سيموت ، ولكني إنما أبكي على الوحي إذا انقطع عنا من السماء.
نعم، لقد قبض ابنك وانقطع الوحي، وستحملين ذلك دهرا.
ستشهدين خلافة أبي بكر، وستشهدين خلافة عمر، وستبكين مرة أخرى حين يموت عمر، وستسألين عن هذا البكاء فتقولين: «الآن وهي الإسلام.» وستستقبلين خلافة عثمان وقد طال صبرك على انقطاع الوحي، وشوقك إلى أخبار السماء، وسيسعى إليك الملك رفيقا بك عطوفا عليك، وسيقبض نفسك الكريمة إلى حيث تسعد بجوار ابنك الكريم!
تحدث ابن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: خاصم ابن أبي الفرات مولى أسامة بن زيد، الحسن بن أسامة بن زيد ونازعه. فقال له ابن أبي الفرات في كلامه: يابن بركة - ريد أم أيمن - فقال الحسن: اشهدوا. ورفعه إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم، وهو يومئذ قاضي المدينة أو وال لعمر بن عبد العزيز، وقص عليه قصته. فقال أبو بكر لابن أبي الفرات: ما أردت إلى قولك يابن بركة؟ قال: سميتها باسمها، قال أبو بكر: إنما أردت بهذا التصغير بها، وحالها من الإسلام حالها، ورسول الله يقول لها يا أمه ويا أم أيمن! لا أقالني الله إن أقلتك! فضربه سبعين سوطا.
5
الفصل الثالث عشر
المراضع
أقبل المراضع إلى مكة عجافا نحافا، تحملهن حمر عجاف نحاف، ويصحبهن أزواجهن قد مسهم الضر، وأعياهم الكسب، واشتدت عليهم السنة، وأجدبت بهم الأرض، فما يجدون إلى أمن ولا دعة ولا حياة سبيلا. وقد أقبلوا كدأب أهل البادية إلى مكة، يلتمسون الرضعاء أبناء السادة والمترفين في قريش، ويبتغون بذلك فضلا من مال، ونافلة من نعيم، وحظا من هذا البر الذي تطمع فيه المراضع عند أهل الرضعاء. فلما ألقوا رحالهم، انحدر المراضع إلى مكة يعرضن أنفسهن على دور الأغنياء وأهل الثراء، ومنازل السادة وأصحاب الشرف من أهل البطحاء. وأسرع أزواجهن إلى المسجد يطوفون ويلقون سراة الناس من قريش، فيسمعون منهم ويتحدثون إليهم، ويستعينون بهم على احتمال أثقال الحياة في تلك البادية النائية، بادية بني سعد بن بكر. وما هي إلا طوفة في الضحى على بعض المنازل والدور حتى آب المراضع موفورات محبورات، قد وجدت كل واحدة منهن رضيعا من أسرة كريمة موسرة، فامتلأت يدها بالمال، ونفسها بالأمل، وقلبها بالغبطة والأمن على قوت العيال، إلا حليمة بنت أبي ذؤيب؛ فإنها عادت إلى زوجها كئيبة محزونة لا تحمل إلا ابنها الهزيل النحيل الذي يصيح في غير انقطاع، ويبكي في غير هدوء، لشدة ما مسه من ألم الظمأ والجوع.
ولقي الإعرابي امرأته الشابة محزونا مثلها، كئيبا مثلها، ولا يؤذيه ما يحس من الجوع والظمأ كما يؤذيه ما يسمع ويرى من بكاء الطفل وتوجع أمه البائسة. قال: إني لأرى أترابك من المراضع يرجعن موفورات محبورات يحملن الرضعاء، فما بالك تعودين لا تحملين رضيعا إلا هذا الطفل؟ ألعلك قد دللت الناس على مكاننا من البؤس وحظنا من الفاقة حين احتملت هذا الطفل الذي لا ينقطع له صياح! ألعلك قد أيأست الأمهات وأخفت الآباء ألا يلقى أبناؤهم عندك ما يرويهم من ظمأ أو يشبعهم من جوع! ليتني لم أنحدر مع الناس إلى المسجد، وليتني بقيت هنا أحفظ عليك هذا الطفل حتى لا يسمع الأمهات والآباء له بكاء ولا شكاة، وحتى لا يرى الآباء والأمهات عليه بؤسا ولا ضرا! قالت: والله ما صد عني الآباء والأمهات، ولقد أسكت هذا الطفل فما بكى ولا شكا، وما أحس أحد علي ولا عليه ضرا أو شرا، وإنما صددت أنا عن رضيع صد عنه الأتراب من قبلي. قال الأعرابي: وفيم صدكن عنه واجتنابكن له؟ قالت: يتيم ليس له أب يرعاه أو يكلؤه، إنما هو إلى أمه وجده. وما تصنع أمه وما يصنع جده؛ وماذا تنتظر من بر الأمهات بالمراضع، ومن بر الجدود بالحفدة وإنهم لكثير! قال صدقت، وما لإرضاع اليتامى والمساكين أقبلنا من ديار بني سعد! وإني لأجد في نفسي إشفاقا على هذا اليتيم ورحمة له، ولكن ماذا نصنع به في تلك الأرض النائية إذا لم يصل إليه وإلينا من بر أهله ما يقيمه ويقيمنا ويصلح من حاله ومن حالنا! قالت: لقد رأيته فأحببته، ونظرت إليه فرققت له. ولقد آنست من أمه دعة ولينا. ولقد نازعتني نفسي إلى أن أحمله لولا أني أشفقت مما تقول، ولولا أني ذكرت الجدب وشدة السنة وانقطاع المادة، وأشفقت عليه مما نحن فيه. قال الأعرابي: فسنقفل إذا كما أقبلنا ويقفل القوم راضين! وإني والله يا ابنة أبي ذؤيب ما أدري أتبلغنا أتاننا وشارفنا
1
Página desconocida