فلما انتهى الفتى إلى القصر وأدخل على الملك، فهش له الملك وبش وتلقاه بالعطف والبر، وأمر فحطمت عنه الأغلال والقيود، وأمر فأصلح من زيه ورفه عليه، ثم دعاه فما زال يلاطفه ويؤنسه ويؤكد له أنه لا يريد به إلا خيرا، ولا يعد له إلا نعيما وملكا عظيما وأنه لم يفعل ما فعل ولم يجن ما جنى إلا ليخلص ملك تبع لابن تبع هذا الذي لم يقترف إثما ولم يقطع رحما ولم يغمس يده في دم بريء، وأنه لم يستطع ولن يستطيع أن يغفر لعمرو قتل أخيه، ولا لتماضر ابنته رضاها بهذا الإثم وصمتها عليه. ولم يستطع - وما كان ينبغي له - أن ينقل الملك عن عمرو الآثم إلى عمير الذي ولد في الإثم ونشئ عليه. لقد قتل عمرو حسانا، ثم قتل نفسه، وقتل هو ابنه عميرا، وخلصت بذلك حمير واليمن من هذا الإثم المنكر الذي كان يوشك أن يجر عليها شرا لا ينقضي!
والآن وقد طهرت اليمن من هذا الرجس، وخلصت صنعاء من هذا الشر، فقد آن لملك تبع أن يئول إلى ابنه البريء. وإنما هي أعوام أهيئك فيها للنهوض بأمر الملك، وأعلمك فيها ما لم تعلم في أعماق ذلك القصر، وأقربك فيها إلى الجند والعظماء، وأقرب فيها الجند والعظماء إليك، حتى إذا تم لك من هذا كله ما ينبغي، أصبحت - بعد - قيلا من أقيالك، وقدمت إليك عرش أبيك وتاجه وصولجانه. وما زال يقول ذلك للفتى وكثيرا مثله، وما زال يزين له من الوعود والأماني، والفتى يظهر أمنا بعد خوف، وثقة بعد شك، ورضا بعد إنكار، حتى استيقن الشيخ الآثم أن قد استأثر بالفتى البريء.
هنالك أخذ يغريه ويغويه ويحبب إليه اللذة ويزين له الفجور، والفتى يظهر إقداما حينا وإحجاما حينا آخر، ويطمعه مرة ويؤيسه مرات، ولا يضمر له في نفسه إلا أقبح المكر والكيد. وأصبح ذو الشناتر ذات يوم وقد هم بأمر عظيم. وأصبح الفتى ذلك اليوم وقد تهيأ لأمر عظيم. وما ارتفع الضحى حتى أقبل رسول الملك يدعو الفتى إلى منادمته. فأظهر الفتى طاعة سريعة واستجابة ليس فيها تردد ولا التواء. ومضى الفتى إلى تلك الشرفة التي كان يجلس فيها الملك للهوه ويخلو فيها إلى نديمه. وما كان يخلو قط إلى غير نديم. وصعد الفتى إلى تلك الشرفة وإن الموت لكامن بين قدميه ونعليه. حتى إذا بلغ مجلس الملك حيا فأحسن التحية، ولقيه الملك فأحسن اللقاء. وكان بين الشيخ الآثم والفتى البريء حديث لم يطل. ومعاقرة لم تتصل.
ثم هم الشيخ بأمر، وأقدم الفتى على الأمر، وانصرف الفتى بعد ساعة فلما رآه الجند خارجا من عند الملك نظروا إليه مشفقين ساخرين، وتندروا به وإن قلوبهم لتنفطر حزنا وحسرة أن ينتهي ابن تبع إلى هذا الذل والهوان! ولكنهم نظروا فإذا الفتى لا يخفض رأسا ولا يغض طرفا ولا يسرع في طريقه. هنالك تقدم إليه أحد الجند مزدريا مكبرا في وقت واحد. وسأله: كيف تركت الملك؟ قال الفتى في صوت حازم لا عوج فيه: دونك الملك فسله كيف تركته. فمضى الفتى في طريقه هادئا مطمئنا. وأنكر الجند هذا الحزم وهذا الهدوء، فصعد بعضهم إلى الشرفة، وما كاد يبلغها حتى صاح صيحة اضطربت لها أرجاء القصر: ألا إن ابن تبع قد قتل الطاغية واسترد ملك أبيه!
