فالوثنية الآن سبيل اللذة وراحة النفس. والمسيحية الآن سبيل المجد والثروة والاستعلاء في الأرض. فكن كغيرك من الناس، وكن شجاعا كصاحبيك؛ فهما قد عرفا طبيعة الأشياء والناس، ويريدان أن يلائما بين حياتهما وهذه الطبيعة. وهما يصارحان أنفسهما بهذه الملاءمة، ولا يريدان أن ينافقا مع أنفسهما! لأنهما يريان في النفاق مع قيصر وإلهه ورعيته الكفاية كل الكفاية.
قال «كلكراتيس» وقد جعل الغيظ يسري في نفسه ويظهر في صوته قليلا قليلا: لست أدري إلام تريد بكل هذه البراعة التي تصطنعها من حديثك كأنك أحد السفسطائيين. وما أظن أن «جورجياس» كان يستطيع أن يزين الرياء والنفاق والمداراة والمجاراة، والتهالك على اللذة، وإيثار العافية، وموادعة الناس، ومصانعة السلطان بخير مما زينتها. ولكن ما رأيك في أني أكره هذه الخصال كلها أشد الكره، وأمقت الأخذ بها فضلا عن الاندفاع إليها أشد المقت، ولا أرى أن أكون منافقا مع نفسي، ولا أرى كذلك أن أكون منافقا مع الناس، لا أوادع غيري، وإنما أريد أن أكون حرا طلقا، لا أطمئن إلى السجن، ولا أذعن للقيد. وأنا أعرف أن هذه خطة تملؤها الأخطار ، ولكني لا أكره الأخطار ولا أهابها، وإنما أحتقرها وأزدريها. أليس أقصاها وأقساها، وأشدها ثقلا، وأمرها مذاقا، هو الموت. فإذا كنت لا أحفل بالموت فإني خليق ألا أحفل بما هو أيسر منه شأنا وأهون منه أمرا.
وأنا مثلك، لم أطمئن قط فيما بيني وبين نفسي إلى آلهتنا القدماء، ولا إلى وثنتينا الموروثة. وإنما اتخذتهم واتخذتها رمزا لهذا اللون من الحياة الذي أرضاه وآلفه، ولم يخطر لي بعد أن أتحول عنه، ولا أريد أن أتحول عنه! لأن في هذا التحول رضا قيصر والأمن من معرة الناس.
فأنا إذا لا أثور حفاظا للآلهة ولا دفاعا عن الدين، وإنما أثور حفاظا لنفسي ودفاعا عن حريتي. وقد يكون من الحق أننا ظلمنا حين لم ننشأ آلهة ولم نخلق من طبقة الحيوان، وإنما جعلنا شيئا بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ولكن ما رأيك في أني لا أكره هذه الطبيعة المذبذبة ولا أضيق بها، وإنما أحبها وآلفها، وأريد أن أستغلها إلى أقصى حدود الاستغلال، فأمنح عقلي كل حظه من الحرية، وأمنح جسمي كل حظه من اللذة، وأحتمل نتائج هذه اللذة وتلك الحرية مهما تكن قاسية، ومهما تستتبع من آلام.
ما لقيصر ومالي! إني لم أنازعه في عرشه، ولم أمانعه في ملكه، ولم أشاركه في قصره، ولم أبتغ إليه وسيلة، ولم ألتمس عنده حظوة، ولم أسأله منصبا من مناصب الحكم، ولا منزلا من منازل الشرف. بل لم أقم دون ظلمه وجوره حين صبهما علي، فأخذ من مالي غير حقه، وكلفني ألوانا من العمل ليس له أن يكلفني منها شيئا.
أفلا يرضيه مني هذا كله؟! أفلا يقنعه مني أن أعطيه كل ما أعطيته في غير مقاومة ظاهرة ولا كراهة بادية، حتى يأبى إلا أن يدخل بيني وبين نفسي، ويفرض علي شعورا لا أجده، ودينا لا أحبه؟!
ماذا أقول؟! إنه يفرض علي شعورا لا يجده هو، وإنما يتكلفه تكلفا، ودينا لا يؤمن به هو، وإنما يتصنعه تصنعا. وما آبي عليه كما لا آبي عليك وعلى صديقنا أن تنافقوا في الدين وفي غير الدين إيثارا للعافية، أو استزادة من لذات الحياة ونعيمها. وإنما آبي عليه وعليكما أشد الإباء، أن تحملوني على ما تحبون أن تحملوا أنفسكم عليه من هذا النفاق الذي يستتبع إلغاء العقل، وابتذال القلب، وبيع الضمير.
قال «أندروكليس»: إنك إذا لثائر يا صاحبي لا على قيصر وحده، بل على الناس جميعا.
قال «كلكراتيس»: فإن أعجبتني هذه الثورة، فمن يستطيع أن يمنعني منها أو يردني عنها، دون أن يكون ظالما لي جائرا علي! ثم إن أعجبني أن أمتنع على الظلم والجور، وأوثر الموت على حياة لا تطيب إلا بهما، فمن يستطيع أن يمنعني من الموت أو يردني عنه!
قال «أندروكليس»: لا أحد! ومن أجل ذلك كنت تفكر في الموت. ومن أجل ذلك كنت تقرأ في هذا الكتاب، تريد أن تزين لنفسك ما زينه سقراط من الخلود، قبل أن تتجاوز هذا الباب الذي يقوم بين الحياة والموت.
Página desconocida