد له، ورغبة لا حد لها، وحنان لا حد له أيضا قال: يا هذه غضي جفونك عني، فإني أجد للحظك مسا لاذعا. قالت وأنت، فامدد إلي عينيك؛ فإني أجد فيهما شفاء لما يعذبني من سقم، وريا لما يحرق فؤادي من صدى، قال: ما لهذا أقبلت، فأين صاحبتاك؟ قالت: ما أنت وصاحبتاي! إنما كانتا صديقتين أعانتا على أمر، ثم مضت كل واحدة منهما إلى وجهها. أقم معي ساعة أو بعض ساعة، فقد طالما تمنيت هذا اللقاء، واشتقت إلى هذه الخلوة، وسمت نفسي إلى أن يتصل بينك وبيني الحديث. قال يا هذه، ما أحب هذا إلي وآثره عندي! إن في وجهك لإشراقا حلوا، وإن في طرفك لسحرا فاتنا، وإن في صوتك لعذوبة تخلب العقول وتستهوي الألباب؛ ولكني عن هذا كله عجل. قالت: فما يعجلك عنه، وإلى أين كنت تريد؟ قال: يعجلني عنه شغل شاغل وهم طارئ. ولقد كنت أريد إلى أبي قبيس حيث يقيم أهلي. قالت: أقم يا زين قريش! إن أبا قبيس لن يريم،
3
وإن أهلك لن يبرحوه، وإن خير ما في الأمكنة والدور أنها ثابتة باقية لا تتحول ولا تزول إلا في بطء، وإن شر ما في الزمان أنه لا يعرف الهدوء ولا الاستقرار ولا يحب السكون والاطمئنان، إنما هو انتقال دائم وحركة متصلة لا تستطيع الجمع بين أطرافه بل لا تستطيع الجمع بين أجزائه. أقم! فستبلغ أبا قبيس في أي وقت شئت، وستلقى أهلك في أي لحظة أحببت، ولكن هذه الساعة إن تفلت منك فلن تعود إليك، ولعلك لا تحرص عليها ولا تحفل باستدراكها، فاعلم أني عليها حريصة ولها محبة.
واعلم أني مشفقة أن تضيع، فقد تعلقت نفسي بها منذ يوم الفداء. لقد رأيتك مقبلا إلى المسجد، ورأيتك منصرفا عنه، ورأيت على وجهك ابتسامة واحدة للموت وللحياة جميعا. لم يكن وجهك مظلما حين كنت تنتظر الموت، ولم يزدد وجهك إشراقا حين ردت إليك الحياة. ولقد ارتسمت في نفسي ابتسامتك هذه فلم تفارقها، ولم أرك منذ ذلك اليوم ولن أراك إلا مبتسما. أقم يا فتى! إن وجهك لوضيء وإن جبينك لمضيء، وإن عينيك لتسرعان إلى القلب، وإن صوتك ليسبغ علي حنانا حلوا يدنيني منك ويدفعني إليك. أقم! وليكن بيني وبينك طرف من حديث. فمن يدري! لعل هذا الحديث أن ينتهي بك وبي إلى شيء. قال: وما عسى أن يكون هذا الشيء؟ إن شخصك ليثبتني في هذا المكان، وإني لأجد في قلبي شيئا يدفعني عنه، وإن نفسي لمضطربة بين هذين الداعيين الملحين: يهيب بي أحدهما أن أقم، ويهيب الآخر أن أنصرف قالت: أقم يا فتى، وخلاك ذم، فما ينبغي وقد دخلت دارنا أن تخرج منها ولما تصب عندنا شيئا من القرى. قال: لست ضيفا ولا طارقا، وليست الساعة ساعة قرى، دعيني أنصرف الآن كارها، وما أظن إلا أني عائد إليك إذا كان المساء. ثم هم أن ينصرف ولكنها أقبلت عليه ورنت إليه بطرف ساحر فاتر أثبته في مكانه، فمسته بيدها مسا رفيقا وقالت: وكذلك يذهب عبثا ما أنفقت من جهد، ويمضي سدى ما بذلت من حيلة، وتنصرف ولما يتصل بينك وبيني الحديث، ولما تتصل بين قلبي وقلبك الأسباب! أقم فلا بد من أن أسألك، ولا بد من أن تجيب. انظر إلى هذه الوسائد، لقد هيئت لك منذ اليوم فاجلس. وانظر إلى هذه الجارية! لقد أقبلت تحمل شيئا من شراب.
