ما كل قادح زنده يوري
لله ما زهرية سلبت
ثوبيك ما استلبت وما تدري!
قالت عاتكة: لقد ظننت أن حبكن في البادية كحبنا في الحاضرة، وما كنت أحسب أنه يتجاوز الشباب، ويرقى إلى السحاب!
قالت فاطمة: لا تهزئي، فقد ذهبت آمنة بخير ما كنت أحب!
الفصل الخامس
البين
لم تظهر آمنة ارتياعا للوداع، ولا التياعا للفراق، ولم تصعد من صدر آمنة زفرة، ولا انحدرت من عين آمنة عبرة، وإنما كان وجهها هادئا منبسط الأسارير، وكان صوتها مطمئنا لم تفارقه عذوبته الحازمة حين أقبل زوجها عليها يودعها آخر السحر، وقد أخذ الفجر يتنفس في دعة، ويمس بأصابعه الرقيقة ما حول مكة من الربا. وكان عبد الله يدافع حزنا عميقا كان يريد أن يظهر على وجهه وينطلق على لسانه، وكان يتكلف من التجلد والتصبر ما لا بد منه ليكون فتى من فتيان قريش، ليس للجزع على نفسه سلطان، ولا للضعف إلى قلبه سبيل. ومع ذلك فقد اتصلت عيناه الحادتان بوجه امرأته الجميل اتصالا طويلا، كأنما كانتا تريدان أن تطبعا صورته الحلوة الهادئة في نفس الفتى لتكون له رفيقا مؤنسا في سفره الشاق الطويل.
ولم تجرؤ آمنة على أن تطيل النظر في وجه زوجها كما كان هو يطيل النظر في وجهها، إنما كانت عيناها ترتفعان إلى وجه الفتى، ثم لا تلبثان أن تنخفضا حياء واحتشاما وصبرا. حتى إذا خرج الفتى ليلحق بإخوته الذين كانوا ينتظرونه غير بعيد ليصحبوه إلى حيث يودع أباه وأمه، ثم إلى حيث عسكرت القافلة تنتظر الإيذان بالرحيل، نظرت آمنة فإذا عيناها لا تبكيان، وإذا قلبها لا يخفق، وإذا شخصها كله هادئ مطمئن، لا تظهر عليه آيات الجزع ولا أمارات الذهول. ومع ذلك فقد كانت نفسها تبكي بكاء مرا، وكان قلبها يشكو شكاة الطائر المهيض، ولكن أصداء هذا البكاء وهذه الشكاة لم تكن تتردد إلا في أعماق الضمير. كانت آمنة ثابتة للخطب مطمئنة له، كأنما أذعنت للحوادث إذعانا، وكأنما أخذت تروض نفسها على صبر لم تعرفه نساء قريش، وتهيئ نفسها لحزن طويل لم تألفه أترابها اللاتي لم يكدن يذقن لذة الحياة.
وما أشرقت الشمس وما ارتفع الضحى حتى كانت القافلة قد بدأت طريقها الطويلة إلى غايتها البعيدة، وحتى كان كثير من شباب مكة وأحداثها يشرفون من كل مرتفع، ويمدون أبصارهم إلى حيث مضت العير؛ ليروا منها ما يستطيعون أن يروه قبل أن تتقطع بينهم وبينها الأسباب.
Página desconocida