فلما كان من غد كان زرعة قد جلس على عرش تبع، وتسمى يوسف، وتلقب ذا نواس. واتخذ اليهودية له دينا، وأخذ يرد حمير إليها.
الفصل التاسع
البشير
أقبلن مع ضوء النهار يسعين سعي النسيم يسبقهن عرف المسك ونشر القرنفل، ويحملن من ندى الأزهار وشهي الثمار، ومن رطب الأغصان وجنى الريحان، ما يصور الطبيعة وقد أيقظها برد السحر ومس الندى وغناء الطير، فجرت فيها رعدة الحياة، ثم استقبلت ضوء الصبح باسمة له مقدمة عليه، ثم منغمسة فيه تريد أن تعبر ما بين ساحليه من مطلع الشمس إلى مغيبها. وكن قاصرات الطرف فاترات اللحظ ساحرات العيون وكن واضحات الجباه قاتمات الشعور، وكن مشرقات الوجوه باسمات الثغور، وكن أسيلات الخدود جميلات القدود نحيلات الخصور. وكن عذاب الأصوات ملاح الألفاظ فاتنات الألحان. وكن يتغنين في يونانيتهن الحلوة أغنية الصباح، تلك التي تعودن أن يحملن بها تحية النهار إلى سيدهن الشاب الفتى المترف «كيمون بن أركيتاس».
وكن يقلن له في أغنيتهن الرقيقة الظريفة: «أفق أيها الفتى المترف! تنبه أيها الفتى السعيد! قم أيها الفتى المجدود، أفق «كيمون»! فقد وفت لك آلهة الليل بعهدها فرعتك وحفظتك، ويسرت لك نوما هادئا وأحلاما حسانا، ثم انصرفت عنك وقد أسلمتك إلى آلهة النهار لتفي لك بعهدها كما تعودت أن تفي لك به منذ ذقت الحياة! أفق فلن ترى من هذا اليوم إلا ابتساما أجمل وأعذب من ذلك الابتسام الذي رأيته أمس والذي رأيته أول من أمس والذي تعودته منذ عرفت الحياة! أفق فستلقى مودة وحبا، وستلقى توفيقا ونجحا، وسيزورك الأصدقاء مسرعين إليك، مقبلين عليك وقد اتخذوا على رءوسهم أكاليل من الزهر، وسيتخذ رأسك إكليلا كأكاليلهم، وستفرحون وتمرحون، وستجدون وتمزحون. أفق أيها الفتى السعيد! تنبه أيها الفتى المترف! قم أيها الفتى المجدود!»
ولكنهن بلغن الغرفة التي كان يأوى إليها «كيمون» إذا جنه الليل وانصرف عنه الرفاق، فلم يرين سيدهن كما تعودن أن يرينه كل صباح مغرقا في النوم أو متعلقا بأسباب اليقظة يريد أن ينجو بها من بحر الرقاد، إنما رأينه قائما يذهب في غرفته ويجيء متعبا مكدودا، مظلم الوجه كأنه قد أنفق ليله مسهدا لم يذق النعاس. فلما رأينه هممن أن يسألنه. ولما رآهن أنكرهن، ولكنه منحهن ابتسامة فيها عطف عليهن حزين، ورفق بهن لا يخلو من ألم، وانصراف عنهن يشوبه شيء من التبرم وإحساس الشقاء. ثم أشار إليهن فلم يسعهن إلا أن يعدن من حيث أتين، صامتات كئيبات قد سقط في أيديهن كأنما أتين من الأمر شيئا عظيما.
Página desconocida