فجلس الفتى وجلست منه غير بعيد. وأقبلت جارية سوداء تحمل إبريقا وأقداحا فوضعت ما في يدها وملأت قدحين وقدمت إليه أحدهما وهي تقول: دونك شيئا من زبيب الطائف يا زين قريش، ثم قدمت إلى مولاتها قدحا آخر وانصرفت قالت فاطمة: أنبئت منذ حين أنك قد خطبت آمنة بنت وهب وأنها قد زفت إليك. أسعيد أنت منذ أعرست؟ أناعم البال أنت منذ استأنفت حياتك الجديدة؟ قال: وما يمنعني أن أكون سعيدا ناعم البال، وإني لأجد عند آمنة أكثر مما كنت أريد؟! قالت: ولكنك لا تجد عندها المال والثراء ولين العيش. قال: فإن ذلك شيء يكسبه الرجال وينفقون حياتهم في السعي إليه، وإني لآخذ في أسباب ذلك، فقد كنت حين رأيتني رائحا قبل أن يأتي لي أن أروح، ذاهبا إلى حيث أهيئ للرحلة. قالت وقد ظهر عليها الخوف: أمرتحل أنت؟ وإلى أين؟ قال: إلى حيث ترتحل قريش. قالت: فإن مثلك لم يخلق لهذا العناء. أقم يا فتى: فإن المال كثير، والثراء موفور، وإن لك من ذلك ما أحببت، وأن لك من ذلك لفوق ما تحب. إنك لتعرف لمر الخثعمي إبلا ترعى خارج مكة لا يكاد يحصيها العد. وإنك لتعلم أن لمر الخثعمي عند تجار قريش وصيارفهم من الذهب والفضة والعروض شيئا كثيرا. وإنك لتعلم أن يد فاطمة بنت مر في هذا كله مطلقة، فليس لي أخ وليست لي أخت، فثروة أبي خالصة لي لا يشاركني فيها أحد، وهي لمن سأختاره بعلا. أفترضى أن تكون هذا البعل؟ قال: هذا شيء تتحدث به إلي النفس منذ رأيتك وقبل أن تذكري لي مالك الضخم وثراءك الموفور. وإن فيما أرى من جمالك وعقلك وكمال خلقك وحسن منزلك من خثعم، لما يحببك إلي ويغريني بما تعرضين علي، فهل لك في أن تمنحيني سعة من وقت وشيئا من مهلة، لا لأفكر ولا لأروي فقد فكرت ورويت، ولكن لأتحدث في ذلك إلى أبي، ولأنظر كيف يقع ذلك من آمنة، فإن عهدها بالعرس حديث، وعزيز علي أن أسوأها ولما يمض على زواجنا إلا أمد قليل. قالت: لك ما شئت من سعة، ولك ما شئت من مهلة. وعزيز علي أن أروع آمنة أو أن أسوءها، فما جنت علي شرا، ولا قدمت إلي سوءا. ولكني أحببتك وآثرتك وكرهت لك ما يذهب بنضرة كثير من فتيان قريش من هذا الرحيل المتصل الذي يضيع عليهم الصيف والشتاء. ولتعلمن آمنة أني لا أريد لكما إلا خيرا، ولا أوثركما إلا بأحسن ما تحبان، ولن أكون لآمنة علة،
4
ولأكونن أقرب إليها وأعطف عليها من هالة بنت وهيب. فكر إذا ما وسعك التفكير، ورو إذا ما وسعتك التروية، وتحدث إلى أهلك وإلى أبيك، وانتظر بالخطبة والزفاف ما شئت أن تنتظر. ولكن أقم عندي هذا اليوم؛ فإني أجد في جوارك لذة وفي حديثك متاعا، وإني أحس أنك تجد مثل ما أجد وتحب مثل ما أحب.
ثم دنت منه وأقبلت عليه بوجهها المشرق الجميل، وهي تقول في صوت هادئ عذب أدنى إلى الهمس منه إلى الجهر: هلم، فقد خلت لنا الدار ونأى عنا الرقيب، وقد وهبت لك نفسي فهب لي نفسك، ولنقضه يوما حلوا سعيدا. هنالك ارتد الفتى عنها وقد أخذه خوف رفيق وإشفاق هادئ وهو يقول:
أما الحرام فالممات دونه
والحل لا حل فأستبينه
Página desconocida